مجلة حكمة
الشخصانية موسوعة ستانفورد

الشخصانية

مدخل فلسفي شامل حول ماهية (الشخصانية) وجذورها التاريخية، وعن الشخصانية الأوروبية، والأمريكية، والشرقية؛ نص مترجم لد. توماس ويليامز وجان أولوف بنجسون، وترجمة: وضاح ناصر، ومراجعة: سيرين الحاج حسين، من (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ترجمة من النسخة المؤرشفة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديلات منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF


رغم أن مصطلح “الشخصانية” لم يصبح معروفاً كتسمية لأنظمة ومدارس فلسفية حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلا أن الفكر الشخصاني كان قد تطور خلال القرن التاسع عشر كرد فعل للعناصر المبددة للشخصية المدركة في العقلانية التنويرية ووحدة الوجود ومثالية هيغل المطلقة والفردانية، هذا بالإضافة إلى الجماعية في السياسة والحتمية التطورية النفسية والمادية. تؤكد الشخصانية بشعابها المختلفة على مركزية الشخص ليكون الموضع الأساسي للبحث والتقصي في الدراسات الفلسفية واللاهوتية والإنسانية. فهي منهج أو نظام فكري يعتبر أو يميل لاعتبار الشخص المبدأ التوضيحي والمعرفي والأنطولوجي والأكسيولوجي المطلق لجميع الحقائق، على الرغم من أن هذه المساحات الفكرية لم يؤكد عليها جميع الشخصانيين بنفس القدر وأن هناك توتراً بين النسخ المثالية والفيمونولوجية والوجودية والتوماوية من الشخصانية.

  1. ما هي الشخصانية
  2. الجذور التاريخية للشخصانية
  3. الشخصانية الأوربية
  4. الشخصانية الأمريكية
  5. الشخصانية الشرقية
  6. السمات المميزة للفكر الشخصاني

1.6 البشر والحيوانات والطبيعة

2.6 كرامة الشخص

3.6 الداخلية والذاتية

4.6 تقرير المصير

5.6 العلائقية والتواصل

  • المراجع
  • أدوات أكاديمية
  • مصادر أخرى على الإنترنت
  • مداخل ذات صلة

1. ما هي الشخصانية؟

تتواجد الشخصانية في عدد من النسخ المختلفة، وهذا ما يجعل تعريفها كحركة فلسفية ولاهوتية صعباً إلى حد ما. تمتلك العديد من المدارس الفلسفية في صلبها مفكراً واحداً محدداً أو حتى عملاً واحداً مركزياً والذي يعتبر كحجر المحك الأساسي والمعياري. الشخصانية حركة منتشرة وانتقائية وليس لها نقطة مرجعية مشتركة. حقيقةً، إنه لمن الأنسب التحدث عن العديد من الشخصانيات عوضاً عن الحديث عن شخصانية واحدة. في عام 1947 كتب جاك ماريتان أنه هناك على الأقل “دزينة من التعاليم الشخصانية والتي لا يجمعها سوى كلمة ‘شخص’.” علاوةً على ذلك، فإن بعض أهم دعاة الشخصانية لم يجروا أطروحات منهجية لنظرياتهم بسبب تركيزهم على ذاتية الشخص.

وقد يكون من الأنسب الحديث عن الشخصانية بصفتها “تياراً” أو بشكل أوسع “وجهة نظر كونية” حيث أنها تمثل أكثر من مدرسة واحدة أو مذهب واحد، وذلك بينما تظهر أهم أشكالها في الوقت ذاته بعض القواسم المشتركة المركزية والأساسية. أحد أهم هذه القواسم المشتركة هو التأكيد العام على مركزية الشخص للفكر الفلسفي. تفترض الشخصانية وجود قيمة وحقيقة مطلقة للشخصية، للإنسان، إضافةً لما هو إلهي (عند معظم الشخصانيين على الأقل). حيث تؤكد على أهمية وتفرد وحرمة الشخص إضافةً إلى الأبعاد المجتمعية أو العلائقية الضرورية له. تبعاً لذلك فإن مصطلح “الشخصانية” يمكن أن يطلق على أي مدرسة فكرية تركز على مركزية الأشخاص ومكانتهم المتفردة بين الكائنات بالعموم، ويقر الشخصانيون عادةً بالمساهمات غير المباشرة لطيف عريض من المفكرين عبر تاريخ الفلسفة والذين لم يعتبروا نفسهم شخصانيين. يؤمن الشخصانيون بأن الشخص يجب أن يكون نقطة البداية الوجودية والمعرفية للانعكاسات الفلسفية. ويهتم العديد من الشخصانيين بتقصي تجارب الإنسان ومكانته وكرامته كشخص واعتبارها نقطة البداية لكل التحليلات الفلسفية اللاحقة.

مقدمة إلى الشخصانية

يعتبر الشخصانيون “الشخصية” المفهوم الرئيسي والذي يعطي المعنى للواقع ككل ويشكل قيمته المتفوقة والسامية. تحمل الشخصانية في طياتها كرامة مصونة تستحق الاحترام غير المشروط. لم تكن الشخصانية بمعظم أشكالها فلسفةً نظرية للشخص بالمقام الأول. فعلى الرغم من أنها تدافع عن فهم نظري متفرد للشخص، إلا أن هذا الفهم بحد ذاته بمثابة إعطاء الأولوية للفلسفة العملية أو الأخلاقية، في حين أن التجربة الأخلاقية للشخص، هي في الوقت ذاته بمثابة تحديد الفهم النظري بشكل حاسم.

بالنسبة للشخصانيين، فإن الشخص يجمع بين الذاتية والموضوعية، وبين الفعل السببي وقابلية التأثر، وبين الوحدة والعلاقة، وبين الهوية والإبداع. بالتشديد على الطبيعة الأخلاقية للشخص أو على الشخص كذات وفاعل للتصرف الحر، فإن الشخصانية تميل للتركيز على الفعل العملي الأخلاقي وعلى التساؤلات الأخلاقية.  

إن بعض الشخصانيين مثاليون، مؤمنون بأن الواقع والإحساس به شكّلها الوعي، بينما يتبنى آخرون الواقعية الفلسفية ويجادلون بأن الترتيب الطبيعي مستقل عن الوعي البشري. ولسهولة التصنيف يمكن تجميع الشعب العديدة للشخصانية بمجموعتين رئيسيتين: الشخصانية بالمعنى الصارم والشخصانية بالمعنى الواسع. تضع الشخصانية الصارمة الشخص في مركز الأنظمة الفلسفية التي تتخذ من “حدس” الشخص بحد ذاته منشأً لها ثم تذهب لتحليل الواقع الشخصي والتجربة الشخصية واللذين هما هدفي هذا الحدس. إن أسلوب النسخة الأوروبية الرئيسي للقرن العشرين من الشخصانية الصارمة هذه مستمد بشكل كبير من الفيمونولوجيا والوجودية، مبتعدةً عن الميتافيزيقيا التقليدية لتشكل نظاماً فلسفياً منفصلاً. على أي حال، يصبح الأمر في النسخة المثالية من الشخصانية أوضح من حيث أن مصادر الشخصانية الأعمق غالباً ما يُعثَر عليها في التناول النقدي للمثالية الألمانية وفي بعض نواحي فلسفة المعنى الأخلاقي. الحدس الأصلي هو حقيقةً الوعي الذاتي، والذي استناداً إليه يحوز المرء على الأقل القيم والمعاني الأساسية من خلال تجارب غير وسيطة. ليست المعرفة الناتجة عن انعكاس هذه التجارب إلا تجلٍ للحدس الأصلي والذي يولد بدوره وعياً لإطار الأفعال الأخلاقية. على أي حال فإن مركزية حدس الشخص للقيم والمعاني لم تنضب بعد في التحليلات الفيمونولوجية والوجودية. غالباً ما تقود هذه الدراسات إلى ما أبعد من ذاتها مشيرةً إلى تفوق تأسيسي للشخص نفسه لا يمكن تبسيطه إلى تجلياته الخاصة أو إلى المجموع الكلي لهذه التجليات. وعلى الرغم من اختلافاتهما، فإن كلاً من المدرسة الأمريكية لباوني وأتباعه الأوائل والشخصانية الأوربية لايمانويل مونييه تمثل الشخصانية بمعناها الصارم هذا.

الشخصانية بمعناها الواسع لا تعتبر الشخص موضوعاً للحدس الأصلي كما لا تعتقد بأن البحث الفلسفي يجب أن يبتدئ بتحليل التجربة الشخصية اللحظية وسياقها، وإنما تتجلى القيمة الفردية والدور الأساسي للشخص في نطاق الميتافيزيقيا العامة. وهكذا فإن الشخص يحتل المكانة المحورية للحوار الفلسفي ولا يمكن اختزال هذا الحوار في تفسير أو تطور الحدس الأصلي للشخص. فالشخص لا يسوّغ الميتافيزيقيا وإنما الميتافيزيقيا هي من تسوّغ الشخص وعملياته المختلفة، فبدلاً من تأسيس ميتافيزيقيا ذاتية، تقدم الشخصانية بمعناها الواسع تحولاً أنثروبولوجياً وأنطولوجياً في المشهد ضمن الميتافيزيقيا الموجودة وتستخلص العواقب الأخلاقية لهذا التحول. ولعل أفضل مذهب معروف للشخصانية بالمعنى الواسع هو ما يطلق عليه “الشخصانية التوماوية” ممثلةً بأعلام مثل: جاك ماريتان ويفيس سيمون وإيتيان جيلسون وكارول فويتيلا. تُبنى ملامح الشخصانية التوماوية على مبادئ توماس أكونيا في الأنتروبولوجيا الفلسفية فيما تراه تطوراً متسقاً لأفكار أكونيا الغير منجزة.

كمدرسة فلسفية، تجد الشخصانية أسسها في التجربة والمنطق البشريين على الرغم من أنها غالباً ما اندمجت تاريخياً مع التوراتية التوحيدية، ويلمح فون بالثاسار بأنه “من دون الخلفية التوراتية لا يمكن تصور وجود الشخصانية“. ومع ذلك وفي حين أن معظم الشخصانيين مؤمنون إلا أن الإيمان بالله ليس ضرورياً لجميع الفلاسفة الشخصانيين فالبعض يجاهر بشخصانية إلحادية.

على الرغم من اعتبارها مدرسةً فلسفيةً، فإن نهج الشخصانية غالباً ما تم تطبيقه في مجالات أخرى أيضاً، مسفرا عن عدد وافر من العناوين مثل الشخصانية اللاهوتية والشخصانية الاقتصادية والشخصانية البيئية والشخصانية النفسية (بالإضافة لمعكوساتها “اللاهوت الشخصاني” و”الاقتصاد الشخصاني” و”علم النفس الشخصاني”…الخ).

2. الجذور التاريخية للشخصانية

حقق مصطلح الشخصانية أول ظهور له في ألمانيا حيث أن أن ف. د. ي. شلايرماخ (1762-1834) هو أول ما استخدم مصطلح der Personalismus في كتابه “عن الدين”. كما ويظهر أن أموس برونسون ألكوت هو أول أمريكي استخدم هذا المصطلح واصفاً إياه في مقالة عام 1863 “ذلك المذهب الذي تكون فيه الحقيقة المطلقة شخص إلهي يحافظ على الكون من خلال أفعال متواصلة نابعة من الإرادة الخلاقة”. كما وتم صياغة مصطلح “الشخصانية الأمريكية” من قبل والت ويتمان (1812-1892) في مقاله “الشخصانية” والتي نشرت في دورية الغلاكسي في أيار 1868، وفي عام 1903 نشر تشارلز رينوفير مقالة Le Personnalisme مدخلاً بذلك مصطلح الشخصانية إلى الفرنسية أيضاً.

كان أول ظهور لكلمة “الشخصانية” كمدخل موسوعاتي في الجزء السادس لموسوعة هاستينغ للأديان والأخلاق عام 1915 كمادة بوساطة رالف ت. فلويلينغ. والشخصانية بحسب ألبرت سي. كوندسون هي “الثمرة الناضجة لأكثر من ألفي عام من الجهد الفكري، هي قمة الهرم الذي رسم قاعدته أفلاطون وأرسطو“. ويؤكد الشخصانيون الكاثوليك بشكل خاص دور الفكر القروسطي والتعاليم المدرسية على تطور الشخصانية، فلقد لاحظ إيتيان جيلسون على سبيل المثال أنه بينما اعتبر أفلاطون وجود مركز الواقع في أفكار ذات تمثيلات عينية، وهي مصادفة فقط، ولم يركز أرسطو على أفراد معدودين وإنما ركز على هيئة كونية محددة، فإن توماس أكويناس رأى الشخص الفرد ككائن متميز عن بقية الكائنات بسبب المنطق والسيادة الذاتية. وبالرغم أن أحداً لم يمض قدماً بتسمية أكويناس شخصانياً إلا أن البعض يقترح بأنه هو من قام بتجهيز التربة الضرورية لتضرب النظرية الشخصانية جذورها فيها.
في هذا الصدد كتب كارول فويتيلا أن أكويناس “ قدم على الأقل نقطة الانطلاق للشخصانية عموما“. يأتي مصطلح الشخص person من اللاتينية persona والتي يمكن تتبع أصولها إلى الدراما الإغريقية حيث أن πρόσωπον, أو القناع يمكن تعريفه بالدور الذي يشغله الممثل في عمل إنتاجي محدد، واستمر هذا الاستخدام إلى يومنا هذا في كلمة persona والتي تشير إلى الشخصيات في الأعمال الدرامية والأدبية الروائية أو كهوية ثانية يتبناها الناس في سلوكهم ضمن سياقات اجتماعية محددة. إلا أن تقديم الشخصانية في تيار اللغات الفكرية جاء مع الحوار اللاهوتي في فترة الأبوّة الكنسية وبشكل ملحوظ في محاولات توضيح وتعريف الحقائق المحورية للعقيدة المسيحية. ركزت تلك الحوارات بشكل رئيسي على عقيدتين: الثالوث (ثلاثة “أشخاص” في إله واحد) وتجسيد المسيح في الشخص الثاني من الثالوث (التوحيد الأقنومي لطبيعتَي الإلهي والبشري في “شخص” واحد) ولقد شاب الارتباك هذه الحوارات بسبب الغموض في المصطلحات الدينية والفلسفية، ومن أمثلة ذلك الأطروحة المنسوبة لسابيليوس والتي اقترحت بأن في الله ύπόστασις واحد وثلاثة πρόσωπα, في حين أن ύπόστασις تحمل معنى الشخص وπρόσωπα تحمل معنى “الأدوار” أو “أساليب” الوجود. ومن أجل عرض هذه الألغاز بدقة فإن مفهوم الشخص وعلاقة الشخص بالطبيعة بحاجة إلى توضيح. وبلغت الجدالات ذروتها في مجمع نيقية الأول (325) ومجمع القسطنطينية الأول (381) وفي صياغة ونشر عقيدة نيقية القسطنطينية. برغم أن مفهوم الشخص أول ما تم تطويره في السياق اللاهوتي كان هذا وذلك بالإشارة إلى الأشخاص في الثالوث إلا أن المفاهيم الفلسفية الإغريقية المُتَضمنة في هذه الأصول الثالوثية سهلت تطبيقها على الإنسان أيضاً. وقد تتوافق أو لا تتوافق الشخصانية الفلسفية مع الافتراضات اللاهوتية المتعلقة بالاستخدامات الأولى لمصطلح “الشخص”.

التعريف الفلسفي البحت الأساسي الكلاسيكي للشخصية والذي ظل مقبولاً من قبل الشخصانيين على طول مسيرتها تم تقديمه قديماً من بويسيوث (480-524 بعد الميلاد): “الشخصية هي الطبيعة العقلانية الفردية”. يتألف هذا التعريف من جزئين، الأول إن نقطة الانطلاق الأساسية هي الوجود الفردي: الاعتقاد بالوجود المفرد، وتميز هنا الصفة “فردي” بين الجوهر الموجود وبين الجوهر الثانوي أو العام. يعزز العنصر الثاني للتعريف – الطبيعة العقلانية – فكرة الجوهر الفردي: الشخص فرد يمتلك طبيعة عقلانية. إنها تلك الطبيعة العقلانية الروحانية التي تنشأ منها السمات المختلفة التي تميز الشخص، تلك السمات التي يعلق عليها الشخصانيون أهمية قاطعة.

إن المفهوم الثالوثي للشخص بعيد جداً عن المعنى الحديث للمصطلح المفترض للشخصانية كما أن تعريف بويسيوث أيضاً يشير فقط بإيجاز تجريدي بسيط إلى المعنى العميق والشامل الذي ينسبه الشخصانيون إليها. كما هو متفق عليه في الشخصانية، فمفهوم الشخص نتيجة لتطور تراكمي طويل ومعقد أدى إلى مفهوم غني وإن يكن بعيد المنال لحد ما والذي يعاكس في نواح عديدة بشكل كامل الدلالات الأصلية الخارجية للمعاني الأولى “للقناع” و”الدور”: فعوضاً عن ذلك يأتي مفهوم الشخص للدلالة إلى اللب الداخلي الروحي والأكثر موثوقية للفرد المتميز مع الحفاظ على انفتاح جذري مع الخارج في الوقت ذاته. في تلك الفترة من القرون الوسطى تم تقديم تعاريف أخرى وليس فقط تعريف أكويناس ولا سيما المثال الأوغسطيني عن الانعكاسية والداخلية المُجربة وفكرة الهيئة كمبدأ للتفرد والتركيز في أواخر القرون الوسطى والعصر الفرنسيسكاني على الإرادة والتفرد، حيث دخلت في التفكير الحديث المبكر حول الشخص ودمج ذلك مع التركيز الأشد على الشخصية البشرية والذي كان من سمات النزعة الإنسانية في عصر النهضة.

بمحاذاة هذه المسارات، أضافت المفاهيم الحديثة المبكرة للذاتية والوعي الذاتي عناصر جديدة لتعريف وفهم المفهوم المركزي للشخصانية أو حتى تغييرها بشكل جذري. إن الثنائية المعرفية لإيمانويل كانط وتسليطها الضوء على أهمية كل من الذات والشيء في المعرفة فتحت الباب لكل من الشكل المثالي للشخصانية والوجودية والأنطولوجية الأمر الذي أصبح شديد الأهمية لشخصانية القرن العشرين. ولقد ساهم كانط بشكل ملحوظ بالفهم الشخصاني للكرامة الإنسانية. على خلاف هوبز الذي اعتقد بأن “قيمة الإنسان هي ثمنه” وأن الكرامة هي “القيمة العامة للإنسان” فلقد اعتبر كانط الكرامة “كقيمة جوهرية“.
حيث وضع تقسيماً صريحاً بين الثمن والكرامة، “فالشيء الذي يمتلك ثمناً يمكن مقايضته بشيء آخر يمتلك الثمن ذاته، في حين أن الشيء الذي يتجاوز جميع الأثمان هو لا يعترف بوجود مكافئ وبذلك فهو يمتلك كرامة“. كما ودمج حتميته القطعية الشهيرة في مبادئ الشخصانية لكارول فويتيلا بشكل حرفي تقريباً (في تعاملك مع الإنسانية سواءً مع شخصك أو مع الآخرين، تصرف معهم دائماً كغايات لا كوسيلة أبداً).

تركز الشخصانية بصفتها فلسفة متمايزة أو وجهة نظر عالمية على الكل، راكمت مضامين مفهوم الشخص ولكنها انبثقت فقط في سياق رد فعل نقدي واسع ضد ما يمكن تسميته الفلسفات اللاشخصانية المتنوعة والتي قدمت لتهيمن على فلسفتي التنوير والرومانسية بصورة أشكال عقلانية ورومانسية للمثالية ووحدة الوجود من اسبينوزا إلى هيغل. ومن الشخصيات الرئيسية لرد الفعل هذا نجد فريدريك هينريك جاكوبي (1743-1819) والذي ابتدأ ما يسمى Pantheismusstreit في الثمانينيات من القرن الثامن عشر ونجد أيضاً ف. و. جي. شيلينغ (1775-1854) والذي رفض في عمل لاحق له المواقف الانطباعية لأنظمته المثالية الأولى. وهؤلاء فقط أهم الأعلام من ضمن تيار واسع ضم العديد من الفلاسفة من بينهم ما يطلق عليهم بالمؤمنين التأمليين إضافةً إلى اللاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت. ولقد أصبحت الشخصانية المثالية المؤمنة المعدلة حاسمةً في هذه الحركة المضادة، لا سيما عبر آخر ممثليها الألماني رودولف هيرمان لوتزي (1817-1881)، ليس فقط للشخصانية المثالية الأمريكية لبراوني وإنما أيضاً لموازيتها المثالية البريطانية والتي كان أندرو سيث برينغل باتيسون (1856-1931) من أهم ممثليها. بالرغم من أن الشخصانيين الأوربيين القاريين في القرن العشرين سيرفضون مثالية هيغل ويتحولون إلى الفيمنولوجيا والوجودية والتوماوية بدلاً منها، فإن خلاصة النقد الشخصاني للأنماط الفكرية اللاشخصية كانت قد طُورت مسبقاً بوضوح واتساق من قبل المفكرين المذكورين هنا منذ العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر.

وهكذا فلقد نشأت الشخصانية كرد فعل على الأنماط الفكرية اللاشخصية والتي اعتُبرت من قبلهم تجريداً من الإنسانية. يكمن وراء الديناميكا اللاشخصية للوحدوية ولوحدانية الوجود الحديثتين بشكليهما العقلاني والرومانسي العديد من الفلاسفة الحداثيين مثاليين وماديين والذين انقلبت الشخصانية ضدهم. تؤمن المثالية الراديكالية لـ ج. و. ف. هيغل (1770-1831) بأن الواقع النومينالي لكانط ليس قواماً غير معروف للمظاهر، وإنما هو عملية ديناميكية تعبر بالفكر والواقع من الطريحة إلى النقيضة لتستقر أخيراً بالجمع بينهما، هذه العملية هي فلسفة العقل المطلق والدولة والدين. ترى مثالية هيغل التاريخ على أنه تجلي للروح المطلقة من خلال عملية ديالكتيكية ضرورية بحيث لا يترك هذا الإطار سوى مساحة صغيرة لحرية وأهمية الأشخاص المنفردين.

تحول الشكل اللاشخصاني هذا من المثالية إلى أشكال مماثلة من اللاشخصانية المادية عن طريق الهيغيليين الشباب لتبلغ ذروتها بالماركسية التي تعتبر أن جوهر الإنسان يتمثل في جماعيته الحقيقية، حتمية لا شخصانية، على هيئة الشيوعية والتي شكلت بحسم الشمولية السياسية للقرن العشرين. لدى مفكرين آخرين، تميل المثالية للاندماج مع الأشكال المتزايدة طبيعياً من القومية والعرقية متيحةً المجال لصعود تيارات سياسية جديدة أخرى في القرن العشرين والتي عززت ورفعت الجماعية البديلة فوق الشخص مثل الاشتراكية القومية. لطالما قاومت الشخصانية امتصاص المجموع للفرد بالتأكيد على القيمة المتوارثة للشخص المفرد. لا يمكن للشخص أن يكون وسيلةً لغاية ما، خاضعاً لإرادة وأهداف الآخرين. فالدولة توجد للأشخاص وليس العكس. في هذا الإطار، تقف الشخصانية في وجه الشمولية التي تثمن الشخص بناءً على القيمة التي يقدمها للمجتمع فقط، وتصر الشخصانية عوضاً عن ذلك على كرامة الأشخاص المتوارثة. وتبعاً لذلك يكتب آر. تي. فليويلنج

"إن الشخص هو الجوهر الأسمى للديمقارطية ويعادي الشمولية بكافة أنواعها".

تأكيد الشخصانية وإصرارها على الحرية الشخصية والمسؤولية وتقرير المصير والابتكار والذاتية، يعزز هذه المقاومة عميقة الجذور للجماعية. وبشكل مواز لتطور وتحول الهيغلية، تطورت نظريات أخرى عن الطبيعة البشرية في مضمار القرن التاسع عشر، نظريات طمست أو ألغت التمييز بين الإنسان وباقي المخلوقات في الطبيعة، كما قللت من شأن القيمة الفردية المتفردة للإنسان وطبيعته الروحانية وإرادته الحرة أو ألغتها. ساهمت هذه النظريات أيضاً في شموليات القرن العشرين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. أكدت الفلسفة الوضعية لأوغست كومت (1798–1857)، كقانون تاريخي، على أن جميع العلوم (بما فيها العرق البشري بحد ذاته) تمر عبر ثلاث مراحل متعاقبة: اللاهوتي فالميتافيزيقي فالوضعي، كل متفوق على سابقه. أكد كومت كثيراً على واقع وسيطرة المجتمع بحيث أصبح الموضوع الحقيقي بالنسبة له بينما نظر إلى الفرد على أنه مجرد تجريد. الداروينية، على وجه الخصوص، اقتلعت الفهم الكلاسيكي للبشر على أنهم متفوقون بشكل أساسي على جميع المخلوقات وذلك بتقديمها لنظرية يكون فيها الإنسان ببساطة هو شكل الحياة الأكثر تطوراً على طول سلسلة متصلة غير منقطعة، ووفقاً لهذه النظرية يكون الاختلاف بين الإنسان والحيوانات غير العاقلة فقط بالدرجة وليس النوع.

على أي حال فإن الفلسفة الشخصانية الصاعدة رفضت اللاشخصانية ككل، ليس فقط هيئاتها المثالية والحتمية المادية والجماعية، وإنما أيضاً بهيئتها الفردانية الراديكالية والتي كانت نتاجاً للعقلانية الحديثة والرومانسية على حد السواء، والتي تعد من مميزات القرن التاسع عشر من خلال أشكال محددة للليبرالية والأناركية على سبيل المثال. منذ بداياتها، أعلنت الشخصانية بطرقها الخاصة عن القيم الجماعية للتضامن والعلاقات المتبادلة. بإصرارهم على حرمة الكرامة، قاوم الشخصانيون الشمولية التي بالكاد تجعل الشخص “مفيداً” لشخص آخر. في حين تتجه الفردية للسعي نحو النفس فوق أي شيء آخر وغالباً ما تنظر للآخرين كوسائل للربح الذاتي، تسعى الشخصانية لأن تجعل من النفس هبةً للآخر. وعلى هذا النحو كتب إيمانويل مونييه لاحقاً

"إذا كان الشرط الأول للفردانية هو مركزية الفرد ضمن ذاته، فإن شرط الشخصانية الأول هو لا مركزية الفرد وذلك لربطه بالآفاق المفتوحة للحياة الشخصية."

في حين تأمل الفردانية العثور على تحقيق الذات في المصلحة الذاتية، تؤكد الشخصانية على الحاجة للانفتاح العلائقي مع الآخرين، وحتى كشرط لتحقيق الفرد لذاته.

وصّف كارول فويتيلا النقيضين، الفردانية والجماعية، على النحو الآتي:

"من ناحية يمكن للأشخاص ببساطة أن يضعوا مصلحتهم الفردية فوق المصلة العامة للجماعة وأن يحاولوا إخضاع الجماعة لأنفسهم وأن يستخدموها لمصلحتهم الفردية. هذا خطأ الفردانية والذي أفضى إلى نشوء الليبرالية في التاريخ الحديث والرأسمالية في الاقتصاد. من ناحية أخرى، في استهدافه الخير المزعوم للجميع، قد يحاول المجتمع إخضاع الأشخاص له بطريقة يستبعد فيها المصلحة الحقيقة للأشخاص ليسقطوا فريسةً للجماعة. هذا هو خطأ الشمولية والذي أثمر في الوقت الحديث عن أسوأ حصاد ممكن."

تطورت الوجودية، والتي قدمت مثل هذه الدوافع لمعظم الشخصانية الأوربية القارية في القرن التاسع عشر، على نسق فلسفة شيلينغ اللاحقة ويمكن العثور فيها حتى على آثار انتقادات جاكوبي لوحدة الوجود غير الشخصية. مع شيلينغ، عارض سورن كريكيغارد (1813–1855) مثالية هيغل وأكّد على قيمة الشخص الواحد في الفلسفة وفي الحياة عموماً. اتّهم المثالية بإفراغ الحياة من المعنى بإهمالها لحقيقة الوجود الإنساني. في حين أن كريكيغارد وبعض الوجوديين اللاحقين (مارسيل، سارتر، كامو، بلونديل) ركزوا على قضايا محورية لمعنى الوجود الإنساني (الحب، الزواج، الموت، الإيمان، الأخلاق، إلخ)، استمر مفكرون آخرون بالتركيز على مزيد من الاستكشاف المباشر لمعنى وطبيعة الشخص بحد ذاته، وهؤلاء المفكرون هم من أصبحوا يُعرفون، ويطلقون على أنفسهم، بالشخصانيين.

تقدم فلسفة فريدريك نيتشه (1844–1900) تعبيرها الخاص والمتميز عن هذه السمات، مظهرةً (كما فعل العديد من الفلاسفة والشعراء الرومانسيين قبله، وعلى الرغم من نقده للرومانسية) أن الفردانية الجديدة ارتبطت بشكل وثيق مع اللاشخصانية العامة في فرعها المهيمن من الرومانسية: من تمجيد الأنا الفردية، لم تكن الخطوة بعيدة عن الانقراض في مجموعة لا شخصية أكبر من أي من الأصناف العديدة المتاحة. لم تقدم الفردانية الحديثة أي تحدي حقيقي للبيئة الفكرية القائلة بميل الإنسان لأن يُرى كمجرد كائن ظاهراتي يسهل استيعابه في الطبيعة أو المبادئ اللاشخصية للمثالية أو اللاوعي أو الإرادة الكونية أو جماعات العائلة والدولة والأمة والطبقات المجتمعية. فالإنسان كان نتاجاً لقوى خارجية، جزء ليس ذو أهمية من الأحجية الكونية، بدون كرامة أو حرية أو أهمية وجودية أساسية، كان هذا هو المناخ الفكري الشامل متعدد الأوجه والتطور الذي أنتج الحركة الشخصانية المضادة خلال القرن التاسع عشر، حركة اعتمدت على مصادر بديلة في فكر التنوير والرومانسية ومسيحية القرون الوسطى الكلاسيكية والإرث الحداثي المبكر بحيث سعت لإنقاذ الوضع والمكانة الفريدين للشخص البشري المفرد.

لذلك يمكن تبرير موقف جان لاكروا حين أعلنأن الشخصانية هي “معادية الأيديولوجية” متيقظاً للأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تنفر وتبتعد عن الشخص البشري، في وجه هذه القوى اللاشخصانية أكدت الشخصانية على الكرامة المطلقة للإنسان وعلى العلاقات المتبادلة بين البشر. كتب ماريتان أيضاً عن الشخصانية “هي ظاهرة من ردود الفعل” ضد “الخطئين المتضادين” للشمولية والفردانية. على خلاف جماعية هيغل والفردانية الشرسة للإنسان المتفوق عند نيتشه، يؤكد هؤلاء المفكرون على حرمة كرامة الشخص الفرد التي وعلى طبيعته الاجتماعية والعلائقية الأساسية في الوقت ذاته.

3. الشخصانية الأوربية

تجمّع الشخصانيون في القرن العشرين بشكل خاص في ثلاث مراكز أوربية للتعليم العالي: باريس وبيوغ ولوبين. وحتى مؤخراً كان الأكثر شهرةً والأغزر إنتاجاً من بين هذه المراكز مجموعة باريس. في الفترة الممتدة بين الحربين العالمية الأولى والثانية التف لفيف الشخصانيين الفرنسيبن حول Esprit الدورية الشهرية والتي أسسها ايمانيويل مونييه (1905 – 1950) ومجموعة من الأصدقاء في عام 1932. وفي ظل الانهيار الاقتصادي والتوهان الأخلاقي والسياسي اقترح هؤلاء الشخصانيون الفرنسيون اعتبار الشخص الإنساني هو المعيار الذي يمكن وفقه التماس حل للأزمة. فكان الشخص البشري هو المفتاح الجديد والغير قابل للاختزال وبالتحديد فيما يتعلق بالمنظومة المجتمعية. في مقالته البرامجية Refaire la Renaissance والتي ظهرت في العدد الأول من Esprit اتقرح مونييه الحاجة لفصل العالم الروحي عن البرواجزية المادية المنحطة. وبما يتماشى كثيراً مع أصول الشخصانية من حيث الجوهر في أوائل القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر، انقلب مونيير بشدة ضد التطور اللاشخصاني للديمقراطية البرلمانية الفردية والثقافة الجماهرية اللاتي قدمن لتعيد تشكيل الدول في أوربا الغربية. تشير كل من الخلفية والبيئة الشخصانية للقرن العشرين وحقيقة ريادة الشخصانيين الأوربيين في القرن العشرين إلى أنه بالنسبة للشخصانية فإن تصديقاً بسيطاً غير حاسم للديمقراطية الليبرالية لا يشكل ضماناً كافياً في وجه الشمولية، إذ تميل الديمقراطية الليبرالية بشدة لتشرب الأفكار الشخصانية والديناميكا الشخصانية العميقة التاريخية والتي أدركها وحللها المفكرون الشخصانيون قبل مونييه بوقت طويل.

لم يكن رد الفعل الديني التقليدي ورد الفعل السياسي ليشكل حلاً بديلاً لمونييه، إذ كان لا بد من وجود ثورة حقيقية تتمثل بخلق حركة إنسانية جديدة يخضع فيها “التملك” مثل البرجوازية الأعلى “للوجود” المسيحي، “وجود” بشراكة مع الآخرين. كان يجب على الثورة الروحية التي تصورها مونييه أن تكون فوق كل أعمال الشهود الملتزمين بالحقيقة، والذين من خلال تجددهم الداخلي وعقيدتهم الحية سيحفزون نحو خلق بنية مجتمعية تشاركية جديدة. ثورة كهذه تتطلب التزاماً ثلاثياً: الاستنكار والتأمل والتخطيط التقني. يقبع في صلب هذا البرنامج مفهوم مونييه الجريء للتجربة المسيحية، تجربة “التفاؤل التراجيدي” مصبوغةً بدراما الوجود المسيحي ويقين النصر الإسكاتولوجي. إن أهم فضيلة بالنسبة للمسيحي هي الشهادة البطولية، بعيداً عن مراوغة وعاطفية فروع المسيحية الأخرى فارغة الجوف. وهكذا فإن مفهوم مونييه للمسيحي هو ذلك الرياضي اليقظ المنخرط في صراع روحي والمزود برد فعل صارم لنقد نيتشه للمسيحية على أنها دين الضعفاء. تصدى تأكيده لعدم وجود تقدم حقيقي دون وجود بُعد التفوق للبحث الماركسي بوجود جنة دنيوية من خلال الصراع الطبقي. كما أن موافقته على أهمية علم النفس مع تأكيده مجدداً على حرية ومسؤولية الإنسان مهدا الطريق للتحليل النفسي لفرويد، و المتمحور حول الغريزة.

جذبت أعمال مونييه اهتمام المفكرين الفرنسيين الرائدين أمثال غابرييل مارسيل ودينيسي دي روجيمونت وجاك مارتيان والذين ساهموا من خلال أبحاثهم ومحاضراتهم وكتاباتهم في تطوير الفكر الشخصاني الفرنسي. كان مارتيان الذي عمل مع مونييه للعديد من السنوات مسؤولاً عن نقل الشخصانية الفرنسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. أبان الحرب تكيف الشخصانيوون الفرنسيون بقيادة مونييه وتبنوا وجهة نظر أقل حسماً حول الديمقراطية الليبرالية كما ولعب مارتيان دوراً في إعداد ميثاق الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وكغيره من الشخصانيين التوماويين انتقد مارتيان هشاشة فروع محددة واسعة الانتشار من الفلسفة المدرسية وناشد بأهمية دور التجربة الحدسية في الفلسفة.

الفيلسوف الفرنسي بول ريكور والذي تأثرت فلسفته بعمق بالفيمونولوجيا الهورسيليانية، وعلى الرغم من أنه لم يعرف نفسه كشخصاني على الإطلاق، كان قد شارك في كثير من التداول والإهتمامات الأساسية للشخصانيين كما ساهم واستفاد الاثنان من تطور الفكر الشخصاني في فرنسا. كان غابرييل مارسيل أحد المرشدين الفلسفيين لريكور، وكان ريكور قد تأثر بعمق بإيمانويل مونييه من خلال تواصله معه وبالأخص في السنوات التالية للحرب (1946-1951) فقد ساهم بمقالات مع دورية Esprit ومجلة Le Christianisme social. تناول ريكور العديد من الموضوعات النفيسة العزيزة على مونييه مثل طبيعة الحرية البشرية ومركزية الشخص البشري إزاء الدولة على الرغم من أنه كان قد ابتعد في تطويره لهذه الموضوعات لاحقاً عن أفكار مونييه، كما وتشارك أيضاً مع الشخصانيين رفضهم للمادية والثنائية الديكارتية إضافةً إلى رفض المفاهيم التجريدية لصالح واقع إنساني متماسك. ولعل العنصر الأكثر أهميةً من شخصانية مونييه الذي تبناه ريكور هو عدم جواز الانسحاب من المشاركة السياسية والاجتماعية.

ارتبطت الشخصانية بألمانيا بشكل وثيق بمدرسة فلسفية أخرى وهي الفيمونولوجيا التي طورها ادموند هورسل النمساوي المولد (1859-1938). كانت الواقعية الفيمونولوجية على غرار الوجودية والشخصانية الفرنسية استجابةً للمثالية الألمانية جزئياً برغم أنها كانت تنطوي على تركيز خاص على الأسئلة المعرفية. في كتابه (Logische Untersuchungen) المنشور عام 1950 بالإضافة إلى كتابه الأخير (Ideen zu einer reinen Phänomenologie und phänomenologischen Philosophie) وضع هورسل منهجه الظاهراتي واجتذب من خلاله الطلاب الأوائل إلى مدرسته. إن السمة المميزة للظاهراتية هي أنها ليست عقائدية بل منهجية. إن السمة المميزة للظاهراتية هي أنها ليست عقائدية بل منهجية. فسعياً منها لتجنب فرض المفاهيم والبنى المسبقة على الواقع “تعود الظاهراتية إلى الشيء” (zurück zum Gegenstand) وذلك بوضع جميع المفاهيم الفلسفية المفترضة مسبقاً بين هلالين. تُجنب الملاحظة والاستشارة المباشرتين مشاكل الاستدلال الاستنتاجي هذه وذلك بالتركيز على الفعل الفكري للحدث أو من خلال الإلمام المباشر بالواقع. يركز الاختزال التصويري على البنى الأساسية لما يظهر (الظاهرة) بحيث لا يتعامل المرء مع الملاحظة التجريبية أو توصيف الأشكال الأفلاطونية وإنما مع معنى الظاهرة. يعرف الظاهراتيون موضوع الحدس على أنه الجوهر للأشياء وللأغراض المثالية ولتركيبات القصد والوعي. ومن خلال القيام بذلك، سعى الظاهراتيون للتغلب على ثنائية كانط (نومينون / ظاهرة) إضافةً إلى أخطاء الوضعية والتعيينية.

برغم ميل هورسل إلى المثالية الفلسفية إلا أنه في أوائل حياته وفي كتابه Logische Untersuchungen اعتنق الواقعية الفلسفية. تؤكد الفينمولوجيا الواقعية مساهمة الفيمنولوجيا في الفلسفة الدائمة وسعيها لاكتشاف البنى المطلقة للوجود من خلال التجربة. عوداً على الشيء بحد ذاته تسعى الفيمنولوجيا للتملص من أخطاء كل من التجريبية (اختزال الواقع إلى ما يمكن قياسه) والمثالية (تحريف الواقع إلى المفاهيم المجردة والذاتية). كان من بين تلامذة هورسل ماكس شيلر (1874-1928) وديتريش فون هيلدبراوند (1889-1977) ورومان أنجاردن (1893-1970) وإديث شتاين (1891-1942) وجميعهم أثروا على تطور الفكر الشخصاني، مجمل تحول هورسل اللاحق إلى المثالية (والذي ظهر في عشرينيات القرن العشرين) عجل من حدوث قطيعة مع العديد من تلامذته والذين أصبحوا يؤمنون بأنه تخلى عن التزامه الأصلي بإعادة ربط الفكر الفلسفي والواقع الموضوعي لذلك قاموا بعملهم بمفردهم فكل واحد منهم أنشأ مجموعة عمل سعياً خلف غاية هورسل الأصلية، فعلى سبيل المثال نظر شتاين إلى المنهج الفيومولوجي كمكمل للتوماوية وأدخل فان هيلدبراند الفيمنولوجيا إلى الأخلاق في توليفة شخصانية. ثالث وأحث المراكز الثلاث للشخصانية الأوروبية نشأ وترعرع في محيط جامعة لوفان الكاثوليكية. بعد دراسته مع هورسل أعاد رومان انجارد الفيمنولوجيا والاهتمام بالمواضيع الشخصانية إلى بولندا موطنه الأصلي في بدايات العقد الخامس من القرن الماضي والتقى هناك بكاهن شاب اسمه كارول فويتيلا شجعه على قراءة ماكس شيلر. أصبح فويتيلا مهتماً بفنتولوجيا شيلر وانتهى بالعمل على أطروحة الدكتوراه حول أخلاقيات القيم عند شيلر وقدمها عام 1953.

بتلقيه سابقاً توليفةً من الأفكار الأرسطوية – التوماوية استند فويتيلا على دراسته للمنهج الفيمنولوجي لتطوير توليفة شخصانية مبدعةً وأصلية مكملةً للميتافيزيقيا والانتروبولوجيا التوماوية وبنظرة معمقة في الفيمنولوجيا.

عقب ذلك تولى فويتلا منصب بروفسور في الأخلاق في كلية اللاهوت في كراكوف وجامعة لوفان الكاثوليكية. فويتيلا الذي كان قد تأثر مسبقاً أيضاً بكتابات فون هيلدبراند وهو تلميذ آخر من تلامذة هورسل، قدم كتابين مهمين في الشخصانية “الحب والمسؤولية” عام 1963 و”الشخص الفاعل” 1962 وذلك بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات والمحاضرات والموضوعات الانشائية. ساهم انتخابه اللاحق كبابا للفاتيكان بشكل كبير بانتشار الفكر الشخصاني وخصوصاً بين المفكرين الكاثوليك. بصفته البابا استمر بتوظيف الحجج الشخصانية في تعاليمه الحاكمة، كما وأثار اهتماماً جدياً بالنظريات الشخصانية. دعا يوحنا بولس إلى “التجديد اللاهوتي على أساس الطبيعة الشخصانية للإنسان” واستشهد صراحة بالحجج الشخصانية في رسائله الباباوية (Laborem Exercens) عام 1981 و(Ut Unum Sint) عام 1995 إضافةً إلى Letter to Families عام 1994.

كانت الشخصانية حاضرةً أيضاً في العديد من الدول الأوروبية ولو بدرجات متفاوتة.

4. الشخصانية الأمريكية

الشخصانية الأمريكية والتي بتمثيلها من قبل أعلام مثل بوردن باركر بون (1847-1910) وجورج هـ. هويسون (1834-1916) وإدجار شيفلد برايتمان (1884-1953) اتخذت مساراً منعرجاً يختلف عن الشخصانية الأوروبية القارية فعوضاً عن كونها رد فعل للمثالية فهي حقيقيةً، وفي الغالب شكل من أشكال المثالية حيث يتم تعريف الوجود على أنه الوعي الشخصي، وفضلَ هاريسون استخدام مصطلح ” المثالية الشخصية”.

على النقيض من الشخصانية الأوروبية القارية في القرن العشرين فإن الشخصانية الأمريكية وعلى وجه التحديد على يد ممثليها الأوائل هي استمرار مباشر إلى حد ما لتطور الفلسفة واللاهوت الشخصانيين في القرن التاسع عشر في أوروبا وتحليلاتها ودحضها للأشكال المختلفة للفكر الشخصاني. تتفق الشخصانية الأمريكية والشخصانية الصارمة للمدارس الأوروبية في القرن التاسع عشر على اتخاذ الشخص كنقطة انطلاق لفهم العالم وفي عزو جميع الحقائق الأخلاقية إلى القيمة المطلقة للشخص، ولكن في حين أن الأخيرة تشتق هذه النظرة العميقة بشكل رئيسي من الوجودية والفيمنولوجية والتوماوية فإن المدرسة الأمريكية، فيما تضيف إليها في بعض النواحي وتطورها بشكل أكبر، كانت قد أخذتهم من “المؤمنين التخمينيين” في أوروبا.

لطالما اعتُبرت جامعة بوسطن المركز الرئيسي للشخصانيين الأمريكيين تحت الرعاية الأبوية لبروفيسور الفلسفة بوردن باركر بون، كان باون وزيراً ميثودياً وقد درس في ألمانيا لدى رودولف هيرمان لوتزه.

سعى لوتزه، والذي كان طالباً للمؤمن التخميني كريستيان هرمان وايسه (1801-1866) والذي الملم بنقد شيلنغ اللاحق لهيغل، مثله مثل المؤمنين التأمليين، إلى تعديل مثالية هيغل وذلك بالحفاظ على فكرة أن الواقع صلب متماسك ومستقل، وإلى تحويل مثالية هيغل المطلقة إلى مثالية شخصية، وبإضافة عناصر من الاتجاهات الحديثة لعلم النفس أيضاً، طور باون موقفاً شخصانياً صريحاً ومتفرداً يحمل سمات المدرسة الفلسفية، وإن كتابه الأخير “الشخصانية” المنشور سنة 1908 يعتبر خلاصة شهيرة لفلسفته والذي من خلاله قدم مصطلح “الشخصانية” إلى الحوار المريكي الفلسفي واللاهوتي.

جمع بون حوله مجموعة من التلامذة الموهوبين الذين واصلوا عمله في جيل ثان. وكان الأهم من بين أولئك إدغار شيفيلد برايتمان وألبرت سي. نودسون (1873-1953) وفرانسيس جي. ماكونيل (1861-1951) ورالف تي. فيولينج (1871-1960) في حين أن هويسون أسس الثقافة الشخصانية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أخذ فيولينج الشخصانية إلى جامعة ثاوس كاليفورنيا والتي أصبحت ثاني أهم مركز للفكر الشخصاني في أميركا خلال القرن العشرين، كما وأنشأ فيولينج مجلة “الشخصاني” والتي ستعمل كمنصة للشخصانيين الأمريكيين، وفي عام 1915 قام بنشر “الشخصانية ومعضلات الفلسفة: تقدير لعمل بوردن باركر باون”.

استكمل برايتمان دراساته عن الشخصانية في جامعة بوسطن في الوقت الذي كان بون يشغل فيه منصب رئاسة قسم الفلسفة بينما تحول كودسون إلى اللاهوت الشخصاني بعد أن لقن دروساً في العهد القديم في البداية. في هذه الأثناء ساهم والتر جورج ميولدر (1907←) بروفيسور الأخلاقيات الاجتماعية واللاهوت المسيحي في جامعة بوسطن وجامعة ساوث كاليفورنيا بملء الفجوة بين المدارس البوسطنية والكاليفورنية مسمياً مذهبه “الشخصانية المجتمعية”.

استمرت المدرسة الشخصانية لبوسطن بالتأثير على الثقافة الأمريكية وأحياناً بأساليب غير متوقعة. طور الجيل الثالث من الشخصانيين الأمريكيين ممثلين بأعلام مثل بيترأي. بيترتوشي (1910-1989) ودبليو. غوردن ألبورت من هارفرد (والذي كان تلميذاً لويليام ستيرن) الأبعاد النفسية للشخصانية بشكل أكبر. درس مارتن لوثر كينغ في جامعة بوسطن تحت إشراف الشخصانيين ونسب الفضل إليهم بإعادة تشكيل نظرته للعالم:

"درست الفلسفة واللاهوت في جامعة بوسطن تحت إشراف إدغار إس برايتمان وإل. هارولد ديوولف ... لقد درست لدى هؤلاء الساتذة بشكل أساسي الفلسفة الشخصانية النظرية القائلة بأن حل اللغز لمعنى الحقيقة المطلقة موجود في الشخصية، وإلى اليوم لا تزال المثالية الشخصية موقفي الفلسفي الأساسي. إن إصرار الشخصانية على كون الشخصية - محددة ولانهائية - هي الحقيقة النهائية عزز لدي قناعتين: لقد أعطاني أرضية ميتافيزيقية وفلسفية حول فكرة الإله الشخصي وأعطاني أساساً ميتافيزيقياً لكرامة وقيمة الشخصية البشرية".

وبرغم ذلك فإنه من الجدير بالذكر أن الشخصانية الأمريكية لا يمكن اختزالها في مدرسة جامعة بوسطن فقط إذ انها ازدهرت أيضاً في جامعة هارفرد. فهي ليست فقط المكان الذي أتى منه هويسون إذ أن أعمال فلاسفة هارفرد الرائدين أمثال ويليام جيمس (1842-1910) ويوشيا رويس (1855-1916) وويليام أيرنست هوكينغ (1873-1966) وتشارلز هارتشورن (1897-2000) يظهر فيها عناصر شخصانية قوية.

الجميع باستثناء رويس أطلقوا على أنفسهم لقب شخصانيين.

5. الشخصانية الشرقية

يوجد في العديد من النواحي أوجه شبه موازية ومكافئة للشخصانية الغربية لدى كل من الفكر الإسلامي والبوذي والفيدانتيك والصيني، برغم أن الأعمال المقارنة في هذا المجال ووجهت بمشاكل جمة بالترجمة والتأويل.

فيما يتعلق بالاسلام فمن المفترض الإشارة إلى أن الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية بجذورها المستمدة من الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية لا يمكن اعتبارها شرقية على نفس الإعتبار مع الفكر البوذي والفيندانكي والصيني والياباني، فهي تتشارك الجذور مع الأوغسطينية والتوماوية وبالتالي فهي تشارك بعض التقاليد التي كانت محورية لتطور الشخصانية في الغرب.

من ناحية أخرى، لوحظ أنه لا يوجد معادل مفاهيمي في العربية وفي الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية للمفهوم الفلسفي الغربي “للشخص” “person” الأمر الذي من شأنه أن يؤكد على أهمية الأصول المفاهيمية والإصطلاحية المسيحية على وجه التحديد للمصطلح ومنها مصطلح الثالوثية إلى حد كبير. ولكن بما أن هناك مصادر أخرى للشخصانية غير الفكر الثالوثي والذي كان حاسماً للتشكل الأولي للمفهوم  (ويجب التركيز هنا أيضاً بأنه لم يكن بعد مفهوماً شخصانياً بالكامل بالمعنى الحديث) وكما أن هذه المصادر أنتجت النسخ اليهودية للشخصانية، إلا أن الغياب التاريخي للمعادل المفاهيمي المكافئ بالعربية لم يمنع تطور الشخصانية الإسلامية، يمكن العثور على الموضوعات التي تأخذ بعين الإعتبار الذات وطبيعة الإله المشابهة جداً للشخصانيين الغربيين لدى المفكريين المسلمين الحداثيين مثل محمد إقبال (1877-1938). كما وقد سعى محمد عزيز لحبابي (1922-1993) بشكل صريح لتطوير نسخة إسلامية من الشخصانية متأثراً لاسيما بمونييه.

لم يُعثَر على مقابل مفاهيمي دقيق “للشخص” في التقاليد الأكثر شرقية أيضاً (التقاليد التي لا تشترك بجذور فلسفية إغريقية). وعندما نتحدث عن الشخصانية في حالة هذه التقاليد فإننا نتحدث عنها من ناحية الموضوعات والمواقف موضحة بمصطلحات لمفاهيم أخرى أقرب إلى المفاهيم الغربية مثل “الذات” “self” و”الفرد” “individual” والتي هي جزء من الشخصانية الغربية وتدخل في تعريف المفهوم الحديث للشخص.

على سبيل المثال، ينطبق مصطلح “الشخصانية” مع المدرسة البوذية الأولى المسماة (puggalavada) والتي تتخذ مواقف محابية لهوية واستمرارية الذات الفردية والتي تختلف عن المواقف التقليدية لبوذية ثيرافادا ، تم العثور لاحقاً على نسخ أخرى من هذه المواقف في بعض تيارات فكر الماهايانا.

على أي حال تم العثور نظائر أكثر وضوحاً في الفيدانتا، انقلبت مدرسة “vishishtadvaita” اللاازدواجية المؤهلة ضد اللاازدواجية الراديكالية لأدفايتا ” advaita” وأصرت ليس فقط على ما تنص عليه الأعمال الإنكليزية (بممثلي هذه المدرسة والمدارس اللاحقة والتي تنتقد الأدفاتيا بشكل مماثل) والذي يطلق عليه صراحةً المفهوم الشخصي لـ “براهمان” ” brahman” أو المطلق، ولكن أيضاً على الفهم الشخصي للكائنات المفردة على مُجزّأة “jivatmas ” والتي هي أجزاء من البراهمان (بنفس الوقت أجزاء ذات تحولات متميزة). وكون مدارس الدارشانا ” darshanas ” الكلاسيكية المختلفة للفكر الهندي ليست معزولةً بشكل كامل عن بعضها وبما أنها تتبادل التأثير فيما بينها فإن عناصر فكر سامخيا ” Samkhya ” يتم تناوله أيضاً في شخصانية الفيدانتا إذ لا تزال عناصر من اليوغا ومن الإرث الكتابي الهندوسي التقليدي حاضرة.

الوضوح والبدائية التقليدية والطبيعة الأساسية لتعاليم النفس الدائمة atman في الفيدانتا ولا سيما في المدارس التي تنتقد الأدفايتا هي من جعل الشخصانية أكثر وضوحاً في البوذية من “puggalavada” . إن السمة الملفتة للنظر للجدل القائم ضمن الفيدانتا بين المدارس اللاشخصانية واللاازدواجية اللاهوتية هي أنها تتشابه بشكل جزئي وموازي للتناقض بين ممثلي المثالية المطلقة والمثالية الشخصانية في الغرب في القرن التاسع عشر على الرغم من التباعد بينهما زمانياً ومكانياً وعلى الرغم من الاستقلال المتبادل والاختلاف في السياق المفاهيمي. ولكن في حين أن هناك تقليد علمي طويل الأمد للعمل المقارن حول الأدفاتيا والفيدانتا والمثالية المطلقة (ولاسيما في نسخة ف.هـ . برادلي) فإنه لم يتم إنجاز سوى القليل من هذا العمل حول vishishtadvaita والمدارس الفيدانتيكية الشخصانية المشابهة والشخصانية المثالية المبكرة في الغرب.

إن أكثر ما يميز الشخصانية الفيدانتيكية عن الشخصانية الغربية أن الأولى تبنى على التعاليم الأساسية للفيدانتا ككل وذلك بأن النفس الحقيقية توجد ما وراء حدود الجسد والعقل الانتقاليين وما وراء الميل للتعريف من خلالهم (يطلق عليها (ahamkara) الأهماكارا في السنسكريتية ومعناها الحرفي “أنا الصانع”)، في حين أن الشخصانية الغربية غالباً ما تُعرّف وبشكل مميز بمصطلحات ينظر إليها من منظور الفيدانتا على أنها مرتبطة بالمستوى العقلي وفي بعض الأحيان، في القرن العشرين خصوصاً، متعلقة بالجسد المادي.

ولكن هذا لا يعني بأن الجسد وفقاً للشخصانية الفيدانتيكية يجب تجاهله أو التقليل من أهميته. فمن وجهة نظرها بشكل رئيسي فإن التطابق الخاطئ مع العقل يضر الجسد إذا أنه مكرس للاستخدام الملائم من قبل العقل بحد ذاته. إن تحقيقنا لطبيعتنا الحقيقية والعليا بالوعي هو كما الـ “sat-cit-ananda” (الذي يمثل الخلود والمعرفة والنعيم) وهو طبيعة الأتمان براهمان “ atman-brahman ” يجلب الضوء للجسد والعقل بما في ذلك جميع الملكات التي جرى تحليلها عن كثب من قبل الشخصانيين الغربيين مثل الإرادة والخيال والمنطق. وبالتالي فهي تدعم بشكل غير مباشر على الأقل وبالقدر المطلوب، تشكيل الشخصية الأخلاقية على المستوى الإنساني الذي تؤكده الشخصية الغربي.

يتشارك معظم الفكر الصيني والياباني التقليدي مع الشخصانية بالتأكيد على الحاجة إلى تغيير ملموس وعملي للشخصية كشرط مسبق لفهم أعمق. في النسختين الصينية واليابانية من البوذية يستمر التقليد الهندي في ابتكار ممارسات وتمارين محددة لهذا الغرض ولكنها تنفصل تدريجياً عن الارث النظري والميتافيزيقي المقابل الموازي والقوي جداً للهند. ويمكن القول أن هذا التطور يبلغ ذروته في الزِن ((ZEN مدرسة يابانية في البوذية تؤكد على أهمية التأمل والحدس). لكن التركيز على الجانب العملي أيضاً يتواجد في التاوية والتي ساهمت في تطور الـ Zen. وفي نفس الوقت تتشارك هذه المدارس جميعها بفهم الواقع المطلق أو الحقيقي على أنه لا شخصي عوضاً عن كونه شخصي مما يجيز استبعادهم من الشخصانية أكثر من الفيدانتا.

تشترك الكونفوشوسية مع التقاليد الصينية واليابانية الأخرى بالتأكيد على الجانب العملي ولكنها على النقيض منهم تركز بشكل حصري أكثر على المستوى “الإنساني”، على التشكيل الأخلاقي للشخصية وعلى متطلبات النظام الاجتماعي. في حين أن توجهها الإنساني يتماشى مع الشخصانية إلا أن الكونفوشوسية تهتم بالتحقيق العملي للمثل العامة للنبل والإنسانية الحقة كما هو مُعتقد بالتقليد الصيني أكثر من الفردية والتمييز الشخصي التي يشدد الشخصانيون الغربيون على أنها مرتبطة وغالباً لا يمكن فصلها عن الفهم والتأثير الحقيقيين للقيم الكونية.

قدمت الكونفوشوسية الجديدة كما طورها تشو هسي (1130- 1200) عناصر ميتافيزيقية متينة ولكن فهم القوانين والمبادئ الميتافيزيقية مازال فهماً عاماً. اختلف الكونفوشوسيون الجدد الآخرون إلى حد ما حول هذا، وفي حين أن الكونفوشسية مازالت تقليداً حياً في الصين اليوم يستمر مفكرون جدد بتطوير نسخ منها مقاربة أكثر للشخصانية. يخدم هذا الأمر إضافة إلى أهمية تكوين الشخصية الإنساني لصالح تسمية الكونفوشسية كفلسفة شخصانية بالعموم. ولكن هناك أيضاً بعض الاعتبارات التي تعارض ذلك سواءً اعتبارات عامة تتعلق ببعض نواحي المجتمع الصيني التاريخي أو الاعتبارات الميتافيزيقية لمنظور نسخة تشو هسي عن الكونفوشسية الجديدة.

6. السمات المميزة للفكر الشخصاني

رغم أن الشخصانية تشمل العديد من الأشكال والتأكيدات المختلفة إلا أنه يمكن تبيان سمات مميزة محددة تجعل الشخصانية على ما هي عليه. تتضمن هذه السمات التوكيد على الاختلاف الجذري بين الأشخاص وغير الأشخاص وعلى عدم إمكانية اختزال الشخص في عوامل مادية أو روحية لا شخصية وأيضاً التأكيد على كرامة الأشخاص تركيزًا على ذاتية الشخص وتقريره لمصيره إضافةً إلى تركيز خاص على طبيعة الذات العلائقية للشخص.

1.6 البشر والحيوانات والطبيعة

يصر الشخصانيون عموماً على زيف ادعاء دارون القائل بأن اختلاف الإنسان عن باقي الكائنات الأرضية هو اختلاف من حيث الدرجة وليس من حيث النوع. كما وحددت الاستثنائية البشرية معظم ملامح الفكر الشخصاني. من الواضح أن هذه الاستثنائية ليست مقصورة على الشخصانية فحسب وإنما تمثل بالأحرى افتراضاً قياسياً للأنتروبولوجيا الفلسفية الكلاسيكية. في عام 1625 على سبيل المثال كتب غروتيوس “إن الإنسان هو حيوان على الأكيد، ولكنه من نوع متفوق جداً يبعد كل البعد عن باقي الحيوانات الاخرى أكثر بكثير من بعد الأنواع المختلفة للحيوانات عن بعضها البعض” (De iure belli ac pacis, Prolegomena, 11)

وبحسب المفهوم الشخصاني النموذجي يعتمد التصنيف الأساسي لجميع الكائنات على التمييز بين الأشخاص وغير الأشخاص. بالنسبة للعديد من الشخصانيين فإن ما يجعل الإنسان “غير مشابهاً” للحيوانات الأخرى يختلف عما يجعل قرد البابون مختلفاً عن الزرافة أو حتى ما يجعل قرد البابون مختلفاً عن الحجر، وكما كتب جاك ماريتان: “متى ما قلنا عن الإنسان أنه شخص فإننا نعني بأنه أكثر من جزيئات مادية، أكثر من كونه عنصراً فردياً في الطبيعة كذرة أو ورقة من العشب أو ذبابة أو فيل. الإنسان حيوان وفرد ولكن بشكل مختلف عن الحيوانات والأفراد الأخرى.”

أو كما كتب ويليام سيترن في مقدمته لكتاب (Person und Sache (vol. 2)):

"بصرف النظر عن أي أوجه تشابه يتم من خلالها تحديد الأشخاص كأعضاء من الجنس البشري، أو عرق أو جنس معين، وما إلى ذلك، وبصرف النظر عن أي انتظامات واسعة كانت أم ضيقة تشارك في الأحداث الشخصية فإن هناك تفرداً بدائياً سيبقى كل شخص يكوّن من خلاله عالماً بحد ذاته بالنسبة للأشخاص الآخرين". 

وبذلك يرد الشخصانيون ليس فقط على الأشكال الرئيسية للمثالية والمادية والحتمية في القرن التاسع عشر ولكن حتى على موضوعية أرسطو. فأرسطو باتباعه منهجه لتعريف الكائنات من حيث جنسها القريب والاختلافات المحددة يعرف الإنسان على أنه حيوان عقلاني ” (ho anthropos zoon noetikon Aristotle, Hist. Anim. I, 1: 488a7; Nichomachean Ethics I, 5: 1097b11; VIII, 12: 1162a16; IX, 9: 1169b18; Politics, I, 2: 1253a3″). وفي في حين يقبل الشخصانيون هذا التعريف بقدر ما يذهب إلا أنهم يرون مثل هذا البناء اختزال غير مقبول للشخص البشري إلى العالم الموضوعي المحسوس. إن هذه النظرة الكونية الموضوعية للإنسان على أنه حيوان يملك سمة مميزة هي التفكير المنطقي – والتي من خلالها يكون الإنسان في المقام الأول شيئاً جنباً إلى جنب مع الأشياء الأخرى في العالم الذي ينتمي إليه جسدياً- هي نظرة صالحة جزئياً فقط وغير كافية. في محاولة منها لتأويل وشرح الذاتية التي هي أكثر ملائمة للشخص، تعرب الشخصانية عن إيمان بكل من البعد اللامادي والتفرد البدائي للكائن البشري وبالتالي إلى عدم قابلية الاختزال الأساسية للإنسان إلى العالم الطبيعي.

 يرى العديد من الشخصانيين أن الإنسان يتعامل مع جميع أنواع الواقع الأخرى كأشياء (أمر يتعلق بشكل مقصود بالذات) ولكنهم يؤكدون على وجود اختلاف جوهري بين الإنسان وبين باقي الأشياء الأخرى. الشخص لوحده هو “شخص ما” أكثر من كونه “شيء ما” وهذا ما يميزه عن أي كيان آخرى في العالم المرئي. لا يوجد موقف محدد خاص كان أو عام يمكن تمييزه للشخصانيين بخصوص طبيعة الحيوانات. ولكن التمييز الحاد بين “شخص ما” و”شيء ما” على وجه الخصوص عند تطبيقه على الكائنات الواعية الأخرى يعكس تأثير كل من التقليد اليهودي – المسيحي على الشخصانية بالإضافة لبعض من أثر أو روح العقلانية الديكارتية الحديثة والتي لم تسلم لاحقاً من تأثير الثنائيات المسيحية الموروثة طبعاً. تصور الشخصانية الإنسان على أنه الوحيد الذي يعد ذاتًا وموضوعًا في الوقت ذاته، بحيث يتم اعتبار هذا الأمر حقيقةً لجميع الأشخاص بصرف النظر عن العمر أو الذكاء أو الصفات وما إلى ذلك، فبالنسبة للشخصانيين تضمن الذاتية الشخصية بأن الجوهر الصحيح للإنسان لا يمكن إنقاصه وتفسيره بشكل كامل من خلال الجنس القريب والاختلاف المحدد. لتصبح الذاتية إذن نوعاً من المرادفات لما هو غير قابل للاختزال في الكائن البشري. ولكن الشخصانية الواقعية الأوسع تفترض في التقليد الكلاسيكي والمدرسي بأن الاختلاف الأساسي بين الإنسان وباقي الأشياء وهو قدرة الإنسان على النطق (واللغة كنتيجة مباشرة لذلك) وهو ما يميز الشخص عن عالم الكينونات الموضوعية بأسرها. في حين أن الطبيعة الفكرية والروحية على وجه التحديد للإنسان هي ما تجعل الذاتية ممكنة فإنه يمكن القول أن ذاتية الشخص البشري تنطوي أيضاً على شيء من الموضوعية ومع ذلك يصر هؤلاء الشخصانيون على الفصل الواضح بين الكائنات اللاشخصية وبين ذاتية الشخص هذه المشتقة من طبيعته العقلانية بمعنى أعلى أو أوسع. بغض النظر عن كيفية فهم الحيوانات بدقة أكبر، فإن الشخص يختلف عن أكثرها تطوراً بنوع معين من الذات الداخلية والحياة الداخلية والتي تدور بشكل مثالي حول سعيه للحقيقة والخير وحول توليد اهتمامات وتساؤلات أخلاقية ونظرية خاصة بالشخص.

تولي الفروع الأخرى من الشخصانية، كتلك التي تمثلها الفلسفة الحوارية لمارتن بوبر، اهتماماً أقل للاختلاف بين الأشخاص وغير الأشخاص وتؤكد عوضاً عن ذلك على الطريقة التي يرتبط بها المرء مع الواقع ككل. يقسم بوبر طريقة التعامل مع أنواع الواقع الأخرى إلى اثنين وأطلق عليهما علاقة الـ “أنا – أنت” وعلاقة “أنا – شي” تعكس الأولى الانفتاح الأساسي لواقع الآخرين فيما تعكس الثانية شيئية وتبعية الآخرين للشخص. وفقاً لبوبر فإننا نتعامل مع الآخرين إما كـ ” it شيء ” ومنه تتشكل الكلمة الرئيسية “أنا – شيء” (I – It) أو كـ “أنت Thou ” ومنه تتشكل الكلمة الرئيسية “أنا – أنت” (I – Thou). ومع ذلك ففي حين يؤكد بعض الشخصانيون على أن “أنا – أنت” هي الطريقة الوحيدة الملائمة للتعامل مع الأشخاص و”أنا – شيء” هي الطريقة الوحيدة للتعامل مع الأشياء فإن بوبر يقدم علاقة “أنا – أنت” على أنها مثالية لتعامل الشخص البشري مع جميع أنواع الواقع الشخصي وغير الشخصي على حد السواء. ومع أن علاقة “أنا – شيء” تتخذ سمت مختلفة بحسب المحيط الذي تنشأ فيه العلاقة (طبيعة، بشر، كائنات روحيه) فإنه وفقاً لبوبر يقبع الاختلاف الأساسي بداخل الشخص البشري بحد ذاته وبالاتجاه الذي ينخرط به مع الواقع.

توصّل بعض الشخصانيين إلى وجهة نظر نقدية للاستثنائية البشرية المشكّلة بشكل صارم وذهبوا أبعد من بوبر في إعادة النظر ليس فقط في موقف الإنسان وإنما أيضاً في الثنائية الجامدة التي تنطوي عليها النظرة إلى أن كل شيء ليس أشخاص بشرياً (وإلاهياً) هو مجرد شيء لا شخصية لا روح لها. يعد الفيلسوف التشيكي ارزيم كوهاك مثالاً عن المفكرين الشخصانيين المعتبرين ذوي الأهمية والذي حاول إعادة النظر في اتجاهاتنا وفهمنا للطبيعة في هذا الصدد. تمثل الجهود المختلفة لتجاوز التجسيد الشيئي للطبيعة ولأشكال الحياة الأخرى إلى تصور كون شخصي أكثر شمولاً مواقف بعض الشخصانيين المثاليين الأوائل في القرن التاسع عشر بشكل جزئي. شخصانيون كهؤلاء قاموا في بعض الأحيان بدمج وجهات النظر المتراكمة والمترابطة للوعي الذاتي والذاتية والداخلية والفردية والارادة والخيال والتاريخية بطريقة لا تزال التيارات التوماوية العامة أحادية الجانب للشخصانيين غالباً لم تتطرق إليها في بعض النواحي، كما أنهم اقتربوا أيضاً من نظرة إلى الطبيعة تصحح الثنائية المفرطة الجمود لعالم مخلوق بهكذا مسافة عن خالقه، وذلك بحيث يكون مستقلاً تقريباً ويكون فيه مفصولاً بشكل حاد عن باقي المخلوقات. من الواضح أن شكل الحياة البشرية استثنائي بحيث يتيح درجة أعلى لتطور الشخصية من جميع النواحي ولكن كنتيجة مباشرة لهذه النظرة يتم اعتبار موقف النباتات وحتى الحيوانات على أنها مجرد أشياء لا شخصية بدون وعي ويبدو أن نوعها الخاص من الذاتية يُنظر إليه على أنه إشكالي بشكل متزايد من قبل الشخصانيين.

يعكس جزء مهم من الاستثنائية البشرية للفلسفة الشخصانية هذه الانقسامات في عالم لم يعد فيه وجود للإلهي المحسوس أو المدرك في الطبيعة. إن العالم اللامركزي الحديث كما أوضحته الديكارتية (ولكن أعده أوكام وفي بعض النواحي أكويناس) حتى هو أيضاً واقع من العالم اللاشخصي في نواح مهمة. ولأخذ الحيطة من الشخصانية الجديدة والضبابية الأخلاقية للمؤمنين بوحدة الوجود الرومانسيين، فإن الشخصانيين الأوائل في القرن التاسع عشر على الأقل أدركوا بوضوح معضلات الثنائية الصارمة في الكثير من اللاهوت المسيحي وكذلك العقلانية الحديثة والتنوير والعلموية.

6.2 كرامة الشخص

في التأكيد على تفرد الأشخاص مقابل جميع الكينونات الأخرى، حدد الشخصانيون المتأثرون بالتوماوية خط الفصل الأساسي للواقع بحيث يفصل الكائنات الشخصية عن غير الشخصية وتبعاً لذلك فإن التعامل مع الأشخاص يتطلب نموذجاً أخلاقياً مختلفاً عن النموذج الذي يصف التعامل مع الوقائع الغير شخصية فقواعد التعامل مع الواقع الغير شخصي لا تنطبق عند التعامل مع الاشخاص والعكس بالعكس. إن هذا التقسيم الثنائي الراديكالي بين الأشخاص وغير الأشخاص هو بالأساس أنطولوجي أو ذو طبيعة متعالية تأسيسية ولكنه ينتج عواقب فورية على المستوى الأخلاقي.

يتموضع التأكيد على كرامة الشخص موضع القلب من الشخصانية، هذه الميزة التي أصر عليها مفكرو القرون الوسطى والتي ينشأ عنها الامتياز الفريد للشخصية البشرية والتي ينبثق عنها متطلبات أخلاقية معينة. تشير الكرامة إلى القيمة الموروثة للشخص كـ “شخص ما” لا كـ “شيء ما” فقط وهذا يعطي قيمة مطلقة غير موجودة لدى الكائنات الأخرى. يرفض هنا الشخصانيون العقلانيون الكلاسيكيون مفهوم هوبز للكرامة كثمن تحدده الأمة للفرد وهم بالأحرى يناصرون كانط بتأكيده على أن الكرامة موروثة وتفرض نفسها فوق كل الأثمان.

تلغي لغة الكرامة إمكانية تضمين الاشخاص في عملية مقايضة كما لو كان ثمنهم تابعاً لمنفعتهم. كل شخص دون استثناء له قيمة لا تقدر بثمن ولا يمكن الاستغناء عن أي شخص أو استبداله. لا يمكن للشخص أن يضيع أو ينصهر تماماً ضمن المجموع لأن علاقته المتبادلة مع الاشخاص الآخرين تُعرف وتُحدد بامتلاكه لقيمة فريدة لا يمكن استبدالها. يمكن القول بأن الاتفاق مع كانط في هذا الصدد يبني جسراً بين الشخصانية بمعناها الأوسع والشخصانية بمعناها الأضيق.

إن عزو كرامة أو قيمة فريدة للشخص البشري يلقي الضوء أيضاً على الفضيلة الأصلية والجوهرية للعدالة. يتوقف إعطاء “لكل ما يستحقه” على فهم الشخص لما يستحقه الآخر ولا يمكن تحقيق هذا بشكل صحيح دون الأخذ بعين الاعتبار الكرامة والقيمة واللتان هما في الوقت ذاته صفتان عامتان لجميع الأشخاص ولا يمكن فصلهما عن فردية كل شخص، ولذلك يلقي شخصانيو المعنى الواسع بتأكيد خاص على ما يستحقه الأشخاص بناءً على حقيقة شخصيتهم وعلى الاختلاف بين التصرف مع الشخص والتصرف مع واقع آخر. عندما يكون الشخص أداةً لفعل شخص آخر تدخل بنية أخلاقية كاملة إلى المسرح الذي كان خالياً عندما كانت أداة فعل الشخص شيء. تشكل الكيفية التي يجب أن يُعامَل بها الأشخاص فئة أخلاقية مستقلة ومنفصلة بالجوهر وليس فقط بالدرجة عن طريقة التعامل مع غير الأشخاص.

فيما تشدد الأنظمة الأخلاقية التقليدية على الآليات الداخلية للعامل الأخلاقي (الوعي، الالتزام، الخطيئة، الفضيلة….إلخ) وعلى تأثير الافعال الحرة على الميثاق الأخلاقي، يضيف الشخصانيون إلى ذلك اهتماما خاصاً بالطابع المتعالي للفعل البشري ولكرامة الشخص المتعامَل معه، إن الخاصية المطلقة للشخص تتيح المجال أمام وجود قواعد أخلاقية مطلقة عند التعامل مع الأشخاص.

بالنسبة للشخصانيين لا تعتمد الكرامة الإنسانية بمعناها هذا على متغيرات مثل الذكاء الفطري أو القدرة الرياضية أو البراعة الاجتماعية. ولا يمكن أن تكون نتيجة فقط لحسن السلوك أو الجدارة الأخلاقية وإنما يجب أن تكون متجذرة بالطبيعة البشرية بحد ذاتها بحيث يتشارك جميع أفراد النوع هذه الكرامة على أعمق مستوى برغم الاختلافات في السلوك الاخلاقي والفروقات الناجمة عن ذلك في الميثاق الأخلاقي. وينظر إلى الفرق بين أن تكون شيئاً ما أو شخصاً ما بشكل متطرف لحد أنه لا يعترف بالدرجات، وينكر معظم الشخصانيون فكرة كون الشخصية البشرية شيء يمكن بلوغه تدريجياً. إنها مثل وظيفة ثنائية (1 أو 0) أو مفتاح تبديل (تشغيل أو إيقاف) لا يعترف بأي حل وسط. وكما أسلفنا، فإن هذه المواقف يمكن أن ترتبط بنظرة لا تخلو من الإشكاليات عن الطبيعة غير البشرية.

يقبل مفكرو الشخصانية بالمعنى الضيق وجهة النظر عن كرامة الإنسان ويماشونها كما هي في أخلاقيات كانط أو فلسفته العميقة ولكن قاموا بتعديلها والاضافة إليها لا سيما من منظور فهم شخصاني أكثر عمقاً وشمولاً لأهمية التميز الفرداني. وبما أنهم لا يؤكدون على أهمية الشخص فقط في إطار وجود مسبق من الميتافيزيقيا والانتروبولوجيا الفلسفية واللاهوتية، فهناك مساحة نظرية متاحة لهم لتصور العالم الغير بشري “الأشياء” بطريقة أقل شيئية واستغلالية. كان الشخصانيون المثاليون الأوائل أكثر ميلاً لرؤية الطبيعة الخارجية أيضاً كتعبير مطلق عن الواقع الشخصي ولتغيير مظهرها اللاشخصي من حيث مبدأ محدودية إدراكها المحدودة.

6.3 الداخلية والذاتية

يؤكد الشخصانيون أن الأشخاص “ذوات” فقط. ولكن هذا لا يعني أن الكائنات بالمعنى النحوي لا “تتصرف” أو ” تنتج” أو “تسبب” ولكنها بالأحرى لا تمتلك ذاتية بالمعنى الحديث، تعتمد الذاتية في المقام الأول وبشكل أساسي على وحدة الوعي الذاتي والداخلية والحرية والاستقلالية الشخصية. بالرغم من أن الكائنات اللاشخصية قد “تتصرف” بالمعنى النحوي إلا أنها حقيقةً ليست سوى فاعلة للفعل إذ أن مسبب أفعالها يقبع خارجاً. بالرغم من الاختلاف فيما يخص الطبيعة النهائية لـ “غير الشخصي” بين بعض مفكري الشخصانية بالمعنى الضيق ومفكري الشخصانية بالمعنى الواسع، إلا أن ثمة تداخل مهم في هذا المضمار بين شكلي الشخصانية. بالنسبة للشخصانيين المؤمنين تشمل الذاتية الشخصية الأبعاد الدينية والأخلاقية والتي هي أجزاء لا تتجزأ من طبيعة الشخص كذات واعية وذكية وحرة ومستعدة مرتبطة بالله وبالآخرين.

يمارس الأشخاص الابداع من خلال التفكير والتخيل والفعل، كذوات حرة وكمفكرين، إبداعا يؤثر على العالم المحيط وعلى الشخص بحد ذاته. علاوة على ذلك، لاحظ الشخصانيون أن التجربة المعاشة للشخص البشري ككائن واعٍ لذاته لا تفضي فقط عن الأفعال بل تفضي أيضاً عن الأحداث الداخلية التي تعتمد على الذات، تدخل هذه التجارب المعاشة بطريقة واعية في تكوين وتفرد الشخص أيضاً. وفيما يتعلق بالمسألة الأخلاقية، فالأشخاص ليسوا فقط ذوات حرة ومسؤولة أخلاقياً ولكن ذاتيتهم تفرض على الآخرين مسؤولية أخلاقية تجاههم.

ما ندركه “كأشياء” يمكننا التحقق منه ومعرفته من الخارج بما يمكن اعتباره “موضوعات”، بمعنى أنها تبرز أمامنا وتقدم أنفسها ولكن دائماً من الخارج عنا. يمكن وصفها وتحديدها وتصنيفها. يقبل شخصانيو الواقعية الكلاسيكية أهلية وحتى ضرورة معرفة الإنسان على هذا النحو أيضاً. يمكن من وجهة النظر الموضوعية هذه تمييز الكائن البشري وبيان تفوقه على بقية أنواع الوقائع. بالأحرى، يوجد لدى الشخص البشري بعد فريد يقدم نفسه، بعد ليس موجوداً لدى بقية أنواع الواقع. يختبر الاشخاص البشريون أنفسهم في البداية كذوات لا كموضوعات، من الداخل لا من الخارج، وبالتالي يكونون حاضرين أمام أنفسهم بطريقة لا يقدر أي واقع آخر أن يقدم نفسه بها لهم. وهنا غالباً ما يظهر تأثير وقيمة الأسلوب الفيمنولوجي وبعض نواحي التقليد المثالي المبكر تجعل نفسا حاضراً ومحسوساً وبشكل خاص في الشخصانية وتقدم إضافة إلى التحليل الواقعي الكلاسيكي. يُسبر جوهر الشخص كحدس في الداخل لا باختزال نظام فكري أو بالملاحظة العملية بالمعنى التقليدي. يجب أن يُعامل الكائن البشري كذات ويجب أن يُفهم بالأخص من وجهة النظر الحديثة عن الذاتية البشرية كما يحددها الوعي. ولا يرى الشخصانيون هذه المساهمة تستبدل ببساطة جميع المفاهيم السابقة الموضوعية للإنسان وإنما مكملة لها تماماً.

الحضور الذاتي الواعي هذا هو داخلية الشخص البشري وهو محوري لمعنى مفهوم الشخص بحيث يمكن القول أن الشخصية تُدل الداخلية إلى الذات. وبسبب ذاتية الشخص فإن الشخص لا يتصرف أو يُثار استجابةً للعوامل الخارجية فقط وإنما يتصرف من الداخل أيضاً من صميم ذاتيته الخاصة. وكونه الكاتب لجميع تصرفاته فإن الشخص يمتلك هوية من صنعه الخاص هوية لا يمكن اختزالها بالتحليل الموضوعي وبذلك يقاوم التعريف. مقاومة التعريف هذه وعدم القابلية للاختزال هذه لا تعني أن ذاتية الشخص وتجربته المعاشة لا سبيل لمعرفتها، وإنما يتوجب علينا معرفتها بشكل مختلف، بأسلوب يكشف ويظهر الجوهر فقط. يختبر المرء في التجارب المعاشة للتملك الذاتي والحكم الذاتي أن يكون شخصاً وذاتاً، ومن خلال التعاطف والمشاركة الوجدانية يختبر المرء شخصية الآخرين. ولتطبيق المصطلحات المبكرة مع إضافة بعض المعاني الحديثة فإن الشخص يتألف من كفاف موضوعي ” ύπόστασις ” وكفاف الذاتي ” πρόσωπον “. خلاصة الشخصانية هي كون تجربة الإنسان لا يمكن اشتقاقها عن طريق الاختزال الكوني. لنقف برهة عند عدم قابلية الاختزال هذه والتي هي مميزة وغير قابلة للتكرار لدى كل إنسان والتي بموجبها هو/هي ليس فقط كائناً بشرياً محدد – فرد من فصيلة معينة – ولكن أيضاً ذات شخصية. يبدو جلياً أن إطار عدم قابلية الاختزال ليس تفصيلياً وشاملاً لكل الظروف البشرية وأن فهماً كهذا يجب أن يُكمَّل بمنظور كوني. ومع ذلك، كان الشخصانيون ليقولون أنه من المستحيل الوصول لفهم حقيقي للشخص عند اهمال ذاتيته.

يشرح التركيز على ذاتية الشخص إصرار العديد من الشخصانيين وتأكيدهم على الاختلاف بين مفهوم “الشخص” وبين مفهوم “الفرد”. كتب جيلسون “كل شخص بشري هو فرد أولاً، ولكنه أكثر بكثير من مجرد فرد، إذ يمكن الحديث عن الشخص فقط كشخصية بارزة وذلك عندما يمتلك جوهر الفرد المعني حقاً خاصاُ بكرامة أكيدة”. يكمن التمييز الأساسي في أن “الفرد” يمثل وحدة منفردة في مجموعة متجانسة قابل للتبديل مع أي عنصر آخر في المجموعة في حين أن “الشخص” يتسم بتفرده وعدم إمكانية استبداله.

فمثلاً كتب فون بالثاسار “قليل من الكلمات تمتلك العديد من طبقات المعاني ككلمة (شخص) فعلى السطح تعني أي كائن بشري أي فرد قابل للعد، أما معناها الأعمق فيشير إلى تفرد الفرد الذي لا يمكن استبداله وبالتالي لا يمكن عده“. في هذا المعنى العميق لا يمكن عد الاشخاص، إذا ما صح التعبير، لأن الشخص المفرد ليس مجرد واحد من سلسلة يكون أي عنصر فيها متطابقاً مع باقي العناصر لجميع الأغراض العملية فيكون قابلاً للاستبدال مع أي فرد آخر. يمكن للمرء أن يعد التفاح لأن أية تفاحة هي جيدة كأية تفاحة أخرى (بمعنى آخر، ما يهم هو ليست هذه التفاحة وإنما ما يهم هو “تفاحة” بكل بساطة)، إلا أن “الأشخاص” لا يمكن عدهم بهذه الطريقة. يمكن للمرء أن يعد الكائنات البشرية كأفراد من نفس النوع ولكن كلمة “شخص” تؤكد على تفرد كل عنصر من الجنس البشري، على عدم إمكانية مقارنته ووعدم إمكانية نقله. يمضي فون بالثاسار قدماً في ذلك إذ يقول:

"إذا ميز المرء بين "الفرد" و"الشخص" (وهذا ما يتوجب علينا فعله إذا ما أردنا أن نكون واضحين) إذن فإن كرامة خاصة سوف تعزى للشخص وهي كرامة لا يمتلك "الفرد" لها مثيلاً. سوف نتحدث عن الشخص فقط عند الأخذ بعين الاعتبار تفرده وعدم إمكانية مقارنته وبالتالي عدم إمكانية استبدال الفرد".

على الرغم من صحة هذه التمييزات الفلسفية سواءً بالحديث عن الفرد البشري أو الشخص البشري، فإن هذان ببساطة اسمين اثنين مستخدمان للواقع ذاته. يسارع الشخصانيون للتأكيد على أن الشخصية ليست مضافة إلى الإنسانية بل موروثة في جوهر جميع الكائنات البشرية إذ هي متجذرة في الطبيعة البشرية نفسها. “الشخص البشري” و”الفرد البشري”، في حين أنهما ينطويان على أبعاد مختلفة للكائن البشري إلا أنها مصطلحات مترادفة في جميع اللغات وتملك الدلالة ذاتها. اقترح بعض المفكرين ايجاد تمييز حقيقي بين الشخص البشري وبين الفرد البشري. من وجهة نظرهم، تصبح الشخصية “إضافة” مكتسبة من قبل الكائن البشري وحالةً لا تدرك بمجرد أن يكون الكائن فرداً من هذا النوع ولكن عن طريق الدخول بعلاقات محددة مع الأشخاص الآخرين بأسلوب مراعٍ ومقصود. بمعنى آخر، في حين أن جميع الأشخاص البشريين هم أفراد بشريون فإن العكس ليس صحيحاً.

يرفض الشخصانيون هذا عادةً ويؤكدون أن كل إنسان حي يمتلك بشكل طبيعي (حقيقةً وليس فقط مجرد احتمال، بالرغم من التأكيد اللاحق بقوة على أهمية تحقيق الذات) على وعي تعريفي وتأسيسي وعلى القصد والإرادة والقدرة المتطرفة على التفكير والضحك والحب والاختيار. هذه ليست فقط بضع سمات عامة متصورة تجريدياً لنوع معين، وإنما هي مظاهر لوظائف عضوية فردية ومتميزة لكل كائن بشري. على هذا النحو يرى الشخصانيون الشخصية كوجود متوازن في حين أن عملياتها تذهب وتأتي مع العديد من العوامل المتغيرة مثل عدم النضج والاصابة والنوم والشيخوخة.

6.4 تقرير المصير

الطبيعة الفكرية للإنسان هي وفقاً لبويثيوس السمة المميزة للشخصية، وهي أيضاً ينبوع الحرية والذاتية والخلود وحياة الإنسان الأخلاقية والمعرفية. إن الفرد كائن عقلاني وبالتالي كشخص يقدر على تمييز الصح من الخطأ والخير من الشر. لذلك فإن العلم والأخلاق مناسبين للأشخاص، وكون الشخص يمتلك طبيعة روحية فإن مصدر أفعال هذه الطبيعة هو داخلي وليس خارجي. يصر الشخصانيون أن الشخص البشري بتواصله مع العالم لا يتصرف بطريقة ميكانيكية أو حتمية بحتة وإنما من النفس الداخلية كذات (أنا) مع القدرة على تقرير المصير. امتلاك الشخص البشري للإرادة الحرة يعني أنه سيد نفسه. إن قدرة الشخص على تقرير مصير نفسه هي طبيعة الشخصية الغير قابلة للتحويل. لا تشير عدم قابلية الانتقال للشخص إلى تفرده وعدم إمكانية تكراره فقط. ما هو غير قابل للانتقال أو المصادرة لدى الشخص هو جوهري للذات الداخلية للشخص وللقدرة على تقرير المصير إذ لا يمكن لأحد أن يستبدل إرادته الحرة مع أحد آخر.

مم يتألف تقرير المصير؟ يفرق التمييز الكلاسيكي بين “الافعال البشرية” actus humani وبين ما يطلق عليه “أفعال الإنسان” actus hominis ، إذ يصف فعل الإنسان شيئاً ما “يحدث” ضمن الذات في حين أن الفعل البشري بشكله الصحيح ينسب حرية ومسؤولية الفعل إلى الذات. يشير عنصر السببية الداخلية إلى تقرير المصير. ويتضمن تقرير المصير هذا نوعاً من الفاعلية في جزء من الذات الفاعلة، فإذا أدركت “أنني أفعل” فهذا يعني أنني السبب الفعال لتصرفي. يربط إحساس الفرد بالفاعلية كشخص فاعل للفعل المنجز بدوره الشخص مع إحساسه بالمسؤولية تجاه الفعل بشكل وثيق. على المستوى الانطولوجي تجذب هذه الخبرة الانتباه إلى الارادة كقوة الشخص على تقرير مصيره في حين أنها في الوقت ذاته توضح أن تقرير المصير هي خاصية للشخص بحد ذاته، وليس فقط للإرادة. وبذلك فهي حرية الشخص من خلال إرادته. ومع ذلك تقرير المصير لا يصف فقط سببية الفعل بل يصف أيضاً الشخص الفاعل، بقيامه بالفعل لا يقود الشخص نفسه نحو قيمة فقط، وإنما يقرر مصيره أيضاً. هو ليس فقط السبب الفعال لتصرفاته هو أيضاً خالق ذاته بمعنى ما، وبالأخص ذاته الأخلاقية. باختياره القيام بأفعال صالحة أو سيئة يصنع الإنسان من نفسه كائناً بشرياً صالحاً أو سيئاً أخلاقياً، يرتبط العمل عضوياً بالصيرورة. عندما يتصرف الشخص هو يتصرف قاصداً غرضاً ما، قيمةً ما تجذب الإرادة لها. بنفس الوقت يشير تقرير المصير إلى الداخل تجاه الذات نفسها. وكنتيجة لذلك، يكون الكائن البشري قادراً على الوجود والتصرف “لذاته” أو يكون قادراً على تكوين غائية تلقائية معينة. هذا يعني أن الشخص لا يقرر فقط غايته الخاصة به بل يصبح أيضاً غايةً لذاته. الشخص ليس مسؤولاً فقط عن أفعاله، هو مسؤول أيضاً عن ذاته، عن هويته وميثاقه الأخلاقي. تعني الحرية أن الشخص مسؤول عن اختياراته ومسؤول أيضاً عن ذاته.

تنضوي الحرية وتقرير المصير أيضاً على علاقة وثيقة أيضاً مع سمة أخرى من طبيعة الشخص الروحية وهي الابتكار، فالحرية كخاصية للشخص تتيح له المجال أن يخلق عن طريق الفكر والفعل. الارادة ليست ببساطة المنفذ للخلاصات العقلانية للعقل، يعرض العقل مجموعة من الأغراض ليتم تحقيقها. لا تفرض أي منها نفسها بطريقة تكون فيها مرغوبة أو مختارة بالضرورة أكثر من الأخريات. الشخص بحد ذاته هو الذي يقرر تلقائياً وبحرية، ليقوم بالتالي بتحديد قيمه وهويته الأخلاقية الخاصة. “هذا الغرض بالتحديد الذي أختاره يحوز على قيمة لي وفقاً لي “أنا” الذي رغبت بها واخترتها بحرية.

6.5 العلائقية والتواصل

يؤكد الشخصانيون أن الشخص بطبيعته كائن اجتماعي. ووفقاً للشخصانيين فإنه لا يمكن للشخص البشري الوجود والبقاء بالعزلة، وفوق ذلك يجد الأشخاص كمالهم البشري فقط عندما يكونون على تواصل مع الأشخاص الآخرين. ليست العلاقات الشخصية أبداً غير ضرورية أو اختيارية للشخص وإنما تقودها طبيعته وهي مكون أساسي من تحقيقه الكمال. العلاقة مناسبة فقط للأشخاص. بذلت الشخصانية جهدها لتسليط الضوء على هذا الجانب من الشخصية ولإبرازها في المقدمة. إنه أمر محوري الشخصانية رد فعلها وسعيها للتغلب على استقطاب الفردانية من جهة والجماعية من جهة أخرى. يعتبر الشخصانيون الكائنات البشرية على أنهم “كائنات للآخرين” أو ” كائنات مع الآخرين”. فالعلاقة ليست شيء كمالي، ملحق اختياري للشخص البشري وإنما أمر أساسي لشخصيته، إنه كائن علائقي (كائن من أجل العلاقة).

يعتقد الشخصانيون بأن الشخص البشري مهما سعى نحو الاستقلالية فإنه سيعتمد بالضرورة على الآخرين من أجل بقائه وتطوره وهذه الاعتمادية سمة مميزة للوجود البشري. وفوق ذلك، يميل الشخص البشري أيضاً تجاه المجتمع كقيمة بشرية أساسية، فالمجتمع هنا ليس مجرد مسألة منفعة أو راحة بل هو يعكس ميلاً فطرياً للشخص للبحث عن أقرانه والدخول في ارتباط روحي معهم. لوحظت سمة المؤانسة هذه منذ الفلاسفة الأوائل وهي تعكس اعتماد الإنسان على الآخرين من أجل بقائه وتطوره وتعكس أيضاً ميله الطبيعي نحو شراكة أعمق. نوه بعض الشخصانيون إلى أن طبيعة الإنسان الاجتماعية ورغبته بالشراكة مع الأشخاص ليسا الشيء نفسه. إن قدرة الإنسان على تكوين مجتمعات وصداقات على نحو عقلاني هي أحد الأمور التي تجعل منه كائناً اجتماعياً إلا أن قدرة الشخص على المشاركة هي وفقاً لهؤلاء الشخصانيين أكثر من مجرد اختلاط اجتماعي. في الحقيقة يتم تطبيق مصطلح “مجتمع” في بعض الأحيان بشكل مشابه على الكائنات غير الشخصية التي تعيش وتتفاعل بمجموعات بدلاً من كونها معزولة عن بعضها البعض حيث أن كلمة مشاركة لا يمكن فهمها على هذا النحو. لا تشير كلمة “Communio ” ببساطة إلى شيء مشترك بل تشير إلى نمط من الوجود والعمل المشترك الذي يؤكد ويعترف الاشخاص من خلاله على بعضهم بعضاً وهو نمط من الوجود والتصرف يعزز تحقيق الذات لكل منهم بموجب علاقتهم المتبادلة. هذا النمط من الوجود والتصرف ملكية حصرية للأشخاص.

يرى الشخصانيون دعوة الإنسان للمشاركة متجذرة في طبيعته العقلانية وذلك من خلال ذاتية الشخص وقدرته على تقرير مصيره. بعيداً عن انغلاق الشخص على نفسه فإن سمات الطبيعة الروحانية للشخص هذه تجعله يتواصل مع الآخرين. بالنسبة لمعظم الشخصانيين فإن ذاتية الشخص لا تشترك بأي شيء مع الكينونة المنعزلة الوحيدة للايبينيز وإنما تتطلب تواصل المعرفة والحب. يعتمد هذا التواصل بدوره على تقرير الشخص لمصيره بهيكله المميز المتمثل في امتلاك الذات والحكم الذاتي. كذات حرة وصاحبة إرادة فإنه لا يمكن للشخص أن يتملكه شخص آخر إلا إذا اختار هو أن يهب نفسه له. يؤكد الشخصانيون على أن الشخص ينتمي لذاته بطريقة لا يقدر عليها أي شيء أو حيوان. امتلاك الذات لا يعني العزلة. على النقيض، كل من امتلاك الذات والحكم الذاتي ينطويان على نزعة خاصة لتقديم “هبة من نفسه”. فقط إذا كان المرء يمتلك ذاته يمكن له أن يعطيها وأن يقوم بذلك بطريقة لا مبالية. وفقط إذا حكم الشخص ذاته يمكن له أن يقدم هدية من ذاته بطريقة لا مبالية. هذه الدعوة إلى العطاء من الذات (بذل الذات) هي أساسية جداً لتركيب الشخص، وعلى نحو أدق، عندما يصير الشخص هديةً للآخرين فإنه يصبح نفسه بشكل كامل. بدون هبة الذات اللامبالية لا يمكن للإنسان أن يحقق غائيته المناسبة للكائن البشري بموجب كونه شخصاً ولا يمكن له اكتشاف ذاته الحقيقية بالكامل.

 بالنسبة للشخصانيين فإن “قانون العطاء” هذا يظهر أن العلاقة والمجتمع اللذان لا يقدر على تكوينهما سوى الشخص وهما ضروريان لتحقيق الشخص لذاته لا تتكونان فقط من الارتباط وانما من الحب، يتألفان من الحب الذي يعطي ويعطي ذاته والذي لا ينال الأشياء فقط وإنما الأشخاص أيضاً، يمكن للأشخاص فقط أن يمنحوا الحب ويمكن للأشخاص فقط أن ينالوا الحب.

المراجع

مصادر رئيسية

  • Bowne, Borden Parker, 1908, Personalism, Boston: Houghton Mifflin Company.
  • Brightman Edgar S., 1932, Is God a Person?, New York: Association Press.
  • –––, 1952, Persons and Values, Boston: Boston University Press.
  • Brightman, Edgar S. (ed.), 1943. Personalism in Theology: A Symposium in Honor of Albert Cornelius Knudson, Boston: Boston University Press.
  • Buber, Martin, 1923, Ich und Du (I and Thou), Ronald Gregor Smith (trans.), second edition, Edinburgh: T & T Clark, 1987.
  • Flewelling, Ralph Tyler, 1926, Creative Personality, Introduction by H. Wildon Carr, New York: Macmillan Co.
  • Flewelling, Ralph Tyler and Rudolf Eucken, 1915, Personalism and the Problems of Philosophy: An Appreciation of the Work of Borden Parker Bowne, New York/Cincinnati: The Methodist Book Concern.
  • Gilson, Étienne, 1932, Lesprit de la philosophie médiévale, Paris: Librairie philosophique J. Vrin. (See especially ch. 10, “Le personnalisme chrétien”: 195–215.)
  • Guardini, Romano, 1955, Welt und Person.Versuche zur christlichen Lehre vom Menschen, Würzburg: Werkbund-Verlag.
  • Hart, James G., 1992, The Person and the Common Life: Studies in a Husserlian Social Ethics, New York: Springer.
  • –––, 2009a, Who One is. Book 1: A Meontology of the I, New York: Springer.
  • –––, 2009b, Who One is. Book 2: Existenz and Transcendental Phenomenology, New York: Springer.
  • Knudson, Albert Cornelius, 1927, The Philosophy of Personalism. New York: The Abingdon Press.
  • Kohák, Erazim, 1984, The Embers and the Stars. A Philosophical Inquiry into the Moral Sense of Nature, Chicago: The University of Chicago Press.
  • Lahbabi, Mohammed Aziz, 1964, Le personnalisme musulman, Paris: Presses Universitaires de France.
  • Macmurray, John, 1961a, Persons in Relation, London: Faber and Faber.
  • –––, 1961b, The Self As Agent, London: Faber and Faber.
  • Marcel, Gabriel, 1963, The Existential Background of Human Dignity, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Maritain, Jacques, 1947, La personne et le bien commun (The Person and the Common Good), John J. Fitzgerald (trans.), Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1985.
  • –––, 1945, The Rights of Man and Natural Law. Glasgow: Robert Maclehose and Co./The University Press.
  • Mounier, Emmanuel, 1950, Le personnalisme (Personalism), Philip Mairet (trans.), Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1952.
  • –––, 1938, A Personalist Manifesto, trans. from the French by the monks of St. John’s Abbey. New York: Longmans, Green and Co.
  • Renouvier, Charles B., 1903, Le personnalisme, Paris: F. Alcan.
  • Scheler, Max, 1913 [1916], Der Formalismus in der Ethik und die materiale Wertethik, in Gesammelte Werke, Volume 2, Bern (Francke) 5, 1966; Formalism in Ethics and Non-Formal Ethics of Values: A New Attempt Toward A Foundation of An Ethical Personalism, Manfred S. Frings and Roger L. Funk (trans.), Evanston, IL: Northwestern University Press, 1973.
  • Sokolowski, Robert, 2008, Phenomenology of the Human Person, New York: Cambridge.
  • Stern, William, 1906, Person und Sache. System der philosophischen Weltanschauung (Volume I), Ableitung und Grundlehre. Leipzig: J. A. Barth.
  • –––, 1923/1924, Person und Sache: System des kritischen Personalismus, Leipzig: J. A. Barth.
  • Tillich, Paul, 1955, Biblical Religion and the Search for Ultimate Reality, Chicago: The University of Chicago Press.
  • Wojtyła, Karol, 1969 [1979], Osoba i czyn (The Acting Person), Andrzej Potocki (trans.), Dordrecht: D. Reidel Publishing Company.
  • –––, 1960 [1995], Milosc I Odpowiedzialnosc (Love and Responsibility), H. T. Willetts (trans.), New York: Farrar, Straus, & Giroux.
  • –––, 1993a, “The Personal Structure of Self-Determination,” Theresa Sandok (trans.), in Person and Community: Selected Essays (Catholic Thought from Lublin: Volume 4), Andrew N. Woznicki (ed.), New York: Peter Lang, 187–95.
  • –––, 1993b, “Subjectivity and the Irreducible in the Human Being,” Theresa Sandok (trans.), in Person and Community: Selected Essays (Catholic Thought from Lublin: Volume 4), Andrew N. Woznicki (ed.), New York: Peter Lang, 209–17.
  • –––, 1993c, “Thomistic Personalism,” Theresa Sandok (trans.), in Person and Community: Selected Essays (Catholic Thought from Lublin: Volume 4), Andrew N. Woznicki (ed.), New York: Peter Lang, 165–75.

مصادر ثانوية

  • Balthasar, Hans Urs von, 1986, “On the Concept of Person,” trans. Peter Verhalen, Communio: International Catholic Review, 13 (Spring): 18–26.
  • Beabout, Gregory R., Ricardo F. Crespo, Stephen J. Grabill, Kim Paffenroth, and Kyle Swann, 2001, Beyond Self-Interest: A Personalist Approach to Human Action, Lanham, MD: Lexington Books.
  • Bengtsson, Jan Olof, 2006, The Worldview of Personalism: Origins and Early Development, Oxford: Oxford University Press.
  • Berti, Enrico, et al., 1992, Persona e personalismo. Aspetti filosofici e teologici, Progetti 3. Padova: Editrice Gregoriana.
  • Buford, Thomas O. and Harry H. Oliver (eds), 2002, Personalism Revisited: Its Proponents and Critics, Amsterdam and New York: Editions Rodopi.
  • Burgos, Juan Manuel, 2000, El personalismo, Madrid: Ediciones Palabra.
  • Burrow, Rufus, 1999, Personalism: A Critical Introduction, St. Louis, MO: Chalice Press.
  • Calcagno, Anthony, 2007, The Philosophy of Edith Stein, Pittsburgh: Duquesne University Press.
  • Calcagno, Anthony (ed.), 2016, Edith Stein: Woman, Social-Political Philosophy, Theology, Metaphysics and Public History, Dordrecht: Springer.
  • Cañas Fernández, José Luis, 2001, ¿Renacimiento del Personalismo?, Madrid: Universidad Complutense.
  • Carr, David, 1999, The Paradox of Subjectivity: The Self in the Transcendental Tradition, Oxford: Oxford University Press.
  • Cowburn, John, 2005, Personalism and Scholasticism, Milwaukee: Marquette University Press.
  • Crosby, John F., 2004, Personalist Papers, Washington, D.C.: Catholic University of America Press.
  • –––, 1996, The Selfhood of the Human Person. Washington, D.C.: The Catholic University of America Press.
  • Deats, Paul, and Carol Robb, 1986, The Boston Personalist Tradition in Philosophy, Social Ethics and Theology, Macon, GA: Mercer University Press.
  • Evans, Joseph W., 1952, “Jacques Maritain’s Personalism,” The Review of Politics, 14 (2): 166–177.
  • Gacka, Bogumił, 1994, Bibliography of American Personalism. Lublin: Oficyna Wydawnicza “Czas”.
  • –––, 1999, Bibliography of The Personalist, Lublin: Oficyna Wydawnicza Czas.
  • Galeazzi, Giancarlo, 1998, Personalismo, Milano: Editrice Bibliografica.
  • Goto, Hiroshi, 2004, Der Begriff der Person in der Phänomenologie Edmund Husserl, Würzburg: Köninhausen & Neumann.
  • Häring, Bernhard, 1968, Personalismus in Philosophie und Theologie, Munich: Wewel.
  • Lacroix, Jean, 1972, Le personalisme comme anti-idéologie, Paris: Presses Universitaires de France.
  • Lebech, Mette, 2015, The Philosophy of Edith Stein: From Phenomenology to Metaphysics, Bern: Peter Lang.
  • Liebman, Charles S. and Stephen M. Cohen, 1990, Two Worlds of Judaism: The Israeli and American Experiences, New Haven: Yale University Pres.
  • Luft, Sebastian, 2011, Subjectivity and Lifeworld in Transcendental Phenomenology, Evanston: Northwestern University Press.
  • Moran, Dermot, 2009, “The Phenomenology of Personhood: Charles Taylor and Edmund Husserl,” in Colloquium 3 (1): 80–104.
  • Ricoeur, Paul, 1990, Soi-même comme un autre, Paris: Seuil.
  • Rigobello, Armando, 1978, Il Personalismo, Rome: Città Nuova.
  • Rigobello Armando, 1958, Introduzione a una logica del personalismo, Padova: Liviana.
  • Spader, Peter H., 2002, Schelers Ethical Personalism. Its Logic, Development, and Promise, New York: Fordham University Press.
  • Spaemann, Robert, 1996, Personen: Versuche über den Unterschied zwischen etwas und jemand, Stuttgart: Klett-Cotta. (See especially chapter 18 entitled “Sind alle Menschen Personen?”: 252–64.)
  • Waldschütz, Erwin, 1993, “Was ist ‘Personalismus’?,” Die PresseSpectrum, December 24, XII.
  • Waldstein, Michael, 2006, Man and Woman He Created Them: A Theology of the Body, Boston: Pauline Books & Media.
  • Werkmeister, William H., 1949, “The Personalism of Bowne,” in A History of Philosophical Ideas in America, New York: Ronald Press, 103–121.
  • Williams, Thomas D., 2005, Who Is My Neighbor? Personalism and the Foundations of Human Rights, Washington, D.C.: The Catholic University of America Press.
  • Yannaras, Christos, 1987 [2007], To prosopo kai o eros, (Person and Eros), Norman Russell (trans.), Brookline, MA: Holy Cross Orthodox Press.

أداوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

كتب إلكترونية عن الشخصانية

مقالات إلكترونية عن الشخصانية

مداخل ذات صلة بـ الشخصانية

Buber, Martin | communitarianism | determinism: causal | existentialism | Hartshorne, Charles | idealism | individualism, methodological | Ingarden, Roman | James, William | Lotze, Hermann | Marcel, Gabriel (-Honoré) | Maritain, Jacques | Muhammad Iqbal | personal identity | phenomenology | Ricoeur, Paul | Royce, Josiah | self-consciousness | self-consciousness: phenomenological approaches to


[1] Williams, Thomas D. and Jan Olof Bengtsson, “Personalism”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2020 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2020/entries/personalism/>.