مجلة حكمة
آرثر شوبنهاور فلسفة

آرثر شوبنهاور: فلسفته وأعماله الكاملة

الكاتبروبيرت ويكس
ترجمةمايكل ماهر
تحريرعمار أيمن
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول سيرة آرثر شوبنهاور وفلسفته؛ نص مترجم لد. روبيرت ويكس، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


من هو شوبنهاور؟

يعَدُّ آرثر شوبنهاور من بين أوائل فلاسفة القرن التاسع عشر الذين أكَّدوا على أن العالم في جوهره ليس مكانًا عقلانيًّا، متأثرًّا بـ أفلاطون وكانط، اللذين اعتبرا أن العالم قابلٌ للعقلنة؛ حيث قام شوبنهاور بتطوير فلسفاتهم إلى صورة يمكنها استيعاب الغرائز الطبيعية بشكل أكبر، والتي آلت في نهاية المطاف إلى نظرة زاهدة تجاه الحياة، مؤكدًا على أنه في مواجهة عالم يعج بالصراعات التي لا تنتهي، يتحتم على الإنسان السيطرة على رغباته الطبيعية في سبيل الوصول إلى الحالة الذهنية المستقرة التي تسمح له بتحقيق المنفعة الشاملة.

عادة ما يعتَبَر آرثر شوبنهاور فيلسوفًا تشاؤميًّا من الطراز الأول، بيد أن شوبنهاور، في الواقع، دعا بواسطة أشكالٍ من الوعي الجمالي، والأخلاقي، والزهد العام، إلى تجاوز الواقع البشري الذي لا ينطوي إلا على الألم والتعاسة. ومنذ رحيله عن عالمنا عام 1860، تركت فلسفة شوبنهاور تأثيرًا كبيرًا على مضمار البحث عن معنى الحياة، فضلًا عن إرثه الذي طال مجالات عديدة كـ الموسيقى والأدب والفنون البصرية.


1. سيرة آرثر شوبنهاور الذاتية: 1788-1860

ولِد آرثر شوبنهاور في 22 فبراير/ شباط عام 1788 بمدينة جدانسك (ببولندا حاليًا)، بعد شهر واحد من ميلاد الشاعر الرومانسي الإنجليزي اللورد بايرون (1788 – 1824)، الذي ولد في 22 يناير/ كانون الثاني.

كانت عائلة آرثر شوبنهاور ذات أصول هولندية، وكان لمدينة جدانسك تاريخ طويل في التجارة العالمية كعضو في الرابطة الهانزية، حيث كان والده، (هاينريش فلوريس شوبنهاور – Heinrich Floris Schopenhauer) (1747 – 1805) تاجرًا ناجحًا ومالكًا لعدد من السفن التجارية، والذي أعدَّ ابنه آرثر ليتولى إدارة أعمال العائلة من بعده.

لم يكن اختيار اسم آرثر اعتباطيًا، فقد خطط والده لمستقبل آرثر الصغير المرتبط بالتجارة الدولية منذ يوم ميلاده، حيث اختار اسمًا تَسْهُل تهجئتُه في الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية. وفي مارس/ آذار عام 1793، بينما كان شوبنهاور في الخامسة من عمره، انتقلت عائلته إلى مدينة هامبورج المنفتحة على السوق الدولية، بعد استيلاء مملكة بوروسيا على مدينة جدانسك.

جاب آرثر شوبنهاور أوروبا عدة مرات برفقة عائلته أثناء مراهقته وشبابه، وقد عاش في فرنسا عندما كان عمره بين تسع سنوات وإحدى عشرة سنة (1797 – 1799)، وإنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره (1803)، حيث تعلم الفرنسية والإنجليزية. وكما ذكر شوبنهاور لاحقًا، كانت تجاربه في فرنسا من بين أسعد التجارب في حياته على الإطلاق، بينما كانت ذكرياته في المدرسة الإنجيلية الداخلية الصارمة التي التحق بها بمدينة ويمبيلدون الإنجليزية على النقيض تمامًا، والتي شكَّلت عداءَه للنموذج الإنجليزي من المسيحية الذي رافقه طيلة حياته.

لم تكن التجارة والمهن المصرفية تلائم النشاطات الأكاديمية لـ آرثر شوبنهاور بشكلٍ كافٍ، بالرغم من أنه بعد وفاة والده، المرجحة عن طريق الانتحار (20 أبريل/ نيسان 1805 بهامبروج)، وهو في السابعة عشرة من عمره، ظل يحترم الطموحات التي أراد والده أن يحققها من خلاله لعامين كاملين، قبل أن يغادر هامبورج وهو في التاسعة عشرة من عمره، أثناء الفترة التي كان يتدرب فيها لخلافة والده، ليبدأ التحضير لدراساته الجامعية. وفي أثناء ذلك، غادرت والدتُه (يوهانا هينريت تروازنر شوبنهاور – Johanna Henriette Troisiener Schopenhauer) (1766 – 1838)، التي كانت ابنة لأحد أعضاء مجلس شيوخ المدينة، برفقة شقيقة شوبنهاور، (لافينيا شوبنهاور – Lavinia Schopenhauer) (1797 – 1849)، منزلَ الأسرة الكائن في مقاطعة (نوير فاندرام – Neuer Wandrahm)، بمدينة هامبورج، وانتقلتا إلى مدينة فايمار بشرق ألمانيا بعد وفاة هاينريش فلوريس والد شوبنهاور، حيث أقامت الأم علاقة صداقة مع يوهان فولفجانج فون جوته (1749 – 1832).

اعتاد جوته التردد على الصالونات الثقافية التي كانت تنظمها يوهانا والدة آرثر شوبنهاور، والتي أصبحت كاتبة مشهورة في تلك الفترة، فقد صدر لها العديد من المقالات والروايات وقصص الرحلات، منها على سبيل المثال: جابرييل (1819)، والعَمّة (1823)، وسيدونيا (1827)، وريتشارد وود (1837)، بالإضافة إلى السِّيَر الذاتية، وعلى رأسها سيرة الناقد الفني الألماني وعالم الآثار وصديقها المقرب كارل لودفيج فيرنو (1763 – 1808)، وسيرة الرسام الفلمنكي جان فان إيك (1390 – 1441 تقريبًا)، والتي نُشرت على جزئين في عامي 1810 و1822 على التوالي. وقد بلغ مجموع أعمالها الكاملة أربعةً وعشرين مجلدًا.

بدأ شوبنهاور دراسته بجامعة جوتينجن عام 1809، وقد درس بها لمدة عامين، تخصص بدايةً في الطب، ثم تحوَّل لدراسة الفلسفة لاحقًا. أسهمت دراسته بجامعة جوتينجن في فهمه لآراء الفيلسوف الشكوكي جوتلوب إرنست شولز (1761- 1833)، والذي عرَّفه على أفلاطون وكانط. التحق شوبنهاور بعد ذلك بجامعة برلين (1811 – 1813)، حيث تتلمذ على يد يوهان جوتليب فيخته (1762 – 1814) وفريدريش شلايرماخر (1768 – 1834). وقد تضمَّنت دراسته بجامعتي جوتينجن وبرلين مقررات في الفيزياء، وعلم النفس، وعلم الفلك، وعلم الحيوان، وعلم الآثار، وعلم وظائف الأعضاء، والتاريخ، والأدب، والشعر.

 وفي الخامسة والعشرين من عمره، عندما كان آرثر شوبنهاور يستعد لكتابة أطروحته لنيل درجة الدكتوراة، انتقل إلى رودولشتات عام 1813، وهي بلدة صغيرة تقع على مسافة قصيرة جنوب غرب مدينة يِنَا، حيث أقام في نزُل يدعى (زُم ريتر – Zum Ritter)، ذلك المكان الذي عاش فيه أثناء كتابة أطروحته المعنونة بـ “عن الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية” (Über die vierfache Wurzel des Satzes vom zureichenden Grunde)، والتي شكلت حجر الزاوية في فلسفته لاحقًا، فقد أعاد صياغة الحجج التي استخدمها في الأطروحة لنقد الفلاسفة الألمان المثاليين ذائعي الصيت في ذلك الوقت، بوصفهم مشعوذين، وعلى رأسهم أستاذه السابق فيخته، وشيلينج (1775 – 1854)، وهيجل (1770 – 1831). وفي نفس العام قدَّم شوبنهاور أطروحته لجامعة ينا القريبة من مقر إقامته، ونال درجة الدكتوراة في الفلسفة، غيابيًا.

غادر آرثر شوبنهاور منزل والدته حيث عاش لفترة وجيزة عام 1814، وانتقل إلى مدينة درسدن، التي عاش بها حتى عام 1818. وهناك، بدأ في تطوير الأفكار من أطروحة الدكتوراة “عن الجذر الرباعي” إلى كتابه الأشهر “العالم إرادة وتمثُّلًا”، الذي انتهى من كتابته في مارس/ آذار عام 1818، ونشِرَ في ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، إلا أنَّه ترّخ بتاربخ 1819. وكتب شوبنهاور خلال تلك الفترة أيضًا، عام 1816، كتاب (عن الرؤية والألوان – On Vision and Colors) متأثرًا بنظرية الألوان لجوته. خلال فترة إقامة شوبنهاور بدرسدن طوَّر معرفته بالفيلسوف الماسوني، كارل كريستيان فريدريش كراوس (1781 – 1832)، والذي كان أيضًا واحدًا من تلاميذ فيخته بجامعة برلين، وكانت آراؤه الحلولية مؤثرة في تطور فكر شوبنهاور.

وتعرَّف الحلولية، أو وحدة الموجود، أنَّها (الكل في الله)، وهي عكس مذهب الواحدية أو وحدة الوجود القائل بأن (الله هو كل شيء)؛ حيث تذهب الحلولية إلى أن ما يمكننا فهمه والتعبير عنه بشأن الكون هو فقط جانب من جوانب الله، بينما وجود الله أعظم من ذلك، وغير متطابق مع ما يمكننا تخيله أو فهمه أو التعبير عنه بشأن الكون. وكما سنوضِّح لاحقًا، فقد وصف شوبنهاور “الشيء في ذاته” أحيانًا بطريقة تذكِّرنا بمذهب وحدة الموجود.

بعد قضاء آرثر شوبنهاور إجازة لمدة عام في إيطاليا، عقب نشره لكتاب العالم إرادة وتمثُّلًا، تقدم بطلب للحصول على فرصة لإلقاء محاضرة بجامعة برلين التي سبق له أن دَرَس بها، كان ذلك بعد عامين من تولي هيجل رئاسة كرسي الفلسفة المرموق بالجامعة عام (1818)، خليفة لفيخته. لم تكن تجارب شوبنهاور ببرلين مثمرة على المستوى المهني بشكلٍ كافٍ، ففي مارس/ آذار عام 1820 قام شوبنهاور، بمنتهى الثقة، بتحديد ميعاد محاضرته في وقت كان متزامنًا مع محاضرات هيجل التي كان عليها إقبالٌ كبيرٌ آنذاك، وكانت النتيجة أنه لم يحضر محاضرة شوبنهاور سوى مجموعة صغيرة من الطلاب فقط.

بعد ذلك بعامين، تحديدًا عام 1822، غادر آرثر شوبنهاور شقته القريبة من الجامعة، وذهب إلى إيطاليا للمرة الثانية، حيث مكث هناك لمدة عام، ثم عاد لمدينة ميونخ، ثم عاش بمدينتي مانهايم ودرسدن، على التوالي، خلال عام 1824، قبل أن يعود في النهاية إلى برلين عام 1825.

لم تنجح محاولته الثانية في إلقاء محاضرة بجامعة برلين أيضًا، وما زاد الأمر سوءًا، أنه في تلك الأثناء خسر دعوى قضائية كان قد أقامها قبل عدة سنوات، تحديدًا في أغسطس/ آب عام 1821. بدأ النزاع خلال مشاحنة بين آرثر شوبنهاور وكارولين لويز مارجيت (توفيت 1852) وهي خيَّاطة تبلغ من العمر سبعةً وأربعين عامًا، في محل الإقامة حيث كان يعيش الاثنان. وكان سبب الخلاف أن السيدة مارجيت كانت تتحدث بصوتٍ عالٍ مع زملائها في غرفة الانتظار المتاخمة لشقة شوبنهاور، مما أزعج شوبنهاور وجعل من الصعب عليه التركيز في عمله، وقد كانت تلك المحادثات على ما يبدو أمرًا روتينيًا، وهو ما أثار حفيظة شوبنهاور إلى أنْ قاده الغضب في نهاية الأمر إلى مواجهة عنيفة مع السيدة مارجيت.

غادر آرثر شوبنهاور برلين عام 1831 بعد تفشي وباء الكوليرا الذي انتقل لألمانيا عن طريق روسيا، فسافر جنوبًا باتجاه فرانكفورت حيث مكث لفترة وجيزة، وبعدها انتقل إلى مانهايم، ثم عاد مجددًا لمدينة فرانكفورت في يونيو/ حزيران عام 1833، حيث استقر هناك أخيرًا لمدة سبع وعشرين سنة مقيمًا في شقة على ضفاف نهر ماين بعنوان (17 شونيه أوسيخت – Schöne Aussicht 17) من عام 1843 حتى عام 1859، على بعد دقائق سيرًا على الأقدام من الحي اليهودي بفرانكفورت.

عاش آرثر شوبنهاور حياته وحيدًا برفقة اثنين من سلالة كلاب “البودل” الفرنسية الأليفة، والذي أطلق عليهما أسماء (أتما) و(بوتز)، حيث فرض على نفسه روتينًا يوميًا يبدأ بالاستيقاظ من النوم، ثم الاستحمام، ثم القراءة والدراسة أثناء الساعات الصباحية، ثم العزف على آلة الفلوت، ثم تناول وجبة الغداء في نزل (إنجليشر هوف – Englisher Hof) الفاخر بوسط المدينة والقريب من ساحة (هاوبتواتش – Hauptwache) الشهيرة، ثم أخذ قسطٍ من الراحة ومتابعة القراءة، ثم الانطلاق في نزهة بفترة ما بعد الظهيرة، ثم الاطلاع على الأحداث العالمية بصحيفة (لندن تايمز – The London Times)، وأحيانًا كان يحضر بعض الحفلات الموسيقية مساءًا، قبل أن يختتم يومه بقراءة نصوص من (الأوبانيشاد – the Upanishads)، وهو كتاب هندوسي مقدس، قبل الذهاب إلى النوم أخيرًا.

كتب آرثر شوبنهاور خلال الفترة اللاحقة من حياته عملًا قصيرًا عام 1836 بعنوان: (حول الإرادة في الطبيعة – On the Will in Nature) (بالألمانية: Über den Willen in der Natur) والذي كان يهدف للتأكيد على وجهات نظر شوبنهاور الميتافيزيقية في ضوء الأدلة العلمية. وقد تضمَّن الكتاب فصولًا عن التنويم المغناطيسي، والسحر، بالإضافة إلى الصينولوجيا (علم الدراسات الصينية)، حيث كشف ذلك عن اهتمام شوبنهاور بعلم التخاطر، وظهر ذلك جليًّا من خلال إشاراته إلى الباحث الكونفوشيوسي البارز (تشو شي – Zhu Xi) (1130 – 1200) بالإضافة إلى الكتَّاب المعاصرين المؤثرين في الفكر الآسيوي مثل روبيرت سبينس هاردي (1803 – 1868) وإيساك جاكوب شميت (1779 – 1847).

بعد ذلك بفترة قصيرة، تحديدًا في عام 1839، أتمَّ آرثر شوبنهاور كتابةَ مقالٍ كان فخورًا جدًا به، بعنوان: (حول حرية الإرادة البشرية – On the Freedom of Human Will) (بالألمانية: Über die Freiheit des menschlichen Willens)، والذي فاز بالجائزة الأولى في مسابقة برعاية الجمعية الملكية النرويجية للعلوم والرسائل بمدينة تروندهايم.

وبعدها بعام، أتبعَ شوبنهاور مقالَه الأول مقالًا ثانيًا بعنوان: (حول الأسس الأخلاقية – On the Basis of Morality) (بالألمانية: Über die Grundlage der Moral)، والذي لم يفز بأية جائزة من الجمعية الملكية الدانماركية للعلوم بكوبنهاجن، على الرغم من كونه المقال الوحيد الذي قدِّم للمسابقة الخاصة بالمقالات، حيث ادَّعت الجمعية أن شوبنهاور لم يجب عن السؤال المحدد، كما أنه لم يحترم الفلاسفة ذوي السمعة الكبيرة (أي: فيخته وهيجل). وفي عام 1841، نشر شوبنهاور، متحديًا، المقالتين معًا في مجلد بعنوان: (مشكلتان أساسيتان في الأخلاق – Two Fundamental Problems of Ethics) (بالألمانية: Die Beiden Grundprobleme der Ethik)، وسرعان ما ألحق شوبنهاور بذلك المجلد كتابَه الأشهر “العالم إرادة وتمثُّلًا”، واللذان نشِرا عام 1844 في طبعة ثانية مشتركة.

وفــــي عام 1851، نشر آرثر شوبنهاور مجموعة كبيرة من التأملات الفلسفية التي اتَّسمت بالحدَّة والحيوية، بعنوان: الزيادات والمحذوفات (Parerga and Paralipomena). وفي غضون عامين بدأ شوبنهاور في الحصول على التقدير الفلسفي الذي لطالما حلم به، فقد ساهمت الدراسة التي نُشرت بدورية (ويستمينستر ريفيو – Westminster Review) عام 1853 بتسليط الضوء على شوبنهاور بشكلٍ إيجابي، والتي كانت بعنوان: (تحطيم المعتقدات التقليدية بالفلسفة الألمانية – Iconoclasm in German Philosophy) بقلم: (جون أوكسينفورد – John Oxenford)، حيث أظهرت أوجه التشابه بين فلسفة شوبنهاور وبين أفكار فيخته الأكثر شهرة، من خلال التأكيد على مركزية “الإرادة” في فكر شوبنهاور.

بعد عام واحد من نشر الطبعة الثالثة من كتابه العالم إرادة وتمثُّلًا، توفِّي شوبنهاور في سلام في 21 سبتمبر/ أيلول عام 1860 داخل شقته الواقعة في (17 شونيه أوسيخت) بمدينة فرانكفورت عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة. بعد وفاته نشر يوليوس فراونشتات (1813 – 1879) طبعات جديدة لمعظم أعماله، بالإضافة لأول طبعة للأعمال الكاملة لشوبنهاور والتي نشرت في ست مجلدات، حيث ظهرت للنور لأول مرة عام 1873. وخلال القرن العشرين، قام آرثر هوبشر (1879 – 1985) بتحرير المخطوطات الخاصة بشوبنهاور على نحوٍ موثوق به. وفي النهاية، ذهبت ممتلكات شوبنهاور، التي تبرَّع بها، للجنود البروسيِّين المصابين، ولأسر الجنود الذين لقوا حتفهم خلال التصدِّي لثورة عام 1848.

وأخيرًا، يجب التنويه على أن أغلب الصور التي التُقِطَت لـ آرثر شوبنهاور كانت في السنوات الأخيرة من عمره، حيث تُظهِر لنا رجلًا عجوزًا، ولكن يجب أن نبقي في أذهاننا أن شوبنهاور أكمل عمله الرئيسي، العالم إرادة وتمثُّلًا، وهو في الثلاثين من عمره.

2. عن الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية

تناولت أطروحة الدكتوراة التي نشرها آرثر شوبنهاور عام 1813، الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية، الفكرة التي اعترف بها الكثير من الفلاسفة، والتي تفترض أن الكون من حيث المبدأ مكان مفهوم بشكلٍ تام باعتبارها نزعة فطرية، حيث تناقِش أطروحة شوبنهاور بشكلٍ نقدي تلك النزعة التي تفترض أن ما هو حقيقي يجب أن يكون عقلانيًا بالضرورة. وقد عرَّف ليبينز (1646 – 1716)، قبل قرن من شوبنهاور، مبدأ هذا الافتراض (مبدأ العلة الكافية) في كتابه (علم الوحد – Monadology) الصادر في عام (1714) والذي عرَّفه بأنه: إذا افتقرت مجموعة من الحقائق أو الوقائع لعلة كافيةٍ لتكون كذلك، لماذا إذن تعرَّف على أنها حقائق؟ ولماذا لا تكون شيئًا آخر؟

على الرغم من أن مبدأ العلة الكافية قد يبدو بديهيًا، إلا أنه يقود إلى نتائج صادمة. على سبيل المثال، يمكننا أن نستخدم مبدأ العلة الكافية لنناقش فكرة أنه من المستحيل أن يكون هناك شخصان متطابقان تمامًا؛ لأنه لا توجد علة كافية تبرر وجود أحد الأشخاص في مكانٍ ما، بينما يوجد الشخص الآخر في مكانٍ مختلف. كما يدعم مبدأ العلة الكافية أيضًا الحجة القائلة بأن العالم المادي لم يخلَق في أي وقتٍ معين، نظرًا لأنه لا توجد علة كافية لخلق العالم في توقيتٍ ما بدلًا من توقيت آخر، حيث إنَّ جميع التوقيتات الزمنية متساوية نوعيًّا.

علاوةً على ذلك، إذا افترضنا أن نطاق تطبيق مبدأ العلة الكافية ليس له حدود، إذن ستكون هناك إجابة محددة على سؤال “لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟”، فقد كان آرثر شوبنهاور حريصًا على البحث عن امتداد مبدأ العلة الكافية فيما يخص الكون أيضًا، ويرجع ذلك أساسًا إلى دفاع شوبنهاور عن وجهة نظر كانط القائلة بأن العقلانية البشرية تفتقر إلى القدرة على الإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية، نظرًا لأن قدراتنا المحدودة، والمؤسِّسة لنطاق خبراتنا الحسية، تحدُّ من معرفتنا أيضًا.

أشار آرثر شوبنهاور، كشرط أوليٍّ لتوظيف مبدأ العلة الكافية، إلى أنه يجب علينا أن نفكر في شيءٍ واحد يحتاج إلى تفسير، حيث قاده هذا الشرط إلى أنه بالنظر إلى موقفنا الإبستمولوجي يجب علينا افتراض وجود “ذات” تفكر في “موضوع” يحتاج إلى تفسير. وقد خَلُص من خلال ذلك إلى أن الجذر العام لمبدأ العلة الكافية هو التفريق بين الذات والموضوع، والذي يجب افتراضه مسبقًا كشرط لعملية البحث عن تفسيرات (الجذر الرباعي، الفصل 16) وكشرط للمعرفة بشكلٍ عام.

يرجع ادِّعاء آرثر شوبنهاور بأن التمييز بين الذات والموضوع هو الشرط الأساسي للمعرفة البشرية إلى مصدرٍ نظريٍّ، وتحديدًا كتاب (نقد العقل المحض)، حيث إنَّ كانط أسس نظريته المعرفية الخاصة على شكل شديد التجريد والعمومية من التمييز بين الذات والموضوع. فقد وصف كانط الذات بأنه وحدة الإدراك الترنسندنتالية (المتعالية) الخالية من المحتوى، بينما وصف الموضوع بأنه الجوهر الترنسندنتالي (المتعالي) الخالي من المحتوى والذي يتَّفق مع مفهوم الجوهر بشكلٍ عام (نقد العقل المحض A  109). وبهذا يكون الجذر العام لمبدأ العلة الكافية، كما وصفه شوبنهاور، هو الأساس الإبستمولوجي (المعرفي) لكانط أيضًا.

ورجوعًا للمفاهيم الإبستمولوجية (المعرفية) المُتَّفَق عليها في عصر آرثر شوبنهاور، والتي يعود أصلها إلى فلسفة رينيه ديكارت (1596 – 1650) التي بحثت عن المعرفة اليقينية (انظر: منهج الشك الديكارتي، والكوجيتو الديكارتي)، أكَّد شوبنهاور أنه إذا كان لأي تفسير أن يكون حقيقيًا، فلا يجوز الاعتقادُ بأن أي تفسير قد جاء عن طريق الصدفة، بل بالأحرى يجب اعتباره ضروريًا. وبالتالي، يمكن وصف بحث شوبنهاور في مبدأ العلة الكافية بأنه بحث في طبائع أنواع مختلفة من العلاقات الضرورية التي يمكن أن تنشأ بين أنواع مختلفة من الموضوعات.

 حدد آرثر شوبنهاور أربعة أنواع من العلاقات الضرورية التي تنشأ في نطاق البحث عن تفسيرات، مستوحيًا الفكرة من نظرية أرسطو في العلل الأربعة (الفيزياء، الكتاب الثاني، فصل 3)، وفي المقابل، حدد أربعة أنواع منفصلة من الموضوعات التي يمكن استنتاجها في ضوء التفسيرات التي يمكن تقديمها.

  1. الأشياء المادية.
  2. المفاهيم المجردة.
  3. البُنى الرياضية والهندسية.
  4. الدوافع المُحفِّزة نفسيًّا.

وبالتوازي مع تلك الأنواع الأربع من الموضوعات، ربط آرثر شوبنهاور بينها وبين أربعة أساليب مختلفة من التفكير، حيث ربط الأشياء المادية بالتفكير من حيث السبب والنتيجة، والمفاهيم المجردة بالتفكير على أساس القواعد المنطقية، والبُنى الرياضية والهندسية بالتفكير المبني على إدراك الأرقام والفراغات، والدوافع المُحفِّزة نفسيًّا بالتفكير القصدي، أو ما يطلق عليه أيضًا التفكير الأخلاقي.

وإجمالًا، فقد عرَّف آرثر شوبنهاور الجذر العام لمبدأ العلة الكافية بأنه التمييز بين الذات والموضوع والمرتبط بفكرة العلاقات الضرورية، وعرَّف الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية بأنه يتكوَّن من أربعة أنواع مختلفة من الموضوعات التي تقودنا للبحث عن تفسيرات، بالاقتران مع الأنماط الأربعة المنفصلة للعلاقات الضرورية والتي يمكن من خلالها الوصول لتلك التفسيرات، والتي تعتمد على الأنواع المختلفة للموضوعات محل البحث.

تتمثل إحدى إشارات آرثر شوبنهاور الأكثر أهمية أن أنماط التفسير الأربعة المختلفة يمكنها فقط أن تعمل بشكلٍ متوازٍ، ولا يمكنها أن تمتزج مع بعضها البعض بشكلٍ متماسك؛ حيث إننا إذا اخترنا نمطًا معينًا من التفسير، فإننا نختار على الفور أنماط الموضوعات التي يمكننا أن نحتكم إليها، ولكن في المقابل، إذا اخترنا نمطًا معينًا من الموضوعات لتفسيرها، فنحن مجبرون على استخدام أسلوبِ التفكير المرتبط بهذا النمط من الموضوعات، وبذلك، ما يحدث هو تجاوز لعقلانية التفسير من أجل ربط نمط من التفسيرات بنمط آخر من الموضوعات.

        فعلى سبيل المثال، لا يمكن الانطلاق من نمط تفسير مقترن بالموضوعات المادية وعلاقات السبب والنتيجة المرتبطة بها، ثم نحاول الوصول لاستنتاج يتبلور من نمطٍ مختلف من الموضوعات، كالمفاهيم المجردة مثلًا. وبالمثل، لا يمكن الانطلاق من تعريفات مفاهيمية مجردة، ثم محاولة استخدام نمط التفكير المنطقي من أجل بلورة استنتاج يؤكد حجة مرتبطة بالأشياء الموجودة في الواقع.

وبناء على تلك القواعد الصارمة التي صاغها آرثر شوبنهاور بشأن أساليب التفسير المشروعة، قام شوبنهاور بمعارضة الحجج الكوزمولوجية (الكونية) والأنطولوجية (الوجودية) بشأن وجود الله، والتي كان يستشهَد بها كثيرًا، خاصة في عصره، وبالطبع، عارض جميع الفلسفات التي تستند إلى تلك الحجج. لقد كان شوبنهاور مصرًّا على أن النظرة المثالية الألمانية لفيخته وشيلينج وهيجل تنطوي على مغالطات تفسيرية من النوع الذي قام بتحديده، واعتبر تلك الفلسفات أنماطًا خاطئة من التفكير في جوهرها، وتحديدًا، بسبب اعتباره أن فلسفاتهم تنطوي على أشكالٍ من الحجج الأنطولوجية لوجود الله. وعلى الرغم من هجوم شوبنهاور على فيخته وشيلينج وهيجل، اعتُبِرَت إداناتُه المستمرة للمثالية الألمانية مستَنِدةً إلى أسبابٍ فلسفية وجيهة.

3. نقد آرثر شوبنهاور لكانط

يمكن أن يعرَّف شوبنهاور بصفته “فيلسوفًا كانطيًّا” على أساس الكثير من الاعتبارات، إلا أنه لم يتفق دائمًا مع حيثيات الحجج الكانطية. وكما هو معروف، فقد تتلمذ شوبنهاور على يد (جي. إيه شولز – G. E. Schulze) أثناء دراسته بجامعة جوتنجن، الذي كتب نصًا بعنوان (Aenesidemus – انيسيديموس) عام 1792 ينتقد فيه الفيلسوف الكانطي (كارل ليونارد رينهولد – K. L. Reinhold) (1757 – 1823). كان رينهولد مدافعًا عن كانط، وقد كان مشهورًا بفلسفته عن العناصر (Elementarphilosophie)، والتي ظهرت بجوار بعض كتابات رينهولد المبكرة في كتابه (أساس المعرفة الفلسفة – The Foundation of Philosophical Knowledge) (بالألمانية: Fundament des philosophischen Wissens) (1791).

لقد كان نقد شولز لكانط يتمحور بشكلٍ أساسي حول فكرة أنه لا يتسق افتراض ذات مستقلة عن العقل تتجاوز كل التجارب البشرية -كما افترض كانط في الأغلب- كقضية معرفية فلسفية، والتي تقوم بدور أساسي في تكوين خبراتنا الحسية. كان (جاكوبي – F. H. Jacobi) متفقًا مع نقد شولز لكانط، حيث عبَّر عن نفس الاعتراض في عمله “حوار عن المثالية والواقعية” وفي نسخة أخرى “ديفيد هيوم: عن الإيمان” (1787) والذي نشر في ملحق بعنوان “عن المثالية المتعالية”.

انطلق نقد شولز لكانط من خلال اعتباره أن كانط استخدم مفهوم السببية على نحوٍ غير منضبط من أجل الخلوص إلى ضرورات معرفية قوية، وليس مجرد قضايا عقلانية ترجيحية، حيث ذهب كانط إلى وجود ذات ما -أي الشيء في ذاته- تقع خارج حدود جميع خبرات البشر الممكنة، وعلى الرغم من ذلك فإنها السبب الكامن وراء أحاسيسنا.

اتفق آرثر شوبنهاور على أن اعتبار الشيء في ذاته سببًا كامنًا وراء أحاسيسنا يرقى إلى منزلة القضية الجوهرية، ويعد استخدامًا لمفهوم السببية خارج نطاقه المنطقي، لأن -وفقًا لكانط نفسه- مفهوم السببية يقود إلى المعرفة إذا استخدم في مجال الخبرات الممكنة فقط، وليس خارجه. لذلك أنكر شوبنهاور أن لأحاسيسنا سببًا خارجيًّا؛ بمعنى عدم إمكانية معرفة وجود شيء لا يمكن إدراكه إبستمولوجيًّا -أي الشيء في ذاته- والذي يوجد بشكل منفصل عن أحاسيسنا بينما تربطه بها علاقة سببية.

تلك الإشكاليات الذاتية الكامنة داخل الحجج التي طرحها كانط جعلت شوبنهاور يرجِّح أن إشارة كانط إلى الشيء في ذاته، كذات منفصلة عن العقل، أو كذات من أي نوعٍ كان، قد أُسيء فهمها. وفي المقابل أكَّد شوبنهاور أنه إذا أردنا الإشارة إلى الشيء في ذاته، فقبل ذلك علينا أن نصل إلى وعي يمكنه إدراكه، إذ ليس من الممكن أن نشير إلى الشيء في ذاته فقط من خلال استدعاء علاقة السببية، والتي يُفهم منطقيًا من خلالها أن السبب والنتيجة موضوعات أو وقائع منفصلة (لأن السببية الذاتية تتضمن نوعًا من التناقض)، لذلك فإن الإشارة إلى الشيء في ذاته يجب أن تكون من خلال وسائل مختلفة تمامًا.

وسنرى في الفصل التالي، كما هو موضح في عنوان العمل الرئيسي لشوبنهاور، العالم إرادة وتمثٌّلًا، أن شوبنهاور اعتقد أن العالم له مظهر مزدوج، ألا وهو الإرادة (Wille) والتمثُّل (Vorstellung)، ويمكن أيضًا ترجمة الكلمة الألمانية Vorstellung إلى تمثيل، أو استعراض، أو فكرة، أو صورة ذهنية.

عارض آرثر شوبنهاور فكرة أن الإرادة هي السبب وراء تصوُّراتنا، حيث كان موقفه أن الإرادة والتصوُّرات هما وجهان لعملة واحدة ولكن يُنظَر إليهما من مواقع مختلفة، إذ إنَّ العلاقة بينهما يمكن مقارنتها بالعلاقة بين القوة والطريقة التي تظهر من خلالها (على سبيل المثال: العلاقة بين الكهرباء والشرارة الكهربائية، تحديدًا حينما “تمثِّل” الشرارة الكهربائية الطاقة الكهربائية)، وهذا يتعارض مع القول بأن الشيء في ذاته هو السبب وراء أحاسيسنا بالطريقة التي تشبه اصطدام قطعة دومينو بالأخرى. فقد ذهب شوبنهاور إلى أن العلاقة بين الشيء في ذاته وخبراتنا الحسية يشبه إلى حد كبير العلاقة بين وجهي العملة، حيث لا يكون أي منهما هو علة الآخر، بل يشترك الوجهان في العملة ذاتها.

ومن بين الانتقادات الأخرى التي وجهها شوبنهاور لكانط (انظر ملحق المجلد الأول من العالم إرادة وتمثُّلًا، بعنوان: نقد الفلسفة الكانطية) تأكيده على أن المستويات الاثنتي عشرة للفهم البشري التي حددها كانط -وهي المستويات المختلفة التي من خلالها ينظَّم مجال خبراتنا الحسية منطقيًّا في صورة موضوعات مستقلة ومتسقة وقابلة للفهم- يمكن اختزالها إلى مستوى واحد من السببية، حيث يكون ذلك المستوى بالتوازي مع صيغ الزمان والمكان كافيًا لتفسير التكوين الأساسي لجميع التجارب البشرية، أي الموضوعات المستقلة الموجودة في إطار الزمان والمكان والتي يربطهم ببعضهم البعض علاقات سببية.

عرَّف آرثر شوبنهاور تلك المبادئ الثلاثة، والذي يرى أنهم مترابطون، باعتبارهم تعبيرات مختلفة عن مبدأ واحد، ألا وهو مبدأ العلة الكافية، والذي فنَّده في أطروحة الدكتوراة خاصته. وفي كتابه العالم إرادة وتمثُّلًا، أشار شوبنهاور في العديد من المرات إلى أحد أوجه العلة الكافية، وهو مبدأ التفرُّد (principium individuationis)، حيث يربط فكرة التفرُّد بالزمان والمكان صراحةً، بالإضافة إلى ربطها ضمنيًّا أيضًا بالعقلانية، والضرورة، والمنهجية، والحتمية.

استخدم آرثر شوبنهاور مبدأ العلة الكافية ومبدأ التفرُّد كتعبيرات موجزة لما أشار إليه كانط واستفاض في شرحه بشكل أكثر تعقيدًا، بصفته الزمان والمكان والمستويات الاثنتي عشرة للفهم، وهم: (الوحدة، والكثرة، والكُلِّية، والإيجاب، والنفي، والحصر، والذاتية، والسببية، والمشاركة التبادلية، والاحتمالية، والواقعية (Dasein)، والضرورة).

4. العالم كإرادة

تعد الفكرة القائلة إنَّه إذا فحص الإنسان ذاتَه بعمق، فلن يتعرف فقط على جوهر ذاته، بل سيتعرف أيضًا على جوهر الكون، واحدة من المبادئ التي تُمثِّل الانعكاسات الفلسفية التي لطالما كانت حاضرة، حيث إنَّ الإنسان هو جزء من الكون بطبيعة الحال مثله مثل جميع الموجودات، لهذا فإن الطاقات الأساسية للكون تتدفق عبر الإنسان نفسه، كما تتدفق أيضًا عبر جميع الموجودات الأخرى. ومن خلال هذا السبب جاءت الفكرة بأن الإنسان يمكنه أن يتصل بطبيعة الكون إن كان على صلة جوهرية بكينونته الداخلية المطلقة.

يأتي من بين المبادئ التي يتم الإشارة إليها بشكل متكرر -وعادة ما تطرح بشكل استبطاني- مبدأ الوعي بالذات، ذلك المبدأ الذي كان معيارًا للعديد من الفلاسفة المثاليين الألمان مثل فيخته وشيلينج وهيجل، والذين كانوا يمارسون الفلسفة داخل إطار التقليد الديكارتي. ومن خلال الاعتقاد بأن الوعي بالذات يمثل عملية إبداعية ذاتية شبيهة بالخلق الإلهي، ويطور منطقًا يعكس بنية الوعي بالذات، أي المنطق الديالكتيكي للقضية والنقيض والمركب بينهما (ويعرَّف أحيانًا بمنطق الأطروحة ونقيضها والتوليف بينهما)، أكد المثاليون الألمان أن المنطق الديالكتيكي لا يعكس فقط بنية الإنتاج البشري، إن كان فرديًّا أو جماعيًّا، بل يعكس هيكل الواقع بالكامل، حيث يرى على أنه بنية منظمة مفاهيميًّا إلى الحد الذي يصل به ليكون الخلاصة النهائية للأفكار.

عارض آرثر شوبنهاور الفلاسفة المثاليين الألمان التقليديين من حيث التعالي الميتافيزيقي لمبدأ الوعي بالذات (الذي اعتبروه فكريًّا خالصًا)، إذ إنَّ شوبنهاور نقَّب في عمق هذا التقليد نظرًا لاعتقاده بأن الجوهر الأسمى للكون يمكن الوصول إليه من خلال الاستبطان، وأنه يمكن فهم العالم بوصفه تمثُّلات مختلفة لهذا الجوهر الأسمى. وقد رأى شوبنهاور أن هذا الجوهر ليس مبدأ الوعي بالذات ولا أيضًا الإرادة الموجَّهة عقلانيًّا، ولكنه ببساطة ما أطلق عليه “الإرادة”، وهو محرِّك طائش، وبلا هدف، وغير عقلاني، ومصدره في الأساس دوافعنا الغريزية، ويمثِّل التكوين التأسيسي لكل شيء. ولا تكمن أصالة شوبنهاور في توصيفه للعالم على أنه إرادة، أو فعل، لأنَّ ذلك الموقف يوجد أيضًا في فلسفة فيخته، ولكن تكمن أصالة وأهمية شوبنهاور في اعتباره أن الإرادة -كمفهوم- غير عقلانية ولا تتضمن أي شكل من الفكر.

بعد أن رفض آرثر شوبنهاور الموقف الكانطي القائل بأن خبراتنا الحسية ناتجة عن كينونة لا تخضع لمعارفنا وموجودة بشكل مستقل عنَّا، أشار بقوة إلى أن جسدنا -بوصفه أحد الأشياء الموجودة في العالم- يدرِك من خلال طريقتين مختلفتين: فنحن ندرك جسدنا ككيان مادي من بين الكيانات المادية الأخرى، كيان يخضع للقوانين الطبيعية التي تحكم حركة جميع الكيانات المادية، كما أننا ندرك أجسادنا أيضًا من خلال وعينا المباشر، حيث إن وعينا يوجد أصلًا كجزء من أجسادنا، ويحرِّكنا عن قصد، ونشعر مباشرة من خلاله بالملذات والآلام والعواطف. فنحن بإمكاننا أن ندرك أيدينا كمكوِّن مادي خارجي، كما يدركها الجراح أثناء إجراء عملية جراحية، وأيضًا يمكننا إدراك أيدينا كمُكوِّن نوجد من خلاله، كمُكوِّن نحرِّكه عن عمد، وكمُكوِّن نشعر بحركة العضلات داخله.

أكَّد آرثر شوبنهاور، من خلال تلك الإشارة أن من بين جميع الأشياء المادية الموجودة في الكون، يوجد شيء واحد فقط يُدركه الوعي بطريقتين مختلفتين تمامًا، وهو الجسد المادي. حيث يدرَك بوصفه تمثُّلًا (أي بشكل موضوعي، خارجيًا) ويدرَك أيضًا بوصفه إرادة (أي بشكل ذاتي، داخليًا). وقد استنتج شوبنهاور من خلال تلك الإشارة أن حركة اليد، مثلًا، لا ينبغي أن تفهم على أنها فعل تحفيزي يحدث أولًا ثم ينتُج عنه حركة اليد كرد فعل، إذ إنَّ شوبنهاور يؤكد أن حركة اليد ليست سوى فعل واحد فقط. أو كما ذكرنا سابقًا، تشبه حركة اليد وجهي العملة، حيث يكون شعور الرغبة الذاتية أحد وجهي العملة، وحركة اليد الفعلية الوجه الآخر للعملة. وبشكل عام، يقول شوبنهاور إن سلوك الجسد ليس سوى فعل الإرادة في صورته الموضوعية، حيث يكون مترجمًا بوصفه إدراكًا.

أثبت آرثر شوبنهاور في هذا المستوى من أطروحته أنه من بين الكثير والكثير من الأفكار، أو التمثيلات، يوجد تمثُّل واحد فقط لديه هذه الخاصية المزدوجة، وهو التمثُّل الخاص بالجسد. فعندما يدرِك الوعي، على سبيل المثال، القمر، أو جبلًا ما، فإنه لا يتوفَّر له في الظروف العادية صلة مباشرة بالجوهر الميتافيزيقي لمثل تلك الأشياء، حيث يظلوا كتمثيلات تظهر فقط جانبهم الموضوعي. وعلى الرغم من ذلك، تساءل شوبنهاور عن كيفية فهم العالم ككلٍّ متحد، أو بالأحرى، عن كيفية جعل مجال الإدراك بالكامل قابلًا للفهم بشكل أكبر، لأن الأشياء كما تبدو، يمكن للوعي أن يدرك جانب واحد فقط من تمثيلاتها بشكل مباشر، لكنه لا يستطيع أن يدرك الجوانب الأخرى.

ولحل ذلك اللغز استخدم آرثر شوبنهاور الإدراك المزدوج للجسد كمفتاح للكينونة الداخلية لجميع الظواهر الطبيعية، حيث اعتبر أن جميع الموجودات في العالم بما أنها تتضمن طبيعتين ميتافيزيقيتين، وبما أن لها بُعد داخلي كامن خاص بها، فهي تشبه تمامًا الوعي بصفته بعدًا داخليًّا للجسد. وقد كانت تلك الفكرة هي الأساس المنطقي لمعارضة التفاعلات السببية الديكارتية، والتي ذهبت إلى أن التفكير كجوهر يؤثِّر في الأشياء المادية المنفصلة، والعكس صحيح.

لقد دفع ذلك إلى ظهور موقف يميِّز البعد الداخلي للأشياء، والذي يمكن أن نصفه بأنه الإرادة؛ وبناءً عليه، رأى شوبنهاور أن العالم ككل ينطوي على جانبين: العالم بوصفه إرادة، والعالم بوصفه تمثُّلًا. حيث يكون العالم بوصفه إرادة (أو “العالم بالنسبة لنا” كما يصفه شوبنهاور أحيانًا) هو العالم في ذاته، وهو وحدة متماسكة، بينما العالم بوصفه تمثُّلًا هو عالم التمظهرات، أو عالم الأفكار، أو عالم الموضوعات، والتي تتنوَّع بالضرورة.

وربما لو أردنا اختيار عنوان بديل لعمل شوبنهاور الرئيسي، العالم إرادة تمثُّلًا، يمكن أن يكون “العالم كواقع ومظهر”، أو ربما أيضًا “الطبيعة الداخلية والخارجية للواقع”.

كان جورج بيركلي (1685 – 1753) هو مصدر إلهام آرثر شوبنهاور الذي طوَّر من خلاله فكرة أن الأفكار تشبه الموضوعات غير الفعَّالة أو الخاملة، حيث وصف بيركلي الأفكار بهذا الوصف القاسي في أطروحته المعنونة بـ “حول مبادئ المعرفة البشرية”)الفصل 25) (1710). بينما كان مصدر الإلهام الأساسي لشوبنهاور في فكرته حول الطبيعة المزدوجة للكون هو باروخ بينديكت دي سبينوزا (1632 – 1677)، والذي طوَّر ميتافيزيقا مشابهة بنيويًّا، حيث درسه شوبنهاور بعمق في سنواته الأولى قبل كتابة أطروحته. ولاحقًا، كان هناك مصدر إلهام آخر، ولكن قلما يشار إليه، وهو الأبانيشاد (600 – 900 قبل الميلاد، تقريبًا)، والذي جاء فيه أيضًا أن للكون طبيعة مزدوجة، إذ إنَّ له أبعادًا موضوعية وأخرى ذاتية يشار إليها على التوالي بأسماء (براهمان) و(أتمان).

تعرَّف آرثر شوبنهاور على الفكر الهندي الكلاسيكي بعد بضعة أشهر فقط من إتمامه كتابة أطروحة الدكتوراة في أواخر عام 1813 على يد المستشرق فريدريش ماجر (1771 – 1818)، والذي كان يتردد على الصالون الثقافي لوالدة شوبنهاور السيدة يوهانا، بمدينة فايمار. وربما يكون قد التقى شوبنهاور في هذه الفترة أيضًا بيولويس كلابروث محرر المجلة الآسيوية (Das Asiatische Magazin)، فقد أشارت السجلات المكتبية لشوبنهاور إلى أنه بدأ في قراءة البهاجافاد جيتا (Bhagavadgita) في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1813 أو بعد ذلك بوقت قصير جدًّا، والأبانيشاد (Upanishads) في مارس/ آذار من عام 1814.

وتعد تلك الفترة تحديدًا هي التي بلوَر شوبنهاور خلالها موقفًا إلحاديًّا صريحًا، حيث إنه قبل عام واحد فقط كان يعرِّف نفسه في دفاتر ملاحظاته صراحةً بأنه “مؤمن متنوِّر”، أي صوفي، وتحديدًا في ملاحظاته التي تناولت فلسفة شيلينج (مخطوطة البقايا، المجلد الثاني، صفحة 373).

زاد تقدير آرثر شوبنهاور للفكر الهندي أثناء كتابته لعمله الأشهر، العالم إرادة وتمثُّلًا، بمدينة دريسدن، من خلال معرفته بكارل فريدريش كريستيان كراوس الذي كان يقطن بجوار منزل شوبنهاور (من 1815 – حتى 1817). لم يكن كراوس مجرد ميتافيزيقي حلولي (انظر فقرة “السيرة الذاتية” أعلاه)، بل كان أيضًا مولعًا بالفكر الآسيوي الجنوبي. كان كراوس مطَّلِعًا على اللغة السنسكريتية، وقد فتح الباب أمام شوبنهاور ليتعرَّف على الثقافة الهندية من خلال المنشورات التي كانت تقدِّمها (المجلة الآسيوية – Das Asiatisches Magazin)، حيث ساعد ذلك شوبنهاور على دراسة أول ترجمة بلغة أوروبية للأبانيشاد، والتي ترجمها للغة اللاتينية المستشرق الفرنسي أبراهام هياسينت أنكيتيل دوبيرن (1731 – 1805) عام 1801، والذي قدَّم إلى أوروبا أيضًا ترجمات للنصوص الزرادشتية عام 1771.

على الرغم من أن نظرية المظهر المزدوج للعالم ليست بجديدة على الأوساط الفلسفية، إلا أن التوصيف الخاص لشوبنهاور أن الإرادة هي جوهر العالم يعدُّ جديدًا وثوريًّا، وربما أيضًا مخيفًا وكارثيًا، حيث أكَّد شوبنهاور أن العالم في ذاته (أو “بالنسبة لنا” كما يوضِّح شوبنهاور أحيانًا) هو نضال لا نهاية له، واندفاع أعمى، ولا ينطوي على أي شكل من المعرفة، وخارج عن أي قوانين، حيث إنه يحدد مصائرنا وأقدارنا بمنتهى العشوائية. وفي نطاق نظرة شوبنهاور أن الإرادة هي جوهر العالم، يعتقد شوبنهاور أنه ليس هنالك إله يمكن إدراكُه أو وصفه، وأن العالم في جوهره لا ينطوي على أي معنى. فعند النظر إلى العالم من خلال أبعاده المختلفة، يظهر في ثوب من الإحباط والإنهاك الأبدي، إذ إن العالم يناضل في سبيل شيء غير محدد وغير معروف، كما أنه لا يتجه إلى أية غاية جوهرية، حيث يصبح عالمًا متجاوزًا لأي قيمة مرتبطة بالخير والشر.

يختلف إنكار آرثر شوبنهاور لوجود معنى للعالم اختلافًا جذريًّا عن آراء فيخته وشيلينج وهيجل، والذين كان لديهم اعتقاد راسخ بأن العالم يتحرَّك نحو نهاية متناغمة ومنصفة. وعلى الرغم من ذلك يحاول شوبنهاور، على خطى هؤلاء الفلاسفة المثاليين الألمان، أن يوضِّح كيف أن العالم الذي نختبره بشكلٍ يومي هو نتيجة لتأثير الجوهر الأساسي للأشياء. فكما حاول الفلاسفة المثاليين الألمان تفسير التسلسل العظيم للموجودات -الصخور، ثم النباتات، ثم الحيوانات، ثم البشر- باعتبارها تمثُّلات مُحددة ومعقدة يدركها الوعي على نحو تصاعدي، حاول شوبنهاور أيضًا القيام بالشيء نفسه من خلال تفسيره للعالم باعتباره تجسيدًا للإرادة.

بالنسبة إلى شوبنهاور، يتشكَّل العالم الذي نختبره من خلال تمثُّلات الإرادة التي تتوافق أولًا مع الجذر العام لمبدأ العلة الكافية، وثانيًا، وعلى نحو أكثر خصوصية، مع الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية. وينتُج عن هذا التشكُّل، أولًا، نظرة للعالم من مستويين (أي: الإرادة = الواقع، مقابل: الموضوعات بشكل عام = التمثُّل)، والتي يتم التعبير عنها من خلال نظرة من ثلاث مستويات (أي: الإرادة = الواقع، مقابل: الكليات غير المكانية والزمانية، والجزئيات المكانية والزمانية)، حيث يحدث ذلك عن طريق التمييز الدقيق بين مستويات الكليات والجزئيات في نطاق مجال الموضوعات.

إن النموذج الفلسفي العام الذي يذهب إلى أن العالم له جوهر واحد، يظهر في البداية على أنه متعدد الجواهر المجردة، والتي تظهر بدورها على أنها متعددة الجزئيات المادية الحاضرة في جميع أرجاء العالم. حيث إن هذا النموذج يعَدُّ ميراثًا للمدرسة الأفلاطونية الحديثة (القرن الثالث الميلادي) والتي أسسها (أفلوطين – Plotinus) (204 – 270)، كما أنه مستوحى أيضًا من عقيدة الأجسام الثلاثة البوذية (تريكايا – Trikaya)، التي تعبِّر عن التمظهرات الثلاثة لـ بوذا، والتي تطورت في مدرسة )يوجاكارا – Yogacara) (أي: ممارسة اليوجا) التابعة لمذهب (الماهايانا – Mahayana) البوذي، والذي أسسه (مايتريا – Maitreya) (270 – 350)، و(أسانجا – Asanga) (375 – 430)، و(فاسوباندو – Vasubandu) (400 – 480).

وفقًا لشوبنهاور، فإن الإرادة تتجسد على الفور في صورة مجموعة من الكُلِّيَّات أو الأفكار المثالية بمجرد ما أن تصل إلى الحد الذي يسمح لها بالتوافق مع مستوى التمييز الأساسي بين الذات والموضوع، ونتيجة لهذا تتشكل القوالب غير الزمانية لكل الجزئيات التي نختبرها في نطاق الزمان والمكان. وعلى الرغم من تنوع الأفكار المثالية وهو ما يوحي بوجود قدر من التمايز في هذا النطاق، إلا أن هذا غير حقيقي، حيث إنَّ كل فكرة على حدة لا تحوي قدرًا كافيًا من التمايز الحقيقي، إذ إن جميعهم يشتركون في تعريف واحد، وبما أن الأفكار المثالية تقع خارج نطاق الزمان والمكان، فإنها تفتقر إلى التمايزات التي قد تظهر عليها نتيجةً لتغيير المحددات الزمانية والمكانية.

وفي إطار ذلك النطاق فإن الأفكار المثالية تكون منفصلة عن الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية، على الرغم من أنه سيكون من عدم الدقة الإقرار بغياب أي نوع من التمايز على الإطلاق بين الأفكار المثالية في هذا المستوى الكُلِّيِّ، إذ إنَّ هناك العديد من الأفكار المثالية المختلفة التي تميَّزت عن بعضها البعض، حيث يشير شوبنهاور إلى الأفكار المثالية باعتبارها التجسُّد المباشر للإرادة.

تبدأ تجسيدات الإرادة غير المباشرة في الظهور عندما تبدأ عقولنا في تطبيق مبدأ العلة الكافية خارج نطاق جذره العام؛ أي عندما يأخذ العقل معطيات الزمان والمكان والسببية في الحسبان دون إدراج المنطق والرياضيات والهندسة والتفكير الأخلاقي. فعندما تتجسد الإرادة في هذا المستوى من التحديد، تظهر الحياة اليومية، والتي تكون، في الواقع، تمظهرات متعددة شديدة الحيوية والتوهج من الأفكار المثالية، ومنتشرة إلى ما لا نهاية في أرجاء الزمان والمكان.

وبما أن مبدأ العلة الكافية -كما استلهم آرثر شوبنهاور من كانط- هو النموذج المعرفي للعقل البشري، فإن العالم المكاني-الزماني هو العالم الذي تنعكس فيه معارفنا، وعند هذه النقطة يشبِّه شوبنهاور الحياة بالحلم. حيث يعتقد شوبنهاور أن القوانين الطبيعية بالإضافة إلى خبراتنا في الحياة، تجعلنا نخلَق على نحو لا يختلف كثيرًا عن الطريقة التي تتعرف فيها ألسنتنا على طعم السكر مثلًا. تمامًا كما ذكر جاليليو جاليلي (1564 – 1642) في كتابه (الفاتح – The Assayer) (1623): إذا اختفت الآذان والألسنة والأنوف من العالم، فسوف تختفي بالضرورة الأصوات والأطعمة والروائح كذلك.

وعند هذه المرحلة فنحن نجد ما قام شوبنهاور بتطويره على المستوى الفلسفي مثيرًا للاهتمام بالتأكيد، لكننا لم نذكر بعد إسهامه الأكثر تميُّزًا والذي لا يمكن تجاهله، حيث إننا إذا قمنا بدمج ادعاء شوبنهاور بأن العالم هو الإرادة ونظرته الكانطية بأننا مسؤولون عن عالم التمثُّلات الفردي، فإن ذلك يقودنا إلى فكرة جديدة كلياً، فكرة تستند بشكل كبير على توصيف شوبنهاور للشيء في ذاته على أنه الإرادة، فيظهر حينها على أنه نضال أعمى خالٍ من أي غاية.

فقبل أن يدخُل مبدأ العلة الكافية (أو مبدأ التجزئة) إلى المشهد بواسطة العقل البشري، لم يكن هناك جزئيات، حيث إن الكائن البشري خلال محاولاته من أجل معرفة أي شيء يحدد لنفسه تمثُّلًا يتضمَّن تجزئة للإرادة لتتحول إلى مجموعة مفهومة من الجزئيات.

ومن خلال هذا التشرذم للإرادة، وبالنظر إلى طبيعة الإرادة، نصل إلى استنتاج مفزع: وهو أن العالم ليس إلا صراع مستمر، حيث يحارب كل شيء على حدة ضد الأشياء الأخرى، حيث تكون النتيجة هي “حرب الجميع ضد الجميع”، كما وصف توماس هوبز (1588 – 1679) حالة الطبيعة.

أكد كانط في كتابه نقد العقل المحض أننا نصنع قوانين الطبيعة (نقد العقل المحض، A125)، وأضاف شوبنهاور في كتابه العالم إرادة وتمثُّلًا أننا نصنع الحالة العنيفة للطبيعة، حيث اعتبر شوبنهاور أن تجزئتنا للأشياء تتحول إلى طاقة نضال عمياء، فبمجرد ما أن تكتسب الطبيعة الجزئية والمُتمثّلة -من التمثُّل- تنقلب على ذاتها وتستهلك نفسها وتدمر نفسها. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى نملة البولدوج الأسترالية كمثال نموذجي، والتي عندما ينفصل جسدها إلى نصفين، تدخل في معركة مميتة بين رأسها وذيلها. فسعينا المستمر وراء المعرفة العلمية والعملية يخلق عالمًا يفترس نفسه بشكل مرعب، وهو ما رآه شوبنهاور خطيئة كبيرة مثيرة للاشمئزاز.

يقودنا ذلك إلى منبع تشاؤم آرثر شوبنهاور الذي لطالما عرف عنه، فهو يرى أننا كأفراد لا نعد أكثر من إنتاجات بائسة من صنع آلياتنا المعرفية، حيث يكون مقدَّرٌ لنا في عالم التمثُّلات الذي نصنعه أن نقاتل ضد أفراد آخرين، والسعي وراء مزيدٍ لن ندركه أبدًا. فمن وجهة نظر شوبنهاور، عالم الحياة اليومية هو عالم عنيف ومحبط أساسًا، وما دام وعينا متوقفًا عند المستوى الذي يبقى فيه مبدأ العلة الكافية في صورة جذره الرباعي، فلن نصل أبدًا إلى حلول، ولن ندرك الهدوء الذي نسعى إليه.

أعلن شوبنهاور صراحةً أن “الحياة اليومية هي معاناة” (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 56)، وللتعبير عن ذلك استخدم أشكالًا من التعاسة مأخوذة من الأساطير اليونانية الكلاسيكية، مثل أسطورة تانتالوس ودانايدس، وأسطورة معاناة إيكيسون على عجلة النار التي لا تتوقف عن الدوران، وبالطبع أسطورة سيزيف التي عبَّرت عن النفس التعيسة والمحبطة بالصورة التي أرادها شوبنهاور.

5. التعالي على محددات الصراع البشرية

1.5 الإدراك الجمالي بوصفه متعاليًا

دفعت نظرة آرثر شوبنهاور للحياة اليومية التي يراها على أنها مليئة بالعنف والوحشية إلى سعيه نحو السلام، حيث انطلق في بحثه من خلال تتبع المسار الذي تسلكه الإرادة لتصبح تجسدًا. فقد اكتشف حالات يصبح فيها الذهن أكثر استقرارًا وهدوءً من خلال توجيه الإدراك اليومي -بشكل عملي- نحو حالات ذهنية غير اعتيادية تتجه أكثر تجاه الكليات وتتجنب الجزئيات الفردية، حيث اعتقد شوبنهاور أن العنف الذي يتعرض له الإنسان يتناسب مع درجة وعيه بالجزئيات والتمثُّلات. ويمكن أن نلخص وجهة نظر شوبنهاور في اعتقاده بأن مع وجود قدر أقل من التجزئة والتمثُّل، ينتج قدر أقل من الصراعات والآلام، وفي المقابل المزيد من الاستقرار والهدوء.

يوجد سبيل واحد يقودنا نحو تحقيق حالة أكثر هدوءً للوعي، وهو من خلال الإدراك الجمالي، فذلك السبيل يعد حالة خاصة من الوعي الإدراكي، حيث يدرك العقل الموضوعات في نطاق الزمان والمكان، ويستخلص من خلال تمييزه لتلك الموضوعات جوهر الموضوع، أو النموذج الأصلي، أو “الفكرة المثالية” التي تتطابق مع نوع الموضوع محل الإدراك.

وفي هذا النموذج من الإدراك ينسى الإنسان فرديته حيث يصبح المرآة التي تعكس الموضوعات بوضوح. فعلى سبيل المثال، عندما ندرك شجرة تفاح بشكلٍ فردي، فإننا نلاحظ نوعًا من التوهُّج من خلال إدراكنا لتلك الشجرة، ذلك التوهج هو النموذج الأصلي لجميع أشجار التفاح (ظاهرة أور “Ur-phenomenon” كما يصفها جوته)، والذي يصبح نوع من الاحتفاء بجميع أشجار التفاح التي كانت موجودة يومًا، أو التي ستكون موجودة في المستقبل. ويمكن أن نشبِّه أيضًا هذا النموذج من الإدراك، على سبيل المثال، برسام البورتريه التقليدي الذي يميز التفاصيل التي قصدت الطبيعة أن تدركَ في الوجه، لكن ذلك لم يتحقق على نحو مثالي، فيبدأ الرسام بإزالة التفاصيل العرَضية كالشعيرات الصغيرة والحبوب والتجاعيد وما إلى ذلك، لتقديم وجه أكثر مثالية وملائكية، كما نرى في بورتريهات حفلات الزفاف أو الأيقونات الدينية على سبيل المثال.

ونظرًا لكون آرثر شوبنهاور يفترض أن طبيعة موضوع التجربة الجمالية يجب أن يتوافق مع طبيعة التجربة الجمالية ذاتها، فإنه يستنتج أنَّ في حالة الإدراك الجمالي، حيث تكون الموضوعات كليَّة، يجب أن تكتسب التجربة الجمالية أيضًا صفة كلِّيَّة (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 33). وهكذا تتحوَّل حالة الوعي الموجَّهة بشكل جزئي إلى حالة وعي ذات توجُّه كلِّيٍّ، أو ما يطلق عليه شوبنهاور “موضوع للمعرفة خالٍ من الإرادة ولا ينطوي على ألم ومتجاوز للزمن” (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 34).

من المُفتَرَض أن عددًا قليلًا من الناس لديه القدرة على البقاء في مثل هذه الحالة الذهنية الجمالية لفترة طويلة، حيث إنَّ معظم الناس لا يمتلكون القدرة على الوصول للهدوء والاستقرار الذي يسببه الإدراك الجمالي. فقط العبقري ذو العقلية الجمالية هو الذي يتجه بشكل فطري نحو الإدراك الجمالي ويظل لفترة طويلة في حالة الوعي النقي تلك، ويعتقد شوبنهاور أنه نتيجة لتقديرنا لأعمال هؤلاء العباقرة، تتحتَّم علينا محاولة الوصول لدرجة من التركيز تسمح لنا بالولوج للمعرفة التي تعطينا لمحات خاطفة من الأفكار المثالية (أي جوهر الأشياء)؛ إذ إنَّ العبقرية الجمالية تستبصر تلك الأفكار وتخلق من خلالها عملًا فنيًّا يقدِّم الأفكار المثالية بطريقة أكثر وضوحًا يمكن إدراكها على نحو أبسط من المعتادـ وبالتالي فإنها تقوم بإيصال الرؤية الكُلِّية لأولئك الذين لا يمتلكون القدرة الفكرية للارتقاء على العالم المادي للموضوعات الخاضعة للزمان والمكان.

يوضح آرثر شوبنهاور أن الهدف الأسمى للفن هو إيصال الأفكار المثالية (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 50)، وفي سبيل سعي شوبنهاور لتقديم الفن على نحو مؤسسي، أخذ يبحَثُ في الفنون الجميلة التقليدية الخمسة، وهي الموسيقى والعمارة والنحت والرسم والشعر. وباستثناء الموسيقى، فإن تلك الفنون الأربعة هي التي تدرَك من خلال علاقتها بالأفكار المثالية، أي من خلال الموضوعات الكُلية للإدراك الجمالي التي تقع في القطب الموضوعي للتمييز بين الذات والموضوع، والمرتبط بجذر مبدأ العلة الكافية.

وقد ربط آرثر شوبنهاور بين الفنون المرئية والأدبية وبين العالم كتمثُّل، حيث تكون تجسُّدًا فوريًّا، أي عندما تدخل في نطاق الأفكار المثالية كنقيض لنطاق الموضوعات الزمانية والمكانية.

وكمقابل لتفسير شوبنهاور للفنون المرئية والأدبية، طوَّر شوبنهاور تفسيرًا للموسيقى يجعلها تتوافق مع القطب الذاتي للتمييز بين الذات والموضوع. وبمعزل عن الفنون التقليدية الأخرى يؤكد شوبنهاور أن الموسيقى هي أكثر الفنون ميتافيزيقيةً، حيث إنها من خلال منظور ذاتي تظهر على نحوٍ متوازٍ مع الأفكار المثالية نفسها. فمثلما تنطوي الأفكار المثالية على نماذج لأنواع الموضوعات الموجودة في الحياة اليومية، فإن الموسيقى تستنسخ بدقة البنيةَ الأساسية للعالم: حيث تكون الإيقاعات مماثلة للطبيعة غير الحية، والنغمات مماثلة لعالم الحيوان، والألحان مماثلة للعالم البشري. ومن خلال التعمُّق في الإيقاعات تنتُج تراكيبُ صوتية تحمل معاني في دلالاتها، تمامًا مثلما تنتِجُ الطبيعةُ غير الحية حياةً مفعمة بالحركة.

وبذلك، يميِّز آرثر شوبنهاور سلسلةً من التشابهات بين بنية الموسيقى وبنية العالم المادي تسمح له بادعاء أن الموسيقى هي نسخة من الإرادة نفسها (Abbild des Willens selbst) (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 52). قد تبدو تلك النظرة للوهلة الأولى مبالغًا فيها، لكنها تستند إلى فكرة أنه إذا كان المرء يرغب في التعرُّف على حقيقة العالم فسيكون من المفيد له أن يُدرك العالم ليس فقط من الناحية العلمية والميكانيكية والسببية، بل أيضًا من الناحية الجمالية؛ من خلال خصائصها التعبيرية والمجازية التي تتطلَّب قدرًا من الحس الجمالي لتذوقها. فإذا كان تكوين العالم ينعكس بشكل أوضح من خلال التكوين الموسيقي، فإذن الذائقة الأكثر فلسفية ستكون الذائقة الموسيقية. حيث يفسر ذلك بشكل ما الجاذبية الخاصة التي حظيت بها نظرية شوبنهاور في الموسيقى لدى ريتشارد فاجنر وفريدريك نيتشه، اللذين جمعا بين الاهتمامات الفلسفية والموسيقية في أعمالهما.

وفيما يتعلَّق بمسألة تحقيق حالات ذهنية أكثر هدوءً وتعاليًا، يعتقد شوبنهاور أن الموسيقى تحقق ذلك من خلال تجسيد البُنى المجردة للمشاعر، أو من خلال استخلاص المشاعر على نحو مجرد من حلبة الحياة اليومية التي تظهَر المشاعر من خلالها. حيث يسمح لنا ذلك بإدراك جوهر الحياة الوجدانية (الفرح في ذاته – الحزن في ذاته، إلخ) دون التأثُّر بالمحتويات العرضية التي عادة ما تسبب المعاناة.

ومن خلال التعبير عن المشاعر على هذا النحو المغاير، تسمح لنا الموسيقى بفهم طبيعة العالم دون التعرُّض للإحباطات التي تنطوي عليها الحياة اليومية، وبالتالي يكون نمط الإدراك الجمالي أشبه بالتأمل الفلسفي الهادئ للعالم.

وبقدر ما تخلق الموسيقى نظرةً مجردة للعالم، ونموذجًا من الحياة لا ينطوي على آلام، فإنها تفشل في خلق التعاطف الذي يسببه الاحتكاك الملموس بمعاناة شخص آخر؛ حيث يدفع هذا العجز تحديدًا إلى الانتقال من الإدراك الموسيقي أو الجمالي إلى الوعي الأخلاقي.

2.5 الوعي الأخلاقي بوصفه متعاليًا

كما آمن العديد من مسيحيي العصور الوسطى، اعتقد آرثر شوبنهاور أنه علينا الحد من رغباتنا الجسدية لأن الوعي الأخلاقي ينشأ من خلال موقف يتعالى على فرديتنا الجسدية. وفي والواقع، عبَّر شوبنهاور عن آرائه الأخلاقية صراحة بأنها تتوافق تمامًا مع جوهر المسيحية، فضلًا عن اتساقها مع العقائد والمبادئ الأخلاقية للكتب المقدسة الهندية (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 68).

ومن التعاليم التي أجلَّها شوبنهاور، تلك التعاليم التي تدعو إلى أن يعامل المرء الآخرين معاملة طيبة كما يحب المرء أن يعامله الآخرون، وأن يتجنب المرء العنف ويسعى إلى تقليل المعاناة الواقعة في العالم، وأن يقاوم المرء الأنانية والأفكار الانتقامية، وأن يسعى المرء إلى تنمية مشاعر الرحمة بداخله. وقد اعتقد شوبنهاور أن تلك التعاليم ليست حكرًا على المسيحية، بل إنها تمثل القاعدة لمعظم المبادئ الأخلاقية ذات الأسس الدينية.

وبغض النظر عن مدى اتفاق شوبنهاور مع الفلسفات الأخلاقية التقليدية، فقد قدَّم شوبنهاور نظريته الأخلاقية على نحو مشابه للنظريات الأخلاقية لإيمانويل كانط (1724 – 1804) وجون ستيوارت ميل (1806 – 1873)، التي اتفقت بشكلٍ عام مع التعاليم المسيحية.

اتسق مفهوم آرثر شوبنهاور عن الوعي الأخلاقي مع مشروعه في البحث عن حالات ذهنية أكثر هدوءً وتعاليًا، حيث قاده السعي إلى التعالي في نطاق الحقل الأخلاقي إلى التأكيد على أن الإنسان بمجرد أن يُدرك أنه ليس إلا جزءً لجانب واحد من فعل الإرادة الفردي، والذي يعبِّر عن الإنسانية جمعاء، فسيدرك الإنسان أن الفرق بين الجلَّاد والضحية ليس إلا وهمًا. حيث إنَّ تلك النظرة، في الواقع، تحاكي نظرة كما لو أن الإنسانية بشكل عام تنظر إلى كل إنسان على حدة.

ووفقًا للطبيعة الحقيقية للأشياء، فإن كل إنسان يعتبر جميع الآلام والعذابات الموجودة في العالم كما لو أنها معاناته الشخصية، لأن الطبيعة الإنسانية الداخلية التي يشترك فيها جميع البشر تحمِّل نفسها ذنب كل المعاناة الموجودة في العالم. ومن خلال وضع الوعي البشري في الاعتبار، فإن الوعي الأخلاقي سيُدرك أنه يحمل جميع خطايا وذنوب العالم على عاتقه (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصلين 63 و64). ومن الجدير بالذكر أيضًا أن هذا النمط من الوعي ينبغي عليه أن يختبر كل الأفراح والانتصارات والملذات البشرية وكأنها أفراحه وملذاته الشخصية، ولكن شوبنهاور لم يعمل على تطوير تلك الأفكار.

إذن، لا يقتصر الأمر على أن التطبيقات الخاصة لمبدأ العلة الكافية تجزِّئ العالم إلى مجموعات من الجزئيات الفردية المشتتة عبر الزمان والمكان بغرض الوصول للمعرفة العلمية، ولكن هذا المبدأ العقلاني يخلق نوعًا من الوهم ينطوي على فكرة أنه عندما يرتكب شخص ما خطأً تجاه شخص آخر، فإن هذين الشخصين هما في الأساس شخصين منفصلين عن بعضهما، أي إنهما جزئيات فردية.

وبما أن تجزئة العالم إلى جزئيات فردية أمر ضروري لتطبيق علاقات السببية، حيث يكون (أ) هو السبب لـ (ب)، وحيث يُنظر إلى (أ) و(ب) على أنهما موضوعان مختلفان ومنفصلان؛ فإن هذه التجزئة المعرفية نفسها تنعكس على تصوُّر البشر للعلاقات فيما بينهم، فعندما يتصرَّف الشخص (س) بتصرُّف ما تجاه الشخص (ص)، يتم اعتبار أن الشخصين (س) و(ص) هما شخصين منفصلين عن بعضهما ومستقلين كجزئيات فردية.

وبالتالي، فإن قواعد المعرفة العلمية لها تأثير أخلاقي سلبي، لأنها تقود البشر إلى اعتبار أنفسهم أفرادًا منفصلين وغرباء عن بعضهم البعض.

ومن خلال الإدراك الحسي على نحو كلَّيٍّ بأن جميع البشر يشتركون في نفس الطبيعة الداخلية التي تحمل نفس الجوهر الميتافيزيقي، يصل المرء إلى نظرة أخلاقية تستند على وعي فلسفي أكثر تماسُكًا. تلك هي الطريقة العاطفية لفهم الآخر، حيث إنها ليست فهمًا مجردًا للقضية القائلة بأن “كل شخص هو إنسان”، ولا فهمًا محضًا (كما فعل كانط)، بل إنَّها تُرسي مبدأ أن جميع البشر يتشاركون الآليات العقلية نفسها، ووفقًا لذلك يقف جميع البشر على قدم المساواة.

ذلك هو الشعور المباشر بحياة شخص آخر على نحو شبه سحري، إنه الولوج لجوهر الحياة البشرية بطريقة متجاوزة للواقع، والذي يمكِّن المرء من التجانس مع الآخرين بقدر ما يستطيع. حيث إنه يسمح للمرء أن يتخيل، بشكل متساوٍ تمامًا، وبكامل قوته الشعورية، ما الذي يعنيه أن تكون جلَّادًا قاسيًا وضحية معذَّبة، وأن تحدَّد مواقع جميع التجارب والصفات المتناحرة في إطار وعي كُلٍّيٍّ واحد، ألا وهو وعي الإنسانية ذاتها. ومع تطور الوعي الأخلاقي يرتقي وعي المرء ليتسع أنواعًا مختلفة ومختلطة من الوعي، حيث يطوِّر وعيًا يحيط بطبيعة التوتر، والقسوة، والمأساوية، والأبعاد المتعددة التي تنطوي عليها الإنسانية، وعيٌ يمكنه إدراك الطبيعة المتعالية للإنسانية ذاتها.

وَصَفَ إدموند بيرك (1729 – 1797) التعالي بأنه الشعور بالهدوء الذي يتخلله شعورٌ بالفزع، وقد اتفق مفهوم الوعي الأخلاقي لـ آرثر شوبنهاور مع هذا الوصف. فبما أن الموسيقى تجسِّد التوترات الشعورية التي تحدث داخل العالم على نحو مجرد ومنفصل، فإنها بالتالي توفر قدرًا من الهدوء من خلال تقديم صورة صوتية مخففة من الصراع الدائم للحياة اليومية، وهذا القدر من الهدوء ينطوي أيضًا على وعيٍ أخلاقيٍّ.

 عندما تصل الإنسانية إلى وعيٍ كلِّيٍّ يتجاوز المحددات الزمانية والمكانية، فإن الرغبات التي تستمد أهميتها من وضع الفرد الشخصي، كجزء فردي مكاني-زماني، ستظهر على صورتها الحقيقية، ألَا إنَّها ترتكز على خدعة التجزئة، وبالتالي ستفقد الكثير من قوتها القهرية. وعند هذه النقطة فإن الوعي الأخلاقي يعمل كـ “مهدِّئ” للإرادة، دون إنكار المرء طبيعة الحياة البشرية المُغلَّفة بالعذابات والآلام. ويمكن أن نرى عددًا من الأعمال الفنية التي تعكس هذا النوع من الوعي المتعالي، كتمثال (لاوكون – Laocoön) (25 قبل الميلاد، تقريبًا)، ولوحة المسيح يحمل الصليب (1515، تقريبًا) لهيرونيموس بوش.

وبالنظر إلى الوعي الأخلاقي على نحو سلبي، فإنه ينتشلنا من العَوَز الذي لا ينتهي، والذي يميِّز الحياة البشرية المُتأرجحة باستمرار بين الألم والملل، بينما بالنظر إلى الوعي الأخلاقي على نحو إيجابي، فإنه يخلق قدرًا من الحكمة، حيث تصبح نظرة المرء للعالم أشبه بتصوُّر كُلِّيٍّ يحتوي على نماذج لجميع القصص البشرية التي تتكرر جيلًا بعد جيل – قصص هزلية وقصص مأساوية، وقصص مثيرة للشفقة وقصص ملهمة، وقصص تافهة وقصص لا ينساها التاريخ. فيصبح المرء أشبه بالشجرة الثابتة التي تتساقط أوراقها موسمًا بعد موسم بينما تظل ثابتة، كما يحدث للناس بمرور الأجيال (هوميروس، الإلياذة، الكتاب السادس).

وعطفًا على ما سبق، فإن آرثر شوبنهاور يؤكد في بحثه، مقال حول حرية الإرادة البشرية (1839)، أن كل ما يحدث فهو يحدث بالضرورة، حيث إنه بعدما وافق شوبنهاور على فكرة كانط القائلة بأن علاقات السبب والنتيجة تمتد إلى مختلف جوانب عالم الخبرات، ذهب إلى أن كل فعل فردي يحدَّد من خلال أسباب أو دوافع سابقة. هذا الوعي القَدَريُّ مَدَّ شوبنهاور بالراحة والطمأنينة، لأنه عندما أدرك أنه لا يمكن فعل أي شيء لتغيير مسار الأحداث، استنتج فورًا أن الكفاح من أجل تغيير العالم يصبح بلا معنى (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 56).

أنكر آرثر شوبنهاور الاعتقاد الشائع بأنه كونك حرًا يعني أنه كان بمقدورك التصرف على نحو مغاير في أيٍّ من المواقف التي اختبرتها بالفعل، ومع ذلك، أكَّد على أن كل واحدٍ منَّا حر بالمعنى التأسيسي، مشيرًا إلى أن البشر لديهم ” يقينٌ لا يتزعزع بأنهم من يتحكمون في زمام الأمور” (مقال حول حرية الإرادة البشرية، الخاتمة). حيث إنَّ ذلك الإحساس بالمسؤولية يشير إلى طبيعة عقلية محددة ذاتيًّا ومنفصلة عن خبراتنا. تمامًا كما أن الأشجار والزهور التي نراها على نحو فردي في الطبيعة تعبِّر عن التمثُّلات المتنوعة للنماذج المثالية للأشجار والزهور، فإن أفعالنا الفردية هي التمثُّلات الزمانية-المكانية لطبائعنا التي لا يُمكن أن تُدرك إلا عقليًّا.

إن الطبائع التي لا يمكن إدراكها إلا عقليًا، أي إنها لا تُدرك عن طريق الحواس، بالنسبة للإنسان، تعد هي فعل الإرادة المتجاوِز للمحددات الزمانية، أي إنها تُعبِّر عن جوهر الإنسان، إذ إنه يمكن تصوُّرها على أنها الشق الذاتي للأفكار المثالية والتي من خلالها يتحدد بشكل موضوعي الجوهر الداخلي للإنسان (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 28)، ويشبه هذا الأمر المثال الذي ذُكر آنفًا حول رسام البورتريه.

إن مفهوم الطبائع العقلية هو مفهوم كانطي (نقد العقل المحض، A539/B567)، وبالتوازي مع مفهوم كانط المرتبط بالطبائع التجريبية (أي الطبائع العقلية كما يتم التعبير عنها تجريبيًّا)، اعتبر آرثر شوبنهاور أن هذا المفهوم يُعَد حلًّا لمشكلة الحرية والحتمية، كما اعتبره شوبنهاور أيضًا واحدًا من أكثر الأفكار عمقًا في الفلسفة الكانطية.

ومن خلال نظرة على تأثير آرثر شوبنهاور الفلسفي اللاحق، فسنجد أن بحث شوبنهاور في مفهوم الطبائع العقلية يتوافق مع دعوة فريدريك نيتشه بـ “ألا يكون الإنسان إلا نفسه” (هو ذا الإنسان، لمَ أنا على هذا القدر من الذكاء، الفصل 9). وقد اعتقد شوبنهاور أنه كلما تعلمنا المزيد حول أنفسنا سنتمكن من تمثيل طبائعنا العقلية على نحو أكثر فعالية، وسنتمكن أيضًا من لعب أدوارنا المُحدَّدة -جماليًا ومنهجيًا- بشكل أكثر دقة وسلاسة. ومن خلال معرفتنا بذواتنا، يمكنُنا أن نحوِّل حيواتنا إلى أعمال فنية، كما عبَّر نيتشه عن ذلك الأمر لاحقًا.

وبالتالي، فإن تطوير الطبيعة العقلية ينطوي على توسيع المعرفة بميولنا الفردية الفطرية، والذي سينتج عنه كتأثير أساسي لهذه المعرفة قدرًا أكبر من السلام والهدوء الذهني (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 55). ونظرًا إلى أن طبائعنا العقلية هي طبائع فردية وجماعية على حدٍّ سواء، فإنها تتسق هيكليًّا مع الموسيقى، الفن الأرقى. حيث يكشف هذا الارتباط بالموسيقى -كما لاحظ نيتشه على الأرجح- عن وجود صلة منهجية بين النظرية الجمالية والنظرية الأخلاقية عند شوبنهاور. ويمكن أن تفَسَّرَ من خلال ذلك أيضًا إشارة شوبنهاور إلى المظاهر الجمالية والفنية -غير الموسيقية- الباعثة على البهجة، بأنها نوعٌ من التعبير عن طبائعنا المُكتسبة.

3.5 الزهد وإنكار إرادة الحياة

يعتقد آرثر شوبنهاور أن الإدراك الجمالي يوفِّر تعاليًا على الحياة اليومية لفترة وجيزة، كما أن الوعي الأخلاقي لا يعَدُّ الحالةُ الذهنية النهائية، على الرغم من الهدوء النسبي الذي يوفِّره مقارنة بالعنف الذي يملأ جنبات الحياة اليومية. ومن خلال ذلك يذهب شوبنهاور إلى أن الإنسان الذي يختبر حقيقة الطبيعة البشرية من منظور أخلاقي -أي الذي يدرك أن النماذج المعرفية الزمانية-المكانية تسبب عذابًا مستمرًّا، ومعاناة لا تنقطع، وكفاحًا عبثيًّا بلا طائل- سيؤدي به ذلك إلى النفور من الوضع الإنساني ومن الإرادة العمياء الذي يتجلَّى من خلالها، وسيفقد الرغبة في الاستمرار في الحياة وفق قواعد التمثُّلات التي تظهر من خلالها الطبيعة البشرية.

ونتيجة لذلك فقد اتَّخذ شوبنهاور موقفًا ينكر من خلاله إرادة الحياة، والذي وصفه بالموقف الزاهد والمُتنازل والمُستسلم والذي لا ينطوي على أي شكل من الإرادة، ولكنه على الرغم من ذلك موقفٌ مؤسَّسٌ على الاتزان والهدوء العقلي. وعلى نحو يعيد إلى أذهاننا الفلسفة البوذية التقليدية، أدرك شوبنهاور أن الحياة مليئة بالإحباطات التي لا مفر منها، حيث أقرَّ بأنه يمكن تقليل المعاناة الناتجة عن تلك الإحباطات عن طريق السيطرة على رغباتنا الشخصية. وهكذا يقوم الوعي الأخلاقي بدوره في إفساح المجال أمام سلوكيات الزهد والتعفف.

وقد ذكر آرثر شوبنهاور (القديس فرنسيس الأسيزي – St. Francis of Assisi) (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 68) ويسوع المسيح (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 70) كأمثلة للشخصيات التي عاشت النموذج الأمثل من الحياة التي دعا إليها شوبنهاور، بالإضافة للعديد من الشخصيات الأخرى التي اتسمت بالزهد من مختلف الثقافات الدينية.

يظهر من خلال هذا التركيز على أهمية الوعي النُّسُكي وما يتضمَّنه من انفصال عن الحياة اليومية وهدوء ذهني =شكلٌ من أشكال المفارقات بفلسفة شوبنهاور، حيث إنَّه يقرُّ بأن إنكار الإرادة في نطاق الحياة اليومية يحدُث من خلال صراعات محتدمة مع الدوافع الغريزية، إذ إنَّنا نقاوم الإغراءات والملذات الجسدية ونقاتل ضد الغرائز الحيوانية التي تدفع إلى التكاثر والبقاء ومواكبة الحياة.

فقبل أن نصل إلى الوعي المتعالي الذي يقودنا إلى نعيم الهدوء والسلام الذهني، يجب علينا أولًا أن نمر عبر نيران الجحيم ونختبر عذاب النفس، حيث تحارب الذات الكُليَّة ضد الذات الفردية والجسدية، وتتصارع المعرفة الخالصة مع الإرادة الحيوانية، فيكون المشهد أشبه بنضال ضد الطبيعة من أجل الظفر بالحرية.

ومع ذلك، يمكن أن يتشبَّث الإنسان على نحو سطحي بفكرة أن الرغبة في إنكار إرادة الحياة لا تنطوي على تناقض، حيث إنَّ الإنسان لا يفترض أن الإرادة تحمل في طياتها أدوات تدميرها لذاتها، بل إنَّه يفترض أن تمثُّل الإرادة الأكثر كليَّة ينتصر على تمثُّل الإرادة الأقل كليَّة، أي: التمثُّل الفردي المُتجسِّد ماديًّا. وفي ظل هذا الموقف السطحي المُتشبِّث بفكرة غير منضبطة، تظل الإرادة متموضعة ضد ذاتها في إطار نفس النموذج الذي يحاول شوبنهاور تجاوزه، أي النموذج الذي تتصارع فيه تمثُّلات الإرادة ضد بعضها البعض، تمامًا مثل نملة البولدوج المُنقسمة التي تحدثنا عنها سابقًا.

ربما لا يعد ذلك مشكلة في حد ذاته، ولكن الموقع الذي يكون فيه الوعي النُّسكي المعذَّب والمعاقِب لذاته على الدرجة قبل الأخيرة من درجات سلم الاستنارة هو أمر ينطوي على مفارقة، لأنه يشعل صراعًا داخليًّا مُدمِّرًا. وعلى الرغم من أن هذا الصراع يدور على مستوى تأمليٍّ وباطنيٍّ، إلا أنه يوقد صراعًا روحيًّا، أشبه بالصراع بين الحياة والموت، في إطار الوعي النُّسكي.

وبغض النظر عن هذه الحالة الاستثنائية، فإن الكفاح للوصول إلى الزهد لا يمكن أن يكون إلا كفاحًا ساميًا ضد الطبيعة البشرية. إنه كفاح ضد نزعة الخضوع لمبدأ العلة الكفاية التي لا مفر منها بغرض الوصول إلى المعرفة العملية، هذا الأمر الذي يرى شوبنهاور أنَّ له تأثيرًا جانبيًّا مثيرًا للاشمئزاز، حيث إنه يزيِّف حقيقة العالم وما يتضمَّنه من صراعات لا نهاية لها. وفي سياق متصل يرى شوبنهاور أن الكفاح في سبيل الزهد هو أيضًا كفاح ضد دوافع العنف والشر، وبناءً على اعتماد شوبنهاور للإبستمولوجيا الكانطية واستخدامه لها، يمكن للمرء من خلال الكفاح في سبيل الزهد أن يحدد مواقع تلك الدوافع بدقة داخل الطبيعة البشرية.

وعندما يتجاوز الإنسان الطبيعة البشرية من خلال الزهد، تحَلُّ مُعضلة الشر، إذ إنه عن طريق استئصال الوعي الجزئي الفردي من المشهد تختفي بالضرورة الحالة الزمانية-المكانية والتي يحدث في إطارها العنف الذي نشهده في حياتنا اليومية.

إذن، يمكننا اعتبار بشكل ما، وربما على نحوٍ رمزي، أن الوعي النُّسكي يعيد آدم وحواء إلى الفردوس، حيث إنَّ السعي وراء المعرفة (أي الرغبة في إخضاع التجربة لمبدأ التجزئة) هو تحديدًا ما ينتصر عليه الإنسان الزاهد. وقد يرتقي ذلك إلى حد الانتصار على الذات على نحوٍ نهائي وشامل، حيث إن الانتصار لا يكون على الرغبات الجسدية فحسب، بل إنه يصل إلى هزيمة الأساسات الإبستمولوجية المتأصلة داخل الإنسان.

6. أعمال آرثر شوبنهاور المتأخرة

في خاتمة المجلَّد الأول من كتاب العالم إرادة وتمثُّلًا (1818) أشار شوبنهاور إلى أن الإنسان وهو في حالة الزهد يختبر نوعًا غامضًا من أنواع الوعي الصوفي قد يبدو من وجهة نظر نمطية أنه لا ينطوي على أي معنى، إذ إنه يظهر على نحو مُتفرَّد وعصيٍّ على الإدراك. وبالمقابل، فإنه من منظور الوعي الصوفي، حيث لا يكون هناك حضورٌ إلا للمعرفة الخالصة، وتختفي تمامًا إرادة الحياة، يظهر العالم المادي بجميع أجرامه ونجومه ومجرَّاته على أنه لا يمثِّل أي شيء على الإطلاق. ذلك النمط من الوعي الذي يشبه مفهوم (البراجنا-باراميتا – the Prajna-Paramita) الذي يعود للديانة البوذية (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 71)، تلك الفكرة التي جاءت في مختتم كتاب آرثر شوبنهاور الأهم.

ويوضِّح شوبنهاور أيضًا في نفس الفصل أن الوعي الصوفي أشبه، على نحوٍ ما، بالهدوء والسكون والثبات الذي يُغلِّف المحيطات، مضيفًا أنه إذا أراد المرء أن يجد توصيفًا مناسبًا للحالة الصوفية، فيمكننا الإشارة إلى مفردات مثل: النشوة، والطرب، والاستنارة، والاتحاد مع الله، لذلك فإن شوبنهاور استطاع التعرُّف على ما تنطوي عليه تجربة التصوُّف النُّسُكيَّة، لكنه مع ذلك يعتبر تلك التجربة لا يُمكن وصفها.

هذه الدعوة التي أطلقها آرثر شوبنهاور للامتثال للتصوُّف، تضعنا أمام معضلة: إن كان العالم بكل ما فيه ليس إلا إرادة عمياء، فإنه سيكون من الصعب علينا تحديد موقع الحالة الذهنية الصوفية المتعالية على الإرادة في هذا العالم، فبالعودة إلى مخطط شوبنهاور الفلسفي المكوَّن من ثلاثة مستويات، والذي هو محور بحثنا الآن، يجب أن يتضمَّن تلك الحالة الذهنية المتعالية إما على مستوى الإرادة في ذاتها، أو على مستوى الأفكار المثالية، أو على مستوى الجزئيات الزمانية-المكانية.

وبالطبع، لا يمكن أن يكون الاختيار الأخير هو الإجابة الصحيحة، لأن الوعي الجزئي هو الوعي اليومي الذي يتضمَّن الرغبات والإحباطات والمعاناة. ولا يمكن أيضًا أن يكون موقع الحالة الذهنية المتعالية في مستوى الإرادة في ذاتها، لأن الإرادة هي جموح أعمى، ولا تنطوي على أية معرفة، ولا يمكن إشباعها.

لذلك قد يكون الاختيار الأكثر معقولية هو أن الوعي الصوفي يقع في مستوى التمييز الكُلي بين الذات والموضوع، على غرار الوعي الموسيقي الجمالي. بيد أن شوبنهاور يقول إنَّ الوعي الصوفي لا يبطل مفعول الزمان والمكان فقط، بل إنه يبطل مفعول النماذج الأساسية للذات والموضوع أيضًا: “بغير الإرادة، لا وجود للتمثُّلات، وبالتالي لا وجود للعالم أساسًا” (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 71).

وبالتالي، وعلى نحوٍ عمومي، تبدو الحالة الذهنية الصوفية واقعة في مستوى من الكُليَّة يمكن مقارنته بمستوى الإرادة “كشيء في ذاته”. ونظرًا لوصف شوبنهاور للحالة الذهنية الصوفية بأنها ليست تمثُّلًا من تمثُّلات الإرادة، فإنها تبدو مرتبطة ببُعد مختلف تمامًا، وفي انفصال تام عن الإرادة باعتبارها شيئًا في ذاته.

 وهذا يعني أنه إذا كان الشيء في ذاته مطابقًا تمامًا للإرادة، فمن الصعب قبول توصيفات آرثر شوبنهاور للوعي الصوفي، مع محاولة تحديد موقع ثابت له ضمن مخطط شوبنهاور الفلسفي المكوَّن من ثلاثة مستويات للواقع، في ذات الوقت.

لقد وَضَعَنَا موقفُ شوبنهاور بشأن ما إذا كانت الإرادة هي الشيء في ذاته أمام بعض الصعوبات على المستوى التفسيري. في كتابه (حول الإرادة في الطبيعة – On the Will in Nature) (1836/1854) يتحدث شوبنهاور طوال الوقت تقريبًا كما لو أن الإرادة والشيء في ذاته شيئان متطابقان. وفي كتابه العالم إرادة وتمثُّلًا (1844) يعالج شوبنهاور هذا التعقيد بادعاء أن الشيء في ذاته هو الإرادة.

ويذكر في عمله الذي يعود لعام 1844 (ملاحظات لاحقة على مخطوطة 1821: وهي أفكار تعود لعام 1821 وليس عام 1844 أو ما بعده) أنه “بالنسبة لنا” يظهر الشيء في ذاته على أنه إرادة فقط، وأنه يظل من المحتمل أن يكون للشيء في ذاته أنماطٌ أخرى للوجود، ولكن لا يمكن إدراكها من خلال المصطلحات العادية، ولكن قد يكون ذلك ممكنًا للوعي الصوفي (العالم إرادة وتمثُّلًا، الفصل 18، حول إمكانية معرفة الشيء في ذاته). ويخلُص من خلال ذلك أن التجربة الصوفية تبدو أشبه بالعدم النسبي من منظور الحياة اليومية، لكنها ليست عدمًا مطلقًا، تمامًا كما في حال لو أن الشيء في ذاته هو الإرادة المطلقة، وليس مجرد الإرادة كما تبدو لنا.

وفي ضوء ذلك، يعبِّر آرثر شوبنهاور أحيانًا عن فكرة مفادها أن الشيء في ذاته متعدد الأبعاد، وعلى الرغم من أن الشيء في ذاته ليس متطابقًا تمامًا مع العالم كما هو الحال بالنسبة للإرادة، إلا أنه يتضمَّن من خلال تمظهراته العالمَ بوصفه إرادة والعالمَ بوصفه تمثُّلًا. حيث تقود تلك الفكرة إلى إضفاء بنية حلولية على منظور شوبنهاور (تمت الإشارة إليها سابقًا في آراء كيه. سي. إف. كراوس –  K.C.F. Krause).

ومن خلال منظور أكاديمي، فإن الشروحات التي قدَّمت شوبنهاور بوصفه كانطيًّا تقليديًّا يعتقد أنه من المستحيل معرفة الشيء في ذاته، هي شروحات غير دقيقة، حيث إنها لا تتوافق مع ما اعتقده شوبنهاور حقًّا. كما أن ذلك يدعو أيضًا إلى تطوير التصوُّر الشائع عن شوبنهاور بأنه ميتافيزيقي تقليدي يدَّعي بأن الشيء في ذاته هو إرادة مطلقة وصريحة وكلية.

7. تأملات نقدية

إن اعتقاد آرثر شوبنهاور بأن الإرادة تمثُّلُ الشيء في ذاته بالنسبة لنا فقط، والذي لاقى اعتراضات على نحوٍ متفاوت، تركَ له مجالًا فلسفيًّا ليؤكد باستمرار أن التجربة الصوفية توفِّر رؤية إيجابية، بالإضافة إلى أن موقف شوبنهاور بأن العالم هو الإرادة يتوافق مع محددات الوضع الإنساني. تقود تلك الرؤية إلى أن الحياة اليومية التي ينظَر إليها على أنها عالم قاسي ومليء بالعنف -عالم مؤسَّس على تطبيق مبدأ العلة الكافية- تقوم على الحدس المشروط، ألا وهي المعرفة المباشرة والمزدوجة للجسد البشري كذات وموضوع في آنٍ واحد.

ومن خلال ذلك يمكن النظر إلى رؤية شوبنهاور المتشائمة للعالم على أنها مؤسَّسة على التمييز بين الذات والموضوع، أي الجذر العام لمبدأ العلة الكافية. وكما ذكرنا سابقًا، يمكننا أن نرى بوضوح هذا الاعتماد بشكل أساسي على التمييز بين الذات والموضوع منعكسًا في عنوان كتابه الأهم، العالم إرادة وتمثُّلًا، والذي يمكن قراءته أيضًا بـ: إدراك العالم ذاتيًا وموضوعيًا.

هذه الملاحظة لا تجعل سيناريو آرثر شوبنهاور شديدُ التنافسية الذي يشرح من خلاله العالم -في ضوء معايير رؤيته- يسهل تجنُّبه، لكنها تقود الإنسان إلى فهم رؤية شوبنهاور المتشائمة للعالم بوصفه إرادة على نحو أقل جموحًا من النظرة المستمدة من منظور مطلق متجاوز للطبيعة البشرية، كما أنها تقود أيضًا إلى فهم رؤية شوبنهاور على نحو أكثر شمولية من النظرة المستمدة من منظور معبِّر عن الطبيعة البشرية في رحلة بحثها عن الفهم الفلسفي للعالم.

حيث إنَّه نظرًا لاعتماد شوبنهاور بشكل أساسي على التمييز بين الذات والموضوع، فإن تفسير شوبنهاور الكلاسيكي للحياة اليومية باعتبارها تمثيلًا للإرادة يمكن فهمه ليس كمجرد نظرية ميتافيزيقية تقليدية تهدف إلى وصف الحقيقة المطلقة؛ بل يمكن فهمه بدلًا من ذلك على أنه تعبير عن العالم من المنظور الإنساني، والذي لا يمكننا -كبشر- تجنُّبه باعتبارنا جزئيات متجسدة.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه المنهجية المعتدلة تضعنا أمام سؤال حاسمٍ حول سبب كون العالم على هذا النحو من العنف الشديد إذا لم يكن جوهر العالم هو تحديدًا الإرادة، بل إنه شيء غامض متجاوز لذلك. لأنه إذا كانت الإرادة تمثِّل بعدًا واحدًا فقط من أبعاد العالم التي لا حصر لها، فلن يكون هناك سببٌ للاعتقاد بأن التأثيرات الجزئية لمبدأ العلة الكافية ستخلق عالمًا يُدمِّر نفسه بنفسه بالطريقة التي وصفها آرثر شوبنهاور.

8. تأثير آرثر شوبنهاور

تركت فلسفة آرثر شوبنهاور أثرًا كبيرًا على نطاق واسع، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى نظرته التي تقرُّ بالقيم الأخلاقية التقليدية دون الحاجة إلى افتراض وجود الله، كما أن آراءه تترك مجالًا أيضًا للوصول إلى المعرفة المطلقة من خلال التجربة الصوفية، بالإضافة إلى تحدي شوبنهاور بشكلٍ ضمنيٍّ للهيمنة العلمية ومناهج الفهم الحرفي الأخرى، ليحل محلها الأساليب الموسيقية والأدبية في الفهم.

فضلًا عن اعترافه -على الأقل فيما يتعلق بنظرة لا يمكننا تجنُّبها عادة- بأن العالم غير عقلاني في الأساس، تلك الفكرة التي كانت جذابة لمفكري القرن العشرين الذين فهموا الدوافع الغريزية بوصفها دوافع غير عقلانية، ومع ذلك فهي تُحرِّك وتوجِّه الدوافع الكامنة وراء السلوك البشري.

لقد كان تأثير آرثر شوبنهاور حاضرًا بقوة بين الشخصيات الأدبية، والتي تشمل الشعراء، والكُتَّاب المسرحيين، وكُتَّاب المقالات، والروائيين، والمؤرخين، ويمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال: تشارلز بودلير، وصمويل بيكيت، وتوماس برنارد، وخورخي لويس بورخيس، وجاكوب بوركهارت، وجوزيف كونراد، وأندريه جيد، وجورج جيسينج، وفرانز جريلبارزر، وتوماس هاردي، وجيرهاردت هاوبتمان، وفريدريش هيبل، وهوجو فون هوفمانستال، ويوريس كارل هويسمانز، وإرنست جونجر، وكارل كراوس، ودي. إتش. لورانس، وخواكيم ماريا ماتشادو دي أسيس، وستيفان مالارمي، وتوماس مان، وجاي دو موباسان، وهيرمان ميلفيل، وروبرت موسيل، وإدجار آلان بو، ومارسيل بروست، وأرنو شميدت، وأوجست ستريندبرج، وإيتالو سفيفو، وليو تولستوي، وإيفان تورجينيف، وفرانك ويديكيند، ودبليو. بي. ييتس، وأخيرًا إيميل زولا؛ فقد استلهم هؤلاء المؤلفون بشكل عام من حس شوبنهاور بعبثية العالم، سواء نظروا إلى العالم على نحو أكثر عدمية وكآبة، أو على نحو أكثر مرحًا وعبثية وهزلية.

ومن بين الفلاسفة يمكننا ذكر هنري بيرجسون، ويوليوس بانسن، وإدوارد فون هارتمان، وسوزان لانجر، وفيليب مايندلر، وهانس فايهينجر، وفريدريش نيتشه؛ حيث ذهب كل منهم إلى التركيز حول جوانب مختارة من فلسفة شوبنهاور، مثل وجهات نظره حول معنى الحياة، ونظريته عن الإرادة غير العقلانية، ونظريته في الموسيقى، وآراءه حول الفلسفة الكانطية. وقد أثَّر شوبنهاور في نيتشه، الذي أخضع العلم للفن، إلى الحد الذي جعل تحدي فلسفة القرن العشرين القارِّيَّة للمناهج الفلسفية التي اعتمدت على الفهم الحَرْفي، من خلال نيتشه، أمرًا قد تنبأ شوبنهاور بحدوثه من خلال نظريته التي اعتبرت أن الموسيقى تعبِّر عن الحقائق الميتافيزيقية على نحو أكثر وضوحًا من الفلسفة التقليدية.

بجانب تركيز آرثر شوبنهاور على نظرية العبقرية الفنية ونظريته الأشهر في وصف العالم باعتباره معاناة مستمرة، تركت نظرية شوبنهاور في الموسيقى أثرًا واضحًا بين الملحنين، مثل: يوهان برامز، وأنتونين دوفراك، وجوستاف مالر، وهانز بفيتزنر، وسيرجي بروكوفييف، ونيكولاي ريمسكي كورساكوف، وأرنولد شونبيرج، وريتشارد فاجنر. وقد أُثَّر شوبنهاور في فاجنر، الذي يعدُّ الأب الروحي لموسيقى القرن العشرين التي خُصصت لتقوم بمهمة الموسيقى المُرافقة والمُعبرة عن الصور المتحركة، إلى درجة اعتبار نظرية شوبنهاور في الموسيقى، كتعبير عن التدفق المستمر للعاطفة، تقف بشكل أساسي وراء التجربة الموسيقية المعاصرة في الأوساط الفنية والتواصلية.

عادة ما يختفي تأثير آرثر شوبنهاور خلال القرن التاسع عشر وراء التأثير القوي لكانط وهيجل، وماركس، وميل، وداروين، ونيتشه، بيد أن تأثيره في الواقع قد تجاوز حتى ما هو معروف عنه بشأن رفضه للمفاهيم الخاصة بعقلنة العالم في وقت مبكر من عام 1818، فقد استبصرت فلسفة شوبنهاور الشكل المستقبلي الذي سيكون عليه العالم؛ والمُتمثِّل في الضحك العدمي الأجوف الذي عبّرت عنه (حركة دادا – Dada movement) في مطلع القرن العشرين إبان الحرب العالمية الأولى، والتي أعادت تجسيد المشاعر التي عبَّر عنها شوبنهاور من خلال فلسفته قبل نحو قرن من الزمان.

بالإضافة إلى عودة أفكار آرثر شوبنهاور حول تأثير الدوافع الغريزية على الحياة اليومية إلى الحياة مرة أخرى من خلال التحليل النفسي الفرويدي والذي ألهم بدوره المدرسة السريالية. كما أن قناعات شوبنهاور الشخصية بشأن حركة التاريخ البشري وكونه لا يتحرك نحو أية نقطة محددة باتت أفكارًا رئيسية في الفلسفة الفرنسية للقرن العشرين بعد حربين عالميتين أعاقت توقعات فلسفات القرن التاسع العشر بالتقدم والتطوُّر المستمر، والتي سيطرت على أذهان مفكرين كثيرين مثل هيجل وماركس.


المراجع

أعمال شوبنهاور

  • ·             1813: Über die vierfache Wurzel des Satzes vom zureichenden Grunde (On the Fourfold Root of the Principle of Sufficient Reason).
  • 1816: Über das Sehn und die Farben (On Vision and Colors).
  • 1819 [1818]: Die Welt als Wille und Vorstellung (The World as Will and Representation) [first edition, one volume].
  • 1836: Über den Willen in der Natur (On the Will in Nature).
  • 1839: “Über die Freiheit des menschlichen Willens” (“On Freedom of the Human Will”).
  • 1840: “Über die Grundlage der Moral” (“On the Basis of Morality”).
  • 1841 [1840]: Die beiden Grundprobleme der Ethik (The Two Fundamental Problems of Ethics) [joint publication of the 1839 and 1840 essays in book form].
  • 1844: Die Welt als Wille und Vorstellung (The World as Will and Representation) [second edition, two volumes].
  • 1847: Über die vierfache Wurzel des Satzes vom zureichenden Grunde (On the Fourfold Root of the Principle of Sufficient Reason) [second edition, revised].
  • 1851: Parerga und Paralipomena.
  • 1859: Die Welt als Wille und Vorstellung (The World as Will and Representation) [third edition, two volumes].
  • ترجمات إنجليزية للعالم إرادة وتمثُّلًا
  • ·             1883: The World as Will and Idea, 3 Vols., translated by R. B. Haldane and J. Kemp, London: Routledge and Kegan Paul Ltd.
  • 1958: The World as Will and Representation, Vols. I and II, translated by E. F. J. Payne, New York: Dover Publications (1969).
  • 2007: The World as Will and Presentation, Vol. I, translated by Richard Aquila in collaboration with David Carus, New York: Longman.
  • 2010: The World as Will and Presentation, Vol. I, translated by David Carus and Richard Aquila, New York: Longman.
  • 2010: The World as Will and Representation, Vol. I, translated by Judith Norman, Alistair Welchman, and Christopher Janaway, Cambridge: Cambridge University Press.
  • 2018: The World as Will and Representation, Vol. II, translated by Judith Norman, Alistair Welchman, and Christopher Janaway, Cambridge: Cambridge University Press.

أعمال حول شوبنهاور

  • App, U., 2014, Schopenhauer’s Compass: An Introduction to Schopenhauer’s Philosophy and its Origins, Wil: UniversityMedia.
  • Atwell, J., 1990, Schopenhauer: The Human Character, Philadelphia: Temple University Press.
  • –––, 1995, Schopenhauer on the Character of the World, Berkeley: University of California Press.
  • Barron, A., 2017, Against Reason: Schopenhauer, Beckett and the Aesthetics of Irreducibility, Stuttgart and Hanover: Ibidem Press.
  • Barua, A., M. Gerhard, and M. Kossler (eds.), 2013, Understanding Schopenhauer Through the Prism of Indian Culture, Berlin: deGruyter.
  • Barua, A. (ed.), 2008, Schopenhauer and Indian Philosophy: A Dialogue Between Indian and Germany, New Delhi: Northern Book Centre.
  • –––, 2017, Schopenhauer on Self, World and Morality: Vedantic and Non-Vedantic Perspectives, Berlin: Springer.
  • Beiser, F., 2018, Weltschmerz: Pessimism in German Philosophy, 1860–1900, Oxford: Oxford University Press.
  • Berger, D.L., 2004, The Veil of Maya: Schopenhauer’s System and Early Indian Thought, Binghamton, New York: Global Academic Publishing.
  • Brener, M., 2014, Schopenhauer and Wagner: A Closer Look, Bloomington, Xlibris.
  • Cartwright, D., 2005, Historical Dictionary of Schopenhauer’s Philosophy, Lanham, Maryland, Toronto, Oxford: The Scarecrow Press, Inc.
  • Copleston, F., 1975 [1946], Arthur Schopenhauer: Philosopher of Pessimism, London: Barnes and Noble.
  • Farrelly, D. (ed. and trans.), 2015, Arthur Schopenhauer: New Material by Him and about Him by Dr. David Asher, Cambridge: Cambridge Scholars Publishing.
  • Fox, M. (ed.), 1980, Schopenhauer: His Philosophical Achievement, Brighton: Harvester Press.
  • Gardiner, P., 1967, Schopenhauer, Middlesex: Penguin Books.
  • Hamlyn, D. W., 1980, Schopenhauer, London: Routledge & Kegan Paul.
  • Head, J., and D. Vanden Auweele, 2017, Schopenhauer’s Fourfold Root, New York and London: Routledge
  • Houellebecq, M., 2020, In the Presence of Schopenhauer, Cambridge: Polity.
  • Hübscher, A., 1989, The Philosophy of Schopenhauer in its Intellectual Context: Thinker Against the Tide, trans. Joachim T. Baer and David E. Humphrey, Lewiston, N.Y.: Edwin Mellen Press.
  • Jacquette, D. (ed.),1996, Schopenhauer, Philosophy and the Arts, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Jacquette, D., 2005, The Philosophy of Schopenhauer, Chesham, UK: Acumen.
  • Janaway, C., 1994, Schopenhauer, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1989, Self and World in Schopenhauer’s Philosophy, Oxford: Clarendon Press.
  • Janaway, C. (ed.), 1998, Willing and Nothingness: Schopenhauer as Nietzsche’s Educator, Oxford: Clarendon Press.
  • –––, 1999, The Cambridge Companion to Schopenhauer, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Jordan, N., 2010, Schopenhauer’s Ethics of Patience: Virtue, Salvation and Value, Lewiston, N.Y.: Edwin Mellen Press.
  • Kelly, M., 1910, Kant’s Ethics and Schopenhauer’s Criticism, London: Swan Sonnenschein & Co., Ltd.
  • –––, 1909, Kant’s Philosophy as Rectified by Schopenhauer, London: Swan Sonnenschein & Co., Ltd.
  • Lauxtermann, P.F.H., 2000, Schopenhauer’s Broken World View: Colours and Ethics Between Kant and Goethe, Dordrecht: Kluwer Academic Publishers.
  • Lemanski, J. (ed.), 2020, Language, Logic, and Mathematics in Schopenhauer, Berlin: Springer; Cham: Birkhäuser.
  • Magee, B., 1983, The Philosophy of Schopenhauer, Oxford: Clarendon Press.
  • Mannion, G., 2003, Schopenhauer, Religion and Morality: The Humble Path to Ethics, Farnham, UK: Ashgate Publishing.
  • Marcin, R.B., 2006, In Search of Schopenhauer’s Cat: Arthur Schopenhauer’s Quantum-mystical Theory of Justice, Washington, D.C.: The Catholic University of America Press.
  • Neeley, S.G., 2004, Schopenhauer: A Consistent Reading, Lewiston, N.Y.: Edwin Mellen Press.
  • Neil, A. and Janaway, C. (eds.) 2009, Better Consciousness: Schopenhauer’s Philosophy of Value, London: Wiley-Blackwell.
  • Peters, M., 2009, Schopenhauer and Adorno on Bodily Suffering: A Comparative Analysis, London: Palgrave Macmillan.
  • Ray, M. A., 2003, Subjectivity and Irreligion: Atheism and Agnosticism in Kant, Schopenhauer and Nietzsche, London: Routledge.
  • Ryan, C., 2010, Schopenhauer’s Philosophy of Religion: The Death of God and the Oriental Renaissance, Leuven: Peeters.
  • Schirmacher, W. (ed.), 2008, Philosophy of Culture, Schopenhauer and Tradition, New York and Dresden: Atropos Press.
  • Schulz, O., 2014, Schopenhauer’s Critique of Hope, Norderstedt: Books on Demand.
  • Shapshay, S. (ed.), 2018, The Palgrave Schopenhauer Handbook, London: Palgrave Macmillan.
  • Shapshay, S., 2019, Reconstructing Schopenhauer’s Ethics: Hope, Compassion, and Animal Welfare, Oxford: Oxford University Press.
  • Simmel, G., 1986 [1907], Schopenhauer and Nietzsche, trans. Helmut Loiskandl, Deena Weinstein, and Michael Weinstein, Amherst: University of Massachusetts Press.
  • Stelling, P., 2020, Philosophical Perspectives on Suicide: Kant, Schopenhauer, Nietzsche, and Wittgenstein, London: Palgrave Macmillan.
  • Tsanoff, R.A., 1911, Schopenhauer’s Criticism of Kant’s Theory of Experience, New York: Longmans, Green.
  • Vasalou, S., 2016, Schopenhauer and the Aesthetic Standpoint, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Vanden Auweele, D., 2017, The Kantian Foundation of Schopenhauer’s Pessimism, London: Routledge.
  • Vandenabeele, B., 2015, The Sublime in Schopenhauer’s Philosophy, London: Palgrave Macmillan.
  • von der Luft, E. (ed.), 1988, Schopenhauer: New Essays in Honor of His 200th Birthday, Lewiston, N.Y.: Edwin Mellen Press.
  • Walker, M., 2011, Kant, Schopenhauer and Morality: Recovering the Categorical Imperative, London: Palgrave Macmillan.
  • White, F.C., 1992, On Schopenhauer’s Fourfold Root of the Principle of Sufficient Reason, Leiden: E.J. Brill.
  • White, F.C. (ed.), 1997, Schopenhauer’s Early Fourfold Root: Translation and Commentary, Aldershot: Avebury, Ashgate Publishing, Ltd.
  • Wicks, R. (ed.), 2020, The Oxford Handbook of Schopenhauer, Oxford: Oxford University Press.
  • Wicks, R., 2008, Schopenhauer, Oxford: Blackwell.
  • –––, 2011, Schopenhauer’s The World as Will and Representation: A Reader’s Guide, London: Continuum.
  • Young, J., 1987, Willing and Unwilling: A Study in the Philosophy of Arthur Schopenhauer, Dordrecht: Martinus Nijhof.
  • –––, 2005, Schopenhauer, London & New York: Routledge.

مراجع عن شوبنهاور بالإنجليزية

  • Bridgewater, P., 1988, Arthur Schopenhauer’s English Schooling, London and New York: Routledge.
  • Cartwright, D., 2010, Schopenhauer: A Biography, Cambridge: Cambridge University Press.
  • McGill, V. J, 1931, Schopenhauer: Pessimist and Pagan, New York: Haskell House Publishers (1971).
  • Safranski, R., 1989, Schopenhauer and the Wild Years of Philosophy, trans. Ewald Osers, London: Weidenfeld and Nicholson.
  • Wallace, W., 1890, Life of Arthur Schopenhauer, London: Walter Scott.
  • Zimmern, H., 1876, Arthur Schopenhauer: His Life and Philosophy, London: Longmans Green & Co.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

aesthetics: German, in the 18th century | Fichte, Johann Gottlieb | Kant, Immanuel | Nietzsche, Friedrich | Plato | Schopenhauer, Arthur: aesthetics | Spinoza, Baruch