مجلة حكمة
فلسفة زائفة العلوم الزائفة

في ظل العلوم الزائفة هل يوجد فلسفة زائفة أيضًا؟ – ماسيمو بيجليوتشي / ترجمة: عبير الوليعي، مراجعة: يبرين المزيني


انتقلت إلى (نوكسفيل، تينيسي) بعد إتمامي لبحث ما بعد الدكتوراة في جامعة براون. لأشغل منصبي الرسمي الأول “بروفيسور مساعد في علم النبات والأحياء التطورية” في عام 1995،. لم أكن أعرف شيئًا عن (ولاية تينيسي) سوى أن إعلانات (ويسكي جاك دانيلز) كانت مشهورة في (إيطاليا)،. وكنت متحمسًا للمجيء إلى الحرم الجامعي وإنشاء معملي الجديد، شغوفًا بعلم الوراثة التطوري النباتي. وكنت عازمًا على استقطاب طلبة الماجستير وباحثيّ الدكتوراة، كما عزمت على أن أجعل من مدينة “k” -كما يسميها المحليّون- وطني الجديد.

لكنني لم أضع بالحسبان أن (تينيسي) هي إبزيم الحزام الإنجيلي [1]،حيث أن٩٠% من سكانها يعتنقون مذهب الخَلقية[2] ويرفضون نظرية التطور، فقد اكتشفت لاحقًا بأن جيراني يعتبرونني أجنبيًا عنهم بعض الشيء، وبعض طلابي يحذِّرون زملائهم مني؛ زاعمين أنهم بحضور محاضراتي سيحصلون على تذاكر مجانية إلى الجحيم. ذاع صيتي في المدينة من خلال مقالاتي في الصحف و ظهوري في قنوات التلفزيون المحلية، حتى وصل الأمر بأحدهم أن يلحق بي في مرآب السيارات التابع للمكتبة ليسألني بلطف بالغ إن كان قد سبق لي قراءة الإنجيل، أخبرته بنفس اللطف بأنني قرأته، وسألته أيضًا إن كان قد سبق له قراءة كتاب (أًصل الأنواع) فبدا متفاجئًا من الفكرة.

وأصدرت السلطة التشريعية في تينيسي أثناء دراستي للفصل الثاني قرارًا متهورًا ينص على تدريس التطورية والخَلقية في المدارس الثانوية بحصص زمنية متساوية، وتفاجأت عندما قرأت الخبر. وجاءت البي بي سي وعدة قنوات أخرى لتغطية هذا الخبر، وقد راسلت عددًا من ممثلينا لأشرح لهم مدى سخافة الفكرة، إلا أننا نجونا منها؛ فقد بقيت حبيسة ملفات اللجنة التشريعية ولم تنفَّذ. منذ ذلك الوقت بدأت بأخذ طلابي في نزهات صيفية إلى مدينة (دايتون) المجاورة حيث حدثت فيها محاكمة القرد [3] سيئة السمعة عام 1925، وبمساعدة بعض الزملاء وطلاب الدراسات العليا بدأنا فعالية سنوية ليوم داروين العالمي لتعريف العامَّة بطبيعة العلم وعلاقته بالدين.

كانت هذه الواقعة هي بداية اهتمامي بالعلوم الزائفة الذي ظهر جليًا في محاضراتي العامة وكتاباتي في مجلّات متعددة؛ من أشهرها مجلة سكيبتكال إنكوايرر (Skeptical Inquirer)، وقد نَشرت عدة كتب في ذات المجال منها:( (Denying Evolution عن معتقد الخَلقية بشكل خاص، وكتاب ( Nonsense on Stilts) الذي يتناول العلوم الزائفة بشرح مطوَّل.

اتجهت بعد عدة سنوات نحو الفلسفة وسجلت في برنامج الدكتوراة في جامعة (تينيسي) ذاتها مما دفعني إلى تغيير تخصصي كليًا، فبدأت بتدريس فلسفة العلوم في جامعة مدينة (نيويورك) ومازلت كذلك، وخمن ما هو أساس منحتي الدراسية الفلسفية؟ طبيعة العلوم الزائفة، ومعضلة رسم الحدود المزعومة بين العلوم الحقيقية والزائفة. (نشرت كتابين أكاديميين عن هذا الموضوع هما:  The Philosophy of Pseudoscience، و  Science Unlimited?).

لايوجد تفريق واضح وبسيط بين العلوم الزائفة والحقيقية حسبما اتفق الجميع في فلسفة العلوم، فالأمر يبدو وكأنه تصورّ مفاهيمي شبيه بالرسم التالي: 

 

دعونا نحدد مكاننا: يمثل السهم الأفقي مقياس مدى التطور النظري، ويمثِّل السهم الرأسي مقياس المحتوى التَّجريبي، كلما ارتفعت درجة أحد العلوم أفقيًا ورأسيًا صنِّف من العلوم الحقيقية المعتد بها؛ ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: الفيزياء الأساسيَّة والكيمياء والأحياء، وعلى النَّقيض من ذلك، حين تنخفض درجة العلم في كلا السهمين الأفقي والرأسي فإنَّه يقترب إلى العلوم الزائفة، مثل: التَّنجيم ونظرية التَّصميم الذكي في مذهب الخَلقية[4] وإنكار متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الاعتقاد العجيب بأن فيروسHIV  لا يسبب الإيدز).

هذا مما لايختلف عليه إن كنت تعيش بعيدًا عن الحزام الإنجيلي على الأقل. وأكثر جزئية مثيرة للاهتمام هي العلوم التي تقع في منتصف الرسم، بعضها مجالات ضعيفة نظريًا لكنها ذات محتوى تجريبي دسم؛ كعلم النفس مثلاً، وبعضها متقدِّمة نظريًا لكن لا دليل عليها، مثل نظرية الأوتار في الفيزياء، لاتعد هذه العلوم علومًا زائفة لكنها ليست علومًا متقدمة أيضًا.

لدينا أيضًا ما يتعلق بمشروع البحث عن ذكاء خارج كوكب الأرض (SETI)، نظرية وجود ذكاء خارج الكرة الأرضية هي نظرية بدائيَّة جدًا؛ تقوم على أمل وجود حياة في الخارج ولها نظام نفسي وتقني شبيه بنظام الأرض، وهذا ما لم تثبته التَّجارب حتى الآن، و بالقرب من (SETI)  تركن بعض العلوم الزائفة زيفًا حقيقًا مثل: الباراسيكولوجيا “علم النفس الماورائي”[5]، لكن زيفها ليس بشناعة التَّنجيم أو الخَلقية، فقد أثمرت مؤخرًا بعض البحوث التَّجريبيَّة في مجالات ما وراء علم النَّفس إلا أنَّ الأدلة عليها ماتزال شحيحة، ونظرياتها شبه معدومة.

إنَّ تغيّر الخريطة المفاهيميَّة عبر الزمن إشكاليَّة إضافيَّة لم توضَّح في الرسم؛ وكان ينبغي تمثيلها بسهم ثالث يمتد إلى خارج الورقة. لنأخذ علم التَّنجيم والخيمياء على سبيل المثال؛ فقد كانت في حقبةٍ ما جهودًا علميَّة معترف بها، مارسها (بطليموس) و (نيوتن) ومن تَبِعهم من العلماء، وصنّف كلا المجالين الآن من العلوم الزائفة. أشرت أنا وزميلي وشريكي في التَّحرير (مارتن بودري) إلى هذه الظاهرة “بالثقب الأسود في العلوم الزائفة”، لأنه حين يدخل أحد العلوم في نطاق العلوم الزائفة لا يخرج منه أبدًا إلى العلوم الحقيقية، أو على الأقل لم نجد مثالاً لهذا.

لم يكن اطِّلاعي محصورًا فقط في مجال دراستي لفلسفة العلوم، بدأت أطَّلع على الأفكار الفلسفيَّة الحديثة بجميع مجالاتها مع مرور السنين، وجدت أن بعضها كان مثيرًا وبعضها محيِّرًا وبعضها الآخر شديد الغرابة، عندها بدأ الشك يراودني شيئًا فشيئَا، فإن كنّا نستطيع الحديث بمنطقيَّة عن الخط الرقيق الذي يفصل بين العلوم الحقيقيَّة والزائفة، نستطيع أن نتصور حدًا غامضًا يفصل بين الفلسفة الحقيقيَّة والزائفة.

أفكاري عن الموضوع الأخير ليست محكمة كسابقتها؛ ولكن سأخبركم بها على أي حال، سنبدأ برسم شكل توضيحي شبيه بالسابق، سنحاول فيه تمثيل نظرتي للتَّصور المفاهيمي للفلسفة الحقيقية والزائفة، السهم الأفقي هذه المرَّة يمثل مقياس الاتساق الدَّاخلي، ولكن المشكلة هي في الأساس الفلسفي غير المترابط داخليًا فهو قد يؤدي إلى تناقضات أو إلى ما هو غير منطقي. السهم العمودي يمثل ما أسميته “الاتساق الخارجي”؛ والذي يقيس مدى توافق الفكرة الفلسفيَّة مع العالم الخارجي، خاصةً إذا بنيت على أساس علمي.

لماذا ينبغي للفيلسوف أن يعتني بالاتساق الخارجي؟ أحاججّ هنا بإسهاب بأن الفلسفة عبارة عن نوع من البحوث الهجينة؛ فهي من جهة تدرس القضايا المفاهيميَّة، بالتالي فهي شبيهة بالرياضيات والمنطق، وتدرس كيف يعمل العالم الخارجي من جهة أخرى، وبالتالي هي شبيهة بالعلوم أيضًا. تتقدم الفلسفة من خلال استقراء المفاهيم التصوريَّة؛ ولكن لابد لهذا الاستقراء أن يكون مبنيًا على دليل تجريبي ومدعومًا به، من الممتع مثلاً تشييد أطر أخلاقية بديلة؛ كأخلاقيَّات الفضيلة والأخلاق الكانطيَّة والنفعيَّة، لكن لابد أن نضع بعين الاعتبار ما إذا كانت هذه الأخلاقيَّات تناسب البشر حقَا أم لا، فلا فائدة منها إن لم تكن كذلك.

يبدو الرسم الثاني ناقصًا ومشوشًا مثل تفكيري، سأعدِّل الرَّسم وفقًا لتعليقات القرَّاء عليه في المستقبل، لكن دعوني أشرحه الآن لتتضح فكرتي.

لنبدأ بالقضية الأيسر: نجد في الأعلى المجالات الفلسفيَّة المتِّسقة اتساقًا عاليًا داخليًا وخارجيًا؛ مثل المنطق، وما يسمَّى بالميتافيزيقيا العلميَّة، وفلسفة العلوم، والابستمولوجيا (نظرية المعرفة)، إن البحوث الفلسفيَّة في هذه المجالات مدروسة بدقَّة وإلمام من خلال العلوم ذات الصلة بها.

وضعت في الجهة المقابلة بعض الأمثلة على العلوم الزائفة (كما أراها) التي تحقق درجة منخفضة في الاتجاهين: العلاج الكمِّي لـ (ديباك شوبرا) (أو لنقل كل شيء كتبه ديباك شوبرا)، والهراء الواضح كما في كتاب “السر” الذي يفترض بأن العالم سيعيد تكوين نفسه لكي يحقق رغباتك عندما ترغب بها بشدة.

كما هو الحال في الرسم الأول؛ تزداد الأمور إثارة عندما ننظر إلى الوسط، أعتقد بأن الاتِّساق الداخلي للمناهج الطبيعيَّة للأخلاق مثلاً- كأخلاقيِّات الفضيلة- أكثر ضعفًا أو غموضًا من الأطر النموذجية مثل الكانطية والنفعية، يعود السبب في نظري إلى انسجامها مع  جبلَّة الإنسان وسلوكه.

تبدو لي الواقعيَّة الصوريَّة أشبه بالفكرة المتسقة داخليًا، وليس هذا فقط بل وجميلة أيضًا، وهي القول بأن جميع العوالم الممكنة منطقيًا حقيقية وموجودة كوجود عالمنا، يميزها الاختلاف التام عن ما نعرفه عن العالم. تعد فلسفة العقل من المجالات المتقدمة، وأعتقد أنها ترتبط بعلم الأعصاب بصورة جزئية وقد يقل ارتباطها به تدريجيًا إن كنت متشائمًا بشأن الجهود فيه (مثلي). تستمد فلسفة الجمال الكثير من الحقائق عمّاا يراه الناس جميلًا أو قبيحًا، ولكن يشوبها العديد من العيوب التي لا تتوافق مع الأدلة التجريبية، على الأٌقل حين تنظر إليها من الخارج -كما أنظر إليها-.

وأخيرًا وصلنا إلى القضية الكبرى: “الفلسفة الأولى” الميتافيزيقيا، التي كتبت عنها سابقًا، ما يزال هذا هو المنهج المتَّبع في الميتافيزيقيا، وليعذر المرء على زعمه أنها قضت نحبها منذ قرون مع (ديكارت). إن مصطلح الفلسفة الأولى يشير إلى اعتنائها بالأسس الجوهريَّة للواقع، وتتضمن افتراضات عن هذه الأسس بنيت على المنطق وحده، ولها تاريخ مجيد وبعيد يمتد من فلسفة ما قبل (سقراط) إلى (ديكارت نفسه)، لكن تجربة (ديكارت) الذهنيَّة الشهيرة عن الشيطان الذي وسوس إليه أنه يعرف بعض الأشياء التي لا يعرفها حقًا أثبتت بأن المرء لا يمكنه بناء معارف يعوَّل عليها عن الواقع بلا أدلَّة تجريبية، والسبب في هذا يعود لإمكانيَّة وجود عوالم حقيقية متَّسقة منطقيًا، والطريقة الوحيدة لتصفية هذه العوالم وإيجاد الحقيقي منها هي الملاحظة والتجربة ( إلا إذا كنت من رواد الواقعية الصورية طبعًا!).

قضت الفلسفة الأولى نحبها عندما ولد العلم الحديث (ديكارت ما هو إلا نسخة معاصرة من غاليليو غاليلي)، وبالتالي فإن تطوّر العلوم الميتافيزيقية المذكورة آنفًا التي تنشغل بالرؤى المتباينة حول العالم المستقاة من العلوم الخاصة لكي تتوصل إلى رؤية واحدة متَّسقة للعالم ومكاننا منه.

لكن الفلسفة الأولى لاتزال حيَّة ترزق، ابتداءً من نظرية الزومبي الفلسفي[6] لـ (ديفيد تشالمرز) التي لا تخبرنا شيئًا عن الوعي إلى أفكار (فيليب غوف) الوهميَّة حول الروحية الشاملة”panpsychism” وإلى توقعات (نيك بوستروم) عن احتمالية خضوع حياتنا للمحاكاة[7] أو لرغبات نظام ضخم لمراقبة الكوكب. 

هل الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقيا التحليليَّة –كما تسمى- فلسفة زائفة؟ إن لم تكن زائفة فهي قريبة جدًا إلى الزيف؛ لأسباب مشابهة لأسباب زيف العلوم الزائفة؛ مثل الباراسيكولوجيا و SETI ، قد يعترض أحدهم قائلاً: هل كانت الميافيزيقيا فلسفة زائفة منذ البداية؟ بدءًا من فلسفة ما قبل (سقراط)  و (أفلاطون)  وفلسفة القرون الوسطى وانتهاءً بـ (ديكارت)؟ لا، كما لم يكن التنجيم علمًا زائفًا في زمن (بطليموس)، ولا الخيمياء في زمن (نيوتن)، بالرغم من كونها كذلك الآن.

تتطور مجالات البحث والدراسة عبر الزمن، يوجد سهم ثالث في الرسم السَّابق يمثل الزمن للفلسفة الزائفة والحقيقية، من الواضح أن مسألة دخول الميتافيزيقيا في الثّقب الأسود للعلوم الزائفة محل نزاع، أظن بأنَّها دخلت أو قريبة جدًا للدخول، قد يعارض بعضهم ويصرّ بأن تكهّناتهم وهم متَّكئين على مقاعدهم الوثيرة قد تدلنا على طبيعة العالم، وعلى كلٍ ستكون هذه مناقشة تستحق أن نخوضها، قد يستطيع أحدهم أن ينير بصيرة المشاركين فيها إلى طبيعة ما يفعلونه.

 

المصدر


هوامش:

[1] الحزام الإنجيلي: هو مصطلح غير رسمي يُطلق على إقليم يقع في جنوب شرق إلى وسط جنوب الولايات المتحدة الأمريكية حضور الكنيسة المسيحية فيه أعلى منه في بقية الولايات المتحدة. المصدر: ويكيبيديا. (المترجمة)

[2] الخلقية creationism)): الاعتقاد بأن السموات والأرض هي من خلق وإبداع الله جل وعلا، يتحدث الكاتب عن أفكاره في هذا المقال انطلاقًا من معتقداته الإلحادية.(المترجمة)

[3] محاكمة القرد: حدثت محاكمة القرد في مدينة دايتون الواقعة بولاية تينيسي، كانت المحاكمة لمعلم يُدعى جون توماس سكوبس، حيث اتهم بانتهاك قانون الولاية عندما درَّس نظرية التطور للتلاميذ، وقد دبَّر سكوبس لعملية اعتقاله بالتعاون مع رجل أعمال في الولاية ليثبت عدم دستورية القانون.(المترجمة)

[4] التصميم الذكي (intelligent design): الاعتقاد بأن الكون من صُنع خالق ذكي “الله”.(المترجمة).

[5] علم النفس الماورائي أو الموازي (parapsychology): الإدراك خارج الحواس، مثل التخاطر والاستبصار والتحريك العقلي (المترجمة).

[6] الزومبي الفلسفي: نسخ مادية كاملة للكائنات البشرية تفتقر للتجربة والوعي (المترجمة).

[7] فرضية المحاكاة أو نظرية المحاكاة: هي فرضية تقول بإمكانية كون الواقع الذي نعيشه -بما في ذلك الأرض وبقية الكون- في الحقيقة محاكاة اصطناعية مثل محاكاة الكمبيوتر. المصدر: الموسوعة الحرة(المترجمة)