حول سيرة ألبير كامو وفلسفته العبثية، ونقطة انطلاقه في الفلسفة (الانتحار، والعبث، والسعادة) أو أسطورة الزيف، كامو وعالم العنف في الإنسان المتمرد؛ نص مترجم للـد. رونالد أورنسون، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة على هذا الرابط، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد، وعلى رأسهم د. إدوارد زالتا، على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF
كان ألبير كامو الذي ولد سنة 1319، وتوفي سنة 1960، صحفيا، محررا، رئيسا لهيئة التحرير، كاتبا مسرحيا، مخرجا، روائيا، مؤلفا للقصص القصيرة، كاتبا للمقالات السياسية، ناشطا- إضافة لكونه فيلسوفا رغم نفيه المتكرر لذلك. عارض كامو، أو تجاهل الفلسفة المنهجية، ولم يكن مؤمنا بالعقلانية بقوة، عمل على تأكيد العديد من أفكاره الرئيسة بدلا من مناقشتها، وقدم الأفكار الأخرى في استعارات مجازية، كان منشغلا بالتجربة المباشرة والشخصية، مزجيا جلّ وقته في التفكير بمسائل تتعلق بمعنى الحياة في مواجهة الموت. فصل كامو نفسه بقوة عن الوجودية، لكن رغم ذلك، قام بطرح أحد أشهر المسائل الوجودية المعروفة في القرن العشرين، والتي جاءت في مستهل كتابه (أسطورة سيزيف): “هناك مسألة فلسفية حقيقية واحدة، ألا وهي الانتحار” (MS، 3). وقد تركتنا فلسفته عن العبث في مواجهة صورة مدهشة عن مصير الإنسان: حيث يدفع سيزيف بصخرته لأعلى الجبل بشكل لانهائي، فقط ليراها تتدحرج عندما بصل قمة الجبل. نجد أن فلسفة كامو قد حملت أسلوبا سياسيا في كتابه (الإنسان المتمرد)، والذي أكسبه سمعة كأخلاقي فاضل، إلى جانب كلماته الافتتاحية الصحفية، مقالاته السياسية، مسرحياته، ورواياته. وقد ورطته أيضا في صراع مع صديقه جان بول سارتر، ليثيرا أكبر انقسام فكري-سياسي في عصر الحرب الباردة، حيث أصبحا، بالتعاقب، الأصوات الفكرية الرئيسة لليسار المؤيد للشيوعية، والمناهض لها. إلى جانب ذلك، بيّن كامو نقده للدين وعصر التنوير وكافة مخططاته، بما فيها الماركسية، وذلك في طرحه الأسئلة الفلسفية المباشرة والإجابة عليها. نال عام 1957 جائزة نوبل للأدب. وتوفي في حادث سيارة، يناير 1960، وكان عمره آنذاك أربعة وستون عاما.
1. مفارقات فلسفة ألبير كامو العبثية
2. (أعراس) ونقطة انطلاق كامو
3. الانتحار، العبث، السعادة: (أسطورة سيزيف)
3.1 الانتحار كرد على العبثية
3.2 حدود المنطق
3.3 نقد الوجوديون
3.4 السعادة في مواجهة المرء لقدره
3.5 الاستجابة للشكوكية
4. ألبير كامو وعالم العنف: (الإنسان المتمرد)
4.1 العبثية، التمرد، القتل
4.2 ضد الشيوعية
4.3 العنف: أمر حتميٌّ، مستحيل
5. فيلسوف الحاضر
-
المراجع
-
أدوات أكاديمية
-
مصادر أخرى على الإنترنت عن ألبير كامو
-
مقالات ذات صلة حول ألبير كامو
-
مفارقات فلسفة ألبير كامو العبثية
هناك العديد من العناصر المتناقضة في مقاربة ألبير كامو للفلسفة. ففي كتابه (أسطورة سيزيف) قدم لنا كامو فلسفة تنازع الفلسفة نفسها. حيث ينتمي هذا المقال المطول بشكل مباشر إلى التقاليد الفلسفية للوجودية، رغم إنكار كامو على كونه وجوديا. تشكك أعماله (أسطورة سيزيف) والعمل الفلسفي الآخر (الإنسان المتمرد) فيما استخلصناه عن معنى الحياة بشكل منهجي، ومع ذلك يؤكد كلا العملين بشكل موضوعي على إجابات صحيحة حول الأسئلة الرئيسة التي تخص كيفية العيش. بدا كامو متواضعا في وصفه لطموحاته الفكرية، إلا أنه -كفيلسوف-، كان واثقا بما يكفي ليوضح فلسفته الخاصة، إلى جانب نقده للدين، والنقد الأساسي للحداثة. بنى كامو صرحه الأساسي للأفكار حول المصطلحات الأساسية للتمرد والعبث، آملا أن يحلّ مسائل الموت والحياة المحفزة له، بينما يرفض، في الوقت نفسه، فكرة النظام الفلسفي بحد ذاتها.
تتعلق المفارقة الأساسية التي نشأت في فلسفة ألبير كامو بمفهومه المركزي عن العبثية. حيث يجادل كامو بأن البشر غير قادرين على الهرب من طرح سؤال: “ما معنى الوجود؟”، وهو بذلك يقبل الفكرة الأرسطية القائلة بأن الفلسفة تبدأ بالتساؤل. ومع ذلك، ينفي كامو وجود إجابة على هذا السؤال، ويرفض كل غاية علمية، غائية، ميتافيزيقية، أو غاية بشرية مختلقة من شأنها أن توفر الإجابة الوافية. بالتالي، عندما قبِل كامو أن الإنسان يسعى حتما إلى فهم الغاية من الحياة، فهو قد اتخذ موقفا متشككا من بقاء العالم الطبيعي، الكون، والمشروع الإنساني في حالة صمت تجاه أي غرض من هذا النوع. وبما أن الوجود نفسه لا معنى له، فالواجب علينا أن نتحمل الفراغ الذي يتعذر حلّه. وهذه الحالة المتناقضة بين طرح أسئلة مطلقة يستحيل الإجابة عنها بشكل واف، هي ما يطلق عليها ألبير كامو، العبثية. إذ تستكشف فلسفة كامو العبثية، العواقب المنبثقة من هذه المفارقة الأساسية.
أفضل التقاط لفهم عبثية ألبير كامو، تكمن في صورة سيزيف، وليس حجته، حيث يجهد نفسه في دفع صخرته لأعلى الجبل، ويشاهدها تتدحرج، ثم نزوله خلف الصخرة للبدء من جديد في دائرة لا نهائية. ليس بوسع البشر، بعد ذلك، إلا أن يتساءلوا عن معنى الحياة، تماما مثل سيزيف، لنرى إجاباتنا تتعثر للأسفل مرة تلو الأخرى. إذا قبلنا هذه الأطروحة حول العبثية كأساس للحياة، بجانب مقاربة كامو للأسئلة الفلسفية المناهضة للفلسفة، فلا يسعنا إلا أن نتساءل: ما هو الدور المتبقي للتحليل المنطقي والجدل؟ ألا يتزعم ألبير كامو الفيلسوف، موت الفلسفة في إجابته على سؤال ما إذا كان الانتحار تخليّا عن ميدان الجدل والتحليل، والاستعاضة بصورة مجازية للإجابة على السؤال؟ إن لم يكن للحياة غرض أو معنى يمكن لهذا العقل بيانه، فليس بمقدورنا إلا أن نتساءل لماذا نستمر بالعيش والتساؤل. ألم يكن سيلينوس محقا عندما تمنى أنه لم يولد، وتمنى لو يموت بأسرع وقت ممكن؟ وكما كتب فرانسيس جينسون قبل فترة طويلة من نقده الشهير لـ (الإنسان المتمرد) الذي عجل بكسر علاقة ألبير كامو وسارتر، أليست الفلسفة العبثية متناقضة في شروطها، بمعنى أدق هي ليست بفلسفة على الإطلاق، بل هي حالة ضد العقلانية منتهية بالصمت؟ (Janson 1947)
هل كان ألبير كامو فيلسوفا بالفعل؟ هو بنفسه قال لا، في لقاء شهير مع جينين ديلباك في صحيفة Les Nouvelles Littéraires في نوفمبر 1945، مؤكدا على أنه “لم يؤمن بالعقل بما يكفي ليؤمن بالنظام” (Camus 1965, 1427). لم يكن هذا مجرد موقف عام، بما أننا وجدنا نفس الفكرة في دفاتر ملاحظاته الخاصة بتلك الفترة، والتي يصف نفسه فيها كفنان وليس فيلسوف لأنه بحسب قوله “أفكر وفقا للكلمات وليس الأفكار” (Camus 1995, 113). مع ذلك، رأى جان بول سارتر أن كامو قد شرع في عمل فلسفي مهم، وفي مراجعته لرواية (الغريب) وفيما يتعلق بأسطورة سيزيف، لم يجد أي غضاضة في جمع كامو مع باسكال، روسو، ونيتشه (Sartre 1962). وبعدما أصبحا صديقين، تحدث سارتر عن فلسفة صديقه “العبثية” والتي ميزها عن فلسفته الخاصة، التي قبِل فيها وسم “الوجودية” الذي رُفض من ألبير كامو. ومنذ تلك السنوات، كانت سمة فلسفته غير النظامية، والمناهضة للفلسفة بشكل واضح، قد عنت أن عددا قليلا من العلماء قدروا عمقها وتعقيدها. لقد أشادوا بإنجازاته الأدبية البارزة، وموقفه كسياسي أخلاقي، بينما اكتفوا بلفت الانتباه لادعاءاته المشككة، وحججه الإشكالية. (see Sherman 2008) إلا أن هناك استثناء مهم من هؤلاء وهو كتاب رونالد سريجلي (نقد ألبير كامو للحداثة)(Srigley 2011).
سوف يتناول هذا المدخل ازدواجية ألبير كامو المتعمدة كفيلسوف، إلى جانب مناقشة فلسفته. ولا يتعلق الأمر بمجرد عرض قراءة فلسفية لهذا الكاتب المسرحي، المقالي، الروائي، والصحفي، بل بتناول فلسفته على محمل الجد- مستكشفين لمقدماتها، تطورها، بنيتها، وتماسكها. وإذا قمنا بذلك سنرى أن كتاباته تحوي أكثر من مجرد مزاج، أو صور، وتأكيدات شاملة غير مدعومة، بل تحتوي على أكثر من ذلك. يأخذ كامو شكوكه إلى أقصى حد ممكن كشكل من أشكال الشك المنهجي، بحيث يبدأ من افتراض الشك إلى أن يجد الأساس لاستنتاج خال من الشك. يبني كامو بنية فلسفة فريدة من نوعها، والتي غالبا ما تترك بناها غير معلنة، ولا تُناقش بشكل واضح، لكنها تتطور في مراحل متميزة على مدار حياته القصيرة. يمكن، بالتالي، قراءة فلسفة كامو كجهد بارع لشرح ما يستلزمه عبثية الوجود الإنساني، وليس فقط تأكيده. في هذه العملية، يجيب كامو على الأسئلة المطروحة من (أسطورة سيزيف)، “لماذا يجب عليّ ألا أقتل نفسي؟” وفي (الإنسان المتمرد) “لماذا يجب عليّ ألا أقتل الآخرين؟”.
-
2-(أعراس) ونقطة انطلاق كامو
بحثت أطروحة ألبير كامو في جامعة الجزائر، العلاقة بين الفلسفة اليونانية والمسيحية، وتحديدا العلاقة بين أفلوطين وأوغسطين (Camus 1992). مع ذلك، رفضت فلسفته الدين صراحة كأحد أسسها. لا يتخذ كامو موقفا معاديا وصريحا تجاه المعتقد الديني، رغم أنه أظهر ذلك، قطعا، في رواياته (الغريب) و (الطاعون)- التي تدور فيها أعمال كامو على اختيار العيش دون إله. الطريقة أخرى لفهم فلسفة كامو هي أن نعتبرها محاولة لاستكشاف المسائل والمزالق في العالم ما بعد الديني.
ظهرت كتابات ألبير كامو التي تحتوي على فكر فلسفي في كتابه (أعراس)، في الجزائر عام 1938، وبقيت أساسا لعمله اللاحق. تصف هذه المقالات الغنائية متعة الوعي بالعالم، والجسد المبتهج بالطبيعة، وانغماس الفرد في الجسدية بصورة مطلقة. مع ذلك، تُقدم التجارب كحل لمشكلة فلسفية، أي إيجاد معنى الحياة في مواجهة الموت. وتظهر جنبا إلى جنب، لتكشف عن نفسها وتجذرها في أول تأمل موسع له حول الأسئلة المطلقة.
في هذه المقالات، يضع ألبير كامو موقفين في المعارضة. الأول، وهو ما يعتبره مخاوف مبنية على الدين. حيث يستشهد بالتحذيرات الدينية حول الزهو، والاهتمام بروح الفرد الخالدة، إلى جانب الأمل بحياة أخروية، والتخلي عن الحاضر والانشغال بالإله. في مقابل هذا المنظور المسيحي التقليدي، يؤكد كامو على ما يعتبره حقائق بدهية: أي أن الموت مصير حتمي لنا، وأنه لا يوجد شيء غير هذه الحياة. ومن دون ذكر لها، يرسم لنا كامو نتيجته من هذه الحقائق، أي أن الروح ليست خالدة. وهنا يثني كامو، كما في أي مكان في كتاباته الفلسفية، على قُرّاءه ومواجهتهم الواقع المربك بشكل مباشر دون إجفال، لكنه لا يشعر بأنه مضطر لتقديم أسباب أو أدلة. إن لم يكن في الدين، فأين تكمن الحكمة إذن؟ وإجابة كامو هي: في “اليقين الواعي بالموت دون أمل”، وفي عدم الهرب من حقيقة أننا سنموت جميعا. بالنسبة لكامو “لا توجد سعادة إنسانية خارقة ولا أبدية خارج منحنى الأيام…وليس باستطاعتي أن أرى أي مغزى في سعادة الملائكة” (N, 90). لا يوجد شيء سوى هذا العالم، هذه الحياة، والحاضر المباشر.
يطلق على ألبير كامو أحيانا، رغم خطأ التسمية، مسمى “وثني” لرفضه المسيحية لأنها مبنية على أمل بحياة بعد هذه الحياة. الأمل هو الخطأ الذي يرغب كامو بتجنبه. حيث يحوي عمله (أعراس) استحضارا للبديل، في رفضٍ واضح لـ “ضلالة الأمل”. يعتمد كامو في هذا الخط من التفكير على نقاش نيتشه لصندوق باندورا في كتابه (إنسان مفرط في إنسانيته): جميع الشرور البشرية، بما فيها الكوارث والأمراض قد أسدلت على العالم بواسطة زيوس، لكن الشر والأمل المتبقي، قد بقي مخفيا في الصندوق ومحفوظا. لكن ربما نتساءل، لماذا، هل الأمل شر؟ يوضح نيتشه أن البشر وصلوا إلى رؤية الأمل على أنه الخير الأعظم، بينما معرفة زيوس تتجاوز ذلك، مما يعني أنه المصدر الأكبر للمصائب. وهو في النهاية، السبب الذي يجعل البشر يتعذبون، لأنهم يلمحون في الأفق جزاء خيّرا، مطلقا (Nietzsche 1878/1996, 58). بعد قراءة متأنية لنيتشه، فإن الحل التقليدي لـ ألبير كامو هو في الواقع المُشكل: حيث أن الأمل كارثي بالنسبة للإنسان، وذلك لأنه يقودهم إلى تقليص قيمة هذه الحياة وجعلها مجرد تحضير لحياة بعدها.
إذا كان الأمل الديني مبني على اعتقاد خاطئ بأن الموت، الذي هو انطفاء الروح والجسد انطفاء بشكل مطلق وكامل، ليس حتميّ، فإن ذلك سيقودنا إلى منعطف مظلم. وأسوأ من ذلك، يعلمنا هذا الأمل أن نشيح النظر عن الحياة، نحو شيء سيأتي لاحقا، ولذا فهذا الأمل الديني يقتل جزء منا، على سبيل المثال، الموقف العقلاني الذي نحتاجه لمواجهة تقلبات الحياة. ثم ما هو المسار المناسب إذن؟ يظهر لنا الشاب ألبير كامو هنا غير متشكك ولا نسبي. بل يعتمد بحثه على الدليل الذاتي للتجربة الحسية. فهو يدافع بالتحديد عما يُتنكر له في المسيحية، كعيش حياة مكثفة بكافة الحواس، هنا والآن في الوقت الحاضر. ويستلزم ذلك، التخلي عن كل أمل في الحياة الأخروية، وبالطبع نبذ التفكير بها. “لا أريد أن أؤمن بأن الموت مخرج لحياة أخرى. فبالنسبة لي، الموت باب مغلق.” (N, 76).
ربما نعتقد أن مواجهة عدميتنا التامة ستكون أمرا مريرا، لكن هذا الأمر بالنسبة لـ ألبير كاموأمر إيجابي:
“بين هذه السماء والوجوه المنصرفة نحوها، لا يوجد شيء نعلق عليه الأسطورة، الأدب، الأخلاق، الدين- هناك فقط أحجار، ولحم، نجوم، وحقائق يمكن أن تمسها اليد” (N, 90).
هذه البصيرة تستلزم رفضا عنيدا: “فكل ما يحدث لاحقا في هذا العالم” هو من أجل “المطالبة بـ “ثراء الحاضر”(N, 103)، أي حياة مكثفة حالية وحاضرة. “الثراء” هو بالضبط ما يخدعنا الأمل به، وذلك بأن يعلمنا أن نشيح النظر عنه نحو حياة الآخرة. فحينما نذعن لحقيقة أن “توقنا للاستمرار” سيكون مُحبطا، ونقبل “الوعي بالموت”، عندها نستطيع الانفتاح على ثروات الحياة، التي تفوق كل شيء مادي.
يضع ألبير كامو جانبي حجته في بيان واحد:” العالم جميل، ولا يوجد خارجه أي خلاص”(N, 103). سيستطيع الفرد أن يقدر الحياة ليس فقط في جانبها المادي، بل أيضا جانبها العاطفي والعلائقي، كما يقترح كامو، ولن يكون له ذلك إلا بقبول الموت والتخلي عن كل أمل. اتخاذ القبول والتخلي معا، يأتي على عكس الإيمان بالإله وحياة الآخرة الذي يتعذر التحقق منه، فهما مما يمتلكه المرء ويعرفه: “إن شعور المرء بروابطه تجاه أرض ما، محبته لأشخاص معينين، ومعرفة أن هناك مكانا يمكن لقلبه أن يستريح فيه، تعدّ يقينيات كثيرة لحياة المرء الواحدة”(N, 90).
فقط حينما نقرّ بأن نيتشه على حق، وأن الإله قد مات ولا يوجد إلا العدم بعد موتنا، فسوف سنجرب بعد ذلك، ونشعر، نتذوق، نلمس، نرى، ونشم مُتع أجسادنا والعالم المادي. وبالتالي، فإن الجانب الحسي والغنائي لهذه المقالات، إلى جانب طابعها المثير للعواطف، أمر أساسي للحجة. أو لأن ألبير كامو يشجع على تجربة مادية مبهجة ومكثفة، كمعارض لإنكار الذات في الحياة الدينية، بدلا من تطوير حجة، حيث يؤكد أن هذه التجارب هي الاستجابة الصحيحة. تهدف كتاباته إلى برهنة ما تعنيه الحياة وماهية الشعور بها عندما نتخلى عن الأمل في الحياة الآخرة، حتى نتوصل عند قراءاته “لرؤية” فكرته. ربما تؤخذ هذه المقالات على أنها تحوي أفكارا شخصية للغاية، وتأملات شاب حول بيئته “المتوسطية”، والذي يبدو أنه من النادر أن يملكوا نظاما. لكنهم يطرحون ماهية الفلسفة بالنسبة لكامو وكيف تُصوّر علاقتها بالعبارة الأدبية.
يمكن أن تنقل فلسفته المبكرة، إن لم تكن تلخص، في هذا المقطع من (أعراس في تيبازة):
بعد لحظة، سوف أرمي بنفسي بين نباتات الأفسنتين، لاستنشق رائحتها وتدخل جسدي، كان عليّ أن أعلم أن المظاهر بعكسها، وأنني أحقق الحقيقة وهي حقيقة الشمس، والتي أيضا ستكون حقيقة موتي. بمعنى ما، هي حياتي التي أراهن عليها، حياة لها مذاق الحجر الدافئ، مليئة برموز البحر وغناء الصراصير المرتفع. النسيم بارد والسماء زرقاء. أحب حياة الانعتاق، وأتمنى الحديث عنها بجرأة: تجعلني فخورا بإنسانيتي. ومع ذلك يخبرني الناس باستمرار: أنه ما من شيء يستحق أن أفخر به. بلى، هناك الشمس، البحر، قلبي الذي ينضح شبابا، ملوحة جسدي، المناظر الخلابة التي يندمج فيها المجد والحنان بالأزرق والأصفر. ولقهر ذلك أحتاج لقوتي وطاقتي. كل شيء هنا يدعني سليما، لا أضحي بشيء من نفسي، ولا أرتدي أي قناع، أتعلم بأناة ومشقة كيفية العيش، وهو أمر كاف لي، يوازي كل فنونهم للعيش. (N, 69)
يخبرنا الحاضر المضيء أن بإمكاننا تقدير الحياة وتجربتها، بشرط أن نكف عن محاولة تجنب موتنا المطلق والحتمي.
-
الانتحار، العبث، السعادة: (أسطورة سيزيف)
بعد إتمامه لقصة (أعراس)، بدأ ألبير كامو بالإعداد لعمل ثلاثي حول العبثية: رواية وهي (الغريب)، مقال فلسفي عنوانه (أسطورة سيزيف)، وأخيرا مسرحية (كاليجولا). انتهى من تلك الأعمال وأرسلت من الجزائر إلى الناشر في باريس في سبتمبر عام 1941. رغم أن كامو كان يفضل خروجهما معا أو بمجلد واحد، إلا أن الناشر ولأسباب تجارية، إلى جانب نقص الورق الناجم عن الحرب والاحتلال، قام بنشر الرواية (الغريب) في يونيو 1942، و(أسطورة سيزيف) في أكتوبر. ثم قام كامو بمواصلة عمله على المسرحية لتخرج لاحقا في كتاب بعد مرور سنتين. (Lottman, 264–67).
-
3.1 الانتحار كرد على العبثية
على حد قول ألبير كامو: “هناك مسألة فلسفية جدية واحدة وهي الانتحار. ولكي نحدد ما إذا كانت الحياة تستحق العيش أم لا، هو أن نجيب على السؤال الفلسفي في الفلسفة. وكل الأسئلة الأخرى تأتي بعد ذلك السؤال.” ربما يعترض المرء على أن الانتحار ليس “مسألة” أو “سؤال” بل فعل. وربما يكون السؤال الفلسفي المناسب هو: “تحت أي وضع يمكن أن يكون الانتحار مبررا؟” والإجابة الفلسفية قد تبحث في السؤال، “ما الذي يعنيه التساؤل عن جدوى الحياة؟” كما فعل ويليام جيمس في (إرادة الإيمان). وبالنسبة لكامو في (أسطورة سيزيف) فالسؤال الفلسفي الأساسي هو، “هل عليّ أن أقتل نفسي؟”. بالنسبة له، يبدو من الواضح أن النتيجة الأولية للفلسفة هي العمل وليس الفهم. إن اهتمامه بـ “الأسئلة الملحّة” بشكل نظري، أقل من مشكلة الحياة والموت وكيفية العيش.
يرى ألبير كامو مسألة الانتحار على أنها استجابة طبيعية لفرضية أساسية، أي أن الحياة عبثية بعدة طرق. فكما رأينا، فإن وجود الحياة وغيابها (أي الموت) تُبين الوضع: أي من العبث أن نبحث باستمرار عن معنى في الحياة حينما لا يكون هناك أي معنى، ومن العبث أن نأمل بشكل من أشكال الوجود المستمر بعد موتنا، بالنظر إلى النتيجة النهائية وهي فناؤنا. لكن كامو يرى أن من العبث محاولة معرفة، فهم، أو تفسير العالم، حيث يرى أن محاولة اكتساب المعرفة العقلانية غير مجدية. هنا يحارب كامو نفسه ضد العلم والفلسفة رافضا ادعاءات جميع أشكال التحليل العقلاني: “هذا السبب العالمي، العملي أو الأخلاقي، هذه الحتمية، وتلك الفئات التي تشرح كل شيء، هي كافية لجعل رجل محترم يضحك.”
هذه الأنواع من العبثية هي ما تقود ألبير كامو إلى مسألة الانتحار، لكن طريقته في المواصلة تثير نوعا آخر من العبثية، أقل وضوحا، وهو “إدراك العبثية” (MS, 2, tr. changed). هذا الإدراك الموصوف بشكل غامض، يبدو وكأنه “مرض فكري”(MS, 2) عوضا عن كونه فلسفة. يعتبر كامو التفكير فيه أمرا “مؤقتا”، ويصر على أن المزاج العبثي “واسع الانتشار في عصرنا” لم ينبثق من الفلسفة، بل كامن قبلها. يعتمد تشخيص كامو للمشكلة الأساسية الإنسانية على سلسة من “الحقائق البديهية”(MS, 18)، و “الموضوعات الواضحة”. لكنه لا يجادل حول عبثية الحياة أو يحاول شرحها، فهو غير مهتم بكلا المشروعين، إذ لن يفلح أي منهما في الإسهام بتقويته كمفكر. “إنني مهتم بعواقب الاكتشافات العبثية، أكثر من الاكتشافات نفسها.” (MS, 16). فوق كل هذا، يسأل كامو، مع قبوله العبثية كمزاج لكل زمن، ما إذا كان يجب أن نعيش، وكيف نواجه ذلك. “هل العبثية إملاء للموت؟” (MS, 9) لكنه لا يجادل في هذا السؤال أيضا ويختار أن يشرح الموقف تجاه الحياة، والذي يمكن أن يكون رادعا للانتحار. بعبارة أخرى، يبدو الشاغل الرئيسي للكتاب هو رسم طرق لعيش حياتنا، لنجعلها مستحقة للعيش، بغض النظر عن انعدام معناها.
وفقا لـ ألبير كامو، ينتحر الناس “لأنهم يحكمون على الحياة بأنها لا تستحق العيش”. لكن إذا كان هذا الإغراء يتفوق على المنطق الفلسفي، فكيف نجيب عليه؟ يعتمد كامو على الوصف، السرد، والتفسير من أجل الوصول لحقيقة الأشياء، بينما يتجنب النقاش حول حقيقة تأكيداته. كما قال في (الإنسان المتمرد) ” العبث تجربة يحتم علينا عيشها كنقطة انطلاق، ومعادل وجودي لشك ديكارت المنهجي.” تسعى (أسطورة سيزيف) إلى وصف “الشعور المتملص للعبثية” في حيواتنا، في إشارة سريعة إلى موضوعات تَعبُر “كافة الآداب والفلسفات”. حاول ألبير كامو أن يقدم نكهة عبثية من خلال الصور، المجازات، الحكايات التي تلتقط المستوى التجريبي الذي يعتبره كامن قبل الفلسفة، في انجذاب واضح للتجربة.
يبدأ عمل ذلك بإشارة ضمنية إلى رواية سارتر (الغثيان) والتي تحاكي اكتشاف العبثية من قبل بطل الرواية أنطون روكونتين. في وقت مبكر، صرح ألبير كامو بأن نظريات هذه الرواية عن العبثية وصورها ليست متوازنة. إن الجوانب الوصفية والفلسفية للرواية “لا تقوم مقام عمل فني: فالقفز من مقطع لآخر سريع للغاية، غير محفز لئن يثير في القارئ القناعة العميقة التي تصنع فن الرواية”(Camus 1968, 200). لكن في هذه المراجعة عام 1938، امتدح كامو وصف سارتر للعبثية، والشعور بالغضب والغثيان بينما تنهار الأسس المألوفة التي فُرض وجودها في حياة أنطون روكونتين. وقد قام كامو بتقديم نسخته الخاصة من تجربة العبثية، “تنهار عدة المسرح. الصعود، الترام، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، الوجبة، الترام، أربع ساعات عمل، النوم، ثم الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، الأحد، على الإيقاع نفسه…” (MS, 12–3). ومع استمرار هذا الأمر، يصبح المرء واعيا ومدركا للعبثية بشكل تام.
-
3.2 حدود المنطق
يمضي ألبير كامو في وضع تجارب عبثية أخرى، إلى أن يصل لحتفه. لكن رغم أن كامو يتجنب النقاش المختص بحقيقة ادعاءاته، إلا أنه يختم ذلك “المنطق العبثي” بسلسلة من التأكيدات الفئوية الموجهة إلى ” الذكاء” المختص بالإحباط الحتمي المتعلق برغبة الإنسان في معرفة العالم والشعور بالأمان بداخله. بغض النظر عن مقاصد كامو، إلا أنه لا يستطيع أن يتجنب التأكيد على ما يؤمن بأنه حقيقة موضوعية: “يجب علينا أن نيأس من إعادة بناء سطح مألوف وهادئ، يمكن أن يمنح قلوبنا السلام” (MS, 18). وحينما نتحول إلى التجارب التي تبدو واضحة لأعداد كبيرة من الناس الذين يتشاركون منطق العبثية، يصرح كامو: “كل ما يمكن أن يقال، أن هذا العالم بحد ذاته غير منطقي”(MS, 21). إن جهودنا للمعرفة مدفوعة بحنين إلى الوحدة، وهناك “فجوة -لا مفر منها- بين ما نتخيل أننا نعرفه، وبين ما نعرفه حقا.” (MS, 18).
“يقنط الناس اليوم من المعرفة، باستثناء العقلانيين المحترفين.” (MS, 18). يؤكد لنا ألبير كامو أن تاريخ الفكر الإنساني يتميز بـ ” ندم وعجز متعاقب” وأن “استحالة المعرفة أمر مؤكد” (MS, 25). عندما يكتب كامو بشكل دقيق، يزعم أن ذلك لوصف “مناخ” محدد، لكن كتاباته تُظهر حجر الأساس لافتراضاته مرة تلو الأخرى: أي أن العالم مجهول، والحياة بلا معنى. وجهودنا لفهمهما تذهب سدى.
يشير آفي ساجي إلى أن ألبير كامو بهذا الادعاء لا يتكلم بصفته غير عقلاني، وهي نظرته إلى الوجوديين، بل شخص يحاول بعقلانية أن يفهم حدود العقل. (Sagi 2002, 59–65). إن المشكلة بالنسبة لكامو تكمن في المطالبة بالمعنى، النظام، والوحدة، ذلك لأننا نسعى إلى تجاوز تلك الحدود والسعي إلى المستحيل. لن نفهم أبدا، وسنموت بصرف النظر عن جهودنا. هناك إجابتان واضحتان على إحباطاتنا: الانتحار والأمل. إن الأمل بالنسبة له هو ما وصفه في (أعراس) جهد ملهم من الدين لتخيل حياة أخروية والظفر بها. أو ثانيا، كما تحدث عنه بشكل مستفيض في (الإنسان المتمرد) أي أن يوجّه المرء طاقته من أجل مهمة عظيمة تتجاوز المرء نفسه: “على المرء أن يستحق الأمل بحياة أخرى، أو يخدع أولئك الذين يعيشون ليس لأجل الحياة نفسها بل لأجل بعض الأفكار العظيمة التي تسمو بالحياة، تصقلها، وتعطيها معنى، وتخونه.” (MS, 8).
ما هو البديل الكاموي للانتحار أو الأمل؟ الجواب هو العيش بلا هرب ونزاهة، في “التمرد” والتحدي، والحفاظ على التوتر الجوهري في الحياة. وبما أن “العبث الأكثر وضوحا” هو الموت، يحثنا كامو على الموت دون تسوية، وليس بمحض إرادة المرء.” (MS, 55). باختصار، ينصح كامو بحياة خالية من المواساة والعزاء، بحياة تتميز بالشفافية والوعي الحاد بالحياة، والتمرد ضد حدودها ومعدلات وفياتها.
-
3.3 نقد الوجوديون
تذكرنا نبرة كامو، أفكاره، وأسلوبه، في بيانه للمشكلة والحل، بنيتشه. فقد كانت نقطة انطلاقهما المشتركة أن “الإله ميت”، وكذلك تصميمهما على مواجهة الحقائق غير السارة والكتابة ضد العلم العام. في الوقت نفسه، يجادل كامو ضد التيار الفلسفي المحدد، والذي غالبا ما ارتبط به نيتشه كرائد، وهو بنفسه مقرب إلى الوجودية. كُتبت مقالة (أسطورة سيزيف) ضد الوجوديين بشكل صريح أمثال شيستوف، كيركجارد، ياسبرز، وهايدغر، وكذلك أيضا ضد ظاهراتية هوسرل. يشارك كامو بنقطة الانطلاق تلك، والتي يعتبرها الحقيقة التي يشهد بها الجميع على عبثية الوضع الإنساني. لكنه يرفض ما يرى أنه هروبهم المطلق، لا منطقيتهم، مدعيا أنهم “يعظمون ما يسحقهم، ويجدون سببا للأمل في افتقارهم. وأن هذا الأمل الإجباري، هو ديني في الجميع.” (MS, 24).
خضع سارتر أيضا لانتقادات ألبير كامو، ولم تكن في السياسية فقط كما سيتضح في المقطع التالي. رغم أن بعض الأفكار في (أسطورة سيزيف) قد استندت على (الغثيان) لسارتر (كما أوضحنا أعلاه) إلا أن سارتر عام 1942 لم يعدّ “وجوديا” بعد. لكن مع تطور فلسفة سارتر، مضى إلى استكشاف كيف يتشكل النشاط الإنساني إلى عالم ذي معنى، بدلا بهيمي، ووجود عديم المعنى كما كشفت روايته. (Aronson 1980, 71–88). في هذه العملية، تصبح عبثية الغثيان طارئة لـ (الوجود والعدم) وحقيقة أن البشر والأشياء موجودة ببساطة بلا أي تفسير أو سبب. وكما وصفها سارتر، العبث هو، “الوجود العالمي الطارئ، وهو ليس أساس لوجودها، إذ إن العبث هو النوع المعطى، البدائي، غير العادل للوجود.” (quoted in Sagi 2002, 57). بعد ترسخ الوجود الإنساني في مثل هذه الحالات الطارئة، يمضي سارتر إلى وصف هياكل أساسية أخرى للوجود، مشاريع الجوهر الإنساني، وأنماط السلوك المتميزة، بما في ذلك الحرية وفساد النية، وكلها تنبثق من هذا الأساس. يؤدي الاحتمال الأصلي إلى رغبتنا بالتراجع عنه نحو مشروعنا العقيم لـ “تأسيس الوجود”، بعبارة أخرى، هي “عاطفة عديمة النفع” لمشروع يهدف أن يصبح إله.
من الواضح أن عبثية سارتر هي ميزة أنطولوجية أساسية للوجودية نفسها، ربما تحبطنا لكنها لا تحصر فهمنا. أما بالنسبة لـ ألبير كامو، فالعبثية بشكلها هذا ليست ميزة للوجود، بل هي سمة أساسية لعلاقتنا بالعالم. بإمكاننا أن نزعم بأن سارتر وكامو متشابهين للغاية، وأن جوهر العبثية لفلسفة سارتر يوازي “اليأس” الذي يصفه كامو. وأخيرا، إذا كان جهد سيزيف عبثي بالمطلق، فكذلك مشروع صناعة إله. لكن سارتر يرفض “التشاؤم الكلاسيكي و “خيبة الأمل” التي وجدها في كامو، بل إنه يمتلك ثقة غير كامويه في قدرته على فهم وشرح هذا المشروع، وبقية العالم الإنساني. على النقيض من ذلك، يقوم كامو ببناء نظرة شاملة للعالم على افتراضه المركزي بأن العبثية علاقة لا يمكن تجاوزها بين البشر وعالمهم. (Aronson 2013). فهو يسلّم بانفصال حتمي بين الوعي البشري و “توقه الشديد للوضوح” و “الصمت اللامنطقي للعالم”. وكما نوقشت أعلاه، يرى كامو أن العالم غير منطقي، مما يعني استحالة فهمه بالعقل.
يرى ألبير كامو أن كل كاتب وجودي قد خان رؤيته الأولى من خلال سعيه إلى الاستناد إلى شيء يتجاوز حدود الوضع الإنساني، وذلك من خلال اللجوء إلى التسامي. مع ذلك حتى لو تجنبنا ما يصفه على أنه جهود للهرب، وواصلنا الحياة دون إغراءات غير منطقية، فإن الرغبة لفعل ذلك قد بنيت داخل وعينا، وبالتالي إنسانيتنا. نحن غير قادرين على تحرير أنفسنا من “هذه الرغبة في الوحدة، هذا التوق إلى الحل، هذه الحاجة إلى الوضوح والتماسك.” لكن من المهم ألا نستسلم لهذه الدوافع، وقبول العبثية عوضا عن ذلك. على النقيض من الوجودية، “فالعبثية منطق صاف لا يحده شيء.” (MS, 49).
يؤمن ألبير كامو بوضوح أن الفلاسفة الوجوديون مخطئون، لكنه لا يجادلهم، ذلك لأنه يؤمن “بأنه لا وجود للحقائق، بل مجرد حقائق.” يتخذ نزاعه شكلا أقل رقة وإصرارا من النقد الجوهري، مشيرا إلى أن فلسفة كل مفكر وجودي تنتهي إلى أن تكون غير متسقة مع نقطة الانطلاقة التي تخصها: “بدءا من فلسفة العالم وافتقاره إلى المعنى، التي ينتهي بها الأمر إلى إيجاد المعنى والتعمق فيه”. هؤلاء الفلاسفة على حد تأكيده، يرفضون قبول الخلاصات التي تتبع من مقدماتهم. على سبيل المثال، كيركجارد في استشعاره القوي للعبثية. والتي بدلا من احترامها على أنه علة إنسانية حتمية، سعى إلى العلاج منها عبر عزوها للإله الذي يناجيه.
كان أبرع تحليل لـ ألبير كامو، حول ظاهراتية هوسرل. إلى جانب سارتر، حين أثنى كامو على المفهوم الهوسرلي المبكر للقصدية. لقد رأى سارتر هذا المفهوم كاشفا عن وعي ديناميكي دون أن يحوي- أساس مفهومه للحرية- بينما ابتهج كامو لأن القصدية تتبع روح العبثية في “تواضعها الفكري الظاهر، إذ تحدّ نفسها لوصف ما يتعذر وصفه” (MS, 43). مع ذلك، انتقد كامو بحث هوسرل اللاحق حول الأفكار الأفلاطونية لكونها خلاصات خارجة عن الزمان، كونها قفزة شبه إيمانية لا تتسق مع رؤيته الأصلية.
-
3.4 السعادة في مواجهة المرء لقدره
كيف لك أن تظل متناغما مع المنطق العبثي وتتجنب أن تقع ضحية “لروح الحنين للماضي”؟ تجد (أسطورة سيزيف) الإجابة عبر هجر ميدان الفلسفة تماما. يصف كامو عددا من الشخصيات الخيالية والأنشطة العبثية، بما فيها دون جوان وكيرلوف في رواية (الشياطين) لديستوفسكي.، المسرح، الإبداع الأدبي. ثم يختم بقصة سيزيف الذي يجسد عبثية الحياة بشكل كلي، إنه “عمل عبثي، وميؤوس منه” (MS, 119). يرى كامو أن جهد سيزيف اللانهائي ووعيه المكثف بالعبثية، إنجازا. “إن ازدراءه للآلهات، وكراهيته للموت، وشغفه بالحياة قد أكسبته عقوبة يتعذر وصفها حيث يبذل فيها الوجود كاملا جهدا لتحقيق اللاشيء.” (MS, 120). بعد فصول واعية ومكثفة للغاية، تأتي هذه الصفحات لتوجز الخط الفكري بأكمله داخل صورة حية. يشرح سيزيف أن بإمكاننا العيش مع “اليقين بأن مصيرنا إلى الزوال، دون الاستسلام الذي يجب أن يصاحبه” (MS, 54). بالنسبة لكامو، فإن سيزيف يذكرنا بأننا لا نتحمل السعي لفهم الحقيقة التي تسمو فوق ذكائنا، ونسعى لإدراك أكثر مما يسمح به فهمنا العلمي والعملي المحدود، ونتمنى الخلود. نحن أقدارنا، مثل سيزيف، وإحباطنا هو حقيقة حياتنا: وليس بمقدورنا الهرب منه.
لكن هناك الكثير. فبعد تدحرج الصخرة للأسفل، تتأكد العبثية المطلقة لعمله، ليعود سيزيف ويلتقطها من جديد. هذه هي “ساعة الوعي. في كل لحظة من تلك اللحظات عندما يغادر الجبال ويغرق تدريجيا في مخبأ الآلهات، فهو يتفوق على قدره. وهو أقوى من صخرته. (MS, 121). لماذا استخدم كلمة “تفوق” و “أقوى” بينما لا يملك سيزيف أي أمل في النجاح في المرة القادمة؟ ذلك عائد لإحساس مأساوي، متناقض، برغبته “لتتويج فوزه.” يعرف سيزيف، عامل الآلهات، المتمرد الضعيف، المدى الكامل لوضعه البائس: وهو ما يفكر فيه خلال هبوطه”. إن الوعي المأساوي هو خلاصة “المنطق العبثي”: العيش بوعي تام لمرارة وجودنا ومواجهة قدرنا بصورة واعية.
ما هو رد ألبير كامو إذن حول ما إذا كان الانتحار واجبا أم لا؟ الحل في الوعي الكامل، وتجنب الحلول الزائفة مثل الدين، رفض الخضوع، والمضي بحيوية وقوة، تلك هي إجابات كامو. وبذلك يمكن أن نجعل الحياة التي تفتقر لمعنى مطلق، مستحقة للعيش. مثلما قالها في (أعراس)، مباهج الحياة لا تنفصل عن وعي حاد بهذه الحدود. يقبل سيزيف الحياة مع الموت دون احتمالية اللجوء لإله. “كل أفراح سيزيف كامنة فيه. قدره ينتمي إليه. وصخرته ملكه.” (MS, 123).
يعيش سيزيف بشكل حيوي، حيث يعرف نفسه “سيكون سيد أيامه.” يقول ألبير كامو أنه من خلال إدراكه ذلك، فهو إذن يمتلك زمام أمره. وبهذا المعنى يعيد سيزيف تشكيل قدره داخل وضع “الأصل الإنساني الكليّ”. ربما تكون “كليّ” مبالغة، لأن الموت بعد ذلك “أمر حتمي لا مفر منه”، لكن بالاعتراف بذلك، يعيش سيزيف واعيا بما فرض عليه، وبالتالي يعيش إلى نهايته. وعلى النحو ذاته، يبدأ ميرسول بطل رواية (الغريب) بالوعي في الجزء الثاني من الكتاب، بعد ارتكابه جريمة القتل غير المعللة، التي خُتم بها الجزء الأول من الكتاب. لقد عاش وجوده من لحظة لأخرى دون قدر كاف من الوعي، لكن في محاكمته، وبينما ينتظر الإعدام غدا مثل سيزيف، واعيا تماما بشأن قدره المريع. سيموت منتصرا مثل رجل عبثي.
إن أسطورة سيزيف بعيدة كل البعد عن الخلاصة المشككة. ففي الاستجابة لإغراء الانتحار، ينصح ألبير كامو بوعي مكثف ونشط، لا يرمي إلى حل. إن رفضه أي أمل في حل الجهد، هو أيضا رفض لليأس. فمن الممكن بالتأكيد، داخل وضد هذه الحدود، الحديث عن السعادة. فـ “السعادة والعبث ابنان لنفس الأرض. إنهما متلازمان.” (MS, 122). لا يعني ذلك أن اكتشاف العبث يؤدي بالضرورة إلى السعادة، بل إن الاعتراف بالعبث يعني قبول هشاشة الإنسان، والوعي بحدودنا، وحقيقة أننا لا نستطيع أن نؤمل بتجاوز ما هو ممكن. كل هذه رموز على كونك حيا بالكامل. “إن الكفاح نحو المرتفع كاف ليملأ قلب الرجل. وعلى المرء أن يتخيل سيزيف سعيدا.”
-
3.5 الاستجابة للشكوكية
يمكن أن نقارن خلاصة ألبير كامو مع شك بيرهو، وشك ديكارت المنهجي. في البداية، قام كامو، مثل بيرهو، بحلّ مسألته الوجودية الملحّة، أي تجنب اليأس بنوع من الثبات الذي يستلزم قبول فناءنا وجهلنا المطلق. لكن هناك نوعين من الاختلافات الجوهرية مع بيرهو: فمع كامو نحن لا نستطيع التخلي عن رغبة المعرفة، وإدراك ذلك يؤدي إلى تسريع دوافع حياتنا. أما النقطة الأخيرة فقد ضُمّنت بالفعل في (أعراس) لكنها وُسّعت هنا لتربط الوعي بالسعادة. السعادة بالنسبة لكامو، تشمل العيش بشكل مكثف وحساس في الوقت الحاضر، مقرونا بوعي سيزيف المأساوي، الواضح، المتحدي، وإحساسه بمحدوديته، مرارته، وإصراره على المواصلة ورفضه لأي شكل من أشكال العزاء.
من الواضح أن إحساس ألبير كامو بالسعادة ليس شعورا تقليديا، ويجادل ساجي بأن ذلك ربما يضعه على مقربة من أرسطو أكثر من أي مفكر آخر، لكونه يدافع عن الإدراك الكامل للقدرات البشرية. (Sagi 2002, 79–80) كامو يشبه نيتشه في هذه أيضا، الذي دعا قرّاءه “للإقبال على الحياة”، وعيش كل لحظة منها بأقصى ما يمكن. كان رأي نيتشه أنك عندما تعيش بشكل كلي، وعلى دراية بالسلبيات كما الإيجابيات، ستشعر بالألم ولن تهرب من أي تجربة، وسوف تحتضن الحياة “حتى في أغرب وأصعب مشكلاتها” (Nietzsche 1888/1954, 562). لكن مع نهاية (أسطورة سيزيف) كيف يمكن أن ينتقل كامو من الشكوكية (بشأن إيجاد الحقيقة) والعدمية (حول ما إذا كان للحياة معنى) ليدافع عن منهج للحياة يعرف بأنه أفضل من غيره؟ كيف يبرر تبنيه لموقف معياري، ويؤكد على قيم محددة؟ يكشف هذا التناقض عن براعة محددة، حيث يفسح الفيلسوف كامو طريقه إلى كامو الفنان. إنه كفنان، يجعل قضيته في قبول المأساة، الوعي بالعبثية، حياة حيوية وحسية. فهو بذلك يدافع بصورة سيزيف وهو يكافح، سعيدا تملؤه الحياة.
-
ألبير كامو وعالم العنف: (الإنسان المتمرد)
يتبع هذا التأمل حول العبثية والانتحار، نشر أول رواية لـ ألبير كامو وهي (الغريب)، والتي تركزت أيضا على التجربة الفردية، إذ تدور حول جريمة قتل حمقاء ارتكبها البطل في حق عربي، على شاطئ في الجزائر، وتختتم بإعدامه بالمقصلة. يُنسى في الغالب أن هذا الروائي العبثي والفيلسوف، كان أيضا ناشطا سياسيا- فقد كان عضوا في الفرع الجزائري للحزب الفرنسي الشيوعي منتصف الثلاثينات، وكان منظما لمؤسسة المسرح الجزائري التي قدمت طليعة الجيش ومسرحيات سياسية، إضافة لكونه صحفيا محاربا. منذ أكتوبر عام 1930 حتى يناير 1940 عمل كامو في صحيفة الجمهورية الجزائرية إلى جانب صحيفة أخرى شقيقة. وفي يناير 1939، كتب سلسلة من المقالات عن الفقر والمجاعة في منطقة قبائلية جبلية ساحلية، وكان من بين أوائل المقالات التفصيلية المكتوبة من قبل أوروبي جزائري، واصفا الظروف المعيشية البائسة للسكان الأصليين.
بعد بدء الحرب العالمية الثانية، أصبح ألبير كامو محررا في صحيفة Le Soir républicain وكان معارضا دخول فرنسا للحرب. كان مشهد كامو ومعلمه باسكال بيا وهما يديران الجناح اليساري يوميا داخل الأرض، لأنهما رفضا المطلب الملحّ بمقاتلة النازية، من أكثر المشاهد البارزة في حياته، وقلّما لفت إليها النظر. وقد دافع كامو عن فكرة التفاوض مع هتلر-مسيئا فهم النازية منذ البداية- التي من شأنها أن تقلب خزي معاهدة فرساي. حبه للسلام كان تضامنا مع التقاليد الفرنسية العتيقة، وقد كانت تقارير كامو عن السلك الحربي من باب التضامن مع أولئك الشباب، مثل أخاه الذي أصبح جنديا. كان لديه عزم على الخدمة بإخلاص، والدفاع عن التفاوض السلمي في الثكنات، إلا أن كامو كان غاضبا من أن مرض السل كان سببا في استبعاده. (Lottman, 201–31; Aronson 2004, 25–28).
هذه الحقائق المتعلقة بسيرة ألبير كامو الذاتية مرتبطة بتطوره الفلسفي بعد (أسطورة سيزيف). انتقل إلى فرنسا، وانخرط في مقاومة الاحتلال الألماني في رسالتين “إلى صديق ألماني” وقد نشرت سرّا عام 1943 و1944، حيث تفكر كامو في مسألة ما إذا كان العنف ضد المحتل مبررا. وقد تحدث عن “الكراهية التي حملناها نحن (الفرنسيين) تجاه الحرب”، والحاجة إلى “معرفة ما إذا كان لدينا الحق في قتل الرجال، لو سمح لنا أن نضيف بؤسا مخيفا لهذا العالم.” كان محتقرا الحرب، مرتابا من البطولة، وادعى أن المحتل الفرنسي قد دفع ثمن دخوله هذا المنعطف” بأحكام السجن، والإعدام فجرا، والتهجير والانفصال، ووخزات الجوع اليومية، والأطفال الهزالى، وفوق كل ذلك، إهانة لكرامتنا الإنسانية”(RRD, 8). عندما كنا على “أعتاب الموت” و “متخلفين بقوة” عن الألمان، عندها فقط فهمنا أسباب القتال، ومن هذه اللحظة صرنا نعاني بضمير مرتاح و”أياد نظيفة.” كانت قوتنا الأخلاقية متجذرة بداخلنا من حقيقة أننا نقاتل من أجل العدالة والبقاء الوطني. استمرت الرسائل التالية في مقارنة الفرنسيين مع الألمان على أسس أخلاقية مستمدة بشكل مباشر من فلسفة كامو، وتشير في ثناياها بالتحول من (أسطورة سيزيف) إلى (الإنسان المتمرد): لو أن كلا العدوين قد أحسّا بشعور عبثية العالم، فإن الفرنسيين قد عاشوا هذا الوعي وعرفوه على حد زعمه، بينما سعى الألمان للتغلب عليه عبر السيطرة على العالم.
إن التزام ألبير كامو بمناهضة النازية وخبرته الصحفية قادته لخلافة بيا كمحرر في مارس 1944 لصحيفة Combat، والتي تعتبر الصحيفة الرئيسة للجناح اليساري غير الشيوعي. مع ذلك، استمر سؤال العنف بعد التحرير بالاستحواذ على ذهن كامو، سواء كان بصورة سياسية أو فلسفية. كان رمزه خلال سنوات الحرب رواية (الطاعون)، التي تصف مقاومة غير عنيفة لوباء يتعذر تفسيره، وفي عام 1945 كان أحد الأصوات القلائل التي صعدت احتجاجها على استخدام أمريكا للأسلحة النووية ضد اليابان. (Aronson 2004, 61-63). لقد عارض كامو، بعد التحرير، عقوبة الإعدام للمتواطئين، وانقلب على الشيوعية والماركسية لتأجيجها للثورة، رافضا الحرب الباردة المرتسمة، وعنفها المهدد، حيث بدأ في (الإنسان المتمرد) بنثر فهمه العميق للعنف.
-
4.1 العبثية، التمرد، القتل
في بداية (الإنسان المتمرد) يستأنف ألبير كامو ما أهمل الحديث عنه في (أسطورة سيزيف). حيث يكتب من جديد كفيلسوف، عائدا إلى ميدان الجدل عبر شرح لما يتضمنه المنطق العبثي. وقد كانت “الخلاصة النهائية” في “نبذ الانتحار، وقبول المواجهة البائسة بين صمت الكون والتساؤل الإنساني.” وإذا خلص إلى غير ذلك، فإن ذلك سينفي فرضيته، أي وجود المتسائل، بأن العبثية يجب أن تقبل الحياة بشكل منطقي كشيء جيد بالضرورة. “والقول بأن الحياة عبثية، يجب أن يكون بوعي حي.” (R, 6, tr. changed). الحياة والأكل “تثمنان الأحكام بنفسها” (Camus 1968, 160). “أن تتنفس يعني أن تحكم.” كما في نقده للوجوديين، يدافع كامو عن وجهة نظر واحدة يمكن من خلالها أن نجادل بالصدق الموضوعي، ألا وهي الاتساق.
للوهلة الأولى، بدا أن موضوع الكتاب له موضوع تاريخي أكثر من كونه فلسفي. “إن غرض هذا المقال هو…لمواجهة حقيقة الحاضر، وهي جريمة منطقية، وفحص دقيق للحجج لتبريرها، إنها محاولة لفهم الزمان الذي نعيشه. قد يظن المرء أن هذه الفترة، التي ستكون في غضون خمسين عاما، قد اجتثت، واستعبدت، وقتلت سبعين مليونا من البشر، يجب أن تدان بشكل خارج عن السيطرة، لكن أحقية اللوم هي ما يجب فهمه.” (R, 3).
هل تمثل هذه الأسئلة فلسفة جديدة، أم أنها استمرار لـ (أسطورة سيزيف)؟ إن التفسيرات التي قدمها ألبير كامو في تنقلاته بين الصفحات الأولى من (الإنسان المتمرد) لم تقدم حلا للمسألة، في إشارته لجرائم القتل الجماعي منتصف ثلث القرن العشرين. يقول كامو أن الانتحار قد تعزز مرة في “عصر الإنكار”، لكن الآن في “عصر الأيديولوجيات، يجب أن ندرس موقفنا تجاه جرائم القتل” (R, 4). هل تغيرت “العصور” في أقل من عشر سنوات بين الكتابين؟ ربما يكون على حق في أن التساؤل عما إذا كان للقتل أسس عقلانية هو “السؤال المضمن في دم وصراعات هذا القرن”، لكن تغيير تركيزه من الانتحار للقتل، يوضح لنا أن كامو قد حوّل توجهه الفلسفي من الفرد إلى انتماءنا الاجتماعي.
في هذا الصدد، طبق ألبير كامو فلسفة العبث في اتجاهات اجتماعية جديدة، وسعى للإجابة على أسئلة تاريخية جديدة. لكن، بينما نراه يقوم بهذا الأمر في بداية (الإنسان المتمرد) كان الاستمرار بقراءة فلسفية لـ “الغريب” واضحا بشكل ملفت. في إعادة رواية (الغريب)، يعيد الروائي كامل داوود الرواية من وجهة نظر الضحية، ليصف قاتل “نسيبه” العربي بشكل صحيح على أنها جريمة فلسفية. (Daoud, 19). يوضح كامو في بداية (الإنسان المتمرد):
يكمن إدراك العبث عندما نطالب لأول مرة باستنتاج قاعدة سلوك منه، الأمر الذي يجعل القتل يبدو، على أقل تقدير، مسألة غير مهمة، وبالتالي ممكنة … لا يوجد هنا سلب أو إيجاب: القاتل ليس مخطئا ولا مصيبا. نحن أحرار بأن نلهب نيران المحرقة، أو بأن نكرس أنفسنا لرعاية مرضى الجذام. فما الشر والفضيلة إلا محض نزوة أو فرصة. (ص، 5)
إذا كان “القتل هو المشكلة الحالية” تاريخيا، فإن المواجهة مع العبث تخبرنا بأن الشيء ذاته صحيح فلسفيا. فلو أننا استبعدنا الانتحار، فما لذي يمكن قوله عن القتل؟
بدءا من غياب الإله، الموضوع الرئيس في (أعراس) وحتمية العبثية، الموضوع الرئيس في (أسطورة سيزيف)، يقوم ألبير كامو بمزج كلا هذين الموضوعين في (الإنسان المتمرد)، لكن إلى جانب ذلك كان يلفت الانتباه إلى الثورة. تفترض عملية التمرد حالة المعطى الأول للتجربة الإنسانية مثل الكوجيتو الديكارتية التي أخذها سارتر نقطة انطلاق له. وضح كامو ذلك بشكل مباشر تحت إلهام قراءته لكتاب (الوجود والعدم). لكن في تسميتها “ثورة” كان قد أخذها في شكل مختلف تماما عن سارتر، الذي بناها من الكوجيتو “مقالة في الوجودية الظاهراتية”. بعد ذلك بدأ كامو في الاهتمام بالقضايا المباشرة التي تخص التجربة الإنسانية الاجتماعية، متجاهلا البعد الوجودي بشكل تام. وللتأكيد، لا تزال الثورة تشمل التمرد ضد العبثية التي وصفها كامو في (أسطورة سيزيف)، ومرة أخرى سيتحدث عن التمرد ضد فناءنا، وخلو هذا الكون من المعنى وانعدام ترابطه. لكن (الإنسان المتمرد) تبدأ بنوع من الثورة التي ترفض الاضطهاد والعبودية، وتحتج ضد خلو العالم من العدالة.
هي في البداية مثل (أسطورة سيزيف)، تمرد فرد واحد لكن يصرّ ألبير كامو على أن الثورة تخلق القيم، الكرامة، والتضامن. كان بيانه المتناقض “أنا أثور، إذا أنا هنا”. لكن كيف يمكن لأنا أن تؤدي إلى نحن؟ كيف تكون “نحن” تابعة من “أنا أثور”؟ كيف يمكن لتجربة العبثية الفردية، والتمرد ضدها، توقف، تنتج، تلمح، أو تنطوي على شعور اجتماعي واسع بانعدام العدالة والتضامن؟ في الواقع جاءت “نحن” موضوعا لـ (الإنسان المتمرد) رغم أن عنوان صحيفة L’Homme revolté يوحي بأن دافع الفرد الأصلي ربما يكون فرديا. إن العمل ضد الاضطهاد يتضمن اللجوء إلى القيم الاجتماعية، وفي نفس الوقت الانضمام إلى الآخرين في النضال. وعلى كلا المستويين، يبقى التضامن هو وضعنا المشترك.
يتخذ ألبير كامو خطوة إضافية في (الإنسان المتمرد) والتي استحوذت على معظم الكتاب، لتطوير مفهومه للتمرد التاريخي والميتافيزيقي في معارضته لمفهوم الثورة. قام كامو بتطبيق مواضيعه الفلسفية مباشرة على السياسة في السنوات التي تلت تحرير فرنسا عام 1944، وكان قد خلص بالفعل إلى أن الماركسيين وخاصة الشيوعيين مذنبون في التملص من عبثية الحياة عبر تحول جماعي للمجتمع، والذي كان بالضرورة تحولا عنيفا. والآن في (الإنسان المتمرد) يصف ذلك على أنها النزعة الرئيسة للتاريخ الحديث، مستخدما مصطلحات مماثلة كتلك التي استخدمها في (أسطورة سيزيف) لوصف المراوغات الدينية والفلسفية.
أي نوع من العمل هذا؟ في كتاب مغلف بالمعاني السياسية، لا يقدم ألبير كامو أي جدل أو كشف سياسي صريح، ويقدم القليل في طريق التحليل الاجتماعي الحقيقي أو دراسة تاريخية متماسكة. إن كتاب (الإنسان المتمرد) هو بالأحرى، مقالة فلسفية مؤطرة عن الأفكار الأساسية ومواقف الحضارة. حيث يقترح دافيد سبرينزن هذه المواقف المضمونة لتُوظف ضمنيا في ظروف المشاريع الإنسانية، ونادرا ما تكون مدركة(Sprintzen 1988, 123).
شعر ألبير كامو بأن دراسة هذه المواقف بشكل نقدي قد أصبح ملحّا، في عالم أصبح فيه القتل المدروس أمرا شائعا. لقد قام بتطبيق أفكاره ورؤاه العبثية على السياسة، وفي (الإنسان المتمرد) فشرح ما يعتبره رفضا متزايدا ومنظما وكارثيا من العالم الحديث في مواجهة، قبول، والتعايش مع العبثية. يقدم الكتاب وجهة نظر فريدة من نوعها، ليقدم بنية متماسكة وأصيلة للفرضية، المزاج، الوصف، الفلسفة، التاريخ، والانحياز أيضا.
-
4.2 ضد الشيوعية
كان لعداء كامو ضد الشيوعية، أسباب شخصية، فلسفية، وسياسية. لقد عاد هؤلاء إلى ترحيله من الحزب الشيوعي منتصف الثلاثينات، لرفضه التمسك باستراتيجية جبهته الشعبية الداعية لتحجيم شأن الاستعمار الفرنسي في الجزائر من أجل الفوز بدعم طبقة العمال البيض. ومن دون ذكر الماركسية، فإن (أسطورة سيزيف) صامتة ببلاغة عن ادعاءاتها بتقديم فهم متماسك للتاريخ الإنساني، ومسار جاد للمستقبل. إن العلاقة المتبادلة المحترمة مع الشيوعيين خلال المقاومة وفترة ما بعد الحرب مباشرة، قد أصبحت علاقة مريرة بعدما تعرض للهجوم في الصحافة الشيوعية وردّ الهجوم بدوره في سلسلة مقالات صحفية عام 1946 والتي عنونت بـ (لا ضحايا ولا جلادين).
يصر ألبير كامو في (الإنسان المتمرد) على أن جاذبية الشيوعية وميزاتها السلبية قد نبعت من نفس الدوافع الإنسانية التي تعذر كبحها. يرفض البشر قبول وجودهم، عند مواجهة العبثية والظلم، وبدلا من ذلك يسعون إلى إعادة تكوين العالم. عبر تأييده للثورة كنقطة انطلاق ضرورية، انتقد كامو السياسات التي تهدف إلى بناء مستقبل مثالي، مؤكدا مرة أخرى على أن الحياة يجب أن تعاش في الحاضر، والعالم الحسي. قام باستكشاف الحركات الفكرية العدمية وما بعد الدينية، إضافة إلى الأدبية: وهاجم العنف السياسي بآرائه حول محدوديتنا والتضامن، وانتهى بتبيان الدور الميتافيزيقي للفن وكذلك السياسة الراديكالية التي تحدّ من الذات. بدلا من السعي لتحويل العالم، تحدث كامو عن “القياس” بمعنى التناسب والتوازن- وعن العيش في توتر الوضع الإنساني. يسم هذه النظرة بـ “المتوسطية” في محاولة لتثبيت آرائه في المكان الذي عاش فيه، وليستحضر بإحساس قراءه التناغم والتقدير للحياة الجسدية. لا يوجد حجة ثابتة للوسم، ولا حجة ممكنة نظرا لطريقته في الاختيار ببساطة ما لذي يعتبر ومن يعتبر ممثلا لوجهة النظر “المتوسطية” بينما يقصي الآخرين، على سبيل المثال، بعض الكتاب اليونانيين، وقليل من الرومان. رسم كامو، بدلا ن النقاش، رؤية ختامية للتناغم المتوسطي الذي أمل أن يكون مثيرا وغنائيا، ويربط القارئ برؤاه.
يؤكد كتاب (الإنسان المتمرد) بوصفه تخطيطا سياسيا، إلى أن الشيوعية تقود إلى القتل لا محالة، ثم يشرح كيف تنشأ الثورات من بعض الأفكار والحالات الروحية. لكنه لا يقوم بتحليل مقرب للحركات والأحداث. ولا يعطي أي دور للاحتياجات المادية أو الاضطهاد، ويعتبر البحث عن العدالة الاجتماعية كمحاولة ميتافيزيقية ملهمة لاستبدال “سيطرة الشرف بسيطرة العدالة.” (R, 56).
علاوة على ذلك، يصر ألبير كامو على أن هذه المواقف مضمنة داخل الماركسية. وقد اعترف في (لا ضحايا ولا مذنبين) أنه اشتراكي وليس ماركسي. وقد رفض قبول الماركسية لثورة العنف وفكرة أن “الغاية تبرر الوسيلة”، وكتب في “من المنظور الماركسي” بـ “أن مئة ألف قتيل هي ثمن بخس يدفع لسعادة مئات الملايين” (Camus 1991, 130). أصر كامو على أن الماركسيين يعتقدون أن ذلك بسبب إيمانهم أن للتاريخ منطق ضروري يؤدي لسعادة الإنسان، وبالتالي يقبلون العنف كذريعة لتحقيقه.
في (الإنسان المتمرد) يأخذ كامو هذا التأكيد لخطوة متقدمة: حيث أن الماركسية ليست متعلقة في أساسها بالتغيير الاجتماعي، بل هي ثورة “ومحاولة لضم الجميع داخلها” حيث تنبثق الثورة عندما يسعى الثائر لتجاهل الحدود المبنية داخل حياة الإنسان. لقد بلغت الشيوعية مجدا في التوجه الحديث من خلال “منطق حتمي للعدمية”، وذلك لتعظيم الإنسان وتحويل العالم وتوحيده. أما اليوم، فإن الثورات تخضع إلى اندفاع أعمى، كما وُصف في (أسطورة سيزيف): “لتطالب بالنظام وسط الفوضى، وبوحدة في قلب عابر”. وكذلك يفعل المتمرد عندما يصبح ثوريا فيقتل ويبرر القتل على أنه شرعي.
وفقا لـ ألبير كامو، فإن إعدام الملك لويس السادس عشر خلال الثورة الفرنسية كان خطوة حاسمة تبرهن السعي إلى العدل دون اعتبار للحدود. وهي تعارض المؤكد الأصيل للذات والحياة، وتوحّد الغرض من الثورة. ينتمي هذا الحديث إلى “كبرياء التاريخ الأوروبي” لكامو، والذي اُستهلّ بأفكار معينة من اليونانيين، وجوانب معينة من المسيحية المبكرة، لكن يبدأ جديا مع مجيء الحداثة. يركز كامو على مجموعة متنوعة من الشخصيات، الحركات، والأعمال الأدبية الرئيسة: مثل الماركيز دو ساد، الرومانسية، الداندية، الإخوة كرامازوف، هيجل، ماركس، نيتشه، السريالية، والنازيين، وفوق كل هؤلاء البلاشفة. يصف كامو الثورة بأنها تضاعف قوتها عبر الزمن وتتحول إلى عدمية بائسة أكثر فأكثر، تُسقط الإله وتضع الإنسان في مكانه، وتستخدم القوة بشكل وحشي أكثر فأكثر. إن التمرد التاريخي متجذر في التمرد الميتافيزيقي، وتؤدي إلى عزل العبثية باستخدام القتل كأداة مركزية لفرض السيطرة الكاملة على العالم. إن الشيوعية هي التعبير المعاصر لهذا المرض الغربي.
يزعم ألبير كامو أن القتل أصيح “منطقيا” في القرن العشرين، ويمكن “الدفاع عنه نظريا” وتبريره كعقيدة. حيث اعتاد الناس على “الجرائم المنطقية”، أي أن القتل الجماعي إما أن يخطط له أو يُتنبأ به، ويُبرر بشكل منطقي. بالتالي، يصف كامو “الجريمة المنطقية” على أنها المسألة المركزية في ذلك الوقت، في سعي “لدراسة الحجج بشكل دقيق بواسطة ما يبررها”، منطلقا في استكشاف كيف أصيح القرن العشرين قرن المجزرة.
ربما نتوقع تحليلا للحجج التي قد تحدث عنها، لكن (الإنسان المتمرد) قد حوّل تركيزنا. لقد تشوش العقل الإنساني بواسطة “معسكرات العبيد تحت راية الحرية، وتبرير المجازر بالمساعدات الإنسانية، أو عن طريق نوع من البشر الخارقين”، الأوليين يشيران إلى الشيوعية، أما الثالثة فإلى النازية. تسقط النازية في منتصف الكتاب، سقوطا أخلاقيا (فقد كانت على حد قوله، “نظام إرهاب لامنطقي” – ولم تستحوذ على اهتمام كامو إطلاقا)، الأمر الذي ضيق تساؤله بشكل كبير. لقد كُشف تحوله عبر سؤاله: كيف للجريمة أن ترتكب مع سبق الإصرار والتعمد ثم تبرر من خلال الفلسفة؟ وقد اتضح أن “القتل المنطقي” الذي كان كامو مهتما به، ليس الذي يرتكبه الرأسماليون، الديمقراطيون، الإمبرياليون، المستعمرون، أو النازيون، بل فقط ما يرتكبه الشيوعيون.
لا يوجه ألبير كامو الحديث هنا إلى محرقة الهولوكوست، ورغم أنه كان صوتا معارضا لهيروشيما عام 1945، إلا أنه لا يتساءل هنا كيف حدثت. كان كامو أحد قلائل الصحفيين الذين وجهوا الاتهام للاستعمار الفرنسي، لكنه لا يذكر ذلك إلا في الحاشية. كيف من الممكن لكامو أن يركز فقط على عنف الشيوعية، بالنظر للتاريخ الذي عاشه في منتصف حرب فرنسا الاستعمارية في فيتنام، وعندما علم أن هناك صراعا مريرا قادما في الجزائر؟ يبدو وكأن الأيديلوجية قد أعمته فقام بفصل الشر الشيوعي عن غيره من شرور القرن، وتوجيه عداءه لهم فقط. من غير ريب أن أفكار كامو قد تطورت ونضجت بمرور السنين، منذ أن بدأ يكتب عن الثورة. لكن شيئا آخر قد حدث، وتغيرت أجندته. اُستخدمت الثورة والعبثية، الموضوعين الرئيسين له، كبدائل للشيوعية التي أصبحت العدو الرئيسي. وأصبحت فلسفة الثورة أيديولوجية الحرب الباردة.
لقد أصبحت مقالة (الإنسان المتمرد) حدثا سياسيا رئيسا، بسبب وصفها لما يكمن وراء سمات الشر للسياسات الثورية الحديثة. بالكاد يمكن للقارئ أن يتجاوز وصفا لكيفية تحول دافع التحرير إلى قتل منظم ومنطقي، ليصبح التمرد ثورة تحاول تنظيم عبثية العالم. لم يسع كامو، في تقديمه لرسالته، نقد الستالينية بشدة كما المدافعين عنها. كانت أهدافه المحددة لمثقفين منجذبين للشيوعية، كما كان هو نفسه في الثلاثينات.
كان جان بول سارتر أحد هذه الأهداف، وفي نهاية (الإنسان المتمرد) اتخذ كامو هدفا نحو سياسة صديقه المتطورة. يركز كامو على “طائفة التاريخ” والذي وُجه كامل الكتاب ضدها، إضافة إلى إيمانه أن “الوجوديين” بقيادة سارتر قد وقعوا ضحية لفكرة أن الثوري يقود بالضرورة إلى ثورة. وُضع سارتر، داخل إطار كامو، في موضع تحدٍّ لأنه يحاول كأسلافه الذين انتقدوا في (أسطورة سيزيف)، أن يهربوا من العبثية التي ابتدأ بها فكره عبر التحول للماركسية. إنه نوع من التوسع، لأن سارتر لم يعلن نفسه كماركسي بعد، إلى جانب أنه يُظهر ميل كامو نحو التعميم الشامل بدلا من التحليل المقرب. لكنه يعكس أيضا قدرته على تفسير خلاف معين، بأوسع ما يمكن من المصطلحات- كصراع أساسي للفلسفة.
-
4.3 العنف: أمر حتميٌّ، مستحيل
شُكّلت الفصول الختامية لـ (الإنسان المتمرد) بكلمات مؤكدة للخاتمة (على هذا النحو، وهكذا، ولهذا السبب) والتي يندر أن تتبعها نتائج لما يأتي قبل، وغالبا ما يُقدم مزيدا من التأكيدات، دون أي أدلة أو تحليل. وقد رصعت هذه الفصول بجمل رئيسة مختارة بعناية للأفكار الرئيسة- والتي يتوقع المرء أن يتبعها نص، صفحات، وفصول لتطورها، لكن الجملة تتبع الأخرى، لينتظر جملة رئيسة مبنية بدقة كسابقتها.
كما جرت العادة في الكتاب، يجب على القارئ أن يكون مستعدا لاتباع وثبة مجردة للمفاهيم مثل: “التمرد”، “الثورة”، “التاريخ”، “العدمية”، وكلمات أخرى تقوم بمفردها دون العودة للعوامل البشرية. يصبح المضي في الكتاب موحلا أكثر، حتى إذا بلغنا النهاية يميل النص إلى عدم الاتساق. فكيف يمكن إذن أن يحكم فولي على (الإنسان المتمرد) بشكل فلسفي على أنه “أكثر كتب كامو أهميةً؟ (Foley, 55)
في هذه الصفحات يعود ألبير كامو إلى أساس مألوف، ليقارن التدين الضمني للرؤية المستقبلية الموجّهة التي تزعم فهم، وتروج لمنطق التاريخ، وتبرر العنف لتنجزه، مع “فلسفته التجريبية للحدود” المحفوفة بالمخاطر، و”الجهل المحسوب”، والعيش في الحاضر. مع ذلك، ينبع التوتر من حقيقة أنه يعمل أكثر من ذلك. وبينما يسعى كامو لإنهاء الكتاب في خاتمة، نجده يتنازع مع أعقد مواضيعها -وهي أن اللجوء إلى العنف أمر حتمي، مستحيل. فالإنسان المتمرد يعيش في تناقض. فلا يمكن له أو لها التخلي عن إمكانية الكذب، الظلم، والعنف لكونها جزء من وضع المتمرد، وسوف تدخل بالضرورة داخل النضال ضد الاضطهاد. “لذلك، لا يمكن له أن يزعم عدم قتل أحد أو عدم الكذب دون أن يتخلى عن تمرده، ويقبل مرة وللأبد الشر والقتل. “بعبارة أخرى، إن عدم التمرد يعني أنك أصبحت شريكا في الاضطهاد. إن التمرد الذي يصر عليه كامو يتبعه القتل. مع ذلك، فالتمرد من حيث “المبدأ” هو احتجاج ضد الموت، وكذلك مصدر للتضامن الذي يربط المجتمع الإنساني. لقد قال كامو بأن الموت هو أس العبثية، وأن في جذر التمرد احتجاج ضد العبثية. وبالتالي، لإن قتل أي إنسان حتى الظالم، يخلّ بتكافلنا، بمعنى يتعارض مع كينونتنا. لذا، من المستحيل أن تعتنق التمرد وترفض في الوقت عينه العنف.
مع ذلك، هناك من يتجاهلون هذه المعضلة، وهؤلاء هم المؤمنون بالتاريخ، ورثة هيغل وماركس، الذين تصوروا زمنا يتوقف فيه الظلم والاضطهاد، ويكون البشر فيه سعداء في النهاية. بالنسبة لـ ألبير كامو، هذه هي الجنة التي وعدت بها الأديان بعد الحياة الأخروية، أما الحديث عن العيش، والتضحية بالبشر لأجل مستقبل افتراضي أفضل، فهذا ببساطة دين آخر. علاوة على ذلك، فإن عداءه الحاد متحفظ على المثقفين الذين ينظّرون ويبررون مثل هذه الحركات. إذ لا يستطيع كامو، بقبوله هذه المعضلة، أن يوضح كيف يمكن للثورة الناجحة أن تبقى ملتزمة بالمبدأ التضامني المؤكد للحياة، والذي ابتدأت به الثورة. فهو بالتالي، يقترح لنا عملين، سيكونان، حال تنفيذهما، علامات على التزام الثورة بالبقاء متمردة، وهذا من شأنه أن يلغي عقوبة الإعدام، ويشجع عوضا عن ذلك على حرية التعبير.
بالإضافة لذلك، وكما يشير فولي، فإن محاولة ألبير كامو في التمعن في سؤال العنف السياسي تأتي في مجموعة صغيرة وعلى مستوى فردي. ففي كلّا من (الإنسان المتمرد) ومسرحية (كاليجولا) و (القتلة العادلون) يستحضر كامو فلسفته مباشرة على مسألة الظروف الاستثنائية، والتي يمكن على ضوءها اعتبار جريمة القتل السياسية مبررة. 1-يجب أن يكون الهدف طاغية؛ 2-يجب ألا يشمل القتل مدنيين أبرياء. 3- يجب أن يكون القاتل على مقربة من الضحية. 4- ويجب، عند ذلك، ألا يكون هناك بديل سوى القتل. Foley 93). ونظرا لأن القاتل قد انتهك النظام الأخلاقي الذي يقوم عليه المجتمع الإنساني، فيطالبه كامو هنا بأن يكون مستعدا للتضحية بحياته بالمقابل. لكن إذا قبل القتل في ظروف استثنائية، فإن كامو يستبعد القتل الجماعي، القتل غير المباشر، قتل المدنيين، والقتل دون حاجة لمحو الطغاة والمجرمين. تتوجه هذه المطالب نحو الفكرة الجوهرية في (الإنسان المتمرد) وهي إنك إن تمردت فهو تأكيد واحترام للنظام الأخلاقي ويجب دعم ذلك من خلال استعداد القاتل للتضحية بنفسه.
-
فيلسوف الحاضر
نجد في (الإنسان المتمرد) مقالا معقدا ومتوسعا في الفلسفة، تاريخ الأفكار، الحركات الأدبية، الفلسفة السياسية، وحتى الجمالية، إذ عمل كامو على توسيع أفكاره التي أكدّها في (أعراس) وطُوّرت في (أسطورة سيزيف): إن الحالة الإنسانية محبطة بطبيعتها، لكننا نخون أنفسنا ونلتمس الكارثة من خلال السعي إلى حلول دينية لحدودها. “يواجه المتمرد، بعناد، عالما حكم عليه بالإعدام ب، وغموض مبهم للوضع الإنساني الذي يطالب بالحياة والوضوح المطلق. إن المتمرد يسعى، ولكن دون علمه، إلى فلسفة أخلاقية أو دين.” (R, 101). إن البدائل تكمن في قبول حقيقة أننا نعيش في عالم بلا إله- أو أن نصبح ثوريين، ملتزمين بانتصار مجرد للعدالة في المستقبل، ورافضين العيش في الحاضر، تماما مثلما يفعل المؤمنون بالأديان.
بعد انتقاد الدين في (أعراس) يستكشف كامو بوعي ذاتي النقاط الأولية، المشاريع، الضعف، الأوهام، والإغراءات السياسية في العالم ما بعد الديني. حيث يصف كامو كيف فقد الدين التقليدي قوته، وكيف نشأت الأجيال الشابة وسط فراغ متنامٍ وشعور بأن كل شيء ممكن. ويدعي كذلك أن العلمانية الحديثة قد تعثرت داخل حالة ذهنية عدمية، لأنها لا تحرر نفسها من الدين. “يجب أن توجد، بعد ذلك، المملكة الوحيدة التي تعارض مملكة الفضيلة- أي مملكة العدل-ويجب أن يتحد المجتمع الإنساني من جديد بين أنقاض مدينة الإله المهدمة. إن إلغاء الإله وبناء الكنيسة هو الهدف الثابت والمتناقض للمتمرد.” إن حاجتنا الوحيدة إلى خلق ممالك، وبحثنا المستمر عن الخلاص هو طريق الكارثة. إنه طريق المتمرد الميتافيزيقي، الذي لا يرى “أن التمرد الإنساني بأشكاله المأساوية والممجدة، هي لا يمكن أن تكون إلا احتجاجا طويلا ضد الموت.” (R, 100).
يمكن أن يرى عمل ألبير كامو على أنه سابقة لـما بعد الحداثة، رغم أنه أكثر من ذلك بكثير. لم يحتف ما بعد الحداثيون بكامو بوصفه سلفا لهم، ولا شك في أن ذلك عائد إلى اهتمامه الميتافيزيقي المركزي بالعبثية والثورة، وولعه بإصدار أحكام تعميمية وتحليلات مختزلة، والتي تميز (الإنسان المتمرد) عن الكتب الأقل طموحا، تلك المغرقة في الوصف مثل كتاب (جدل التنوير) لادورنو وهوركهايمر. لكن في العديد من النواحي كان (الإنسان المتمرد) نموذج “أنساب” يصف ظهور التناقضات الجوهرية للروح الحديثة، إضافة لرؤية كامو للثورة التي تحد من الذات، وكونها تعبير غيبي عن سياسات ما بعد الماركسية وما بعد الحداثة اليسارية.
مثلما وصفه رونالد سيرجلي، فإن ألبير كامو مشروع فلسفي معقد وعميق، ذلك المشروع الذي أهمل وأسيء فهمه على حد سواء-ساعيا ليس فقط لنقد الحداثة لكنه يرجع إلى العالم القديم لوضع أسس لطرق بديلة للتفكير والحياة. وهكذا، يبقى كامو وثيق الصلة في القرن الواحد والعشرين، لبحثه المتشكك في الحضارة الغربية منذ العصور الكلاسيكية، وتقدمها، إلى جانب العالم الحديث. يقع في قلب تحليلاته، استكشافه المتردد صورة العيش في عالم بلا إله. “عندما يقلب عرش الإله، يدرك المتمرد بأنه مسؤول الآن عن إقامة العدل، النظام، والوحدة التي سعى لها عبثا داخل وضعه، وبهذه الطريقة يبرر سقوط الإله. ثم يبدأ الجهد اليائس لخلق هيمنة الإنسان، على حساب الجريمة والقتل إذا تطلب الأمر”. لكن كبح المرء نفسه عن هذا الجهد، هو شعور بالحرمان من العدالة، النظام، الوحدة. يدرك كامو أن الأمل والدافع الثوري هما اتجاهان أساسيان للروح الغربية ما بعد الكلاسيكية، التي تنبع من عالم الثقافة، التفكير، الشعور بأكمله.
يؤدي ذلك إلى أحد أكثر الجوانب أهمية وتعقيدا لفكر ألبير كامو: وهي تصميمه على انتقاد المواقف التي يجدها طبيعية وحتمية. إن إمكانية الانتحار تطارد البشر، وكذلك حقيقة أننا نبحث عن نظام مستحيل، وبقاء متعذر. لم يهاجم كامو الكتاب الوجوديين بشكل مباشر، لكنه حدّ نفسه بشكل كبير بوصف عدم قدرتهم للبقاء متسقين مع رؤيتهم الأولى. وبالمثل، يوضح في (الإنسان المتمرد) أن الحاجة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى إرهاب الشيوعية ومعسكرات العمل، هي أمر عالمي بشكل واضح: فهو يصفها ويصف عواقبها حتى نتمكن من مقاومتها بأنفسنا وكذلك الآخرين. رغم انعكاس معاداته للشيوعية، إلا أن تعاطفا ضمنيا يوحد كامو مع أولئك الثوريين الذين يعارضهم، لأنه يعترف بحرية بأنه يشاركهم نقطة الانطلاق عينها، التوقعات، الضغوط، الإغراءات، والمزالق. وعلى الرغم من أن كامو قد لجأ إلى الحجة السياسية في كثير من الأحيان، بلهجة تفوق أخلاقي، إلا أنه أوضح عبر شكوكه أن أولئك الذين لا يتفقون معه ليسوا إلا رفقاء يستسلمون لنفس الدافع الأساسي للهروب من العبثية التي نواجها جميعا.
هذا الإحساس واضح في روايته البليغة والقصيرة (السقوط)، التي كان لها شخصية وحيدة لرجل يدعى كليمنس، وقد عرّف على أنه كلا الرجلين، شخصية ألبير كامو وشخصية سارتر. لقد كان كل هؤلاء. من الواضح أن كليمنس كان شريرا، مذنبا لوقوفه أمام شابة تنتحر. يسعى كامو في داخله، إلى وصف وإدانة جيله، بما فيهم أعداؤه ونفسه. كانت حياة كليمنس مليئة بأعمال جيدة، لكنه منافق ويعرف ذلك. لقد امتلأ حديث كليمنس الذاتي بتبرير ذاتي، وكذلك اعترافه كشخص مزقه ذنبه ولكنه غير قادر على الاعتراف به. جالسا في حانة في أمستردام، هابطا إلى جحيمه الشخصي، داعيا القراء للانضمام له. في روايته لقصة كليمنس، سعى كامو إلى التعاطف وكذلك الوصف، إلى جانب الفهم والإدانة. إن كليمنس وحش، لكنه أيضا مجرد إنسان آخر. (Aronson 2004, 192-200).
فاز ألبير كامو بجائزة نوبل عام 1957، بعد نشر رواية (السقوط). إن القصة تحفة أدبية تبرهن على قدرة فردية وسط كتاباته الفلسفية. إن الحياة ليست واحدة، وأمر بسيط، بل سلسلة من المعضلات والضغوط. إن أكثر سمات الحياة التي تبدو بسيطة هي في الواقع معقدة وغامضة، يقترح كامو بأن نتجنب حلها. نحن بحاجة إلى مواجهة حقيقة أننا لا نستطيع تطهير أنفسنا من الدوافع التي تهدد بتخريب حياتنا. وإن كان لفلسفة كامو رسالة وحيدة، ستكون كالتالي: يجب علينا أن نتعلم التسامح، ونتقبل الإحباط والتناقض الذي لا يمكن للإنسان الهرب منه.
- المراجع :
الأعمال الرئيسية لـ ألبير كامو
مجموعة الأعمال بالفرنسية
- Théâtre, Récits, Nouvelles, R. Quillot (ed.), Paris: Gallimard, 1962.
- Essais, R. Quillot and L. Fauçon (eds.), Paris: Gallimard, 1965.
- Œuvres Complètes, Vols. I–IV, R. Gay-Crosier (ed.) Paris: Gallimard, 2006–09.
الأعمال الإنجليزية
Reference marks are given for cited English translations.
- The Plague, New York: Alfred A. Knopf, 1948.
- The Rebel: An Essay on Man in Revolt, New York: Alfred A. Knopf, 1954 [R].
- The Myth of Sisyphus and Other Essays, New York: Alred A. Knopf, 1955 [MS].
- The Fall, New York: Alfred A. Knopf, 1957.
- Caligula, and Three Other Plays, New York: Alred A. Knopf, 1958.
- Resistance, Rebellion, and Death, New York: Alfred A. Knopf, 1961 [RRD].
- “Nuptials at Tipasa”, in Lyrical and Critical Essays, 1968 [N].
- Lyrical and Critical Essays, New York: Alfred A. Knopf, 1968.
- The Stranger, New York: Vintage, 1988.
- Between Hell and Reason, Hanover, NH: Wesleyan University Press, 1991 [Available online].
- “Christian Metaphysics and Neoplatonism”, in J. McBride, Albert Camus: Philosopher and Littérateur, New York: St. Martin’s Press, 1992, pp. 93–165.
- Notebooks 1942–1951, New York: Marlowe, 1995.
- Notebooks 1935–1942, New York: Marlowe, 1996.
- Camus at Combat: Writing 1944–47, J. Lévi-Vatensi (ed.), Princeton: Princeton University Press, 2006.
Camus and Sartre
- Sartre, J.P., “Camus’s The Outsider,” in Literary and Philosophical Essays, New York: Collier Books, 1962.
- Sprintzen, D.A., and A. van den Hoven (eds.), Sartre and Camus: A Historic Confrontation, Amherst, NY: Humanity Books, 2004.
الأعمال الثانوية حول (ألبير كامو)
- Aronson, R., 1980, Jean-Paul Sartre: Philosophy in the World, London: Verso.
- –––, 2004, Camus and Sartre: The Story of a Friendship and the Quarrel That Ended It, Chicago: University of Chicago Press.
- –––, 2011, “Camus the Unbeliever,” in Situating Existentialism, Robert Bernasconi and Jonathan Judaken (eds.), New York: Columbia University Press.
- –––, 2013, “Camus et Sartre: parallèles et divergences de leur philosophie,” Cahier Albert Camus, Raymond Gay-Crosier (ed.), Paris: L’Herne.
- Daoud, K., 2015, The Mersault Investigation, New York: Other Press.
- Foley, J., 2008, Albert Camus: From the Absurd to Revolt, Montreal: McGill-Queen’s University Press.
- Gay-Crosier, R., Vanney, P., 2009, Camus et l’histoire, Caen: Lettres modernes Minard.
- Hanna, T., 1958, The Thought and Art of Albert Camus, Chicago: H. Regnery Co.
- Hayden, P.E., 2013, “Albert Camus and Rebellious Cosmopolitanism in a Divided World,” Journal of International Political Theory, 9(2): 194–219.
- Hughes, E.J. (ed.), 2007, The Cambridge Companion to Camus, Cambridge: Cambridge University Press.
- Illing, S.D., 2017, “Camus and Nietzsche on politics in an age of absurdity,” European Journal of Political Theory, 16(1): 24-40.
- Isaac, J.C., 1992, Arendt, Camus and Modern Rebellion, New Haven: Yale University Press.
- James, W., 1896, “Is Life Worth Living?” The Will to Believe and Other Essays in Popular Philosophy, New York: Longmans, Green, and Co. [Reprint available online]
- Jeanson, F., 1947, “Albert Camus ou le mensonge de l’absurdité,” Revue Dominicaine 53.
- Lazere, D., 1973, The Unique Creation of Albert Camus, New Haven: Yale University Press.
- Lottman, H. R., 1997, Albert Camus: A Biography, Corte Madera, CA: Ginko.
- Mélançon, M., 1976, Albert Camus: Analyse de sa Penseé, Fribourg: Éditions universitaires.
- McBride, J., 1992, Albert Camus: Philosopher and Littérateur, New York: St. Martin’s Press.
- McCarthy, P., 1982, Camus, New York: Random House.
- Nietzsche, F. W., 1878/1996, Human, All Too Human: A Book for Free Spirits, M. Faber and S. Lehmann, (trans.). Lincoln: University of Nebraska Press.
- –––, 1888/1968, “Twilight of the Idols”, in W. Kaufmann (trans.), The Portable Nietzsche, pp. 463–563, Harmondsworth: Penguin Books.
- O’Brien, C. C., 1970, Albert Camus of Europe and Africa, New York: Viking.
- Plutarch, Moralia, Vol. II, F. C. Babbitt (ed. and trans.), Cambridge: Harvard University Press.
- Rizzuto, A., 1981, Camus’s Imperial Vision, Carbondale: Southern Illinois University Press.
- Sagi, A., 2002, Albert Camus and the Philosophy of the Absurd, Amsterdam: Editions Rodopi B.V.
- Sharpe, M., 2012, “Restoring Camus as Philosophe: On Ronald Srigley’s Camus’s Critique of Modernity” Critical Horizons, 13(3): 400–424.
- Sherman, D., 2008,Camus, Malden, MA: Wiley-Blackwell.
- Sprintzen, D., 1988, Camus: A Critical Examination, Philadelphia: Temple University Press.
- Srigley, R., 2011,Albert Camus’ Critique of Modernity, Columbia: University of Missouri Press.
- Thody, P., 1973, Albert Camus 1913–60, London: Hamish Hamilton.
- Todd, O., 1997, Albert Camus: A Life, New York: Knopf.
أدوات أكاديمية
How to cite this entry. | |
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society. | |
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO). | |
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database. |
-
مصادر أخرى على الإنترنت عن ألبير كامو
- The Camus Studies Association
- The Albert Camus Society of the UK
- Ovid, “Heroides”, trans. A. S. Kilne
-
مقالات ذات صلة حول ألبير كامو
aesthetics: existentialist | existentialism | Husserl, Edmund | life: meaning of | Nietzsche, Friedrich | phenomenology | Sartre, Jean-Paul | suicide
[1] Aronson, Ronald, “Albert Camus”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/ archives/sum2017/entries/camus/>.