مجلة حكمة
معنى الثقافة

ما هي الثقافة؟

الكاتبباتي تامارا لينارد
ترجمةديمة حمد الحارثي
مراجعةسيرين الحاج حسين
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول تعريف الثقافة، وحقوق الأقليات الثقافية؛ منشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


ما هي الثقافة؟

غالباً ما تتسم المجتمعات الديمقراطية بالتعددية الشاملة في الأديان والثقافات والأعراق ووجهات النظر، والتي على أساسها يقوم المواطنون بتقديم مطالبات لدولهم. وتتسم الدول الديمقراطية أيضاً بالالتزام بمعاملة جميع المواطنين بالتساوي، وبالتالي فإنها تحتاج إلى سبل عادلة ومنصفة للتعامل مع هذه المطالبات والتجاوب معها. ويتناول هذا المدخل بالتحديد المطالبات الثقافية.

تكون المطالبات الثقافية على نطاق واسع في المجالات السياسية والقانونية. لا يقوم الأفراد والجماعات فقط بتقديم مطالبات ثقافية للدولة -والتي تكون غالبًا من أجل الاستيعاب القانوني أو السياسي- ولكن غالبًا ما تشرح الدولة خياراتها التي تتعلق بحماية جوانب معينة من ثقافتها. سيبحث هذا المدخل أولاً الطرق التي من خلالها يُعرِّف الفلاسفة السياسيين والأخلاقيين “الثقافة”: الثقافة باعتبارها مجموعة شاملة، الثقافة كتكوين اجتماعي، الثقافة كسردية، الثقافة كهوية. خلال هذه المناقشة، سيتم تقديم التحدي “الماهوي”: يعامل السرد الماهوي للثقافة بعض الخصائص الأساسية لتلك الثقافة كمعرِّف لها، وبالتالي على جميع أعضائها أن يشتركوا في سمات أساسية معينة حتى يُعامَلوا كأعضاء ينتمون إليها (للمزيد انظر 2010Phillips). ويتابع المدخل على وجه الخصوص الإشارة إلى أن المفاهيم الأولى للثقافة كمجموعة شاملة تُنتقد بأنها ماهوية، وتُعتبر المفاهيم المتأخرة محاولات إعادة صياغة للثقافة بطرق تتجنب التحدي الماهوي.

ينتقل المدخل بعد توضيح هذه الطرق الرئيسية لفهم الثقافة لتقييم أنواع مميزة من المطالبات الثقافية (وإن كانت متداخلة في بعض الأحيان) والتي من خلالها تضغط الأقليات على الدولة: مطالبات الإعفاء، مطالبات المساعدة، مطالبات تقرير مصيرها بنفسها، مطالبات الاعتراف، ومطالبات المحافظة (والمطالبات بعدم الخسارة القسرية للثقافة)، والمطالبات الدفاعية في الأوضاع القانونية، ومطالبات الاستخدام الحصري (المطالبات ضد الاستيلاء الثقافي). يوجد مبررات لهذه المطالبات واعتراضات عليها، وغالبًا ما تعتمد على كيفية فهم “الثقافة”. تعتمد الخلافات حول إمكانية تبرير هذه المطالبات في كثير من الحالات على الفهم المتضارب لماهية الثقافة، وعلى وجه الخصوص لمدى أهميتها لأعضائها، كما سيوضح أدناه.

أخيراً، سيتم اختتام المدخل بتقييم الحالات التي يقدم فيها مجتمع الأغلبية مطالبات ثقافية لتبرير اتخاذ الإجراءات، لاسيما في سياق السيطرة على الهجرة، وفي بعض الحالات، رفض دخول المهاجرين المحتملين جميعاً، فضلاً عن المطالب الثقافية التي تتخذ تجاه أولئك الذين صُرّح لهم بالدخول للدولة، ومجموعة المبررات والاعتراضات المقدمة في هذه الحالات. يتناول هذا القسم محتوى ثقافة الأغلبية، التي يُطلب من الوافدين الجدد الالتزام بها، بالإضافة إلى كيفية “مطالبتهم” بالقوة للالتزام بذلك.


1. تعريف الثقافة

يعد تعريف مصطلح “الثقافة” أمراً بالغ الصعوبة: فقد تم وصفه على أنه “مفهوم اشتهر بأنه فضفاض” (Song 2009: 177) و “مفهوم اشتهر بأنه مبهم” (Eisenberg 2009: 7). فهو يستخدم بعدة طرق: نظراً لأن المدخل سيستمر في النظر بشكل أوسع، يمكن لمصطلح “الثقافة” أن يشير إلى مجموعة الأعراف والممارسات والقيم التي تميز مجموعات الأقليات والأغلبية، مثل الإشارة إلى أن مجتمعات الحسيديم اليهودية تمارس في نيويورك “ثقافة” فريدة من نوعها، أو وصف الثقافة الإيطالية أو السنغالية.

ولكن يستخدم المصطلح أيضاً بطرق أخرى، مثل الإشارة إلى ثقافة “برو” (bro)، أو ثقافة “هيبيستر” (hipster)، أو ثقافة مشجعي كرة القدم البريطانيين. كذلك يمكن لأي شخص أن ينتسب لعدة ثقافات، إذ يمكن لشخص (مثل كاتب هذه السطور!) أن يكون عضواً في الثقافة الكندية، وثقافة مدينة أوتاوا، والثقافة اليهودية، والثقافة الأكاديمية في نفس الوقت. ستشرح الاعتبارات السياقية ترابط الأعراف والممارسات والقيم التي تعرِّف كل من هذه الثقافات في لحظة معينة. علاوة على ذلك، فإن بعض هذه الثقافات فقط لها أهمية سياسية وقانونية، وهي محور هذا المدخل.

ثمة خلاف شائع في المجالات السياسية والقانونية حول ماهية الثقافة، ويركز القسم التالي على التوسع في توضيح هذه الآراء المتباينة عن الثقافة. ومع ذلك هناك اتفاق كبير على أنه مهما كانت ماهيتها، فالثقافة مهمة للناس والمعنى والقيمة التي توفرها لحياة الأفراد وهذا من بين أهم أسباب قيمتها – إن لم يكن أهمها – للدفاع عنها وحمايتها في المجالات القانونية والسياسية. هذه القيمة هي السبب في أنه من المهم محاولة اكتشاف ماهية الثقافة، وأي جوانب منها على وجه الخصوص يجب أو لا يجب حمايتها في الحياة العامة ولماذا. إدراك الملاحظة القائلة بأن الثقافات تشكل قيمة للناس، وأنها في الواقع تضيف قيمة إلى حياة الأفراد، لا يعني القول بأن الممارسات الثقافية الفردية تعتبر كلها جيدة. يجب أن يأخذ أي سرد دفاعي عن الثقافة أهمية الثقافة بشكل عام على محمل الجد دون الدفاع عن جميع أشكالها. فُسِّرت الثقافة بأربع طرق رئيسية: باعتبارها مجموعة شاملة، وباعتبارها تكوين اجتماعي، ومن منظور الحوار والهوية.

1.1 الثقافة باعتبارها مجموعة شاملة

أحد طرق التفكير في الثقافة هي اعتبارها كلٌ شامل؛ مشكِّلةً كل أو معظم أبعاد حياتنا. قد تتحمل صياغة ويل كيمليكا (Will Kymlicka) للثقافة المجتمعية المسئولية الأكبر عن استحداث التفكير الجاد في فهم طبيعة الثقافة بهذه الطريقة. توفر الثقافة المجتمعية

لأعضائها طرقاً ذات مغزى للحياة عبر مجموعة كاملة من الأنشطة البشرية، بما في ذلك الحياة الاجتماعية والتعليمية والدينية والترفيهية والاقتصادية، والتي تشمل المجالات العامة والخاصة (Kymlicka 1996: 76).

 يبين كيمليكا توفير لثقافة المجتمعية المفعمة بالحياة “سياقاً للاختيار”، أي أنها توفر الموارد التي يعتمد عليها الأفراد لفهم عالمهم والخيارات التي يقدمها. استناداً على هذا، توصف الدول القومية على أنها تتمتع بثقافة مجتمعية، مثل مجموعات السكان الأصليين والأقليات القومية داخل الدولة (مثل الكتالونيون أو التبتيون)؛ مجموعات المهاجرين التي تحافظ على مجموعة من الممارسات والأعراف الثقافية حتى عندما تندمج في “ثقافة مجتمعية” أكبر تختلف عنها.

ليس كيمليكا وحده من يقدم وصفاً شاملاً للثقافة، إذ يقدم مايكل والزر (Michael Walzer) وصفاً مماثلاً، مقترحاً أننا نفهم المجتمعات السياسية كـ “مجتمعات ذات شخصية”، حيث يرتبط أعضاؤها بـ “عالم من المعاني المشتركة” (Walzer 1983: 28). و أيضاً يصف كلاً من أفيشاي مارغاليت (Avishai Margalit) وجوزيف راز (Joseph Raz) ما يسمى بالمجموعات “الشاملة” حيث يجد فيها أعضاؤها

 ثقافة تشكل إلى حد كبير أذواقهم وفرصهم، وتوفر لهم ركيزة لتحديد هويتهم الذاتية وسلامة الانتماء الآمن دون بذل جهد Margalit & Raz 1990: 448)).  

يقول أفيشاي مارغاليت وموشيه هالبيرتال (Moshe Halbertal) عن مجموعة شاملة إن ثقافتها “تغطي جوانب مهمة ومختلفة من الحياة”. ويقدمان بهذا القول كمثال الثقافة اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة:

إنها تحدد أنشطة الأشخاص (مثل دراسة التوراة في الثقافة الأرثوذكسية المتطرفة)، وتقرر المهنة (مثل الختانين)، وتعرِّف العلاقات المهمة (مثل الزواج). إنها تؤثر على كل ما يفعله الناس: الطبخ، الأسلوب المعماري، اللغة المشتركة، التقاليد الأدبية والفنية، الموسيقى، العادات، اللباس، المهرجانات، والاحتفالات ... تؤثر الثقافة على ذوق أعضائها، وأنواع الخيارات المتاحة لهم ومعناها، والخصائص التي يعتبرونها مهمة في تقييمهم لأنفسهم وللآخرين (Margalit & Halbertal 1994: 498).  

في حين يؤكد كيمليكا على الحرية التي توفرها ثقافة مجتمعية متينة، فإن مارغاليت وهالبرتال يتناولان دورها في تأمين “هوية شخصية” لأعضائها (Margalit & Halbertal 1994: 502)، ويتحدث والزر عن أهميتها في تشكيل “الوعي الجمعي”. وبالرغم من أن هؤلاء العلماء يبررون حماية ثقافة متينة لعدة أسباب، فإنهم يتفقون على أن ما تقوم به الثقافة في الأساس توفير منظومة القيم الأساسية التي تساعد الأعضاء على الاختيار بين الخيارات وتفسير قيمتهم، بما في ذلك مثلا ما يتعلق بأشكال معينة من التوظيف أو التعليم أو هيكل الأسرة وتربية الأطفال. ويعكس والزر الطريقة التي تخبر بها الثقافة كيفية فهم حتى أبسط الأمور:

تحمل سلعة ضرورية واحدة، والتي دائماً ما تكون ضرورية – مثل الغذاء – معاني مختلفة في أماكن مختلفة. يعتبر الخبز وقود الحياة، وجسد المسيح، ورمز السبت، وأحد سبل الضيافة، وهلم جرا (Walzer 1983: 8).

تلقي هذه الشروحات للثقافة الضوء على الكثير من الجوانب، بما في ذلك على وجه الخصوص سبب أن الثقافات المجتمعية المستنزفة قد تكون أقل قدرة على توفير السياق للاختيار وهو ما يؤكده كيمليكا، أو سبب أن “هوية الشخصية” قد تتعرض بالتالي للمخاطر: وأنه إذا أُضعفت النظم التعليمية أو السياسية أو الاقتصادية لمجموعة ثقافية ما، فإن قدرتها على دعم أعضائها لكي يعرفوا العالم، ويختاروا بين خيارات عدة، تضعف تبعاً لذلك. بالإضافة إلى ذلك فإن هذا الشروحات توضح الخطأ في تقويض ثقافات الآخرين: فإذا ما قوضت ثقافة ما، فسوف تتقلص الخيارات المتاحة لأعضائها بالتالي. وبوسعنا ملاحظة ذلك فيما يتعلق بثقافة الشعوب الأصلية في العديد من الدول: حيث حاولت الدول محو ثقافة الشعوب الأصلية بفاعلية، نتج عن ذلك تفكك اجتماعي حاد وعزلة الشعوب الأصلية التي أضعف سياق الاختيار لديها بشكل ملموس.

ولكن ظهرت عدة اعتراضات على هذه الطريقة في فهم الثقافة، ومعظمها عبارة عن صيغ لما يسمى بالاعتراض “الماهوي”؛ غير أنه يجدر ملاحظة أن الآراء الموصوفة أعلاه لا يعتقد أصحابها أنها ماهوية. ويستهدف الاعتراض الماهوي ما يعتبره افتراضاً مفاده أن أعضاء ثقافة ما سوف يحملون نفس المجموعة من الممارسات والأعراف والقيم ذات الأهمية، وبالقدر ذاته. ولكن هذا الافتراض غير صحيح، إذ يقول النقاد: أن في أي ثقافة واقعية سوف يكون التزام أعضائها بممارساتها وأعرافها المعرِّفة مختلفاً، بل وحتماً سيكون هناك خلاف حول تحديد ممارساتها ومعاييرها التي تعرِّفها أصلاً. ينص الاعتراض الماهوي – على وجه التقريب – أن معاملة الثقافة على اعتبارها شاملة يؤدي بطريقة خاطئة إلى أحد الأشياء التالية:

  1. إعلان أن بعض سمات ثقافة ما هي من صميم تلك الثقافة، وبالتالي غير قابلة للتغيير تحت طائلة حل الثقافة (Eisenberg 2009: 120)، وتبعاً لذلك، تعتبر الثقافات بالضرورة مقيدَة ومحددة وليست محل نزاع وتقلب (Moore 2019; Patten 2014: 38)،
  2. وبعد تحديد السمات التي تعتبر في صلب الثقافة، فإنها تستبعد أولئك الذين يعتقدون أنهم أعضاء في تلك الثقافة ولكنهم لا يلتزمون بهذه السمات أو يظهرونها أو يحترمونها (Parvin 2008: 318–19)
  3. تتجاهل حقيقة أن معظم الناس في مجتمع ليبرالي “يحددون هويتهم من تعدد الأدوار والمجتمعات المحلية والعضويات في أي وقت من الأوقات” (Parvin 2008: 321)، والتي يمكن أن تكون ذات أهمية اجتماعية متفاوتة حسب السياق، بشكل مستقل عن الهويات الثقافية وأحياناً بالتزامن معها (Moore 2019).

وخلاصة القول: ينطوي أي شرحٍ مفرط الشمولية لماهية الثقافة بالنسبة لأعضائها على خطر التعامل مع حدود الثقافة كما لو كانت محددة وغير متغيرة، وكما لو أن أعضاؤها لا يبدو عليهم أي اختلاف (وربما لا يستطيعون إظهار الاختلاف) في التزامهم بالثقافة ككل وفي ممارساتها المعرِّفة لها.

تهدف جميع الشروحات البديلة للثقافة التي ستناقش أدناه – أو جزء منها على الأقل – إلى الرد على التحدي الماهوي. بمعنى أن هدف تلك الشروحات إنتاج شرح منطقي لماهية الثقافة، وبالتالي ماذا يعني أن تكون عضواً في مجموعة ثقافية معينة يمكن استخدامها من أجل فهم منطقي للخلافات القانونية والسياسية، والفصل المثالي بينهما دون الخضوع للتحدي الماهوي. تنبيه: لابد من فهم وجهات نظر الثقافة التي سيتم تناولها أدناه على أنها “أنماط نموذجية” حتى يتسنى فهم سماتها الرئيسية، وكيفية اختلافها عن وجهات النظر الأخرى، وسبب عدم وقوعها ضحية (حسب تقديرها) للتحدي الماهوي.

2.1 الثقافة بصفتها تكويناً اجتماعياً

إن إحدى المحاولات الرامية إلى إعادة النظر في الثقافة بطريقة تستجيب للتحدي الماهوي، ولكنها تحتفظ بالنظر إلى الثقافة على أنها شاملة إلى حد كبير، تقترح تعريف الثقافات من خلال الخبرة المشتركة بين أعضائها في التكوين الاجتماعي (Patten 2014: 39). وعلى أساس شرح “النسب الاجتماعي” للثقافة، فإن ما يجعل ثقافة ما ثقافة هو خضوع أعضائها “لمجموعة من الظروف التكوينية التي تختلف عن الظروف التكوينية المفروضة على الآخرين” (Patten 2014: 51).

إن تجربة الخضوع لمؤسسات مشتركة – والتي يفهم منها عموماً أنها تشمل مجالات تعليمية مشتركة واللغات ووسائل الإعلام فضلا عن التقاليد والقصص التاريخية المشتركة والمكونات الأسرية المتداخلة وما إلى ذلك – تشكل شعوراً لدى أفراد المجموعة الثقافية بأنهم يتشاركون طريقة مميزة في رؤية العالم، وأن بعض الافتراضات التي يمتلكونها يتقاسمها معهم آخرون أو على الأقل يفهمونها. ويؤكد هذا الرأي على المسار التاريخي للثقافة، ولكنه لا يتطلب أن تكون أعرافها وقيمها وممارساتها المعرِّفة لها غير متغيرة مع مرور الوقت. بل على العكس:

يمكن وجود تباين داخلي لأن الخضوع لمجموعة مشتركة من التأثيرات التكوينية لا يعني أن الناس سينتهي بهم المطاف بمجموعة متجانسة من المعتقدات أو القيم (Patten 2014: 52).

 فالثقافات نتيجة لذلك مواضع يمكن فيها للأعضاء أن يعترضوا على فهمهم ويتداولوه بما يكفي من الافتراضات المشتركة عن الطريقة التي يسير بها العالم لكي يتعرف كل منهم على الآخر على أنه مطّلع معه في نفس المشروع.

وكتب باتن (Patten) عن المؤسسات التي يخضع لها أعضاء المجموعة الثقافية بحيث أنهم على الأقل “معزولون إلى حد ما عن المؤسسات والممارسات التي تعمل على إضفاء الطابع الاجتماعي على الغرباء” (Patten 2014: 52)، مما يسهم في تمييز ثقافة عن أخرى. واستناداً على هذا الرأي، ينصب تركيز شديد على من يسيطر على زمام الأمور في تلك المؤسسات التي تشكل تكوين الأعضاء: أي أن ما يهم هو أن يكون الأعضاء مسيطرين على المؤسسات التي هم بأنفسهم يخضعون لها، حتى يتمكنوا من تشكيل تجربتهم الاجتماعية تشكيلاً معقولاً، وتجربة الأعضاء الأصغر سناً تشكيلاً أساسياً. حينما تنكر السيطرة على هذا التكوين الاجتماعي، يتضرر بذلك أفراد الثقافة؛ وعندما تُنكر إنكاراً قسرياً، فإنه من المرجح جداً أن يكون هناك ظلم يحتاج التدارك.

وبالتركيز على الخبرة المشتركة في الخضوع للمؤسسات الثقافية المشتركة، يتجنب هذا الشرح الاتهام القائل بأن ما يعرِّف الثقافة هو استقرار أعرافها وقيمها الأساسية على مر الزمن: فالثقافة بوجهة النظر هذه ليست كياناً جامداً. بل المهم هو أن أعضاء الجماعات الثقافية يعتقدون أنهم أعضاء في مجموعة ثقافية، وينشأ هذا الاعتقاد من تجربة المؤسسات الثقافية المشتركة، وليس من الممارسات المحددة التي تعتبر مركزية بالنسبة للجماعة. وبإمكان هذه الممارسات المركزية أن تتغير تغيراً جذرياً، دون حل المجموعة الثقافية نفسها.

بيد أن وجهة النظر هذه تخضع لانتقاد العلماء الذين يخشون من أن أولئك الذين يسيطرون على زمام أمور التشكيل لا يمثلون آراء جميع الأعضاء (Phillips 2018)، وأنهم بدلاً من ذلك يستخدمون مواقعهم النسبية في السلطة لخلق وفرض الأعراف والممارسات الثقافية التي لا تحظى (أو لن تحظى – دون إكراه -) باتفاق على نطاق واسع.

3.1 الثقافة حوار

ويدفع الاعتراض الأخير – وهو أن ما يسمى بثقافة يعتبر نتاج بعض أعضائها وليس جميعهم – بعض العلماء لإعادة تعريف الثقافة من ناحية الطرق التي تبنى بها من خلال الحوار بين الأعضاء وتفاعلهم بين بعضهم البعض. والغرض من التأكيد على أن أعضاء أي ثقافة هم مصدر ممارساتها وقيمها وأعرافها الرئيسية هو للتأكيد على أن الثقافة لا “تمنح” لأعضائها من جهة عليا – باعتبارها كياناً ثابتاً غير قابل للتغيير – بل إن أعضاء أي ثقافة هم أساساً مؤلفوها. وهنا يشرح جيمس تولي (James Tully) بأن الثقافات:

يتنازع عليها باستمرار، ويتم تخيلها وإعادة تشكيلها وتغييرها والتفاوض بشأنها، سواء من أعضائها أو من خلال تفاعلاتهم مع الآخرين (Tully 1995: 11).

وعلى غرار ذلك تشدد شيلا بن حبيب (Seyla Benhabib) على الجانب السردي للثقافات، مشيرة إلى أن المطلعين داخلها

يجربون تقاليدهم وقصصهم وطقوسهم ورموزهم وأدواتهم وظروفهم المعيشية المادية من خلال روايات سردية مشتركة وإن كانت موضع خلاف وجدل (Benhabib 2002: 5).

إن وجود صراع بين أعضاء الثقافة، وكون عناصرها الرئيسية قيد التفاوض المستمر، لا يقلل من أهميتها بالنسبة لأعضائها. ولعل ما قد يبدو محيراً هو الفكرة التي مفادها أن الثقافة المتنازع عليها والمتغيرة باستمرار تستدعي الحماية؛ وقد تعني الحماية وقف التغيرات الطبيعية التي تتعرض لها الثقافة اصطناعياً عن طريق حماية عناصرها في مرحلةٍ ما. ولكن يطالب المدافعين عن هذا الرأي بالحماية على هيئة ضمان استدامة المحافل التي يتم فيها التفاوض على الثقافة ومشاركتها ونقلها استدامةً قويةً وشاملةً، ودون تدخل غير مرغوب فيه من قوى أجنبية عن الثقافة. وكما هو الحال في شرح الثقافة باعتبارها تكويناً، ينصب التركيز على قدرة أعضاء المجموعة على تشكيل الأعراف والممارسات المركزية، وليس على الأعراف والممارسات بحد ذاتها.

كيف تستجيب وجهة النظر هذه للقلق بشأن توزيع القوة غير المتكافئ داخل مجموعة ثقافية ما؟ يعتبر التركيز على الطرق التي يتم بها تحديد الخصائص المركزية للثقافة من خلال التفاوض بين الأعضاء محاولة لتسليط الضوء على أجهزة السلطة ذات الصوت المسموع في هذه المفاوضات في ثقافات الأقليات والأغلبية (Dhamoon 2006). لطالما كانت الأصوات المهيمنة تاريخياً في العديد من الثقافات – بل وربما في أغلب الثقافات – من الذكور، وقد كانت إحدى الآثار المترتبة على ذلك عموماً هي النظرة الجنسانية في تحديد أفضل السبل لتنظيم الحياة الثقافية، مما أدى إلى تقليص حقوق المرأة (وغيرها من الأقليات) بطرق لا تعد ولا تحصى، وكثيراً ما كان ذلك في غير صالحهم وضد إرادتهم.

وبالنسبة للبعض، فإن اضطهاد الأعضاء الأضعف من قِبَل أولئك الذين يتولون زمام الأمور يولد على الأقل شكاً جزئياً في قيمة حماية أو استيعاب الثقافة في الدول الليبرالية الديمقراطية، وخاصة في الحالات التي قد يبدو فيها أن “التعددية الثقافية سيئة للنساء” (Okin 1999). وبناءً على هذا الرأي، فلا يجب التغاضي عن الممارسات الثقافية التي تنتقص من حقوق المرأة (وغيرها من الأقليات) في الدول الليبرالية الديمقراطية.

إن الاعتراف بأن العديد من الممارسات الثقافية مجحفة للمرأة (وغيرها من الأقليات) لا يدفع كافة المنظرين السياسيين إلى تبني موقف مشكك تجاهها في كل الحالات. وبالنسبة للبعض، فإنها فرصة لرؤية أن الثقافات يمكن أن تحظى بالتقدير حتى ممن يُعرف بأنهم مضطهدين، حتى وإن كانوا يعملون من الداخل للتأثير على اتجاه ثقافتهم نحو أعراف وممارسات أقل قمعاً. فعلى سبيل المثال، ورغم أنه عادةً ما تهمش العديد من النساء من مراكزهن في السلطة، فإنهن يقدّرن ثقافاتهن مما يدفعهن إلى عدم التخلي عنها، بل إلى الانخراط في عمليات إصلاح ممارسات وأعراف عدم المساواة من الداخل (Deveaux 2007).

وتحتفي هذه الطريقة من التفكير في الثقافة ومحتوياتها بـ “إضفاء الطابع الديمقراطي” على الآليات التي يتم من خلالها تبني الأعراف والقيم والممارسات الرئيسية للمجموعة الثقافية، وتشجع عليه، وتدافع عن الثقافات العامة التي تكون منفتحة على تعدد الأصوات (Lenard 2012).

ومن ثم فإن هذا الشرح السردي أو الحواري للثقافة يتصدى جيداً للتحدي الماهوي، بإنكار أن السمات المعرِّفة للثقافة يجب أن تكون ثابتة وذات قيمة مماثلة لجميع أعضاء المجموعة الثقافية. ولكن يجب على هذا الشرح أن يتصدى لتحدي آخر، وهو تحدي الفردانية (Moore 2019).

وإذا كان أي شرح يتناول الثقافة سيكون قوياً بما يكفي لتحديد الكيانات التي ينبغي أن يكون لها الحق في مزيد من الاعتبار السياسي والقانوني بطرق مختلفة – بما في ذلك ما يتعلق بالحماية الإضافية للحقوق أو الاستثناءات من بعض المتطلبات القانونية والسياسية – فإنه أيضاً يجب أن يكون هذا الشرح قادراً على تحديد حدود ثقافة معينة ومتفردة، ومن يعتبر بصورة مشروعة عضواً فيها بهدف احترام المطالبات السياسية والقانونية المقدَّمة نتيجة لذلك. ولكن من الممكن أن يكون هذا تحدياً يصعب إنجازه.

لمعرفة السبب علينا تأمل شرح بن حبيب للطرق التي يتم بها ملاحظة الثقافات من منظور خارجي، والطريقة التي تتم بها ممارسة تلك الثقافات من منظور داخلي. وتقول بن حبيب إن المراقب مسؤول مسؤولية كبيرة عن فرض “الوحدة والاتساق على الثقافات”، في حين أن المشاركين فيها من الداخل

يقومون بتجربة تقاليدهم وقصصهم وطقوسهم ورموزهم وأدواتهم وظروفهم المعيشية المادية من خلال روايات سردية مشتركة وإن كانت موضع خلاف وجدل (Benhabib 2002: 5).

ويتمثل أحد آثار فهم الثقافة بهذه الطريقة في تمسكّ العديد من دعاتها بعمق بالقيم المركزية وارتياحهم البالغ بالمشاركة في التقاليد الثقافية المركزية، بينما يتذبذب آخرون كثيرون من الأعضاء في الالتزام بممارساتها المركزية وينتقون ويختارون بين قيمها وأعرافها المركزية. وبالتالي فإن احتساب الأعضاء في أي ثقافة تعتبر عملية غير واضحة، وهذا الغموض قد يسبب مشكلة بما أنه يقال إن العضوية تمنح حقوقاً وامتيازات لا تتاح لغير الأعضاء. وهناك تعارض لا مفر منه بين الحاجة إلى منح الثقافات طابعاً متفرداً لها لأسباب سياسية وحدود الثقافات المرسمة ترسيماً ضعيفاً بالضرورة. والسياق هو الشيء الوحيد الذي سيمكننا من حل المسائل السياسية التي ستظهر نتيجة لذلك.

4.1 الثقافة باعتبارها هوية (أو هوية بدلاً من ثقافة)

ولمواجهة التحدي المتمثل في كيفية تحديد الثقافة وأعضائها، يركز أحد المقترحات على المكون الذاتي المرتبط بالانتماء إلى جماعة ثقافية ما. ولنأخذ هذا المثال الذي وصفته مارجريت مور (Margaret Moore): على الرغم من وجود انقسام عميق في إيرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت، فإن الاختلافات ليست دينية (الصراع لا يتعلق بتفسيرات متمايزة لنص ديني، والشخصيات الدينية غير مستهدفة بالعنف) ولا ثقافية، حيث تكشف الدراسات الاستقصائية للقيم الثقافية لكلا الطائفتين عن تداخل كبير بين القيم التي تتمسك بها الطائفتان المتنافستان (Moore 1999: 35).

ولكنها تقول إن ما يجعل الصراع أكثر منطقية بالأحرى هو التركيز على الهويات المشتركة بين المجموعات المتنافسة. وتبرز وجهة النظر التي تركز تركيزاً كبيراً أو جزئياً على الهوية أن أحد الأبعاد الرئيسية للثقافة هو الطريقة التي تشكل بها هوية أعضاء الجماعة الثقافية. كما تسلط وجهة النظر هذه الضوء على أن الثقافة شيء سيرتبط العديد من الناس به ارتباطاً هاماً، ولكنها ستكون معرِّفة لهم بطرق متعددة ومميِزة. ولوجهة النظر التي تركز على الهوية مزايا واضحة: فهي على سبيل المثال تستطيع أن تفسر سبب بقاء الأفراد مرتبطين إسمياً بثقافة ما رغم أن سماتها المعرِّفة لها تعريفاً مركزياً تتغير تاريخياً بمرور الوقت، وحتى إن لم يتفاعلوا مع بعض جوانبها الأكثر تقليدية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن النظرة المركزة على الهوية قادرة على استيعاب الهويات التي لا تكون قائمة بوضوح على ثقافة، بما في ذلك على سبيل المثال هويات مجتمع الميم (LGBTQ) (Eisenberg 2009: 20؛ للاطلاع على مناقشة المطالبات الثقافية/الهوية في سياق مجتمع الميم، انظر Ghosh 2018: chapter 4). وفي الواقع تهدف وجهة النظر التي تركز على الهوية إلى تفادي صعوبة تحديد المواد المعينة التي تعتبر شرعياً مواد ذات طابع ثقافي. وكما ذكر أعلاه، كثيراً ما يلاحظ علماء ثقافات الأقليات أن هناك طائفة واسعة من المطالبات التي تقدمها طائفة واسعة من المجموعات، وتُعرَّف هذه المجموعات من خلال التنوع في الخصائص التي تميزها بما في ذلك العرق والطائفة الإثنية والدين والهوية الجنسية. يقول المدافعون عنها أنه قد يكون من الأفضل التركيز على الهوية وليس على الثقافة لأن

 مصطلح الهوية يغطي أرضية أكبر بمعنى أنه يمكن أن يشير إلى الأبعاد الدينية واللغوية والجنسانية والأبعاد المتعلقة بالشعوب الأصلية وغيرها من أبعاد فهم الذات (Eisenberg 2009: 2).

2. مطالبات الحقوق الثقافية للأقليات

وتنبئ آراء الثقافة الأربعة المذكورة أعلاه عن المطالبات الثقافية التي يقدمها الأفراد والجماعات للدولة. تعد التهديدات الخاصة التي يواجهها الأفراد والجماعات – والتي تتطلب نوعاً من الحماية – متميزة كالردود التي قد تكون لدى الدول استجابةً للمطالبات التي يقدمها الأفراد والجماعات (Eisenberg 2009: 20–21). وفي بعض الحالات، تقدَّم مطالبات من أجل استيعاب جميع أعضاء مجموعة ما بوصفهم مجموعة؛ وفي حالات أخرى تقدَّم مطالبات بشأن أفراد معينين؛ وقد تكون هناك صلة بينهم. فعلى سبيل المثال، قد تطالب جماعة ما بسياسات لحماية اللغة، أو قد يطالب فرد ما بالحق في التحدث بلغته/ها الأم في الإجراءات القانونية.

وترتبط هذه الحقوق ببعضها البعض، وقد تكون في بعض الحالات مستمدة من بعضها البعض: وقد يكون أحد الأسباب التي تجعل للفرد الحق في التحدث بلغته الأم في الإجراءات القانونية هو أن الدولة اعترفت بلغته هذه لغة رسمية من لغات الدولة، أو لولاية قضائية تابعةٍ للدولة مثلاً. وبالنسبة لمسألة الاستيعاب، سيكون من المهم فيما يلي ملاحظة متى تكون المطالبات المقدمة من أجل الاستيعاب تنطبق على الأفراد ومتى ينطبق الاستيعاب على المجموعات؛ وعلى الرغم من حرص بعض الفلاسفة على تقييم ما إذا كانت الحقوق الثقافية من الأفضل أن تفهم على أنها حقوق فردية أو على أنها حقوق جماعية (Casals 2006)، فينطلق التحليل الوارد أدناه من الافتراض بأنها يمكن أن تكون كلاهما (اتباعاً لـ Levy 2000: 125).

ولاحظ كذلك بأن مصطلح ” الاستيعاب ” هو نوع من أنواع المصطلحات الجامعة التي تشمل مجموعة واسعة من المطالبات التي يمكن أن يقدمها الفرد أو الجماعة للدولة استناداً على الثقافة. وقد حاول الفلاسفة السياسيون التفريق بين هذه المزاعم بطرق لا حصر لها من أجل فهمها. والواقع أن العديد من هذه الحقوق تطالب بها جماعات المهاجرين (عادة) الدولة، التي تحتاج إلى استيعاب معين من الدولة من أجل تحسين الاندماج في تلك الدولة. وفي النقاش الأوسع نطاقاً حول قيمة التعددية الثقافية، يدور نقاش مستفيض حول أي نوع من الاستيعاب يشجع على إدماج الوافدين الجدد خاصة المميزين ثقافياً منهم، وأي منها يسمح أو حتى يشجع على انفصالهم عن المجتمع الأكبر (على سبيل المثال: Sniderman & Hagendoorn 2007).

كما يقلق بعض العلماء من أن التركيز على أفضل السبل لاستيعاب مجموعات الأقليات الثقافية تنتقل مع تجاهل (ربما يكون عمداً) المسائل الأكثر أهمية كإعادة توزيع أولئك الأقل حظاً (Barry 2001; Fraser 1995). لكن يتفق منظري التعددية الثقافية عموماً على أن حقوق الاستيعاب يمكن تبريرها والدفاع عنها دفاعاً شديداً عندما تدعم دمج الأقليات بوجه عام والوافدين الجدد بوجه خاص، وكذلك عندما تستهدف معالجة استمرار أوجه عدم المساواة بين الأغلبية والأقليات.

من الجدير بالذكر أن الجميع لا يتفق بسهولة على وجوب التعامل مع “الثقافة” كمصدر للمطالبات القانونية والسياسية المميزة. فعلى سبيل المثال تشير سارة سونغ (Sarah Song) إلى أن ما يسمى بمطالبات “التعددية الثقافية” غالباً ما تكون في الواقع مطالبات باستيعاب طائفة واسعة من المجموعات، بما في ذلك المجموعات العرقية والدينية والإثنية. ويبدو أن العديد من المنظرين السياسيين للحقوق الثقافية يعتقدون أن هناك مجموعات ثقافية متميزة ومعترف بها تقدم مطالبات ثقافية مميزة، بينما يعتمد هؤلاء المنظرون في تقديمهم للأمثلة على “مجموعة واسعة من الأمثلة التي تشمل الدين واللغة والطائفة الإثنية والجنسية والعرق” (Song 2009: 177).

ونادراً ما تكون “الثقافة” وحدها أساس المطالبة المقدَّمة للدولة. بل إن ما يسمى بالمطالبات الثقافية – كما تقول سونغ – هي غالباً في الحقيقة مطالب بسلع ديمقراطية أخرى مفهومة فهماً جيداً ومبررة. وتتلخص أغلب هذه المطالب في الاستيعاب الديني، ويتم الدفاع عنها وفق الدفاعات الليبرالية المعتادة عن حرية المعتقد؛ والبعض الآخر من المطالب عبارة مطالب بالتعويض عن الأخطاء السابقة والجارية وتتخذ شكل التمييز الإيجابي؛ وهناك مطالب أخرى من أجل الإدماج الديمقراطي، وغالبا ما تكون جذورها متأصلة في تاريخ ينطوي على إشكالية أخلاقية من الإقصاء المتعمد.

وبمجرد الكشف بوضوح عن أسباب هذه المطالب “الثقافية” سنجد في الغالب أسباباً يمكن تبريرها ديمقراطياً من أجل احترامها واستيعابها دون الحاجة إلى اللجوء إلى الاعتماد على الثقافة بوصفها كياناً متميزاً، مما يؤدي إلى ظهور مجموعة متميزة من المطالبات بالحقوق. ونتيجة ذلك هي أنه يمكن في حالات كثيرة تجنب الجدل المرتبط بتعريف الثقافات وتحديد أعضائها على الوجه الصحيح. إلا أن هذا التحليل قد يجعل من الصعب معالجة الحالات التي يتفاعل شيء يسمى “الثقافة” مع المطالبات الدينية والإثنية والعرقية أو يكملها.

ولنتناول قضية الاختيار الذي تم من خلال استفتاء حظر بناء المآذن فوق المساجد في سويسرا. وقد كانت إمكانية الدفاع عن الحظر موضوعاً للتداول بين الفلاسفة السياسيين، وكانت إحدى نقاط الخلاف الرئيسية هي ما إذا كان بناء المآذن يعتبر واجباً دينياً في الإسلام وإلى أي مدى. ويقترح العديد من المفسرين أنه نظراً لأن المآذن ليست إلزامية وفقاً للشروط الدينية الإسلامية، فمن المؤسف اختيار حظرها (بسبب ما تقوله عن الأماكن العامة للإسلام في سويسرا)، ولكن الحظر لا ينتهك الحرية الدينية للمسلمين الذين يمارسون شعائرهم الدينية في سويسرا، ولذلك فهو مسموح به (Miller 2016).

ومع ذلك، فإن ما يتم تجاهله في هذه المطالبة هو الأهمية الثقافية للمآذن. وبدون الاعتراف بمكانة الثقافة المتميزة في بعض المطالبات، لا يمكن التوصل إلى فهم كامل لقضية المآذن. ويمكن ملاحظة نفس التحدي في المداولات الجارية حول ما إذا كان ينبغي السماح للمرأة المسلمة بارتداء غطاء وجهها في الأماكن العامة. ويشير بعض المعلقين إلى أن النصوص الإسلامية (وفقاً لبعض التفسيرات) لا يبدو أنها تطلب تغطية الوجه، ومن الممكن حرمان المرأة من الحق في الانخراط في هذه الممارسة، دون انتهاك حريتها الدينية.

وعند طرح هذه الحجة، يلاحظ المدافعون عنها أن اختيار تغطية الوجه يشكل في واقع الأمر (مجرد) تفسير ثقافي للمتطلبات الإسلامية، كما يتضح من حقيقة مفادها أن بعض الطوائف التي تمارس الإسلام هي وحدها التي تمارس هذه الممارسة.[i] من الضروري بالنسبة لبعض العلماء الفصل بين المطالب الدينية والمطالبات الثقافية ــ تأخذ الدول الديمقراطية الليبرالية المزاعم الدينية بجدية بالغة باعتبارها مسائل أخلاقية، ولها تاريخ طويل في حماية الحرية الدينية بحماس.

وعلى هذا فبعد أن قرر هؤلاء العلماء أن المطالبة ليست مطالبة تتعلق بالحرية الدينية، فإنهم يعتقدون أنهم قادرون على رفض طلب الإذن بتغطية الوجه في الأماكن العامة بأريحية. ومع ذلك، فإن تجاهل الأبعاد الثقافية للمطالبة – أو معاملتها كما لو أنه من الواضح أنها أقل أهمية من المطالبة الدينية الكامنة وراءها – لا يعالج القضية معالجةً صحيحة. لاسيما أنه لا يأخذ على محمل الجد أن الالتزامات الدينية تنطوي بالضرورة على تفسيرات ثقافية، وأن الاعتراف الكامل بالحرية الدينية يستلزم الاعتراف بتفسيراتها الثقافية، وبذلك سوف يكون هناك حاجة لتحقيق الاستيعاب الثقافي القانوني والسياسي (للالتزام الديني).

وسيتم النظر فيما يلي في أنواع مميزة من المطالبات الثقافية المقدمة لمؤسسات الدولة الرئيسية. وكما سيتبين فإن هذه المطالبات يقدمها تارة أفراد وتارة جماعات. وحيثما اقتضى الأمر سيسلط التحليل الضوء على ما إذا كان مفهوم الثقافة الذي سيرد ذكره هو الثقافة باعتبارها مجموعة شاملة، الثقافة كتكوين اجتماعي، الثقافة كسرد، الثقافة كهوية. لن يكون التحليل دائما مرتباً، إذ ستكون هناك في بعض الحالات دفاعات متعددة عن حق ثقافي ما مستندةً على فهم مختلف للثقافة.

1.2 حقوق الإعفاء

ولعل أكثر أنواع المطالبات الثقافية شيوعاً التي تقدم للدولة تكون على شكل طلب إعفاء من القواعد واللوائح التي تنطبق عادةً على جميع المواطنين. وتستجيب حقوق الإعفاء لحقيقة أنه بالفعل يقصد من القوانين والممارسات في الديمقراطيات الليبرالية معاملة جميع المواطنين معاملة متساوية، ولكن تشكل بعض القوانين والممارسات المفروضة ضرراً على بعض الأقليات دون قصد. والقلق الذي يتعين حله هو أن مواطني الأقليات مثقلون بقصد أو دون قصد بالتطبيق المعتاد لبعض القوانين (Levy 2000: 130)، على نحو يؤدي إلى معاملتهم معاملة غير عادلة، والتي يمكن حلها بالإعفاء من بعض القوانين والممارسات المعتادة (Quong 2006; Gutmann 2003). ومن ثم يفهم توسيع نطاق حقوق الإعفاء على أنه:

اعترافٌ بذلك الاختلاف، باعتباره محاولةَ لعدم إثقال كاهل ثقافة الأقلية أو دينها دون داع في طريق تحقيق الأهداف المشروعة للقوانين (Levy 2000: 130).

يطلب بعض السيخ على سبيل المثال إعفاءهم من القوانين التي تشترط ارتداء خوذات الدراجات النارية أو خوذات مواقع البناء. ورغم أن السيخية تعتبر ديناً، إلا أن السيخ يصفون شرط ارتدائهم العمامة بأنه شرط غير ديني تماماً، بل إنه رمز لعقيدتهم والتزامهم بقيم السيخ، فضلاً عن كونه تعبيراً عن هويتهم (تجدون الأسئلة الشائعة عن اعتقاد السيخ في قسم مصادر الإنترنت الأخرى). وبدون إعفاء من هذه القوانين، سيُستثنى السيخ من الاستفادة من الفرص التي من المفترض أن تكون متاحة لجميع المواطنين على أساس متكافئ.

وينطبق الأمر ذاته على مجتمعات السكان الأصليين الذين طلبوا إعفاءات من القوانين المعمول بها عموماً والتي تحد من الصيد البري وصيد الأسماك، موضحين أن مثل هذه القيود تخل بأسلوب حياتهم التقليدي، أو تجعل من الصعب عليهم (أو من المستحيل) إعالة أنفسهم (Levy 2000: 128). وقبل التخلي عن قوانين إغلاق الأحد في كندا والولايات المتحدة، كانت الأقليات الدينية تمنح أحياناً إعفاءات منها. وفي هذه الحالات، وكما ورد أعلاه وبدون إعفاءات منصوص عليها قانوناً، يتعين على الناس (الأقليات عادة) أن يختاروا المشاركة في الفرص التي من المفترض أن تكون متاحة لجميع المواطنين على أساس متكافئ، أو احترام فهمهم (الثقافي) لما يمليه عليهم دينهم.

وثمة فرق طفيف بين طلب الإعفاء وطلب تعديل القواعد. وكما تبين، فإن طلبات الإعفاء هي – كما تبدو – طلبات لإعفاء الأفراد من بعض الشروط التي من المفترض أن تنطبق على جميع المواطنين بالتساوي؛ وتطلب طلبات التعديل إدخال تغييرات على الممارسات القائمة للأغلبية من أجل استيعاب ممارسات معينة أخرى من ممارسات الأقليات. ويطلب السيخ في بعض الأحيان إعفائهم من القوانين التي من شأنها أن تلزمهم بخلع عمائمهم على النحو السالف الذكر؛ ويطلبون في حالات أخرى إدخال تعديلات على الزي الرسمي، بحيث تعامل العمائم على أنها أحد أغطية الرأس المتاحة للذين يضطلعون بدور معين.

وينطبق الأمر ذاته على طلبات تعديل الزي الرسمي التي تقدمها النساء المسلمات اللاتي يغطين وجوههن أو رؤوسهن، والرجال اليهود الذين يرتدون اليرمولكات، حيث يتطلب الزي الرسمي عادةً رأساً أو وجهاً كاشفاً، أو في الحالات التي يطلبون فيها تغطية الرأس بطريقة معينة (كما هو الوضع في حالة السيخ، ويمكن عرضها على أنها طلبات للحصول على إعفاءات). وعلى غرار ذلك عندما يطلب المسلمون الملتزمون أوقات استراحة قصيرة في أيام العمل للصلاة في أوقات محددة من اليوم، أو عندما يطلب الطلاب اليهود والمسلمون تغييرات في توفير الطعام (لاستيعاب التزامات المتعلقة بطعام الكوشر والحلال) في المقاصف المدرسية، فهذه الطلبات تعتبر طلبات تعديل وليست إعفاء.

وفي معظم الحالات يكون الإخفاق المبكر للقانون الشرعي في تعديل ممارسات جديدة أو الإعفاء منها أمراً غير متعمد. بمعنى أن القوانين أو الممارسات السارية لم تعتمد عن قصد بغرض الاستثناء، بل اعتمدت بالأحرى على افتراض أنها تعامل السكان الحاليين معاملة عادلة. غير أن الهجرة واسعة النطاق نوّعت سكان بلدان كثيرة بطرق ملموسة. وغالباً ما يسافر المهاجرون بممارسات وقواعد لا تكون -عند وصولهم- مألوفةً في الدول التي سيقيمون فيها، ويُطلب نتيجة لذلك من الدول تعديل قوانين معينة، وإعفاء الوافدين الجدد من قوانين معينة أخرى. وقد توجد حالات يكون فيها أسباب عامة مشروعة تؤدي إلى الاستمرار في تطبيق قوانين معينة على الرغم من الأضرار التي تلحقها بالوافدين الجدد.

كما أن هناك حالات تصر فيها الدول على المطالبة بطاعة القوانين والممارسات التي من الواضح أنها تضر بالوافدين الجدد الذين يحاولون الاندماج، ولكن لا توجد فيها عوامل مخففة جيدة تبرر الاستمرار في فرض الضرر (مثلاً عندما أقرت مدينة راندرز الدنماركية قانوناً يشترط تقديم لحم الخنزير “بالتساوي مع الأغذية الأخرى” في المقاصف المدرسية). وفي هذه الحالات الأخيرة، لم يعد الأثر الاستبعادي للقوانين غير مقصود، وتستحق هذه القوانين الإدانة عموماً لأنها تكرس الاستبعاد غير الضروري وغير المبرر من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وليس المهاجرون – أفراداً أو جماعات – من يطالب دائماً بحقوق ثقافية من إعفاء وتعديل، ولكن هذا هو الحال في كثير من الأحيان. وتطالب مجتمعات السكان الأصليين بالإعفاءات كما تطلبها بعض الطوائف الدينية الأرثوذكسية. وستُناقش هذه الحالات أدناه في القسم الذي يركز على الحفاظ على الثقافة.

2.2 حقوق المساعدة

تناشد طلبات المساعدة الدولة بالحفاظ على الظروف التي يمكن أن تستمر فيها مختلف عناصر الثقافة بل وتزدهر – لا سيما لغات الأقليات – أو بتعزيز وحماية الجمعيات الثقافية بطرق مختلفة، بما في ذلك تقديم الدعم المالي للفنانين الذين ينتمون لهذه المجموعات الثقافية، أو بتوفير الموارد اللازمة لإتاحة إنتاج وتوزيع وسائط الإعلام بلغة الطائفة الإثنية. والمبرر وراء حقوق المساعدة هو ذاته الذي وراء طلبات الإعفاء والتعديل: وهو منع استمرار الظلم في الوصول إلى الحقوق أو المنافع التي من المفترض أن تكون متاحة لجميع المواطنين بالتساوي.

وفي حالة حقوق المساعدة، تجادل الأقليات الثقافية بأن الأغلبية تصل بالفعل إلى هذه المنافع، على سبيل المثال تعلم لغة قوية أو الوصول إلى وسائل الإعلام، ولذلك فهم يطلبون موارد الدولة بتأمين هذه المنافع للأقليات الثقافية أيضاً. وبينما يتداخل المبرر هنا مع المبرر المقدم للدفاع عن حقوق الإعفاء والتعديل – لتحقيق الإنصاف – فإن فهم الثقافة التي يقوم عليها طلب هذه الحقوق يختلف. وعادة ما تعامل مطالبات الإعفاء والتعديل الثقافة باعتبارها هوية أو حواراً، في حين أنه في حالة مطالبات المساعدة، يكون الفهم الأساسي للثقافة غالباً باعتبارها تكويناً اجتماعياً أو بوصفها مجموعة شاملة؛ وتُعامل الثقافة على أنها كلٌ يتطلب مساعدةً لحماية كل جزء من أجزائها المركزية، لكي تؤدي مهمة تشكيل الأعضاء تشكيلاً جيداً.

3.2 حقوق تقرير المصير

حقوق تقرير المصير هي الحقوق التي تمنح ولايات قضائية محلية داخل الدولة سيطرة كبيرة على إقليم معين، لا سيما الحق في إدارة المؤسسات الرئيسية في ذلك الإقليم. إن أي مجتمع يقرر مصيره بنفسه هو مجتمع قادر – بسبب السيطرة على المؤسسات الكبرى في إقليم ما – على اتخاذ وفرض القرارات من دون تدخل من أطراف خارجية في مجالات السياسات المتعددة (I.M. Yung 2004). ويستند تبرير حقوق تقرير المصير في بعض الأحيان على التعويض أو العدالة التصحيحية، على سبيل المثال عندما تكون إجراءات الدولة السابقة قد قوضت قدرة مجموعة ثقافية معينة على تقرير مصيرها بنفسها من الأساس (Song 2009: 184).

وفي حالات أخرى، فإن المطالبة بتقرير المصير لها ما يبررها فيما يتعلق بأهمية حماية استقلال الولايات القضائية المحلية المميزة ثقافياً، أي قدرتها على إدارة شؤونها الخاصة بطرق تنسجم مع تفضيلاتها الثقافية. ويعتمد الحق في تقرير المصير عادة على فهم الثقافة على أنها مجموعة شاملة، أو على اعتبار أنها تكويناً اجتماعياً، مما يدل على أنه بدون سيطرة كبيرة على المؤسسات الرئيسية التي تحكم حياة المواطنين، لن تكون المجموعة المعنية قادرة على تحديد مصيرها بنفسها.

يعزى الحق في تقرير المصير عادة إلى الدول، ولذلك فإن معناه في سياق الأقليات التي تعمل في مستوى محلي دون مستوى الدولة ليس واضحاً دائماً. ومن بين الولايات القضائية المحلية داخل الدولة، كثيرا ما تطالب بهذا الحق جماعات السكان الأصليين والجماعات القومية داخل الدولة مثل سكان إقليم الباسك والأسكتلنديين، الذين تختلف “ثقافتهم المجتمعية” بشكل واضح عن الثقافة المجتمعية للأغلبية. وتعتبر المطالبة بتقرير المصير مطالبةً باتخاذ قرارات بشأن كيفية تعليم الأطفال، واللغة التي تتحدث بها السلطات السياسية المختصة، وكيفية تنظيم الأماكن العامة. وللحق المطَالب به ثلاثة مظاهر على الأقل، وهي:

  1. الحق – على أقل تقدير- في “الحفاظ على أسلوب حياة شامل داخل المجتمع الأوسع دون تدخل”؛
  2. حق اعتراف الأغلبية بأسلوب حياتها
  3. الحق في المساندة النشطة من قبل الأغلبية لدعم أسلوب الحياة ذي الصلة دعماً إيجابياً حتى “تزدهر الثقافة” (Margalit & Halbertal 1994: 498).

وتقدم هذه المظاهر الثلاث مطالب مميزة للدولة، تتراوح من مطلب بسيط مثل عدم التدخل إلى المشاركة النشطة في إدامة ظروف تقرير المصير. ويناط نتيجة لذلك بالدولة في بعض الأحيان مهمة تقييم مدى رغبتها في توجيه مواردها لدعم طلب معين من طلبات تقرير المصير، مع التركيز على ما إذا كان هناك ما يبرر المطالبات المرتبطة بالحفاظ على الثقافة، والتي سينظر فيها أدناه.

4.2 حقوق الاعتراف

وكثيراً ما ينتقل طلب الاعتراف الرسمي في الوثائق القانونية والسياسية مع طلب تقرير المصير، ويستند على الرغبة في جعل الأغلبية تعبر عن التزامها بالاحترام الكامل والمتساوي للأقلية الثقافية (Mcbride 2009). وفي الحالة الكندية، كافح سكان مدينة كيبيك طويلاً من أجل الاعتراف بهم أمةً لديها “مجتمع مميز”. وقد فشلت محاولات الاعتراف بوضع كيبيك في الدستور الكندي مراراً، على الرغم من أن عريضةً نصها “أن يعترف هذا المجلس بأن كيبيك تشكل أمةً داخل كندا الموحدة” قد تمت الموافقة عليها (بالرغم من الجدل الكبير المصاحب لها) من قبل مجلس العموم في عام 2006. وتعد المطالبة بالاعتراف في هذه الحالة مطالبةً بالاحترام بوصف هذه الأمة شريكاً قومياً متساوٍ في تأسيس الدولة الكندية.

وفي حالة مجتمعات السكان الأصليين أيضاً، لا يشمل الحق في تقرير المصير غالباً المطالبة بممارسة السلطة على ولايات قضائية محددة فحسب، بل يشمل أيضاً الاعتراف بها. فتسعى هذه المجتمعات – على سبيل المثال – إلى الاعتراف بها على أنها السكان الأصليون لدولة معينة، أو على أنها أمم في حد ذاتها، أو على أنها ضحية لجرائم مختلفة قام بها المستعمرون منها انتهاك المعاهدات المبكرة المبرمة بينهما، فضلا عن طلبات تقدم للدولة من أجل دعم المحافظة على استدامة المجتمعات المحلية، وفي كثير من الحالات إعادة بناء تلك التي دمرتها حكومات الاستعمار/الاستيطان تدميراً نشطاً. وأصبح على سبيل المثال في كندا وغيرها من الدول المستعمِرة من الشائع قراءة بيانات الاعتراف بالأرض قبل الفعاليات (بما في ذلك قراءتها كجزء من “الإعلانات” التي تُقرأ في بداية اليوم الدراسي)، التي تعترف بأن الأحداث والإجراءات تجري على أرض السكان الأصليين التي لم يتنازلوا عنها للدولة المستعمِرة.

وعلى نحو مماثل لطالما طالبت مجتمعات السكان الأصليين الأسترالية بالاعتراف الرسمي بهم في الدستور الأسترالي. فإن الأمل بل والمتَوقع من منظور مجتمعات السكان الأصليين الأسترالية هو أن يؤدي الاعتراف الرسمي إلى مزيد من الحقوق والفوائد، مثل زيادة القوة التصويتية ووصول أفراد الأقلية إلى السياسة. ويوجد أمل في الحصول على حقوق ومنافع إضافية في بعض – ولكن ليس في كل – مطالبات الاعتراف (فعلى سبيل المثال لم يكن هذا موجوداً إلى حد كبير في حالة مدينة كيبيك).

ويأتي الاعتراف بأشكال أخرى تتجاوز الاعتراف في الوثائق القانونية والسياسية، والتي يقصد بها تأكيد احترام الأقليات. وتعترف بعض الدول رسمياً بلغات الأقليات على أنها لغات وطنية. تعترف سويسرا على سبيل المثال رسمياً باللغة الروماشانية لغةً وطنية، على الرغم من أن المتحدثين بها يشكلون أقل من ١٪ من مجموع سكان البلاد. وعلى النقيض من ذلك كانت القوانين التركية تحظر التحدث باللغة الكردية في الأماكن العامة والتي تعتبر محاولةً لحرمان أقلية قومية من الاعتراف (أخيراً أُلغي هذا القانون عام ١٩٩١). وكما هو الحال بالنسبة لطلبات الاعتراف الرسمي في الوثائق الدستورية الملزِمة، تظهر هذه الأنواع من الاعتراف احترام مجتمعات الأقليات فضلاً عن الالتزام بمعاملتهم على أنهم أعضاء كاملي العضوية ومتساوين في الدولة الأكبر.

5.2 حقوق الحفاظ على الثقافة

حقوق الحفاظ على الثقافة هي الحقوق التي تدعي المجموعات أنها أمراً أساسياً في المحافظة على مجموعة ثقافية بوصفها مجموعة ثقافية. ويوصف هذا الحق في بعض الأحيان بأنه حق في “بقاء شعب ذو مواصفات ثقافية خاصة” (Gutmann 2003: 75). ويستند التبرير في بعض الحالات إلى الادعاء بأن بعض أشكال الاحتكاك بالمجتمع الأوسع نطاقاً والمشاركة معه ستؤدي إلى اضمحلال ثقافة يقدرها أعضاؤه. ويكون المبرر في حالات أخرى مبرراً تاريخياً، كما في الحالات التي وافقت فيها الجماعات الدينية الأرثوذكسية الفارّة من الاضطهاد الديني في أوروبا على استيطان أراض جديدة في كندا والولايات المتحدة مقابل الحرية الدينية.

ويتلخص المبرر الرئيسي في حالات أخرى في أن التنوع الثقافي يعتبر قيّماً ويستحق الحفاظ عليه بحد ذاته (Parekh 2000). (ويطالب في بعض الحالات بحقوق الحفاظ على الثقافة على أنها تعويضات عن أخطاء الماضي؛ ويُنظر أدناه في هذه المطالبة على حدة). وتعتبر طلبات الحفاظ على الثقافة من أكثر الأمور إثارة للجدل حيث تقوم بها مجموعات غير ليبرالية، كما سيرد التفصيل فيها قريباً.

ويجدر بنا هنا التوقف قليلاً لنلاحظ وجود طريقتين لتفسير الحفاظ على الثقافة: فقد تعني الحفاظ على مجموعة ما باعتبارها كياناً ثقافياً مميزاً أو قد تعني الحفاظ على بعض الممارسات والقيم التي يُعتقد في وقت ما أنها تشكل أهمية مركزية للثقافة. تأتي حقوق الحفاظ على الثقافة بأشكال متعددة بما في ذلك طلبات الإعفاء، واستقلال الوالدين الذاتي، واحترام آليات حل النزاعات الداخلية (في قانون الأسرة بالدرجة الأولى)، والسيطرة على العضوية. ولهذه الحقوق ما يبررها فيما يتعلق بالحفاظ على الثقافة، وعادة ما تعتمد على فهم الثقافة باعتبارها مجموعة شاملة أو باعتبارها تكويناً اجتماعياً، تماماً كما هو الحال بالنسبة للحق الأعم في تقرير المصير الذي كثيراً ما ينتقل معه.

لا تطالب العديد من الأقليات غير الليبرالية إلا بحقوق التحريم ضد الدولة التي تعيش فيها (Spinner-Halev 2000).  واستجابةً لذلك، قد تسمح الدولة لمجموعة ثقافية غير ليبرالية بأن “تترك وشأنها”، على أساس أنه يجوز لها ذلك ما دامت قادرة على الاستمرار دون دعم من الدولة من أي نوع. ومع ذلك قد يطلب من الدولة أن تبذل المزيد للحفاظ على الثقافة.

فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُطلب من الدولة إعفاء أفراد مجتمع محلي من بعض الشروط التي تطلب عادة من جميع المواطنين، بما في ذلك التعليم الإلزامي وقوانين عمل الأطفال. ولنتأمل هذا المثال: تعيش العديد من مجتمعات طائفة الأرثوذوكس الأميش حياة معزولة إلى حد كبير عن المجتمع الأوسع نطاقاً، فهم يعيشون أسلوب حياة منظم دينياً يملي عليهم من يتزوجون، وكيف يربون أطفالهم، وكيف ينتجون اقتصاداً يسمح استمرار أسلوب حياتهم. وفي أغلب الحالات لا يطلبون الاعتراف ولا المزيد من الدعم المالي من أجل حماية أسلوب حياة مجتمعاتها.

وقد طالبوا في السابق بعدم التدخل فقط. وطلبت بعض مجتمعات الأميش الأمريكية في سبعينات القرن الماضي الحق في سحب أطفالهم من التعليم الإلزامي في سن الرابعة عشر – وكان لهم ذلك -، محتجين بأنه في الحالات التي طلب فيها من أطفالهم البقاء في المدرسة حتى سن السادسة عشر كانوا أكثر عرضة للخروج من مجتمعهم المحلي. وزعموا أن معدل خروجهم المرتفع هذا من شأنه أن يؤدي إلى عدم استمرار أسلوب حياة الأميش على مر الزمن (Burtt 1994). كان حق الإعفاء الذي طالب به الأميش – في هذه الحالة – مستمداً من الطلب الأوسع نطاقاً وهو الحفاظ الذاتي على الثقافة؛ وقالوا إنه من دون الإعفاء قد تتلاشى الثقافة نفسها.

ويمكن أيضا أن يطلب من الدولة أن تحترم مجالات معينة للسلطة القانونية، ولعل أكثرها يكون في مجال قانون الأسرة. وغالباً ما تنظم الأقليات شروط الزواج وحضانة الأطفال والطلاق، وتطلب من السلطة القانونية أن تقوم بذلك. إن احترام السلطة القانونية لجماعات الأقليات لممارسة الولاية القضائية في قانون الأسرة هو ذات الطلب الذي عادةً ما يزعج منتقدي حقوق الأقليات الثقافية، وذلك لأنه قد يؤدي إلى ترسيخ الاجحاف بالمرأة، في تسويات الطلاق أو اتفاقيات الحضانة على سبيل المثال (Shachar 2001; Bakht 2007).

وإذاً عامةً تطالب الدول التي تعترف بالسلطة القانونية لجماعات الأقليات في مجال قانون الأسرة أيضاً أولئك الذين يشاركون في هذه الإجراءات القضائية بأن يفعلوا ذلك عن طيب خاطر؛ ولذلك تحتفظ الدول ذات الأغلبيات لنفسها في كثير من الأحيان بالإذن بالتدخل في هذه الإجراءات دعماً للذين قد لا يتمتعون بحماية كافية. ويجب على الدولة هنا أن تحاول إيجاد توازن بين تقديم دعمها لأضعف أفراد الأقليات (من أجل ضمان حماية حقوقهم الدستورية على سبيل المثال)، والتدخل الذي يغفل عن المطالب المشروعة لجماعات الأقليات بالاستمرار على مر الزمن، وذلك جزئياً من خلال ممارسة سلطتها في المجالات الرئيسية.

تعتبر حقوق الاستبعاد أحد الأشكال الشائعة الأخرى لحقوق الحفاظ على الثقافة وهو حق جماعة ثقافية في رفض انضمام الآخرين لأراضيهم أو الانتساب لهم، بسبب تخوفهم من أن وجود شروط قبول أكثر سخاءً يهدد بتقويضها من خلال تمييعها عملياً. وكما تتمتع الدول بالحق المزعوم في السيطرة على حدودها (نوقش أدناه في القسم ٣)، ومن يستطيع أن يطالب بحقوق العضوية حتى بعد الانضمام، فإن بعض الولايات القضائية داخل الدولة تزعم كذلك هذا الحق المزدوج في الاستبعاد مستشهدة بأهمية الحفاظ على الثقافة. وقد طالبت في بعض الأحيان مجتمعات السكان الأصليين بحقها في استبعاد الأفراد غير الأصليين من الاستقرار على أراضيها أو حقها في استبعاد الآخرين (مثل أزواج الأشخاص الأصليين من غير السكان الأصليين) من مزايا معينة في العضوية، بما في ذلك الحق في التصويت (أو الحق في أن يكون لهم رأي آخر) لمن سيحكمون. ولقد طُلب من محاكم الدول البت في السلطة الشرعية للمجتمعات الأصلية لاتخاذ هذه القرارات (انظر Song 2005).

تشكل حقوق الحفاظ على الثقافة الموصوفة أعلاه تحدياً عسيراً يرتبط بالانتقادات التي تعامل الثقافة على أنها مجموعة شاملة، إذ يقول بعض النقاد أن أي مطالبة بالحفاظ على الثقافة تترجم في واقع الأمر إلى مطالبات إشكالية فيما يخص السيطرة على الأعضاء، والتي تكون أيضاً أكثر تقييداً للنساء وأعضاء مجتمع الميم. ويعتبر هذا تحدياً يفرض فرضاً قوياً عندما تطلب ما يسمى بالمجموعات غير الليبرالية مثل الأميش بحقوق الحفاظ على الثقافة، وعندما تفرض هذه الحقوق (في نظر النقاد) على الأطفال ضد إرادتهم.

إن المجموعات غير الليبرالية هي تلك التي ترفض بعض القيم الليبرالية الرئيسية مثل الاستقلال الذاتي والمساواة؛ ويتم في كثير من الحالات دعم هذه المجتمعات المحلية من خلال نظم تعليمية تثبط عملية الاستقلال في اتخاذ القرارات، ومن خلال تجنب تدريس المهارات والقدرات التي تمكنها عادة، ومن خلال فرض قواعد التسلسل الهرمي التي تُعلي من قدر بعض الأعضاء على غيرهم بطرق يجدها مناصري فكر المساواة غير مرضية.

وتكمن المشكلة في أن المجتمع المحلي لا يريد أن يحافظ على نفسه باعتباره مجموعة ثقافية مميزة فحسب، بل يريد أيضاً أن يحافظ على نوعٍ من التجانس الثقافي الذي لا يترك مجالاً للمنافسة أو معارضة قيمه وممارساته المركزية. وكثيراً ما تجعل قواعد التسلسل الهرمي الأخيرة هذه المرأة عرضة لرجال أكثر قوة قد يطلبون أشكال مختلفة من الخضوع الجنسي لهم، ويعيدونهن إلى البيت لرعاية أطفالهن، ويفرضون عليهن قواعد سلوكية صارمة يترتب على انتهاكها عقوبات قاسية. تعتبر هذه الأنواع مما يسمى بـ “الممارسات الثقافية” – في نظر بعض النقاد – من النوع الذي يجعل أي شكل من أشكال دعم الدولة لحماية الأقليات الثقافية أمراً لا يمكن تبريره في الغالب (Okin 1999).

ومن دواعي القلق التي تتخلل الاعتراضات على هذه الحقوق الكثيرة للحفاظ على الثقافة أن المرأة قد لا تكون راغبة في المشاركة في هذه الثقافات، وبالتالي فإن احترام حقوق الحفاظ على الثقافة يودع المرأة في حياة لا تختارها ولا تريدها ولا تستطيع الهرب منها. ولكن بالنسبة لكثيرين من الخطأ افتراض أن العضوات لا يتعرضن إلا للإكراه فقط، لأن كثيرات منهن يقدرن مجتمعهن المحلي تقديراً عميقاً ويحترمن الأعراف والقيم التي يسعى المجتمع إلى حمايتها، حتى وإن كنّ يرفضن بعضها.

وتوجد في هذه الحالات – عندما يبحث فيها المنظرون السياسيون – محاولة للانتقال من معاملة الثقافة من منظور الشمولية إلى معاملتها من منظور الحوار والسرد. تخضع الثقافات – وحتى الثقافات القمعية للأقليات (بالنسبة لليبراليين) – للتغيير، وربما يكون أفضل مصدر للتغيير هو الأعضاء الملتزمين التزاماً عميقاً والذين يؤمنون طواعيةً بالقيم الرئيسية ويرفضون غيرها، بما في ذلك تلك القيم التي لا تحترم مساواة المرأة في الحقوق. يعامل شرح مونيك ديفوكس (Deveaux Monique) الثقافة من منظور الحوار، حيث يتناول شرحه هذا المشاركات البالغات في الزواج العرفي في جنوب أفريقيا واللواتي يقبلن بعض عناصر ثقافتهن، ولكنهن يهدفن إلى الحصول على صوت على الطاولة لتغيير عناصر أخرى (Deveaux 2007).

وتكمن الفكرة الرئيسية المحفزة هنا في أن الثقافات يمكنها أن تتغير بل تتغير بالفعل مع مرور الوقت مستجيبةً لكيفية انخراط أعضائها فيها، وأن ما يهم ليس التغيير نفسه وإنما من أو ما هو مصدره. ووفقاً لهذا الرأي، فإن هدف حقوق الحفاظ على الثقافة ليس الحفاظ على الثقافة بحد ذاتها – ويعتبر هذا تحدٍ قد يكون مستحيلاً على أية حال – بل الهدف هو الحق في حماية قدرة أعضاء المجموعة على تشكيل ثقافتهم وحمايتها من مصادر التغيير غير المرغوب فيها.

ويزعم آخرون أنه ما دامت النساء – وأي أشخاص آخرون يخضعون لطلبات ثقافية صارمة – يمتلكن حق (أو القدرة على) الخروج من المجتمع، فيجب التعامل مع اختيارهن للبقاء على هذا الأساس (Kukathas 1992). وتشكل الجهود الرامية إلى جعل الحق في الخروج يُمارس بشكل حقيقي أهمية كبرى لأولئك الذين يعتقدون بوجهة النظر هذه (Kukathas 2012; Holzleithner 2012). وبذلك يتعين على الدولة أن تختار الموارد التي توفرها لأولئك الأعضاء الذين قد يرغبون في الخروج ولكنهم لا يملكون الوسائل اللازمة لبناء أنفسهم في المجتمع الأوسع. ففي بعض الطوائف الدينية الأرثوذكسية تكون الملكية للممتلكات مشتركة ولا يملك الأفراد أي ممتلكات أو موارد شخصية؛ ونتيجة لذلك ليس لدى الذين يرغبون في الخروج من المجتمع المحلي ما يعتمدون عليه أثناء تأسيسهم لحياتهم الجديدة.

وفي مجتمعات محلية أخرى يكون الأعضاء ذوو تعليم متدن ولم يألفوا الحياة خارج مجتمعاتهم المحلية، وبالتالي يخرجون من مجتمعاتهم وهم غير قادرين على إعالة أنفسهم في المجتمع الأوسع. إذاً بوسع الدول المستقبلة لأولئك الخارجين من مجتمعاتهم المحلية أن تقدم لهم الدعم بطرق مختلفة، مثل توفير الملاجئ للنساء الخارجات (والرجال) حيث يتم فيها توفير التعليم حتى يتسنى لهن لاحقاً تحقيق الاكتفاء الذاتي بوصفهن عضوات في النسيج العام للمجتمع. وقد يبدو أن اختيار دعم الخارجين من مجتمعاتهم يقوض قدرة الثقافة على الحفاظ على ذاتها. ولكن لا يفهم دعم الخارجين على أنه إنكار حقوق الحفاظ على الثقافة؛ بل ينبع اختيار القيام بذلك من التزام الدولة بحماية حقوق جميع أعضائها بمن فيهم أكثر الفئات ضعفاً، على أفضل وجه ممكن.

6.2 حقوق عدم فقدان الثقافة

وينبغي التمييز بين الحق في الحفاظ على الثقافة الموصوف أعلاه وبين أحد الحقوق المختلف عنه اختلافاً طفيفاً وهو الحق في عدم الخسارة القسرية للثقافة والذي يركز على الحفاظ في الحالات التي تكون فيها الخسارة المحتملة ناجمة عن إكراه ممارس من قوى خارجية وتكون فيها المجموعة الثقافية عاجزة نسبياً إزاءها. فيكون التغيير الثقافي بطبيعة الحال أمراً لا مفر منه بطريقة أو بأخرى – على النحو المبين أعلاه – ولا سيما إذا كان المرء ينظر للثقافة من منظور الحوار، فالثقافات غير ثابتة في الواقع أبداً.

بل إن الممارسات والأعراف والقيم التي تعرِّف الثقافة في وقت من الأوقات قد تتوقف عن كونها معرِّفة مركزية لتلك الثقافة يوماً ما، ويرجع ذلك لعدة أسباب منها الاقتصادي والبيئي والسياسي. لذا فإنه في الواقع لا مفر من الخسارة الثقافية بقدر ما، وهذا أيضاّ لا يدعو للأسف دائماً. إذ أنها في بعض الأحيان تكون استجابةً طبيعيةً لعوامل خارجية تقع خارج سيطرة الثقافة، وتكون أحياناً موضع ترحيب لأن التغييرات تؤدي إلى تحسين حماية حقوق الإنسان أو إلى تقاليد وممارسات ثقافية أكثر شمولاً. وقد تختار المجموعة الثقافية تغيير أساليب إنتاجها المركزية استجابةً على سبيل المثال للعوامل البيئية المتغيرة. ولذلك – وكما زعم صاموئيل شيفلر (Samuel Scheffler)- يجب رفض وجهة النظر التي تدعم دعماً قوياً المحافظة على الثقافة – والتي مفادها أن الثقافات يجب أن تكون بمنأى عن جميع أشكال التغيير – (Scheffler 2007).

ومع ذلك قد يكون لدى ثقافات الأقليات في بعض الأحيان مطالبة وجيهة وهي أنها غير قادرة على حماية نفسها من التغيير الثقافي غير المرغوب فيه أو أنها غير قادرة على التحكم في وتيرة التغيير. وبالتالي قد يحق لهم الحصول على أشكالٍ من الدعم الذي تقدمه الدولة لمساعدتهم على تهيئة الظروف المواتية التي يمكنهم بموجبها مقاومة التغيير الثقافي غير المرغوب فيه. فعندما تطلب الأقليات اللغوية دعم الدولة للاستمرار في تعليم الأطفال بإحدى لغات الأقليات على سبيل المثال، يكون تبريرهم لذلك أحيانا هو حماية تلك اللغة من الاضمحلال في مواجهة الضغوط الرامية إلى اعتماد أو إتقان لغة الأغلبية.

وتركز الأغلبية في حالات أخرى تركيزاً شديداً على تقويض ثقافات الأقليات على مدى سنوات بل وعقود. فقد اتبعت الدول المستعمرة سياسات الإبادة الجماعية لمجتمعات السكان الأصليين – على سبيل المثال – لغرض صريح وهو تقويض قدرتها على البقاء كشعوب مميزة. إن أحد العوامل الرئيسية في تقييم حالات الخسارة الثقافية هو ما إذا كان التحول قسرياً على الأقليات، وليس بالضرورة أن يكون من خلال تغيير الظروف البيئية أو الاقتصادية، بل عن طريق وكلاء يعتزمون تقويض الثقافة من خلال تجريدها من قيمتها بصورة نشطة ومن ثم العمل على تقويض الظروف اللازمة لاستمراريتها استمراراً راسخاً. إن العوامل الخارجية الكيدية التي تولد تغيراً ثقافياً – لم يكن متوقعا لولا تلك العوامل – لا تجعل من التغيير أمراً يؤسف له فحسب، بل تولد أيضاً قضية للتعويضات، مثلاً فيما يتعلق بمجتمعات السكان الأصليين حيث توجد “أدلة على تاريخ من انتزاع الملكية أو التمييز أو الخضوع” (Phillips 2018: 97).

7.2 حقوق الدفاع عن الثقافة

يستخدم المسيؤون أحياناً في البيئات القانونية دفاعاً ثقافياً موضحين أن الأعراف والقيم الثقافية للأقليات – والتي تتعارض مع أعراف وقيم الأغلبية – ذات صلة سببية في تفسير السبب الذي دفعهم إلى ارتكاب خطأ ما. وبهذا قد عومل الدفاع الثقافي في بعض الأحيان على أنه عامل مخفف مهم في تحديد العقوبة. ويُبرر الحق في تقديم دفاع ثقافي عادة بأهمية الاعتراف بأن الأقليات لا تعمل دائماً وفقاً لنفس القيم والأعراف الممثلة في النظام القانوني للأغلبية، وأن هذه الاختلافات تستحق النظر فيها في المجالات القانونية. وقبلت الأحكام القضائية في السابق تفسيرات مفادها – على سبيل المثال – أن ما دفع الرجال لقتل شركائهم الخائنين هو مزيج من العار والغضب المرتبطين بالأعراف الثقافية.

فعلى سبيل المثال أن الرجال الذين زعموا أن “الاغتصاب الجماعي” (المعروف ثقافياً باسم الزواج بالاختطاف) كانت تقرُّه ثقافة الهمونج على أنه وسيلة لتأمين زوجة – بحيث لم تكن النساء شريكات متواطئات فحسب، بل كن في الواقع شريكات راغبات في ذلك – لم يعد مفهوماً بعد الآن أنهم يحظون بدفاع في الدعاوى القانونية التي تتهمهم بالاغتصاب (Song 2005). ومع ذلك فقد تناقصت قوة التفسيرات “الثقافية” في المجالات القانونية الرئيسية مع مرور الوقت، حيث أصبحت الدول ترى أن كثير من هذه الدفاعات تغطي في الواقع المواقف الأبوية والمسيئة للمرأة والتي لا تزال قائمة سواء عند بعض الأقليات أو في المجتمع الأوسع.

وغالباً ما تكون الدفاعات “الثقافية” عن الجريمة بمثابة معاملة للثقافة كما لو كانت كتلة متجانسة، وكما لو أن الجناة على ثقة بتفسيرها بدلاً من الضحايا. ولكن ” لا يمكن أن يعني احترام الثقافة الإذعان لكل ما تراه سلطات الثقافة القائمة حقاً” (Gutmann 2003: 46). وعلاوة على ذلك فإنه من الممكن أن تتجاهل الضرورة العامة لـ “احترام الثقافة” في المجالات القانونية الاختلافات بين أنواع التوقعات الثقافية والتي قد تتراوح بين الأفعال المسموح بها والأفعال المشجِعة والأفعال اللازمة، والتي قد يُعامل بعضها فقط على أنه ذو أهمية قانونية (Vitikainen 2015: 162).

وكذلك يمكن أن تسمح وتشجع تمثيل ثقافات الأقليات (وخاصة غير الغربية) على أنها قوالب نمطية، وأن “تحشد الثقافة بطرق تشجع بعبثية على التعميمات الواسعة عن الأشخاص المنتمين إلى مجموعات ثقافية معينة” (Phillips 2007: 81 & 99). ويكمن الخطر الذي يمثله القبول غير المشروط للدفاع الثقافي في معاملة الثقافة باعتبارها شاملة بحيث أنها تعامل أفرادها على أنهم غير قادرين على اتخاذ قرارات مستقلة. ولكن يعتقد منتقدي الدفاع الثقافي بعدم صحته إذ أنه من الممكن للثقافة – بجانب العديد من العوامل الأخرى – أن تشكل جزءاً من تفسير ممارسة الأعمال الخاطئة، ولكن يجب عليها “ألا تخطئ أبداً في الحقيقة الكاملة” (Phillips 2007: 98).

8.2 حقوق الاستخدام الثقافي الحصري (أو حقوق ضد الاستيلاء الثقافي)

ثمة حق ثقافي أخير يطالب به البعض وهو الحق في التحكم في القطع الأثرية الثقافية أو أشكال التعبير الثقافي أو استخدام المحتوى الثقافي بشكل عام (Matthes 2016). ويعتبر هذا الحق هو الحق المطروح في الخلافات الأخيرة التي تركز على الاستيلاء الثقافي، ويعرف على أنه قيام طرف من غير الأعضاء باستخدام “شيء ذا قيمة ثقافية، وعادة ما يكون رمزاً أو ممارسة للآخرين” (Lenard & Balint 2020).

ومن بين الأمثلة الشائعة على الأفعال المتهمة بالاستيلاء على الثقافة هي تجديل البيض لشعرهم وارتداء ملابس السكان الأصليين لعيد القديسين (الهالوين) وارتداء العمائم في الأزياء راقية وقيام مدربين لا ينتمون لجنوب آسيا بتعليم اليوغا. ويُتهم غير الأعضاء في جميع هذه الحالات بـ “الاستيلاء” على ممارسة أو رمز ثقافي معين ليس لهم. وبناء على هذا الرأي، فإن للثقافات حقوقاً حصرية في استخدام “منتجاتها” الثقافية حسبما تراها مناسبة، وذلك لأنه في كثير من الأحيان يُعتقد أن هذه الممارسة محورية بالنسبة لهويتها.

وتعتبر وجهة النظر هذه مثيرة للجدل، وكثيراً ما يسخر منها أولئك الذين يرون أن التاريخ هو مجرد اختلاط ومشاركة للممارسات والرموز الثقافية بما في ذلك في المأكولات والفنون واللباس والممارسات الروحية؛ وتعامل سخريتهم هذه المطالبة بالحقوق على أنها تعتمد على فهم الثقافة بأنها ثابتة ولا تتغير بمرور الزمن، وهو أمر غير دقيق تاريخياً وأيضاً غير مرغوب فيه. ومن الأفضل بالمثل فهم القطع الأثرية الثقافية الرئيسية أنها تنتمي إلى “الإنسانية”: “ليست الشعوب هي التي تجرب الفن وتقدره: بل إنهم الرجال والنساء” (Appiah 2009).

وربما لا تنفذ الدولة الحق المطالب به – وهو الاستخدام الكامل أو الحصري للممارسات أو الرموز المعرِفة للثقافة – على أفضل وجه، على الرغم من أن الدول يمكن أن تشارك في ممارسات تهتم بالأضرار التي يُزعم أنها ناتجة عن الاستيلاء الثقافي. فعلى سبيل المثال يمكن للدعم المركزي للفنون على هيئة منح لإنتاج أعمال فنية أن يكون حساساً تجاه من يطلب الدعم وماذا سينتج، ويمكن أن يوجه التمويل إلى الفنانين ينتمون لتقاليد معينة ويهدفون إلى إنتاج منتجات محددة ثقافياً ويرفض بالتالي (ما لم يُقدّم سبباً وجيهاً جداً لذلك) دعم الجهود التي تبذلها جهات ثقافية خارجية لإنتاج فن “داخلي” (Rowell 1995; J. O. Young 2008).

ويكون الحق المطالب به أقوى نسبياً عندما يكون مجتمع ثقافي معين ضحية لاختلال موازين القوة عندما يكون المجتمع الثقافي قد طلب صراحة أن “تترك” جماعة الأغلبية ممارسة ما أو رمزاً معيناً، وعندما يستفيد أفراد مجتمع الأغلبية من استخدام هذا الرمز أو الممارسة (Lenard & Balint 2020). وكما هو الحال في حالات أخرى، يكون الحق الذي تطالب به جماعة ثقافية ما أقوى عندما يكون هناك استمرار لعدم المساواة بين الأقليات صاحبة المطالبة ومجموعة الأغلبية.

3. مطالبات الحقوق الثقافية للأغلبية

بحث القسم الثاني في مطالبات الحقوق الثقافية التي تقدمها الأقليات عادة. كما تقدم مجموعات الأغلبية مطالبات ثقافية لا سيما فيما يتعلق باستبعاد الآخرين من أراضيها وكذلك فيما يتعلق بما يمكن أن يطالب به أولئك الذين تم قبولهم.

1.3 حقوق الاستمرارية الثقافية والاستبعاد

وأحد المجالات التي تطالب فيها جماعات الأغلبية بحق ثقافي هو مجال الهجرة. وبالنسبة للبعض، يمكن أن يكون حق الدول في تشكيل ثقافتها سبباً مشروعاً لاستبعاد الآخرين بشكل عام ومجموعات محددة منهم أحياناً. وكثيراً ما يعزى هذا الرأي إلى مايكل والزر الذي يقول إن حق الدولة في السيطرة على حدودها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرتها على

الدفاع عن الحرية والرفاهية وسياسة وثقافة مجموعة من الناس الملتزمين ببعضهم البعض وبحياتهم المشتركة (Walzer 1983: 39).

ولهذا فإن حق الدولة في السيطرة على ثقافتها هو حق أساسي لحماية “وعيها الجمعي”، كما جاء في القسم الأول.

وقد واجه هذا الادعاء معارضةً من الكثير من الباحثين لأسباب متعددة. ويتمثل أحد الأسباب في أن الادعاء بأن الدولة قد تستبعد المهاجرين المحتملين لأسباب ثقافية كثيراً ما كان – في الواقع – محاولة لسن تشريع تمييزي يهدف إلى استبعاد المهاجرين الذين يُقال إن معتقداتهم وممارساتهم تتعارض مع القيم والأعراف المعرِّفة لثقافة الأغلبية أو حتى تقوضها. وكثيراً ما كان الاستبعاد القائم على ما يسمى بالأسباب الثقافية هو مطالبة مفادها بأن الدولة تفضل أن تظل متجانسة ثقافياً ودينياً وطائفياً وعرقياً. وتاريخياً انخرطت الدول انخراطاً صريحاً في هذه الممارسات التمييزية المنبوذة حالياً، بما في ذلك على سبيل المثال صيغ قوانين الاستبعاد الآسيوي التي كانت سارية في أمريكا الشمالية في أوائل القرن التاسع عشر.

وأيضاً تستحق العديد من القضايا التي حدثت مؤخراً نفس الاتهام مثل تنفيذ ما يسمى بحظر المسلمين في الولايات المتحدة أو فيما يتصل بالطلبات المقدمة أثناء ذروة الأزمة في سوريا (2015) في بعض البلدان بإعطاء الأولوية للاجئين المسيحيين على المسلمين (Song 2018). ولكن هناك رفض واسع النطاق – سواء صراحةً أو ضمناً – بين المنظرين السياسيين للهجرة للسياسات التمييزية في مجال الهجرة، حتى بين أولئك الذين يدافعون عن الحق العام للدول في استبعاد المهاجرين واللاجئين لأسباب عديدة من بينها الحفاظ على الثقافة (Miller 2005).

وينبثق المصدر الثاني للمعارضة من شك أعم في أن ثقافة الأغلبية – حتى ولو كانت قيّمة حقاً لأعضائها – يجب أن تعامل بما يكفي على أنها تستوجب استبعاد المهاجرين وخاصة المحتاجين منهم (استعيرت صيغة الضرورة من 2018Song). وحتى لو تم التسليم بأن الثقافة قيّمة بالنسبة للأغلبية، فإن العديد من العلماء يعتقدون أن حمايتها لا يمكن أن تستوجب استبعاد من هم في أمس الحاجة للأمن أو العيش.

ولكن على افتراض أن هناك من يدافع عن وجهة النظر القائلة بأن الثقافة من الممكن أن تساهم – على الأقل في بعض الحالات – في استبعاد المهاجرين، فهناك ما يدعو لأن تُعامل الدولة على أنها تمتلك الحق في الاستمرارية الثقافية (Miller 2005). ويبدو هذا الحق المطالب به إلى حد ما يشبه الحق في الحفاظ على الثقافة (أو عدم خسارة الثقافة) المشار إليها أعلاه، وهو لا يبرز الأبعاد العاطفية لتعلق الأغلبية بثقافتها بقدر ما يبرز تفسيرها العملي.

وبناءً على هذا الرأي، فإن أي دولة بعينها والتي تعرِّفها “ثقافة عامة مشتركة”، ولأنها مشتركة فهي تعزز الثقة التي تعتمد عليها الدول الديمقراطية في السعي إلى تحقيق أهداف سياسية واجتماعية مشتركة. ليس هناك قيمة خاصة في حد ذاتها تشكل ثقافة عامة مشتركة، بل إن المزج بين مجموعة من القيم والأعراف والممارسات التي تنتج “ثقافتنا” هو القيّم، وفي وجودها تكون الثقة أعلى؛ وكذلك بالتالي الاستعداد للتعاون لدعم السياسات التي تتطلب بعض التضحية، منها على سبيل المثال الالتزام بإعادة توزيع السياسات الاجتماعية التي تعود بالنفع خاصةً على من هم أشد حاجةً (انظر على سبيل المثال مقالات Gustavsson & Miller 2019).

ولذلك – وفقاً لمن يدافعون عن هذه الآراء – لا تعتبر الدولة التي تسعى إلى فرض السيطرة على القبول متذرعةً بأسباب “ثقافية” عنصرية ولا تمييزية، بل تسعى إلى قبول خاضع للرقابة (بدلا من الحدود المغلقة) حتى يتمكن الوافدون الجدد – خلال فترة زمنية كافية – من تبني ما يكفي من مجموعة القيم والأعراف والممارسات المعرِّفة، ليتمكنوا من تبرير وتوسيع نطاق الثقة التي تقوم عليها السياسات التي تمثل هذه السلع ذات القيمة الموضوعية.

2.3 حقوق الاستمرارية الثقافية ورفض الاندماج

وعادة ما تستخدم الدول التي تدافع عن حق الاستمرارية الثقافية على مستوى القبول في الدولة الحق في اعتماد وفرض سياسات “الاندماج” التي تشجع الوافدين الجدد على تبني أعراف وقيم الأغلبية، بحجة أنه كلما تسارعت وتيرة هذا التبني، كلما زاد القبول نفسه. وتطلب سياسات الاندماج من الوافدين الجدد تبني أعراف وممارسات الأغلبية، بينما تطلب سياسات الاستيعاب من الأغلبية استيعاب الممارسات المميزة عن تلك التي تعرِّف ثقافة الأغلبية. وبناءً على هذه النظرة التقليدية المتعددة الثقافات، فإن العملية التي يتم من خلالها قبول المهاجرين في أراضي الدولة ثم انضمامهم إلى العضوية عبارة عن شارع “ذو اتجاهين”، يتطلب تكيف كلاً من الوافدين الجدد والدولة المضيفة لهم مع بعضهم البعض (Kymlicka 1998).

هل طلب اندماج الوافدين الجدد ثقافياً يعد طلباً معقولاً؟ هل من المعقول أن نطلب من المهاجرين تبني الأعراف والقيم والممارسات المركزية للثقافة التي انضموا إليها (سنغض النظر هنا عن الاندماج الاقتصادي والسياسي)؟ نلاحظ أنه في أدبيات السياسة وعلم الاجتماع في مجال دمج الهجرة يتم التمييز عادة بين الاندماج (ثقافياً) عن الاستيعاب، حيث يركز الأول على الترحيب بالوافدين الجدد بمجموعات مميِزة من الأعراف والقيم التي تنتقل معهم (وبالتالي استيعابهم حيثما أمكن)، ويطلب الأخير المهاجرين بأن يتبنوا أكبر قدر ممكن من مجموعة الأعراف والقيم المركزية للمجتمع المضيف (Brubaker 2001؛ انظر أيضاً Modood 2007). ولكن في أدبيات النظرية السياسية بشأن التعددية الثقافية من المقبول على نطاق واسع أن الطلب على الاستيعاب الكامل يعد معيارياً إشكالية (فهو يتطلب أن يتخلى قدرٌ كبيرٌ من المهاجرين عن تاريخهم وهويتهم، على أنه جزء من الانضمام إلى مجتمع جديد)، ولكن من المسموح به تقديم شكل من أشكال التشجيع على الاندماج.

ولكن ما إذا كانت طلبات الاندماج مسموح بها فيستند ذلك على أمرين مترابطين على الأقل: الأول يتعلق بمضمون الثقافة العامة المشتركة، والثاني يتعلق بإمكانية الوصول إلى الأماكن التي يتم فيها تداول مضمون هذه الثقافة العامة. يعتبر الحيز الذي يجري فيه التداول بشأن ثقافة ما غير متبلور وواسع. يتسم مصدر الأعراف والممارسات والقيم الرئيسية بتعدد جوانبه: فبعضها تاريخي، وبعضها يُتبنى عمداً من خلال العمليات السياسية، وبعضها يُتبنى عرضياً استجابة للظروف الطارئة. والمطالبة بأن يدمج الوافدون الجدد – بمعنى اعتماد أعراف وممارسات ثقافة الأغلبية بدرجة معقولة على الأقل – هي مطالبة يمكن الدفاع عنها دفاعاً أكبر في الحالات التي تكون فيها إمكانية الوصول إلى الأماكن التي يتداولون فيها عمومية وبالتالي تكون مفتوحة لكثير من الأصوات.

ويشكل المعنى الدقيق لـ‍ “إمكانية الوصول” إلى أماكن غير واضحة المعالم، والدخول إليها لا يتم رصده أو مراقبته بشكل رسمي، تحدياً في تحديد ماهيته. ولكن النقطة الرئيسية هنا هي أنه يمكن وصف الثقافات بأنها متاحة للجمهور بقدر ما ترحب بأصوات جديدة ــ في وسائل الإعلام العامة وفي المجالات السياسية وما إلى ذلك ــ.  فهناك بالتالي صلة بين شرعية الطلب بالالتزام بأعراف وممارسات ثقافة الأغلبية – باعتبارها جزء من عملية الاندماج – وبين الوصول الحقيقي للوافدين الجدد إلى المجالات التي يتداولون فيها.

وأستعير عند النظر في السؤال الثاني – فيما يتصل بمضمون الثقافة العامة المشتركة للأغلبية – من أدبيات النظرية السياسية للقومية (رغم أنني لا أعتقد أن لغة القومية في حد ذاتها ضرورية لتقدير أهميتها في المناقشة هنا). ويمكن تعريف الثقافة من خلال سمات شاملة بشكل أو بآخر. وحيثما تكون الثقافات محددة بسمات تستخدم عادة لوصف الأمم الإثنية بما في ذلك التاريخ والدين والإثنية/العرق المشتركة، فلن يكون من السهل على الوافدين الجدد الانضمام إليها والاعتراف بهم أعضاء كاملي العضوية. ومن جهة أخرى عندما تعرَّف الثقافات من خلال سمات تستخدم عادة لوصف الأمم المدنية بما في ذلك الالتزام المشترك بالمؤسسات السياسية والالتزام عادة بالمبادئ الديمقراطية الليبرالية، فإنها تكون أكثر ترحيباً بالوافدين الجدد.

وفي اللغة التي سبق اعتمادها في هذا المدخل، من الأرجح أن الثقافات التي تعرِّفها سمات حصرية تعامل الثقافة على أنها شاملة، في حين أن الثقافات التي تتبنى سمات شاملة وتشدد على إمكانية الوصول إلى المنتديات التي يتم فيها تداول محتواها تعامل الثقافة من منظور الحوار أو الهوية. ومع ذلك فإنه ليس من الضروري أن يكون هذا هو الحال، لأن أولئك الذين يتعاملون مع الثقافة من منظور الحوار قد يعتقدون مع ذلك أن العناصر الرئيسية من تاريخ أو دين تشكل أهمية مركزية لها (مع أنهم مستعدون للتداول حول مدى ملاءمة هذه العناصر باعتبارها عناصر مركزية)، وبالمثل يمكن صياغة الهويات على أساس السمات الاستبعادية.

وتركز الطريقة أخرى في تعريف الشمولية على مدى قدرة الوافدين الجدد على تبني الأعراف والممارسات والقيم الرئيسية للثقافة من دون التخلي عما يقدرونه (Lenard 2019). والأمر الأساسي هنا هو أن تحديد الخطوط العامة المسموح بها لثقافة شاملة يمكن أن يفيد – في الوقت نفسه – في تمييزها عن الثقافات الأخرى بطرق تعالج ما أسماه الفلاسفة بمشكلة “الخصوصية”. وإذا لم يتم تعريف الثقافات إلا بالالتزام بالمبادئ الديمقراطية الليبرالية والمؤسسات التي تمثلها، فإن أي شخص سيلتزم بالضرورة بأي دولة يتم تعريفها على هذا النحو.

ولكن هذا الاستنتاج لا يوضح حقيقة مفادها أن العديد من المواطنين مرتبطون بتفسير دولتهم لهذه القيم ــ حيث يتم تبني واحترام ودعم المبادئ الديمقراطية الليبرالية الأساسية والمجردة، وبمعنى آخر بطريقة محددة ثقافياً. ومن المهم إذاَ ترسيم حدود المحتوى الثقافي المسموح به والتي يمكن أن تشمل الاعتراف باللحظات التاريخية الرئيسية أو المحادثات السياسية أو الرموز الثقافية. ولا تستطيع أي دولة أن تطلب من الوافدين الجدد بتوجيه التزامهم العاطفي نحو دولتهم الجديدة؛ ولكنها يمكن أن تنقل نقلاً معقولاً معلومات عن العلامات الثقافية الرئيسية التي يمكن تعلمها، وتشجع الوافدين الجدد على تبني الممارسات والأعراف المرتبطة بها، وتأمل أن يتحول تعريفهم العاطفي مع مرور الوقت إلى الدولة المضيفة – جزئياً على الأقل – (Carens 2005).

يمكن للدولة المضيفة أن تشجع على اندماج الوافدين الجدد شريطة أن يكون المحتوى الثقافي العام للدولة المضيفة متاحاً بقدر معقول، وأن تكون المنتديات التي يجري فيها التداول متاحة بقدر معقول أيضاً. وقد يكون أمثل وجه لفهم هذا الحق هو فهمه على أنه مشتق من الحق في الاستمرارية الثقافية الذي تطالب به الدول فيما يتعلق بالهجرة، والذي يجوز المطالبة به فقط إذا ما استوفيت شروط إمكانية الوصول المذكورة أعلاه.

وبطبيعة الحال لا يتفق جميع العلماء على هذه النقطة، ويرفض بعضهم رفضاً قاطعاً الاقتراح القائل بأنه يمكن أن يُطلب من الوافدين الجدد تقديم تنازلات لثقافة الدولة التي انضموا إليها. إن هؤلاء الذين يتبنون متغيرات بشأن وجهة النظر هذه يتعاملون مع ثقافة الأغلبية باعتبارها دائماً متجانسة وقمعية على نحو لا يحترم الوافدين الجدد، ويتعاملون مع طلب الاندماج بجانب بعض الأبعاد على الأقل باعتبارها أشكال “تنظيف” متنوعة من سياسات الهجرة التمييزية والعنصرية التي انتهجت في الماضي (Abizadeh 2002). ويشكل هذا قلقاً حقيقياً.

عندما طلبت هولندا من المهاجرين المحتملين القادمين من دول ذات غالبية إسلامية مشاهدة شريط فيديو واجتياز اختبار لمجرد الدخول إلى أراضيها ــ وهو فيديو أظهر رجال مثليين يقبلون بعضهم وامرأة عارية الصدر ــ وتم شجب هذا الفيديو على نطاق واسع لقصده التمييزي، بدلاً من أن يكون (كما زعم) محاولة لضمان قدرة المهاجرين على تبني القيم الليبرالية التي يفترض أن تتسم بها ثقافة البلد. وعموماً يجب إنعام النظر في مدى معقولية آليات تشجيع تعلم وتبني قيم الأغلبية الثقافية، بالإضافة إلى محتواها الفعلي كما هو مبين أعلاه، والعواقب المترتبة على عدم القيام بذلك. ومن المؤكد أن هذا التقييم يعد أمراً معقداً، وما يجعله أكثر تعقيداً هو بسبب أن في العديد من حالات الهجرة (إن لم يكن أغلبها) يكون الوافدين الجدد المحتملين في حالة ضعف أمام الدولة المضيفة: واهتمامهم بالحصول على إذن للدخول إلى الدولة قوي جداً، ولذلك فإنهم في كثير من الحالات سيقبلون المحاولات الجائرة التي تجبرهم على الاندماج دون شكوى.

4. الخاتمة

وتزعم كلٌ من مجموعات الأقليات (التي يكون العديد منها مجموعات مهاجرة) ومجموعات الأغلبية أن “الثقافة” مهمة وتستحق الاستيعاب بطرق شتى. وقد بدأ هذا المدخل بدراسة الطرق المتعددة التي تفهم بها الثقافة، وذلك لتفكيك الطرق التي يتم استخدامها عند المطالبة بحقوق ثقافية محددة. ومن الجدير ملاحظة أن هذه المطالبات الثقافية – من كلا الجانبين – كثيراً ما تكون مرتبطة ببعضها البعض: تطلب أقلية ما بحق ثقافي معين وتتجاوب الأغلبية مع هذا الطلب من خلال المطالبة بحق ثقافي مختلف. وفي كثير من الحالات، فإن اختيار احترام الحقوق الثقافية المطالب بها أو تجاهلها يصاغ في إطار الأثر الذي سيخلفه ذلك على ثقافة الأغلبية، مثل القول بأن ممارسة معينة يُطلب استيعابها تتعارض مع ثقافة الأغلبية بشكل عام، أو أحياناً على وجه التحديد مع ممارسة أو عرف معين يعتقد أنه ذا أهمية خاصة.

فعلى سبيل المثال قدمت هذه المطالبة الأخيرة في فرنسا أثناء “قضية غطاء الرأس” ــ مُنع حق الفرد في تغطية رأسه باعتباره مظهراً من مظاهر الالتزام الديني الإسلامي (أو اليهودي) إذ اعتُبر أنه يخترق الالتزام الفرنسي بالعلمانية (Laborde 2008; Benhabib 2004).

وقد حاول هذا المدخل توفير المصادر الضرورية للفصل في هذه الصراعات بطرق تأخذ على محمل الجد أولئك الذين يطالبون بالحقوق الثقافية وأولئك الذين يقاومون احترامها. ونأمل أن تستفيد النظرية السياسية في المستقبل من هذا التصنيف لتحديد الاستنتاجات المرضية عند نشأة هذه الصراعات.


المراجع

  • Abizadeh, Arash, 2002, “Does Liberal Democracy Presuppose a Cultural Nation? Four Arguments”, American Political Science Review, 96(3): 495–509. doi:10.1017/S000305540200028X
  • Appiah, Kwame Anthony, 2009, “Whose Culture Is It, Anyway?”, in Cultural Heritage Issues: The Legacy of Conquest, Colonization and Commerce, edited by James A. R. Nafziger and Ann Nicgorski, Leiden: Brill, 207–21.
  • Bakht, Natasha, 2007, “Religious Arbitration in Canada: Protecting Women by Protecting Them from Religion”, Canadian Journal of Women and the Law, 19(1): 119–144.
  • Barry, Brian, 2001, Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Benhabib, Seyla, 2002, The Claims of Culture: Equality and Diversity in the Global Era, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • –––, 2004, The Rights of Others: Aliens, Residents, and Citizens, Cambridge, UK: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511790799
  • Borchers, Dagmar and Annamari Vitikainen (eds.), 2012, On Exit: Interdisciplinary Perspectives on the Right of Exit in Liberal Multicultural Societies, Berlin, Boston: De Gruyter. doi:10.1515/9783110270860
  • Brubaker, Rogers, 2001, “The Return of Assimilation? Changing Perspectives on Immigration and Its Sequels in France, Germany, and the United States”, Ethnic and Racial Studies, 24(4): 531–548. doi:10.1080/01419870120049770
  • Burtt, Shelley, 1994, “Religious Parents, Secular Schools: A Liberal Defense of an Illiberal Education”, The Review of Politics, 56(1): 51–70. doi:10.1017/S0034670500049500
  • Carens, Joseph, 2005, “The Integration of Immigrants”, Journal of Moral Philosophy, 2(1): 29–46. doi:10.1177/1740468105052582
  • Casals, Neus Torbisco, 2006, Group Rights as Human Rights: A Liberal Approach to Multiculturalism, (Law and Philosophy Library 75), Dordrecht: Kluwer Academic Publishers. doi:10.1007/1-4020-4209-4
  • Deveaux, Monique, 2007, Gender and Justice in Multicultural Liberal States, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199289790.001.0001
  • Dhamoon, Rita, 2006, “Shifting From ‘Culture’ to ‘the Cultural’: Critical Theorizing of Identity/Difference Politics”, Constellations, 13(3): 354–373. doi:10.1111/j.1467-8675.2006.00406.x
  • Eisenberg, Avigail, 2009, Reasons of Identity: A Normative Guide to the Political and Legal Assessment of Identity Claims, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199291304.001.0001
  • Fraser, Nancy, 1995, “Recognition or Redistribution? A Critical Reading of Iris Young’s Justice and the Politics of Difference”, Journal of Political Philosophy, 3(2): 166–180. doi:10.1111/j.1467-9760.1995.tb00033.x
  • Ghosh, Cyril, 2018, De-Moralizing Gay Rights: Some Queer Remarks on LGBT+ Rights Politics in the US, Cham, Switzerland: Palgrave Macmillan. doi:10.1007/978-3-319-78840-1
  • Gustavsson, Gina and David Miller (eds.), 2019, Liberal Nationalism and Its Critics: Normative and Empirical Questions, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/oso/9780198842545.001.0001
  • Gutmann, Amy, 2003, Identity in Democracy, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Holzleithner, Elisabeth, 2012, “Interrogating Exit in Multiculturalist Theorizing: Conditions and Limitations”, in Borchers and Vitikainen 2012: 13–33. doi:10.1515/9783110270860.13
  • Kukathas, Chandran, 1992, “Are There Any Cultural Rights?”, Political Theory, 20(1): 105–139. doi:10.1177/0090591792020001006
  • –––, 2012, “Exit, Freedom and Gender”, in Borchers and Vitikainen 2012: 34–56. doi:10.1515/9783110270860.34
  • Kymlicka, Will, 1996, Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1998, Finding Our Way: Rethinking Ethnocultural Relations in Canada, Toronto: Oxford University Press.
  • Laborde, Cecile, 2008, Critical Republicanism: The Hijab Controversy and Political Philosophy, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199550210.001.0001
  • Lenard, Patti Tamara.,2012, Trust, Democracy and Multicultural Challenges, University Park, PA: Pennsylvania University State Press.
  • –––, 2019, “Inclusive Identities: The Foundation of Trust in Multicultural Communities”, in Gustavsson and Miller 2019: 155–171. doi:10.1093/oso/9780198842545.003.0009
  • Lenard, Patti Tamara and Peter Balint, 2020, “What Is (the Wrong of) Cultural Appropriation?”, Ethnicities, 20(2): 331–52. doi:10.1177/1468796819866498
  • Levy, Jacob, 2000, Multiculturalism of Fear, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/0198297122.001.0001
  • Margalit, Avishai and Moshe Halbertal, 1994, “Liberalism and the Right to Culture”, Social Research: An International Quarterly, 61(3): 491–510.
  • Margalit, Avishai and Joseph Raz, 1990, “National Self-Determination”:, Journal of Philosophy, 87(9): 439–461. doi:10.2307/2026968
  • Matthes, Erich Hatala, 2016, “Cultural Appropriation Without Cultural Essentialism?”, Social Theory and Practice, 42(2): 343–366. doi:10.5840/soctheorpract201642219
  • Mcbride, Cillian, 2009, “Demanding Recognition: Equality, Respect, and Esteem”, European Journal of Political Theory, 8(1): 96–108. doi:10.1177/1474885108096962
  • Miller, David, 2005, “Immigration: The Case for Limits”, in Contemporary Debates in Applied Ethics, Andrew Cohen and Christopher Wellman (eds), Malden: Blackwell Publishers, 193–207.
  • –––, 2016, “Majorities and Minarets: Religious Freedom and Public Space”, British Journal of Political Science, 46(2): 437–456. doi:10.1017/S0007123414000131
  • Modood, Tariq, 2007, Multiculturalism: A Civic Idea, Cambridge, UK: Polity Press.
  • Moore, Margaret, 1999, “Beyond the Cultural Argument for Liberal Nationalism”, Critical Review of International Social and Political Philosophy, 2(3): 26–47. doi:10.1080/13698239908403282
  • –––, 2019, “Liberal Nationalism and the Challenge of Essentialism”, in Gustavsson and Miller 2019: 188–202. doi:10.1093/oso/9780198842545.003.0011
  • Okin, Susan Moller, 1999, Is Multiculturalism Bad for Women? Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Parekh, Bhikhu, 2000, Rethinking Multiculturalism: Cultural Diversity and Political Theory, Basingstoke: Macmillan Press.
  • Parvin, Phil, 2008, “What’s Special About Culture? Identity, Autonomy, and Public Reason”, Critical Review of International Social and Political Philosophy, 11(3): 315–233. doi:10.1080/13698230802276447
  • Patten, Alan, 2014, Equal Recognition: The Moral Foundations of Minority Rights, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Phillips, Anne, 2007, Multiculturalism without Culture, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • –––, 2010, “What’s Wrong with Essentialism?”, Distinktion: Journal of Social Theory, 11(1): 47–60. doi:10.1080/1600910X.2010.9672755
  • –––, 2018, “What Makes Culture Special?”, Political Theory, 46(1): 92–98. doi:10.1177/0090591717696023
  • Quong, Jonathan, 2006, “Cultural Exemptions, Expensive Tastes, and Equal Opportunities”, Journal of Applied Philosophy, 23(1): 53–71. doi:10.1111/j.1468-5930.2006.00320.x
  • Rowell, John, 1995, “The Politics of Cultural Appropriation”, Journal of Value Inquiry, 29(1): 137–142.
  • Scheffler, Samuel, 2007, “Immigration and the Significance of Culture”, Philosophy & Public Affairs, 35(2): 93–125. doi:10.1111/j.1088-4963.2007.00101.x
  • Shachar, Ayelet, 2001, Multicultural Jurisdictions: Cultural Differences and Womens Rights, Cambridge, UK: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511490330
  • Sniderman, Paul M. and Louk Hagendoorn, 2007, When Ways of Life Collide, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Song, Sarah, 2005, “Majority Norms, Multiculturalism, and Gender Equality”, American Political Science Review, 99(4): 473–489. doi:10.1017/S0003055405051828
  • –––, 2009, “The Subject of Multiculturalism: Culture, Religion, Language, Ethnicity, Nationality, and Race?”, in New Waves in Political Philosophy, Boudewijn de Bruin and Christopher F. Zurn (eds.), London: Palgrave Macmillan UK, 177–197. doi:10.1057/9780230234994_10
  • –––, 2018, Immigration and Democracy, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/oso/9780190909222.001.0001
  • Spinner-Halev, Jeff, 2000, Surviving Diversity: Religion and Democratic Citizenship, Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press.
  • Tully, James, 1995, Strange Multiplicity: Constitutionalism in the Age of Diversity, Cambridge, UK: Cambridge University Press.
  • Vitikainen, Annamari, 2015, The Limits of Liberal Multiculturalism: Towards an Individuated Approach to Cultural Diversity, London: Palgrave Macmillan UK. doi:10.1057/9781137404626
  • Walzer, Michael, 1983, Spheres of Justice: A Defense of Pluralism and Equality, New York: Basic Books.
  • Young, Iris Marion, 2004, “Two Concepts of Self-Determination”, in Ethnicity, Nationalism, and Minority Rights, Stephen May, Tariq Modood, and Judith Squires (eds.), Cambridge, UK: Cambridge University Press, 176–196. doi:10.1017/CBO9780511489235.009
  • Young, James O., 2008, Cultural Appropriation and the Arts, Malden, MA: Blackwell.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

  1. Sikh Faith FAQs, World Sikh Organization of Canada.

مداخل ذات صلة

citizenship | cultural heritage, ethics of | culture: and cognitive science | identity | multiculturalism | rights: group

Acknowledgments

I would like to thank Matthias Hoesch, Margaret Moore, and Stéfanie Morris for comments on an earlier draft of this entry.


[1] Lenard, Patti Tamara, “Culture”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2020 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2020/entries/culture/>.


 [i] على القارئ المسلم الرجوع لمصادر التشريع الإسلامي لمعرفة شرعية القضايا المطروحة في هذا المقال (المترجمة).