مجلة حكمة
كيف تقرأ كافكا

كيف تقرأ كافكا (الجزء الثاني)

الكاتبجون أليس
ترجمةبان خليل

هذا هو الجزء الثاني من سلسلة مكونة من جزأين عن الكاتب الذي غيّر نظرتنا تجاه المذهب العقلاني الحديث.

لقد ذكرت في الجزء الأول من هذه المقالة، أن معظم أعمال كافكا تقع في مجموعتين. نجد في الأولى، أن الثقة العمياء بالتفكير المنطقي تقود إلى الفشل، حين تواجه نواحيًا من الحياة لا يمكن للتفكير المنطقي معالجتها. وفي الثانية، تسيء الشخصيات استخدام نماذج السلوك الخاصة بحركة التنوير وتقلبها، حتى حينما تعيش وفقًا لها. ولا يوجد مثال أفضل على المجموعة الثانية من قصة كافكا المشهورة (الحكم-Das Urteil)، والتي تعطينا مثالًا عن سلوك حضاري لطيف ومسؤول يُستخدم للسعي وراء الحقد، الصفة الرجعية التي ما تزال باقية.

يتشكل عالم هذه القصة (الحكم) من ثلاث شخصيات- جورج ووالده وصديقه الذي يعيش في روسيا- لكن كل ما في القصة يعرض من خلال أفكار جورج. وقد كُتب النص بإسلوب كافكا المعهود فيما يتعلق بالتفكير الهوسي، حيث يكرر جورج مرارًا عرض الأسس المنطقية لكل ما يفعله. فيبدأ بمناجاة داخلية طويلة لنفسه، يدور موضوعها حول صديقه؛ فقد كان جورج قلقًا عليه، فقد كان هذا الرجل المسكين فيما يبدو فاشلًا فشلًا ذريعًا على صعيدي العمل والحب. في البداية، يمكن أن يُنظر إلى هذه الأفكار -في ظاهرها- على أنها تأملات لشخص ما يحاول إيجاد طريقة لمساعدة صديقه، لكن سرعان ما تظهر علامات مزعجة على أن ما يحدث هو شيء مختلف تمامًا.

إن جورج لا يتأمل بأسى الحالة المزرية التي وصل إليها صديقه في روسيا فحسب، بل ينغمس في هذا التأمل. فيتساءل كيف سيكتب إليه الرسالة:

"ما عسى أن يكتب المرء إلى مثل هذا الرجل، الذي يتضح أنه حادَ عن الطريق، وهو رجل يمكن للمرء أن يتأسف عليه لكنه لا يسعه ذلك. هل ينبغي للمرء أن ينصحه بالقدوم إلى البيت، لينقل نفسه ويبدأ بصداقاته القديمة مرة أخرى-إذ ليس هناك ما يعيقه- وبشكل عام يعتمد على مساعدة من أصدقائه؟ لكن هذا كان جيدًا بمثابة قولك له، الذي كلما كان بلطف كان أكثر عدوانية، بأن كل جهوده حتى الآن أجهضت". 1 

وهذا يعطينا سلفًا انطباعًا بأن جورج يستمتع بمصائب صديقه، ولا يزداد هذا الانطباع إلّا رسوخًا. فيتخيل جورج صديقه هذا عائدًا الى الوطن، ويتصور كيفية استقباله، إذ يعتقد جورج أنه يجب أن يكون مستعدًا لتلقي نظرات الذهول من الجميع فور رؤيته، وأن يدرك أنه ليس سوى طفل غير ناضج مقارنةً بأصدقائه، والذين هم على عكسه يعرفون ما يفعلون. 

وبعد أن بدأ كلامه بالقول بأن ليس هنالك ما يعيق صديقه من الرجوع إلى الوطن، يعود في الجملة التي تليها مباشرةً، فيشرح بالضبط ما الذي سيعيقه، وهو الشعور بأن اصدقاءه يعاملونه بتعالٍ ويشفقون عليه. فما ظهر في البداية على أنه إبداء لقلق حقيقي تجاه صديق ضال، انتهى بالتحول إلى انغماس في الإحساس بالاعتداد بالنفس وبالسعادة السامة. لقد حوّل جورج الإشفاق إلى سلاح، مستخدمًا لغة التعاطف بغية التدمير وإلحاق الأذى.

لِم يفعل هذا؟ كما سبق وأن وجدنا أن جزءًا من مقصد قصة “الجحر” يكمن في تعارضه الضمني مع قصة أخرى ذات صلة بها وهي قصة “الثلاث خنازير الصغار”، كذلك نجد في “الحكم” تعارضًا معتبرًا مع قصة أخرى وهي “مثَل الابن الضال” (أ)، إذ يذكرنا إلحاح جورج في موضوع الاستقبال الذي سيحظى به صديقه عند عودته لبلده، بما انتاب الابن الأكبر الذي لم يغادر المنزل من استياء، تجاه الترحيب والحفاوة التي حظي بها الابن الآخر الذي تجرأ على ترك طمأنينة المنزل والمغادرة. فجورج هنا هو الابن الذي كانت تعوزه الشجاعة على أن يجرب شيئًا جديدًا بنفسه، وأيضًا من الواضح أنه يخشى أن يُحكم عليه سلبًا إذا ما وضِع في مقارنة مع صديقه. ولذا فهو يستغرق في خيالاته عمّا آلت إليه حال صاحبه من سوء وكم ستكون عودته محرِجة.

يستمر جورج بادعائه اللطف والتعاطف، حين يخبر خطيبته بأنه سيخفي عن صديقه موضوع خطبتما وسعادتهما، لأنه لا بد من مراعاة مشاعره. إلا أن انزعاجها من ذلك يقنعه وبسهولة أن يعدل عن قراره، ويخبر الجميع على الفور. والآن يستطيع جورج استغلال فكرة وجوب احترامه لرغبة خطيبته، كذريعة لفعل ما يريده حقًا، لذا فهو يبدأ بكتابة رسالة إلى صديقه، يرشّ فيها ما استطاع من الملح على جراحه المتخيلة. ففي الرسالة حِرص على ذكر أن خطيبة جورج من عائلة غنية، وأنه سيكسب فيها صديقة جديدة، “وهذا لا يخلو من أهمية بالنسبة لعازب”. 1 وفي هذا معنى ضمني لضرورة أن يحظى صديقه بعلاقات مهمة، إذ بدونها سيكون غريبًا وشاذًا عن المجتمع. إن رسالة جورج مليئة بالإساءة والتعالي والرغبة في المنافسة، لكنها جميعًا مكسوة برداء من اللطف. فالجانب المظلم من الطبيعة الإنسانية لم يُدحر، بل كل ما في الأمر أنه وجد طرقًا جديدة ليعبّر عن نفسه. لذا من الآن فصاعدًا، إن أردت تدمير منافس ما، وجب عليك استخدام الصفات الفاضلة لتحقيق ذلك؛ فهي تساعدك على تبرير فعلتك. فحينما أراد جورج مفاتحة صديقه في أمر ارتباطه بامرأة غنية، فإن ما فعله ببساطة هو أنه كرر ذِكر أمر ارتباط أشخاص آخرين، لعدة مرات في رسائله، حتى أظهر صديقه اهتمامًا بالموضوع، وبهذا تكون الخطوة التالية أسهل بكثير. لكن الحقيقة القابعة خلف هذا كله، هي أن اختيارات صديقه في حياته والتي كانت أكثر جرأة من خياراته، تركت فيه شعورًا بالنقص والفشل والحنق؛ مما جعله يرغب في تدميره.

ثم تنضم شخصية أخرى –والد جورج- إلى القصة، إذ يدخل عليه جورج ليعرض مجددًا سلسلة أفكاره الهوسية عن صديقه. فيجيبه والده باعتراض صغير: “هل لديك حقًا هذا الصديق في سان بطرسبيرغ؟” 1، هنا، جعلت بساطة السؤال المقصد غامضًا، فقد يكون سؤال الأب حول وجود هذا الرجل من الأساس، او قد يكون سؤاله فيما لو كان صديق جورج حقًا. إلا أن جورج يدرك المعنى الأكثر جوهرية، وهو أن والده في الحقيقة يشكك بالطريقة التي يصوّر بها وضع صديقه. لذا يشكّل الوالد الآن تهديدًا للعالم الذي شيدّه جورج بعناية داخل عقله، ليحمي نفسه من مشاعر النقص وانعدام الكفاءة.

ما حدث بعد ذلك كان لافتًا للنظر، إذ جرت مبارزة لفظية بين الإثنين. استخدم فيها جورج من جانبه أسلوب التظاهر، فادعى الاهتمام بوالده والقلق عليه؛ لكن من المفترض أن ندرك الآن بسهولة، أنه في الواقع يفعل ذلك للتقليل من شأن الوالد ومحو تأثيره. أما على الجانب الآخر، فنجد الأب لا يستخدم سوى الأسلوب الواضح والمباشر والدقيق في عباراته. ومع أن أي من الطرفين لم يكن عدوانيًا على نحو بارز، إلا أن النزال يصبح مميتًا.

كانت المناورة الدفاعية التي استخدمها جورج في الرد، تماثل أسلوبه في التعامل مع التهديد الذي يراه في صديقه. إذ قال: “فلندع أصدقائي وشأنهم. فألف صديق لا يعوّضني عن والدي. هل تعرف ما أفكّر به؟ إنك لا تهتم كثيرًا بنفسك. ولكن لا بد من الاهتمام بالشيخوخة. لا أستطيع أن أعمل من دونك في هذا العمل التجاري، وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة، ولكن إذا كان العمل سيقوض صحتك، فأنا مستعد لإغلاقه غدًا إلى الأبد. وذلك لن يفلح. علينا أن نقوم بإجراء تغيير في طريقة معيشتك. ولكن تغيير جذري…. سوف أضعك في السرير الآن لبعض الوقت، فأنا على يقين من أنك بحاجة إلى الراحة.” 1 

كانت لغة جورج اثناء كلامه هي لغة من يكنّ الحب الشديد لوالده، لكن الغرض الحقيقي منها هو احتواء التهديد، المتمثل في أن يستشف والده من تصنّعه حقيقة منافسته الهدّامة، ثم يوجه الوالد ضربة للأساس الذي بنى عليه جورج واقعه المزيف، فيرد على خطابه الهوسي الطويل بإيجاز قاتل، قائلًا: “ليس لديك صديق في سانت بطرسبيرغ.” 1  

جعلت العبارة الموجزة التي نفذ بها الوالد هجمته المضادة جورج ينتهي إلى محاولة أخرى لدعم الواقع الزائف الذي اختلقه، بإضافة تفصيل صغير من تاريخ والده مع ذاك الصديق من بطرسبيرغ. فيخبره بأنه-أي الوالد- لم يحب صديقه قط. وكم شعر جورج بالفخر، حين حاول والده بالرغم من كل ذلك أن يكون ودودًا معه، طوال الفترة التي كان فيها ينزع عن والده ثيابه لتهيئته للنوم. لقد تمكّن جورج سابقًا من احتواء التهديد الذي يراه في صديقه الجريء، وذلك بتصويره كفاشل، وهو الآن يحتوي التهديد الذي يراه في والده وذلك بمعاملته كطفل.

ويستمر الجدال، فيسأله والده مرتين: “هل أنني مغطى جيدًا؟” 1 ويجيب جورج، “لا تقلق، أنت مغطى جيدًا”.1 ومرة أخرى، فإن معنى الحوار ليس كما يبدو. إذ لو تُرجم الحوار من لغة الابن البارّ إلى لغة الصراع المحتدم بين الاثنين بالفعل، عندها سيتغير المعنى جذريًا. فكأن والده يقول ساخرًا: “إذن، فأنت تعتقد أنك قد أحكمت سيطرتك عليّ؟” وتأتي إجابة جورج بالتمني أن: “نعم، لقد فعلت”. لذا حين يصرخ والده فجأة: “كلا”، ويبعد الأغطية بعنف، ثم يقف منتصبًا؛ فإن هذا يمثل رده على المعنى المبطن لحوارهما معًا.

عند هذا الحد، يتخلى جورج عن شرنقته الواقية، التي نسجها من الكلمات، ويبدأ بالتحدث بإيجاز وواقعية. إذ يفهم عندئذٍ، أن محاولته لمجابهة خطر والده بمعاملته كرجل مسن عاجز، قد باءت بالفشل. ثم يقرّ لنفسه بحقيقة ما يحدث: “قبل وقت طويل قرّر بقوة أن يراقب عن كثب كل حركة من أجل أن لا يتفاجأ بأي هجوم غير مباشر، انقضاض من الخلف أو من الأعلى” 1. لقد علم منذ البداية أن بيت الورق الذي بناه، كان ضعيفًا ومعرضًا للدمار، وأن والده سيشكّل خطرًا عليه. فلم يبقَ لديه سوى تصور واحد أخير، فيتخيل بأن والده سيحلّ هذه المشكلة عبر تدمير ذاته، إذ يفكر: “الآن سوف يميل إلى الأمام…. ماذا لو سقط وحطّم نفسه!” 1

يبدأ والده النطق بالحكم قائلًا: “كم من الوقت تستغرقه لكي تكبر! كان على أمك أن تموت، فهي لم ترَ يوم السعد” 1. لتأتي إجابة جورج واضحة ومباشرة دون مراوغة او عداوة مبطنة: “لذلك فأنت قد تتربص بي!” 1؛ فهو يعرف الآن بأن والده قد علم دومًا بجميع افعاله.

ويستمر الحكم:

"إذن الآن أنت تعلم ماذا يوجد هناك في العالم إضافة إلى نفسك، حتى الآن أنت لا تعرف إلا عن نفسك! طفل بريء، نعم، هكذا كنت، حقًا، ولكن الذي ما يزال أكثر صدقًا هو أنك كائن شيطاني إنساني! - ومن ثم اعلم الآن: أنا أحكم عليك الآن بالموت غرقًا!" 1.

يسلّم جورج بعدالة هذا الحكم، ويهرع لتنفيذه بأن يقفز من على جسر. ماذا يعني شعوره بأنه مجبور على فعل ذلك؟ إنّ شيئًا يتجاوز المنطق قد تدخّل هنا. إنّ لإدانة الوالد بأكملها قوة هائلة، فهي حكم عاطفي بالموت. وحين قفز، اختُتمت القصة بالعبارة الآتية: “عند هذه اللحظة، كان سيل مستمرّ من السيارات يمرّ فوق الجسر.” 1 

ماذا تعني الجملة الختامية بالنسبة للقصة ككل؟ إنها تعني أن عالمًا كاملًا من الأحداث كان يجري خارج وعي جورج، فهو معزول عن هذا العالم الخارجي بشخوصه وتفاصيله، لأنه يعيش في عالمه الخاص، المكون من أفكاره الأنانية والهوسية.     

(فنان الجوع- Ein Hungerkünstler) وهي قصة أخرى من قصص كافكا، حيث يفشل التفكير العقلاني. تتحدث القصة عن رجل يجعل الصوم شكلًا من أشكال الفن، فهو يجلس صائمًا داخل قفص ذي قضبان، ليُعرض على الجمهور خلال النهار، وخلال الليل يُراقب من قبل حراس محترفين. كانت هذه هي الطريقة التي يأمل من خلالها فنان الجوع هذا أن يهَب حياته معنى وهدفًا، وأن يمنحها الاعتبار والشرف. تأخذ محاولات المرء لإضفاء معنى وهدف على حياته أشكالًا عدة تختلف باختلاف الأشخاص، إلّا إن الغاية هي ذاتها عند الجميع. إذ أن كلًّا من الرسامين والباحثين في مرض السرطان يسعون إلى جعل حياتهم ذات معنى عبر الإرث الذي يخلفّوه. وربما تكون تربية الأطفال هي أكثر الطرق شيوعًا للظفر بهذا الشعور، شعور أنك أنجزت شيئًا مهمًا في حياتك وأنه سيبقى حتى بعد رحيلك. لكن في القصة هذه، يختار كافكا طريقة لإعطاء معنى للحياة، لم يرها على هذا النحو سوى القليل، ألا وهي: الصوم. وتبدو هذه الطريقة تعبيرًا سخيفًا عن الفكرة، ولكن كافكا قصد ذلك لأن لديه ما يقوله بشأن الفكرة ذاتها.                  

لا شك أن الصوم يُستخدم أحيانًا لأغراض دينية وسياسية (ب)، لكن بالنسبة لفنان كافكا فإنه يعتبر ذلك مهينًا لفنه، لأنه يطلب الصوم لذاته لا لغرض آخر. يعطي كافكا فنان الجوع خاصته جميع عادات الكلام والأفكار، التي نجدها عند مهووسي تحقيق الإنجازات المألوفة أكثر في الحياة الواقعية، مثل متسلقي الجبال، وسباحي القناة الإنجليزية، والفنانين، وعدائي المسافات الطويلة…الخ. فهو يتكلم بلسان هؤلاء جميعًا، لذا نراه يغضب إن طعن أحدهم بنزاهة ما يفعل، ويبدي رفضه وازدراءه إزاء استخدام فنه بشكل تجاري، وإزاء أي فكرة تشير إلى فنه على انه صرعة او موضة. وهو يتكلم مدفوعًا بحماسي داخلي للإنجازات العظيمة، ويؤمن أن باستطاعته تحقيق رقم قياسي في الصوم، من شأنه أن يذهل العالم.

إنّ جلّ ما يهمه هو نزاهته كفنان، لذا فهو يغضب حين يرى المراقبين لا يأخذون عملهم –الذي هو التأكد من انه لا يزيف صومه، فيأكل سرًا- بجدية. ففي بعض الأحيان يلعبون الورق، وبالتالي يصبحون مشتتي الانتباه، فلا يمكنهم ضمان صحة صومه.  

قد تبدو غاية كافكا وهو يمنح فنان الجوع كافة لوازم الشخصيات ذات الإنجازات الحقيقية، هي أن يجعله موضع سخرية؛ لكن هذا بالضبط عكس ما يريد. فهو في الحقيقة يستخدم فنان الجوع ليضع كل الهوس المتعلق بالبحث عن المعنى والهدف تحت المجهر. إنّ الجميع على دراية بالإجابة التي يعطيها متسلقو الجبال حين يُسألون عن سبب تسلقهم الجبال، والتي تسد الباب أمام أي سؤال آخر بعد ذلك، فيقولون: “لأنها موجودة هناك”. وفي هذه الجزئية، هم يُظهرون صراحة استثنائية. أما قصة كافكا فإنها توضح ذات المقصد ولكن بعبارات أعمّ وأكثر شمولًا، إذ يقول الراوي: “حاول فقط أن تشرح فن الجوع لأحد ما”، “إن لم يستطع المرء الشعور به-أي الجوع-، فلن تتمكن من إفهامه الأمر”. في الواقع فإن هذه الإجابة أفضل من إجابة متسلقي الجبال تلك، “لأنها موجودة هناك”، كونها تنطبق على جميع أنواع الطموح الهوسي الموجود في حياة الإنسان.

لكن هل يُعد فنان الجوع مجرد صورة كاريكاتورية لفكرة السعي من أجل التفوق؟ إن كان كذلك فهذا يعني أن بالإمكان إيجاد سمات معينة فيما يفعله، تفرّقه عن بقية المهووسين بتحقيق الإنجاز. وهذا أمر يصعب فعله. فهل ما يفرّقه عن المهووسين الحقيقيين هو أن ما يفعله بلا أي هدف على الإطلاق؟ لكن هذا بالتأكيد لا يختلف عن ما فعله الرجل الذي تسلّق مؤخرًا المنحدر الصخري الحاد (إل كابيتان El Capitan) في وادي يوسيميتي، دون استخدام أي معدات للتسلّق. أم أنه مجرد نرجسي يحاول لفت الانتباه؟ لكنه يشترك في هذا مع البقية بدرجة كافية ايضًا. أو هل يكون تعريض صحته للخطر بلا داعٍ هو الفارق؟ إن دونالد كامبل-Donald Campbell قد فقد حياته اثناء محاولته تحطيم الرقم القياسي في السرعة على الماء(ج) عام 1967؛ وكانت هذه مخاطرة لا داعي لها؛ سوى عند من يهمهم الرقم القياسي في السرعة على الماء.

ارادت الحركة التنويرية أن تُخضع كل ما في حياة الإنسان إلى العقل والمنطق. لكن ما تدور حوله قصة كافكا هو حقيقة أننا لا نرى المنطق تقريبًا في واحد من أهم المجالات في حياة الانسان وهو محاولة إعطاء معنى لهذه الحياة. قد يضع الناس الايمان في محاولاتهم هذه او الالتزام بل وحتى الهوس، لكن ليس المنطق. إن مساعدة الآخرين تبدو وكأنها خيار عقلاني، كما أنها بالتأكيد تتسبب بالشعور بالرضا؛ لكن هذا يحدث فقط لأنها تحوّل السؤال الأساسي عن المعنى في حياة الانسان إلى الشخص المقابل-أي الذي نساعده- إذ تفترض أن من نساعده يملك معنى ما لحياته. فإن لم يكن الحال كذلك، فما الذي حققناه؟ 

في نهاية القصة، يضيف فنان الجوع درجة أخرى من التشكيك تجاه الهوس والانجاز، فيعترف بأنه لم يجد مطلقًا أي طعام يمكن أن يعجبه. ثم تضعف صحته شيئًا فشيئًا حتى يموت، لكنه كان منسيًا قبل ذلك بوقت طويل، فلا إرث لديه على أي حال. وفي المقطع الأخير من القصة، يُنظف قفص فنان الجوع ثم يُدفن. ليحل محله نمر صغير، يمثل الحياة والصحة. وقد بدا أن هذا الحيوان يحمل حريته معه طوال الوقت، وبهجة الحياة تتدفق من بين فكيه. لِم اختُتمت القصة بهذا المشهد؟ من المؤكد أن القصد هنا هو أن الانسان هو الوحيد الذي يزعج نفسه بمسألة إيجاد المعنى لحياته؛ في حين أن النمر يتمتع بصحة ممتازة كونه لا يمتلك هموم كهذه. وبالطبع فإنه نقيض فنان الجوع تمامًا، كونه مفعم بالحيوية والاشراق ومغذّى بشكل جيد. إن هذا الطموح الهوسي يستنزف حياة صاحبه المتضور جوعًا، أما ذلك المخلوق الذي كان بمعزل عن كل هذا القلق الإنساني المحض، فقد كان ممتلئًا بالحياة والجمال.      

إن رواية كافكا (المحاكمة-Der Prozess) هي قصة رجل يدعى جوزيف ك، والذي يُستدعى إلى المحكمة، لكنه لا يعرف مطلقًا ما التهمة المسندة إليه. هذا العمل هو الأكثر ارتباطًا بالوصف (كافكاوي-Kafkaesque)، ويحتمل أن ذلك يعود إلى الطابع الغامض الذي اتسمت به إجراءات قانونية هي أساسًا غير مفهومة. ومرة أخرى يكون موضوع حدود العقل جزءًا من الرواية، إذ نعتقد أن القانون هو كيان عقلاني بامتياز، لكنه في (المحاكمة) ليس كذلك. إذ يتآكل شيئًا فشيئًا ما يُفترض به أن يكون كيانًا عقلانيًا، بفعل التدخلات العشوائية من جانب الطبيعة البشرية المضطربة.

يبدو أن ما يستنتجه الكثير من القرّاء من رواية المحاكمة هو أن هنالك مؤامرة خفية وشريرة تحاك ضد ك وهو شخص سيء الحظ محاصر من قبل قوى لا يدرك كنهها. لكن لو دققنا النظر في ما يحصل فعلًا لوجدنا أن هذا ليس موضوع الرواية الرئيسي. فالرجلان اللذان جاءا لاعتقاله لم تكن لديهما أي فكرة عن سبب قيامهما بذلك، ويبدو أن الأمر الوحيد الذي يثير اهتمامهما هو تناول فطور ك، والذي التهماه بتلذذ. أما ك فتصرف كما قد يفعل أي شخص عاقل وقال لهما: “ها هي أوراقي الشخصية، فهل لي أن أطَّلع الآن على أوراقكما، وقبل كل شيء على أمر الاعتقال”.2 لكن لم يبالِ أي منهما بتصرفه العاقل هذا، بل قالا له: “أتريد بهذا أن تضع لمحاكمتك العظيمة واللعينة نهاية سريعة، بأن تناقش معنا نحن الحراس أوراق إثبات الشخصية وأمر الاعتقال؟ نحن مستخدمون صغار نكاد لا نعرف ما هي ورقة إثبات الشخصية، ولا علاقة لنا بمسألتك، سوى حراستك عشر ساعات يوميًّا”. 2 

مع أنه لا توجد إشارة هنا لأي قوة منطقية ومؤذية تقف وراء هذا الأمر، إلا أن مشكلة حقيقية تبرز على السطح، إذ سيصعب على ك اختراق الحشد العظيم من الأفراد العاديين والجهلاء وغير المبالين، الذين يحولون بينه وبين المنظومة القانونية والتي تبدو في ظاهرها عقلانية. يُطبق القانون بواسطة مجموعة هائلة من المستندات والإجراءات القانونية، كالمذكرات وقرارات المحكمة والأدلّة وأخيرًا تحقيق العدالة. ولكن يقف بين ك وهذا كله عدد كبير من الناس الذين ينصب جلّ اهتمامهم على الشأن اليومي والآني، كتناول الفطور وكسب العيش. فلا يبدو أن لعظمة القانون تأثير ما على هؤلاء، ولكنهم مع ذلك يلعبون دورًا مهمًّا في تطبيقه. لذا يمكنهم أن يكونوا غافلين او جائعين او أن يشعروا بالملل او التعب، لكن لا يمكنهم أن يكونوا تجسيدًا للمفاهيم المنسوبة للقانون. 

لاحظ ك شخصًا ثم اثنين فثلاثة من المنزل المقابل وقد تجمّعوا أمام نوافذهم لمراقبة ما يجري. فشتتوا بذلك ك، تمامًا مثلما تشتتوا هم أنفسهم بزيارة الحارسين. إذن ماذا يضيف هؤلاء إلى قصة كافكا؟ إنهم ببساطة أناس يشعرون بالفضول تجاه حدث غير عادي. فهم ليسوا مهتمين بشأن عدالة ما يحدث. بل في الحقيقة لم يتخذوا أي موقف تجاهه. يتوقع القارئ عند الحديث عن الإجراءات القانونية، أنه سيجد فروقًا دقيقة وتفسيرات محددة؛ لكننا نجد عوضًا عن ذلك الفوضى المعتادة: المتطفلون الفضوليون الذين سئموا من حياتهم، والحارسان المهملان في عملهما. فجميعهم لا يملكون أدنى فكرة عن ما يجري أو عن سببه، وهذا سيشكّل الأساس لنمط سيتكرر بعد ذلك.

أُبلغ ك أن عليه الحضور إلى المحكمة يوم الأحد القادم، لكنه لم يُبلّغ في أي ساعة تحديدًا. كما أنه أُعطي عنوان المبنى، لكنه لم يعرف في أي غرفة من ذلك المبنى. في العادة يكون للمحكمة مبنى مخصص لهذه الوظيفة لا غير، ويُصمم بحيث يكون له مظهر مهيب وفخم، وذلك بقصد أن يخلق شعورًا بالرهبة والإجلال أمام عظمة القانون. لكن المكان المطلوب من ك الذهاب إليه، لم يكن سوى مبنى سكني، ولا توجد أي إشارة عن مكان المحكمة داخل هذا البناء. لذا قام ك بطرق أبواب الشقق لعله يعرف أين هي المحكمة، حتى وصل في النهاية إلى الطابق الخامس وطرق على باب شقة، ففتحت الباب امرأة، وأشارت إلى الباب المجاور المفتوح. فبدلًا من أن تتفرّد المحكمة عن سائر الأبنية بمنظرها المهيب تأكيدًا على خصوصية المكان، نرى هذه المحكمة وهي تتوارى بين المساكن العادية. إذ أن الغرفة التي كان يُفترض بها أن تكون محكمة، لا تشبه المحكمة في شيء. وتتألف خلفية المشهد الذي تجري فيه احداث محاكمة ك من حشد متمرد من جميع أصناف البشر، فتقوّض بذلك هيبة القانون وجديته. حتى أن اتصالًا جنسيًا حدث فجأة في إحدى الزوايا حيث تجمع حوله جمع من الناس. لقد وُضعت المحاكمة في سياق الحياة اليومية، فكانت فوضوية مثلها تمامًا. 

يقابل ك تاجرًا في أثناء تحقيقه في أمر محاكمته، فيخبره صراحةً بالتفاصيل المؤلمة لما يحدث عند طلب العدالة: “عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أن كثيرًا من الأمور في هذه المحاكمة يتكرر الكلام فيها، إلى حد أن العقل لا يعود يتسع لها، فالإنسان يكون ببساطة في غاية التعب وباله مشغول بأمور شتى، وعلى سبيل التعويض يلجأ المرء إلى الخرافات”. 2 والأسوأ من ذلك هم موظفو المحكمة، إذ يبدو أن أجواء المحكمة قد أضرّت بهم، فهم معتادون على هواء المكاتب الفاسد، لدرجة أن نسمة هواء منعشة آتية من السلّم يمكن أن تزعجهم.   

عنوان الرواية بالألمانية هو (Der Prozess)، ويُترجم عادةً إلى (المحاكمة)، لكنه قد يحمل معنى أوسع يمتد ليشمل الإجراءات القانونية، وهذا بلا شك أحد أوجه فهم الرواية. فكل ما وجدناه هو شرح مسهب لإجراءات طويلة، وليس محاكمة حقيقية. وخلال هذه الإجراءات نجد أن كافكا قد كرر فكرة وجود نظام شديد العقلانية، يتآكل تدريجيًا وتُطمس ملامحه، على يد أناس يمكن صرف انتباههم بسهولة عن وظيفتهم الأساسية نحو أمور ثانوية.    

لعل رواية المحاكمة لم تكن أفضل ما كتب كافكا، وذلك لأننا حين نقارن بين مواقفه الفريدة والاستثنائية كموقفه من العقلانية والاحتراز في قصة الجحر، وموقفه من فكرة إيجاد هدف لسعي الإنسان في قصة فنان الجوع، وبين الأفكار التي تضمنتها رواية المحاكمة، نجد أن الأخيرة مألوفة أكثر. ففكرة تصادم العنصر البشري مع النظريات القانونية المجردة، هي فكرة شائعة ومعروفة بين من يتأملون على سبيل المثال، كيف يتخذ أعضاء هيئة المحلفين قراراتهم. لكن قد تكون المسألة المحورية في الكتاب هي أن ك لم يعرف أبدًا ما التهمة المنسوبة إليه، و “مع جهل ك بمضمون الاتهام القائم واحتمالات توسعاته، كان عليه أن يستعيد إلى ذاكرته حياة بكاملها بأصغر تفاصيلها وأحداثها ويستعرضها ويمحصها من جميع الزوايا”2، ما يقوله كافكا هنا هو كلام دقيق ومدمر. إذ إنه لأمر مرعب أن تخضع لمحاكمة دون تهمة محددة. ومع ذلك فهو مألوف جدًا عند من لديهم إطلاع على تاريخ المحاكم في المجتمعات الناطقة باللغة الإنجليزية. إذ كان ذلك هو النهج المتّبع في (الحجرة النجمية) (د) سيئة السمعة في إنجلترا في القرن السابع عشر، وقد فهم منتقدوها ما الذي جعلها بهذا السوء، فصاغوا آراءهم مستخدمين عبارات شبيهة بتلك التي استخدمها كافكا. 

في قصة “في مستعمرة العقاب- In der strafkolonie” تظهر القيم التنويرية مرة أخرى مقلوبة رأسًا على عقب، لكن هذا يحدث بطريقة مختلفة نوعًا ما عمّا رأيناه حتى الآن. هنا تختلط القيم مع نقائضها باستمرار، ونتيجة لذلك، تظهر هذه القيم وكأنها تشير إلى معاني متعارضة في الوقت نفسه، لأنها تحوي غموضًا جوهريًا يبلغ حد التناقض.

يدور موضوع القصة حول جهاز لتنفيذ حكم الإعدام بحق المساجين بطريقة تناسب جرمهم. ولهذا الجهاز أساس عقلاني، إلا أنه أكثر قسوةً وإيلامًا من الإعدام رميًا بالرصاص مثلًا. ومع ذلك فإن الأساس العقلاني للجهاز هو ما يجعله مصدر فخر وبهجة بالنسبة لضابط معين داخل تلك المؤسسة العقابية. وقد اخترع هذه الآلة قائد المستعمرة السابق، لذا فهي تمثّل إرثه. وتظهر هنا الإشارة إلى ماضٍ غير مستنير. في حين أن القائد الجديد يبدو متشككًا بشأن الآلة، وهذا ما جعل الضابط يخشى من أن يُتخلّى عن استخدامها قريبًا. 

تبدأ القصة بمستكشف يزور مستعمرة العقاب فيؤخذ بجولة لرؤية المكان مع إيلاء اهتمام خاص بالآلة. ويخشى الضابط أن يكون الأمر مكيدة من تدبير القائد من أجل أن يُبدي المستكشف نفورًا من مرأى الآلة، وبالتالي تكون الفرصة مواتية لإيقاف العمل بها. يتضح هنا نظام القيم المضمّن في القصة، وهو أن الماضي البربري والوحشي للآلة مع الضابط المؤيد لها مهددان بالإقصاء على يد المستقبل التنويري والمتمثِّل بالقائد الجديد والمستكشف.

ومع ذلك لا تجري الأمور على هذا النحو في الواقع؛ وذلك لأن هذين النظامين من القيم المتعارضة يختلطان بعضهما مع بعض باستمرار. فالمشكلة الأولى هي أن أسلوب الكلام المثالي والمتفائل يأتي من الجانب الخطأ-أي من الضابط. فهو يعدّ تلك الآلة شيئًا مدهشًا. إنّها تكتب الجريمة التي أُدين بها الرجل على ظهره، ويرى الضابط في هذا جمالًا وعدالة، بحيث أن المدان نفسه سيفهم ذلك؛ إلا أنها كتابة لا يُستخدم فيها الحبر، بل الإبر، فهي تخترق جسد المدان لتكتب عليه.        

وكان الضابط مفتونًا بتصميم الآلة المتقن، (ونجد هنا مرة أخرى فكرة مستمدة من قصة “الجحر”، مع إشارة إلى أن التفكير العقلاني قد يخرج عن مساره نحو اللاعقلانية). لا يخفى على القارئ مدى وحشية هذه الآلة، غير أن أسلوب الضابط في وصفها يتسبب في افساد مفهوم الحركة التنويرية الرئيسي وهو: أن التفكير العقلاني مع المعرفة يجعلاننا بشرًا أفضل. وبالتالي نصبح أكثر قدرة على إدراك قضايا أخلاقية جدية وعلى التصرف بلطف وتهذيب. ولكن يظهر أن الحال هنا مقلوب، لأن الضابط هو من لديه العديد من الخصال الحميدة. فهو مخلص للقائد القديم، ومتفانٍ في سبيل القضية، ويصدق في تفانيه هذا، كما إنه يقدّر التكنولوجيا، وكان متفهمًا وصبورًا في اثناء شرحه لطريقة عمل الآلة بعناية فائقة، بالإضافة إلى أن لديه حسًا أخلاقيًا، لا يبدو أنه لدى أي أحد آخر، خاصةً المستكشف، كما سنرى فيما بعد. وقد اقترب تفانيه في قضية الآلة من أن يكون دينيًا، حتى وصل اخيرًا لدرجة التضحية بنفسه في سبيلها.    

فيصعب مع كل هذا ملائمة الضابط لدور الرجل البربري غير المستنير، الذي أرادت له القصة في خطوطها العريضة أن يلعبه. وما يجعل الأمور أسوأ أن المستكشف هو الآخر لا يلائمه الدور المسند اليه، أي دور من يأتي بأساليب تنويرية. إذ بدًلا من أن ترعبه وحشية الآلة، وهو رد الفعل الملائم لدوره في القصة؛ نراه وقد ضجر من الأمر برمته. “لم يعر المستكشف اهتمامًا كبيرًا للجهاز وسار جيئة وذهابًا خلف السجين بلا مبالاة واضحة تقريبًا”. 3 فقد كان أكثر اهتمامًا بحقيقة أن الملابس التي يرتديها الضابط والرجال الآخرون، ثقيلة بالنسبة للمناطق الاستوائية. 

وبالتأكيد فقد انقلب موقف المستكشف من الآلة إلى الضد، ما إن فهم ما تفعله حقًا، إلا أن رد فعله هذا كان ضعيفًا بوضوح. فهو لم يرضه شرح الضابط، هكذا فكّر، لكن “كان عليه أن يذكّر نفسه بأن هذه هي على أي حال مستعمرة عقاب حيث تكون هناك حاجة إلى تدابير غير عادية وضرورة تطبيق النظام العسكري إلى الآخر”.3 وهو يحاول هنا أن يجد سببًا يمنعه من التدخل في ما يحدث.

يستخدم المستكشف فكرة احترام الثقافات الأخرى كذريعة للتقاعس عن التدخل، وتعتبر هذه الفكرة إحدى السمات المميِزة للحركة التنويرية؛ وإحدى مزالقها أيضًا، “فكر المستكشف في نفسه: إنها دائمًا مسألة حساسة أن تتدخل بشكل حاسم في شؤون الآخرين. فهو لم يكن عضوًا في المستعمرة الجنائية ولا مواطنًا في الولاية التي تنتمي إليها تلك المستعمرة. ولو قيّض له أن يندد بتنفيذ الإعدام أو في الواقع أن يحاول وقف ذلك، لقالوا له: أنت أجنبي، اهتم بأمورك فقط”.3 

من الواضح أن المراد من المستكشف هو أن يصبح الحكَم الأخلاقي، غير أن هذا لن ينجح، إلا لو كان صوت الإنسانية الشاملة، التي تتجاوز حدود منطقة معينة. وقد بدا متسامحًا، لكنه تسامح من لا يريد اتخاذ أي موقف من شأنه أن يعقّد حياته. فهو موقن بأن الآلة لا إنسانية، وبأن الإجراءات القضائية جائرة، ومع هذا فحين يُراد منه دعمها وتأييدها نجده يراوغ دون رفض صريح. 

ويحاول الضابط فرض موقفه الأخلاقي وذلك بأن يتوسل إلى المستكشف كي يدعمه في ذلك، لكن الأخير لا يستجيب. ثم يحاول معه مجددًا فيحصل على النتيجة ذاتها. واخيرًا يفهم الضابط سبب اللّبس الحاصل في منظومة القيم الخاصة بهذا المستكشف الأوروبي فيقول: “أنت مقيّد بطرق التفكير الأوروبية، ربما تعترض من حيث المبدأ على عقوبة الإعدام بشكل عام…. صحيح أنك رأيت وتعلمت أن تقدّر خصوصيات العديد من الشعوب، وعليه فإنك من المرجح لن تتخذ موقفًا متشددًا ضد إجراءاتنا، كما قد تفعل في بلدك.” 3 ما أدركه الضابط هنا هو أن أوروبا التنويرية تتبنى رأيين متعارضين في الوقت نفسه، فمن جانب نجد تسامحها الثقافي، أي أن جميع الثقافات جديرة بالاحترام؛ لكن من جانب آخر نجد أن لديها قناعة راسخة بأن مذهبها الأخلاقي هو الوحيد الصحيح. (وبخلاف ما يعتقد معظم الناس، فلَم ينشأ هذا التعارض نتيجة الصوابية السياسية (ه) الحديثة-Modern Political Correctness).

يستمر المستكشف في اختلاق الاعذار كي لا يُلزم نفسه بأي موقف تجاه ما يحدث، فيخبر الضابط بأنه لا يملك تأثيرًا على القائد وبالتالي ليس بإمكانه مساعدته أو إيذائه. وحين بدأ الضابط بالتدرب بصوت مسموع على مشهد انتصاره المتخيل في حال وقف المستكشف في صفه علنًا ضد القائد؛ حينها فقط يقول المستكشف اخيرًا: “إنني لا أوافق على إجراءاتك.” 3 لكنه حتى هنا سرعان ما ارتدّ إلى موقف أكثر حيادية بأن أخبر الضابط بأنه قد أُعجب بإيمانه الصادق، ومن ثمّ فإنه لن يعلن رأيه على الملأ؛ بل يخبر القائد به على انفراد.    

إنّ ما أعقب ذلك بلغ أعلى مستويات العبث بالنسبة لكلا الشخصيتين. فقد تهيأ الضابط لتقديم عرض أخير على الآلة احتفالًا بها، وذلك بالتضحية بنفسه على مرقدها. في حين كان المستكشف يحدّث نفسه بأنه: “لم يكن لديه الحق في عرقلة الضابط في أي شيء. وإذا كانت الإجراءات القضائية التي رعاها الضابط توشك من نهايتها…. عندئذٍ كان الضابط يفعل الشيء الصحيح؛ ومن موقعه ما كان المستكشف ليتصرف خلاف ذلك.” 3

في بداية قصة “في مستعمرة العقاب” نرى أنه قد أُسند لكل من الشخصيتين الرئيسيتين دور يمكن للقارئ معه أن يتكهن بسلوكهما. فأولًا هنالك الجلّاد المتوحش والسادي ذو العقلية المتخلّفة، وثانيًا يوجد الصوت المعبّر عن أزمنة تنويرية مقبلة تكون أكثر تحضّرًا وإنسانية. المشكلة هنا أن كافكا جعل سلوك الشخصيتين يتناقض مع الدور الذي يلعبانه. فقد كان الضابط شخصًا مثاليًا وعقلانيًا وذا سلوك مسؤول، كما أنه صاحب مبادئ؛ في حين أن المستكشف كان نقيض ذلك تمامًا فهو عديم المبادئ وأناني ومهمل في أداء واجبه. في نهاية القصة وبينما كان المستكشف على وشك الركوب على متن السفينة التي ستبعده المؤسسة العقابية الغريبة، فإذا بالجندي البسيط الذي كان مرافقًا للضابط وبصحبته الرجل الذي حُكم عليه بالإعدام على الآلة، يهبطان سلّم السفينة مسرعين كي يتمكّنا من الهروب معه. لكنهما يُقابلان بمقاومة شرسة من جانبه، “وهمّا بالقفز إلى القارب، لكن المستكشف رفع حبلًا ثقيلًا معقودًا من داخل القارب، وهددهما به، وهكذا منعهما من محاولة القفز.” 3 لذا فإن الذي ساد وانتصر أخيرًا بعد انتهاء الصراع القائم بين منظومتين أخلاقيتين، هو دافع أقدم بكثير من أي منهما، إنّها غريزة البقاء.      

وكنتيجة لانقلاب المبادئ التنويرية رأسًا على عقب، نجد في القصة أن الشخص الذي يتصرف بعقلانية ووفقًا لمبادئ معينة هو الشخص المتسبب بالمعاناة، أما من كان يُفترض به أن يكون المؤسس لعالم أكثر عدالة وإنسانية فقد أُفسد بفعل باعث أكثر قدمًا وأشد سطوةً من أي شيء آخر. وما يزيد الطين بلّة، هو أن التسامح الذي تدعو إليه حركة التنوير ليس سوى غطاءً جديدًا للباعث القديم ذاته. لذا باستطاعة حركة التنوير المحاولة قدر ما تشاء في فرض معايير أرقى وأفضل لسلوكنا، لأنها مهما فعلت فلن تستطيع تغيير طبيعتنا.   

(طبيب ريفي- Ein Landarzt)، وهي قصة قصيرة كقصة “في المعرض” حيث يوضع العالم التنويري جنبًا إلى جنب مع العالم الذي فشل التنويريون في احتوائه وتطويعه. تُفتتح القصة بمشهد طبيب ريفي واقع في مأزق، لأنه يحتاج الذهاب إلى مريض ولكن لا يوجد لديه حصان لجرّ العربة، فحصانه الخاص قد نفق. وفي خضم محنته يركل بابًا لزريبة خنازير مهملة، فيفتحه، ليجد بداخله حصانين ضخمين، يتصاعد البخار من جسديهما، ومعهما رجل يجلس القرفصاء. 

هنا نستطيع سلفًا أن نجد الزوج المألوف من القوتين المتعارضتين، أحدهما متمثّلة بالطبيب، الشخصية المثقفة والعقلانية والعطوفة والمكرّسة ذاتها لمساعدة الآخرين؛ والأخرى هي القوة التي سيستعين بها الطبيب للوصول إلى وجهته، وهي قوة متعارضة معه تمامًا، فهي قادمة من الأعماق المظلمة لمكان قذر وهو زريبة الخنازير. إنها همجية بدرجة خطيرة. فقد يكون الطبيب شخصية عقلانية؛ إلا أن ما سيُسيّر عربته هو قوة بهيمية خارجة من مكان مظلم وكريه، قوة مجردة من الضمير. تحاول المدنية ترويض هذه القوة؛ لكنها لا تستطيع إقصائها أبدًا.  

خرج الرجل -الذي كان بصحبة الحصانين- من الزريبة زاحفًا على قوائمه الأربع. وسرعان ما بدا قرار الطبيب بقبول مساعدة الرجل وأخذ حصانيه، وكأنه تحالف مع الشيطان. بعدئذٍ يجرّ السائس خادمة الطبيب إليه ويعضّ خدها. فيغضب الطبيب أول الأمر، داعيًا السائس بالحيوان، ومهددًا بجلده؛ ثم يعود فيغوص في الحالة التي يتعرض لها التفكير العقلاني المسالم، وهي تجنب إطلاق الاحكام ومحاولة إنصاف المقابل. فيفكر في نفسه قائلًا: إنه غريب، لا أعلم من اين أتى، وهو من مدّ لي يد المساعدة حين لم يفعل ذلك أحد. وهنا اعتقد الرجل العقلاني ذو النية الطيبة، أن العالم بكل ما فيه يشبهه. 

ثم يدفع الطبيب ثمن التفكير المسالم والعقلاني غاليًا، حين يواجه القوة الحيوانية الخالصة. فتهرع الخادمة إلى داخل البيت وتقفل الباب خوفًا من الرجل الذي هاجمها؛ إلا أن الأخير يصفّق، فيندفع الحصانان بسرعة خاطفة، حاملين الطبيب معهما. وفي أثناء عدوهما استطاع الطبيب سماع صوت تحطم باب المنزل، وفكّر في أن الفتاة تُركت هناك بلا حماية، تحت رحمة ذلك المخلوق. والآن خرجت حياة الطبيب عن السيطرة، وفي لحظة توقفت عربته أمام منزل المريض. وهنا قهرت القوى غير المتحضرة الرجل المتحضر، لأنه رفض أن يفهم طبيعتها، مع أنه هو من حرّرها بنفسه. 

وحينما يدخل الطبيب غرفة المريض، يدفع الحصانان النوافذ، ويدخلان رأسيهما منها، فيسيطران بذلك على المشهد. المريض شاب، ووقفت عائلته تراقب الطبيب وهو يعاين حالته. فيعتقد الطبيب في بداية الأمر أن الشاب معافى تمامًا وأن كل شيء على ما يرام. ولكن تطلّب الأمر منه معاينة ثانية، ليكتشف أن حالة الشاب سيئة، إذ كان لديه جرح جسيم في جنبه. ثم يتفاقم الوضع سوءًا، فيتحول المشهد بأكمله إلى طقس بدائي، حيث تجرّد العائلة الطبيب من ملابسه، وتمدّده بجوار المريض. وإذا بالمعرفة الطبية الحديثة تُنحّى جانبًا فجأة، على يد الخرافات والتقاليد القبلية البالية. فيندفع الطبيب مسرعًا ليهرب وهو ما يزال عاريًا، ويفكر بأن الحصانين سيرجعانه إلى منزله في لحظة كما فعلا من قبل؛ لكنهما يفعلان العكس ويتحركان ببطء شديد، فيفهم الطبيب وضعه الميؤوس منه قائلًا:

“لن أبلغ بيتي مطلقًا بهذا المعدل من السير؛ فمهنتي المزدهرة قد انتهت؛ وخليفتي سيحلّ بدلًا عني، ولكن عبثًا، لأنه لا يمكنه أن يأخذ مكاني؛ في منزلي يستشيط السائس المثير للاشمئزاز غضبًا؛ روزا هي ضحيته؛ لا أريد أن أفكر في ذلك بعد الآن. فأنا أُهيم على وجهي عاريًا، مكشوفًا لصقيع كل ما هو تعيس في هذه العصور، بعربة أرضية، وحصانين عجيبين، ورجل عجوز هو أنا…. مغدور! مغدور! هذه إجابة إنذار كاذب على جرس الليل ذات مرة- لا يمكن أن يتم هذا على خير ما يرام، أبدًا.” 4 

إنّها قصة هامّة، تكشف لنا عن تيار باطني جارف، من القوى المؤثرة على حياة الإنسان، والتي تهدّد ببسط سيطرتها في أي لحظة؛ قوى لن يستطيع التفكير العقلاني إخضاعها بالكامل أبدًا. إنّ عقلانية الطبيب أعمته عن هذه الحقيقة، لذا فهو يتصرف بتهوّر، غير مدرك لمدى خطورة الوضع.

حينما واجه القرّاء والنقّاد هاته القصص، والتي تبدو محيّرة، لجأوا إلى فكرة أن هذه القصص لا يمكن أن تفهم كما القصص الأخرى، أو أنه يمكن فهمها من عدّة نواحٍ، أو حتى أنها تشبه الأحلام. والرد البسيط إزاء هذا التخلي عن محاولة فهم النص، هي: إنّ النص الذي يمكن أن يعني أي شيء، هو في الواقع لا يعني شيئًا. كانت النتيجة الحتمية لفكرة أنه يمكن لكافكا أن يقصد أي شيء، هي المزيد من التكهنات الميتافيزيقية العجيبة، التي لا أساس لها فيما كتبه بالفعل. والحقيقة هي أن قصص كافكا بعيدة كل البعد عن كونها مبهمة وغامضة؛ بل على العكس فهي تركّز بشدة على مواضيع محددة. 

هناك محاولة أخرى للهروب من السعي لفهم ما كتبه كافكا، متمثّلة بالفكرة المدمرة القائلة بأن أعماله ما هي إلّا انعكاس ليأسه من الحياة الحديثة؛ وقد تفسر تلك الفكرة طابع الكآبة والبشاعة في هذه الأعمال. ولكن على النقيض من ذلك، هناك أنباء عن أن كافكا سينفجر ضاحكًا عند قراءة أعماله. فهو لا يعتبرها كئيبة، لذا لا يوجد داعٍ لأن نعتبرها كذلك. لا شك أن هنالك عناصر بشعة في أعماله، لكنها بشاعة الرسّام الكاريكاتوري. فعلى سبيل المثال، يشوّه الرسّام الكاريكاتوري معالم الوجه ليسلّط الضوء على ملامحه المثيرة للانتباه. وبالمثل فإن المخلوق الذي تحوّل إليه غريغور في رواية “التحول”، هو محاكاة لشكل علاقته مع أسرته، وهنالك العديد من الحالات المشابهة في أعماله.

إنّ أعمال كافكا هي أبعد ما تكون عن سيطرة العواطف الكئيبة؛ فهي تحليل بارع وفي غاية الموضوعية لجوانب محددة من حياة البشر، وعلى رأسها حماقة الإنسان. فإن بدا عالم كافكا غريبًا، فسيكون ذلك بسبب أنه غالبًا ما يظهر شخوصه ضائعين في عالم ما بعد التنوير، كما لو أنهم لم يتعلموا بعد ماذا يفعلون بالتفكير المنطقي. ففي قصة “الجحر” يصرّ الحيوان على وجوب سيادة قوة التفكير المنطقي؛ في حين أنه لا يستطيع كبح نفسه من نسج جدالات جديدة، لا تفعل شيئًا سوى تشويشه وإرباكه. أما المسّاح من رواية “القلعة” فيرهق نفسه في محاولة لفهم مؤسسة، لا يمكن أن تُفهم مطلقًا، بالطريقة التي يريد أن يفهمها بها. ونرى جورج من “الحكم” ينظم مجموعة من الحجج المتسلسلة لا ليفهم العالم؛ بل ليستخدمها كأسلحة دفاعية وهجومية، هي كل ما بقي متاحًا لأناس قد تخلّوا عن استخدام الهراوات كطريقة لتسوية الأمور.  

تعد حركة التنوير نقطة تحول في تاريخ الأفكار والأخلاق، فهي تمثل اتجاهًا جديدًا وفريدًا، يحاول أن يجعل حياة الانسان مختلفة عمّا كانت عليه في السابق، أن يجعلها أفضل. غير أنه طوال فترة تطور البشر وتحضرهم، لم يصلوا إلى نقطة التغير تلك، فلا يوجد حد نصبح بعده مختلفين فجأة. هذا التعارض، هو ما ركز عليه كافكا في تحليله البارع، وهو على الأرجح ما كان يضحك عليه.


حواشي المقالة

  • (أ) مثل الابن الضال هو من أشهر الأمثال التي ذُكرت في الانجيل، ووردت على لسان المسيح.
  • (ب) يقصد به الاضراب عن الطعام، الذي يستخدم كوسيلة للاحتجاج.
  • (ج) أي في سباق الزوارق السريعة.
  • (د) الحجرة النجمية- Star Chamberهي محكمة أُسّست في العصور الوسطى، كملحق للجهاز القضائي، وذلك بغية إنفاذ القانون حينما تعجز بقية المحاكم عن ذلك؛ لكنها أصبحت فيما بعد رمزًا لاضطهاد المعارضة.
  • (ه) الصوابية السياسية هي استخدام المصطلحات التي تتجنب إهانة أي طرف، خصوصًا عند الحديث عن جماعات تنتمي لعرق معين أو لون معين أو ثقافة معينة.

مصادر الاقتباسات:

  1. فرانتز كافكا، الأعمال القصصية الكاملة، ترجمة د. رمضان مهلهل، دار الرافدين، الطبعة الثانية-2022، القصص الطوال (الحكم)، جميع الصفحات.
  2. كافكا، المحاكمة، ترجمة د. نبيل الحفار، منشورات تكوين-دار الرافدين-دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة-2022، الصفحات 16-17-206-154. 
  3. فرانتز كافكا، الأعمال القصصية الكاملة، ترجمة د. رمضان مهلهل، دار الرافدين، الطبعة الثانية-2022، القصص الطوال (في مستعمرة العقاب)، الصفحات 184-191-196-200-204-208-213.    
  4. فرانتز كافكا، الأعمال القصصية الكاملة، ترجمة د. رمضان مهلهل، دار الرافدين، الطبعة الثانية-2022، القصص الطوال (طبيب ريفي)، الصفحة 252.

المعلومات المرفقة