مجلة حكمة
الديمقراطية من أزمة لأخرى

الديمقراطية من أزمة لأخرى

الكاتبمارسيل غوشيه
ترجمةوحيد الهنودي

   الأفكار التالية هي جزء من تمرين محفوف بالمخاطر: إضاءة الظروف التاريخية التي تلفّنا، والتوجّه في عتمة المستقبل الذي يتشكّل، فمهمتها تشخيص واقع الأزمة التي تعرفها الديمقراطيات حاليا. ولذلك نقترح وضعها في المنظور الصحيح في ما يتعلّق بالأزمة السابقة. وبالتوازي مع ذلك تسمح بإبراز الخطوط الأصلية لخلفية القضايا العامة.

   ليس هذا مكان معالجة الصعوبات الواضحة للتمشّي وسأقتصر بالتأكيد على مدى تلازمها ويبدو لي أنه لم يتم إدْراَكها بما يكفي، فكيف نتقدّم إن كنا لا نعرف أين نحن؟ وكيف يمكننا الفعل دون تحليل الحركة التي تقودنا؟ ومهما كانت مخاطر التمرين جسيمة فإنه علينا تجاوزها. هذا صحيح فعلاوة على ذلك سنواصل القيام بذلك رغم أنوفنا، على نحو خفي ومحتشم لكأننا مع الأسف نتخلّى عنه، ودون علم فإنه يحمينا من مخاطره. علينا وبوعي كامل ممارسته إلى أقصاه لاستحالة تجاوزه.

   طموح هذا العمل ليس مدنيّا فقط بل أيضا فلسفيّ، فليس المقصود فقط تنبيه المواطنين من جهة أنه يفترض أن تحليل هذا الوضع يؤدي إلى تعميق ذكاء الديمقراطية، فقد كانت الظواهر الكليانية بالأمس القريب من الأعراض الكبرى لأول أزمة هائلة للديمقراطيات، وفي المقابل نحن مدينون لها في الفهم المتجدّد للظاهرة الديمقراطية. الأمر نفسه ينطبق على الاختيار الجديد والمختلف جوهريا عن سابقيه، فتُظْهِرُ وبقدر ما نتمكّن من فكّ شفرتها أبعادا لحرية المحدثين التي كنا وحتى ذلك الحين نستطيع أخذ تدابير بشأنها بشكل غير مكتمل.

   يتمحور بحثي حول ثلاث أطروحات:

  1. نحن نتعامل مع أزمة متنامية للديمقراطية هي أزمة تطوّر ليست الأولى من نوعها بل الثانية.
  2. إن خاصيّة هذه الأزمة أن تُتَرْجم إلى نسف ذاتي لأسس الديمقراطية.
  3. هذه الأزمة تتوافق مع أزمة تكوين النظام المختلط والتي هي في عمقها الديمقراطية الليبرالية للمحدثين.

 يا لها من أزمة؟          

   ماذا تعني أزمة تطوّر الديمقراطية؟

   إني أدرك أن المعنى ليس بديهيا. يمكن أن يكون شبيها بصورة رديئة، أو في أفضل الأحوال مُمَاثَلَة غامضة تقرن المعنى الضبابي للكلمة الذي ينبع من عدم تطابق كلمة “أزمة” مع كلمة “نمو”. صحيح أن الاستشهاد المتواصل والمخفّف لمصطلح “أزمة” قد قلّل من أهميته، فما هو الأمر الذي لا يعيش أزمة؟ إن الأمل لا يعدو أن يكون إلحاق لصفة بكل التغيّرات التي يفلت منّا معناها. وفضلا عن ذلك فإن تطبيق اللفظ على الديمقراطية يمثل صعوبة خاصة، مادامت بالتعريف هي النظام الذي لا يكف فيه الخلاف والاحتجاج والتشكيك في الوضعيات المكتسبة. فأين تبدأ الأزمة وأين تتوقّف بين الآراء المتعارضة والمصالح المتصارعة وعدم استقرار السلطات المنتخبة واحتجاجات المُمَثًّلِين أو مطلب استقلال الأفراد من النظام الجماعي وكل الأشياء المتجذّرة في اشتغال نظام الحرية؟ لا شيء يمنع حتى الأشخاص متوسّطي المهارة من استنباط الحجة القائلة بمنع الفكرة ذلك أن ما يسمّى أزمة هو في الواقع الحالة المعتادة للديمقراطية.

    هذه العراقيل الحقيقية جدّا لا يمكن إلا أن تدعو إلى مزيد من الصرامة. نحن نحتاج لمفهوم يمكّننا من استيعاب الاختلالات التي قد تؤثّر على أداء هذه التنظيمات ووجودها وهي غير مستقرّة بطبعها نعني المجموعات البشرية – فمن خواصّها الأنطولوجية أن تكون مبنيّة حسب التعددية والتناقض. لا نرى غير الأزمة من أجل ملئ هذا المكان. من هنا فإن الأمر لا يتعلّق إلا بتبرير استعمالها في كل حالة ووفقا لخطورة العمل والطبيعة الجوهرية للعوامل المعنيّة. من أجل أن نتناول مشكلتنا كمثال ليُسْمَحُ لي إذن بالحديث عن “أزمة ديمقراطية”، عندما يرفض عدد من المواطنين مبدأ مؤسساتهم ويدعمون الأطراف المتقاتلة التي تهدف لإقامة نظام بديل، كما كان الأمر في عصر الكليانيات. ليست هذه حالته “الطبيعية” التي ينبغي أن نتعلّم كيف نتعايش معها. بل على العكس من ذلك يتعلّق الأمر بمسألة تفكيك الإحباطات والتوقعات التي أثارها العالم الديمقراطي، التي هي قيد التبلور وفي لحظة معينة في مشاريعها التخريبية.

  سيقولون وليكن، لكن كيف نتحدث اليوم عن “أزمة”؟ فأين لا توجد مثل هذه القوى المتناقضة ولا تملك الديمقراطية أعداء في الداخل وحيث يوجد انحراف عام لمبدأ هو العلامة المميّزة لروح العصر؟ إنه مكان تلطيف مفهومنا “للأزمة” الذي لا يجب أن يتم خلطه لا مع الوجود المتسبّب في شلل المعارضة المفتوحة ولا مع الاختلالات البسيطة الموجودة. كون الديمقراطية لم يعد لها أعداء واضحين فهذا لا يمنع من تعرّضها لمحن شديدة، وهي تجهل ذلك، مع أنها ليست أقل تأثيرا. فحقيقة أنه لا يوجد من يقترح الانقلاب عليها فهذا لا يمنع من كونها حقيقة مهدّدة بفقدان ألقها. فضلا عن ذلك فإذا كان وجودها في منأى عن الاحتجاج فإن فهمها من قبل الفاعلين يتّجه إلى نسف الأسس التي تقوم عليها طريقة اشتغالها. هنالك فعلا أزمة بالمعنى الدقيق للكلمة ، أزمة تتعلّق بالتظنّن على حقيقة الديمقراطية من الداخل، بناء على المعطيات التي تحكم تقدّمها. الأمر ببساطة أن للمسار طبيعة أكثر دقة من اعتداءات الماضي وأنه يصعب التعرّف علي منابعها.       

   بدقّة أشد لما الحديث عن “أزمة تطوّر” الآن، وأتفق مع تعبير مماثل يبدو أن دلالته تتناسب وبشكل خطير مع نظرية قديمة حول “الكائن الاجتماعي” لم تعد ذات قيمة؟ وعلى الرغم من هذا الخطر الذي يمكن تلافيه بيسر، فإن الصورة تبدو لي جيّدة للفت الانتباه لنوع التاريخانية التي نحن مدعوون للتعامل معها. لا يتعلّق الأمر هنا بتقلّبات الديمقراطية في مسار الزمن، وبتاريخها الداخلي إن الأمر يتعلّق بتاريخها الخارجي وبالتحقق التدريجي لمبدئها وبانتشار صيغتها وفي كلمة بتطوّرها. تطوّر لا علاقة له مطلقا بنموّ الكائن الحي وهذا مفهوم، ولكنه مع ذلك ينبع من عملية توسّع داخلية وبتفسير من الضروري التقاط ديناميته. ففي غياب كلمة خاصة في السجل الاجتماعي فإن لفظ “نمو” بحسب اعتقادي يمنحنا مقاربة مقبولة. إن تحوّلات الديمقراطية تتعلّق بشيء شبيه بالتطوّر، وهذا التطوّر ولكونه ليس عضويّا يجلب عَرَضًا إختلالات عميقة والتي تضع بمعنى أو بآخر وجوده في خطر.

   الاستقلال الذاتي الحديث

   هذا الجوهر الدينامي للظاهرة الديمقراطية لا يكون معقولا بحق إلا إذا ربطناه بأصله. فديمقراطية المحدثين لا تفهم في المقام الأخير إلا كتعبير عن الخروج عن الدين بمعنى المرور من هيكلة غير متجانسة للمؤسسة الإنسانية-الاجتماعية إلى تنظيم مستقل ذاتيا. ولكي نكون دقيقين فعلا فإنها تمثّل إعادة الهيكلة السياسية للاستقلال الذاتي للمؤسسة الإنسانية-الاجتماعية. هذا هو التعريف الأكثر شمولا ودقّة الذي يمكن أن نعطيه لها. فباستثناء أن هذا الاستقلال الذاتي ليس عدا فكرة مجرّدة والتي يمكن أن ننظر إليها كمكسب. إنها طريقة في الوجود لا يمكن أن تكون أكثر تجسّدا ويتم تشكيلها وتأكيدها على المدى الطويل، في ذات الوقت الذي نلحظ انفصال مجالات دنيوية متعددة من الهيكلة الدينية للعالم. إن الأمور تصبح بسيطة إن كانت مجرد مبدأ: غير أنها أساسا طريقة لبسط الوجود معا. إن مسار الخروج عن الدين هو مسار تمدية الاستقلال الذاتي الذي يمرّ عبر إصلاح جميع الدواليب المنظّمة للجماعات البشرية. من أجل ذلك فإن المفاجأة متواصلة في مسار هذه الحكاية. إذا كنا نعرف المبادئ ظهرا عن قلب، فالوجوه المؤثّرة التي يأتون بها لا تتوقف عن إرباكنا. لنفس السبب تُطْرَحُ مشاكل التحكّم في أدوات حرّيتنا طيلة هذا المسار. فالمفارقة تكمن في كون تجسيدات الاستقلال الذاتي تظل تهدّدنا بمراوغاتها.

   هل يجب أن نلتفت إلى اتجاه حركة التجسّد هذه من أجل معرفة الصعوبات التي تواجهها الديمقراطية في مسار تقدّمها. إن الشّرط الأساسي هو فهم أن الاستقلال الذاتي بوصفه طريقة في وجود الجماعات البشرية عمليّا.

  من أجل تلخيص خمسة قرون في بضع سطور، فإن هذه التمدية للاستقلال الذاتي الملازمة للخروج عن الدين قد حدثت في ثلاث موجات، وقد صبغت ثلاث عوامل متتالية: السياسة والقانون والتاريخ.

  لقد تُرْجِمَت أولا في نشأة نوع جديد من السلطة مكان السلطة الوسائطية القديمة التي قَرَنَت عالمنا بالسماء. وخضوع النظام البشري لأساسه المفارق. هذه السلطة الجديدة هي التي أُطْلِق عليها اسم الدولة حيث ستكون أصالتها دافعا لفصل السماء عن الأرض. ومحايثة المبررات التي تحكم الجسد السياسي. إن جوهر السياسة الحديثة تكمن في مكثّف الاكتفاء الذاتي للعالم السفلي.

   لقد مرّ مسار الخروج عن الدين ثانيا بإبداع نوع جديد من العلاقة بين الناس في إطار إرساء مبدأ جديد للشرعية داخل الجسم السياسي. فعلى خلاف التراتبية التي ربطت البشر على قاعدة تفاوتهم واختلافهم   الطبيعي الذي يتحطّم على جميع مستويات الجسم الاجتماعي وتبعية الطبيعة لما فوق الطبيعة. فإن الرابط الجديد يستبدل الرابط القديم للحق في مستوى الأفراد والعقد المبرم بينهم على أساس تساويهم في الحرية الأصلية. إن إعادة التعريف هذه لأساس العلاقات بين البشر مدوّنة داخل التحوير الأوسع لأسس القانون بعامة. لقد كان الله مصدر الحق الذي انزلق نحو الطبيعة وبأكثر دقة نحو حالة الطبيعة  ونحو الحق الذي يحتفظ به الأفراد في الأصل، وفي الواقع لاستقلالهم البدئي. إن شرعية السلطة العمومية والتنظيم المجرد للجسم السياسي كفّ عن أن يكون مفارقا. إذ لا يمكن أن يصدر إلا عن اتفاق مستمر بين الأفراد الذين يؤلّفون الجسم السياسي والذين يضعون معا وبالتعاقد الحق الذي يتمتع به كل واحد منهم. هذه الثورة في مصدر الحق وطبيعته هي التي أوجدت الحق الحديث، والذي أصبح في الجوهر حق الأفراد وهو توجه نحو الاستقلال الذاتي.

  لقد مرّ مسار الخروج عن الدين أخيرا وفي مرحلة ثالثة بقلب التوجه الزمني للنشاط المشترك. فعوض الخضوع غير المشروط للماضي المؤَسِّس والتبعية للتقاليد فإن تاريخانية المحدثين تُلْقِي بالبشرية إلى الأمام لإبداع المستقبل. فعوض سلطة الأصل كمنبع للنظام الثابت الذي يحكم الناس عوّضه الإنشاء الذاتي والدائم للعالم الإنساني نحو المستقبل. فما يمكن أن ندعوه التوجه التاريخي هو الاتجاه الثالث للاستقلال الذاتي الإنساني، بما أن البشرية استطاعت من خلاله أن تنتج نفسها بحرية في الزمن.

  إن تاريخ الحداثة هو في العمق تاريخ التجلّي المتتالي والتصريف المتنامي لهذه الاتجاهات الثلاث للاستقلال الذاتي. لأن الأمر لا يتعلّق في الواقع في أيّ من هذه النقاط الثلاثة بظهور فجئيّ بل بتعبيرة تجسّدت شيئا فشيئا، وبتوسّع بطيء يدفع رويدا رويدا الدواليب التي تكوّنت بقوة لهيكلة غير متجانسة ويحطّمها. سنرى بذلك أن المنطق المستمر للدولة يتقدّم على الحكم الفردي المقدّس والذي كان في الأصل يرتبط به إلى حد أن الشأن العام ينتهي بعزل التشخيص الملكي للسلطة. وبالتشابه مع ذلك فإن إعادة تعريف الحق شيئا فشيئا داخل الجسم السياسي على قاعدة الحقوق الفردية يكشف عن أهميّته الديمقراطية. إن الحرية في الحالة الطبيعية لا يمكن إلا أن تحكم في حالة المجتمع. كذلك فإن التوجه التاريخي يتعمّق بتحوّل أكثر وضوحا نحو المستقبل وبتوسيع نطاق العمل الذي تحدده وجهة نظره. وهو ما نسميه غالبا “تسريع التاريخ” ربما تعبيرة مخجلة لتصوّر سليم. هنالك إذا نمو بمعنى تعبيرة دائمة توسّع مفاصل جديدة للتجربة المشتركة، حيث تتلاشى قبضة النموذج القديم للتنظيم وفقا لقوة الآلهة، سلطة المجموعة والتبعية للماضي.

   منذ البداية فإن هذا الجرد الدينامي لمكونات الحداثة والذي يُفْهَم كتمدية للاستقلال الذاتي ويعمل على إخراجنا سيعمّق الفرق بين ديمقراطية المحدثين وديمقراطية القدماء. إن ديمقراطية المحدثين معلّقة على ثلاثة معطيات أو أبعاد غريبة عن السلطة المشتركة للمدينة القديمة: فهي تفترض منعطف الدولة، وتقوم على الحق الكوني للأفراد، تكمن في الإنتاج الذاتي المشترك. ثلاثة معطيات أو أبعاد ستضيف عددا من المشاكل غير مسبوقة لتلك التي عرفها القدماء.

    في ضوء هذه الاتجاهات الثلاث ينبغي تحليل نمو الديمقراطية الحديثة ومشكلاتها. هذه المشكلات تعود في الأصل إلى مسألة التحكم في الاستقلال الذاتي، أو إن شئنا التحكم في اتجاهات الاستقلال الذاتي، إذ هو ليس على خير ما يرام. توفر السلطة للجماعات البشرية وسائل استقلالها الذاتي وأيضا إن كان ينبغي معرفة كيفية استعمالها، وإذا كان يجب حسن استعمالها وليس الاستسلام لمشيئتها. إن فرد الحق يعطي وجودا للأساس المستقل للجماعة البشرية: فهل ينبغي إقامة سلطة تتناسب مع هذه الحرية التعاقدية للأفراد، ضد تشتت وانحلال قوّة المجموعة التي يمكن أن تجلبها. فبين العودة المستبدّة لحرية القدماء والضعف الفوضوي للحريات الخاصة البون شاسع. في الأخير فإن التاريخ والتوجه التاريخي قد جعلا من الاستقلال الذاتي أكثر بكثير من مجرّد قدرة للمرء على إعطاء قانونه الخاص. إنه يرفعه إلى مرتبة الدستور الملموس للذات. ومعه ينبغي أن يوجه المرء هذا الإنتاج الذاتي، والذي يمكن أن يؤدي إلى أشد عمليات النهب جنونا. فأن يقوم المرء عين ذاته بتجاهل ما يفعله ألا يعدّ ذلك ذروة الاغتراب فيضحي غريبا عن ذاته؟ بيد أن الخطر يكمن في كون ما تكرّس الإنسانية نفسها من أجله بالبحث عنه في المستقبل: مهددة بفقده.

   تعود مشكلات ديمقراطية المحدثين الآن وفي مستوى الممارسة في أساسها إلى التسوية وإلى التمفصل أو إلى مزج هذه العوامل الثلاثة لدينامية الاستقلال الذاتي السياسي والقانوني والتاريخي. مهمة شائكة بالصعوبات لأن كل واحدة من هذه الأبعاد تحدد كل واحدة منها رؤية مكتفية بذاتها للوضعية المشتركة وتتجه إلى العمل لحسابها الخاص بإقصاء الأخريات. من أجل ذلك بحثت في ولادة مشكل النظام المختلط الذي يقوم على معان ليس لها علاقة إطلاقا بخليط النظام الفردي والأرستقراطي والديمقراطي وتوازنه وهي إشكالية تم تصفيتها في العصر الحديث وكما نعلم بهجمة التبريرات التعاقدية وبتكوين الجسم السياسي انطلاقا من حق الأفراد.

   ومع ذلك فإن الديمقراطية الحديثة هي نظام مختلط، حيث تدور الحياة حول إشكالية تصريف مكوّناتها. لا شيء أكثر صعوبة من التماسك والسير أشد من ضرورات الشكل السياسي ومتطلبات فرد الحق وضرورات الإنتاج الذاتي المستقبلي. إن الخلاف أكثر شيوعا من الانسجام. هنا تكمن معضلة نُظُمِنا وموطن التوتر المستمر.

     الحقيقة الليبرالية

    من بين هذه العوامل الثلاث الأشد إثارة للاستقلال الذاتي بقوته الدافعة الهائلة هو الثالث وهو الأخير: التوجّه التاريخي. فهو الذي قاد إلى التغيّر الأسرع الذي ندركه أكثر، بما أن من طبيعته أن يثمّن التغيّر. حدث التوجه التاريخي بين 1780 و1850 من اختراق منظور التقدم إلى الاستيلاء على السلطة من خلال نتائج الثورة الصناعية. إذ بفضلها تأسس بُعْدُ نظامنا المألوف جدا وهو البعد الليبرالي.  

   من الأكيد أنه من الممكن أن نتصوّر الديمقراطية على أساس القانون فقط. إن مبادئ قانون المحدثين وكما حددنا ولادتها يكفي لإعطاء تعريف شاف. علاوة على ذلك فهي منبع ثورات الحق الطبيعي للقرن الثامن عشر في الولايات المتحدة وفرنسا. التي بفضلها تحتفظ نظمنا برابط جنيالوجي مباشر. ومع ذلك فبقدر ما يخفي عمل إعادة تأويل الحق الطبيعي في ضوء التاريخ الذي أشرف على تشكيل النظم التمثيلية التي نعرفها. فإن التوجه التاريخي هو الذي منح طابعه الخاص للتنظيم السياسي الليبرالي الذي نمارسه.

    في الحقيقة قاد التوجه نحو المستقبل إعادة تنظيم شاملة لقانون المجتمعات. فهو بادئ ذي بدء أدّى تحديدا إلى اكتشاف المجتمع كفضاء دينامي مشترك ومنبع للتغيرات، إنه يشرّع لتحرر المجتمع المدني من الدولة، وهو يجلب في هذه العملية انعكاسا للعلامة بين السلطة والمجتمع. إن وجهة نظر الإنتاج الذاتي للإنسانية في الزمن تنكشف حاملة لسياسة تحررية. وأول عنوان لهذا أنه ينبغي ترك المجتمع حرّا بوصفه المحرّك الفعلي للتاريخ. العنوان الثاني أن نترك الأفراد أحرارا داخل المجتمع بوصفهم مبدعين للتاريخ لنفس السبب. في إطار كهذا لم يعد بإمكاننا تصوّر السلطة كسبب للمجتمع، كما لو أنها المسؤولة عن إيجاده عبر تنظيمه، إما من خلال كسر نظام مفارق أو بعنوان إدارة ضروراته الداخلية. يجب أن تتم مراعاة السلطة للتأثير في المجتمع. إذ لا يمكن إلا أن يتم إخفاؤها من قبلها ويمكن أن يكون لها دور في تنفيذ المهام الموكولة لها. فما من دور لها إلا تمثيلها. إن مهمة التمثيل ستنجزها بحرية أكبر إن تم الاعتراف بها صراحة وإذا تم تعيينها من المجتمع.    

    أقترح أن نسمّي قلبا ليبراليا إعادة التحديد هاته لعلاقة السلطة بالمجتمع والتي أذنت بولادة الحكومة التمثيلية بمعناها الحديث لا يتعلّق الأمر هاهنا مطلقا بربط الجزء الأفضل من الجسم السياسي بالسلطة مثلما كان عليه الأمر في العصر الوسيط، بل يتعلّق الأمر بتحويل السلطة إلى تعبيرة عن المجتمع، بالقدر الذي تكون فيه هاته الأخيرة ملجأ الإبداع المشترك.

   أقترح وبنفس الطريقة أن نسمّي فعلا ليبراليا هذا الاعتراف العملي باستقلالية المجتمع المدني وبمبادرة الفاعلين في المجتمع المدني لكي يَهِبُوا صياغة تُبْرِز خاصيته الثورية، هذا الاعتراف بأفضلية وأولوية المجتمع المدني على الحكومة السياسية – اعتراف يقر ضمنا بقبول الجوهر التمثيلي للشرعية السياسية. إن الترجمة الحقيقية لحاجيات المجتمع هي التي تهب الحكومة الشرعية، أيا كان شكلها المؤسساتي.

  في الواقع وبغض النظر عن الأيديولوجيا الليبرالية فإن أسبقية المجتمع تشكّل موضوعيا التمفصل الرئيسي لمجتمع التاريخ . ولا نعني بذلك المجتمع وكما يُفْهَمُ فقط كمجتمع تاريخي، بل كما ينظّم نفسه بوصفه تاريخيا. إن الأيديولوجيا الليبرالية ليست إلا قراءة ممكنة من بين قراءات أخرى لهاته الحقيقة وللعواقب السياسية التي ستعطى لها.

  لنقول ذلك بطريقة أخرى: تتمتّع مجتمعاتنا ببنية ليبرالية بفضل توجهاتها التاريخية وسعيها إلى الاستقلال الذاتي من خلال عملها على التحوّل وعلى إنتاج نفسها.        

الأزمة الأولى للديمقراطية

      دخلت الديمقراطية شيئا فشيئا إلى المجتمعات الأوربية خلال القرن التاسع عشر باسم العلامة  الليبرالية ، وبحسب مسار يمكن اختصاره في التوسّع الديمقراطي للحكومات التمثيلية بفضل الاقتراع العام. وتحتفظ الحكومة التمثيلية من حيث المبدأ بنسخة نخبويّة، حيث تحتكر المصلحة الجماعية في مداولات الأشخاص الأكثر مسؤولية والأشد تنويرا. غير أن النظام الليبرالي وبالنظر لمقدماته الخاصة مقدّر له وفقا للتاريخ أن يزدهر في الليبرالية الديمقراطية، ما دام كل فاعل هو أفضل حَكَمٍ على مصالحه وما دام التمثيل أكثر نجاعة لكونه مؤلّف من أكبر عدد مبدع للتاريخ المشترك. وقد شهدنا فعلا انتصار لهذه الدمقرطة المتواصلة للنظم التمثيلية حوالي 1900.

     تتزامن نشأة هذه الحكومة الليبيرالية الديمقراطية مع أزمة يمكننا اعتبارها أول أزمة لتطوّر الديمقراطية، مع خصائص مميّزة تتمثل في كونها فعلا أزمة تأسيس. وهي تحتضن وترتسم في الفترة المفصلية بين 1880 -1914  وستنفجر مع الحرب العالمية الأولى لكي تصل أوجها سنة 1930.    

    هي  أزمة نمو لكون الشرعية الديمقراطية تتدخل من ناحية وبشكل لا يرد في الوقائع وتفرض هيمنة الجماهير، بينما ومن ناحية أخرى فإن هذا التقدم النظري للاستقلال الذاتي والمضمون من قبل السلطة عبر الاقتراع العام وبعيدا من أن يؤدي إلى حكم ذاتي فعّال يقود إلى  فقدان السيطرة على الحكم الذاتي الجماعي. ينكشف النظام البرلماني كنظام متشدد وعاجز: إن المجتمع والذي يشقه تقسيم العمل والعداء الطبقي يعطي انطباعا بالتفكك والتغير التاريخي الذي يتعمم ويتسارع في ذات الوقت ويشتد ويتملّص من كل مراقبة. في لحظة كهذه حيث لا يمكن للناس أن يتجاهلوا أنهم يصنعون التاريخ وعليهم أن يعترفوا أنهم لا يدركون التاريخ الذي يصنعونه. إنهم لم يفوزوا بحريتهم التامة كفاعلين إلا من أجل الاستغراق في هذه الفوضى والعجز حيال أنفسهم ذاتها. تتسلل الريبة إلى كون الخروج عن الدين ربما سيؤدي إلى ولادة مجتمع لا يطاق.   

   في ضوء هذه الأزمة الهائلة ينبغي فهم الظاهرتين السياسيتين للقرن العشرين  وهما إجابتين عن هذه الأزمة: هجمة الكليانيات وتشكّل الديمقراطيات الليبرالية.

   إن البديل ولكي نصوغه كحلّ واضح حتى وإن لم يكن بالتأكيد كذلك هو التالي: إما استعادة السلطة الديمقراطية وإعادة إنشائها بوصفها قدرة على الحكم الذاتي في إطار مجتمع التاريخ وتمفصلاته الليبرالية أو القطع مع التمفصلات الليبرالية من أجل العثور على المستقبل المشترك. إن السلطة على الذات لا تتلاءم مع عوامل انعدام التنظيم والفوضى وهي حرية المجتمع المدني وحرية الأفراد داخل المجتمع المدني.

  بالانفتاح على المستقبل تعارض الكليانيات إقامة نظام نهائي للتقلّبات الخاصة بتمثّلات المجتمع فهي تستبدل ترتيب أسبقية السياسي وعوضا  فك ارتباط الأفراد لأنها تقيم اندماجا بالحشود أو جموع الشعب، في الواقع هي تعود أو تميل إلى العود وفي لغة دنيوية إلى المجتمع الديني وإلى انسجامه وترابط أجزائه. هذه هي العلامة على أن نموذجها يظل متجذّرا بقوة في الأدمغة بالرغم من نبذه الرسمي وقد استمرت في التأثير في مسيرة المجتمعات وتقديم نفسها كملاذ نلجئ إليه عند الحاجة.

   إن تاريخ الصراع بين الخيارين جد معروف، غير أنه يكتسب وضوحا جديدا حين يُسْتَبْدَل في هذا الأفق. لقد أمسكت الكليانيات بالحبل في الثلاثينات حين اعتقدنا أن العصر اللبرالي البورجوازي أوشك على نهايته من قِبَلِ اليمين واليسار. وإثر ذلك وبعد 1945 فإن الديمقراطيات الليبرالية ستتغيّر بشكل جد عميق لكي تتجاوز الأمراض التي اعتقدنا خطأ أنه لا يمكن مداواتها. لقد كان لنا هكذا وطيلة ثلاثين سنة والتي هي كذلك سنوات نمو استثنائي مرحلة إعادة هيكلة وتماسك للأنظمة الليبرالية الديمقراطية بالاقتراع العام الذي سيشكل الديمقراطيات الليبرالية التي نعرفها. مرحلة تدعيم واستقرار سيسمح لها في النهاية بالتغلّب على ما بقي من أعدائها الرجعيين والثوريين. سينتشر في سنة 1974 ومع “ثورة القرنفل” في البرتغال ما يسميه السياسيون بـ”موجة الدمقرطة”[1]  وستكون قاتلة بالنسبة للطغاة وتطيح ببقايا الفاشية في جنوب أورباـ قبل فوزها في أمريكا اللاتينية وتبلغ ذروتها في انهيار ما يمكن أن نسميه الأنظمة “الاشتراكية الواقعية.”

   بيد أنه وبالتوازي مع هذا الانتشار العالمي وتقريبا في نفس التاريخ دخلت الأنظمة الديمقراطية الليبرالية في مرحلة تحوّلات هامة، وهي تحوّلات تنتمي لحركة عامة، بما أنها تتوافق مع اختراق وتعميق إضافي للروح الديمقراطي. غير أن تقدم الديمقراطية لا يحصل دون صعوبات للديمقراطية. ونحن نستطيع التثبت منها مرة أخرى. في الواقع هذه الطفرة ستؤدي خلال سنوات التسعينات، وفي وقت تم استهلاك انتصار الديمقراطية وفُرِضَتْ كأفق لا محيد عنه لزمننا وكنظام شرعي نحلم به، ستؤدي إلى أزمة نمو ثانية شبيهة في مبدئها للأولى ولكن مختلفة بعمق في تعبيرتها. ما توجّب علينا توضيحه الآن هو هذا التشابه وتلك الاختلافات.

الخلاصة الليبرالية الديمقراطية*

  هذا التفسير يفترض كشرط قبلي أن تكون لنا فكرة واضحة عن نقطة الانطلاق أي عن الإصلاحات التي أدت إلى استقرار معادلة الديمقراطيات الليبرالية في سنوات 1945. فهي تشكّل الجواب المنهجي لأزمة النظم الليبرالية التي منها صدرت الموجة الكليانية. وإذا اختزلناها إلى ما هو جوهري فإنها تمثّل حقنة للسلطة الديمقراطية في المجتمع الليبرالي. وهذا يمكن أن يبدو بتفصيل بفضل التشابك بالغ الدقة للسياسي وللاجتماعي-التاريخي وللقانون. ما يُقدَّمُ من حيث هو نظام وكمزيج من النظام الليبرالي والنظام الديمقراطي يقوم على تداخل عام ومعقّد للعناصر الثلاثة لحداثة الاستقلال الذاتي. لذلك فإنه يحق لنا الحديث عن الخلاصة الليبرالية الديمقراطية بوصفها نظامنا المختلط.   

     انتشرت هذه الإصلاحات في ثلاث اتجاهات هامة، وسأكتفي بالتذكير بالإلهام العام من أجل إبراز الرهانات.

  1. لقد كانت تتألف في البداية من إصلاحات سياسية تهدف للاستجابة إلى العجز البرلماني وإلى التمثيل السيّئ خاصة من خلال إعادة تقييم السلطة التنفيذية في النظام التمثيلي، وفي النهاية فهي أفضل من تحمل هذا الدور المُلْغِز الذي هو التمثيل بوصفه في المقدمة فنحن لا نصدّق فقط نجاعة القوة العمومية بل نعطي للمواطنين فرصة أفضل من أجل التعارف في الفعل.
  2. لقد مروا بعد ذلك لسلسلة من الإصلاحات الإدارية التي أقامت مع جهاز خدمات عمومية جهازا للتعديل وللتوقّع يهدف إلى معالجة التجريب الأسمى ونزع السلاح في مواجهة فوضى الأسواق التي كانت تمثّل عماد الدول الليبرالية، وستكون هذه الأخيرة قادرة ومن الآن فصاعدا على الاعتماد على وسائل هائلة لمعرفة المجتمع وعلى تنظيم الوجود المشترك وعلى توجيه مساره في التحوّل. إن التغيير ومن منابع لا حصر لها يمكن فهمه والتحكم فيه من وجهة نظر الجماعة السياسية.
  3. لقد أَلَّفَتْ أخيرا، وهذا أكثر جوانبها شهرة في الإصلاحات الاجتماعية التي يمكن تلخيصها في العناوين البارزة لدولة الرعايةـ، المؤسسة بمدخلين: أن الحالة الاجتماعية ليست فقط وسيلة لحماية الاستقلالية الحقيقية للأفراد ضد المخاطر الطبيعية التي تهددها (المرض والبطالة والشيخوخة والعوز…) وهي أيضا أداة للاستيلاء على المجتمع في كلّيته والتحكّم في دوره من وجهة نظر العدالة. إنه لا يطمح إلى تجسيد المجتمع العادل أداتيا بيد أنه يقترح إطارا يسمح بمناقشته بطريقة إجرائية.

  إن نتيجة مجموع هذه التغيّرات الواسعة هي زيجة الديناميكية التاريخية بقدرة تجسيدية للدولة وحق الأفراد مُعَادٌ تعريفه في كثافته المحسوسة. فالحرية الليبرالية مُحْترمة بل مُضَخَّمة فمن الوسائل المتاحة للحريات الشخصيّة وحرية الإبداع والتأسيس الذاتي للمجتمعات المدنية. لكن يتم تزويدها هذه المرّة بتعبيرة سياسية يمكنها أن تجسّد تحكّما في النفس للجماعة التاريخية المعروفة في قوتها الابداعية، كيف ترتقي حقا الحرية الليبرالية إلى حرية ديمقراطية، فمن الليبرالية الديمقراطية عبرنا إلى الديمقراطية الليبرالية في امتلاء معناها.  

في الواقع لقد كانت هذه الإصلاحات الكبرى التي تم تنفيذها في أعقاب الحرب العالمية الثانية جد ناجعة، وفي المدى المتوسّط حازت على موافقة الناس فقد نزعوا عنهم رويدا رويدا الهواجس والرفض اللّذين لاحا لمدّة في ذروة اضطرابات الثلاثينات والتي كان من المفروض أن تتغلّب على الأنظمة الليبرالية، وتدينها لما بدا ضعفا لا يمكن علاجه. فقد قرّروا الاندفاع نحو الديمقراطية بعمق كاف للتقدّم انطلاقا من أواسط السبعينات إلى حدود أزمة اقتصادية حادة، فقد أدّت الأزمة التي أعقبت انهيارا عاما سنة 1929 إلى تفاقم الرفض الثوري واتّسمت الأزمة التي أعقبت صدمة النفط سنة 1973 بالتخلّص من الآمال الثورية وتشويه سمعة الوعود الكليانية.  

     توسّع الاستقلال الذاتي

   إلى جانب تعطيلها للمكنيزمات الاقتصادية فإن هذه الأزمة قد كشفت شيئا فشيئا علامة على تغيّر العالم بما في الكلمة من معنى، عن تغيّر في جغرافية العالم وتغيّر للأساس المادي لمجتمعاتنا الرأسمالية وللصناعة والجهاز التقني. ومن الفضاء الاقتصادي سيشمل التغيّر الفضاء السياسي. روح اجراءات التحرر والتحرير المعتمدة لإعادة إطلاق النمو ستلج مجال المؤسسات العمومية وبتأثيرات هامة. إن تواصل المحصّلة بين البعد الديمقراطي والبعد الليبرالي التي تم الحصول عليها في بداية السبعينات ستنقطع لصالح هيمنة متجدّدة.

   هذا البعث العملي والايديولوجي لليبرالية وبعد مرحلة طويلة من الخسوف هو الخاصية الأبرز لانقلاب المشهد المشترك في الفترة الأخيرة، وبخلاف ذلك فإن دلالة هذه الظاهرة عميقة جدا. فالانعطاف الأيديولوجي ليس سوى الجزء الطافي لطفرة هامة نبع من انطلاق جديد لمسار الخروج من الدين. إنه لا يعدو أن يكون ضوء من الممكن أن تعرف كل أبعاده . لقد كان تمرين البناء الديني بعيدا عن الاكتمال. يمكن أن تبدو مكسبا من وجهة نظر القواعد المعلنة التي تحكم النشاط الجماعي ولم تكن كذلك من وجهة نظر تروس العمل والأحكام المسبقة للحياة في المجتمع، إن هذا الاحتياط المخفي الذي استغلّته الأديان الكليانية غير أن النتائج المذهلة في ما يخفى تجسيد للاستقلال الذاتي التي تحققت لصالح مرحلة الدمج 1945-1975 قد خلّفت شروط خطوة متقدّمة ألّفت بالأساس وسائل مرحلة جديدة وراكمتها لتوسيع التنظيم وفقا للاستقلال الذاتي وسمحت هذه الأخيرة بتطوّرات جديدة لمراحله الثلاث. التطور الذي يقوّض الثوابت والتوافقات التي تم انشاءها بينها سابقا. أحد هذه العوامل وهو الحق يبدو أنه يفوق الأخرى ويُفْرَض الحق بشكل هيمني. إنه وجزئيا تأثير بصري ثمة في الواقع تعميق متزامن للسياسة والحق والتاريخ، غير أن الهيئة والجاذبية التي يضفيها تعميقها المتعاقب للسياسة والتاريخ تخيفهم، إن جاز التعبير، لقد أصبحت الدولة الأمة أشد تنظيما من أي وقت مضى، باستثناء وضع البناء التحتي وعلى خلفية ما منحته المشكلة الدينية من تراجع في التفكير الحتمي ومن سماته السابقة يبدو كما لو كان هزيمة ( في الواقع يبدو أنه قد كفّ عن توجيه الاقتصاد فذلك حتى يمنحه دعم أشد) بيد أن الأمر على هذا النحو كلما كان دورها أعم كانت أكثر وضوحا. وبالمثل لم ينتشر الشعور بتسارع التاريخ مطلقا وهذا أمر صحيح حتى وإن كان التعبير غير كاف. إن تضخيم الفعل التاريخي ملحوظ باستثناء أن تعميق التوجّه الإبداعي نتيجته أن يكون غير قابل للتمثيل بالنسبة إليها، في حين تختفي الماضي عنا. إنه يسجننا في حاضر مستمر وذلك بكسر الروابط التي توحّد الأزمنة. وفي الوقت الذي يقتضي فيه التوجّه التاريخي درجة لا مثيل لها فإن كل شيء يحدث كما لو أن التاريخ لا يوجد إطلاقا. فليس ثمة إلا عنصر القانون الذي يطفو فوق المشهد الجماعي، وهو يحتل من ناحية أخرى مركز الصدارة على نحو رائع. إن وضوحه يمنحه غلبة مضاعفة، إنه الشبيه الرئيسي للتكوين الحالي، فهو يهب لونه السياسي للهجوم الليبرالي بالتشديد على ممارسة حقوق الفرد عوض وضعها على مَلَكَات المبادرة للمجتمع المدني. نستطيع أن نجادل مطوّلا لمعرفة من يزن أكثر وفي النهاية فإن القوى التي تشكّل عالمنا من الحريات الاقتصادية وتلك التي لسياسة حقوق الإنسان يكتفي البحث التالي بالنظر في تضامنها.

   من بين أهم التعبيرات لتبدّل التوجّه في علاقة بالمرحلة الكبرى للتنظيم بعد الحرب كانت في الحقيقة إطلاق مسار الفردانية. ففي حين كان المشكل يتعلّق فقط بالجماهير والطبقات فقد كان الفرد لا يُدْرَك إلا من خلال المجموعة التي ينتمي إليها، وتم تخريب مجتمع الجماهير من الداخل بفردانية الجمهور. بانتزاع الفرد من انتماءاته. توضّح هذه الظاهرة كيف أن انفصال الفترة الجديدة يكون باستمرار مع الفترة السابقة. لقد كان هذا التفكك المعمم لا يمكن استيعابه دون العمل الضخم لبناء الفرد المحسوس الذي قامت به الدولة الاجتماعية.  فهي الوريث المباشر لأحكامه الوقائية والترويجية ولكن من أجل منحهم تطوّرا يقودهم إلى مسار جد مختلف بإعطاء مكانه للفرد المجرّد على أساس مكتسبات الفرد المحسوس. مبحث الحقوق الحقيقية توسّعت بإعادة تأهيل الحقوق التي نقول عنها صورية وإعادة تفعيل الطلبات المقدّمة نيابة عنهم.

    إن تكريس الحركة في هذا الخط سيحقق تنصيب عظمة فرد الحق وحقوق الإنسان خلال سنوات 1980. بل وسيجد تاريخا لمنح سند رمزي لهذا التتويج. ستظل سنة 1989 التأكيد الساخر للخاصية غير المُتَجَاوَزة لمكاسب الثورة البورجوازية، بعد قرنين من الزمان، في ضوء انهيار قوتها المزعزمة. طبيعيا هذا لا يعني أنه لم يحدث أي شيء ذي بال خلال هذين القرنين، ولا يعني أن كائن الحق الذي عاد على المسرح العمومي هو ذاته مواطن 1789. سيستغرق ذلك زمنا طويلا. إن مشكلتنا تتمثل تحديدا في فهم كيف غيّر المسار المقطوع شروط اشتغال الديمقراطية إلى الحد الذي أصبح فيه سندها الطبيعي منبع مشكلاتها.         

    ديمقراطية حقوق الإنسان

 لا يمكن أن نبالغ في الأهمية التاريخية لهذا المقدّس، إذ وبفضل عودة فرد الحق أصبحت الديمقراطية ما لم تستطع أن تكونه أبدا، باستثناء الافتتاحية المختصرة للثورة الفرنسية: ديمقراطية حقوق الإنسان. بالتأكيد لقد ادّعت ذلك منذ زمن طويل، وعملت على الحفاظ عليهسلبا كضمانات شخصية في المجال القضائي. بيد أنه إن كان ثمة شيء واحد مفهوم منذ انبثاق سلطة التاريخ في القرن التاسع عشر فهو أنهم في تجريدهم من عصر لآخر كانوا يمثّلون مبادئ جليلة ومعطّلة.  لقد كان من المقبول أن يسترشد الفعل السياسي بالمعرفة الملموسة للمجتمع وحركيتها هذا كان يريد أن يكون ناجعا. ففي تقدّم الحقوق الشخصية في شكل حقوق اجتماعية لدولة العناية كان التوضيح الأكثر إقناعا. فيما يتعلّق بهذا الخسوف للقرنين من الزمان يجب أن نقدّر نطاق الانبثاق الذي شهدناه لتوّنا. تعود الديمقراطية هاته المرة لمدرسة أسسها لتزوّدهم بترجمة إيجابية. لقد أصبحت إعادة التملّك هذه ممكنة بفضل تغيير هيئة حقوق الإنسان والتي أعادتهم بهدوء من سماء المثالي إلى أرض الممارسة على مدار تاريخ أرضي ويمثل اختراقه الواسع في واضحة النهار علامة فارقة في التاريخ الطويل للحق الطبيعي. كل شيء يمر كما لو أن خيال الحالة الطبيعية قد أصبح حقيقة، كما لو أن المعيار البدئي الذي تحدد حسب الزمن السابق للمجتمع لا يمثل إلا وحدة مع الحالة الاجتماعية. وبالتالي لا يوجد أي عائق بحيث تسود الحقوق التي يتمتّع بها الإنسان بحكم طبيعته وتطبّق دون أن تواجه أي عقبة. فهي مصمّمة لا فقط من أجل توجيه الفعل الاجتماعي بل ومن أجل تحديده.

  هذا هو منبع العود الالغازي للديمقراطية ضدّا لنفسها، كما اقترحت تسميته، وهو ما سيجعلها تتراجع بنفس الوتيرة التي تتقدّم بها، وهذا ما يُفْرِغها من جوهرها في فعل تعميقها. ذلك أن الآثار السياسية لهذا الاتفاق القانوني المتجدد للديمقراطية جد هامة. إن مفهوم سيادة القانون يكتسب في هذه الحالة ارتياحا يتجاوز بكثير المعنى الذي حصر فيه. إنه يميل إلى أن يخلط بفكرة الديمقراطية عينها المتضمّنة في حماية الحريات الخاصة واحترام الاجراءات التي تحكم التعبير العلني عنها. وبشكل واضح تغيّر المعنى العفوي لكلمة ديمقراطية. ففي استعمالاته اليومية أصبح يعني شيئا آخر غير ذلك الذي كان عليه. أصبح يعني القوة المشتركة والقدرة على الحكم الذاتي. إنه لا يشير إلا إلى الحريات الشخصية. ويسير كل ما يزيد من مكانة الحريات الفردية ودورها في اتجاه الديمقراطية. لقد حلت الرؤية الليبرالية للديمقراطية محل معناها الكلاسيكي ولم يعد المحك في المسألة سيادة الشعب بل سيادة الفرد التي تحددها الإمكانية النهائية لهزيمة القوة المشتركة إن لزم الأمر، والتي من خلالها يؤدي وخطوة بخطوة إلى تعزيز القانون الديمقراطي للعجز السياسي للديمقراطية. فكلما سادت الديمقراطية تضاءل حكمها.

  يمكن رؤية هذا التناقض الحميم في مستويين، إن كنا نبحث عن تفصيلها فهي تظهر فوق السطح من خلال تقييد ذاتي للمجال السياسي الديمقراطي. إنها تترجم في العمق بإعادة استشكال الأسس التي تقوم عليها ممارستها.                     

ديمقراطية دنيا

  في الحقيقة يدفع غسق سيادة الشعب لفائدة سيادة الفرد بلا هوادة في اتجاه ديمقراطية دنيا. والأمر لا يتعلّق بمعارضة ساذجة بين معنيين. إنهما مرتبطين بتمفصل دقيق يشكّل أساس التصويت في نظمنا والذي يبرر الحديث عن “ديمقراطية ليبرالية” في صرامة التعبير. هذه وبحسب ما يدل عليه اسمها تتضمن وجهين مرتبطين ومتمايزين: إنها تقوم على الحقوق الأساسية للأفراد والحريات العامة التي توسّعها، وتتمثل في ممارسة القوة المشتركة، بمعنى تبدّل الحريات العامة إلى تحكّم ذاتي للمجموعة. حكم لا يمكن ممارسته إلا في نطاق احترام هذه الحريات. بما أنه مصمم للتعبير عنها، بيد أنه يمثّل سلطة متميّزة وعليا، حيث تجد الحريات الفردية اكتمالها، وبما أنهم لا ينضمون هنا إلى كرامة قسم من الجميع بل أيضا إلى مسؤولية المصير المشترك. إن المشكل التكويني والمستمر للديمقراطية الليبرالية هو ضمان التهجين المتوازن لنظامي المقتضيات. إن هذا البعد الثاني لسلطة الكل نجد أنه انمحى لصالح الأولى، حرية كل واحد. لم يعد يُفْهَمُ كامتداد ضروري للتصرف الذاتي، إلا من زاوية الحماية التي من المرجّح أن تتضمّنها (لذلك فإن توسيع المطلب المتوجّه للدولة الاجتماعية يمكن أن يقلّص الصلاحيات السياسية الممنوحة للحكومات) بالنسبة للبقية، فإن طموح قيادة وتوجيه المجموعة يتجه إلى أن يكون مرفوضا بسبب تخارجها السلطوي. إن الأمر العام للقانون قد بان كعدوّ لعدم اختزال القوانين. فكل شيء يحدث كما لو أن الأمر يحتاج إلى أقل قوة اجتماعية ممكنة من أجل الحصول على أقصى قدر من الحرية الفردية.

  ربما لا يكون الانعطاف حساسا في أي مكان كما هو في فرنسا، ذلك أن الجمهورية متجذّرة هناك حول مثال يقتضي السيادة الجماعية. وهذا يعود من جهة لميراث تقليد تليد للسلطة العمومية، ومن جهة ثانية للاصطدام مع الكنيسة الكاثوليكية والذي دفع نحو تطوير رؤية تأوّج الاستقلال الديمقراطي في وجه إحباط التيوقراطية. وقد أدى ذلك لفصل تراتبي  وبشكل خاص بين مجال المواطنة العمومية ومجال الاستقلال الخصوصي. وكذلك التحوّل الذي جعلنا نمر من ديمقراطية العمومي إلى ديمقراطية الخاص ونشعر به بشكل أكثر حدة من أي مكان آخر. إن انقلاب الأولوية الذي وضع المجال الخاص، بسحب تفوقه المبدئي، يعتبر مزلزلا للاستقرار فيما يتعلق بتمثيل السياسة الراسخة بقوة.

  المثال الإجرائي الجديد للديمقراطية والذي لا يحتاج أن يكون صريحا من أجل الاشتغال يتلخّص في التعايش الاجرائي للحقوق. كيف نضمن التوافق المنظم للاستقلالات الخاصة حتى تكون قادرة على الاعتماد وعلى قدم المساواة في آلية صنع القرار العمومي؟ هذا هو سؤالها. لكن كلما كانت هناك أكثر حقوق لكل فرد في إطار كهذا كلما كانت سلطة الجميع أقل. وبصرامة أشد إذا كنا لا نريد إلا امتلاء حقوق كل فرد لن يكون هنالك في نقطة الوصول أي سلطة للكل. إن مجرد إمكان لشيء كهذا مع ما يتضمنه من اعتبار على الإطلاق لنفسه مستبعد من البناء. فالمجتمع السياسي يكف عن حكم نفسه. إنه يصبح وبالمعنى الحرفي مجتمع سياسي للسوق. على أن نفهم ن الأمر لا يتعلق بمجتمع تحكم فيه الأسواق الاقتصادية الخيارات السياسية، بل مجتمع يطبع عمله السياسي نفسه على الاقتصاد النموذج العام للسوق، بطريقة يتم فيها تقديم شكله العام كنتيجة لمبادرات ومطالب فاعلين مختلفين في نهاية عملية التجميع المنظم ذاتيا. يعقب ذلك طفرة لاشتغال الحاكم يفهم هنا فقط لضمان الحفاظ على قواعد اللعبة وسلاسة سير العملية. إن الأمر متروك لهم لتشغيل التحكيم وتسهيل التسويات التي تدعو إليها ديناميكيات تعددية المصالح والاعتقادات والهويات. إن هذا الإنزياح فيما يتعلق بالفكرة الكلاسيكية للحكومة هو الذي سجله المصطلح الواسع لـ”الحوكمة” ثمة طموح خلف هذا التواضع الذي يعرضه هو لسياسة بلا سلطة ليس إلا. طموح لا يخلو من حداد لا يقل عن ذلك، وليس مؤكدا أنه يفترض بوضوح وهو ما تسمح به السلط، بمعنى تشكيل المجتمع البشري في الوقت المناسب من خلال الإرادة والتفكير.

  في الواقع فكما أن السلطة لا تضمحل من تلقاء نفسها وكما أنه ومع ذلك توجد حكومة حتى وإن كانت محدودة، وحتى إن كانت محدودة في قوتها المُوَجِّهَة، وعلاوة على ذلك فإن الأفراد والمجموعات في المجتمع المدني لا يون عدا أنفسهم ومشاغلهم الخاصة متخلين عن وجهة نظر المجموعة حتى عندما يتم اختزالها إلى مجرد تنسيق وظيفي للموظفين السياسيين، ويترتب عن ذلك أوليغارشية نامية لنظمنا. إنها مفارقية فللوهلة الأولى لكونها تتطور وسط غليان مطلبي يتغذّى من دفاع ضعيف وتوضيح لأسباب محددة. الانغلاق في حد ذاته لا يعني السلبية في وجه السلطات وعلى العكس من ذلك فهو مطلبي بشكل أساسي. إنها تتماشى هيكليا مع المطالبة بمكان شرعي للخصوصية التي يتم الدفاع عنها داخل هذا الكل والذي يُتْرَك للنخب الحاكمة. فالنشاط يكمن في التنازل. لذلك وفي نهاية المطاف فإن هذا التحشيد المستمر أبعد من أن يهدد هذه الأوليغارشية المتحكمة وتواصل تعزيز موقفها بغض النظر عن العصي الظرفية التي يضعونها في طريقها. ليس الأمر أن النخب المعنية لديها مخطط شامل تحت تصرفها. ولكن بالإضافة إلى حقيقة أن القرارات التي يتخذونها تنهي وبشكل تراكمي بأخذ مكانهم في سياق العولمة والتضامن مع أقرانهم والإجماع التقني الذي ينبثق عنها بمثابة دليل. فإن الجانب الثاني للحوكمة، حوكمة الخيارات على نطاق دولي يخفيها سرا بتواطؤ من الدوائر الحاكمة. على نحو يبدو فيه أن عالم المؤسسات التي خلنا أنها غير قابلة للحكم تتبين أنها في المجمل تخضع لحكم صارم. إنها محكومة بشكل جيد. وحقيقي من خلال مجموعة من الخيارات التي تؤثر على الشكل العام للجماعات السياسية ومستقبلها. غير أنها جوهريا تفلت من المداولات العامة ومن إسناد المسؤوليات. من هنا يأتي الشعور المعمّم بالنهب الذي يطارد ديمقراطية الحقوق. إن آليته تحفر هوّة بين النخبة والشعب. إنه يقوّض ثقة الناس في الأوليغارشيات التي تدفعهم للاعتماد عليها بلا هوادة لكن في المقابل فإن ردود الفعل التي تثيرها تعمل على تعزيز الوضع الذي تستنكره. إن الديمقراطية الدنيا هي ديمقراطية وبالقدر الذي تكون فيه قلقة وغير راضية عن نفسها تكون مسجونة في دائرة تسلبها من الوسائل التي تصلحها.

    هذه إذن الكيفية التي يؤدي بموجبها تعميق الديمقراطية الذي لا يمكن إنكاره إلى تفريغها.

أزمة أسس

    ليس هذا كل شيء، إذ يوجد مستوى ثان لمشكل الديمقراطيات، وهو أشد عمقا ولا يتعلّق بجهازها الداخلي بل بإطار ممارستها. وهنا يأخذ معنى الديمقراطية ضدّ نفسها أهميته الكاملة.

   من بعض النواحي فإنه مسموح لنا أن تعتقد أننا شهود على مسار من التآكل لأسس اشتغال الديمقراطية، إذ خلف القيود التي تفرضها على نفسها فإن الديمقراطية في قبضة تدمير ذاتي لطيف، يترك مبدأها على ما هو عليه ولكن يتّجه إلى حرمانها من فاعليته.

  إن الكونينة التأسيسية التي تعمل بها الديمقراطية تقودها في الواقع إلى فصل نفسها عن الإطار التاريخي والسياسي الذي تشكّلت فيه –باختصار الدولة-الأمة- ولكن في الحقيقة وبصفة عامة عن أي إطار ممارسة يكون مقيدا بحكم التحديد. فهي ترغب في نفسها دون أرض ولا ماض. إن منطق الحق يشجعها على رفض الاعتراف بنفسها مرسومة في الفضاء حيث تشكل حدودها إهانة لكونية المبادئ التي تعلنها. كما ترفض وفي نفس السياق الدخول في التاريخ مما يضعها في حالة اعتماد على خصوصية ليست دون ذلك احتمالا. بمعنى آخر فإن الديمقراطية تُقَاد إلى عدم تحمّل الشروط التي أنتجتها. على أقصى حد ستلقي كليا الفكرة التي أنتجتها. وسننظر إليها كما لو كانت بداهة طبيعية وفي نظرها ستكون الجغرافيا والتاريخ خيانة غير قابلة للفهم. فكيف لم يَسُدْ ذلك دائما وفي كل مكان؟ الماضي البشري وتنوعه الحضاري يتم إعادتهما إلى نمطية من الهمجية بدون مصالح حتى تصبح غير قابلة للفهم. في الحقيقة هذا الاجتثاث يعيد إحياء الديمقراطية على إرث جنيالوجي لا تريد أن تعرف عنه أي شيء ، وبالتالي لم تعد معنية بنقل مكتسباته.

       بنفس الطريقة وبتأثيرات مباشرة أيضا فإن الديمقراطية تتجه إلى الابتعاد عن الوسيلة القادرة على جعل الخيارات الجماعية واقعة حقيقة. فأي نوع من السلطة يصبح موضوع شك فيما يتعلق بفكرة القانون الذي تنوي التوافق معه. إنها مفارقة كبرى ومعادية للسياسة. تاريخيا الديمقراطيات الحديثة تشكّلت على أساس امتلاك القوة العامة من طرف أعضاء الجسم السياسي. فقد افترضت تكوّن دولة على نحو غير مسبوق، حيث تستطيع جماعة المواطنين أن تتعارف وتظهر نفسها، وحيث تستطيع أن تضع القوة الشرعية في خدمتها. إن مثالها الجديد هو تحييد القوة أيّا كانت على نحو تجعل سيادة الأفراد في منأى عن كل هجوم. هنا يكمن السبب العميق لاهتزاز الدول ولمبدأ سلطتها في ديمقراطية اليوم. إنها تذهب أبعد بكثير من صفاتهم الاقتصادية. فبسبب التشويش على طبيعتها ودورها في فكر الشعوب. الحقيقة أن اشتغالها كعوامل إجرائية للحكم لم تعد مفهومة. إن فعلها خُتِمَ بعدم شرعية منتشرة من خلال اشتباه هيكلي في العسف.

  وهكذا تُحْمَلً ديمقراطية حقوق الإنسان بمنحدر حاد على إلقاء الوسائل العملية التي تحتاجها لتكون فاعلة. من هنا جاء الاكتشاف المؤلم للقوة العامة التي تعثر عليها باستمرار. في الواقع هذا العجز هو الذي يفرزها. من غير شك أنه يأتي على نحو ما من الخارج، وبلا ريب كذلك فإنه يعتمد وإلى حد ما على “الإكراهات الخارجية” المشهورة. ولكن من الجانب الأكبر تأتي من الداخل. فكرة أن الديمقراطية في حد ذاتها تمنعها من وسائل تبلورها فإنه محكوم عليها بالهروب إلى الافتراضي.              

  تستحق الأزمة الحالية للديمقراطية أيضا لقب أزمة أسس الديمقراطية، أزمة أسس إذ أن منبعها الرئيسي ليس عدا تعزيز أسس الحقوق في الديمقراطية. أسس قانونية على عكس التأسيس التاريخي والسياسي، هذه هي المقاومة الداخلية المتفرّدة التي تجعل مرة أخرى نظام الحرية إشكاليا، وذلك من خلال جعل الاستقلال الذاتي غير قادر على الحكم. إن توسيع البنية المستقلة للعالم الإنساني الاجتماعي وتعميقها قد أنتجا ديمقراطية حقوق الإنسان والتي هي في إشتغالها الحالي تتجه إلى نفي أو على الأقل إلغاء الشروط العملية لممارستها. وهكذا يبدو لي أنه يجب أن نفهم مصدر الركود الغامض الذي يصيب أنظمتنا. والمقسّمة بين تأمين جديد على المبادئ التي يجب أن توجههم وريبة غير مسبوقة عندما يتعلّق الأمر بتطبيقها.

  لكننا لاحظنا طيلة مدة الزمن الحديث أن الأزمة يمكن تحليلها بمصطلحات أخرى، فهي تقدم نفسها عادة كمشكلة تكوين بين العناصر الثلاثة للمجتمع المابعد ديني، بين عوامل الاستقلال الذاتي الثلاث. إنها أزمة نظامنا المختلط، لقد دفع التقدم الأخير للثورة الحديثة القانون نحو موقع مهيمن وقيادي، وذلك من خلال إقصاء السياسي وإلقاء الاجتماعي التاريخي في الظل – السياسي الذي بدوامه يكون القانون مجرد مثال دون تجسّد والاجتماعي التاريخي الذي يكون خارج مراقبته تسود بجهله أثاره الحقيقية. من هنا تأتي هذه التناقضات المستمرة التي نتجت عن هذه الأحادية. ذلك أن ما لم يتم أخذه في الاعتبار من قبل المنظور السائد موجود مع ذلك ودون وعي لأولئك الذين لا يرغبون في معرفة أي شيء عنه. إن اشد المتعصبين للقانون لا يتوقفون عن المناشدة رغما عنهم لهذه السياسة التي يطمحون لتحرير أنفسهم منها. في نفس الوقت فهم مجبرون على ملاحظة أن المعايير التي يعتقدون معرفة اتجاهها تكتسب نطاقا غير متوقع تماما وذلك في ضوء التطور الاجتماعي الفاعل المسجّلة فيه. لنتحدث بشكل ملموس تحت لواء القانون فإن الاقتصاد هو الذي يفرض قانونه وذلك ليس بدون التأثير على صورة السلطات وحريات الفرد. هذه التناقضات القارة تكتمل باجتثاث مجتمع محكوم عليها بتجاهله. إن مجموعة محرومة من أي سيطرة وديمقراطية مستحيلة، في الملاذ الأخير وبملئ معنى الكلمة. كيف لهذه الجماعة السياسية التي لا يمكن التحكم فيها بسبب تمزّقها بين مطالب غير متلائمة، وعلى افتراض أنها لا تزال موجودة، كيف يمكن لها أن تكون قادرة على تحديد خيار للمجموعة؟ هذا ما يعيدنا ومن طريق آخر إلى فكرة ديمقراطية دنيا، في هذا الكون الخارج بالتأكيد عن سيطرتنا فإن حماية حريات الفرد الخاص هي المعنى الوحيد التي يمكن لفكرة الديمقراطية الاحتفاظ يه بشكل معقول، إن الريبة من القوة المشتركة يلتقي مع الدغمائية فيما يتعلق بالشرعية غير القابلة للقسمة بين الامتيازات الشخصية.

نحو إعادة التركيب

    قيمة المنظور تكمن في تسليط الضوء على التكوين الراهن. إنه يسلط الضوء على حجم التناقضات التي كشف عنها ما لا يمكن اعتباره اتجاها مهيمنا –ميل لا يمثل كل حقيقة مجتمعاتنا برمتها، ولا هو الميل الوحيد الذي يعمل داخلها. إن الهيمنة الأحادية لعنصر القانون ليس هو الكلمة الخيرة للتاريخ. إنه لحظة من مسار المجتمع المستقل، لحظة عدم توازن تستدعي استعادة التوازن بين العناصر الثلاثة التي يجب أن تعمل معا من أجل ديمقراطية متجانسة. إن المعاني واضحة للمشكل المعروض علينا والذي يتمثل في إيجاد مخرج للأزمة الحالية. إنها تتصل بإمكانية التفاوض على حل وسط مع القيود المتبادلة التي ينطوي عليها ذلك بين منطق فرد الحق والدينامية الاجتماعية التاريخية والشكل السياسي للدولة-الأمة (الشكل الذي أدّى تحوّله وبشكل متسارع في المنطقة الأوروبية إلى اختفائه بسبب فيدرالية الدول الأمم).

   لن نعود إلى مناورة المكتسبة من الأفراد. كذلك هنالك قدر هام من عدم قابلية المجتمعات المدنية للمعكوسية (والمجتمعات الاقتصادية بداخلها). في النهاية لا يتوفر لنا أسس أخرى متاحة بخلاف حقوق الإنسان أبدا إلا الفردانية. يتعلّق الأمر بإضاءتها. وبأن نفسّر للأفراد أن حريتهم لا تكتسب معناها الحقيقي إلا داخل إطار حكومة مشتركة واضحة في أسسها وشروطها. وهذا ما يقتضي وضعها في نظام سياسي يفترض على هذا النحو ويضع المراقبة المدروسة للتاريخ الذي تم إبداعه في قلب المداولات العمومية.

   لسنا في حاجة للذهاب بعيد في البحث عن المحرّك القادر على القيام بتطوّر مماثل. إنه لا يتواجد إلا في حالة من الإحباط الشديد التي ينطوي عليها الوضع الراهن للأفراد الذين يفترض أن يكونوا أكبر المستفيدين. فما الهدف من رؤيتك مجندا كفاعل ذي سيادة إن كان ذلك من أجل تجاهل هويتك كما صاغها التاريخ وتجد نفسك ممزقا بين مستقبل لا تعي اتجاهه أكثر مما يمكنك أن ترى طريقة للتأثير فيه. يصعب أن تعيش العجز الجماعي حتى بالنسبة للفرادانيين الأشد جنونا وخاصة بالنسبة لهؤلاء، إذ وعلاوة على ذلك عندما ينضاف إليها في النهاية نزع الملكية الحميم. إن المفارقة لحرية بلا سلطة غير محتملة بملئ العبارة. إذ لا يمكن أن تقود عاجلا أم آجلا إلا لفكرة أن الحكم المشترك لوحده يعطي معناه المكتمل للاستقلال الفردي.

  إلى جانب هذه العوامل للتعبئة الذاتية المتعلقة بالتناقضات الداخلية البحتة للعبة الديمقراطية الحالية يجب أن نضيف التحديات الموضوعية التي تواجهها مجتمعاتنا والتي تُعْنى بإعطاء شحنة ضاغطة على المراقبة المشتركة. يكفيني البحث في الجدار الإيكولوجي الذي يحملنا إليه فعل التسريع للحركة الاقتصادية حتى نشعر بالمراجعات المُمَزِّقَة التي تلوح في علاقة بالإيمان السائد في سحر التنظيم الآلي. في الحقيقة إن القيد الإيكولوجي مع ما يشير إليه من شرطية لإنتاج الطبيعة ليس إلا إعلانا لقيود عامة أوضح حيث يجب أن يكون مجموع شروط وجودنا التي نأخذها كمعطى مطلبا. إنه وضع لا تكون فيه موارد الذكاء والقوة المشتركة لازمة كثيرا.

  الكثير من الأسباب التي يبدو لي أنها تبرر التشاؤم قصير المدى والتفاؤل بعيد المدى إن سمحتم لي باستعادة معادلة هذا موضع تدقيقها. حسب كل الاحتمالات ففي المدى القصير وفي المرحلة التي نحن فيها فإن الأزمة لا يمكن إلا أن تزداد حدّة. فنحن لسنا على شفا تفكيك التوازنات القديمة وزخم العوامل الجديدة. وفي المقابل في المدى البعيد سيكون ثمة أزمة نمو قابلة لأن نتجاوزها. لا يقتصر الأمر على مثال الماضي في هذا المعنى ولكن توجد علامات عديدة حتى وإن كانت ما زالت في مرحلة جنينية.      

الهوامش

  *هذا النص مستخرج من محاضرة قدّمت في معهد دافييد دونجير David D’angers في 8 جوان 2006 بدعوة من مؤسسة أونجيفين   Angevineللفلسفة.

   [1]  Samuel Huntington, The Third Wave. Democratization in the Late Twentieth Centry, Norma, University of Oklahoma Press, 1991.هانتغتون حدثت الموجة الأولى  من 1918 إلى حدود 1926 والثانية من 1943 إلى 1962. نستطيع حدّها بتغيّرات النظم التنفيذية في الحربين العالميتين. حسب