مجلة حكمة
كروبوتكين

كروبوتكين ليس مخبولًا (معنى الصراع في نظرية التطور)

الكاتبستيفن چي غولد
ترجمةأمين حمزاوي

ستيفن چي غولد (2002 – 1941): عالِم أمريكي مختص بالإحاثة والأحياء التطورية، ومُؤرِخ للعلوم، وأحد أبرز مُؤلفي العلوم المُبسَطة popular science: صَاغ بالشراكة مع نيلز ألدريج، نظرية (التوازن النُقطي (punctuated  equilibrium  والتي تفترض أن تطور الأنواع يشمل فترات طويلة من التوازن، أو شبه التوازن، مُنقّطة (أي تتخللها) فترات قصيرة من التغييرات الهامة أوالطفرات كظهور أنواع جديدة أو انقراض أخرى. بخلاف تطور السلالات التدريجي الذي يُعرّف التغير التطوري على أنه سلسلة متتالية من التغيرات في سجل الحفريات.

بيتر كروبوتكين (1921 – 1842): جُغرافي روسي، وعالِم حيوان، وعالم اجتماع، وفيلسوف ومُنظّر سياسي لا-سلطوي. دَرَس الجغرافيا الطبيعية لسيبيريا وشمال منشوريا على مدار خمس سنوات. واعتُقِل بسبب نشاطه السياسي عام 1874، وقضى جزءًا كبيرا من حياته منفيًا بين سويسرا وفرنسا وإنجلترا. نشر عام 1902 أطروحته القائلة بأن العون المتبادل mutual aid كان العامل السائد في تحقيق النجاح التكاثري Reproductive success (معيار الانتقاء الطبيعي في نظرية التطور)، كما قَدم أطروحته السياسية عن الكوميونات المحلية الطوعية كبديل عن سلطة الدولة المركزية.

في أواخر عام 1909، ترددت أصداء رجلين عظيمين عبر المحيطات، والديانات، والأجيال، والأعراق. ليو تولستوي، داعية اللا-عنف المسيحي الذي كتب في أواخر حياته رسالة إلى مهاتما غاندي الشاب، المُناضِل لأجل حقوق المستوطنين الهنود بجنوب أفريقيا، يقول فيها:

“ليكن الله في عون إخوتنا وزملائنا الأعزاء في ترانسفال. بمرور الأيام، نزداد وعيًا بنضالهم المماثل في سبيل الرأفة ضد القسوة، والحِلم والحب ضد الغطرسة والعنف.”

ومدفوعًا في العام التالي بالخلافات الأُسرية، وعاجزًا عن تحمل ازدواجية عيش حياة مسيحية زاهدة داخل مِلكيته المُرفهة، والتعايش مع دخل غير مرغوب فيه حققته رواياته العظيمة (التي كتبها قبل انعطافته الدينية ونشرتها زوجته)، فَرّ تولستوي بالقطار بحثًا عن أماكن نائية أكثر بساطة، لقضاء أواخر أيامه. وقد كتب لزوجته:

“آسف إذا كان رحيلي سيؤلمك، لكن افهمي وتيقني من أنني لم أجد مفرًا من ذلك. تتعثر إقامتي بالمنزل حتى صارت لا تُطاق. وبصرف النظر عن أي شيء آخر، لم أعد أحتمل عيش حياة مرفهة كتلك، وكأي عجوز آخر  فإنني أتخلى عن هذه الحياة الدنيا كي أقضي أيامي الأخيرة في عزلة وسلام.”

لكن رحلة تولستوي الأخيرة كانت قصيرة وغير سارة. فبعد أقل من شهر، أرهقته المسافات الطويلة على متن القطارات الروسية، وأعياه الصقيع، فأُصيب بالتهاب رئوي  تسبب في إنهاء حياته عند سن الثانية والثمانين  بمنزل مدير محطة أستابوفو. وبينما منعه الوهن من الكتابة، فقد أملى آخر خطاباته بتاريخ 1 نوفمبر 1910،  مُوجِهًا إياه لأثنين من أبنائه، لَمْ يُشاركاه وجهات نظره حيال اللا-عنف المسيحي، مُقدمًا نصيحة أخيرة:

“إن آراءكما بشأن الداروينية، والتطور، والصراع لأجل البقاء لن تُوجِد لحياتكما المعنى، أو تمنحكما دليلًا للسلوك، وإن حياةً دون إبانة لمغزاها أو أهميتها، ودون دليل صَدوق ينبع منها، لمثيرة للشفقة. فكرا بالأمر. أقول ذلك، وأنا على مشارف القبر على الأرجح، كوني أُحبكما.”  

كان اعتراض تولستوي هو الأشهر بين الاتهامات المُوجهة إلى داروين، فمنذ أن نُشِر أصل الأنواع عام 1859 وحتى اليوم، واجهت الداروينية تهمة تقويض الأخلاق إثر ادعائها بأنه يُمكن إحراز النجاح في الطبيعة فقط عبر الانتصار في صراع دموي – “الصراع لأجل البقاء” أو “البقاء للأصلح” على حد تعبير داروين نفسه. فإذا ما رغبنا في انتصار “الحِلم والحب” على “الغطرسة والعنف” (كما كتب تولستوي إلى غاندي)، ينبغي علينا التخلي عن التصور الدارويني للطبيعة مثلما يعلن تولستوي في مناشدته الأخيرة لأطفاله الجانحين.

لكن تلك التهمة المُوجهة لداروين غير منصفة، لسببين، أولهما أن الطبيعة (بصرف النظر عن مدى قسوتها في الاصطلاح البشري) لا تُقدم أي أساس لقِيمنا الأخلاقية (ربما، يُساهم التطور في أفضل الأحوال، في تفسير لماذا نمتلك عواطف أخلاقية، لكن تظل الطبيعة عاجزة عن أن تُقرر لنا صحة أي فعل من عدمها). والسبب الثاني هو أن تعبير “الصراع لأجل البقاء” الخاص بداروين، هو استعارة تجريدية، وليس تقريرًا صريحًا حول معركة دموية. إذ يعمل النجاح التكاثري [1]Reproductive success، وهو معيار الانتقاء الطبيعي، بأشكال عدة: قد يكون الانتصار في المعركة أحدها، لكن قد تُؤمّن أشياء مثل: التعاون، والتكافل، والعون المتبادل، النجاح في سياقات وأوقات أخرى. يشرح داروين في فقرة شهيرة مفهومه الخاص بالصراع التطوري (أصل الأنواع، 1859، ص62-63):

“أستعمل هذا المصطلح بطريقة مجازية وفضفاضة تتضمن اعتمادية كائن على آخر، كما تتضمن (على درجة أعلى من الأهمية) ليس حياة الفرد فحسب، بل التمكّن من نقل جيناته لجيل لاحق. إن حيوانين من فصيلة الكلبيات، في وقت المجاعة، قد يَصدُق عليهما القول بأنهما في صراع مع أحدهما الآخر بغرض الحصول على الطعام، لكن نباتًا على حافة الصحراء يُوصف كذلك بأنه يُصارع لأجل الحياة ضد الجفاف… إن نبات الدبق شبه الطفيلي تبذره الطيور، وهكذا، فإن وجوده يعتمد على الطيور، ويمكن القول مجازًا بأنه في صراع مع الأشجار الأخرى من ذوات الثمار على جذب الطيور لالتهامه، ومن ثم على نشر بذوره عوضًا عن بذور النباتات الأخرى. وبتلك المعاني العديدة، التي يحيل بعضها للآخر، أستعمل مصطلح صراع البقاء العام، استعمالًا تقريبيًا.”

ورغم ذلك، لم يتم دحض حجة تولستوي بشكل قاطع. صحيح أن داروين قَدّم تعريفًا مجازيًا عامًا للصراع، لكن النماذج الواقعية التي استعملها رَجحّت كفة الصراع الدموي – “الطبيعة، دامية الأسنان والمخالب” كما يقول تنيسون [2]في بيت شعر كثيرًا ما يتم اقتباسه، إلى أن صار كليشيهًا مُعبرًا عن هذه الرؤية العامة للحياة. أسس داروين نظريته في الانتقاء الطبيعي على افتراض مالتوس المُوحِش بأن  النمو السكاني لابد أن يتجاوز إمدادات الطعام، حيث سيؤدي ذلك بالضرورة إلى معركة صريحة على الموارد المتناقصة. علاوة على أن داروين تمسك برؤية لإيكولوجيا غاصّة بالأنواع المتنافسة – متزنة ومُغلقة  لدرجة أنه لا سبيل لإقحام ساكن جديد دون إقصاء آخر قديم. وقد عَبّر داروين عن هذه الرؤية باستعارة أكثر مركزية ضمن تصوره العام حتى من الصراع. تُشبه الطبيعة، كما يصف داروين، سطحًا مثلومًا بإحكام بواسطة عشرة آلاف وتد تحتل كل مساحته. ولابد للأنواع الجديدة (ممثلة بالأوتاد) كي تحتل مكانًا على السطح، أن تُقحِم نفسها عبر شق صغير وتدفع وتدًا قديمًا إلى الخارج. وبحسب هذه الرؤية، يُمكن إحراز النجاح بالاستيلاء المباشر على موطأ قدم عبر منافسة صريحة.

وفضلًا عن ذلك، فقد شدد حواريّ داروين الأبرز، توماس هنري هكسلي على تلك الرؤية “التجالدية” “gladiatorial” للانتقاء الطبيعي (على حد تعبيره) ضمن سلسلة من المقالات الشهيرة عن الأخلاق. حيث جادل هكسلي بأن أولوية الصراع الدموي تكشف عن لا-أخلاقية السيرورة الطبيعية(إنها ليست لا-أخلاقية على نحو صريح، لكنها بالتأكيد غير مُؤهلة لتقديم أي دليل للسلوك الأخلاقي).

فمن وجهة نظر عالِم الأخلاق moralist، يكون العالَم الحيواني بمثابة حلبة للمصارعة. حيث تُجهّز الكائنات جيدًا، ثم تُطلَق للقتال – حيث ينجو الأقوى، والأسرع، والأكثر دهاءً ليقاتل يومًا آخر. دون حاجة لتحريض الجمهور على الضحية الجبانة، ذلك لأن احتمالية الشفقة ]في العالم الحيواني[ معدومة أصلًا.

ويذهب هكسلي لأبعد من ذلك، حيث يرى بأن مآل كل مجتمع بشري يسير على منوال الطبيعة هو الفوضى والبؤس – أو عالم هوبز القاسي حيث “حرب الجميع ضد الجميع” bellum omnium contra omnes (حيث تعني bellum “الحرب” لا “الجمال”).  ومن ثم، يصبح الغرض الرئيسي للمجتمع هو الحد من ذلك الصراع الذي يُحدد سيرورة الطبيعة. باختصار فإن درس هكسلي هو: ادرس الانتقاء الطبيعي واسلك عكسه في المجتمع البشري:

“لأنه في المجتمع المدني، تُصبح النتيجة الحتمية لمثل هذا الامتثال] لقانون المصارعة الدموي[ هي استئناف الصراع لأجل البقاء بكامل طاقته -حرب الجميع ضد الجميع- في حين أن الحد منه أو إبطاله تمامًا، هو الغرض الأساسي للتنظيم الاجتماعي ]المدني[“

هذه المُناقضَة بين سيرورة الطبيعة والطموح البشري للتآلف الاجتماعي، هي التي حددت موضوع الجدل حول الأخلاق والتطور منذ داروين. وقد حظي حَلْ هكسلي بكثير من الأنصار لمبدأ: الطبيعة كريهة وليست دليلًا أخلاقيًا بأي حال، إلا لو اعتبرناها مؤشرًا على ما ينبغي اجتنابه في المجتمع البشري.  لكنني أميل إلى حل آخر مُؤسَس على أخذ رؤية داروين الاستعارية للصراع على محمل الجد (بالرغم من من مَيل داروين نفسه للنماذج التجالدية) – إن الطبيعة كريهة في بعض الأحيان، ورقيقة في أحيان أخرى (والحقيقة، أنها ليست هذا ولا ذاك، نظرًا لأن المصطلحات البشرية غير مُؤهلة لوصفها). وعند استعراض نماذج لجميع أنماط السلوك (تحت المُسمى الاستعاري :الصراع)، سنجد أن الطبيعة لا تُفضّل أحدًا، ولا تُقدم أية إرشادات. إن الوقائع الطبيعية لا تُقدّم أي دليل أخلاقي في جميع الأحوال.

لكن ثمة حل ثالث، قَدّمه بعض المفكرين الطامحين لتأسيس الأخلاق على أسس طبيعية وتطورية. ونظرًا للإمكانية الأخلاقية الضئيلة التي يمنحها التفسير التجالدي، وجب على هذا التيار الثالث، أن يُعيد صياغة سيرورة الطبيعة. وقد هيأتْ الخاصية الاستعارية للصراع عند داروين نقطة انطلاق واعدة لهؤلاء. إذ يُمكن الجدال بأن الأمثلة التجالدية عند داروين قد أخذت أكثر من حجمها وقُدِمت بوصفها الوضع السائد. في حين أن التعاون والعون المتبادل هما النتيجتان الأكثر شيوعًا لصراع البقاء، وأن التشارك قاد إلى نجاح تكاثري أعظم في غالبية الظروف، مقارنة بالاقتتال.

أبرز مثال على الحل الثالث نجده في كتاب “العَون المتبادل” ” Mutual Aid ” للثوري اللا-سلطوي الروسي بيتر كروبوتكين، المنشور عام  1902(لابد من إزاحة الصورة النمطية القديمة عن الأناركيين كأشخاص ملتحين يلقون القنابل خلسَةً عبر شوارع المدينة في المساء). كان كروبوتكين شخصًا ودودًا، إلى حد القداسة كما يصف البعض، رَوّج لتصور عن الحياة في مجتمعات صغيرة تُقر معاييرها الخاصة بواسطة الإئتلاف الذي يُراعي مصالح الكل، وبذلك تزول الحاجة إلى حكومة مركزية). وقد عاش النبيل الروسي كروبوتكين في إنجلترا منفيًا لأسباب سياسية. كَتب كروبوتكين العون المتبادل (بالإنجليزية) كرد مباشر على مقالة هكسلي المُقتبَسة أعلاه “الصراع لأجل البقاء في المجتمع البشري”، والمنشورة في فبراير 1888. والتي رَد عليها كروبوتكين في عدة مقالات نُشرت متفرقة خلال القرن التاسع عشر، ثم  جُمِعَت أخيرًا في كتاب العون المتبادل.

ومثلما يُوحي العنوان، يُجادل كروبوتكين في فرضيته الأساسية، بأن الصراع لأجل البقاء يُؤدي عادة إلى العون المتبادل بدلًا من النزاع، وأن العون المتبادل هو معيار النجاح التطوري. ومن ثم، ينبغي الاستناد إلى استعدَادتنا الطبيعية (لا عكسها، كما اقترح هكسلي) في صياغة نسق أخلاقي من شأنه تحقيق السلام والرخاء لنوعنا. يسعى كروبوتكين عبر عدة فصول إلى تأكيد الصلة بين كل من الانتقاء الطبيعي المؤدي للعون المتبادل بين الحيوانات، وقاعدة النجاح التي يقوم عليها نظام اجتماعي بشري مُتقدم. وتَدرس فصول الكتاب الخمسة على الترتيب، العون المتبادل بين: الحيوانات، بين المتوحشين، بين البرابرة، في مدن العصر الوسيط، وأخيرًا بيننا.

ولابد أن أعترف، بأنني دائمًا ما نظرت لكروبوتكين كشخص مهذار، وإن كان حسن النية بلا شك. إذ دائمًا ما تم تقديمه في المُقررات المُعتمَدة للأحياء التطورية بوصفه مُفكرًا ضعيفًا ومُشوَشًا، سَمح للأمنيات والعواطف بإفساد صرامته التحليلية واستعداده العلمي لقبول الطبيعة كما هي. وأنه في أخر الأمر، صاحب سياسات غريبة، وأفكار مستحيلة عمليًا،  وغريبًا في أرض غريبة. علاوة على أن تمثيله لداروين قد طَابق مُثلَه الاجتماعية (يَصدر العون المتبادل كنتيجة مباشرة للتطور دون حاجة لسلطة مركزية تفرضه) وبذلك، يُعاب عليه تغليب الأمل الشخصي على الدقة العلمية. ظَلّ كروبوتكين على لائحة موضوعاتي البحثية المحتملة لمدة طويلة(وإن بدافع قراءة كتابه، بدلًا من الاكتفاء بلَوْك شروحه المدرسية عن ظهر الغيب)، لكنني لم أباشر ذلك أبدًا، ما دمت عاجزًا عن الإلمام بسياق قادر على استيعاب كروبوتكين عوضًا عن كروبوتكين نفسه، فما أسهل اختزال المثقفين غريبي الأطوار إلى مادة خام للشائعات، أو موضوع للدراسة النفسية، رغم أن غرابة الأطوار تظل أسوأ القواعد الممكنة لاستنباط تعميم علمي. 

لكن، تَغيّر موقفي على الفور عندما قرأت مقالًا بديعًا بالعدد الأخير من مجلة إيزيس (الاحترافية الرائدة في تاريخ العلوم) بواسطة دانيال ب.تود عنوانه: “استعارة داروين المالتوسية، والفكر التطوري الروسي، 1859 – 1917”. حينها أَدركتُ كَم كان ضيق الأفق من نصيبي دون سواي، وذلك لجهلي بالفكر التطوري الروسي ككل، وتركيزي على كروبوتكين في عزلته الإنجليزية. (أقرأ الروسية بصعوبة، باستعمال قاموس، ما يعني ببساطة أنني لا أستطيع قراءتها). وعَرفتُ كيف صار داروين بطلا للإنتلجنسيا الروسية، وكيف أثّر على الأكاديمية الروسية أكثر من أي بلد آخر تقريبًا. لكن بالكاد تُرجِمت أي من تلك الأعمال الروسية أو حتى نُوقِشت في الأدبيات الإنجليزية. إن أفكار تلك المدرسة لا زالت مجهولة لدينا، حتى أننا نجهل أسماء روادها الأساسييين. عَرفتُ كروبوتكين لأنه نَشر بالإنجليزية وعاش في إنجلترا، بينما لم يسبق لي الإطلاع على حقيقة أنه قدّم نقدًا روسيًا معياريًا حصيفًا لداروين، مُؤسَسًا على مبررات جديرة بالاهتمام، وعلى تقاليد قومية متسقة. لا يَمنح تود أفكار كروبوتكين صحة مفترضة، لكنه يضع أفكاره داخل سياقها الأعم والذي يستحق منا الاحترام ويُلهمنا تنويرً جوهريًا. لقد كان كروبوتكين عضوًا في تيار غير تقليدي، وليس خيال مآتة يدور وحيدًا. 

انطلقت المدرسة الروسية للنقاد الداروينين – مثلما يجادل تود– من فرضية أساسية تقوم على: رفض ادعاء مالتوس بأن المنافسة في صورتها الجَلَدية، لابد وأن تسود في عالم أكثر ازدحامًا من أي وقت مضى، حيث يَتنامى السكان  وفق متتالية هندسية، حيث لا مناص من أن يتجاوز عددهم إمدادات الطعام، المتنامية وفق متتالية حسابية. حتى أن تولستوي –بالنيابة عن زملائه الروس- قد وصف مالتوس ب”الخبيث متوسط الموهبة”.

ويشير تود إلى عدد من الأسباب الكامنة وراء العداء الروسي المُوجَه لمالتوس. وهي الاعتراضات السياسية على ثقافة “إما قاتلًا أو مقتولًا” المُمِيزة للتنافسية الصناعية الغربية، والناشئة على أطراف الأراضي الروسية.

لقد رأى الراديكاليون الطامحون لبناء مجتمع اشتراكي المالتوسية كتيار رجعي ضمن الاقتصاد السياسي البرجوازي. أمّا المحافظون، الذين أملوا في الإبقاء على الفضائل الكوميونية ]التشاركية[ ل]فلاحي [روسيا القيصرية، فقد رأوا المالتوسية كتعبير عن “الخاصية القومية البريطانية”.

ويُعيّن تود كذلك أحد أكثر الأسباب إثارة للاهتمام، والمٌتعلِق بالخبرة المباشرة للجغرافيا الروسية ولتاريخها الطبيعي. فلدينا جميعًا ميل إلى صياغة النظريات الكُلية انطلاقًا من مجال محدود تُشكّله الظروف المُحيطة ]الأقرب[. حتى أن كثيرًا من علماء الوراثة يستقرأون عالم التطور في مجمله انطلاقًا من أنبوبات اختبار معاملهم الملآنة بذباب الفاكهة.[3] تصدر شكوكي المتزايدة بشأن التَكيّف المُعمَم universal adaptation في جانبها الأكبر نتيجة دراستي لنوع غير تقليدي من الحلزونات ]من جنس Poecilozonites وجنس cerion [ كان يُعدّل من نفسه على نحو سريع و شديد التقلّب رغم وجوده في بيئة ثابتة إلى أبعد حد، وذلك بالمقارنة مع أحد الطيور في رحلة طويلة، أو أية عجيبة أخرى مماثلة من عجائب التصميم الطبيعي. 

إن روسيا بلد شاسع، سكانه قليلون مقارنة بثروته الزراعية خلال القرن التاسع عشر. بالإضافة للطبيعة القاسية التي تُميز مُعظم مساحته، حيث من الأرجح أن تَنشأ منافسة بين الكائن الحي والبيئة (كما في استعارة داروين حيث يُصارع النبات على حافة الصحراء) بدلًا من الكائنات الحية ضد بعضها البعض في نزال مُباشر ودموي. إذًا، كيف بإمكان أي روسي واع بالبيئة الريفية الخاصة به، أن يقبل مبدأ مالتوس الخاص بالاكتظاظ السكاني كأساس للنظرية التطورية؟ يشرح تود:

“كان ذلك غريبًا على خبرتهم، ببساطة، لأن مساحة روسيا الشاسعة جعلت سكانها إبرًا متناثرة في كومة قش. ويتطلب الأمر من الروسي قفزة خيالية حتى يُدرك أن انفجارًا سكانيًا مُطردًا يستنزف لا محالة الموارد المُتاحة من طعام ومساحة.” لكن، لو أن أولئك النُقاد الروس قد نظروا إلى شكوكهم داخل إطارها المحلي، عندئذ كانوا سيدركون أن حماسات داروين المناقِضة، ربما عبرت عن مُحيطه المُختلف، وليس عن مصفوفة من الحقائق الكونية اللازمة، وأن مالتوس يُمثل نبيًا أمثَل في بلد صناعي مُزدِحم يعتنق مِثال المنافسة المفتوحة في أسواق حرة. لقد تم التأكيد مرارًا على أن كلًا من داروين و ألفريد راسل والاس قد طوّرا نظرية الانتقاء الطبيعي بشكل مستقل بناء على خبرتهما الأولية بالتاريخ الطبيعي في المناطق المدارية. وأن كليهما استلهما أفكار مالتوس، مُجددًا بشكل مستقل، لكن إذا كان “الحظ يُسعِف العقل المُهيأ ]للملاحظة[بالفعل”[4]، فمن المرجح أن خبرتهما الاستوائية جعلتهما مُهيئين لقراءة مالتوس بقدر من الإطناب والاستحسان.  ليس ثمة على سطح الكرة الأرضية منطقة أكثر ازدحامًا بالأنواع من تلك ]المدارية[ ، ومن ثم فهي غاصّة بمنافسة الأجسام ضد بعضها البعض. هكذا، كان الإنجليزي الذي لاحظ سيرورات الطبيعة في المناطق المدارية مُقيدًا إلى حد ما برؤية للتطور تختلف عن نظيرتها لدى الروسي الذي ترعرع بالقرب من براري سيبيريا القفرة.

علي سبيل المثال، نَشر نيقولاي أ. دانيليفسكي، وهو خبير في علم الأسماك والدينامية السُكانية، عام 1885 مُجلدين خصصهما لنقد داروين. وَصف فيهما الصراع لأجل الكسب الشخصي بأنها عقيدة بريطانية “ذات خاصية قومية”، تُناقِض التقاليد السلافية الجماعية القديمة. إن الإنجليز بحسب دانيليفسكي ” يتشاجرون واحدًا لواحد، وليس في مجموعات كما نحب أن نتشاجر نحن الروس”. لقد رأى دانيليفسكي المنافسة الداروينية  ك”عقيدة إنجليزية خالصة” مُؤسَسة على التيار الفكري البريطاني الممتد من هوبز مرورًا بآدم سميث وصولًا إلى مالتوس. يُجادِل دانيليفسكي بأن الانتقاء الطبيعي مُتجذِر في “حرب الجميع ضد الجميع، بعدما صار يُدعى الآن “الصراع لأجل البقاء” (النظرية السياسية الهوبزية)، والمنافسة في نظرية آدم سميث الاقتصادية..وهي نفس المبادئ  التي طَبقها مالتوس  في نظريته السكانية… وقد مدّ داروين نظرية مالتوس الجزئية، والنظرية العامة للاقتصاديين السياسيين الإنجليز إلى العالم العضوي”. (الاقتباسات من مقال تود).

وعندما نعود إلى أفكار كروبوتكين حول العون المتبادل في ضوء اكتشافات تود حول الفكر التطوري الروسي، يجب أن نعكس النظرة التقليدية ونُفسّر هذا العمل ضمن تيار النقد الروسي السائد، وليس بوصفه خبلًا من نوع ما. إن المنطق الأساسي لفرضية كروبوتكين بسيط، مباشر، ومُقنع إلى حد كبير.

ينطلق كروبوتكين من التسليم بأن الصراع يلعب دورًا مركزيًا في حياة الكائنات الحية وأنه يُوفر دافعها الأساسي للتطور. لكنه يُشدد على أهمية ألا ننظر لهذا الصراع كظاهرة أحادية. بل أن نقسمه إلى نمطين يتضمنان معنيين متناقضين لماهية التطور. لابد بدايةً، التسليم بأن صراع الكائن الحي ضد كائن حي آخر على الموارد المحدودة، أي السمة التي نَقلها مالتوس إلى داروين والتي وصفها هكسلي بالمُجالَدة، تقود إلى التنافس على المنفعة الشخصية.

أمّا النمط الآخر للصراع (الذي وصفه داروين بالمجازي) فإنه يضع الكائن الحي في مواجهة قسوة البيئات الطبيعية المحيطة به، وليس في مواجهة أفراد نوعه الآخرين. لابد للكائنات الحية من أن تُناضل كي تبقى دافئة، وكي تنجو من المخاطر المُفاجِئة للحريق والعواصف، وأن تُثابر في فترات الجفاف الشديد، أو تَكوّن الثلوج، أو الوباء. وأن الطريقة المُثلى لخوض هذه الأشكال من صراع الكائن الحي ضد البيئة هي تعاون أفراد النوع الواحد بواسطة العون المتبادل. فإذا جمع الصراع لأجل البقاء أسدين اثنين في مواجهة حمار وحشي واحد، عندئذ سنرى نزالًا سنوريًا[5]، وأشلاءً خَيلية.[6] أمّا إذا ناضلت الأسود سوية ضد خشونة البيئة المُحيطة بها،  عندئذ فإن عراكهما لن يمحو عدوهما المُشترك، في حين قد يؤدي التعاون إلى تجنب خطر يتجاوز قدرة العضو مُفردًا على الاحتمال.

لذا، صاغ كروبوتكين ثُنائية ضمن التعريف العام للصراع (نمطين ذوي مضامين مختلفة): (1) صراع كائن حي ضد آخر من نفس النوع على الموارد المحدودة، والذي يؤدي للتنافس. (2) صراع النوع ضد البيئة المحيطة، والذي يؤدي للتعاون.

لن يمانع أي عالم بالتاريخ الطبيعي فكرة أن صراع البقاء الممتد عبر العالم العضوي هي التعميم الأهم للقرن العشرين. الحياة صراع، ينجو منه الأصلح. لكن الإجابات على أسئلة من قبيل :”بأية أسلحة يُخاض الصراع في المقام الأول؟” و”مَن الأصلح للنجاة؟” قد تختلف بشدة تبعًا للأهمية المُعطاة لكل من نمطي الصراع: المباشر على الطعام والأمن بين أفراد مُنعزلين، والصراع الذي وصفه داروين ب “المجازي” والذي يُخاض عادة بشكل جماعي، ضد الظروف المُناوئة.  

سَلَّم داروين بوجود كلا النمطين، لكن إخلاصه لمالتوس وتصوره لطبيعة مُكتظة بالأنواع، قاداه للتشديد على الطابع التنافسي. ثم فَخّم مريدوه الأقل مهارة من الرؤية التنافسية بشكل حصري، ليراكموا فوقها جبلًا من الدلالات الاجتماعية والأخلاقية. لقد انتهوا إلى استيعاب العالم الحيواني بصفته عالَمًا من الصراع الأزلي بين أفراد شبه-مُتضورين من الجوع، مُتعطِشين لدماء بعضهم البعض. لقد صاغوا أدبيات تضج بصيحة الحرب وويل المهزومين، وكأنها القول الفصل في الأحياء الحديثة. وقد رفعوا الصراع “عديم الشفقة” على المنافع الشخصية، إلى مرتبة المبدأ  العام لعلم الأحياء biological principle  والتي ينبغي أن تَصدق على الإنسان بالمِثل، فيقع تحت تهديد عالَم مُؤسس على الإبادة المُتبادلة.

لم يُنكِر كروبوتكين النمط التنافسي للصراع، لكنه جادل بأن النمط التعاوني قد تم تحييده ولابد من وضعه على قدم المساواة مع الأول أو حتى تغليبه عليه إذا ما نظرنا للطبيعة ككل.

تَجري حروب وإبادات هائلة وسط الأنواع المختلفة، لكن، في نفس الوقت، يجري بالمقدار ذاته، أو ربما أكثر بمراحل: الدعم المتبادل، والعون المتبادل، والدفاع المتبادل… فالاجتِمَاعِيّة Sociability هي قانون طبيعي على قدم المساواة مع الصراع المشترك.

وكلما انتقل كروبوتكين بين أمثلته المنتقاة، مُعززًا انحيازاته الخاصة، زادت قناعته بأن النمط التعاوني، المؤدي إلى العون المتبادل، لا يسود في العموم فحسب، بل إنه يُميّز الكائنات الأكثر رُقيًا مثل: النمليات بين الحشرات، وصولًا إلى الثدييات بين الفقاريات. ولذا، يصبح العون المتبادل عاملًا أكثر أهمية من التنافسية والإبادة.

فإذا ما سألنا الطبيعة عن الأصلح The Fittest “هل أولئك الذين يخوضون حربًا دائمة ضد بعضهم البعض، أم أولئك الذين يُعاوِن أحدهم الآخر؟” سندرك على الفور أن الحيوانات التي اكتسبت عادات العون المتبادل هي الأصلح دون شك. 

وإذا ما تساءلنا لِمَ اتخذ كروبوتكين صف التعاون بينما دافع معظم دارويني القرن التاسع عشر عن التنافس بصفته النتيجة السائدة للصراع في الطبيعة؟ يبرز سببين رئيسيين، يبدو أولهما أقل أهمية، كما هو واضح في ضوء المبدأ الساخر إلى حد ما لكن الواقعي تمامًا، والقائل بأن المؤمنين الحقيقيين يميلون إلى نَسخ انحيازاتهم الاجتماعية على صفحة الطبيعة. وبالتأكيد، فإن كروبوتكين الأناركي الساعي لاستبدال الحكومة المركزية بائتلافية المجتمعات المحلية، قد طَمح في العثور على نزعتنا الراسخة للعون المتبادل داخل بؤرة حصيلتنا التطورية: دَعْ العون المتبادل يسود الطبيعة، فيصبح التعاون بين البشر مُجرد مثال تطبيقي على قانون الحياة. 

فليس بإمكان سلطات الدولة المركزية الساحقة ولا تعاليم الكراهية والقسوة المتبادلة، المُزخرفة بنُعوت علمية وَضعها فلاسفة واجتماعيون انتهازيون، أن تمحو مشاعر التضامن البشري، المُتأصلة بعمق في أفهام وقلوب البشر، لأنها نضجت عبر سيرورة التطور السالفة.

لكن السبب الثاني كاشف أكثر، ويتمثل في المحتوي التجريبي عند كروبوتكين بصفته عالم طبيعة، والمرتبط أيضًا بإثبات فرضية تود الغريبة عن أن مسار التفسير الطبيعي المُؤسَس أيديولوجيا قد يَعكس اتجاهه في بعض الأحيان، وأن الطبيعة قد تصوغ الانحياز الاجتماعي في التحليل الأخير. فعندما كان شابًا، وقبْل انعطافته الراديكالية-السياسية بوقت طويل،  قضى كروبوتكين خمس سنوات في سيبيريا (بين 1862 و 1866) عقب نشر داروين أصل الأنواع بوقت قليل. وقد ذهب ]كروبوتكين  [ بصفته ضابطًا بالجيش، ومَثّل ذلك غطاءً مناسبًا لتَحَرّقه إلى دراسة: چيولوجيا، وجغرافيا، وحيوانات روسيا الشاسعة. وهنالك (على النقيض من خبرات داروين المدارية) حلّ كروبوتكين في بيئة أبعد ما تكون عن التصور المالتوسي. حيث لاحَظ عالَمًا مأهولًا بقلة من  السكان، غاصّا بالكوارث المتواترة المُغيْرة على أنواع قليلة تمكّنت من العثور على موطأ قدم في مثل تلك الوَحشة. وبوصفه مُريدًا مُحتَمَلًا لداروين، فقد بحث عن المنافسة، لكن نادرًا ما عثر عليها. وفي المقابل، فقد لاحظ باستمرار مَنافع العون المتبادل في التكيّف مع الخشونة المُحيطة التي هددت الجميع على قدم المساواة، واستحال تجاوزها بواسطة الحرب والعراك.

بإيجاز، توفرت لدى كروبوتكين الأسباب الشخصية والتجريبية لأخذ التعاون بعين الاعتبار بصفته دافعًا طبيعيًا. وقد اعتمد هذه السمة كفقرة افتتاحية لكتاب العون المتبادل: 

“سِمتان للحياة الحيوانية أثارتا انبهاري طيلة الرحلات التي خضتها وأنا شاب عبر شرق سيبيريا وشمال منشوريا. أحدهما كانت القسوة المفرطة للصراع المفروض على الحيوانات ضد البيئة الخشنة؛ والتدمير الهائل لأشكال الحياة على نحو دوري بواسطة الطبيعة؛ وما ترتب عن ذلك من نُدرة في أشكال الحياة على امتداد المنطقة التي شملتها مُلاحظتي. أمّا السمة الأخرى فتمثلت في أنه حتى عند تلك المواضع القليلة التي عجّت بالحياة الحيوانية، فقد فَشلتُ في التقاط ذلك الصراع المرير على وسائل الحياة بين الحيوانات المنتمية لنوع واحد – رغم لهفتي لإيجاده– والذي عَدّته أغلبية الداروينين (وليس داروين نفسه على أية حال) الخاصية السائدة في الصراع لأجل البقاء، والعامل الأساسي للتطور.”

كيف نتناول فرضية كروبوتكين في الوقت الحاضر؟ أو المدرسة الروسية التي يُمثلها؟ هل كانوا مُجرد ضحايا للتطلعات الثقافية والمُحافَظة المعرفية؟ لا أعتقد بصحة ذلك، بل إنني أُقرّ بأن فرضيته الأساسية صحيحة. يَحدث الصراع بأنماط عدة، بعضها يؤدي إلى التعاون بين أفراد النوع الواحد بصفته الطريق الأمثل لتحقيق مصلحة كل فرد على حِدة. وإذا كان كروبوتكين قد بالغ في التأكيد على العون المتبادل، فإن أغلبية دارويني أوروبا الغربية بالغوا في التأكيد على المنافسة بالقدر ذاته. ولنفترض بأن كروبوتكين قد استخلص من تصوره للطبيعة آمالًا بالإصلاح الاجتماعي، فإن الداروينين الآخرين وقعوا في خطأ مماثل تمامًا، لكن على الجانب الآخر (بناء على دوافع يستنكرها معظمنا في الوقت الحاضر) بتبريرهم الغزو الإمبريالي، والعنصرية، وقمع الطبقة العاملة الصناعية، باعتبارها النتائج الفظة اللازمة عن الانتقاء الطبيعي في طوره التنافسي.

سأنتقد كروبوتكين في مسألتين بالتحديد، الأولى اختصاصية والأخرى عامة. لقد ارتكب خطأ مفاهيميًا شائعًا بفشله في إدراك أن الانتقاء الطبيعي يتعلق أساسًا بمزايا الأفراد المُكتَسبة، وإنْ بواسطة الصراع. قد تكون نتيجة الصراع لأجل البقاء هي التعاون بدلًا من المنافسة، لكن وفقًا للتصور الدارويني، فلابد للعون المتبادل من أن يصب في صالح الأفراد عند التحليل الأخير . يتحدث كروبوتكين أحيانًا عن العون المتبادل باعتباره مُوجَّهًا لصالح النوع ككل أو الجماعة السكانية بالأساس – وهو التصور الدخيل على المنطق الدارويني الكلاسيكي (حيث تتوجه الكائنات الحية، وإن بطريقة لا -واعية، لتحقيق منفعتها الخاصة ]بقائها[ وذلك بأن تَنقِل جيناتها للأجيال التالية). لكن كروبوتكين أقرّ (وكثيرًا ما فعل ذلك) بأن العون المتبادل ]على مستوى النوع[ يَدعم كل فرد على حدة في صراعه لأجل النجاح الشخصي. بالتالي، حتى إذا عجز كروبوتكين عن التقاط المضمون التام لفرضية داروين الأساسية، فإنه قد تبنى الحل الأرثوذكسي ]الدارويني[ بصفته المُسوغ الأساسي للعون المتبادل.

أمّا فيما يتعلق بنقدي الأعم، سوف أستعمل حدسًا تقريبيًا بعض الشيء للحكم على الفرضيات الطبيعية ذات التداعيات الاجتماعية الصريحة: فعندما تُسبِغ تلك الادعاءات على الطبيعة بعض الصفات التي نستحسنها أو التي تُعزز من انحيازاتنا، من الواجب علينا أن نرتاب فيها بشكل مضاعف. إن لي تحفّظًا كبيرًا على الأطروحات التي تحاول تأصيل الشفقة، والتعاطف، والمؤازرة، والانسجام (تلك المعاني التي نناضل بشدة، وبشكل غير مُوفق غالبًا، في تطبيقها على حيواتنا) في الطبيعة. إذ أنني لا أرى دليلًا يؤيد “مجال نو” [7]، أو كُلانية[8] كابرا[9] الكاليفورنية[10]، أو “صدى التحول”[11] الخاص ب شيلدرايك[12] وتبدو فرضية “جايا”[13] في نظري مُجرد استعارة وليست آلية حقيقية. (قد تُحررنا الاستعارات أو تُنوّرنا، أمّا النظريات العلمية الجديدة فلابد أن تُقدم إفادات سببية. تبدو جايا بالنسبة لي، أقرب إلى إعادة صياغة (بمصطلحات جديدة) للنتائج التي انتهت إليها الأطروحات الاختزالية الكلاسيكية لنظرية الدورة الحيوية الچيو-كيميائية biogeochemical cycling theory).

وختامًا، لا تُوجَد طرق مُختصرة لتحقيق الحكمة الأخلاقية. فالطبيعة لا تحتوي أي شيء جوهري يُمكنه تقديم الراحة أو العزاء بأي معني بشري – وإن كان ذلك بسبب أن نوعنا ليس أكثر من موجود متواضع حديث العهد بعالمٍ لم يُنشَأ خصيصًا لأجله. بل من الأفضل حتى ألاّ تقبع حلول المعضلات الأخلاقية هنالك ]في الطبيعة[ بانتظار اكتشافها. بل أن تُقيم، مثل مملكة الرب، بداخلنا-حيث أكثر المواضع مَناعةً وحصانة ضد أي عبث أو إجماع. 

نُشِر بمجلة “التاريخ الطبيعي”، المُجلد 97، عدد 7، ص 12 -21

المصدر

*العنوان الفرعي، والهوامش من وضع المُترجِم.


[1] النجاح في تمرير الجينات لجيل لاحق يستطيع هو أيضا بدوره تمريرها للأجيال اللاحقة.

[2] من أبرز الشعراء الإنجليز في القرن التاسع عشر

[3] الدروسوفيلا، أو ذبابة الفاكهة، يشيع استخدامها بكثرة في أبحاث الوراثة.

[4] اقتباس مشهور عن عالم الكيمياء والأحياء الدقيقة لويس باستور.

[5] السنوريات: فصيلة من الثدييات تنتمي لها الأسود.

[6] الخيليات: فصيلة من الثدييات ينتمي لها الحمار الوحشي.

[7] مجال نو أو مجال الوعي أو تكويرة نو، وفقا لفكر فلاديمير فرنادسكي وبيير تيلار دي شاردان، هو مفهوم يدل على ” مجال الوعي البشري”. وهي تشبيه لمفردات “المجال الجوي” و”المجال البيولوجي”. وفي النظرية الأصلية لفرنادسكي، فإن “مجال نو” هو المجال الثالث في سلسلة مراحل نمو الأرض، بعد المجال الأرضي. (المصدر: ويكيبيديا)

[8] كُلانية: الكلانية، هي الفكرة القائلة بأن الأنظمة الطبيعية وسماتها، يجب أن ينظر إليها على أنها متكاملة، وليس على أنها مجموعة من الأجزاء. وغالبًا ما يشتمل ذلك على وجهة النظر بأن الأنظمة تعمل بشكل ما كأنظمة متكاملة، وأن وظائفها لا يمكن فهمها بشكل كامل بصفة مفردة فيما يتعلق بالمكونات المكونة لها. (المصدر: ويكيبيديا)

[9] فريتيوف كابرا: فيزيائي أمريكي، ومتخصص في نظرية الأنظمة والإيكولوجيا العميقة. (المصدر: ويكيبيديا)

[10] نسبة إلى المركز الذي أسسه الفيزيائي الأمريكي فريتيوف كابرا لدراسة الإيكولوجيا بولاية كاليفورنيا الأمريكية. (المصدر: ويكيبيديا)

[11] نظرية تفترض أن “الذاكرة الكامنة في الطبيعة” والنُظم الطبيعية مثل مستعمرات النمل الأبيض، أو الحمام أو النباتات الساحلية، أو جزيئات الأنسولين، ترث الذاكرة الجماعية من كل الأفراد السابقة من نوعها”. يقترح شيلدريك أنها مسؤولة أيضا عن “التخاطروالترابط بين الكائنات الحية”.  تشمل النظرية الخوارق مثل الاستبصار والتخاطر، وكذلك التفسيرات غير المألوفة للمواضيع القياسية في علم الأحياء مثل النمو، والوراثة، والذاكرة. (المصدر: ويكيبيديا)

[12]  روبيرت شيلدرايك: مؤلف، ومُحاضر شعبي، و باحث في “علم النفس الغيبي” وبخاصة النظرية المعروفة “بصدى التحول” في مجالي الكيمياء الحيوية وبيولوجيا الخلايا في جامعة كامبريدج بين عامي 1967 و1973 وعالمًا في مجال فيزيولوجيا النبات بالمعهد الدولي لبحوث المحاصيل في المناطق المدارية شبه القاحلة حتى عام 1978. (المصدر: ويكيبيديا)

[13] تقترح هذه الفرضية تفاعل الكائنات الحيّة مع محيطها اللاعضوي على الأرض لتشكيل نظام معقّد تآزري مستتب، بهدف المساعدة في الحفاظ على الظروف المواتية للحياة على الكوكب وإدامتها. وقد صاغها الكيميائي جيمس لوفلوك، وشارك في تطويرها عالم الأحياء الدقيقة لين مارغوليس في سبعينيات القرن الماضي. أطلق لوفلوك اسم جايا على الفرضية، تيمّنًا بالإلهة البدائية المجسّدة للأرض في الأساطير الإغريقية. (المصدر: ويكيبيديا)