مجلة حكمة
ما هي الاسطورة

ما هي الاسطورة؟

الكاتبمرسيل ديتيان
ترجمةمحمد نجيب فرطميسي
"إن حدث أن سألنا أحد الهنود الحمر: ما هي الاسطورة ؟ من المحتمل جدا أن يجيب على النحو التالي: تحكي الأسطورة زمنا لم ينفصل فيه بعد البشر عن الحيوان". 

هذا ما قاله كلود ليفي ـ ستروس ذات مرة، إن طرحنا نفس السؤال على يوربيديس شاعر طروادة، سيحيل هذا الشاعر لا محالة في جوابه على أطفال جالسين بجوار آلة الحياكة، ينصتون باهتمام لحكايات متداولة يعرفها الجميع،

يدفعتا ابتكار الميثولوجيا، بين الهنود الحمر واليونان، لقراءته بوصفه حكاية رائعة ومدهشة.  لكن علينا أن نعلنها مجددا: تتكلم الأسطورة والميثولوجيا اللغة اليونانية، أو بمعنى أفضل، إنها تكلمنا باليونانية. ميتوس mythos كلمة يونانية، كما تثير الأسطورة أيضا، في اللاوعي الأوروبي، الاستغراب بالحكايات الكبرى المؤسسة، الحاضرة من جيل لآخر، في المجتمعات القديمة أو المعاصرة. بالفعل، إننا نميل ـ هذا مظهر من مظاهر تقليد، نصفه يوناني روماني، والنصف الآخر يهودي ـ مسيحي ـ الى الاعتقاد أن الأساطير هي قبل كل شيء أمر يهم الآخرين.

كان الموروث اليوناني بالغ الأهمية، إذ أوحى، بدءا من القرن الرابع قبل المسيح، تفكير الشعوب الأصلية بتأويلات متعددة وفتح فضاء للاشتغال على القصص الخرافية، موازاة مع الميثولوجيا كما رُويت منذ إلياذة هوميروس. الميثولوجيا، بوصفها “موضوعا” مؤقتا لمساءلة الذهن البشري وعلاقته بالعالم تخلق نفسها من “أجلنا” في الأرض وفي اللغة اليونانية. ما سيدعوه البعض أسطورة ما بين سومر وبابل وما سيعلن الآخرون أنهم لم يعثروا عليه في الصين، بل وجدوه في الهند، ليس إلا قياسا على تقليد في التأويل، ظهر في منتصف القرن التاسع عشر، يدعي أنه “علم”، أو معرفة عالمة.

أوهام الحلم

شكلت الميثولوجيا، منذ الأعمال الأولى للأنثربولوجيين البريطانيين الذين ساروا على نهج إيدوار تايلور E.Taylor وصولا الى الأنثروبولوجية “المعرفيةّ” المعاصرة، أرضا خصبة لفهم ماهية التمثلات الثقافية. شرع الرحالة المبشرون والإثنولوجيون والمؤرخون في صياغة نظريات لتأويل التشابهات الغريبة والمدهشة بين الحكايات في شتى أنحاء العالم، وتلك التي يبدو أنها حاملة لبصمات الميثولوجيا اليونانية، والحضارة الغربية. أيقظت أوهام الحلم، في التصور الأنيمي1 لتايلور، الاعتقاد في الأرواح، وتم التفكير في الأساطير بوصفها تداعيات تحليل مرتبك ومشوش للواقع. ليست آلهة الميثولوجيا بأي حال من الأحوال إلا تجسيدا لقوى الطبيعة، لصور خيالية من صنع اللغة الأم.

لا وجود لشيء، طيلة القرن التاسع عشر وتحت تأثير النزعة التطورية، أكثر أهمية من أن تحضر شخصيا عند بزوغ فكرة “الاله” وميلاد الدين والسحر. يكشف “الفكر الأسطوري”، بمعزل عن طابعه اللاعقلاني وبدائيته، عن حالة ذهنية ينسب فيها الانتقال من الميتوس الى اللوغوس في اليونان، وفيها بالضبط، لمجتمعات سابقة.

الإثنولوجيون الذين يسعون لقياس تأثير ما هو رمزي، في الحياة اليومية للمجتمعات “البدائية”، مؤهلون لمعاينة كون الاعتقاد في أرواح الأدغال لا يحول إطلاقا دون التواجد بكل ثبات في الواقع. هكذا لاحظ عالم الدراسات الإفريقية بيير سميث (1939ـ2001) P.Smith  أن “الأساطير تقيم مع طريقة عالم الإثنولوجي في الاشتغال علاقة متفردة”. إذ عندما يصيغ الأسئلة “التي تصب في صميم اهتمامه كثيرا” (على سبيل المثال: ما دلالة هذه الطقوس؟) عندها بالضبط يجد نفسه أمام محكيات “أسطورية”.

 أكد الأنثربولوجيون الوظيفيون، الذين ساروا على نهج مالينوفسكي (1884ـ1942) B.Malinowski  على إمكانية التعامل مع خطاب الأساطير بوصفه عنصر تماسك المجموعة، “ميثاقها البراغماتي”. إلا أن بعض الإثنولوجيين الذين اعتبروا الميثولوجيا نسقا صارما من شتى المعتقدات، أرادوا البحث بكيفية مدققة في الكيفية التي تعكس بها الحكايات العجائبية الممارسات الاجتماعية: الطقوس والشعائر والرسومات والأدوات، …الخ. لدرجة جعلت البعض يتكلم، بله يفكر، كما يتكلم ويفكر أفراد القبيلة.

المتوحش والمدجن

ذهب كلود ليفي ـ ستروس، في ستينيات القرن المنصرم، الى القول بحضور “فكر متوحش” و”فكر مدجن” في كل فرد على حدة: يحضر الأول في الأساطير والفن، وهو شيء منطقي، إذ يعتمد في مسعاه على الفصل لا الدمج. أما الثاني الذي يقوده ويوجهه الوعي التأملي فيمارس عمله بصرامة، يفضي لأشكال التحليل التي سينهل منها الطب والخطابة والمنطق والحكمة “الفلسفية”. تحضر في صلب المسعى الأنثروبولوجي لكلود ليفي ـ ستروس فرضية مؤداها أن الأساطير تسعفنا في اكتشاف العمليات الأساسية لاشتغال الذهن البشري على العموم.

يجدر بنا أن نشير أيضا أن “الميثولوجيا، كتبت، في اليونان، بهذا الشكل”. عندما أصبحت ميتو ـ غرافيا2، (mythographie) تغيرت طبيعة المحكيات بأن تخلصت جزئيا من عمل الذاكرة والنقل الشفوي. لكن هيمنة الكتابي لم تحل مع ذلك في أن تخترق مجتمعاتنا المتقدمة تكنولوجيا، خطاباتٌ مجهولة حول أصل الكون.

تدعونا الأنثروبولوجيا المقارنة، التي اهتمت من جديد بدراسة تمثلاتنا الثقافية، لاستخلاص بعض القيم الأساسية التي انكتبت في ذهن أفراد ينتمون لنفس الثقافة. ذهبت بعض الأمم الأوربية، منذ القرن التاسع عشر، الى أحقيتها في الاعتقاد فيما هو “اسطوري” كالهوية الوطنية. سبق لموريس باريس Maurice Barrès أن أعلن أن “بناء أمة، يفترض، بله يستدعي وجود مقابر وتدريس التاريخ”. لنترك الأموات على حالهم إذن، إذ العبرة في التاريخ “الميثولوجي” الذي ستتكفل المدرسة العمومية بالعمل على إخراجه في محكايات مقتضبة وصور مصغرة.

ادعى، منذ عقد مضى، إقليم صغير بإيطاليا يدعى “براداني” أن جذوره سيلتيكية3 celtique تعود لمنطقة البحر السلتي، كما أحدث هذا الإقليم وزارة للهوية الوطنية. ظهرت اليوم الى الوجود مشاريع إحداث وزارة للهجرة والهوية الوطنية؛ إنها هوية تاريخية تطالب بالحق في ” مخيلتها الوطنية”. يمكن الآن للمؤرخ فرنارد بروديل  F.Braudelفي حديثه، سنة 1986، عن ملحمة “هوية فرنسا”، أن يؤكد أن هذه الهوية تعود مباشرة الى العصر الحجري. لحسن الحظ، لم يستجب اليمين المتطرف لدعوته هذه.

أدلجة معاصرة للأساطير

لا أحد يشك في قوة هذه الميثولوجيات المعاصرة في المناظرات السياسية. إننا مسكونون يوميا ب “أدلجة الأساطير”: على سبيل المثال واجب حماية الذاكرة، والاستقلالية …إلخ. تتشكل ما سُمي سابقا “الحكايات الكبرى” من مكونات متفرقة، يعاد باستمرار إدماج الروابط بينها في تشكيلات صغيرة جدا، قد تبلور أحيانا انخراط فئة صغيرة وأحيانا أخرى شعبا بأكمله. بقدر ما يغدو العالم مركبا، بقدر ما نتوق لتفسيرات تشمل كل الظواهر. ما قدمته هو بمثابة خطاطة تمهيدية لتعريف ما هي الاسطورة، بين اليوم والأمس.


 

Qu’est –ce qu’un mythe ?

Marcel Detienne

In Le Point. Hors-série. N :14 Mythes et mythologie.

Juillet-Aout 2007. P7-9

1ـ يقوم التصور الأنيمي على الاعتقاد في وجود أرواح وقوى خفية تحرك الكائنات الحية والظواهر الطبيعية، وفي القول بعباقرة يحمون البشر من الشر.

2ـ تهتم الميتوغرافيا بدراسة الأساطير بوصفها محكيات.

3 ـ يطل بحر السلتيك على جنوب إيرلندا من جهة المحيط الأطلسي.