مجلة حكمة
مفكري التربية

نداء إبستمولوجي إلى مفكري التربية: تفحّصوا حقلكم!

الكاتبعبد الله البريدي

حقل أو علم التربية من الحقول الرئيسة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ إنه يقدم إسهامات منهجية وعلمية وتطبيقية كبيرة خلال مسيرة طويلة من العمل الرصين والإنجازات اللافتة. ومن ذلك كون كليات التربية في العالَم مصدر التموين الأساسي لوزارات التعليم والتربية، عبر الإسهام في تطوير سياسات التعليم وفلسفته، وتأمين خطوط كافية لإنتاج: المعلمين الأكفاء، وصنّاع المناهج والمقررات، وخبراء التعليم والتعلم والتقويم، وهذا ما يفسر سر الاهتمام الكبير بكليات التربية في مختلف دول العالم[1].

 أما وقد قلنا ما قلناه، فإننا نقول في الوقت ذاته، إن حقل التربية يعاني من تحديات كبيرة في العقود الأخيرة في عالمنا العربي على وجه التحديد، إذ شهد بعض التشوهات المنهجية والعلمية والتطبيقية، ومن ذلك كثرة تفريعات الحقل وما ترتب على ذلك من نتائج وخيمة، وتدفق مئات الآلاف في مراحل البكالوريوس والدراسات العليا، بما يزيد عن الحاجة أضعافاً مضاعفة، ويربك المشهد التربوي بحشود من أنصاف التربويين وأرباعهم وأثمانهم، مع ضخامة الإدعاءات التي تطلقها نسبة من هولاء “التربويين” حيال مسائل ذات طبيعة علمية أو منهجية أو تطبيقية، حتى لو كانت إشكالية ذات طابع فلسفي معقد!

إن المشهد التربوي ضمن سياق التحديات والتشوهات التي يعيشها بحاجة ماسة لمراجعة نقدية صارمة عامة للحقل التربوي ذاته. ولكي تكون هذه المراجعة مثمرة، فإنه يتوجب أن يقوم بها مفكرو التربية أنفسُهم، على أن يكون أس هذه المراجعة النقدية إبستمولوجياً، وذلك راجع إلى أن النقد الإبستمولوجي قادر على تشخيص أصل الداء في حقل التربية، فنكون قادرين إذ ذاك على أن نظفر بتفسيرِ أكبر قدرٍ ممكن من الظاهرة المبحوثة، والأصل في العادة مسؤول عن توليد أخطر المشاكل والسلبيات والتشوهات، مما يجذر أهمية تلمسه واكتشافه.

ولكي نجلي بعض أبعاد حتمية المراجعة النقدية الإبستمولوجية للحقل التربوي في عالمنا العربي، فإنني أشير إلى جملة من المسائل التي أضعها في ثلاثة عناوين كبيرة، مع معالجة مختصرة مكثفة، إذ الإشارة تغني وتسد عن التطويل والإسهاب.

الميوعة الماهوية لحقل التربية

ثمة تشقق كبير في فروع حقل التربية، سواء على مستوى الأقسام العلمية في كليات التربية بشكل رسمي أو غير رسمي، أو على مستوى موضوعات رسائل الماجستير والدكتوراه لطلبة التربية، التي تكاد لا تترك شاردة ولا واردة في حقول علم النفس أو علم الاجتماع أو الأنثربولوجيا أو الإدارة أو اللسانيات ونحوها إلا أقحمت نفسها فيها، عبر معالجات بحثية يغلب عليها الملامسة السطحية لمثل هذه الموضوعات، نظراً لضعف الإطار العلمي التخصصي في الحقل الآخر الـمُقتات عليه، وغلبة النزعة البرغماتية الصرفة في البحث، والتي قد تصل إلى الشكلانية البحثية، أي مراعاة الجوانب المنهجية ذات الصلة بـ صورة المنهج، لا مضمونه ولا عمقه، فضلاً عن غايته ووظيفته.

مثل هذا التشقق العشوائي المبالغ فيه، تسبّب في ما يمكن أن نصفه بـ الميوعة الماهوية لحقل التربية، فكأن التربية أضحت جسداً آخذاً بالترهل بسبب التهام “وجباته” و”وجبات” غيره، فباتَ جسداً مُثقلاً بأجزائه الخائرة، وأطرافه الواهنة، وأنفاسه المكدودة. التشقق الاقتحامي من شأنه أن يُعطب ماهية الحقل التربوي أو أن يصيبه بـ دوار ماهوي. وهذا ما يبرر دعوتنا للقيام بمراجعة نقدية إبستمولوجية، تثمر -ضمن أشياء أخرى- إعادة تعريف حقل التربية ورسم حدوده، بحيث لا يتخطاها، إلا عبر الدراسات متداخلة أو عابرة التخصصات، وهذه شأنها مختلف، ونحن معها جملة وتفصيلاً.

المشهد التربوي العربي الراهن بتشققاته المعرفية وتشتته البحثي يجعلنا في حيرة إبستمولوجية، حيث لا نعرف  السمات المائزة للحقل التربوي عن غيره في العلوم الاجتماعية والإنسانية، الأمر الذي يعني عدم وجود ما نسميه في الإبستمولوجيا بـ الحد المائز أو الفاصل Demarcation Criterion[2] بين: هذا العلم وغيره، أي بين: علم التربية وبقية العلوم الاجتماعية والإنسانية.

مع الفوضى البحثية والتطبيقية والتفريع العشوائي لحقل التربية، يغدو واجباً على مفكري التربية أن يبلوروا تعريفاً دقيقاً لحقل التربية وحدوده، بحيث يعيدوا الحقل إلى جادة الحقول العلمية الرصينة الملتزمة بمجال بحثي محدد، وفق منهجية علمية ناجعة، تقرها جماعةُ علمية تحمل أعرافاً منهجية وتقاليد بحثية جيدة. هنا يمكننا السؤال: ما الحد المائز بين التربية وعلم النفس/علم الاجتماع/الإدارة، والتربية متغولة على موضوعات بحثية كثيرة في هذه العلوم ؟ ألا يكون أكثر نجاعة بحثية أن نقوم ببحث داخل حدود علم النفس أو علم الاجتماع أو الإدارة ضمن إطارها المنهجي الحكم لهذه العلوم عوض القيام بذلك في ما يسمى -مثلاً- بـ علم النفس التربوي أو علم الاجتماع التربوي أو الإدارة التربوية أو التخطيط التربوي؟  

لستُ بصدد مجرد الزعم بأنني أمتلك القدرة والمشروعية في الخوض في إجابة أسئلة إبستمولوجية متخصصة عويصة كهذه، ولذا فقد قررت سالفاً أن ذلك هو من شأن مفكري التربية، وهو ما صرحتُ به في عنوان هذا النص المختصر، غير أنني أطرح بعض الأبعاد والأفكار الأولية، بغية توضيح المقصود من هذا الطرح وتطوير مقاربات أولية لبعض المسائل العملية المطروحة راهناً في المشهد التربوي العربي، مما يشجعني على مواصلة تلمس بعداً آخر في الموضوع عبر العنوان الآتي.

التعالي على غنائم التخصص

من أهم الجوانب التي يتوجب أن نتفطن لها، ونحن مقدمون على المراجعة النقدية الإبستمولوجية لحقل التربية، هو افتقار هذه المراجعة إلى مفكرين تربويين يتسمون بالآتي:

  • العمق الإبستمولوجي.
  • العمق البحثي التربوي.
  • الحياد التخصصي.

السمات السابقة واضحة، غير أنني أشدد على السمة الثالثة تحديداً، وذلك أن الحياد يقتضي أن يتجاوز المفكرُ التربوي ما يمكن أن نصفه بـ غنائم التخصص الفرعي، فهو لا يقوم بتشويه للحقائق أو ما يجب أن يكون لتحقيق المصالح المجتمعية العليا المتوخاة، من أجل فقط التمكين لتخصصه الفرعي في التربية، وعدم التسبب بإحراج لزملائه في القسم العلمي ونحو ذلك. هذا يتطلب اللجوء إلى نوع من المفكرين التربويين عابري التخصصات الفرعية، فهم وحدهم من يُطيق ممارسة المراجعة النقدية المنشودة بكل حيادية وإنصاف، ولو كان على حساب دفن تخصصه الفرعي في مقبرة هذه المراجعة النقدية، فنحن لا نعمل لذواتنا أو مصالحنا الشخصية، وإنما لمستقبل أمتنا العربية الإسلامية، التي يعوزها فكر تربوي تنويري أصيل رصين.

كليات التربية: بين الهيكلة والإلغاء

التوصيف الفارط لوضع الحقل التربوي العربي، أوجد قناعة بضرورة إعادة هيكلة كليات التربية بين الفينة والأخرى في هذه الدولة العربية أو تلك؛ مما يؤكد أن ثمة قلقاً داخل الرواق الرسمي ذاته، حيال حقل التربية وكلياتها وبرامجها وطلبتها ومخرجاتها. على أن الأكثر إقلاقاً لي في هذا المسار هو ضعف الاستبصار الإبستمولوجي في عمليات الهيكلة، وكأنها مجرد قضية هيكلة روتينة صرفة لأي مؤسسة أكاديمية متواضعة التأثير، والأمر في حقيقته بخلاف ذلك.

الفوضى الماهوية لحقل التربية دفع بالبعض إلى المطالبة بإلغاء كليات التربية برمتها، على أن من بينهم مفكرين تربويين، وقد يكون بعضهم مشتغلاً بالهم البحثي التربوي أو الجانب التطبيقي أو كليهما، ولكن لم يجد بداً من هذه المطالبة الخشنة القاضية بإلغاء هذه الكليات أو التقليص منها بطريقة موجعة. على كل، مثل هذه المطالبة ليست مسوغة البتة في نظري، ولكنني أتفهم بواعثها، والتي تعود بشكل عام إلى مظاهر أو آثار هذه الفوضى.

وفي سياق الفوضى الماهوية لحقل التربية، أشير إلى أنه تصلني عشرات الطلبات -وقد تصل  بعضكم مثلها أو ربما أكثر منها- لتحكيم استبانات لطلبة دراسات عليا في التربية كل فترة، ويأكلني الاستغراب من حجم التمدد العشوائي على خارطة الموضوعات العلمية في الحقول المختلفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع ضعف بيّن في الجوانب المنهجية والعلمية في إطار تلك الدراسات، لأسباب كثيرة، أومأت إلى طرف منها.

كنتُ في بداية الأمر أحكّم أكثر الاستبانات التي تصلني، وفاء بالواجب العلمي، إلا أنني صرتُ أعتذر عن الأغلبية منها، نظراً للإشكالات المنهجية السابقة ولضعفها الجلي الذي لا أتحمله، ولكونها كثيرة جداً، بحيث تكون على حسابي وقتي. إيرادي لهذا المشهد، هو من باب تصوير حجم المشكلة ومساراتها التي تنمو فيها وتتضخم، وربما تتشكل في أنساق جديدة، تعقد التشخيص والمعالجة.

ما سبق من حيثيات يقودنا إلى التقرير بأنه ليس من صالح الحقل التربوي البتة الاستمرار في هذا التية الماهوي، حيث سيكون ذلك مضراً بالبنية المنهجية والبحثية، وقد يطال الأطر التطبيقية والجوانب الهيكلية في راهنية الحقل التربوي ومؤسساته. وفي المستقبل أيضاً. وضرر هذا يتجاوز الحقل التربوي ليصل إلى المجتمع بأكمله، نظراً لأصالة الحقل التربوي وأهميته الكبرى في صناعة أجيال تنموية خلاقة في مجتمعنا العربي؛ بما يجعلنا نشق طريقنا نحو التحضر والتمدن، والتماس سبل القوة في مختلف المجالات.

في فقرة سابقة أشرت إلى “أصالة الحقل التربوي”، هذا يعني أن الحقل يتضمن شيئاً أصيلاً يتفرد به، أي أن ثمة سمات تميز هذا الحقل عن غيره وتبرز هذه الأصالة، وهذا ما يرسخ أهمية السؤال الذي مفاده: ما الحقول الفرعية الأصيلة للتربية؟ نعني بها تلك الحقول العلمية التي تتصف بالسمات المائزة للحقل التربوي نفسه. إنها تلك الحقول المعرفية المتفردة التي لا نجد لها مثيلاً في أي علم من العلوم الاجتماعية والإنسانية، من جهة الموضوع المبحوث على وجه التحديد، نظراً لتشابه المناهج العلمية المطبقة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتشابه المعجم المفاهيمي والجماعات العلمية في هذه العلوم.

حاصل هذا أننا نُعلي إبستمولوجياً من أهمية الموضوع المبحوث في بلورة الحد المائز بين التربية وبقية العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو ما يُقربنا من الظفر بتعريف دقيق لحقل التربية. أحسب أننا بتنا قادرين على أن نبلور السؤال بطريقة أكثر وضوحاً:

ما الموضوعات التي تُبحث فقط في حقل التربية؟

من أهم الموضوعات التي تتفرد بها التربيةُ دون غيرها ما يتعلق بـ المناهج والمقررات تصميماً وتعليماً وتطبيقاً وتقويماً وتطويراً، باستخدام كافة الأساليب التربوية التقليدية والحديثة في التخصصات المختلفة. إذن، هذا حقل أصيل، بل لعله من أكثرها أصالة، بحيث لا تُنازَعُ فيه التربيُة، إذ هي الحقل الذي يمتلك “حق التشريع” إزاء هذا الموضوع المبحوث منهجياً وبحثياً وتطبيقياً، ويعد هذا أسمى أنواع الملكية للموضوعات المبحوثة.

ما الحقول التربوية الأخرى الأصيلة؟

لا شك أن التحديد الدقيق لهذه الحقول يفتقر إلى تعريف إبستمولوجي لحقل التربية، وهو التعريف الذي يُرتجى منه أن يعكس توصيفاً دقيقاً لكل من:

  • الموضوع المبحوث تربوياً،
  • حدود الحقل التربوي،
  • المنهجية المقبولة في البحث التربوي،
  • الجماعة العلمية التربوية.

مثل هذا التعريف الدقيق من شأنه إذن أن يحدد لنا الحقول التربوية الأصيلة. ومن هنا نلتقط خيط إعادة حياكة ثوب قشيب للتربية “الرشيقة”، بعد أن تتخلص التربيةُ من الشحوم في حقولها، والدهون في اشتغالاتها البحثية، مما ينعكس على جملة من الأمور الأساسية، ومن بينها:

  • إجراء هيكلة ناجعة لكليات التربية وفق أساس فلسفي ومنهجي متينين،
  • ضبط علمي لأعداد الدارسين والمنخرطين في برامج البكالوريوس والدراسات العليا،
  • تحديد دقيق للأعداد المطلوبة بخصوص:

أ- الطواقم الأكاديمية في الجامعات العربية.

ب- الخبراء التربويين.

     ج- الباحثين التربويين الميدانين.

     د- الممارسين التربويين.

ولعلنا بهذا نعيد لحقل التربية قدراً من نجاعته الإبستمولوجية، وتألقه المنهجي، وأهميته البحثية، وجودته التطبيقية، وفعاليته الحضارية. دون مواربة، أقول: هذا نداءتاريخي للمفكرين التربويين النوعيين المتعالين على غنائم التخصص ومكاسب الأنا، وقد بات في أعناقهم.


 

[1]  هنالك شواهد عديدة على الاهتمام بكليات التربية، ومن بينها أعداد هذه الكليات في الدول، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تقدر الكليات بأكثر من 1200 كلية، وفي بريطانيا 157، وفي ألمانيا 130، فرنسا 119، كندا 105، استراليا 32، المملكة العربية السعودية 30.

[2] انظر مثلاً: كارل بوبر، منطق الكشف العلمي، ترجمة: محمد البغدادي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2006، وانظر أيضاً ما طرحه توماس كون في كتابه الشهير: بنية الثورات العلمية، ترجمة: شوقي جلال، ط1، بيروت: التنوير، ط1، 2017؛ بجانب ما طرحه المنظرون الآخرون حيال مسألة الحد المائز أو الفاصل، وفي التراث العربي الإسلامي طروحات ثرية معمقة، وهي مستحقة للبحث التنقيبي المعمق.