مجلة حكمة
خوسيه أورتيغا اي غاسيت

خوسيه أورتيغا اي غاسيت

الكاتبأوليفر هولمز
ترجمةكوثر فاتح
مراجعةمحمد الرشودي
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول سيرة الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا اي غاسيت، وتطوره الفكري في الكانطية، الفينومينولوجيا؛ نص مترجم ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل  منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعأونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


خوسيه أورتيغا اي غاسيت (1883-1955) فيلسوف إسباني متميز من فلاسفة القرن العشرين. عمل بصفته فيلسوفًا، ومنظرًا اجتماعيًا، وكاتبًا، وناقدًا، ومعلمًا، وسياسيًا ومحررًا لمجلة Revista de Occidente  (مجلة الغرب)، وكتب في عديد من المواضيع والقضايا فقد كان غزير الانتاج، من بين كتبه: تأملات في كيشوت Meditaciones del Quijote   (1914) ، اسبانيا اللافقرية España invertebrada (1921) ، موضوع عصرنا El tema de nuestro tiempo  (1923) ، أفكار حول الرواية ideas sobre la novela  (1925) ،لاانسنة الفن La deshumanización del arte (1925) ، ما هي الفلسفة ؟  ¿Qué es filosofía? (1929)، ثورة الجماهير  (1930) La rebelión de las masas، حول جاليللي (1933)  En torno a Galileo، التاريخ بصفته نظامًا (1935) Historia como sistema، إنسان وشعب  (1939-40)، أصل الفلسفة Origen y epílogo de la filosofía (1943)، فكرة المبدأ عند ليبنتز وتطور نظرية الاستنتاج La idea de principio en Leibniz y la evolución de la teoría deductiva (1948). له أيضًا مئات المقالات التي جمعت أهمها في اثني عشر مجلدًا وترجمت العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

تكشف كتاباته الرئيسية عن تطور فكري ألهمته تجارب الحياة فعبر عنها من زوايا فينومينولوجية، تاريخانية ووجودية. اذ تجد فلسفة خوسيه أورتيغا اي غاسيت عن الحقائق الاجتماعية والتاريخية تعبيراتها المتعددة ضمن تصوره عن الحياة البشرية باعتبارها واقعا أساسيا و “حدوثا”، إلى جانب تمييزه انطولوجيا بين” الوجود “و” الوجود الفعلي “، ووصفه للتفاعل بين” الأنا “و” الآخرين “في المجتمع، مناولته المتميزة لمفاهيم” الجيل “، و” المعاصرين “وأفكاره بشأن ” المنظوريانية perspectivism “، و” الحيوي “و” العقل التاريخي “.  هذه التوجهات الفكرية، دفعت أورتيغا للاهتمام بالوضع الابستيمولوجي للمعرفة التاريخية، وجعلته أقرب للفلسفة النقدية للتاريخ باعتبارها تداخلا للمواقف الفلسفية والتاريخية. اذ تنظر هذه الفلسفة النقدية للتاريخ بوصفه نتاج النشاط الانساني والعقل. يمثل أورتيغا، إذن، المفكر المعاصر المتأمل للتاريخ من زاوية الفلسفة، والذي جسدت نظرياته عن التاريخ كمصدر للمعرفة البشرية ميله إلى ربط مفاهيم الزمان والتاريخ بالعقل. هو بذلك قد تجاوز المقاربة الوضعية للتاريخ وساهم في بناء المفهوم الحديث للتاريخ والقائل بوجود صلة ومعنى في تاريخ البشرية ينبثق من مبدأ الاستمرارية المتأصل في حياة الفرد.

 


1. السيرة الذاتية

1.1 الحياة المبكرة

ولد خوسيه أورتيغا اي غاسيت في 9 مايو من عام 1883 بمدريد، والداه هما خوسيه أورتيغا مونيلا ودولوريس غاسيت شينشيلا وترتيبه هو الثاني بين اخوته الأربعة، إدواردو (1882)، خوسيه، اخته رافائيلا (1884) ثم مانويل (1885). والدته هي ابنة إدواردو غاسيت اي ارتيم Eduardo Gasset y Artime مؤسس يومية  El Imparcial الليبرالية الشهيرة. خلال الفترة ما بين 1900 إلى عام 1906 قسم أورتيغا وقته بين الكتابة الإبداعية والعمل كمحرر لمؤسسة العائلة.

بين 1891 و1897 تلقى أورتيغا واخوه إدواردو تعليمهما في المؤسسة اليسوعية Collegio de San Estanislao de Kostka بضاحية   Miraflores del Palo بمالاقا وهناك درس اليونانية وعلوما أخرى متتلمذا على يد الاب Gonzalo Colomer ليحصل بعدها على الباكالوريا.

 في نوفمبر 1897، التحق الشاب خوسيه أورتيغا اي غاسيت بالجامعة اليسوعية في ديوستو  Deusto  ، في بلبأو  Bilbao ، برفقة الأب كولومر ، لدراسة فقه اللغة واليونانية على يد الباحث الشهير خوليو سيجادور إي فراوكا Julio Cejador y Frauca. بقي أورتيغا في ديوستو حتى 13 مايو 1898 لدراسة الفلسفة والآداب والقانون، ليحصل على شهادة التميز في امتحانات السنة الأولى في جامعة سالامانكا. وكان ميغيل دي أونامونو Miguel de Unamuno ، وهو شخصية بارزة في الأوساط الفكرية الإسبانية وعميد الكلية ضمن فريق الممتحنين. انتقل بعد ذلك أورتيغا إلى جامعة مدريد ليحصل على شهادة الاجازة في الفلسفة والآداب يونيو 1902 ثم الدكتوراه عام 1904 وموضوعها عن اهوال العام ألف: نقد اسطورة Los terrores del año mil. Crítica de una leyenda. والتي ظهر من خلالها اهتمامه الأول بالقراءة التفسيرية للتاريخ وبالمظاهر الاجتماعية والسوسيولوجية لفترة تاريخية ما. خلال تواجده في جامعة مدريد جمعته صداقة متينة براميرو دي مايزتو Ramiro de Maeztu  الذي شاركه حماسه تجاه فلسفة نيتشه. سنة 1904 عاما قبل مغادرته باتجاه المانيا كتب أورتيغا مقالته الأولى بيومية جده El Imparcial  عن الشاعر البلجيكي Maurice Maeterlinck.

 

1.2 أورتيغا في ألمانيا

في أواخر فبراير 1905، غادر خوسيه أورتيغا اي غاسيت إسبانيا متوجهًا إلى ألمانيا “هاربًا”، كما وصف ذلك لاحقًا من “الابتذال في بلدي لأملئ نفسي بكل ما يمكنني التحرر منه” (El Imparcial, 19 January, 1908, p. 1; Obras, X: 24) استمرت هذه الرحلة الأولى إلى ألمانيا ثمانية أشهر حيث تسجل أورتيغا في جامعة لايبزيغ ليتابع دراسته في فقه اللغة والفلسفة. ضعف مستواه في اللغة الألمانية لم ييسر له دراسته لفقه اللغة، لكن هذا النقص اللغوي لم يردع حماسه فقد التحق بدورات اللغة واللسانيات الهندو-الأوروبية التي يدرسها الأساتذة بروجمان وماير. على الرغم من أن الوقت المخصص للدراسات اللغوية يصرفه إلى حد ما عن تعلم الفلسفة التي سعى إليها في البداية، الا انه تمكن من الانفتاح على كتابات فيلهلم فون هومبولت، أرنست رينان، هيبوليت تاين، آرثر شوبنهأور، فريدريش نيتشه وتشارلز داروين. تمكن أيضا من متابعة دورات علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس على يد فيلهلم ووندت Wilhelm Wundt الذي وعلى الرغم من شغله كرسي الفلسفة بالجامعة، عمل ايضا أستاذا لعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس في جامعة لايبزيغ.

عاد خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى مدريد في صيف عام 1906 ليتحصل على منحة من الدولة لاستئناف دراسته في ألمانيا لمدة عام آخر. ليعود بعد بضعة أسابيع هذه المرة باتجاه جامعة برلين، حيث يدرس ويلهلم ديلثي، فريدريش بولسن، إدوارد ماير ، هاينريش فولفلين ، جورج سيميل ، كارل ستامبف ، ماكس بلانك وألويس ريهل. لكن أورتيغا للأسف تابع محاضرات ريهل فقط أثناء وجوده في برلين ليفوت على نفسه فرصة مقابلة مفكرين سيعجب بهما لاحقا مثل ديلثي وسيميل. بعد ستة أشهر، غادر أورتيغا برلين إلى جامعة ماربورغ ليتابع دراساته للفلسفة في قلعة الكانطية الجديدة (Obras, VIII: 32)، وينضم إلى نيكولاي هارتمان، بول شيفر، هاينز هيمسوث تحت اشراف الكانطيين الجدد هيرمان كوهين الذي درسه كانط وتاريخ الفلسفة وبول ناتورب الذي اختص بتدريسه علم النفس والبيداغوجيا.  مكنت جامعة ماربورغ أورتيغا بفضل اهتمامها بالأساس المنطقي للعلوم الطبيعية وتركيزها على الجوانب المعرفية والمنهجية للفلسفة من الحصول على الأساس الفلسفي والتدريب الذي كان يسعى اليه.

 

1.3 أورتيغا في إسبانيا

في فبراير 1908، عاد خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى مدريد لينضم إلى طاقم تحرير يومية El Imparcial ويأسس لاحقا Faro، وهي مجلة أسبوعية كانت الأولى من بين مشاريع نشر عديد استثمر فيها. والتي نقل من خلالها تقييمه النقدي للثقافات الإسبانية والأوروبية. عند مغادرته إلى ألمانيا في عام 1905، كانت القضية الفكرية السائدة بين المثقفين هي تجديد إسبانيا عبر التساؤل   “ما الذي يجب فعله: هل الاتجاه نحو الهيسبانية أو الأوربة؟”

عند عودته في عام 1908، ظل هذا السؤال هو الموضوع الرئيسي للمناقشات المطولة، بينما شكلت الأفكار النقدية لأورتيغا الإضافة الجديدة. في إصدار عام 1908 من فارو Faro، صاغ المؤرخ والسياسي المحافظ غابرييل مورا إي جامازو (1879-1963) لأول مرة تسمية “جيل 1898”، والتي أشاعها الروائي أزورين (خوسيه مارتينيز رويز، 1873-1967)، وهو عضو المجموعة، في مقالات صحفية لاحقة في عامي 1910 و1913. في 23 فبراير 1908، انخرطت مورا في جدالات مع أورتيغا أشار من خلالها إلى “جيل اليوم؛ جيل ولد فكريا في جذور الكارثة “ (Obras, X: 31–38).  اكتسب جيل عام 1898 اسمه عندما تكشفت أحداث الحرب الأمريكية الإسبانية، والتي قدمت تصورا عن الكارثة الوطنية وشكلت سياقا لانتقاداتهم الوطنية والاجتماعية. نظر الإسبان إلى الحرب على أنها كارثة وطنية، واجتمع جيل عام 1898 لمناقشة ما اعتبروه انحطاط إسبانيا.

في يونيو 1908 تم تعيين خوسيه أورتيغا اي غاسيت أستاذا للأخلاقيات والمنطق وعلم النفس في المدرسة العليا للأساتذة La Escuela Superior del Magisterio. أواخر أكتوبر من نفس السنة، واثناء اجتماع لجمعية تقدم العلوم الذي انعقد في سرقسطة، تحدث أورتيغا بشدة لصالح تجديد إسبانيا من خلال انفتاحها على الفكر الأوروبي. تابع أورتيغا نقاشاته في هذه القضايا مع أستاذه السابق للغة اليونانية في جامعة سالامانكا، أونامونو، لكنه لامه على تفضيله “إفرقة Africanize ” أوروبا بدلاً من “أوربة” إسبانيا، وهو الاقتناع الذي أدى إلى خلافهما في العام التالي (Obras, I: 64).

 في 8 أكتوبر 1910، في مسابقة مفتوحة، تقدم أورتيغا أمام هيئة محلفين أنشئت لاختيار خليفة لكرسي الميتافيزيقيا، الذي ترك شاغرا بعد وفاة نيكولاس سالميرون (1838-1908). بعد شهر، حصل على الأستاذية في جامعة مدريد المركزية، في سن السابعة والعشرين. قبل ستة أشهر، في 7 أبريل 1910، تزوج أورتيغا من خطيبته، روزا سبوتورنو إي توبيتي Rosa Spottorno y Topete. بدءا من يناير إلى أكتوبر 1911، أمضى الزوجان شهر العسل المتأخر في ألمانيا، بفضل منحة صادرة عن وزارة التعليم العام. ولد ابنه الأول، ميغيل جيرمان، في ماربورغ في 28 مايو 1911. يكشف الاسم الذي اختاره لبكره عن أهمية ألمانيا بالنسبة لأورتيغا. في نهاية ديسمبر 1911 ، عاد أورتيغا إلى مدريد لتولي مهامه التعليمية ، وفي يناير 1912 ، تولى منصب أستاذ الميتافيزيقيا ، وهو كرسي شغله لمدة أربعة وعشرين عاما ، مع انقطاعين قصيرين فقط: مرة واحدة في عام 1929 ، عندما استقال للاحتجاج على الاعتداءات على الحرية الأكاديمية خلال ديكتاتورية ميغيل بريمو دي ريفيرا ؛ ومرة أخرى ، في عام 1931 ، عندما أصبح أورتيغا أحد الأعضاء الأوائل في المجلس التشريعي  التأسيسي الذي انعقد  في بداية الجمهورية الإسبانية الثانية حتى نفيه من إسبانيا  ابان الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936.

 

1.4 أورتيغا كزعيم فكري

عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأ خوسيه أورتيغا اي غاسيت في المساهمة في “المهمة الثقافية الأوروبية” لإسبانيا من خلال محاضراته حول بعض التيارات الرئيسية في الفكر الأوروبي تناول من خلالها الأفكار البيولوجية لهانز دريش، أغسطس وايسمان وجاكوب فون أوكسكول؛ الأفكار الفلسفية، الاقتصادية والاجتماعية لماكس شيلر، جورج سيميل وفيرنر سومبارت وتلك كانت سابقة في الجامعات الإسبانية. في يوليو 1916، غادر أورتيغا رفقة والده والعديد من المثقفين الإسبان الآخرين باتجاه الأرجنتين. هناك، بين أغسطس وأكتوبر، ألقى أورتيغا سلسلة من المحاضرات في جامعة بوينس آيرس حول كانط والفلسفة القارية المعاصرة. وجاءت هذه المحاضرات في أعقاب التحاق خوليو ري باستور، وهو عالم رياضيات إسباني بارز، هاجر إلى الأرجنتين هو الاخر لتجويد المستوى الرياضي والعلمي للتعليم في جامعة بوينس آيرس. خلال إقامته في بوينس آيرس بقي أورتيغا بعيدا عن الشؤون السياسية، باستثناء مقال نشره في يونيو 1917 انتقد فيه دور الجيش في السياسة. عجل هذا المقال برحيله النهائي عن يومية Imparcial والتحق مع شقيقه، إدواردو بيومية جديدة El Sol، أسسها صديقه المقرب Nicolás María de Urgoiti من Española La Papelera. ظهر العدد الأول في 1 ديسمبر 1917. بعد خمس سنوات، ساعد أورتيغا أيضا في إنشاء دار النشر Calpe (التي سميت لاحقا Espasa-Calpe)، والتي أتاحت إمكانية الحصول على الأدب الإسباني والأوروبي الكلاسيكي والمعاصر في طبعات بأسعار معقولة. خلال نفس الفترة أصبح أورتيغا مؤسس ومدير مجلة Revista de Occidente الشهرية، التي نشرت عددها الأول في يوليو 1923. سرعان ما أصبحت Revista، التي كانت موجهة نحو القراء المثقفين، واحدة من المجلات الفكرية المشهورة في أوروبا بل وصارت “مراجعة حقيقية للغرب “حيث إن العديد من المقالات، التي كانت ترجمات لأعمال نشرت سابقا في الخارج، تمثل اتجاهات فلسفية وعلمية مهمة ” للعصر “من أمثال كتابات: Spengler شبنجلر، Huizinga، Simmel، Uexküll، Brentano، Heimoseth، درايش Driesch، بفاندر Pfänder، مولر Müller، وراسل Russell.

لتصير بعدها المجلة مرجعا أساسيا للمثقفين بالتزامن مع Ortega’s tertulias التي كان مقرها في شارع Pi y Margall، وقد ساعدت بالأساس في تعزيز الجيل الشعري للمثقفين الشباب، “جيل 1927” نشأت هذا المصطلح لوصف التشابه مع شعراء وكتاب 1920 بإسبانيا. كما ويشير ايضا إلى اللحظة التي بدأ فيها المثقفون والطلاب في مقاومة ديكتاتورية الجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا معلنين بداية الجمهورية الثانية. كما حدث مع جيل 1898، خلقت الأزمة الوطنية في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية الإسبانية روحا جماعية، أو على الأقل هوية مشتركة. استطاع العديد من شعراء الطليعة الأصغر سنًا نشر اشعارهم لأول مرة في Índice، التي أسسها وأدارها خوان رامون خيمينيز مانتيكون (1881-1958)، وهو من أنصار كارل كريستيان فريدريش كراوس (1781-1832) في القرن التاسع عشر، والذي كان من الأوائل الذين اعادوا تقديم موضوعات الحداثة في الأدب الإسباني. وجد أعضاء آخرون من جيل 1927 مساحات للتعبير في  Revista de Occidente. كان أورتيغا، الذي نُشرت أعماله الرئيسية في العشرينيات من القرن الماضي، بمثابة أحد أهم الروابط بين الجيلين بفضل مساعدته للشعراء الأصغر سنًا حيث خصهم بكتابه لاأنسنة الفن (1925) جنبا إلى جنب مع Américo Castro (1885-1972)، Ramón Pérez de Ayala (1880-1962)، وEugenio D’ors y Rovira (1882-1954)، شكل أورتيغا زعامة فكرية ألهمت الإسبان الأصغر سنا لتطوير مساعيهم الإبداعية بشكل كامل.

كان هؤلاء الفنانين والشعراء الشباب يؤسسون لحياتهم المهنية على موجة جديدة اجتاحت الدوائر الفكرية في أوروبا وإسبانيا. وبدا أن السياسة تسعى إلى تعزيز الثقافة والفن. مع نضج هؤلاء الشعراء والفنانين الشباب وانضمامهم لجيل 1927، أصبحوا أكثر جرأة واستعداد لتجربة تقنيات ووسائل الإعلام الجديدة بغرض تأثير أكبر. وفي تعاون فيديريكو غارسيا لوركا (1898-1936) الودي مع الرسام سلفادور دالي (1904-1989) والمخرج السينمائي لويس بونويل (1900-1983) والملحن مانويل دي فالا (1876-1946) دليل عل الجمع بين التقنيات الجديدة لاستخراج الجواهر الغامضة من التجربة الإنسانية. شكلت أعمالهم صورا حية للتصوّف الجمالي التجريدي والسريالية الجديدة في عشرينيات القرن العشرين. ارتبطت هذه الأشكال الفنية الجديدة والأساليب الجديدة لإدراك الجواهر الخفية على الفور بالتعبيرات الجمالية التي تمردت على الأخلاق القديمة والقيم التقليدية، وطورت اهتماما أكبر بالسياسة ومثلت بالأساس حساسية إبداعية متزايدة. وامتدت هذه الحرية الجديدة في التعبير الجمالي إلى عالم السياسة. ففي أبريل 1929، بعد أن استقال أورتيغا من كرسي الميتافيزيقيا في جامعة مدريد المركزية احتجاجا على سياسات بريمو دي ريفيرا التعليمية القمعية، لجأ إليه العديد من هؤلاء المثقفين الشباب الذين يمثلون مواقف سياسية متنوعة للحصول على المشورة السياسية وناشدوه توجيه حركتهم الإصلاحية نيابة عن التوجه “الحديث” و “الفكري” نحو “الحرية” في إسبانيا. رفض خوسيه أورتيغا اي غاسيت الدور القيادي الذي اقترحه غارسيا لوركا ومجموعة من المثقفين الشباب وعرض، بدلا من ذلك، “تعاطفه ودعمه ورفقته”.

 

1-5 أورتيغا والجمهورية

في فبراير 1931، نظمت الحكومة الانتخابات البلدية وانطلق التحضير للانتخابات البرلمانية العامة. خلال الفترة نفسها، نشر خوسيه أورتيغا اي غاسيت، مع الطبيب والكاتب غريغوريو مارانيون (1887-1960) والروائي والشاعر بيريز دي أيالا، بيان ” ión Al Servicio de la RepúblicaAgrupa ” (“المجموعة في خدمة الجمهورية”)، مناشدة لتجمع المثقفين والمهنيين بغية تنفيذ الهدف الذي من شأنه توحدت جميع الطبقات والمناطق الجغرافية تحت راية وطنية واحدة. اقترحت مجموعة Agrupación لمتابعة الطريق بين “الطرق المسدودة” للشيوعية والفاشية قيام جمهورية. عبرت رؤية خوسيه أورتيغا اي غاسيت عن التصور السياسي والفكري والقيادة التي سعت إليها المجموعة الفكرية La Agrupación ومجموعة Lorca وذلك بعد التنازل المفاجئ لألفونسو الثالث عشر وإعلان الجمهورية في 14 أبريل 1931. على الرغم من محدودية القيود القانونية، دعمت La Agrupación  المرشحين الجمهوريين الاشتراكيين. وانتخب أربعة عشر عضوا من أعضاء الفريق، بمن فيهم أورتيغا ومارانيون وأيالا، في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيه. انتخب أورتيغا في المجلس التشريعي التأسيسي لمقاطعتي ليون وجاين؛ واستقال من المقعد في الأخير. كشفت نتائج الانتخابات أن المرشحين الجمهوريين حصلوا على ثلاثة أضعاف عدد الأصوات التي حصل عليها الملكيون. اجتمع المجلس التشريعي التأسيسي في 14 يوليو، وهو تاريخ تم اختياره بوعي ليرمز إلى تطابق الجمهورية الثانية مع روح الثورة الفرنسية عام 1789.في تاريخ أوروبا، تعد الجمهورية الثانية هي الخامسة عشرة والأخيرة من سلسلة الجمهوريات التي تشكلت خلال العقود الأولى من القرن العشرين.

بصفته عضوا في المجلس التشريعي، واجه خوسيه أورتيغا اي غاسيت صعوبات عملية متعلقة بطبيعة القيادة السياسية. اذ عارض Manuel Azaña y Díaz (1880-1940) وهو شخصية مهيمنة في الحكومة آنذاك، وأتباعه السياسيون أفكار وزعامة أورتيغا وشركائه في La Agrupación. في خريف عام 1932، تخلى أورتيغا عن النشاط السياسي عندما أصبح التواصل مستحيلا تقريبا بسبب الجدالات والصراعات المستمرة بين أتباعه واتباع أزانيا Azaña. عاد أورتيغا إلى كرسيه للميتافيزيقيا في جامعة مدريد المركزية دون ان يشعر بالأسى لمفارقته للسياسة. خلال الفترة الممتدة بين عودته إلى الجامعة واندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، واصل أورتيغا كتابة المقالات السياسية في El Sol منتقدا السياسيين الذين اعتقد أنهم مسؤولون في المقام الأول عن انحراف الجمهورية عن اهدافها.

 

1.6 نفي أورتيغا، عودته وسنواته الأخيرة

فشلت تدخلات خوسيه أورتيغا اي غاسيت الحادة في حمايته من الاضطرابات السياسية التي شهدتها الجمهورية. وهكذا، في 31 أغسطس 1936، في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية، استشعر أورتيغا مرارة الخوف من عدم معرفته ما يمكن توقعه من أعدائه السياسيين، وغادر مع زوجته، أطفاله الثلاثة وشقيقه إدواردو في قارب فرنسي من أليكانتي إلى مرسيليا بمساعدة السفارة الفرنسية. استقروا جميعا في لا ترونش، بالقرب من غرونوبل. ثم انتقلوا إلى باريس حيث مكثوا طيلة شتاء 1937 إلى غاية أغسطس 1939، باستثناء رحلات قصيرة قاموا بها إلى هولندا والبرتغال. بدعوة من يوهان هويزينغا ، قدم أورتيغا محاضرات في روتردام وأمستردام ودلفت وليدن ولاهاي من أواخر نوفمبر 1937 إلى فبراير 1938. أكتوبر من نفس السنة، سافر أورتيغا إلى باريس حيث خضع لعملية استئصال المرارة. فبراير 1939، سافر إلى جنوب البرتغال للتعافي من العملية. أثناء تواجده في البرتغال، توفيت والدته في 21 أبريل 1939 في بلدة صغيرة (بوينتي جينيل) بالقرب من قرطبة؛ لتلحق بها اخته رافايلا في 12 نوفمبر من العام التالي. نهاية أغسطس، غادر أورتيغا إلى الأرجنتين برفقة زوجته وابنته. ليستقر هناك خلال الجزء الأكبر من الحرب العالمية الثانية، محاضرا في جامعة بوينس آيرس حتى أواخر فبراير / أوائل مارس في عام 1942، ليعود لاحقا هو وزوجته وابنته إلى استوريل بالبرتغال.

في أغسطس 1945، عاد خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى إسبانيا لأول مرة منذ اندلاع الحرب الإسبانية. قضى ما تبقى من الصيف في زومايا قبل أن يقفل راجعا إلى البرتغال في فصل الشتاء من السنة نفسها. عاد أورتيغا إلى بلده الأصلي في عام 1945 بعد تسع سنوات في المنفى. عودته هذه دفعت العديد من مواطنيه الجمهوريين الذين بقوا في المنفى للتشكيك في حياده. اما أنصار فرانكو فاعتبروه عدوا سابقا وغير جدير بالثقة. نتيجة لرقابة الدولة وتدخلها لم يتمكن أورتيغا من استئناف النشر في مجلة Revista de Occidente  فنشر في دوريات المانية. على الرغم من استعادة كرسيه في الجامعة لتدريس الميتافيزيقا رسميا، لم يستأنف خوسيه أورتيغا اي غاسيت تعليمه في الجامعة. ومع ذلك، في عام 1948، بمساعدة طالبه السابق، جوليان مارياس , Julián Marías (1914-2005)، أسس أورتيغا معهد El Instituto de Humanidades (“معهد العلوم الإنسانية”)، في مدريد ، حيث ألقى محاضرات ونجح في جذب العديد من الطلاب والمثقفين الليبراليين. وعلى الرغم من نجاحها، نادرا ما سمحت الحكومة للمعهد بالعمل بحرية وفي نهاية المطاف أوقفت أنشطته في عام 1950.

بين عامي 1949 و1955، تجنب خوسيه أورتيغا اي غاسيت ضغوط الحكومة الإسبانية من خلال توجهه إلى المشاركة في المؤتمرات والاجتماعات في الخارج حيث حظي بالاعتراف والتقدير. في أوائل يوليو 1949، اتجه إلى الولايات المتحدة حيث زار أسبن ، كولورادو ، مع صديقه الحميم أرنست ر. كورتيوس ، المؤرخ الثقافي ، للحضور والمشاركة في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لميلاد غوته Goethe تحت رعاية وتوجيه روبرت م.هاتشينز وجامعة شيكاغو. في سبتمبر ، زار هامبورغ وبرلين ودارمشتات وميونيخ لأسباب مماثلة. في آب / أغسطس 1951 عاد إلى ألمانيا للمشاركة في مؤتمر في دارمشتات برعاية العلماء والمهندسين المعماريين لمناقشة “الإنسان والفضاء”، هناك التقى هايدجر وحصل على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة ماربورغ. كان هذا الاجتماع القصير في دارمشتات لطيفا على ما يبدو، حيث لم يتناول أي من الفلاسفة القضية الحساسة للأصالة أو أوجه التشابه في جوانب معينة من فكرهما أثناء محادثاتهما الخاصة. في عام 1951، حصل على دكتوراه فخرية أخرى من جامعة غلاسكو. نتيجة لإصابته بسرطان مزدوج في المعدة والكبد قلت سفرياته بعد محاضرته الأخيرة التي ألقاها في مايو 1955 في البندقية. في 18 أكتوبر 1955، توفي أورتيغا في شقته في الطابق السادس في Calle Monte Esquinza 28 بمدريد.

2. التطور الفكري

2.1 الكانطية الجديدة والبحث عن المنهج

فصل خوسيه أورتيغا اي غاسيت نفسه عن كل انتماء لأية مدرسة فكرية معينة، وان كان هو أول من اعترف بأن أفكار الفيلسوف مرتبطة بالتقاليد الفلسفية السابقة. فهو يصرح:

في توجهنا الفلسفي الحالي وفيما ينتجه من قضايا وتصورات، نلمس حضورا كبيرا للفكر والقضايا السابقة. كما لو ان الفلاسفة السابقين هم معأونونا الذين يعيشون ويستمرون في فلسفتنا “(Obras, IX: 360)

 اثناء دراسته في جامعة ماربورغ تأثر أورتيغا بالفلسفة الألمانية بوجه عام والكانطية الجديدة بالأخص وهيرمان كوهين على وجه التحديد والذي كان استاذه إلى جانب بول ناتورب. تحدث أورتيغا عن هذا في كتابه (مقدمة للألمان) وأشار إلى كوهين بـ “استاذي” (Obras, VIII: 13-58).

 هذا التأثير للكانطية الجديدة بماربورغ واضح في كتابات خوسيه أورتيغا اي غاسيت. فهو حاول تمييز الفلسفة عن الافتراضات والتأكيدات سواء، كانت مثالية أو وضعية، للميتافيزيقيا التأملية. رفض أورتيغا الأنظمة الميتافيزيقية التأملية، ومثل كوهين، رفض أيضا مقاربة العلوم الطبيعية انطلاقا من نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا) القائمة على تفسيرات طبيعية ونفس-فيزيائية للواقع الحسي أو المثالية “الذاتية”. لكن أورتيغا يتردد في المضي قدما كما فعل كوهين، في افتراض ان “حقائق” العلم يتم تحديدها بالكامل بالفكر، وهو ما يدفعنا للقول بأن شيئا من ميتافيزيقيا الكانطية الجديدة ما يزال حاضرا في لفلسفته الأساسية. لأنه بدلا من افتراض ان الفكر الخالص حقيقي فقط، استبدل أورتيغا منطق كوهين بمفهوم “الحياة البشرية”. بعبارة أخرى، فإن نظرة أورتيغا المعممة للوجود تشير إلى حياة الإنسان بدلا من المنطق البشري كمبدأ موحد وأساسي للواقع. كانت كتابات أورتيغا الرئيسية معنية بفكرة الحياة باعتبارها “الحوار الديناميكي بين الفرد والعالم”؛ لم يكن مهتما، كما كان كوهين، بإسناد التجربة الخارجية إلى حقيقة تتوقف على مبادئ المنطق والفيزياء الرياضية. “بنية الحياة هي باتجاه المستقبل”، كتب أورتيغا:

” الفكرة المهيمنة في كتاباتي المستوحاة بالتأكيد من الأسئلة التي أثارها منطق كوهين بعيدة جدًا عن المشكلة الحيوية التي أطبقها عليها.”  (Obras, IV: 403–4)

 هذا التمييز الذي وضعه أورتيغا بين منظوره الحيوي ومنطق كوهين الشامل يوحي بأن تجربة أورتيغا في ماربورغ جعلته أقرب إلى الكانطية النقدية الجديدة منه إلى الكانطية الجديدة المطلقة. أصبح النهج النقدي للقضايا الفلسفية عاملا مهما في فكر أورتيغا وفي التعليم الفلسفي الذي تلقاه.

في كتابه (تأملات في الذكرى المئوية لكانط) في عام 1929، أشار خوسيه أورتيغا اي غاسيت، وبشكل مجازي، إلى صراعه مع كانط ومع الكانطية الجديدة وكأنه في “سجن كانط”. (Obras, IV: 25) وفي كتابه (مقدمة للألمان)، أقر بتجربته في جامعة ماربورغ كعامل مهم في تطوره الفكري. اما في “في هذه المدينة”، كتب: “قضيت فيها منتصف شبابي؛ أدين لها، على الأقل، بنصف أحلامي وكل تخصصي تقريبًا “(Obras, II: 558–59, VIII: 20-21).

شكلت عودة خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى ماربورغ في عام 1911 منعطفا آخر في اهتماماته الفكرية وتطوره الفلسفي بكتابه (مقدمة في الفينومينولوجيا) أي الظاهراتية. تحدث في كتاباته اللاحقة أنه أثناء دراسته في ماربورغ، كان هو وزملاؤه من طلاب كوهين وناتورب منغمسين بعمق في المثالية الكانطية الجديدة. غالبا ما عبر أورتيغا وزملاؤه نيكولاي هارتمان، هانز هايمسوث وبول شيفر لأساتذتهم عن نقاط اتفاقاتهم وخلافاتهم أو عدم رضاهم مع بعض ما جاءت به الكانطية الجديدة. أصبحت الروح النقدية “العفوية” الفكرية واضحة في ردود أفعالهم على جميع القراءة التي قاموا بها لكانط، بارمينيدس، والفلسفة الكلاسيكية بشكل عام. للقول بحدود فكر كانط فيما يتعلق بالاتجاهات المعاصرة في الفن والأدب والفلسفة، انتقل أورتيغا وزملاؤه إلى ما وراء المثالية الكانطية الجديدة نحو “الساحل الخيالي”. ومثل أي رحلة على طول السواحل الخيالية، يحتاج الامر إلى أنظمة ملاحة وكانت هي الفينومينولوجيا بالنسبة لأورتيغا وزملائه.  Obras, VIII: 20, 42). ومع ذلك، فإن هذه “الصحوة المشتركة” للفوج الشاب انتهت بهم إلى مسارات منفصلة. ففي عام 1911، تحدوا، كمجموعة من الطلاب، بشكل جماعي مواقف استاذتهم. عند مغادرتهم ماربورغ، كان عليهم أن يتابعوا مسارهم الفينومينولوجي بشكل مستقل، وأن يؤسسوا معا لبنية هذا المبحث.

 

2.2 الفينومينولوجيا كمنهج

بعد عام 1911، واصل كل من أورتيغا وهارتمان اهتمامهما بالفينومينولوجيا (الفلسفة الظاهراتية). خلف هارتمان ناتورب في كرسي الفلسفة في ماربورغ في عام 1924، وأثر بدوره في كل من مارتن هايدجر وهانز جورج غادامر. في عام 1912، انصرف أورتيغا إلى دراسة الظاهراتية “بجدية” وفي عام 1913، تذكر بعد ذلك بسنوات كتاب Jahrbuch für Philosophie und Phänomenologische Forschung، وIdeen لهوسرل (أفكار تتعلق بالظاهراتية البحتة، [1913، 1982])، ثم الشكلانية في الأخلاق والأخلاقيات اللاشكلانية للقيم لشيلر.

 في وقت لاحق من ذلك العام، في سلسلة من المقالات التي نُشرت في Revista de Libros، كتب أورتيغا مراجعة طويلة لأطروحة Heinrich Hoffman، Studies on the Concept of Sensation دراسات حول مفهوم الإحساس، والتي تم تقديمها إلى جامعة غوتنغن Göttingen خلال نفس العام. في هذا المقال لأحد الطلاب الأقل شهرة في دائرة غوتنغن، والذي ناقش فيه علم النفس الوصفي، لاحظ أورتيغا بأنه

يميل تأثير “الفينومينولوجيا” في علم النفس المتزايد إلى الفصل في نهاية المطاف، بطريقة أساسية وصحيحة، بين الوصف والتفسير”. (Obras, VIII: 43, 47; I: 244–45)

تناولت ثلاثة من الأقسام الخمسة للمراجعة بالتفصيل جوانب معينة من فينومينولوجيا هوسرل، بالمعنى العام، باعتبارها وصفا خالصا للجواهر. في ضوء هذا التوصيف للظواهر بأنها “علم النفس الوصفي”، أكد أورتيغا على أهمية التمييز بين الحدس الفردي الأساسي لـ “الوصف الخالص” لجوهر هوسرل في الأفكار وبين ما أسماه التعريف الخاطئ “للظواهر على أنها علم نفس وصفي من قبل بعض الفلاسفة في تفسيرهم لبحوث هوسرل المنطقية (Obras, I: 249, 251).

بالنسبة لـ خوسيه أورتيغا اي غاسيت، يجب تمييز الخطابات النفسية عن العبارات الوصفية البحتة للظواهر على أساس أن علم النفس يهتم بالحقائق والبيانات وبالتالي فهو تجريبي؛ من ناحية أخرى، فإن الفينومينولوجيا كما تظهر في أفكار هوسرل، تهتم بـ “الوعي“، أي الوعي البشري. في هذا الصدد كتب أورتيغا:

 أنه من الواضح جدًا أن العلم الجديد أي الفينومينولوجيا ليس علم نفس، إذا كنا نعني بعلم النفس علمًا تجريبيًا وصفيًا أو علمًا ميتافيزيقيًا.” (Obras, I: 253)

توقع هوسرل نفسه سوء الفهم هذا في عام 1935. في كتابه (أزمة العلوم الأوروبية والظواهر المتعالية) (1936)، أشار هوسرل في عرضه إلى أن العديد من فقرات كتابه هذا قد تكون مضللة لعدة قراء ممن يغلبون المعنى النفسي، ينطبق هذا الامر على مفهوم الوعي من جهة أولى وعلى العلاقة بين noesis-noema من جهة ثانية.

من الممكن الانزلاق بسهولة لفهم الطبيعة المتعالية لمفهوم noema لصالح فهم نفسي، لا سيما في ضوء حقيقة أن السمة الراديكالية لكل من مفاهيم الايبوخية epoché البناء constitution   لم يتم تطويرها بالكامل بالشكل الذي يرضيه. منأولة هوسرل لمفهوم الابوخية في كتابه  Ideen بدا ديكارتيًا للغاية، وبناء عليه صار من السهل بمكان الانتقال فجأة من مقاربة طبيعية إلى مقاربة متعالية (1936 [1970: 154–5]).

 وفقا لأورتيغا، قدم هوسرل الظواهر كطريقة وصفية يتفلسف بها المرء دون افتراضات مسبقة وبدون معطيات تجريبية. قدم الاختزال الفينومينولوجي، في كتاب (الأفكار)، الموضوع الرئيسي لهذا “العلم الجديد” باعتباره يفسر العملية الانعكاسية لـ “الوعي” بصفته وعيًا يشتمل على وعي تصورات العالم الطبيعي. وهكذا، بالنسبة لأورتيغا، يقلل موقف هوسرل من مقاربة الظواهر ككيانات في الوضع الطبيعي لعالمنا ويصرح:

هناك “طريقة طبيعية “لإنجاز أنشطة الوعي كيفما كانت. وتتميز هذه الطريقة الطبيعية بالقيمة التنفيذية لتلك الانشطة. وبالتالي فإن” الموقف الطبيعي “من فعل الإدراك يتكون من قبول شيء موجود في الحقيقة أمامنا ينتمي إلى مجموعة من الأشياء التي نعتبرها في الواقع حقيقية والتي نسميها “العالم”….

هكذا، يمكن ان نضع جميع أنشطة الوعي وما على شاكلتها بين قوسين. بمعنى ان العالم “الطبيعي” بأكمله أو العلم بقدر ما هو نظام أحكام يتم تنفيذه “بطريقة طبيعية”، ويتم اختزاله إلى ظاهرة. وهنا تعني الظاهرة شيئا مختلفا عند أورتيغا عما جاء به كانط. الظاهرة هنا هي ببساطة الصفة الافتراضية التي يكتسبها الشيء عندما ينتقل المرء من مقاربته انطلاقا من قيمته التنفيذية الطبيعية ليتأمله انطلاقا من مشاهدة وصفية، دون إعطائه طابعًا محددًا. هذا الوصف الخالص هو الفينومينولوجيا. (Obras, I: 252–53)

مناقشة خوسيه أورتيغا اي غاسيت هذه لكتاب هوسرل الهمته ليستمر في بحثه الفينومينولوجي كمنهج للبحث. وسرعان ما أصبح هذا المنهج حاسما في فلسفته خاصة في ضوء هدفه المعلن سابقا والمتمثل في التمييز بين علم النفس الوصفي والتفسير، ومنه توضيح مفهوم الحالة العقلية للوعي. بعد ورقة عام 1912 وتلك التي قدمت في المؤتمر الرابع للجمعية الإسبانية لتقدم العلوم في عام 1913 حول “الإحساس والبناء والحدس”، قدم أورتيغا أيضا سلسلة من المحاضرات خلال دورة، “علم النفس المنهجي” في عام 1915.

ضمن أورتيغا هذه المحاضرات في مخطوطة بعنوان التحقيقات النفسية نشرت بعد وفاته. شكلت هذه التحقيقات النفسية بالنسبة له أساسًا فلسفيًا لتحديد الظواهر الذهنية، معتمدا إلى حد كبير الطريقة نفسها التي وظفها هوسرل في تحقيقاته المنطقية.

في سياق اخر، استوحى هوسرل فكرته عن ان الفلسفة “علم صارم” من فرانز برينتانو ورؤيته الإصلاحية للفلسفة كعلم دقيق. اعمال هوسرل الأولى حول علم النفس الأدنى اهتماما بالوصف نهلت أيضا من مقاربة برينتانو للوجود المتمثل والقصدي للموضوع. بعد Brentano وCarl Stumpf شتومبف، اعتبر هوسرل ان الطبيعة الأساسية للأنشطة النفسية تضم محتوى وموضوع.

في الطبعة الأولى من كتاب التحقيقات المنطقية (Logical Investigations) (1900-1901)، أوضح هوسرل ان الظاهراتية أو الفينومينولوجيا تتعلق بـ “علم النفس الوصفي”، كما اشارت اليه جهود برينتانو السابقة. في مطلع القرن العشرين، أدى ظهور علم النفس كنظام مستقل استطاع ان يتحرر من الوصاية التقليدية للفلسفة، إلى أبحاث مكثفة في السلوك البشري والتي سرعان ما كشفت عن الحاجة إلى طرائق تحليل أكثر دقة من تلك التي توفرها العلوم الفيزيائية. تدريجيا، ظهر مفهوم جديد للفرد، يختلف عن المفاهيم التقليدية وصارت الفيزياء الرياضية الجديدة مختلفة عن سابقتها الميكانيكية.

بصفة عامة، تصبح المعرفة شرعية عندما يتم استثمارها بقوة التقاليد. تمثل الحاجة إلى توجيه نداء إلى التقاليد إحدى الخصائص التي تمنح السلطة للمؤلفين الكلاسيكيين. هنا تساءل أورتيغا، في سعيه إلى منهجية علمية بهدف معالجة الإشكالات الجديدة، عما إذا كانت الشرعية الفلسفية قابلة للتحقيق دون مناشدة السلطة التقليدية. توفر المبادئ الرسمية للتبرير الخطابي الأساس الإجرائي للتمييز بين العلوم الجديدة والكلاسيكية. هذا ما عبر عنه أورتيغا بقوله:

أي شخص يرغب بجدية في إنشاء علم جديد عليه أن يمارس إنكار الذات المطلوب لإطالة فترة طويلة من فترات الدراسة والتلمذة المهنية ودراسة كل ما هو كلاسيكي. (Obras, XII: 340)

ليضيف:

البحث العلمي، كطريقة لتوسيع المعرفة، يلزمنا بالتغلب على الكلاسيكية. تحمل عملية التلمذة المهنية في حد ذاتها مطلبًا انها تنتهي إلى الخلق المستقل. إن الدراسة أو التعلم من الكلاسيكية تدفعنا في النهاية إلى محاكاة ما فعله مؤلفها: لتجأوز الموقف الكلاسيكي السابق، للتحويل، والتوسع، وتجديد العلم نفسه. (Obras, XII: 340–41)

من خلال موقفه هذا، أكد خوسيه أورتيغا اي غاسيت أن العلوم الكلاسيكية أو التقليدية تمتلك هالة من الامتياز والمسافة والديمومة ولكن العلم الجديد يجد نفسه في تحدي مع هذا الامتياز ومطالب على الدوام بتقديم تصور بديل للواقع، يفكك تلك الهالة ويسمح للباحث بمواجهة الواقع من حيث وقته ومكانه. في ضوء هذا التوصيف، صاغ أورتيغا هدفه الفلسفي في سياق أوائل القرن العشرين:

هدفي هو دراسة المشكلات الأساسية لعلم النفس بهدف جعل علم النفس المنهجي ممكنًا. هذه المشاكل … لا تستدعي مقاربة فضفاضة. في الواقع، إنهم تتطلب إجراءات أكثر تفصيلاً، وإذا أمكن، استفسارا شاملا. (Obras, XII: 42)

يؤكد أورتيغا أنه بمجرد تحديد المشكلة المتعلقة بالتمييز بين الظواهر الذهنية والبدنية، سيتم أيضًا حل مسائل أخرى: تلك المتعلقة بموضوع ومنهج علم النفس والمنطق؛ طبيعة الإدراك الداخلي والاستبطان؛ إمكانية أو استحالة وجود علم نفس وصفي مباشر للتفكير؛ معنى الحدس و “بالتالي، ما إذا كان الفكر غير الغذائي ممكنًا أم لا” (Obras, XII: 342–43).

بعد مقال عام 1912 ومحاضرات عام 1915، أصبح تأثير لغة الظاهراتية واضحًا في أعمال أورتيغا من خلال استخدامه مفاهيم من قبيل م “المظهر اليقيني”، والفلسفة كـ “علم”، والفلسفة “كعلم بدون افتراض “(Obras، I: 318–19؛ VII: 335). منذ عام 1914، لاحظ أورتيغا في عمله The Idea of ​​Principle in Leibnitz and the Evolution of Deductive Theory (1947)، الذي نُشر بعد وفاته في عام 1958، ان

 التفكير في ظاهرة “الحياة البشرية” هو أساس كل أفكاري. في ذلك الوقت قمت بصياغته من أجل شرح فينومينولوجيا هوسرل خلال محاضراتي المختلفة لتصحيح وصف ظاهرة “وعي …”بشكل خاص. والتي، كما هو معروف، كانت تشكل، في ذلك الوقت، أساس مذهبه. (Obras, VIII: 273, n.2)

في عام 1925، في كتابه (لاانسنة الفن) كتب قسمًا قصيرًا بعنوان “بضع قطرات من علم الظواهر”، ناقش فيه فكرة “المنظوريانية” للتجارب المتنوعة. (Obras, III: 360–64).

أصبح التناقض بين العلم والخبرة، على الرغم من تطرفه مقارنة ببعض معاصريه، أحد مخاوفه المركزية خلال هذه الفترة. وأكد أن التصورات المنظوريانية المختلفة لحدث مماثل أضاءت لنا حقيقة أن “الواقع نفسه قد ينقسم إلى العديد من الحقائق المتنوعة عندما ينظر إليه من وجهات نظر مختلفة”. الفيزياء الحديثة، وبعيدا عن التفسيرات الميكانيكية لبعض الظواهر الطبيعية، حطمت الفهم الميكانيكي العام للطبيعة. لقد هدم مفهوم الواقع الموضوعي بكل ما ينطوي عليه: وحدة الطبيعة، البشرية والمادية على حد سواء، عالمية القوانين الطبيعية، تحديد العمليات الفيزيائية، وقدرة العلم على حل جميع مشاكل العالم الطبيعي. وبالتالي، كان من المحتم أن يكون لنتائج الفيزياء الحديثة تأثير هائل في الثقافة العامة، بل وأكبر من ذلك، وفقا لأورتيغا، وحتى بيولوجيا منتصف القرن التاسع عشر.

أشار خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى ان ألبرت أينشتاين ضرب الضربة الأولى ضد مفهوم الواقع الموضوعي هو مفهوم يفترض وجود الزمان والمكان الكونيان بشكل مستقل عن الملاحظ. فقد أظهر أينشتاين أنه لا يوجد إطار مرجعي مكاني وزمني واحد. في حين يوجد كل ملاحظ ضمن نظام زمني محدد ونسبي في فضاء. يتناول أورتيغا “وجهة النظر الإنسانية” انطلاقا من الواقع الذي نعيش فيه أي من المواقف والأشخاص والأشياء. لتحديد المسافة بيننا وبين الواقع كطريقة لفهم هذه التجارب الحية علينا اذن أن نضع أنفسنا في مكان شخص آخر وحالة أخرى. هكذا، قد نتمكن من التمييز بين الأشخاص والأشياء والمواقف، وبالتالي نصل إلى فهم أقرب للواقع. (Obras, III: 361, 363, 362).

  1. العوامل الأنطولوجية التي تواجه الفينومينولوجيا الترنسندنتالية

في عام 1925، قدم أورتيغا نهج هوسرل الظاهراتي لطلابه في جامعة مدريد، حيث قدم برنامجه لدراسة” إعادة صياغة لمشكلة الوجود ” من خلال سلسلة من المنشورات. توجه أورتيغا نحو إمكانية اعتماد طريقة منهجية يمكن من خلالها أن تحل مشكلة “الوجود” مسألة الواقع البشري. كتب في عام 1925:

عندما ذكرت ما انويه  ،  و بعض طلابي سيتذكرون الامر  قلت حرفيًا: أولاً ، من الضروري إعادة النظر في مشكلة الوجود التقليدية  ؛ ثانيًا ، يجب أن يتم ذلك وفقا للمنهج  الفينومينولوجي وما يتضمنه من  تفكير تركيبي أو حدسي ، وليس التفكير المفاهيمي التجريدي فقط  كما هو الحال في طريقة التفكير المنطقية التقليدية ؛ ثالثًا ، من الضروري تكامل المنهج الفينومينولوجي مع التفكير المنهجي الذي  ينقصه رابعًا ، وأخيرًا ، لكي يكون التفكير الفينومينولوجي المنهجي ممكنًا ، من الضروري البدء من ظاهرة باعتبارها نظامًا ” ل “و “في حد ذاته”. هذه الظاهرة المنهجية هي حياة الإنسان ومن خلال هذا ينبغي التفكير فيها وتحليلها. (Obras, VIII: 273).

خلال بحثه هذا عن “التفكير التركيبي”، شرح خوسيه أورتيغا اي غاسيت كيف تخلى “عن الفينومينولوجيا لحظة قبولها. بدلا من الاتجاه نحو الوعي كما فعل ديكارت صرنا أكثر اهتماما بالواقع الصرف والذي يمثل حياة كل شخص.” (Obras, VIII: 273). هكذا وبحلول عام 1925، أصبح تردد خوسيه أورتيغا اي غاسيت تجاه المنهج الفينومينولوجي أكثر وضوحا في مشوار بحثه عن منهج تحليل متماسك. كان على استعداد للاحتفاظ بالوظيفة “التركيبية” أو “الحدسية” للتحليل الظاهراتي شريطة دمجها مع الظاهرة المنهجية لـ “الحياة البشرية”. هذا التداخل المزدوج سمح لأورتيغا، من جهة إيجابية أولى، بمقاربة المشكلة التقليدية للوجود بشكل منهجي. ومع ذلك، قد تبدو الطريقة الفينومينولوجية أكثر تجريدا وفي مثالية. كما ضمنه في نقده للمنطق الشكلي والترنسندنتالي لهوسرل (1929) [1969]. أصبح العديد من المفكرين الأوروبيين الذين تأثروا بطريقة أو بأخرى بمفاهيم الحركة الظاهراتية، ولكنهم لم يكونوا بالضرورة أعضاء في الحركة، غير راضين عن القراءة التي قدمها هوسرل للظواهر المتعالية في كتابه عن المنطق الشكلي والترنسندنتالي. كان أورتيغا واحدا من هؤلاء، على الرغم من أنه لم يعبر صراحة عن أي استياء مما اعتبره الآثار الانوية للمثالية الترنسندنتالية في عمله الأخير بعد اثني عشر عاما. كما اشارنا سابقا عبر هوسرل نفسه عن احتمال انزلاق الفهم للايبوخية في كتابه Crisis. في الواقع، أصر هوسرل على أن جهوده حاولت الابتعاد عن المسار الانا-وحدي solipsistic لـ “الطريق الديكارتي”. في محاضرتين ألقاهما في جامعة السوربون في عام 1929، قدم هوسرل أفكارا حولت موقفه السابق من الظواهر الترنسندنتالية كعالم من الأفكار المعزولة إلى عالم بينذاتي:

وضمنها ملاحظاته في كتابه التأملات الديكارتية (1933) والأزمة. في هذه الكتابات اللاحقة، فقدت الأنا عند ديكارت مكانتها المجردة والمطلقة لأنها أصبحت مرتبطة بعالم التجربة. (1933 [1964: 1-8, 157] ; 1936 [1970: 154-55, 188, 257-63]).

في كتابه (ملاحظات بشأن التفكير) اعتبر خوسيه أورتيغا اي غاسيت مقاربة هوسرل لنشأة العقل ليكون “معادلاً لكونه مطلقًا”، وبالأخص شرحه ل “الفينومينولوجيا الجينية” الخاصة به على أنها “وعي” بالواقع، وبالتالي وصف “وعي نفسه” بأنه “مباشر لذاته”. لينتقد كذلك التحليل والتعريفات للعقل التي قدمها هوسرل في المنطق الرسمي والمتسامي على أنه لا يتضمن “موضوعات الإنسانية والحياة والشخصية الوظيفية للعقل”. وعليه، فإن “الموقف الفينومينولوجي كما تمت صياغته في المنطق الشكلي والمتعالي يتعارض تمامًا مع الموقف الذي أسميه العقل الحي”. يتضح اذن ان أورتيغا عارض هذا الاتجاه نحو المثالية المتعالية في كتاب لكنه لم يلفظ الفينومينولوجيا كلية (Obras, V: 545).

يبدو واضحا اذن موقف خوسيه أورتيغا اي غاسيت من الظاهراتية. لكن بعد اطلاعه على كتاب هوسرل ازمة العلوم الأوروبية، اقر بتعارض موقفه مع موقف الفينومينولوجيا. هكذا في ختام كتابه ملاحظات بشأن التفكير، دعا أورتيغا إلى مقارنة بينه وبين هوسرل. في عام 1935، قدم هوسرل سلسلة من أربع محاضرات في براغ حول “الفلسفة في أزمة البشرية الأوروبية”، تم دمجها جميعًا في كتاب (الأزمة). اما في (تأملات ديكارتية) و (أزمة العلوم الأوروبية)، أعلن هوسرل أن المعرفة العلمية لا يمكن فهمها إلا بالقدر الذي نفهم فيه الفكرة أولاً Lebenswelt (عالم الحياة)

اشتهر كتاب (الأزمة) بمعالجته الموضوعية لمفهوم عالم الحياة Lebenswelt. بهذا المعنى تصبح دراسة العالم الحي وتجربتنا فيه أو ما يسمى “الارتباط بين الأنا والحياة” أساس الفكر الفينومينولوجي ينخرط مفهوم Lebenswelt في النقاش الذي بدأه هوسرل في كتاب Logische Untersuchungen بشأن” ما هي الحقيقة؟ “يعرف هوسرل الحقيقة على أنها تجربة حية للحقيقة باعتبارها أدلة. وتنكشف هذه الأدلة حصريا في التجربة الحاضرة، لذلك فان الحقيقة انما تظهر من خلال التجربة. اذن لا توجد حقيقة مطلقة، كما افترضت ذلك المذاهب الدوغمائية أو الشكوكية. الحقيقة اذن هي عملية مراجعة وتصحيح وتجأوز الذات. تحدث هذه العملية الدينامية في قلب الحاضر الحي.

وبالتالي، فإننا كأفراد نعيش في العالم نرد بشكل صحيح على سؤال الحقيقة من خلال وصف تجربة الحقيقة والإصرار على التطور الجيني لـ “الأنا”. لا تتعلق الحقيقة بموضوع بل بحركة، وهذه الحركة ترتبط الأنا. إلى جانب هذا حاول هوسرل في كتاب Crisis في تقديم وصف موضوعي للتاريخ، وتاريخية Lebenswelt والذاتية ضمن الإطار العام للفينومينولوجيا المتعالية والمفارقة.

اما التاريخ، كما فهمه هوسرل فهو يتكون منذ البداية، من “لا شيء سوى اللحظة الحية للوجود -مع -الغير وفي -الغير من خلال المعنى-البناء والمعنى-الترسيب” وقد أشار إلى ذلك أيضا باسم “التاريخ القصدي”. علأوة على ذلك، فإن مقاربة مفاهيم التاريخ، تاريخ Lebenswelt، أصبحت ممكنة من خلال التاريخ الداخلي لكل إنسان يعيش فيه.

يفترض التاريخ “ما قبلية a priori “تحقق موضوعيته من جهة وان كانت هذا الما قبلية التاريخية بحد ذاتها تفترض نوعا من المثالية. لا يتأسس التاريخ من خلال a priori تاريخي، ولكن من خلال موقف متعالي يوضح أن عملية البناء constitution التي تطورت في التاريخ قد تكون في بنيتها الأساسية مرتبطة التفكير التأملي للأنا المتأملة، كما هو الامر في بناء العلم الحديث. على هذا الأساس، فإن حقائق العلم لم تؤسس وفقا للعناية الإلهية كما اعتقد ديكارت، ولا على الشروط القبلية للإمكانية كما اعتقد كانط. انها ترتكز بدلا من ذلك على تجارب معيشية تستند إليها حقيقة الوعي النظري (Husserl 1936 [1970: 349-51, 369-78, 389-95]).

وجد خوسيه أورتيغا اي غاسيت هذا النوع من التأمل في الطريقة التاريخية للوجود وLebenswelt عالم الحياة متوافقًا تماما مع مفهومه الخاص عن “العقل التاريخي” الذي تناوله في كتابه التاريخ كنظام. وأصر على انه وصل إلى هذا الراي بشكل مستقل عن هوسرل، وعلق على ما ضمنه هوسرل في كتابه الأزمة:  

لقد كانت هذه القفزة النوعية في المنهج الظاهراتي مرضية للغاية بالنسبة لي لأنها بالأساس ليست الا ملاذا “للعقل التاريخي”. (Obras, V: 546–7, n.1)

لذلك، فإن أعمال هوسرل اللاحقة، ولا سيما التأملات الديكارتية والأزمة، كانت محاولات لحل الصعوبات الكامنة في الظاهراتية الترنسندنتالية وممثلة لفلسفته الفينومينولوجية، ولم تكن متعارضة تمامًا مع قضايا الحياة البشرية. كما أنها لم تهمل الجوانب الابستيمولوجية والوجودية لتجربة الحياة البشرية.

هذه الكتابات المتأخرة أدت إلى القول بأن هوسرل نظر إلى كتاب الأزمة على أنه مقدمة “حاسمة” للظاهراتية. واقترب هوسرل في تصوره لمفهوم Lebenswelt مما أشار اليه أورتيغا في منأولته الفلسفية للإنسان لكن هذا التقارب في الفكر لا ينفي الاختلافات الطفيفة بين المفكرين.

كانت النقاشات الواردة في تأملات ديكارتية حول الغير، أو البينذاتية، والعالم كعالم مع “الغير” بشكل أساسي جزءًا من فلسفة هايدجر التي كان لها تأثير عميق في تطور الظاهراتية الوجودية وعلى فكر خوسيه أورتيغا اي غاسيت. توقف أورتيغا عند فكرة ” المماثلة “فيما يتعلق بـ “الآخر “، والتي قدمت في التأمل الخامس، دون ان يعتبرها معارضة تماما لفكرته عن الحياة البشرية ومع ذلك لم يعتبر هذه النقطة مناقضة تمامًا لمفهومه عن الحياة البشرية. فعلق في كتابه الرجل والناس (1939–40) بان

هوسرل كان أول من حدد بوضوح المشكلة الجذرية وليس النفسية فقط التي أسميها “ظهور الآخر”. إن تطوير هوسرل للإشكالية في رأيي، أقل نجاحًا بكثير من تعريفه لها، على الرغم من وجود العديد من الاكتشافات الرائعة فيما كتبه. (Obras, VII: 160–61)

يقدم كتاب (الإنسان والناس) مجموع المقالات التي القاها أورتيغا في العديد من المحاضرات والندوات على مدار عشرين عامًا تقريبًا. وقد أشار خوسيه أورتيغا اي غاسيت في كتاب (أصل الفلسفة) إلى أول مرة قدم فيها تصوره عن “علم الاجتماع الجديد” تحت عنوان “الإنسان والناس” بمدينة بلد الوليد في Valladolid عام 1934 (Obras, IX: 355, n.1). نشر الفصل الأول المعنون “التواجد في الذات وبجانبها” من قبل Espasa-Calpe Argentina, ببوينس ايرس، عام 1939 (Obras, V: 291–315; 7: , 72–73, 79).

في مقدمة كتاب (أفكار ومعتقدات)، أعلن أورتيغا في عام 1940 عن الظهور المرتقب لعملين رئيسيين له هما: عرض فلسفي، فجر العقل التاريخي، وكتابه المتضمن لمذهبه الاجتماعي الإنسان والناس. نشرت هذه المؤلفات المختلفة بعد وفاة أورتيغا في الفترة من 1948 إلى 50.

 في عام 1929، كتب خوسيه أورتيغا اي غاسيت مقالًا بعنوان “تصور عن الرفيق ” (Obras، VI: 153–163) يفسر من خلاله محاولته التمييز بين مفهوم “الغير” عند هوسرل عن “ظهور الغير” في كتابه (الإنسان والناس). ومع ذلك لا ينبغي نفي تقارب بين التصورين وتأثير هوسرل الواضح في أورتيغا وان كان قد اختلف معه بشأن “النقل التناظري “.

اعتبر خوسيه أورتيغا اي غاسيت أيضًا فكرة ظهور الغير باعتباره موضوعًا وبالنظر إلى مادة جسمه وكانا اخر يشاركني العالم إلى جانب مفهوم عالم الحياة كمقاربات تجنب “الأنا” الانغلاق داخل نفسها وهو يميل بذلك إلى هوسرل ورفضه للتمييز الديكارتي بين الداخل أي العقل والخارج اي العالم (Obras, V: 545). وان استقلال فكر أورتيغا لا يزال مثيرًا للجدل، إلا أن تطوره الفكري يُظهر تأكيدًا ثابتًا على سعيه المستمر للتمييز بين التماسك التاريخي والترابط التاريخي في الفينومينولوجيا الترنسندنتالية. ناقش أورتيغا، في كتاباته اللاحقة، المفاهيم الظاهراتية مثل الأفعال التي يتم توجيهها نحو الأشياء عندما يواجه الانا محيطه ذاته والانا الاخر كتفاعلات بينذاتية وكمجال للتجارب الحية وكمجال لفهم الانا كما سبقه لذلك هوسرل. في كتابات أورتيغا المختلفة قاده معياره “للانفتاح على التجربة” إلى قبول التنوع التاريخي، وإلى القول بأن علاقة الإنسان بالعالم هي علاقة ذات بذوات أخرى.

انطلاقا من تصوره هذا للفينومينولوجيا، عاد أورتيغا إلى فكرة “أنا هو أنا وظروفي” كنقطة انطلاق لتحليله. بالنسبة اليه فإن الأنا الفردية تدرك نفسها من خلال إدراك كل من سماتها الفيزيولوجية والسلوكية، وتلك الخاصة بـ “الآخرين” ضمن تفاعل إنساني متبادل. انه وعي بالذات ينطلق من خلال التحليل الذاتي للجوهر الداخلي للوجود. من وعي “أنا” و “الأنا” الأخر كذوات متماثلة في “ظروف” عالم التجربة الحية. باختصار، حاول وصف طبيعة تجربة الفرد لذاته وللعلم موضحا الاختلاف القائم بين علاقة الانسان بذات أخرى وبالعالم حيث كتب: “ان تحيا هي أن تخرج من داخل الذات الانطولوجية باتجاه الغير سواء   كان يسمى العالم أو الظروف” (Obras, V: 545).

4. “أنا هو أنا وظروفي”: لا “المنهج البيولوجي ” ولا ” العقلانية”

في طبعة من كتابه لعام 1932, أعلن أورتيغا:

“أنا هو أنا وظروفي”. هذا التعبير، الذي يظهر في كتابي الأول والذي أوضحه أكثر في عملي الأخير، لا يشير فقط إلى منهجي الفلسفي، بل هو أيضا منهجي العملي التطبيقي. إن عملي في جوهره ووجوده ظرفي. وهذا بالضبط ما اقصده (Obras, VI: 347)

كتابه الأول الذي أشار إليه خوسيه أورتيغا اي غاسيت هو (تأملات في كيخوته) (1914)، وهو سلسلة مقالات فلسفية ضمنه وفقًا لبعض القراءات نواة مبدأه الفلسفي المتعلق بأن الحياة البشرية هي الحقيقة المطلقة والتي صاغها في عبارته الشهيرة “أنا هو أنا وظروفي”. تكشف القراءة النقدية لهذا الكتاب أنه على الرغم من ظهور “أنا وظروفي” في هذا العمل المبكر، إلا أننا لا نجد تفصيلا منهجي لـ “أنا هو أنا وظروفي” كما في أعماله اللاحقة. وتجدر الإشارة هنا إلى ان ما ناقشه فرويد في مخطط التحليل النفسي (1940) بشأن الاثارة الداخلية والخارجية وما جاء في كتاب (علم النفس المرضي للحياة اليومية) (1904) أوقفا اهتمام أورتيغا بهذا المنهج العلمي الجديد بين عامي 1911 و1915.

شكلت فينومينولوجيا هوسرل وحركة التحليل النفسي لفرويد بالنسبة لأورتيغا “الاتجاه الفكري الجديد لعصرنا الذاتية، أو النسبية الذاتية” (Obras, XII: 417). أصبح هذا الاتجاه الفكري همه الفلسفي خلال السنوات اللاحقة. أصبح هذا الاتجاه واضحًا في محاضراته لعامي 1921-1922، والتي نُشرت لاحقًا في كتاب (موضوع عصرنا) (1923). بالنسبة لأورتيغا، فإن “الموضوع الرئيسي لعصرنا”، والجوهر الذي يجب أن تواجهه “الحداثة” هو على مفهوم أن “الحياة الإنسانية نفسية لحد بعيد جدا” (Obras, III: 152–156).

وبالتالي فإن ظاهرة الحياة البشرية تمتلك طابعا مزدوجا: فيزيولوجية ونفسية. وفي الحركة الثقافية المعاصرة، يجب أن يجد كل بُعد من أبعاد الشخصية الإنسانية تعبيره في “روح العصر” (Obras, III: 165–66, 68, 297–98).

 هذا التغير في معنى الحياة البشرية يأخذ منشأه ضمن تغير معنى الفن في عصره. ينظر خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى الفنانين في عصره على أنهم يخلقون تغييرا أكثر جذرية في الموقف الذاتي من الفن اذ يصير للواقع البشري إدراكه الداخلي. هذا الانتقال على مستوى الجماليات (الاستطيقا) عكس التركيز السابق على العوامل” الطبيعية” أو “المادية” أو “الواقعية” في حياة الإنسان. هذا الانتقال من “واقعية” في القرن التاسع عشر، والاهتمام المقابل لها بالواقع البشري، إلى التصورات “الجديدة” للإبداع الفني في أوائل القرن العشرين، نتج عنه ما يسميه أورتيغا “لا أنسنه الفن “. توجت هذه الحركة ما وصفه أورتيغا بأنه” فن فني ” أي فن نقي والذي قوبل بموقفين: “أقلية جد موهوبة “استوعبت هذا الفن الحديث واغلبية وجدت أنه غير مفهوم. “إن هذا الحس الجمالي الجديد خلال فترة الحداثة، دعا إلى “التخلص تدريجيا من كل ما هو بشري “كما كان سائدا في الرومانسية أو التيار الطبيعي، هذا أدى إلى خلق فن من الشخصيات بدلاً من فن المغامرات، وهو فن رفض ان يحاكي العالم فقط، وتعهد بدلا عن ذلك بإنشائه” (Obras, III: 358, 355–56).

هذه المجموعة الحديثة من الفنانين والنقاد الذين أنتجوا” جهازا جديدا لفهم “الفن قوبلوا بإنكار شديد من قبل أغلبية شكلت “أقلية موهوبة بشكل خاص”. وهكذا أصبح التركيز الواضح على” البنية النفسية للفرد ” أحد النتائج الرئيسية لتحول الحداثة من الواقعية والتمثيل البشري. إذا اخذنا بعين الاعتبار فكرة أورتيغا بأن التصوير “النفسي “للفن الحديث لم يكن متاحا إلا لأقلية موهوبة فان هذا يقودنا للقول بأن كل نشاط فكري يدرك الواقع من وجهة نظر لا يمكن الوصول إليها الا بنفسه. هكذا فإن فلسفته حول “المنظوريانية ” كمبدأ تركيبي “ينظم العالم من وجهة نظر الحياة” تصبح مفهومة. يعكس كتاب (موضوع عصرنا) الميول المطلقة للعقلانية والميول الشكوكية للنسبية، مقدما لتصور أورتيغا حول “وجهة النظر باعتبارها وجهة نظر ثالثة لعملية المعرفة، والتي هي تركيب مثالي للاثنين” (Obras, III: 179, 198).

 

5. المنظوريانية: حياة الإنسان والعقل الحيوي والتاريخانية

يناقش منهج المنظوريانية التوجه القائل بأن جميع العصور التاريخية تشارك في بناء الحقيقة في الواقع. أي أن كل فرد وكل مجموعة من الأفراد يدركون الواقع من وجهة تصوراتهم له. إن هذه التصورات المتغيرة للواقع كلها مشروعة وتفسر الافتراض بأن الأفراد المختلفين يفسرون نفس “الأفق” بشكل مختلف بحيث “كل حياة هي وجهة نظر موجهة إلى الكون”(Obras, III: 200).  وهكذا وعد خوسيه أورتيغا اي غاسيت بتوحيد الواقع مفترضا أن “المنظور” يشتمل على “أحد الأجزاء المكونة للواقع وعنصره التنظيمي” مصرحا بان “كل المعرفة هي معرفة من وجهة نظر محددة” (Obras, III: 199). هكذا فان كل حقيقة ترتبط بمكان وزمان، بالإدراك وبجوهر الواقع.

ينطلق أورتيغا في أسلوبه المنظورياني من التقابل مع فيزياء أينشتاين. أشار مقاله حول “الأهمية التاريخية لنظرية أينشتاين” إلى اتجاهات موازية في أنماط التفكير الجديدة في القرن العشرين وفي نظرية النسبية لأينشتاين، والتي وصفها بأنها “أهم حقيقة فكرية يمكن للحاضر إظهارها”(Obras, III: 231).  بهدم الصرح الكامل للميكانيكا الكلاسيكية، بشرت نظرية أينشتاين في القرن العشرين إلى حد كبير بالطريقة التي أعدت بها فلسفة ديكارت الفكر للعصر الحديث. (Obras, III: 231–34).  كانت أفكار أورتيغا حول الأهمية التاريخية للنسبية مستمدة في المقام الأول من مناقشة أينشتاين للنظرية الخاصة.

وقد انجذب إلى مقارنة نظرية النسبية بفلسفته عن “المنظوريانية” لأن النسبية بدلته وكأنها تقدم “دليلًا” علميًا على “حقائقه المنظورية”، والتي تمت صياغتها في كتابه El Espectador(المشاهد) في عام1916 (Obras, III: 235; انظر أيضا II: 15–21). وقد سمحت له النظرية النسبية أيضا بتصور منهج يمكن من خلاله “محاولة ترتيب العالم من وجهة نظر الحياة” (Obras, III: 179).

أصبح مبدأ الحياة البشرية، الذي شكل واقع التجربة الإنسانية، الزأوية الفلسفية التي قام خوسيه أورتيغا اي غاسيت من خلالها بتركيب تصوره للكون. في المقابل، أشارت” علامة الازمنة ” إلى الدور المهم الذي لعبه كل من نيتشه، كروس، ديلثي، هايدجر، فرويد وهوسرل، في تشكيل فكر القرن العشرين. إلى انه ينبغي الإشارة إلى ان التركيز على عالم الحياة الحيوي قد أحد عند أورتيغا مدى أبعد من المنطق الكانطي الجديد والمتعالي لكوهين.

ربط خوسيه أورتيغا اي غاسيت فكرته عن الحياة البشرية بالتاريخ باعتباره يشكل الديناميات الحيوية المعبرة عنها، وهذا جعله أقرب إلى الموقف الإنساني المميز بين Naturwissenschaften و Geisteswissenschaften الذي تبنته مدرسة جنوب -غرب ألمانيا أو مدرسة بادن وكذلك ديلثي بشكل أكثر من الكانطية الجديدة لكوهين.

وقد تأثر أورتيغا بأفكار كل من Windelband وRickert وDilthey وCroce بشكل مباشر وغير مباشر.

في مقالته، “فيلهلم ديلثي وفكرة الحياة”، بعد سبعة وعشرين عاما من دراسته في برلين، كتب أورتيغا عن أهمية ديلثي في تطوره الفكري وسوء حظه لعدم تعرضه لأفكار ديلثي في وقت سابق كطالب:

أصبحت مدركا لأهمية ديلثي العمل في وقت متأخر من عام 1929, واستغرق الأمر أربع سنوات أخرى قبل أن أعرف ذلك جيدا بما فيه الكفاية. هذا الجهل، جعلني أفقد حوالي عشر سنوات من حياتي، من ناحية تطوري الفكري، ولكن هذا بالطبع يعني خسارة متسأوية في جميع أبعاد الحياة الأخرى…. عندما درست في برلين عام 1906 صادف ذلك أن ديلثي قد تخلى عن إلقاء المحاضرات في مبنى الجامعة قبل بضع سنوات وقبل ذلك في الدورات التي أقامها في المنزل لعدد قليل من الطلاب الذين تم إعدادهم بشكل خاص. وهكذا لم أتواصل معه. (Obras, VI: 171–72)

خلال الفترة المترأوحة بين أواخر 1920 وأوائل 1930، وصف أورتيغا فلسفته الخاصة بأنها “ميتافيزيقيا العقل الحيوي” للدلالة على بحثه المستمر عن بنية الحياة التي ستكون مفارقة في علاقتها بكل واقع قائم، وان كانت تقع نفسها في إطار الواقع الزماني والمكاني. مثل ديلثي، الذي اعتبره “أهم مفكر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر”، نفى أورتيغا الحقيقة لأي مبدأ ثابت يعتبر نفسه على أنه متفوق على تدفق الحياة، بما في ذلك العلوم الفيزيائية والبيولوجية.

لا تنكر فلسفة الحياة عند ديلثي ضرورة الانفتاح على التجربة، وعلى فكرة الواقع المفارق المجرد فحسب، بل تعتبر أ الحياة أكثر من مجرد بنية حية بيولوجية. ان مفهوم أورتيغا للحياة ليس بيولوجيًا، وبهذا المعنى، فإن فكرته عن الحياة البشرية مشابهة تمامًا لما جاء به ديلثي.

بالنسبة لـ خوسيه أورتيغا اي غاسيت، فإن “حياتي “تتمثل في ” السيرة الذاتية “وليس في المعنى” البيولوجي “—هي مسألة ما يجب فعله بها وما يحدث لي حيث أجد نفسي” غارقا “في بحر “الظروف” غير المستقر. الفرد، من وجهة النظر هذه، ينقذ نفسه عن طريق الغرق في الأعماق الداخلية لوجوده وهو يبذل جهدا للتمسك بالوعي بجوهر حياته. أكد أورتيغا في هذا الصدد أن “العيش” هو التعامل مع العالم، والسعي إليه، والعمل فيه، والانشغال به ” (Obras, V: 26, 33–34, 35, 44–45, VII: 103–04). بالنسبة إلى ديلثي، تتحقق الحياة ضمن تجربة الوعي، كخبرة حية لتجربة الحياة الفردية والواقع. موقف ديلثي قريب من موقف برغسون Bergson الذي أكد أن تجربتنا في حياة عقولنا هي تجربة مباشرة لتلك الحياة كما هي، وبالتالي لا يمكن قبول بعض التفسيرات الفسيولوجية الميكانيكية للكائن البشري أو التصورات الذاتية المثالية الجديدة م. إن التركيز على الأبعاد النشطة والديناميكية والتاريخية للظواهر البشرية والاجتماعية، كما تتحقق في تجارب الحياة الحية، يكشف عن حيوية الفلسفة وتأريخ منظور الحياة التي تعكس التاريخانية والموقف القائل بأن المعرفة التاريخية فريدة من نوعها في عالم القضايا الإنسانية.

تتضمن هذه التاريخانية تصور خوسيه أورتيغا اي غاسيت عن ” الحوار الديناميكي “في” دراما ” حياة الفرد وهو لا يعود هنا إلى الجدل الذي اثاره كارل بوبر قوله ان التاريخانية لا تتوافق مع أي شكل من أشكال “العلم الحق”. ففي كتابه فقر التاريخانية (1957) انتقد بوبر المناهج التاريخية “المناهضة للطبيعة” وحتى “المؤيدة لها “، اذ يتهم بوبر هذه المناهج بوصفها “لاهوتية ” و “كلية “كما ويذهب للقول بأن فكرة “التنبؤ التاريخي” باعتبارها الهدف الأساسي يمكن تحقيقها في اكتشاف ” الإيقاعات “، ” الأنماط “، ” القوانين “و ” الاتجاهات ” التي تكمن وراء تطور التاريخ. (1957 [1964: 2–4, 39, 128–30]) استلهم بوبر عنوان كتابه هذا من كتاب كارل ماركس فقر الفلسفة (1847) والذي يرد فيه ماركس على ما جاء به Proudhon في فلسفة الفقر (1847).

في هذا الصدد أشار خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى نيته صياغة نقد فلسفي منهجي للماركسية، وبالتالي، للفلسفة الهيغلية للتاريخ. لا بد ان نوضح هنا إلى ان مفهوم “التاريخانية” يحيل إلى “التأريخية” في المنأولة الألمانية كما جاءت عند كل من Windelband، Rickert، Dilthey، Meinecke، Herder، Goethe، Mannheim وTroeltsch و “التاريخانية” في الفكر الإيطالي عند Storicismo وBenedetto Croce. فيما يتعلق بمفهوم التاريخانية أشار Meinecke إلى تركيز كل من هيردر و غوته  على “الملموس” و “الفريد” و “الفرد” باعتبارها  جوهر التاريخانية وهي بهذا المعنى  نظرة إلى العالم (Weltanschauung) و إلى الوجود  البشري بوصفه تأويلا  للتاريخ والحياة وهي بهذا المعنى تتداخل مع مفاهيم  الفردية والتطور الفردي فالتاريخ يسعى إلى وصف وتفسير التنوع غير المنتظم لواقع المجتمع والتاريخ ، كون  مفهوم الفردية لا يشمل الأفراد فحسب ، بل أيضا الشعوب ،العادات ،الثقافات ،المؤسسات والدول القومية وما شابه ذلك من اشكال تاريخية  ؛ ويتعلق مفهوم التطور الفردي بالعملية التاريخية في زمان ومكان معينين التي ترتبط بالتعبيرات الحية لتعدد هذه الأشكال التاريخية الفريدة. هذا التداخل المفهومي انما يؤكد النسبية التاريخية.

 

يفسر ديلثي المعرفة التاريخية والواقع بقوله:

إن الوعي التاريخي بتناهي كل ظاهرة تاريخية وكل حالة بشرية أو اجتماعية، بنسبية كل نوع من أنواع المعتقدات، هو الخطوة الأخيرة نحو تحرير الإنسان. بواسطتها، يستعيد الإنسان السلطة المطلقة لكل تجربة، ويستسلم لها بالكامل دون ان تستحوذ عليه …. فكل جمال، كل قداسة وكل تضحية، يعاد إحياؤها وشرحها، تفتح آفاق تكشف حقيقة واقعة…. وعلى النقيض من النسبية، فإن استمرارية القوة الإبداعية تجعل نفسها تشعر بأنها الحقيقة التاريخية المركزية.” (quoted in Hodges 1944: 33-34).

بالعودة إلى خوسيه أورتيغا اي غاسيت يمكن ان نقول ان التوجه التاريخي ل Croce قد ساهم في تحول أورتيغا من تأريخ الحياة إلى تأريخ الفلسفة. وقد عبر أورتيغا عن تطلعاته فيما يتعلق بتداخل التاريخ والفلسفة في محاضراته لعام مصرحا 1929:

“امل، لأسباب ملموسة للغاية، في عصرنا، أن يتحد للمرة الأولى حب الفضول الأبدي والثابت الذي هو الفلسفة والفضول المتقلب والمتغير الذي هو التاريخ ويحتضنان بعضهما البعض.”(Obras, VII: 285)

إن اعتقاد خوسيه أورتيغا اي غاسيت بأن “الفكر التاريخي يرتبط بالظواهر الانسانية “، والذي يعبر من خلاله عن موقفه من فكرة الأبعاد الحيوية لـ “العقل التاريخي ” يفصح عن بعض التأثيرات في فكره التاريخي. نظر كل من كروس وأورتيغا إلى الحياة البشرية على أنها تجسد عملية تاريخية في الأساس يتم من خلالها إدراك وفهم عالم الواقع البشري. توجد المعرفة التاريخية في تدفق العملية التاريخية، والمعرفة بهذه العملية ذاتها توفر فهما أساسيا للواقع البشري. . من خلال الانتقال من الفلسفة إلى التاريخ ثم العودة مرة أخرى إلى الفلسفة، قدم كروس “فلسفته المنهجية للروح” باعتبارها تاريخية مطلقة. صاغ تصوره المنهجي لـ “فلسفة الروح “في أربع مجلدات خصص واحدا منها هذا للفكر التاريخي (Croce 1917 [1920: 60-61]).

للتاريخ، في اعتقاده، وظيفة تركيب المستويات النظرية والعملية المختلفة للنشاط البشري، الكونية والخاصة، الفكر والعمل. من وجهة النظر هذه، توفر المعرفة التاريخية معلومات حول ما حدث بالفعل في مناسبات معينة في مكان وفترة زمنية محددة بوضوح. بهذا المعنى لا يشمل التاريخ التطورات الفردية ومفاهيم الفردية فحسب، بل يشمل أيضا مفهوم “الكونية”. بالنسبة لكروس، تشكل الفردية العملية التاريخية التي يحدث فيها التقدم نحو الكونية، اذ يتحدد العام انطلاقا مم يختبره الفرد مباشرة.  على هذا النحو، يقول كروس بـ “مطابقة الفلسفة مع التاريخ”. اعتبر كروس أن أية مشكلة فلسفية مماثلة للأحكام التاريخية عند ربطها بسياقها التاريخي. فالتركيب بين الفردي والكوني والتاريخ يمثل الشكل الأكثر اكتمالا للمعرفة. في الواقع، بالنسبة لكروس، وكذلك لكولينجوود Collingwood، ” التاريخ فكر “. في المنظوريانية، ينشئ الفكر روابط بين الإدراك الحسي والحدس والمفاهيم، في حين أن التاريخ يجمع المستويات الجمالية والمنطقية والعملية للنشاط البشري. يتكون النشاط النظري من المعرفة بينما يتميز النشاط العملي بالإرادة، لذلك فإن المعرفة هي الشرط المسبق للعمل (Croce 1917 [1920: 60-61; 94-107] ; 1909 [1913: 33]).

 

6. الفينومينولوجيا الوجودية وفلسفة الحياة

في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، صاغ أورتيغا، بطريقة منهجية، وجهة نظره الفلسفية العامة التي يفترض من خلالها ان الحياة البشرية باعتبارها الواقع النهائي تحتوي على الفلسفة داخل التاريخ.  ضمن أفكاره هذه في كتابه En Torno a Galileo (1933)، ضمن تصوره عن الأجيال، وفي مقالته التاريخ كنظام (1935). “مفهوم الكينونة” أو “الحياة البشرية”، بالنسبة لـ خوسيه أورتيغا اي غاسيت ، “هو أصل الفلسفة”، وبالتالي فإن “أي إصلاح لفكرة الوجود يعني إصلاحًا جذريًا في الفلسفة” ليتخلى أورتيغا عن مفهوم “البنية البيولوجية “لصالح مفهوم الحياة “حياة كل واحد منا كوجود في العالم ” حيث كتب ان علماء الاحياء “يستعملون عبارة “الحياة” للدلالة على ظاهرة الوجود العضوي لكن معنى الكلمة مباشر، واسع وأكثر دقة”. (Obras, III: 166).

تضمن تصور خوسيه أورتيغا اي غاسيت للحياة البشرية بُعدًا مشابهًا لما جاء به هايدجر في تحليله لدازاين Dasein. فهو اعتبر ان الوجود والحياة البشرية في قولته “أنا هو أنا وظروفي “نتاج التفاعل التبادلي بين “أنا” و “العالم”. بمعنى، “أنا دائمًا مع نفسي … العالم دائمًا مرتبط بي ووجودي هو وجود مع العالم” (Obras, VII: 394, 405, 402). أراد أورتيغا تحرير” أنا “من” السجن الداخلي “لـ “الذاتية “واقترح أن” ننقذ أنفسنا في العالم “، في “هذا الأفق الحيوي”.  هذا الشعور بالوجود بأنه “أُلقي به” في “العالم” يميز الواقع الحقيقي للحياة اذ “يجد المرء نفسه وجهاً لوجه مع العالم” و “داخل العالم”(Obras, VII: 411, 416–17, 430; 1927 [1962: 236, 399]). سمح هذا لأورتيغا بالهروب من المثالية فصارت   الحياة تشمل كل من الموضوع أي الذات الواعية والعالم. اما الحياة فهي “العثور على الذات في العالم”. بهذا المعنى:

تتحقق الحياة نفسها دائمًا في ظروف معينة، ومحيط مليء بالأشياء والأشخاص الآخرين. لا يعيش المرء في عالم غامض، اما العالم الحيوي هو الظرفية أي الأشياء والناس؛ إنه هذا العالم، هنا والآن. (Obras, VII: 422, 431)

في نفس السياق اعتبر خوسيه أورتيغا اي غاسيت ديلثي أحد “المكتشفين الأوائل” لـ “فكرة الحياة الجديدة العظيمة”، الذي “علمنا بشكل جذري أكثر من سابقيه –هيجل وكونت – أن نرى التاريخانية كسمة أساسية للوجود الإنساني”(Obras, VI: 166; IX: 396).

بدا تأثر أورتيغا بديلثي بعد نشر  Gesammelte Schriften لديلثي بعد وفاته عام 1928 واكتشاف أورتيغا المتأخر لفلسفته وبدا هذا التأثر واضحا في فلسفة الحياة عنده وفي فكره التاريخ فهو قد أحد عن ديلثي إحساسًا التاريخانية لم يكن يمتلكه من قبل. لقد اعتبر أورتيغا كما فعل ديلثي قبله، ان التاريخ وجه حياة الإنسان باتجاه “خط ثابت، ومحدّد مسبقًا، ومعطى”، كنوع من “العقل التاريخي” الذي يجعل الفرد قادرا على   التقدم المستمر.

إلى جانب تأثره بالمنهج التاريخاني والظاهراتية، تحضر الفلسفة الوجودية عند أورتيغا. خلال أواخر عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أدرج أورتيغا فكرة الحياة البشرية في فلسفته، وحدث الانتقال الملحوظ من “العقل الحيوي” إلى “العقل التاريخي” في فكره وأصبح “العقل الحيوي” و “العقل التاريخي” مفهومان متبادلين عنده (Obras, V: 538, VI: 39–41).

لم يتضح هذا التأثر بديلثي الا في فلسفة خوسيه أورتيغا اي غاسيت المتأخرة بعد سنة 1930 بعد نشر محاضراته ما الفلسفة؟ (1929) ومقاله عن ديلثي، كانت “الحياة” و “العقل” و “العقل الحيوي” أو “العقل الحي” – و “العقل التاريخي” مفاهيم مركزية في دمج تحليله المنهجي للإنسان والمجتمع والتاريخ. من خلال الفكرة الأساسية لـ ديلثي Lebensphilosophie أي فلسفة الحياة، تمكن أورتيغا من ربط وجهة نظره الأنطولوجية بوجهات نظره الوجودية والتاريخية مركزا بالأساس على أفعال الفرد وإبداعاته، وعلى الواقعية والتفرد في الوجود البشري الفردي اذ كتب أورتيغا: “الحياة”، كما أكد ديلثي، “هي العلاقة الداخلية للعمليات العقلية للشخص. إن معرفة الحياة هي وعي متزايد بالحياة والتفكير فيها “.” (Dilthey [1976: 125]). “أهمية الحياة”، كما أكد ديلثي، ” تكمن في تشكلها وتطورها.” [1962: 88]. تعتبر الفلسفة الوجودية بمعنى ما، ثمرة لفلسفة الحياة والظاهراتية، ويبدو أن أورتيغا من خلال ما قدمه من الزأوية التاريخانية عن “الفرد المتفرد” و “الحياة البشرية” باعتبارها الحقيقة المطلقة، قد اتبع نفس المسار الذي سلكه كل من ديلثي وهايدجر (Misch 1931: 5–197, 216–37).

في أعماله لفترة 1930، افترض أورتيغا ان “الحياة البشرية” واقع نهائي، ومن هذا المنطلق استطاع ان يربط الفلسفة التاريخانية الفينومينولوجيا الوجودية مقتربا بذلك من المقاربة الوجودية لهيدغر في كتابه الوجود والزمن (Heidegger 1927 [1962: 21–83 ; Spiegelberg 1960: 62–74; Spiegelberg 1965: vol. 1, 408–413).

بناء على الأساس الابستيمولوجي المفترض “أنا هو أنا وظروفي”، فإن الفرد ; في اعتقاد أورتيغا ; في إدراكه “للإمكانات الحيوية” لجوهر كيانه، يشارك بنشاط في العالم البشري. عملية تحقيق “الإمكانات الحيوية” للإنسان باعتباره كائنًا في طور التكوين وككائن يتواجد في العالم سماها أورتيغا “الدراما” التي “تحدث”. توصيفا أورتيغا عن “الحياة كحدث”، وانعدام الأمن في حياة الإنسان في مواجهة الموت، وتمييزه الأنطولوجي بين الحياة البشرية والأشياء وبين “الوجود” و “الكائن الأصيل”، تتشابه بشكل لافت للنظر مع الأفكار التي صاغها هايدجر عام 1927 في “ما هي الفلسفة؟” ليصطف خوسيه أورتيغا اي غاسيت إلى جانب هيدغر. نقرؤ له:

هذه الكلمات الشائعة، إيجاد الذات، العالم، احتلال الذات، هي الآن كلمات تقنية في هذه الفلسفة الجديدة. بإمكاننا ان نتحدث عنها مطولا، لكنني سأقتصر على ملاحظة أن هذا التعريف،” الحياة هو العثور على الذات في عالم”، وباقي الأفكار الرئيسية في هذا التيار الفلسفي حاضرة مسبقا في اعمالي المنشورة. من المهم بالنسبة لي ان اقر لنفسي بالأولوية الزمنية في القول بفكرة الوجود. ويسرني أيضا أن أعترف بأن الشخص الذي ذهب أعمق في تحليل الحياة هو الفيلسوف الألماني الجديد، مارتن هايدجر.

الحياة هي ان يجد المرء نفسه في العالم. لقد جعلنا هايدجر، في عمل عبقري حديث جدًا، نلاحظ كل الأهمية الهائلة لهذه الكلمات. (Obras, VI: 40-41; VII: 415–16)

كان خوسيه أورتيغا اي غاسيت مهتما بالوقوف عند أوجه التشابه بين عمله وعمل هايدجر، وهذا يفسر جزئيا اهتمامه بتتبع أصالة ما جاء في كتاب تأملات. أشار أورتيغا إلى هيدغر في كتابه مناقشة عامة في فكرة المبدأ عند ليبنتز وتطور النظرية الاستنتاجية

(Obras, VIII: 270–300)، ثم كتابه هيدغر ولغة الفلاسفة (Universitas, 7(9) [1952]: 897-903, Obras, IX: 625–44) وكذلك في حاشية طويلة في مقالته، “جوته من الداخل”(1932) Obras, 4: 403–04, 541)

 بعيدا عن هذا الجدل حول الدين الفكري لأورتيغا تجاه هايدجر، فقد تحول خلال هذه الفترة الحاسمة من الثلاثينيات إلى الصياغة المنهجية لفكرته عن فلسفة الحياة، وذلك واضح بجلاء في مقولته الشهيرة “أنا وظروفي”، كواقع راديكالي يظهر تأثره بالوجودية والظاهراتية في فلسفته عن الوجود والإنسان والمجتمع.

يظهر اذن ان الموقف الأنطولوجي العام لأورتيغا يحمل بعض أوجه التشابه مع التحليل الوجودي لهايدجر، وبينما تُظهر فكرته عن الحياة البشرية بعض الصلات مع فلسفة الحياة لديلثي مع بعض الاختلافات دون شك. فقد تجأوز أورتيغا بنية تحليل الدازاين ة حتى الحياة عبر دمجه للمفهومين. وهذا يعني، بالنسبة لأورتيغا، أن تحليل الكينونة وتحليل الحياة البشرية شكلا في آن واحد التحليل المنهجي لوجود الإنسان في “علاقاته المعيشية” و “وجوده في العالم”. علأوة على ذلك، يوضح أورتيغا أن العلاقة بين مفهوم الزمن التاريخي ومفهوم الواقع اليومي تشكل العلاقة الأساسية بين البشر وأنشطتهم في العالم.

  1. الواقع البشري والسبب التاريخي

يروي التاريخ تصرفات الأفراد في المجتمع. في عالم الأشياء المادية، تتغير الأشياء، ولكن في العالم الاجتماعي للأفراد، تحدث الأحداث. الإشارات إلى الواقع التاريخي، أو إلى الوقت التاريخي، ثم، يتم تعريفها من حيث الدوافع البشرية، والأفعال، وردود الافعال، وبالتالي كأحداث فريدة من نوعها. فما هي الحقائق التاريخية اذن؟ بالنسبة   إلى أورتيغا فان “كل معرفة بالحقائق” باعتبارها معطيات “معزولة”، هي، غير مفهومة ويمكن استخدامها فقط نظريا. ويمكن فهم الترابط في العالم الخارجي بشكل أفضل “في تجميع الحقائق”، لأن “وحدة الحقائق” “ليست موجودة في حد ذاتها” ولكنها توجد “في عقل الفرد”(Obras, I: 316–17). هكذا اعتقد أورتيغا، ان المنطق التاريخي له شكل محدد من السرد يرتبط بعلة سردية اذ لفهم أي شيء بشري، سواء أكان شخصيًا أم جماعيًا، من الضروري سرد ​​تاريخه…. لا تتعلق الحياة سوى بدرجة بسيطة من الشفافية في وجود العقل التاريخي. (Obras, VI: 40)

استند تصور أورتيغا هذا إلى القول بأن الزمن التاريخي يختلف عن الزمن في الطبيعة الذي يرتبط بالأساس بالدوافع البشرية والافعال وردود الافعال. لهذا السبب، غالبا ما وصفت الأحداث التاريخية بأنها أحداث فريدة، على النقيض من قوانين الطبيعة حيث تلتقي عناصر مماثلة في ظل ظروف مماثلة. تاريخ الفرد بهذا المعنى أكثر من مجرد تغيير في الزمن. ويصبح للزمن التاريخي معنى من خلال الفعل الإنساني. لهذا الغرض سعت الفلسفة النقدية للتاريخ إلى الكشف عن نشاط العقل كعملية ملموسة. كما هو الحال مع كل من ديلثي، كروس، ولاحقا، لكولينجوود، ارتبط أورتيغا في توجهه الفلسفي بالتيارات التي صورت العقل البشري بعبارات نشطة اذ نظرت الكانطية الجديدة إلى العقل على أنه مبدع بدلا من القول بكونه يستجيب بشكل سلبي وبطريقة ميكانيكية للمحفزات الخارجية وذلك على النقيض من التجريبية البريطانية الكلاسيكية، كان كانط قد أثبت بالفعل أن كل المعرفة هي وظيفة للعقل البشري. فالعقل يبني مجال المعرفة بأكمله. وهذا ما الهم أورتيغا اذ زعم بأن بنية العقل وحتى التاريخ قد أسيء تفسيرها بشكل جذري من قبل الفلاسفة التجريبيين واعتبر ان صياغة نظرية للطبيعة البشرية وفقا للمبادئ الوضعية والتجريبية المستمدة من العلوم الفيزيائية تقود إلى نتائج خاطئة. هذا الموقف، يفترض أن السلوك البشري ذاتي وثابت، مقدما لما يمكن تسميته ب “قانون عام للطبيعة”. خلافا لهذا الرأي، جادل أورتيغا بأن الطبيعة البشرية عملية مستمرة من التحول الذاتي الانعكاسي الذي يكشف عن أن الأفراد يعدلون ويعيدون صياغة تجاربهم باستمرار. وعليه فانه رفض فكرة الطابع الإنساني الثابت أو المبادئ الثابتة التي تنطبق على جميع الأفراد خلال جميع الفترات.

لشرح الواقع، تهدف العلوم الطبيعية إلى اكتشاف المفاهيم العامة أو القوانين الطبيعية. لكن من أجل فهم العلاقة بين حياة الإنسان والواقع يجب على الفرد التخلص مم يسميه أورتيغا “إرهاب المختبر”. من خلال قراءاته المختلفة لكانط، تعلم أورتيغا أن العقل المستقل يجب أن يحرر الذات من استعباد وجودنا التجريبي. لتجنب الهوة بين فلسفة الطبيعة الفيزيائية وفلسفة الطبيعة البشرية، أكد أورتيغا أن “الإنسان ليس له طبيعة”. لذلك يجب التحرر من أغلال العلماء الطبيعيين، ذلك إن التفسيرات المعممة للعلماء الطبيعيين تستبعد العنصر الأكثر أهمية في الواقع البشري اي حياة الفرد. لكن إذا كان الفرد ليس له طبيعة، فماذا لديه؟  يرد أورتيغا “انسان له تاريخ“. “يعيش الإنسان”، باعتباره “كائنا حيا”، يرتبط بـ “كائنات حية “أخرى تجمع “التجربة الحية للإنسان”. إن تخلي أورتيغا عن التصور العام للفيزياء والرياضيات وفصله بين الفرد والطبيعة، بالإضافة إلى رفضه لفكرة ان المفاهيم العقلانية تنتج معرفة صحيحة بالواقع، يؤكد من جديد موقفه من جدلية العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. فما هو حقيقي وما هو تاريخي هو ما تم الكشف عنه من قبل البشر.

لذلك فإن التاريخ في معناه الضيق يرتبط أساسا بـ”تاريخ البشرية”. فالتاريخ” هو حقيقة الإنسان الذي ليس لديه غيره. فهو الذي جعله ما هو عليه”. اذ اعتقد أورتيغا ان الحياة البشرية “ليست شيئًا” ولكنها “دراما”؛ انها “مصدر فعلي، وليست فاعلًا: أي ما ينبغي فعله faciendum، وليس الفعل factum “. أو كما عبر عنها لكولينجوود بقوله: ” الطبيعة بما هي للأشياء، كما التاريخ بما هو للإنسان…. فطبيعة الإنسان تكمن فيما فعله بنفسه “. ذلك ان لكولينجوود سلم بان التاريخ هو دراسة “ما انجز res gestae أي أفعال البشر التي انجزت الماضي”؛ ولأن التاريخ درس النشاط البشري فهو بذلك دراسة للفعل الهادف. (Obras, VI: 32–33, 41; Collingwood 1948 [1956: 9] ; 1921 [1966:19-20]).

8. الظواهر الوجودية والعالم الاجتماعي والوقت التاريخي

يعيش الفرد بطريقة فاعلة ومنكشفة. يتعلق الانكشاف أولاً وقبل كل شيء بالفرد نفسه. يفهم الفرد كيانه، وهو فهم لا عام ولا مشترك وانما متعلق بكل فرد منعزل، وفقًا لـ خوسيه أورتيغا اي غاسيت (Obras, VI: 25). وبناء على الوجود الداخلي والواقعي للفرد يمكنه فهم ما يقصده بـ”أنا هو أنا وظروفي”. تفرد الشخص هو الذي يحدد ما سيكون. إذا كانت” ظروف “الفرد تشير، بالنسبة إلى أورتيغا، إلى ما يوجه فعل” أنا “، فإنها بهذا المعنى تشكل شرطا، وليس حرمانا للفرد من حريته في الفعل. فالحرية تنطوي على الاختيار بناء على تنوع الاحتمالات التي تنشأ عن “ظروف” الفرد. ليصنع مصيره حتى يصبح “روائي قصته”، يجب على الفرد “الاختيار من بين هذه الاحتمالات”. “لذلك”، جادل أورتيغا،” أنا حر فأنا مجبر بان أكون حرا، سواء كنت أريد ذلك أم لا”. وتتطور ظروف الحرية لتتحول إلى القدرة على الاختيار والتصرف في ظل أي ظروف. وهكذا، بالنسبة إلى أورتيغا، فإن تشكل الفرد نفسه يتحدد من خلال الطريقة التي يتملك بها كيانه. لم يختر الفرد بحرية “ظروفه”؛ ومع ذلك، يمكنه تحمل مسؤولية كيانه بحرية ويكشف تفرده. “مصير الإنسان، إذن هو الفعل “كما افترض أورتيغا. نحن لا نعيش لنفكر بل على العكس من ذلك نحن نفكر حتى نستطيع البقاء” (Obras, VI: 34; 5: 304). وجود الانسان وجوهره هو واقع متغير باستمرار. عندما يتحدد جوهر الانسان مع “ظروفه”، يصبح مسؤولا عن وجوده هو وما يجب أن يكون. وبهذا فان مسؤولية الفعل واتخاد القرار تعود للفرد. قدرة المرء على أن يكون هذا أو ذاك الموجود يتوقف على أفعاله، وبالتالي بالنسبة لأورتيغا، يختلف الفرد اختلافا جوهريا عن الحيوانات والحجارة:

هذه الحياة التي تعطى لنا تعطى لنا فارغة، ويجب على الإنسان أن يستمر في ملئها واستغلالها هذا ليس حال مع الحجر، النبات والحيوان. فوجودهم محدد سلفا اما الإنسان فهو مجبر بان يفعل دائما مجبرا وخاضعا، وما عليه القيام به لم يحدد له قبلا. لأن الشيء الأكثر غرابة والأكثر إرباكا بشأن ظروف العالم الذي نعيش فيه هو حقيقة أنه يقدم لنا دائما، داخل دائرته وأفقه الذي لا يرحم، احتمالات متنوعة لفعلنا نحن ملزمون بالاختيار من بينها لممارسة حريتنا. إن الظرف هنا والآن، حيث وجدنا وسجننا بشكل لا يرحم، لا يفرض علينا في كل لحظة فعلًا أو نشاطًا واحدًا ولكن مختلف الأفعال أو الأنشطة المحتملة ويتركنا بقسوة لمبادرتنا وإلهامنا، وبالتالي يحملنا مسؤوليتنا الخاصة (Obras, VII: 102–03).

تأثر أورتيغا بالفلاسفة الوجوديون وقولهم بحرية الفعل وضرورة أن يختار الفرد ما سيكون عليه. وان كان قد اهتم فلاسفة آخرون بطبيعة الحرية الإنسانية التي سبقت النشاط الفلسفي في أوروبا من أواخر 1920 إلى حدود 1950. لا يلتقي أورتيغا مع الفلسفة الوجودية فقط بمسألة حرية الإنسان، ولكن أيضا مع تجربة الحرية وممارستها. جوهر وجود الإنسان يأخذ سمة مزدوجة في فلسفة أورتيغا بشأن الحياة البشرية والتمييز بين السمة الداخلية للفرد ك ” أنا “ومظاهره الخارجية المادية. هو يعتبر ان “أنا ” تشكل وتتشكل من خلال واقع ملموس في العالم. فالحياة كمواجهة بين “أنا” ومحيطها تضع الإنسان خارج نفسه. وكما قلنا سابقا، فإن” الاحتمال “يعني، بالنسبة إلى أورتيغا واقعا محتملا (من زأوية “ظروف” الفرد). من هذا المنطلق، فإن القول بان “أنا” باعتباره الواقع البشري الأساسي لا يكفي في حد ذاته الا افي إطار فعل الفرد ومواجهته مع الواقع الخارجي (Obras, V: 72–73). وهكذا، فإن مواجهة الانسان المستمرة مع “ظروفه” تقيه من الانعزال والانغلاق على اناه. ويصبح ملزما بان يفعل في وفي ظل هذه الظروف، تصبح التجربة المعيشية مهمة task ويصبح الفرد نتاج الاحتمالات الممكنة لوجوده المحدود. محدودية الفرد يتم اختبارها في الحياة نفسها. وفقا لأورتيغا فان “الحياة هي أسي وحماس وبهجة ومرارة وأشياء اخرى”. فهو يرى بان الفرد في مرحلة معينة خلال تجربته الحياتية قد يغرق في مزاج القلق كما لو كان “بين السيف والجدار” مثلما عندما يصبح الموت وشيكا. “لا ينمن الهرب من الموت! هل لنا خيار اخر؟” يتابع أورتيغا (Obras, VIII: 297; VII: 104). يعتبر أورتيغا ان حقيقة الموت ضرورية للكشف عن جوهر وإمكانات وجود الفرد ملتقيا بذلك مع هايدجر. ففي مواجهة “الموت المحتمل”، ندرك ان الحياة هي وجود ولا وجود.  قبول الموت، باعتباره ممكنا هنا والآن يكشف عن محدودية حياة البشرية في ارتباطها بالزمن وبالواقع. إدراك الفرد لواقع الموت يجعله قادرا على إدراك محدوديته ويكتب أورتيغا:

معرفتنا بذواتنا وبالأخرين لا تتغير …. انها معرفة مفتوحة، لأنها ترتبط بموجود منفتح على إمكانات جديدة. ماضينا مهم ويؤثر على ما سنكونه في المستقبل، لكنه لا يقيدنا …. الحياة هي التغيير؛ إنه في كل مرة لحظة جديدة ومتميزة عما كان، وهي ليست نفسها ابدا. الموت وحده كمنع لأي تغيير جديد، يحول الإنسان وجود نهائي وغير قابل للتغيير … من اللحظة التي نبدأ فيها، يتدخل الموت في جوهر حياتنا، ويشارك فيها، يقلصها أو يجعلها مديدة وكونه وشيكا يدفعنا إلى بذل قصارى جهدنا في كل لحظة. (Obras, VII: 186–87)

هذا التوصيف للحياة البشرية يفترض فكرة أن الوقت من الإنسان، لأن ما يعيشه من أحداث يرتبط بموقعه في الزمن. “أنا وأنا وظروفي”، كنقطة انطلاق للحالة البشرية، تعبر أيضا عن حقيقة أن التجربة الحية للفرد تتعلق بشيء يحدث زمانا ومكانا. بهذا المعنى ما المقصود ب “أنا هو أنا وظروفي “؟ يسلم أورتيغا ان الإنسان كوجود في العالم له غاية ونهاية دون ان يحدد طبيعة النهاية هذه. في الواقع، يميل أورتيغا إلى تعريف “ظروف” الأفراد من حيث كونها ” ظواهر أساسية للمجتمع البشري” والتي تفرض نفسها في الواقع من الخارج على العملية التاريخية التي تتبعها نظريا من الداخل. ترتبط زمانية الإنسان بهنا والآن، لذلك فان هذا الانسان بالنسبة لأورتيغا، يشكل “حدثا” نحو المستقبل. المستقبل ليس-هنا-حتى الآن والماضي لم يعد-هنا وكلاهما مرتبط بالإنسان. ولما كان الموت يتعلق بالمحدودية الداخلية للفرد كما قلنا سابقا، فإن الماضي والحاضر ايضا يرتبطان بمحدودية الفرد في كتمظهرات خارجية وزمانية. الحاضر اي الهنا والآن يصبح تلك اللحظة التي ينفصل فيها الماضي والمستقبل. الحياة في الحاضر تتعلق بعدما “يولد بعض الرجال وعندما يموت بعض الرجال” وهي بذلك “محاصرة” في جوهرها “بين الأرواح التي جاءت من قبل أو التي ستأتي من بعد …” (Obras, V: 35–37). بمجرد أن يصبح الفرد مدركا بأنه وجود قائم على حقائق ماضيه (مثل الحقائق التي ولد فيها أو من كان والداه) والمستقبل الذي يختاره، يتحمل المسؤولية الكاملة عن حياته واختياراته. من جهة أخرى اعتبر أورتيغا ان المستقبل هو الجانب الأكثر أهمية في الزمانية لأنه “المنطقة المفتوحة” التي يوجه الإنسان نفسه تجاهها والتي يظهر فيها الإنسان كيانه. يوجه الفرد نفسه نحو المستقبل، وبالتالي يأخذ على عاتقه ميراث الماضي، متجها نحو الحاضر الراهن والصعب. باختصار، فإن الحاضر ينبع من الماضي من أجل توليد المستقبل.

إن مقاربة أورتيغا للماضي والحاضر والمستقبل كوحدة زمنية تأخذ طابعا خاصا في علاقتها بالفرد. فمن خلال تجارب الحياة، “يجمع الإنسان بين الوجود واللأوجود”. لذلك فان تجربة الحياة ليست أحادية البعد زمنيا بل يجب النظر اليها من خلال الأبعاد الثلاثة للماضي، الحاضر والمستقبل. فاذا كان الفرد يفكر في الماضي فلانه يضطر باستمرار ل اتخاذ قرارات واعية ترتبط بالحاضر والمستقبل. الحياة، الموت، حرية الاختيار، ومحدودية تسكن تجارب الحياة. فاختيار الفرد ا و “القدر جزء لا يتجزأ من هنا والآن. بناء على هذا فان الزمانية متأصلة في الإنسان:

الماضي هو زمن هوية الإنسان الذي لا يرحم. . ولما كان وجود الانسان إيليا Eleatic) نسبة إلى مدرسة زينون الايلي القائلة بالجدل ونفي الكثرة) وجودا يرتبط بما كان فان وجوده الفعلي لا يتعلق بالماضي وانما ب “الوجود كما لم يكن من قبل” وهو بهذا المعنى فالإنسان وجود لا ايلي non-Eleatic. لذلك يتجاوز مفهوم “الوجود” دلالته التقليدية الثابتة. ونتيجة لهذا فان الانسان استمرار في الوجود (Obras, VI: 39). الوجود الفعلي للإنسان اذن لا يتعلق بالماضي أو بالمستقبل فقط وانما أيضا بالحاضر في علاقته بالماضي. وبالتالي، فان تاريخية الانسان تجعل التجليات الزمنية لأبعاده الحيوية واضحة. من خلال العلاقة بين مفهومي “أنا” و “ظروفي “، استطاع أورتيغا الموازنة بين مبدئي التنوع الفردي مع فلسفته للحياة. من خلال النظر إلى الفرد ككائن تاريخي في زمانه، تمكن أورتيغا لإرساء مبدأ التماسك لحقائق الفرد والمجتمع والتاريخ؛ وسيتجلى هذا التوجه الفينومينولوجي في فلسفته عن المجتمع البشري ونظريته للأجيال. من منطلق ان الحياة عملية الحدوث الزمانية للفرد فان القول بان “الإنسان يستمر في الوجود” يأخذ كامل معناه.

القول بان الحياة البشرية تتأسس كنقطة استشراف للواقع، فان واقع الإنسان لا ينفصل عن ظروفه وعن العالم. من جهة أخرى يرتبط الفرد بالكائنات الحية الأخرى. حسب أورتيغا، “يجب على جميع الحقائق أن تجعل نفسها حاضرة داخل حدود حياتنا البشرية”. فحياة الفرد ترتبط بحياة الآخرين وبالأشياء المادية.

على هذا الأساس، فإن الإنسان كوجود في العالم لا يتصور هذا العالم خارج اناه، لأن جوهر وجوده هو فاعلية في العالم. بهذا المعنى يأخذ الوجود عند أورتيغا في عبارته الشهيرة “انا هو انا وظروفي ” طابعا مزدوجا: فهو وجود لذاته من حيث كون “أنا هو أنا”، ووجود مع ولأجل الاخرين من حيث صلته بـ “ظروفي “. يضيف أورتيغا في هذا السياق:

 “عالم كل واحد منا ليس عودا دائما totem revolutum   ولكنه منظم في “حقول برجماتية “. فكل شيء ينتمي إلى واحد من هذه الحقول باعتباره وجودا-لأجل مع الآخرين. (Obras, VII: 130)

ولتعزيز طرحه يستحضر أورتيغا كل من كانط وهوسرل اذ يفترض أن “جميع الناس يعيشون في نفس العالم الواحد”. ويكتب:

هذا ما نسميه السلوك الطبيعي العادي واليومي ولهذا فان الوجود مع الآخرين في العالم هو وجود- مع ووجود مشترك. (Obras, VII: 152)

فكل تفاعل مع الغير “هو علاقة فاعلة في الاتجاهين معا “. بهذا المعنى فإن اكتشاف جسد الغير، كوجود في الواقع هو انكشاف ” للأنا ” كمقابل وكوجود-مع الآخرين. هذا الشكل من الوجود من أجل ذاته ومن اجل الغير هو جزء لا يتجزأ من الوجود- في- العالم والوجود-مع-الغير. بهذا الشكل تمكن أورتيغا من تقديم مقاربة فينومينولوجي لتفاعل الافراد في المجتمع البشري. ويضيف شارحا:

ان ظهور الغير هو الوجه الاخر لعالمنا، لأنه عندما ندرك لأول مرة وجودنا، نجد أنفسنا ليس فقط مع الغير وانما معتادين على وجوده. وهو ما يقودنا إلى صياغة هذه النظرية الاجتماعية الأولى: الإنسان هو انفتاح لحظة الولادة   على الغير، على الموجود الغريب؛ أو بعبارة أخرى، قبل أن يدرك كل واحد منا نفسه، تتشكل لديه الخبرة الأساسية بأن هناك آخرين ليسوا “انا “، بل الغير؛ وهذا يعني ان الانسان ليس فقط مجرد ولادة وانما انفتاحا على الغير …. هذا الانفتاح على الغير   هو حالة اساسية ودائمة للإنسان وليس مجرد فعل تجاه الغير … لكن هذا الانفتاح ليس بعد “علاقة اجتماعية” بشكل صحيح، لأنها لم تتحقق بعد كفعل. إنه وجود مشترك يتشكل ضمن “العلاقات الاجتماعية” الممكنة. هو حضور بسيط في أفق حياتي، حضور باعتباره انسجامًا مع الغير (Obras, VII: 149–50)

من خلال القول بالعالم الاجتماعي كأفق يقترب خوسيه أورتيغا أي غاسيت مما جاء به هوسرل في حديثة عن تجربة التفاعل البشري بين “أنا” و “نحن” و “الآخر” حيث تشكل ” أنا ” الوحدة الأساسية للعالم الاجتماعي.. يعلق أورتيغا بان هوسرل قد أوضح هذا جيدا في قوله بان،” إن معنى كلمة انسان يعني ضمنياً وجود متفاعلا بين هذا وذاك، أي بين جماعة من الناس وذاك والمجتمع “(Obras, VII: 148).

 كما رأينا سابقا، في وصفه الواقع، افترض خوسيه أورتيغا أي غاسيت للتمييز بين الأشياء (أي النباتات والأحجار والحيوانات) والإنسان أن الأشياء موجودة بينما الإنسان يعيش وهو بذلك ليس فقط مجرد جزء من الطبيعة. جميع الأفعال الإنسانية الفردية، في اعتقاد أورتيغا، موجهة نحو موضوعات تتعلق بالسياق المادي والمكاني. إذا كان الموضوع احجرا مثلا، فإن الفعل سيكون أحاديا؛ اما إذا كان حيوانا، سيكتشف الفرد أن أفعاله تترتب عنها ردود فعل من الحيوان. ليكتب:

نحن نعلم أن الحجر لا يعي ما نفعل به …. لكن تتغير العلاقة فيما يتعلق بالحيوان… إذن، ليس هناك شك في أن علاقتي بالحيوان تختلف عما هي عليه في حالة الحجر. فقبل ان أخطط لم سأقوم به أتوقع رد الفعل المحتمل الحيوان بطريقة تجعل أفعالي تتجه نحو الحيوان ولكنها تعود إلى بمعنى عكسي، توقعًا لرد الحيوان. (Obras, VII: 133–34)

نجد أن هذا النوع من الانعكاس المتعالي للفعل ورد الفعل ثم الاستجابات المتبادلة ساسي في العالم الاجتماعي. مع وجود حيوان كموضوع يمكن للفرد أن يوجه إليه أفعاله، يجد الانسان نفسه امام استجابة متبادلة أكثر مما يحدث بالحجارة وغيرها من الأشياء غير الحية. لذلك فان وجود الحيوان بالنسبة للإنسان هو وجود-لأجل ووجود-مع وان لم يكن بنفس الدرجة كما هو الشأن بين الإنسان والإنسان. ومع ذلك يبقى السؤال: ما هو نوع السلوك الذي يمكن اعتباره اجتماعيا؟ يجيب أورتيغا بأن السلوك الاجتماعي ينطوي على تفاعل متبادل بين الأفراد، على النقيض من الأفعال بين الانسان والحيوانات. هو نوع من المعاملة بالمثل في الفعل. هنا يتساءل أورتيغا

 ألا تشير كلمة “اجتماعي” إلى كون الإنسان يفعل في مواجهة ذوات أخرى، والتي بدورها تفعل تجاهه وبالتالي، نوع من المعاملة بالمثل … باختصار ولقول نفس الشيء بطريقة أخرى، أن الفاعلين يستجيبان لبعضهما البعض أي أنهما يتوافقان؟ (Obras, VII: 135–37)

يرى أورتيغا أنه من خلال تجربة الغير كذات أخرى، فإن “أنا” يفهمه ويتصل به كوحدة مماثلة ل “أنا” ترتبط ارتباطا وثيقا بـ “ظروفه” أيضا. يتجلى هذا التفاعل يحدث بطريقة تجعل “الأنا”، ما يقر بذلك أورتيغا، يدرك عالم الغير وعالم “الأنا” كعالم واحد وكنفس العالم من زأوية موضوعية وتجريبية. لأننا جميعا ندرك الواقع من خلال إدراكنا الحسي وان كانت تصوراتنا الفردية لهذا الواقع مختلفة. بالنسبة أورتيغا، كما رأينا، أنا الوحيد الذي هو “أنا”. الما باقي “الانا” فهي موضوعات بمعنى أنه يُنظر إليها على أنها موجودات مادية فقط، لكن بمجرد اعتبارها “شخصًا آخر” أي إدراكها على أنها تمتلك كلًا من الجسد والداخل، أي “انا ” أخرى، يشار إليها باسم “الغير “. مكاني الخاص في هذا العالم اي في الزمان والمكان يرتبط بـ ” أنا ” وجسدي. لذلك، عندما تواجه” الأنا “خاصتي الأنا الغريبة “، من الضروري لها أن تتجاوز نفسها عبر محاولات مجدية لفهم وإدراك وجود الذوات الأخرى. بهذا المعنى فإن الغير -وفقًا لأورتيغا- يجسد” الأنا “التي تمتلك نوعا مماثلا من الوعي، الباطنية والعزلة ومن الصفات الأولية والثانوية الموجودة في “الأنا”. وهكذا، بالنسبة لأورتيغا، من أجل محاولة دخول هذا الباطن، يصبح من الضروري التعالي. إذ يوضح

تعني “الحياة البشرية” بشكل دقيق وحصري حياة كل فرد، بمعنى أنها دائما [وأبدًا تعني] حياتي وحسب… وأضيف أنه في حال واتت الفرصة لظهور شيء في هذا العالم تجدر تسميته بـ”الحياة البشرية” بمعنى آخر، [معنى] لا يكون رادكاليًا، ولا أساسي، أو جلي، بل [معنى] ثانوي مشتق، وكامن -إلى حد ما-، وقائم على الافتراض … ما هو حاسم في هذه الخطوة وظاهر هو [التالي]: حينما تكون حياتي وكل شيء فيها -كونها جلّية بالنسبة إليّ، وكونها لي أنا- ذات سمة جوهرية، ولهذا فإن الحقيقة البديهية بأن حياتي جوهرية لذاتها، وبأنها كلها داخل ذاتها، فالتقديم الغير مباشر، أو compresence، لوجود الغير يجعلنا في مواجهة مع شيء يتعإلى على حياتي ذاتها (Obras, VII: 141)

من خلال وساطة العالم البشري كحياة بشرية جماعية يتواصل الانا والغير. إن واقع “الأنا ” كداخل هو فريد من نوعه بالنسبة ل “أنا “كتعالي لهذه ” الأنا ” على الغير. فوعي ” الأنا “منفصل عن وعي الغير من خلال التمييز ذاته الذي يفصل أولا وعي” أنا “بجسده، وثانيا جسم” الأنا ” عن جسم الغير، وأخيرا، التمييز الذي يفصل جسم الغير عن وعيه. فأجساد “الأنا” والغير هي كما يسميها أورتيغا “مراكز بث” ضرورية، بين وعي “أنا” والغير. لذلك فإن العلاقات بين “الأنا” والغير هي علاقة من الخارج المتعالي. “ما هو الجلي يقينًا في حياتي؟”، يشرح أورتيغا [قائلًا]:

بأن التنبيه أو الإشارة التي [تنبهنا] إلى وجود حيوات بشرية أخرى؛ بيْد أن الحياة البشرية في رادكاليتها الخاصة بها لي [وحدي] وحسب، وستكون هذه حيوات للأخرين مثلي، كل له حياته الخاصة به، ويستوجب من هذا بأن وجود حياة بشرية أخرى يعني أنها توجد خارج حياتي لان حياتي خاصة بي كلها ستقع خارج أو ما وراء حياتي. لذلك فهي متعالية. (Obras, VII: 142)

على هذا الأساس يصبح الفرد وجودا في العالم، مقابلا للغير ومعه. انه وجود محدود تجريبيا يجب عليه أن يتجاوز حدود “واقعه “. يتضح مرة أخرى ذلك التقارب بين خوسيه أورتيغا أي غاسيت والفلسفة الوجودية، فهو نفى أن يكون الفرد قادرا على اتخاد قرارات أو خيارات حرة لتجاوز حدود الوجود وتحقيق الوعي الفردي. كما سبقه لذلك هوسرل، اعتقد أورتيغا تبني الموقف المتعالي حتى يتمكن الفرد من فهم ووعي تجربة “الغير”. وهكذا ترتبط الفلسفات الظاهرية والوجودية معا، لأن الفرد محدود تجريبيا وفريدا من حيث “ظروفه” زمانا ومكانا في العالم هنا والآن. بهذا الشكل يستطيع الشخص التعالي على “واقعه” (Obras, V: 545–47). رغم دحضه لفكرة هوسرل بشأن “التحول التناظري المجرد” و “الاختزال المتعالي “، الا انه استمر وفيا للنهج الفينومينولوجي من خلال قوله بضرورة التعالي على التجربة الفردية كأساس لفهم تجربة الواقع متوافقا بذلك مع هيدغر، سارتر وميرلوبونتي. من زأوية انطولوجية، اعتبر أورتيغا أن جسم الإنسان مرتبط بمجموع ما أسماه الحياة البشرية أو الواقع، وعلى هذا النحو كأساس لبنيته الحيوية. بمعنى أوضح فالجسم هو جسد فرد بقدر ما هو موجود في وحدة لا تنفصل عن واقعه. فهو يتساءل: “ماذا نعني عندما نقول إن الغير أمامنا، أي شخص آخر مثلي، انسان آخر؟” ثم يجيب

انا والانا لا تعني شيئا أكثر من “الحياة البشرية” تلك الحياة الخاصة …الفريدة المتعلقة بكل واحد منا أي “حياتي”… (Obras, VII: 158–59)

يعتقد البعض أن الإنسان قادر على فهم الغير من حيث وجوده وجوهره كفهمه لذاته. تطرح هذه المسالة مشكلة في الفلسفة الفينومينولوجية توقف عندها كل من هوسرل وأورتيغا. اقترح هوسرل حلا لهذه الإشكالية من خلال قوله بالتعاطف empathy أو الشعور بذاتنا في الغير   Einfühlung. مفهوم التعاطف من فلسفة الحياة Lebenswelt هذا نجده عند هيوم من خلال فكرة “العطف” sympathyكتجربة ندرك من خلالها الغير (هيوم 1739 [1985: 367–69]). رفض أورتيغا هذا الطرح لأنه يفترض ان “الغير” مشابه للانا. اعتقد هو بالمقابل ان الغير وان كان “انا” اخرى ومع ذلك فهو يظهر لي ك “غير “رافضا بذلك القول بفكرة alter ego كمقابل للانا كما جاء عند هوسرل في التأملات الديكارتية. لتصبح مسالة “ظهور الغير” أساسية في موقفه الوجودي الفينومينولوجي من الوجود-مع الغير ولأجل-الغير.  للوقوف عند ابعاد هذه الإشكالية استبدل أورتيغا فكرة” قصديتي” عند هوسرل بفكرته “حياتي كواقع أساسي”” (هوسرل 1933 [1964: 89–100, 104–11] ; ZPI: vol. 14, 3–11, 429–33; vol. 15, 40–50; وشيلر 1923 [1954: 6–50] ; Obras, VII: 161–63).

ليس الانا معزولا في العالم.  وهذه هي الصفة الأساسية للوجود مع الغير كما يؤكد ذلك أورتيغا نافيا بذلك ان يكون الوجود عبارة عن ذات معزولة تجد نفسها في مواجهة مع ذات أخرى معزولة أيضا. فالغير ك “انا أخرى” يمتلك ميزة:

فالغير ليس حادثا أو مغامرة قد تعترض الإنسان أو لا، بل هو خاصية أصلية. أنا المنعزل لا يمكن أن يكون “شخصا “الا بوجود اخر يتفاعل معي. وقد عبر هوسرل عن ذلك بقوله “ان معنى كلمة “انسان” تفترض وجودا متبادلا بين ذات وأخرى ما يشكل جماعة من الناس أي مجتمعا”. وعليه:” لا يمكن القول بفكرة الفرد ما لم يكن هناك أناس آخرون حولهم”. لذلك فان فكرة وجود انسان معزول شيء متناقض ذاتيا ولا معنى له…. لا يظهر الانسان منعزلا وان كانت الوحدة هي حقيقة الانسان وهو مع ذلك يوجد اجتماعيا مع الغير، التردد على الفرد بصفته المتلقي (Obras, VII: 148).

“أنا” والغير تتشكلان من خلال ظهورها أمام بعضها البعض، في عالم المجتمع المشترك، من خلال التفاعل المتبادل. هنا يتفق أورتيغا مع هوسرل من حيث محاولة التوفيق بين عوالم ” أنا “والغير، العزلة والمجتمع، الغير كشرط لا غنى عنه للوجود في العالم.

وهكذا، في العالم الاجتماعي للوجود مع الغير، يوجه الفرد نفسه بعيدا عن الاحتمالات التي قد ينظر إليها على أنها تخصه فقط ويحاول توسيع فهمه لنفسه من خلال الارتباط بإمكانيات العالم المشترك للآخرين. يصبح العالم الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد باعتباره الشخص الذي يرتبط بأفراد آخرين من خلال علاقات متعددة عالما يفسره ليكون ذا معنى لإمكانياته و “ظروفه” ول “هنا والآن”. من هذا المنطلق يدعونا خوسيه أورتيغا أي غاسيت إلى أن نحاول أن نتحرر من انعزال أنفسنا…” (Obras, VII: 140). فاذا كان البعد الزماني لواقع للإنسان جزءا لا يتجزأ من واقعه هنا والآن، فإن واقع العالم الاجتماعي هو أيضا اساسي في حياته هنا والآن. كشفت الزمانية الفردية عن نفسها على أنها وعي ببنية داخل الذات. اما حقيقة العالم الاجتماعي فهي تكشف عن نفسها للفرد كعالم منظم متعدد الابعاد يشاركه “الأنا” مع الغير. التمظاهرات المكانية والزمانية لهذا التداخل بين “أنا ” والغير تميز عالم” أنا ” عن العالم الاجتماعي للغير. هنا يوضح أورتيغا

عالمي هو عالم الناس الآخرين، أي غير المفرد اكان أو جمعا، ولدت بينهم وبدأت العيش. انني منذ البداية أجد نفسي ضمن عالم انساني أو مجتمع. (Obras, VII: 177)

يكتشف الفرد “أناه” من خلال الآخرين عبر ما حققوه أوما فشلوا في تحقيقه في العالم الاجتماعي. وبالتالي فإن تجربة العالم الاجتماعي من قبل “الأنا” تبرر تحققه كوجود في العالم من خلال تجربة الغير الذين يتفاعل معهم “الأنا”. وتتسع إمكانات الفرد وفهمه لذاته لقائه مع ” الغير “في العالم الاجتماعي المشترك. لكن، ومن زأوية مغايرة يرى أورتيغا ان لعالم الاجتماعي يقيد إمكانات الإنسان في عدة جوانب. ذلك ان الانسان وباعتباره وجودا محدودا تجريبيا يواجه باستمرار إمكانية الموت، وان كان بإمكانه بذل مجهود لتجأوز حدود وجوده عبر اتخاذ خيارات وقرارات حرة. وعلى العكس من ذلك، فإن الإنسان، باعتباره مترابطا اجتماعيا ومحدودا تجريبيا بوجوده مع أفراد آخرين، يجد صعوبة في تجأوز عملية المعاملة بالمثل كتفاعل ضمن سياق الواقع الاجتماعي، وبالتالي، يصبح الانسان مشروطا من قبل المجتمع. ولان هذا العالم الاجتماعي يعني المجال المحتمل للعمل بالنسبة لنا جميعا، يجب على الانسان التمييز بين ما يشكل إمكانيات الآخر وما يشكل الاحتمالات المتأصلة في تفرده كوجود محدود. يصرح أورتيغا:

ما لك غير موجود بالنسبة لي. فأفكارك وقناعاتك غير موجودة بالنسبة لي. اجدها غريبة ومخالفة لي …. كلكم مختلفون عني، وعندما أقول “انا” فاني جزء ضئيل جدا في العالم، ذلك الجزء الصغير جدا هو ما اسميه “انا” (Obras, VII: 178, 189–90)

لكن يجب على الفرد أن يعيش لا ك “أنا” معزولة أو متوافقة مع العالم الاجتماعي المشترك. بل، يجب أن يعيش ك “أنا” فريدة من نوعها. فالفرد تعني ذلك الوجود المنفتح على الغير وعلى إمكانات وجوده في عالم “انا” و “نحن”. “إنه في عالم الغير وبفضلهم”، ليضيف أورتيغا:

ان الشيء الذي انا عليه يتشكل تدريجيا بالنسبة لي. اكتشف عددا لا يحصى من الذوات التي اختلف عنها من حيث صفاتي عيوبي طبعي وسلوكي بشكل يؤسس لتميزي ك “انت” اخر alter tu. (Obras, VII: 196)

مفهوم “العالم الاجتماعي”، أو المجتمع عند أورتيغا يتعلق بوصف التفاعل الفينومينولوجي بين ” أنا ” المفرد وباقي “الانا” الاخرين. فالعالم الاجتماعي هو المجال الذي تمتد فيه العملية التفاعلية لـ “أنا” و “ظروفها” لتشمل باقي ” الأنا ” الأخرى. بناء على هذا أصبح أورتيغا مهتما بالأنماط الأساسية للتفاعل البشري في الواقع الاجتماعي. ما العلاقة الاجتماعية للأفراد فيمكن تعريفها بوصفها الوحدة المميزة للتفاعل المتبادل بين الافراد. كما أوضح ذلك:

ان البنية الأساسية التي هي العلاقة الاجتماعية، التي من خلالها يظهر الإنسان ويكشف عن نفسه أمام الانسان الآخر، كغير، وكمجهول، كفرد لم يتم تحديده بعد، ك “انت وأنا”. أصبحنا الآن مدركين لشيء يشكل عاملا مكونا في كل ما أسميناه “العلاقة الاجتماعية” أي أن كل ما نقوم به وكل ردود افعال الآخرين هذه تتكون من خلالها ما يسمى “العلاقة الاجتماعية”، تنشأ عن فرد ” أنا” على سبيل المثال، وتتجه إلى فرد آخر على هذا النحو. لذلك فان “العلاقة الاجتماعية” هي واقع بين-افراد. (Obras, VII: 202–3)

 

9. الواقع الاجتماعي، “انسان الحشد” و ” مجتمع الحشود”

إن سلوك الأفراد وتفاعلهم في العالم الاجتماعي، بالنسبة إلى أورتيغا، يشكل حقيقة قابلة للتحليل الموضوعي باعتباره المجال الذي قد نتصور فيه الوظائف الملموسة للتفاعلات البشرية ونفسرها. تنتظم مقاربة أورتيغا للعلاقات الاجتماعية حول نظريات “النخبة المبدعة “و”انسان الحشد “و”مجتمع الحشود”. بالنسبة إلى أورتيغا، فإن مفاهيم ” انسان الحشد “و” مجتمع الحشود “هي كتمظهرات للظواهر الاجتماعية والتاريخية التي يمكن إدراكها، جزئيا، من خلال اعدادها وحجمها الهائل في العالم الاجتماعي. لكنه يشير على الفور إلى أن حجة الكمية المطلقة بالكاد تفسر بدقة أو بشكل كاف حقيقة أننا “نرى ان هذا العدد الكبير يمتلك الأماكن والأدوات التي أنشأتها الحضارة” لذلك فان التركيز أكثر على الصفات الجوهرية لإنسان الحشد من شانه ان يقربنا من فهم تمظهراته من حيث التكتل والعدد (Obras, VII: 144, 143). اذ يجب أن نركز في مقاربتنا الفلسفية لإنسان الحشد ومجتمع الحشود والنخبة كمفاهيم اجتماعية على خصائصها النوعية أكثر من خصائصها الكمية. ذلك ان تحديد الصفات النوعية لما يشكل الحشود والنخبة أكثر أهمية لفهم ليس فقط للأفراد الفريدين في المجتمع ولكن أيضا للوقوف عند إمكانات استمرار هؤلاء الأشخاص الفريدين كوحدة دينامية. يكتب أورتيغا :

مفهوم التعدد هو كمي وبصري. إذا قمنا بترجمة المفهوم إلى مفاهيم اجتماعية دون تغيير طابعه، فإننا نجد فكرة الكتلة الاجتماعية. المجتمع هو دائما وحدة دينامية تتكون من عاملين مكونين: الأقليات والجماهير. تتعلق الأقليات بأفراد أو مجموعة أفراد مؤهلين تأهيلا خاصا. اما الكتلة فتشير إلى مجموعة من الأشخاص غير المؤهلين بشكل خاص. لكن لا ينبغي أن يفهم من معنى الكتلة انها تتعلق فقط   “الجماهير العاملة” ذلك ان الكتلة انما تشير إلى “الانسان العادي”. بهذا المعنى فان ما كان يحدد أولا عدديا أصبح الان يتعلق بمجموع صفات نوعية مشتركة تتعلق بذلك الانسان غير المتميز عن غيره، العام، اما الأقلية فتشير إلى كل من ينفصل عن العام نتيجة لدوافع خاصة وفردية …. وهذا ما يشكل الأقلية (Obras, IV: 145–46)

بالنسبة إلى خوسيه أورتيغا أي غاسيت، يجب على” المؤهل بشكل خاص ” أي المنتمي للنخبة، “الانسان المختار “، أن يفصل نفسه عن القيم المشتركة للجميع من خلال وضع سقف مطالب أكبر بالنسبة لنفسه وبالاستفادة من تفرد واقعه. يجب عليه إذن أن ينسحب أحيانا من الواقع الاجتماعي للآخرين إلى واقع “الأنا” وأن يتجاهل للحظات القيم الموضوعية للعالم الاجتماعي ويخلق القيم الذاتية المستمدة من تفرد وجوده. هذا الانسحاب عزلة ضرورية كلما واجهته قيود الحشود. لنجد هنا ان أورتيغا يقترب بشكل كبير من مفهوم الانسان الأعلى عند نيتشه übermensch. اذ يرى نيتشه ان الانسان الأعلى يحرر نفسه من “اخلاق العبيد “عبر خلق قيمه الخاصة (نيتشه1887 [1969: 36–43]). هكذا يعتقد أورتيغا أن الفرد ملزم بأن يتجاوب مع ظروف العالم الاجتماعي ويتفاعل بنشاط مع الأفراد الآخرين. ومع ذلك، فإن تطور الوعي الفردي وتحقيق الإمكانات الحيوية للفرد يستلزم أيضا انسحابا من الواقع الاجتماعي كعزلة الذات لكن دون انغلاق الأنا، وذلك بهدف تحقيق تفرد “الأنا” ضد قيود المجتمع في إطار التفاعل البشري المتبادل. على الرغم من أن أورتيغا رأى أنه “لا يوجد خلق دون انسحاب الذات”، إلا أنه أكد أيضا أن “أنا” ملزم بأن يواجه الغير ويصطدم به في إطار الصراع الذي يسميه “العلاقات الاجتماعية”. ان دينامية “اللا-عزلة ” لا تتحقق فقط من خلال أفعال وابداعات الفرد في العالم الاجتماعي باتجاه ” أنا ” إلى الغير، ولكن أيضا باتجاه العالم الاجتماعي هنا والآن وفي المستقبل ومن جيل إلى آخر. بالنسبة إلى أورتيغا، يجب على الانسان   أن ينسحب من العالم الاجتماعي لتحقيق الإمكانيات الحيوية لوجوده، ولكن أيضا لمحاولة خلق وتفعيل الاحتمالات الحيوية للعالم الاجتماعي التي يتم من خلالها تتحدد ظروف وجوده. بهذا الشكل يساهم الفرد من خلال انخراطه الفاعل والاجتماعي في صنع جوهر المجتمع والتاريخ وجوهر وجوده هو. (Obras, V: 79–80).  تقودنا هذه الزمانية-المكانية للإنسان وظروفه للحديث عن مقاربة أورتيغا لمفهوم “الجيل” ودور هذا المفهوم في فلسفته التاريخية.

 

10. مفهوم الجيل، الزمانية، العقل التاريخي والفلسفة النقدية للتاريخ

يكشف العالم الاجتماعي عن تجارب الأفراد الآخرين في العالم المشترك، أي الحاضر من حيث هو هنا والآن. الواقع الاجتماعي بالنسبة لأورتيغا لم تتم تجربته بعد بشكل مباشر من قبل الفرد في إطار هنا والآن ولكنه معاصر لحياة الفرد ويمكن بعد ذلك تجربته في المستقبل. ذلك الهنا والان يجمع بين الفرد وباقي الافراد المعاصرين له (Obras, V: 36–42). هكذا يكشف الواقع الاجتماعي لـ “المعاصرين” عن العملية الواعية لجيل من الأفراد كعملية زمنية.

إن الزمانية في حياة الأفراد المعاصرين لبعضهم وما أسماه خوسيه أورتيغا أي غاسيت “coevals” هي أساسية لمفهوم الجيل. بهذا المعنى، يرتبط الإنسان بمعنى الزمن حيث ترتبط أحداث حياته بمواضعها في الزمن المناسب ويتشكل بذلك مفهوم الجيل وأساس التغيرات التاريخية. ذلك ان حياة الانسان كبنية متغيرة مع تقدمه في السن والعمر ومع كل ما لم يعد هنا وليس هنا بعد. يكتب أورتيغا بان “الحقيقة الأساسية في حياة الإنسان:

هي أن بعض الرجال يموتون ويولد آخرون. حياة الإنسان، في جوهرها، محاطة بالأرواح الأخرى التي جاءت من قبل أو التي ستأتي بعد-إنها تخرج من حياة واحدة وتذهب إلى حياة أخرى. هنا اذن تكمن الضرورة الحتمية للتغير في بنية العالم…لكن هذا لا يعني أن شباب اليوم يختلف عن شباب الأمس؛ ولكن من المحتم أن يكون لحياته إطار مختلف عن إطار الأمس. وهذا يبرر سبب وفترة التغيرات التاريخية المرتبطة بشكل أساسي بحياة الإنسان، ذلك أن هذه الحياة البشرية ترتبط دائما بعصر أي بفترة زمنية. الحياة هي الزمن كما أشار لذلك دليتاي Dilthey وكما كرر ذلك اليوم هيدغر Heidegger؛ وهي ليست الزمن الكوني لأنه غير محدود، اما هي فمحدودة نحو النهاية، وهي الزمن الحقيقي، والزمن الذي لا يمكن إصلاحه. لهذا السبب فان للإنسان عمرا. العمر هو وجود الانسان في جزء معين من زمنه المحدود سواء كان بدايته، منتصفه ونهايته الوشيكة، أو كما اعتدنا ان نتحدث عن الطفل، البالغ، الشاب والعجوز. (Obras, V: 37)

من خلال مبدأ التغيير يصبح مفهوم الجيل عند خوسيه أورتيغا اي غاسيت هو ذلك المبدأ الذي من خلاله يلتقي هنا -والآن، وليس -هنا -حتى -الآن مع الواقع الزمني للعالم الاجتماعي. وهكذا فمن خلال الحديث عن  “زمن  الحياة” على أنه يتكون من الشباب والنضج والشيخوخة يميز أورتيغا بين مفهوم الجيل باعتباره  تمييزا افقيا  للأفراد الأحياء باعتبارهم “معاصرين” إلى جانب  التمييز العمودي من خلال  العمر ، بين الشباب والنضج والشيخوخة من خلال قوله بمفهوم  “coevals” الذي يتعلق بذلك التفاعل بين الافراد من نفس العمر تقريبا مفهوم الجيل بهذا المعنى يرتبط ب coevals (الاقران بمعنى ما) ثم المعاصرين المنتمين لنفس الحقبة الزمنية بغض النظر عن أعمارهم وأخيرا بتفاعل هؤلاء مع الزمان و المكان (Obras, V: 37–38). وعليه، اعتقد أورتيغا ان مفهوم الجيل أساسي لفهم الوضع البشري. ومع ذلك، فإن سؤال يفرض نفسه هنا: كيف نميز هؤلاء الأفراد المتفاعلين مع ” ظروف ” واقعهم والذين تختلف عوالمهم الاجتماعية عن تلك الخاصة بأفراد اخرين؟  قد يمتلكون نفس العمر وأنشطتهم معاصرة، لكن قد لا يجمعهم بالضرورة أي “اتصال حيوي” مع مجموعة اجتماعية أخرى، لأن عوالمهم الاجتماعية مختلفة مكانا وليس زمانا. يأخذنا هذا السؤال إلى الابعاد التاريخية لمفهوم الجيل عند أورتيغا.

تسلط الطبيعة التاريخية للواقع البشري والفكر الاجتماعي الضوء على فكرة خوسيه أورتيغا أي غاسيت القائلة بأنه “لا يوجد جيل يتشكل تلقائيا” بالنظر إلى “تسلسل الأجيال” واستمرار التاريخ. تعكس معتقدات الناس وأفكارهم ما نسميه “عقول الناس” في علاقتهم بالجيل الذي ينتمون اليه وبوصفهم جزءا من “حدوث” لعملية تاريخية (Obras, VI: 202–4). إذن وكما قلنا سابقا فان وجود الانسان في نظر أورتيغا هو” مجرد ما يحدث للإنسان”, وهو حدوث باتجاه المستقبل (Obras, VI: 37, 40-41). هذا الشعور التاريخي بالاستمرارية بين “عقول الناس” والأجيال يمكن أورتيغا من التأكيد مرة اخرى أن الفرد لا يمكنه أن يعيش منغلقا على “اناه” (سواء كان” انسان حشد “أو” نخبة “).  لا يتطور الفكر الاجتماعي بشكل عام ولا أفكار الافراد بشكل خاص إذا ما عاش منغلقا على ذاته solipsistic vacuum. كوجود اجتماعي، تتأثر افكار الفرد بالماضي وبالسياق التاريخي والعالم الاجتماعي الذي ظهرت فيه. من هذا المنطلق، فان كل من: الإنسان، الزمن، الفكر والمجتمع تأخذ معنى   تاريخي بشكل أساسي. بالنسبة لأورتيغا، لا يولد الفرد في مكان ما ولحظة ما؛ وإنما في لحظة معينة من الزمن وفي مكان محدد في الفضاء. الحياة البشرية لها بداية ونهاية، وعند دخول العالم ، يدخل الإنسان إلى عالم اجتماعي يعطى له بالتزامن مع العملية التاريخية في بعدها الزمني. وكما أكد ذلك أورتيغا سابقا فان “الانسان لا طبيعة له … بل له تاريخ “لهذا نقول “الانسان هو صانع نفسه…  causa sui”

(Obras, VI: 33). التاريخ، إذن، هو العملية التي يصبح من خلالها جوهر الإنسان واضحا كفرد وكوجود اجتماعي. كوجود فردي، يعي الانسان داخليا العملية تاريخية؛ اما كوجود في العالم، يختبر الإنسان تعاقب الأجيال كحدوث خارجي داخل العملية التاريخية.  افترض أورتيغا ان “موضوع التاريخ” و “الفكر التاريخي” يتعلقان ب “الظاهرة الإنسانية ” في إطار الأحداث الداخلية والخارجية. ذلك ان التاريخ من حيث كونه تعاقبا للأجيال، لا يفصح فقط عن السمات الأساسية للفرد في وقت ومكان معينين فحسب، بل يقدم لنا أيضا “مبدأ تنظيميا” يفسر ترابط الظواهر الانسانية. إن وحدة الماضي والحاضر في التاريخ، بالنسبة لأورتيغا، تتحدد من خلال تجارب الأفراد.  مثل Croce كروس، يعتقد أورتيغا ان التاريخ “معاصر” و “حي”, في حين أن الحقائق المجردة هي “وقائع ميتة”.  من خلال هذه العلاقة بين التاريخ والحياة، عرف خوسيه أورتيغا أي غاسيت التاريخ في اختلافه عن الاحداث التي تتميز بحيويتها وانيتها بدلا.  المعاصرة التاريخية بهذا المعنى هي تلك العملية الديناميكية والتي يمتصها الماضي باستمرار وبناء عليه تتغير العلاقات بين الأحداث الماضية والأحداث الحاضرة، لذلك فإن الفيلسوف لا يكتفي فقط بوصف وتحليل الماضي ولكن يحاول أيضا فهم هذه العلاقات بالتزامن مع الحياة البشرية. وهذا ما يحدد الطابع النقدي للتأويلات التاريخية الذي ينتج عن القراءة الذاتية للماضي. من خلال هذه المناولة النقدية للماضي، يحقق الجيل المعاصر وعيا تاريخيا أعلى بوجوده الفردي مدركا التغيير الزمني داخل ذاته إلى جانب وعيه بالمظاهر الخارجية للتغيير في العالم الاجتماعي. لنقول ان مفهوم الجيل عند أورتيغا متضمن لمفهوم المنهجية التاريخية:

إن مفهوم الجيل قد تحول إلى منهج للبحث التاريخي في علاقته بالماضي. وهو ما يسمح لنا بان ندرك حقيقة الحياة البشرية في كل فترة من الزمن وتلك هي مهمة التاريخ. هكذا نستطيع ان نرى الحياة من داخلها. التاريخ قد يكاد يكون تحويلا لما قد مر بالفعل ليصير ما هو موجود. لهذا السبب فان التاريخ هو إعادة احياء للماضي بالمعنى الدقيق للكلمة وليس مجازا. ولان الحياة ليست الا الراهن والحاضر علينا ان ننتقل باتجاه الماضي وننأوله من الداخل ليس كتجارب مرت ولكن كتجارب ما زالت حاضرة (Obras, V: 40).

لهذا فان الدراسة التاريخية مهمة إنسانية. انه نهجنا لمعرفة الفرد والإنسانية، فمن خلال التاريخ نكتسب ثروة وحكمة الثقافات الماضية. إن الوعي النقدي بإمكانيات الانسان يمكننا من مواجهة عصرنا التاريخي برؤى أعمق والتزام فعال. هذا ويعتمد التاريخ على وعي المؤرخ، وبالتالي، فإن الجوانب الإنسانية للوعي التاريخي تنبع من إدراك أن حياتنا هي ما يشكل الزمن. لشرح فكرة ان   ” الماضي هو الماضي “، كتب أورتيغا:

ليس لأنه حدث للآخرين ولكن لأنه جزء من حاضرنا، مما نحن عليه اليوم كوجود، لان التاريخ هو ماضينا. الحياة كواقع هي الحضور المطلق فلا يمكننا ان نقول بان هناك شيئا ما ان لم يكن حاضرا في هذه اللحظة والا فهو من الماضي. إذا كان لابد ان يكون هناك ماضي فلا بد ان يكون حاضرا وفعالا الان. (Obras, V: 40, 55; 6: 33)

هنا يلتقي خوسيه أورتيغا أي غاسيت مع فكرة كروس Croce القائلة بأن “نحن نعلم أن التاريخ فينا جميعا وأن مصادره في صدورنا”. وفقا لهذه الفكرة، فإن “بيانات الأحداث التي عاشها الميت” تعجز عن تسجيل واقع التاريخ والحياة البشرية، نظرا لطابعها “الحيوي”، لذلك فان الحاضر واحد مع الماضي والمستقبل. يتعلق التاريخ بما نحن عليه وليس بما لدينا. فبفضل التاريخ ندرك من نحن من خلال ما قمنا به. لذلك فان التاريخ يتشكل ويشكلنا (Obras, VII: 178–79). من خلال مفهوم “العقل التاريخي “أوضح أورتيغا ان الحاضر ينشا عن الماضي من أجل توليد المستقبل. من خلال هذا المفهوم أيضا استطاع أورتيغا التمييز بين” العلوم الثقافية “و” العلوم الطبيعية ” مفترضا فكرة أن التاريخ له سبب” أصلي ” خاص به تماما. إن فكرة أورتيغا هذه عن السبب “الأصلي” للتاريخ تؤسس للتاريخ استقلاليته عن كل من المفاهيم المتعلقة بالفلسفة ومنطق “العقل الفيزيائي -الرياضي”. إن دفاعه عن التاريخ كعلم خاص بالإنسان، وتركيزه على فكرة الأساس” الأصلي “لـ “العقل التاريخي “، يؤكدان رغبته في بناء منهج جيد لدراسة التاريخ في مقابل حرصه على التذكير بالطابع” المتعالي ” للعقل المادي والرياضي. ولان التاريخ هو جوهر الواقع الإنساني، توفر لنا المعرفة التاريخية الفهم الأساسي لهذا الواقع البشري. فكل مفهوم يرتبط بالواقع الإنساني يتعلق بالزمن التاريخي (Obras, VI: 40–41). ليحل “العقل التاريخي” محل العقل المادي والرياضي كمبدأ لفهم الواقع والحياة البشرية، وهو مبدأ يقوم على التنوع والوحدة. هكذا تمت عقلنة التاريخ وتم تأريخ العقل، كما هو الحال مع الفرد:

يغترب الانسان عن نفسه ليواجهها كواقع تاريخي. ليجد نفسه ملزما بفهم التاريخ ليس من باب الفضول فقط بل لان لا بديل له عن ذلك. لا تتم الأمور على محمل الجد ولكن عندما تكون ضرورية للغاية. لهذا السبب، فإن الزمن الحاضر هو الوقت المناسب للتاريخ لإعادة تأسيس نفسه كعقل تاريخي.

قديما ساد الاعتقاد بان التاريخ مخالفا للعقل. اذ عمد اليونان إلى جعل مفهومي “العقل ” و “التاريخ” متعارضين. ولم يكن أي شخص مهتما بالبحث في المضمون العقلاني للتاريخ …. ومن هنا يجب فهم تعبير “العقل التاريخي”. فهو ليس خارج العقل ولنما يتشكل بناء على ما حدث للإنسان متعاليا على نظرياته” (Obras, VI: 49–50).

في إحدى كتاباته عن هيجل، لاحظ خوسيه أورتيغا أي غاسيت تغيير في الموقف الفكري الأوروبي مصرحا “بأن الروح “الحديثة” شهدت في السنوات الأخيرة تغيرا … فهي لم تعد تؤمن بالعصر النهائي.” (Obras, II: 565–66) لقد جسد هذا الموقف الحديث ما اعتبره أورتيغا واحدة من الخصائص المميزة للحداثة: أي الوعي المتزايد بالحياة البشرية، والتأكيد على الحرية الإبداعية. رأى أورتيغا ان السنوات الأولى من القرن العشرين عالم أفرغ من المعنى وسعى إلى الإفلات من اليأس الذي أثاره عدم المعنى هذا. لتحويل هذا الشعور باليأس، أكد أورتيغا على ضرورة النظر إلى “حياتنا، حياة الإنسان “، ك “واقع صرف “. لتصير الحياة البشرية “واقعا تاريخيا” (Obras, VII: 99–100; 2: 540–41) هكذا يتضح موقف أورتيغا بجلاء معلنا افول الفلسفات التأملية للتاريخ وبداية فجر التاريخ البشري مع مفهوم “العقل التاريخي”. نفهم اذن ان حياة الافراد تاريخية لها بداية ونهاية، اما التاريخ فليس له بداية أولى ولا نهاية. لا يمكن تصوره إلا بوصفه تحقيقا لإمكانات الفرد في الزمن التاريخي من خلال محاولة السيطرة على الطبيعة وإحياء الأفكار والحياة الواعية للماضي، بشكل يسمح للجيل المعاصر باتخاذ قراراته بناء على المعرفة النقدية بالتجارب والإنجازات البشرية السابقة. يفهم التاريخ هنا بمعنى مزدوج باعتباره أولا كعالم واقعي للظواهر وكمبحث يهتم بأثرها في الحاضر.

من جهة أخرى، وانطلاقا من فكرة ان الوعي هو دائما وعيا بشيء ما، حار أورتيغا ومعاصروه في تحديد ما هو الوعي في ذاته وكيف يرتبط بموضوعاته. فهو لا يتطابق لا مع الأشياء، ولا مع ادراكنا لها. اما الوعي التاريخي فيتعلق بفهمنا للوضع الإنساني ك “وجود-في-الزمن”.. ذلك أن الترتيب الزمني للأحداث يشير إلى طبيعة الوجود البشري. وبالتالي فإن الوعي التاريخي يسمح للفرد وللحضارة ولفيلسوف التاريخ بتوسيع الإطار الزمني لتجاربهم لاستيعاب نتائج الأحداث التي لم يكنوا جزءا منها. وعليه فإن دراسة التاريخ تفتح الأفق للمشاركة في اكتمال التاريخ البشري. هذه المشاركة في التاريخ مباشرة وفاعلة. فاذا كان العالم الفيزيائي يدرك الظواهر بشكل مستقل عن ذات الملاحظ، فإن للتاريخ طابعا حقيقيا في وعي المؤرخ. تعني كلمة “تاريخ”اذن التاريخ والراهن والتاريخ المكتوب أو res gestae  كما اعتقد أورتيغا وكولينجوود أي ذلك التاريخ الذي حدث بالماضي. فالماضي موجود فقط بقدر ما يستحضر من قبل المؤرخ من خلال التعاطف والتفهم. واما المعرفة الموضوعية للماضي فيمكن تحقيقها فقط من خلال التجارب الذاتية للباحث في التاريخ. وبالتالي، فإن فهم أي حدث سابق، يعني فهمه كتعبير أو عملية معنى مرتبطة من الناحية المفاهيمية ببعض الأنماط الأساسية للفكر أو القصد، وليس كعلاقة مستقلة تماما. علاوة على ذلك، فإن التاريخ يفترض بنية مسبقة   لفهم القواعد أو الأفعال بوصفه نشاطا وتجربة إنسانية.  كما ذهب إلى ذلك   كولينجوود مؤكدا ان الفهم التاريخي يتطلب إعادة بناء الماضي عن طريق المماثلة مع الغير لغرض التوصل إلى فرضية تفسيرية.

من ناحية أخرى، يسلم أورتيغا أيضا بأن الانسان يضع لنفسه برنامجا للحياة، وهو شكل ثابت من الوجود، يستجيب للصعوبات التي تضعها امامه الظروف. فهو يجرب شكل الحياة، ويحاول تحقيق تلك الشخصية الخيالية التي قرر أن يكون. وينخرط في هذا الوهم مبدعا تجربة حياته …. ولكن سرعان ما يدرك عجزه وقصور قدراته. فصعوبات الحياة لا تنتهي انما دائما تظهر أخرى جديدة (Obras, VI: 41).

سعى المؤرخون ال التأكيد على ان بنية التحليل في التاريخ مشابهة لمناهج العلوم الاجتماعية، فتفسير الاحداث التاريخية الماضية بالرجوع إلى دوافعها يسمح بافتراض صحة المبادئ العامة. وقد وجد أورتيغا نفسه، جنبا إلى جنب مع كروس، ديلثي، كولينجوود وغيرهم من أصحاب المنهج التاريخاني ممن أكدوا ان تأويل الأفعال الإنسانية يثير إشكالات وصعوبات امبريقية ومنهجية أكبر من منطلق تفرد الكائن الإنساني. أصحاب هذا المنهج أولوا اهتماما خاصا بالأبعاد الفلسفية للمعرفة التاريخية وبذلوا محاولات لتطوير مشكلة ربط الافتراضات المسبقة بمشكلة المعرفة التاريخية منهجيا. فهم سعوا إلى التمييز بين الفلسفة، فلسفة التاريخ والمعرفة التاريخية. كتب أورتيغا بأن “التاريخ”

هو استمرارية مثالية. افكاري تولدت عن أفكار لشخص اخر …وبناء عليه فان الفكر التاريخي، الفلسفة، القانون، المجتمع، الفن والآداب، اللغة والدين مترابطة فيما بينها كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الطبيعية التي حاول كبلر وغاليليو توحيدها امبريقيا كظواهر مادية. (Obras, VI: 167, 184)

ساهم طرح خوسيه أورتيغا أي غاسيت في التأكيد على ما اعتبر الآثار الامبريقية للمعرفة التاريخية متوافقا بذلك مع كل من هوسرل هيدغر وشيلر في قولهم بالأبعاد المختلفة للتجربة البشرية. اذ رفض أورتيغا عزل الحقائق التجريبية عن أي فهم لمعناها الداخلي، وعلاقتها الداخلية بالحياة البشرية والعملية الاجتماعية والتاريخية. هذا المنهج سيسمح بالتأكيد لكل من الفلاسفة والمؤرخين وفلاسفة التاريخ والمشتغلين بالأنثروبولوجيا الفلسفية والثقافية من إجراء مقارنات بناءة بين فهم ما يفعله الأفراد ما يقولونه. فيصير بإمكان فيلسوف التاريخ إعادة بناء الزمن التاريخي كشكل من أشكال الفهم البشري من خلال محاولة التحليل الخاصة به. كما رأينا، بالنسبة لأورتيغا، فإن تفسير الأعمال البشرية يثير صعوبات بالنسبة للحسابات التجريبية القياسية لتفسير العالم البشري والاجتماعي.

 منهج خوسيه أورتيغا أي غاسيت في الفينومينولوجيا الوجودية والتاريخانية وفلسفة التاريخ جعلته أقرب إلى مقاربة الاختيار ومعرفة الفرد والإنسانية. هذه المقاربة تذهب إلى ان   التاريخ لا يتشكل من خلال قطيعة ابستيمولوجية مع الماضي ولكن مع المناولات الابستيمولوجية للماضي. وبالتالي، فإن المنهج التاريخي يعمل كحلقة وصل بين الماضي والحاضر، اما الفيلسوف فهو وسيط بين عوالم الماضي والحاضر. اذ لا يرتبط الماضي بالحاضر فقط بل يرتبط أيضا الواقع الزمني بالباحث أيضا. لهذا اعتبر أورتيغا ان المعرفة التاريخية هي معرفة شاملة للإنسان. فهو يوضح بان التاريخ

هو العلم المنهجي للواقع الصرف المتمثل في حياة الانسان …. فلا وجود لأفعال منفصلة actio in distans. ليس الماضي “هناك” في التاريخ بل هو ما حدث “هنا” لي فمن خلال التاريخ افهم حياتي.(Obras, VI: 40–41)

    إن الفعل التاريخي لإعادة بناء الإبداعات البشرية الماضية وإسقاط الذات في أفكار الغير يجعل الفلسفة النقدية قادرة على ربط الواقع الزمني والعقل من خلال عملية الوعي بالزمن. هذا القول بالتواصل بين الماضي والحاضر يؤكد مرة أخرى الجانب الفينومينولوجي من فلسفة أورتيغا الوجودية والتاريخانية.  إن دمج هذه التيارات الفكرية هو ما يميز مساهمة أورتيغا في الفلسفة. كتب توماس مان في روايته يوسف واخوته “كم هو عميق بئر الماضي”“. وقد سمحت فلسفة أورتيغا النقدية للتاريخ بمنع البئر العميق للماضي من أن يكون بلا قاع.

 


المراجع

مؤلفات أورتيغا

  • Obras Completas. Vols. 1–10.Jose Ortega y Gasset Foundation Edition, Madrid: Taurus, 2004–2010. Recent edition of collected works.
  • Obras Completas. Vols. I–XI. Madrid: Revista de Occidente, 1946–69. Cited works come from the 1946-69 and 1983 collected edition
    • I, II, III, Sixth edition, 1963.
    • IV, Fifth edition, 1962.
    • V, VI, Sixth edition, 1964.
    • , VII, Second edition, 1964.
    • VIII, IX, Second edition, 1965.
    • X (Political Writings, 1908-14), XI (Political Writings, 1922-33), الطبعة الأولى 1969.
  • Obras Completas. Vol. XII, first edition, Madrid: Alianza Editorial, Revista de Occidente, 1983.
  • Unas lecciones de metafísica. Madrid: Revista de Occidente, 1974.
  • “Der Sinn der politischen Umwälzung in Spanien”, Europäische Revue(Juli–Dezember 1931): 563–68.
  • “Martin Heidegger und die Sprache der Philosophen”, Universitas, 7(9): 897–903. (1952)
  •  

مراسلات أورتيغا

  • «Cartas inéditas a Navarro Ledesma», nos. 1–11, 1905. Fundación Orega y Gasset, 1962.
  • «Epistolario entre José Ortega y Gasset y Ernst R. Curtius»Revista de Occidente, 1, nos. 6, 7 (1963): 329–41, 1–27.
  • «Epistolario entre Unamuno y Ortega»Revista de Occidente, 2, no. 19 (1964): 3–28.
  • «Epistolario de Ortega con Maragall»Revista de Occidente, 2, no. 18 (1964): 261–71.
  • Epistolario Completo Ortega—Unamuno, Madrid: El Arquero, 1987.
  • Correpondencia: Jose Ortega y Gasset, Helene Weyl de Gesine Martens (ed.), Madrid: Biblioteca Nueva, 2008.

أعمال مختارة بالإنجليزية لأورتيغا أو عنه

  • “A Spaniard on Spain”, The Living Age, 341 (September 1931–February 1931): 145–48.
  • Concord and Liberty, trans. by Helene Weyl, New York: W.W. Norton, 1946.
  • The Dehumanization of Art and Other Essays on Art[Ideas on the Novel(1925)], trans. by Helene Weyl, Princeton: Princeton University Press, [1925] 1968.
  • Historical Reason(Sobre la razón histórica), trans. by Philip W. Silver, New York: W.W. Norton, 1984.
  • History as a System(Historia Como Sistema, 1935), first published and translated by William C. Atkinson, eds. Raymond Klibansky and Herbert J. Paton, in Philosophy and History: Essays Presented to Ernstst Cassirer, Oxford: Clarendon Press, 1936. في وقت لاحق إد. بقلم هيلين ويل ، نحو فلسفة التاريخ ، نيويورك: دبليو دبليو نورتون ، 1941. Republished History as a System and other Essays Toward a Philosophy of History, 1961.
  • The Idea of Principle in Leibnitz and the Evolution of Deductive Theory(Idea de principio en Leibniz y la evolución de la teoría deductiva), trans. by Mildred Adams, New York: W.W. Norton, [1948] 1971.
  • An Interpretation of Universal History, trans. by Mildred Adams, New York: W.W. Norton, 1973.
  • Invertebrate Spain(España invertebrada), trans. by Mildred Adams, New York: Howard Fertig, [1921] 1974.
  • Man and Crisis[En Torno a Galileo (1933)], trans. by Mildred Adams, New York: W.W. Norton, 1958.
  • Man and People[El Hombre y la Gente(1939-40)],, trans. by Willard Trask, New York: W.W. Norton, 1957.
  • Meditations on Hunting(Veinte Anos de Caza Mayor), trans. by Howard B. Wescott, Introd. by Paul Shepard, New York: Charles Scribner’s Sons, 1972.
  • Meditations on Quixote(Meditaciones del Quijote), trans. by Evelyn Rugg and Diego Marin, Introd. by Julián Marías, New York: W.W. Norton, [1914] 1961.
  • Mission of the University, trans. by Howard Lee Nostrand, New York: W.W. Norton, 1966.
  • The Modern Theme[El Tema de Nuestro Tiempo(1923)], trans. by James Cleugh, New York: W.W. Norton, 1933.
  • On Love: Aspects of a Single Theme, trans. by Toby Talbot, Cleveland: The World Publishing Company, 1957.
  • The Origin of Philosophy(Origen y epíloga de la filosofía), trans. by Tony Talbot, New York: W.W. Norton, [1943] 1967.
  • Phenomenology and Art, trans. by Philip W. Silver, New York: W.W. Norton, 1975.
  • Psychological Investigations(Investigaciones psicológicas), trans. by Jorge García-Gómez, New York: W.W. Norton, 1987.
  • The Revolt of the Masses(Rebelión de las masas), 25th anniversary edition of authorized English translation, New York: W.W. Norton, [1930] 1957.
  • Some Lessons in Metaphysics, trans. by Mildred Adams, New York: Norton, 1969.
  • “The Self and the Other”, Partisan Review, 19(4) (1952): 395–396.
  • What is Philosophy?(¿Qué es filosofía?, trans. by Mildred Adams, New York: W.W. Norton, [1929] 1960.

أدوات أكاديمية

 

How to cite this entry.

 

Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.

 

Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

 

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

  • José Ortega y Gasset, by Pelayo García Sierra, Proyecto filosofía en español.
  • José Ortega y Gasset, by Pedro José Chamizo Domínguez, Proyecto Ensayo Hispánico.

مداخل ذات صلة

Collingwood, Robin George | Collingwood, Robin George: aesthetics | Croce, Benedetto: aesthetics | Dilthey, Wilhelm | existentialism | Heidegger, Martin | history, philosophy of | Husserl, Edmund | Merleau-Ponty, Maurice | phenomenology | rationality: historicist theories of | Sartre, Jean-Paul | Scheler, Max | Schutz, Alfred


[1] Holmes, Oliver, “José Ortega y Gasset”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2021 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2021/entries/gasset/>.