مجلة حكمة
الواقعية السياسية

الواقعية في العلاقات الدولية

الكاتبجوليان كوراب-كاربوفيتش
ترجمة ريم العامري
تحميل نسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول جذور الفلسفة الواقعية في العلاقات الدولية؛ نص مترجم، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


­­­­­­تعريف المدرسة الواقعية

في حقل العلاقات الدوليّة، توجد نظريات عامة أو رؤى نظريّة متنافسة. الواقعيّة (realism)، والمعروفة أيضًا بالواقعيّة السياسيّة، هي وجهة نظر للسياسة الدوليّة تؤكد على جانبها التنافسي والصراعي. عادةً ما تتعارض الواقعيّة مع المثاليّة (idealism) أو الليبراليّة، والتي تميل إلى التأكيد على التعاون. يعتبر الواقعيون أن الدول هي الفاعل الرئيسي في الساحة الدوليّة، وتهتم هذه الدول بأمنها، وتعمل من أجل تحقيق مصالحها الوطنيّة الخاصة، والصراع على السلطة. غالبًا ما يكون الجانب السلبي لتأكيد الواقعيين على القوة والمصلحة الذاتيّة هو تشكيكهم بما يتعلق بعلاقة المعايير الأخلاقيّة بالعلاقات بين الدول. السياسة الوطنيّة هي مجال السلطة والقانون، في حين أن السياسة الدوليّة، كما يزعمون في بعض الأحيان، هي نطاق بلا عدالة، ويتميّز بالصراع القائم أو المحتمل بين الدول.

ومع ذلك، لا ينكر جميع الواقعيون وجود الأخلاق في العلاقات الدوليّة. يجب التمييز بين الواقعيّة الكلاسيكيّة -التي يمثلها منظرو القرن العشرين مثل رينهولد نيبور وهانس مورغنثاو- والواقعية الراديكاليّة أو المتطرفة. على الرغم من تأكيد الواقعيّة الكلاسيكيّة على مفهوم المصلحة الوطنيّة، فهي ليست كالعقيدة الميكافيليّة “أن كل شيء يُبرر بمنطق الدولة” (Bull 1995، 189). كما أنها لا تستلزم تمجيد الحرب أو الصراع. الواقعيون الكلاسيكيون أيضًا لا يرفضون إمكانيّة الحكم الأخلاقي في السياسة الدوليّة. بدلا من ذلك، هم ينتقدون الأخلاقويّة -الخطاب الأخلاقي المجرد الذي لا يأخذ في الاعتبار الحقائق السياسيّة-. إنهم يعطون قيمة عليا للعمل السياسي الناجح القائم على الحصافة: وهي القدرة على الحكم على صواب فعل معيّن من بين البدائل الممكنة على أساس عواقبه السياسيّة المحتملة.

تتضمن الواقعيّة مجموعة متنوعة من المقاربات وتدعي تمتعها بتقاليد نظريّة عريقة. من بين الآباء المؤسسين، ثوسيديديس ومكيافيلي وهوبز، وهي الأسماء الأكثر ذكرًا. إلا أنه تم استبدال الواقعيّة الكلاسيكيّة في القرن العشرين إلى حد كبير بالواقعيّة الجديدة، وهي محاولة لبناء نهج أكثر علميّة لدراسة العلاقات الدوليّة. تعرضت كل من الواقعيّة الكلاسيكيّة والواقعيّة الجديدة للنقد من منظري العلاقات الدوليّة الذين يمثلون وجهات النظر الليبراليّة والنقدية وما بعد الحداثة.


1. جذور الواقعية السياسية

1.1 ثوسيديديس وأهمية القوة

كغيره من المنظرين السياسيين الكلاسيكيين، رأى ثوسيديديس (c. 460–c. 400 B.C.E.) أن السياسة تتضمن أسئلة أخلاقيّة. والأهم من ذلك أنه يتساءل عما إذا كانت العلاقات بين الدول -والتي تمثل القوة بالنسبة لها أهمية حاسمة- يمكن أن تسترشد أيضاً بمعايير العدالة. تأريخه للحرب البيلوبونيسية في الواقع ليس عمل في الفلسفة السياسيّة ولا نظرية مستدامة للعلاقات الدوليّة. يتألف جزء كبير من هذا العمل ” تاريخ الحرب البيلوبونيسية “، الذي يقدم سردًا جزئيًا للنزاع المسلح بين أثينا واسبرطة الذي حدث في الفترة من 404 إلى 431، من خطابات ثنائيّة لشخصيات بارزة تتجادل في قضيّة ما.

ومع ذلك، إذا تم وصف هذا العمل على أنه النص الكلاسيكي الوحيد المعترف به في العلاقات الدوليّة، حيث يعتبر مصدر إلهام لمنظرين من هوبز إلى علماء العلاقات الدوليّة المعاصرة، فذلك لأنه أكثر من مجرد تسلسل زمني للأحداث، حيث يمكن استقراء مواقف نظريّة منه. وقد تم التعبير عن الواقعيّة في أول خطاب للأثينيين تم تسجيله في التاريخ، خطاب ألقي في المناقشة التي جرت قبيّل الحرب. وعلاوة على ذلك، فإن المنظور الواقعي وارد ضمنًا في الطريقة التي يفسر بها ثوسيديديس سبب الحرب البيلوبونيسية وكذلك في “حوار ميلوس” الشهير في التصريحات التي أدلى بها المبعوثين الأثينيين.

1.1.1 خصائص عامة للواقعيّة في العلاقات الدوليّة

يؤكد الواقعيون في العلاقات الدولية على القيود التي تفرضها الطبيعة البشريّة على السياسة، والتي يعتبرونها أنانيّة، كما يؤكدون على غياب حكومة دوليّة. تساهم هذه العوامل مجتمعة في وضع نموذج للعلاقات الدوليّة قائم على الصراع، تكون فيه الجهات الفاعلة الرئيسيّة هي الدول، حيث تصبح القوة والأمن القضيتين الرئيسيتين، ولا مكان للأخلاق فيها. إن مجموعة الأسس المتعلقة بالدولة، والأنانيّة، والفوضوية، والقوة، والأمن، والأخلاق هي التي تحدد التقاليد الواقعيّة، وكلها وردت في أعمال ثوسيديديس.

  • الطبيعة البشريّة هي منطلق الواقعيّة السياسيّة الكلاسيكيّة. ينظر الواقعيون إلى البشر على أنهم أنانيون وانتهازيون بطبيعتهم إلى درجة تتجاوز فيها المصلحة الذاتية المبادئ الأخلاقيّة. وفي المناقشة التي جرت في اسبرطة، والتي وردت في الكتاب الأول من “تاريخ ثيوديوس”، يؤكد الأثينيون أولويّة المصلحة الذاتية على الأخلاق. ويقولون إن اعتبارات الصواب والخطأ “لم تثني الناس أبدًا عن فرص التوسع التي تتيحها لهم قواهم المتوفقة.” (chap. 1 par. 76).
  • الواقعيون، وخاصة الواقعيون الجدد اليوم، يعتبرون غياب الحكومة، حرفيًا الأناركيّة (اللاسلطويّة هو المحدد الأساسي لنتائج السياسة الدوليّة. ويجادل هؤلاء بأن عدم وجود سلطة مشتركة لوضع القواعد وإنفاذها يعني أن الساحة الدوليّة هي في الأساس نظام مساعدة ذاتيّة. كل دولة مسؤولة عن بقائها ولها الحرية في تحديد مصالحها والسعي وراء زيادة القوة. وبالتالي تؤدي الأناركيّة إلى وضع تكون فيه للقوة الدور المهيمن في تشكيل العلاقات بين الدول. على حد تعبير مبعوثي أثينا في ميلوس، بدون أي سلطة مشتركة قادرة على فرض النظام،تنجو الدول المستقلة [فقط] عندما تكون قوية.” (5.97).
  • بقدر ما يتصور الواقعيون أن عالم الدول الأناركي/اللاسلطوي، فإنهم ينظرون إلى الأمن باعتباره قضية مركزيّة. لتحقيق الأمن، تحاول الدول زيادة قوتها والانخراط في موازنة القوى بغرض ردع المعتدين المحتملين. تُخاض الحروب لمنع الدول المتنافسة من أن تصبح أقوى عسكريًا. بينما يميز ثيوسيديدس بين الأسباب المباشرة والأسباب الكامنة وراء الحرب البيلوبونيسية، فإنه لا يرى أن السبب الحقيقي في أي من الأحداث المعينة التي سبقت اندلاع الحرب مباشرة. بدلاً من ذلك، حدد سبب الحرب في تغيّر موازين القوى بين كتلتين من دول- المدن اليونانية: رابطة ديليان، تحت قيادة أثينا، والرابطة البيلوبونيسية، تحت قيادة اسبرطة. ووفقًا لثيوسيديدس، فإن نمو قوة الإثينيين جعل الإسبرطيين يخافون على أمنهم، وبالتالي دفعهم إلى الحرب. (1.23)  
  • يشكك الواقعيون عمومًا في علاقة الأخلاق بالسياسة الدوليّة. وهذا يمكن أن يدفعهم إلى الادعاء بأنه لا مكان للأخلاق في العلاقات الدوليّة، أو بادعاهم بوجود توتر بين متطلبات الأخلاق ومتطلبات العمل السياسي الناجح، أو بأن الدول لديها أخلاقها الخاصة التي تختلف عن الأخلاق العرفيّة، أو أن الأخلاق، إذا ما تم استخدامها على الإطلاق، لا تُستخدم إلا بطريقة آلية لتبرير سلوك الدول. ويمكن العثور على حالة واضحة لرفض القواعد الأخلاقيّة في العلاقات بين الدول في “حوار ميلوس” (113-5.85). يتعلق هذا الحوار بأحداث عام 416 قبل الميلاد، عندما غزت أثينا جزيرة ميلوس. عرض المبعوثون الأثينيون على الميليين أما خيار التدمير أو الاستستلام، وطلبوا منهم منذ البداية ألا يلتمسوا العدالة، بل أن يفكروا فقط في بقائهم على قيد الحياة. على حد تعبير المبعوثين، “كلانا يعلم أن القرارات المتعلقة بالعدالة لا تُتخذ في المناقشات الإنسانيّة إلا عندما يكون الجانبان تحت إكراه متساوٍ، ولكن عندما يكون أحد الجانبين أقوى، فإنه يحصل على أكبر قدر ممكن، ويتعيّن على الضعفاء أن يقبلوا بذلك” (5.89). أن تكون “تحت إكراهٍ متساوٍ” يعني أن تكون تحت قوة القانون، وبالتالي أن تخضع لسلطة تشريعيّة مشتركة (Korab-Karpowicz 2006، 234). طالما أن هكذا سلطة فوق الدول غير موجودة، فإن الأثينيين يزعمون أنه في ظل هذا الظرف للفوضى الدوليّة الغير خاضع للقانون فإن الحق الوحيد هو حق الأقوى في السيطرة على الأضعف. إنهم يساوون صراحةً بين الحق والقوة، واستبعاد اعتبارات العدالة من الشؤون الخارجيّة.

 1.1.2 “حوار ميلوس”: جدال الواقعيين-المثاليين الأول

وهكذا يمكننا أن نجد تأييدًا قويًا للمنظور الواقعي في تصريحات الأثينيين. ولكن يبقى السؤال مطروحًا وهو إلى أي مدى تتطابق واقعيتهم مع وجهة نظر ثوسيديديس. على الرغم من أن أجزاء كبيرة من “حوار ميلوس”، فضلًا عن أجزاء أخرى من تاريخ ثوسيديديس، تؤيد القراءة الواقعيّة، فإن موقف ثوسيديديس لا يمكن استنتاجه من هذه الأجزاء المختارة، بل يجب تقييمه على أساس السياق الأوسع لكتابه. وفي الواقع، حتى “حوار ميلوس” نفسه يزودنا بعدد من الآراء المتعارضة.

عادة ما تتناقض الواقعيّة السياسيّة مع علماء العلاقات الدوليّة من المثاليّة أو الليبراليّة، وهو منظور نظري يؤكد على القيم الدوليّة، والاعتماد المتبادل بين الدول، والتعاون الدولي. يقدم “حوار ميلوس”، وهو أحد أكثر أجزاء تاريخ ثوسيديديس تعليقًا عليه، الجدال الكلاسيكي بين وجهات النظر المثاليّة والواقعيّة: هل يمكن للسياسة الدوليّة أن تستند إلى نظام أخلاقي مستمد من مبادئ العدالة؟ أو هل ستبقى إلى الأبد ساحة للقوة والمصالح الوطنيّة المتصارعة؟

وبالنسبة للملينيين، الذين يوظفون حجج مثاليّة، فإن الخيار يكمن بين الحرب والخضوع (5.86). إنهم شجعان ويحبون وطنهم. إنهم لا يرغبون في فقدان حريتهم، وعلى الرغم من حقيقة أنهم أضعف عسكريًا من الأثينيين، إلا أنهم مستعدون للدفاع عن أنفسهم (5.100; 5.112). إنهم يسندون حججهم على العدالة، التي يقرنونها بالإنصاف، ويعتبرون الأثينيين ظالمين (5.90; 5.104). إنهم أتقياء وعلى يقين من أن الآلهة سوف تدعم قضيتهم العادلة وتعوض ضعفهم، ويثقون في التحالفات، معتقدين أن حلفائهم، الأسبرطيون، المرتبطون بهم أيضًا، سوف يساعدونهم (5.104; 5.112).

بالتالي، فإن بوسع المرء أن يحدد من خطاب الملينيين عناصر النظرة المثاليّة أو الليبراليّة للعالم: الاعتقاد بأن الدول لها الحق في ممارسة الاستقلال السياسي، وبأن عليها إلتزامات متبادلة تجاه بعضها البعض، وبأن الحرب العدوانيّة غير عادلة. ومع ذلك، فإن ما يفتقر إليه الميليون هو الموارد والبصيرة. في قرارهم بالدفاع عن أنفسهم، فإنهم مسيّرين بآمالهم أكثر مما يسترشدون بالأدلة الموجودة أو بالحسابات الحذرة.

تستند الحجة الأثينية على مفاهيم واقعيّة رئيسيّة مثل الأمن والقوة، ولا تسترشد هذه الحجة بما ينبغي أن يكون عليه العالم، بل بما هو عليه. إن الأثينيين يتجاهلون أي حديث أخلاقي ويحثون الميلينيين على النظر إلى الحقائق- أي الاعتراف بدونيتهم عسكريًا، والنظر في العواقب المحتملة المترتبة على قرارهم، والتفكير في نجاتهم (5.87; 5.101). يبدو أن هناك منطقًا واقعيًا قويًا وراء الحجج الأثينيّة. ويبدو أن موقفهم، القائم على المخاوف الأمنيّة والمصلحة الذاتية، ينطوي على الاعتماد على العقلانيّة والنباهة والبصيرة. بيد أن هذا المنطق، عند إمْعان النّظر فيه عن كثب، يثبت أنه معيب بشكل خطير. وميلوس، الدولة الضعيفة نسبيًا، لا تشكل أي تهديد أمني حقيقي لهم. إن تدمير ميلوس في نهاية المطاف لا يغير من مسار الحرب البيلوبونيسية، التي سوف تخسرها أثينا بعد بضع سنوات لاحقة.

في “تاريخ الحرب البيلوبونيسية”، يوضح ثيوسيديدس أن السلطة، إذا كانت غير مقيدة بالاعتدال وبروح العدالة، فإنها تجلب الرغبة غير المنضبطة في المزيد من السلطة. لا وجود لحدود منطقية لحجم الإمبراطورية. وفي حالة النشوى بآمال المجد والنصر، بعد غزو ميلوس، يخوض الأثينيون حربًا ضد صقلية غير مكترثين “بحجة ميلوس” القائلة بأن اعتبارات العدالة مفيدة للجميع على المدى الطويل (5.90). وطالما أن الأثينيين يبالغون في تقدير قوتهم وفي النهاية يخسرون الحرب، فإن منطقهم القائم على المصلحة الذاتيّة يثبت أنه قصير النظر حقًا.

من المثاليّة أن نتجاهل واقع القوة في العلاقات الدوليّة، ولكن الاعتماد على القوة وحدها لهو من عمى البصيرة أيضًا. ويبدو أن ثوسيديديس لا يؤيد المثالية الساذجة للملينيين ولا تهكم خصومهم الأثينيين. وهو يعلمنا أن نكون حذرين “من الأحلام الساذجة في السياسة الدوليّة” من ناحية، و “ضد التطرف الآخر الخبيث: التهكم المفرطة” من ناحية أخرى (Donnelly 2000، 193). إذا كان من الممكن اعتبار ثوسيديديس واقعيًا سياسيًا، فإن واقعيته مع ذلك لا تُصور مسبقًا السياسة الواقعيّة التي تُنكر الأخلاق التقليديّة، ولا الواقعيّة العلمية الجديدة اليوم التي يتم فيها تجاهل الأسئلة الأخلاقيّة إلى حد كبير. يمكن مقارنة واقعية ثوسيديديس، التي ليست عديمة الأخلاق وليست لاأخلاقيّة، بواقعية هانز مورجينثاو وريموند آرون وغيرهما من الواقعيين الكلاسيكيين في القرن العشرين، والذين على الرغم من إدراكهم لإعتبارات المصلحة الوطنيّة، إلا أنهم لا ينكرون أن الفاعلين السياسيين على المستوى الدولي خاضعين للحكم الأخلاقي.

2.1 نقد مكيافيلي للأخلاق

المثاليّة في العلاقات الدوليّة، شأنها شأن الواقعيّة، يمكن أن تدعي امتلاكها تقاليد عريقة. إن المثاليين، غير راضين عن العالم كما وجدوه، يحاولون دائمًا الإجابة على سؤال “ما ينبغي أن يكون” في الحقل السياسي. أفلاطون وأرسطو وشيشرون كان جميعهم من المثاليين السياسيين الذين اعتقدوا أن هناك بعض القيم الأخلاقيّة العالميّة التي يمكن أن تستند عليها الحياة السياسيّة. وبناءً على عمل أسلافه، طور شيشرون فكرة قانون أخلاقي طبيعي يمكن تطبيقه على السياسة المحليّة والدوليّة على حدٍ سواء. انتقلت أفكار شيشرون المتعلقة بالنزاهة في الحرب إلى كتابات المفكرين المسيحيين مثل القديس أوغسطينوس والقديس توما الأكويني. وفي أواخر القرن الخامس عشر، عندما وُلد نيكولا مكيافيلي، كانت فكرة أن السياسة، بما في ذلك العلاقات بين الدول، يجب أن تكون فاضلة، وبأن أساليب الحرب يجب أن تظل خاضعة للمعايير الأخلاقيّة، لا تزال سائدة في الأدبيات السياسيّة.

تحدى مكيافيلي (1469-1527) هذا التقليد الأخلاقي الراسخ، وبذلك مَوْضع نفسه بإعتباره مجدد سياسي، حيث تكمن حداثة منهجه في نقده للفكر السياسي الغربي الكلاسيكي باعتباره غير واقعي، وفي فصله بين السياسة والأخلاق. وهو بذلك يضع أسس السياسة الحديثة. في الفصل الخامس عشر من كتاب “الأمير”، يعلن مكيافيلي أنه في خروجه عن تعاليم المفكرين الأوائل، يسعى إلى “الحقيقة الفعليّة للمسألة بدلاً من الحقيقة المتخيّلة.” الحقيقة الفعليّة بالنسبة له هي الحقيقة الوحيدة التي تستحق البحث عنها. إنها تمثل مجموع الظروف العمليّة التي يعتقد أنها مطلوبة لجعل كل من الفرد والبلد مزدهرًا وقويًا على حد سواء.. يستبدل مكيافيلي الفضيلة القديمة/ virtue (الصفة الأخلاقيّة للفرد، مثل العدالة أو ضبط النفس) بالكفاءة/ virtù (القدرة أو القوة). وبصفته نبيًا بالكفاءة/ virtù، يَعِد مكيافيلي بأن يقود كلًا من الأمم والأفراد إلى المجد والسلطة الدنيويّة.

 الميكافيليّة هي نمطٌ راديكالي من الواقعيّة السياسيّة التي يتم تطبيقها على كل من الشؤون المحليّة والدوليّة. إنها عقيدة تنكر أهميّة الأخلاق في السياسة، وتدعي أن كل الوسائل (الأخلاقيّة وغير الأخلاقيّة) مبررة لتحقيق غايات سياسيّة معينة. على الرغم من أن مكيافيلي لم يستخدم أبدًا عبارة (ragione distato) أو ما يقابلها بالفرنسية (raison d’état)، فإن ما يهمه في نهاية المطاف على وجه التحديد هو: كل ما هو من مصلحة الدولة، عوضًا عن الضمير الأخلاقي أو القيّم.

برر مكيافيلي الأفعال اللاأخلاقيّة في السياسة، لكنه لم يرفض قط الإعتراف بأنها أفعال شريرة. لقد عمل مكيافيلي في إطار واحد من الأخلاق التقليديّة. إلا أن مهمة أتباعه في القرن التاسع عشر أصبحت محددة لتطوير عقيدة مزدوجة للأخلاق: عقيدة عامة وأخرى خاصة، لدفع الواقعيّة المكيافيليّة إلى المزيد من التطرف، ولتطبيقها على العلاقات الدوليّة. ومن خلال التأكيد على أن “ليس للدولة واجب أسمى من الحفاظ على نفسها” أعطى هيجل جزاءً أخلاقيًا لتعزيز الدولة لمصالحها ومزاياها ضد الدول الأخرى (Meinecke 357) وبذلك أسقط هيجل الأخلاق التقليديّة. وقد فُسرت مصلحة الدولة تفسيرًا غريبًا على أنها أسمى قيمة أخلاقيّة، مع اعتبار توسّع السلطة الوطنيّة حقًا وواجبًا للأمة.

في إشارة إلى مكيافيلي، أعلن هاينريش فون تريتشكي أن الدولة هي القوة، تحديدًا من أجل إثبات وجودها ضد قوى أخرى مستقلة بالقدر نفسه، وبذلك فإن الواجب الأخلاقي الأسمى للدولة هو تعزيز هذه القوة. وأعتبر الإتفاقيات الدوليّة ملزمة فقط بقدر ما تكون ملاءمة بالنسبة للدولة. وهكذا تم طرح فكرة أخلاق مستقلة لسلوك الدولة ومفهوم السياسة الواقعيّة. فقد تم رفض الأخلاق التقليديّة وارتبطت سياسات القوة بنوع “أسمى” من الأخلاق. هذه المفاهيم، إلى جانب الإيمان بتفوق الثقافة الجرمانيّة، كانت بمثابة أسلحة برر بها رجال الدولة الألمان منذ القرن الثامن عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سياسات الغزو والإبادة.

غالبًا ما يتم الإشادة بمكيافيلي لنصائحه الحصيفة للزعماء (حيث يُنظر إليه باعتباره المعلم المؤسس للاستراتيجيّة السياسيّة الحديثة) ولدفاعه عن الشكل الجمهوري للحكومة. هناك بالتأكيد العديد من جوانب فكره التي تستحق هذا الثناء. ومع ذلك، من الممكن أيضًا النظر إليه باعتباره المفكر الذي يتحمل المسؤولية الرئيسيّة عن الإنهيار الأخلاقي في أوروبا. إن حجة المبعوثين الأثينيين الواردة في “حوار مليان” لثوسيديدس، أو حوار ثراسيماخوس في جمهورية أفلاطون، أو حجة كارنيديس التي يشير إليها شيشرون – كل هذه الحجج تتحدى الآراء القديمة والمسيحيّة حول وحدة السياسة والأخلاق. ومع ذلك، قبل ميكافيلي، لم يكن هذا النمط من التفكير اللاأخلاقي أو الفاسد سائدًا في التيار الرئيسي للفكر السياسي الغربي.

لقد كانت قوة تبرير ميكافيلي للجوء إلى الشر كوسيلة مشروعة لتحقيق غايات سياسيّة وحسن توقيته هما اللذان أقنعا الكثير من المفكرين والممارسين السياسيين الذين تبعوه. إن آثار الأفكار المكيافيليّة، مثل الفكرة القائلة بأن استخدام جميع الوسائل الممكنة مسموح به في الحرب، ستظهر في ساحات القتال في أوروبا الحديثة، حيث قاتلت جيوش المواطنين الجماهيريّة ضد بعضها البعض حتى النهاية المريرة دون مراعاة لقواعد العدالة. لقد فقد التوتر بين الذرائعيّة والأخلاق مصداقيته في مجال السياسة. تم اختراع مفهوم الأخلاق المزدوجة، الخاصة والعامة، التي أحدثت ضررًا إضافيًا للأخلاق التقليديّة والعرفيّة. في نهاية المطاف، أدت عقيدة (منطق الدولة/ raison d’état) إلى سياسة ليبنسرام، وحربين عالميتين، والمحرقة.

لعل أكبر مشكلة في الواقعيّة في العلاقات الدوليّة هي ميلها إلى الانزلاق إلى صيغتها المتطرفة، والتي تقبل أي سياسة قد تفيد الدولة على حساب الدول الأخرى، بغض النظر عن مدى إشكاليّة هذه السياسة من الناحية الأخلاقيّة. وحتى إذا لم يثيروا بشكل صريح أسئلة أخلاقيّة، ففي أعمال والتز والعديد من الواقعيين الجدد اليوم، فإن الأخلاق المزدوجة مفترضة مسبقًا، ولم تعد كلمات مثل “realpolitik/السياسة الواقعيّة” تحمل الدلالات السلبيّة التي كانت تحملها بالنسبة للواقعيين الكلاسيكيين، مثل هانز مورجينثو.

3.1 أناركية حالة الطبيعة عند هوبز

كان توماس هوبز (1588–1683) جزءًا من حراك فكري هدفه تحرير العلم الحديث الناشئ من قيود التراث الكلاسيكي والمدرسي. وفقًا للفلسفة السياسيّة الكلاسيكيّة، التي يستند إليها المنظور المثالي، يمكن للبشر التحكم في رغباتهم من خلال العقل كما يمكنهم العمل لصالح الآخرين وإن كان على حساب مصالحهم الخاصة، وبالتالي فهم فاعلون عقلانيون وأخلاقيون قادرين على التمييز بين الصواب والخطأ وعلى اتخاذ الخيارات الأخلاقيّة، هم أيضًا اجتماعيون بالفطرة الطبيعيّة.

ومع ذلك، وبمهارة كبيرة، يهاجم هوبز هذه الآراء، حيث أن كائناته البشريّة الفرديّة للغاية واللاأخلاقيّة واللااجتماعيّة تخضع “للرغبة الدائمة التي لا تهدأ للسلطة بعد السلطة، وتلك الرغبة لا يُخمد أوارها إلا عند الموت” (Leviathan XI 2)، ولذلك فهم يتصارعون حتمًا على السلطة، وفي عرض مثل هذه الأفكار، يساهم هوبز في بعض المفاهيم الأساسيّة والرئيسيّة للتقاليد الواقعيّة في العلاقات الدوليّة، وخاصة الواقعيّة الجديدة، وهذا يشمل توصيف الطبيعة البشرية على أنها أنانيّة، ومفهوم أناركيّة (لاسلطويّة) النظام الدولي، والرأي القائل بأن السياسة، المتأصلة في الصراع على السلطة، يمكن تبريرها ودراستها علميًا.

أحد أكثر مفاهيم هوبز شهرة هو مفهوم أناركيّة (لاسلطويّة) حالة الطبيعة، التي تقتضي قيام حالة حرب و “مثل هذه الحرب يخوضها كل إنسان ضد كل إنسان” (XII 8). يستمد هوبز فكرته عن حالة الحرب من آرائه عن الطبيعة البشريّة والظروف التي يعيش فيها الأفراد، بما أنه في حالة الطبيعة لا وجود لحكومة وحيث يتمتع الجميع بوضع متساوٍ، فإن لكل فرد الحق في كل شيء؛ أي أنه لا توجد قيود على سلوك الفرد، ويمكن لأي شخص استخدام القوة في أي وقت، ويجب أن يكون الجميع دائمًا على استعداد لمواجهة هذه القوة بالقوة.

بالتالي، فإن الأفراد، المدفوعين بحب الاستحواذ، وعدم وجود قيود أخلاقيّة، ودوافع التنافس على السلع الشحيحة، فإنهم يميلون إلى “غزو” بعضهم البعض لتحقيق مكاسب، وطالما أنهم متشككين من بعضهم البعض ومدفوعين بالتوجس، فمن المحتمل أيضًا أن ينخرطوا في إجراءات وقائيّة ويغزوا بعضهم البعض لضمان سلامتهم.

أخيرًا، إن الأفراد أيضًا مدفوعون بالفخر والرغبة في المجد، وسواء كان ذلك من أجل الكسب أو الأمن أو السمعة، فإن الأفراد الساعين للسلطة سوف يسعون بالتالي “إلى تدمير أو إخضاع بعضهم البعض” (XIII 3)، في مثل هذه الظروف الملتبسة حيث يكون الجميع معتدٍ محتمل، فإن شن الحرب على الآخرين هو استراتيجية مفيدة أكثر من السلوك المسالم، ويتعيّن على المرء معرفة أن الهيمنة على الآخرين ضرورة لبقاء الفرد على قيد الحياة.

يهتم هوبز في المقام الأول بالعلاقة بين الأفراد والدولة، وملاحظاته حول العلاقات بين الدول نادرة. ومع ذلك، فإن ما يقوله عن حياة الأفراد في حالة الطبيعة يمكن أيضًا تفسيره على أنه وصف لكيفيّة وجود الدول وعلاقتها ببعضها البعض. بمجرد نشأة الدول، يصبح الدافع نحو السلطة هو أساس سلوك الدول، والذي غالبًا ما يتجلى في جهودها الراميّة إلى الهيمنة على الدول والشعوب الأخرى. كتب هوبز أن الدول “من أجل سلامتها الخاصّة توسع الأراضي الخاضعة لسلطتها بحجّة إبعاد أيّ خطر، وخشيةً من الغزوات، أو من الدعم المُحتمل الممنوح للغازين، كذلك المُحاولات لإخضاع أو لإضعاف الجيران بواسطة القوّة، وذلك بوضح النهار، أو عبر اللُجوء إلى عمليات سريّة” “(XIX 4).

وعليه، فإن السعي للسلطة ­­­والصراع عليها يكمن في صميم رؤية هوبز للعلاقات بين الدول. يصدق الشيء ذاته لاحقًا على نموذج العلاقات الدوليّة الذي طوره هانز مورغنثاو، والذي تأثر بشدة بهوبز وتبنى نفس النظرة للطبيعة البشريّة. وعلى نحو مماثل، فإن الواقعي الجديد كينيث والتز سيحذو حذو هوبز فيما يتعلق أناركيّة (لاسلطويّة) النظام الدولي (حقيقة مفادها أن الدول ذات السيادة لا تخضع لأي سيادة مشتركة أعلى) باعتباره عنصر أساسي في العلاقات الدوليّة.

ومن خلال إخضاع أنفسهم لسيادة، يفلت الأفراد من حرب الكل ضد الكل ما يربطه هوبز بحالة الطبيعة؛ ومع ذلك، لا تزال تهيمن هذه الحرب على العلاقات بين الدول. وهذا لا يعني أن الدول تتحارب دائمًا، بل إن لديها قابليّة للقتال (XIII 8). وفي وضع تقرر فيه الدول بنفسها ما إذا ستستخدم القوة أم لا، قد تندلع الحرب في أي وقت. ومن ثم فإن تحقيق الأمن الداخلي من خلال إنشاء الدولة يتوازى معه حالة عدم أمن بين الدول. ويمكن للمرء أن يجادل بأنه إذا كان هوبز متسقًا تمامًا، فإنه سيتفق مع الفكرة القائلة بأنه للتخلّص من هذا الوضع ينبغي على الدول أيضًا أن تبرم عقًدا وتُخضع نفسها لسيادة عالميّة.

على الرغم من أن فكرة دولة عالميّة قد تجد الدعم من بعض الواقعيين اليوم، إلا أن هذا ليس موقفًا اتخذه هوبز، فهو لا يقترح أن عقد اجتماعي بين الدول قد ينهي حالة أناركيّة (لاسلطويّة) النظام العالمي. وذلك لأن حالة انعدام الأمن التي تعيشها الدول لا تؤدي بالضرورة إلى انعدام أمن مواطينها. طالما أن نزاعًا مسلحًا أو أي نوع آخر من العداء بين الدول لا ينشب بالفعل، يمكن للأفراد داخل الدولة أن يشعروا بالأمن نسبيًا.

إن إنكار وجود مبادئ أخلاقيّة عامة في العلاقات بين الدول يجعل هوبز قريبًا من الميكافيليين وأتباع عقيدة (منطق الدولة / raison d’état). إن نظريته في العلاقات الدوليّة، التي تفترض أن الدول المستقلة، مثل الأفراد المستقلين، أعداء بطبيعتهم وغير اجتماعين وأنانين، وأنه لا يوجد قيود أخلاقيّة على سلوكهم، تشكل هذه النظريّة تحديًا كبيرًا للرؤية السياسيّة المثاليّة القائمة على الإجتماع الإنساني وللفقه القانوني الدولي المبني على هذه الرؤية.

ومع ذلك، فإن ما يفصل هوبز عن مكيافيلي ويربطه أكثر بالواقعيّة الكلاسيكيّة هو إصراره على الطابع الدفاعي للسياسة الخارجيّة. لا تقدم نظريته السياسيّة دعوة مفتوحة لفعل كل ما قد يكون مفيدًا للدولة. إن مقاربة هوبز للعلاقات الدوليّة أكثر حكمة وسلميّة: الدول ذات السيادة، مثل الأفراد، يجب أن تميل نحو السلام الذي يقبله العقل.

ما يغفل عنه والتز وغيره من القراء الواقعيين الجدد لأعمال هوبز في بعض الأحيان هو أنه هوبز لا يتصّور الأناركيّة الدوليّة على أنها بيئة بدون أي قواعد. من خلال اقتراحه أن بعض إملاءات العقل تنطبق حتى في حالة الطبيعة، يؤكد أنه من الممكن إقامة علاقات دوليّة أكثر سلميّة وتعاونًا. كما أنه لا ينكر وجود القانون الدولي. يمكن للدول ذات السيادة أن توقع معاهدات مع بعضها البعض لتوفير أساس قانوني لعلاقاتها. ولكن في الوقت نفسه، يبدو أن هوبز يدرك أن القواعد الدوليّة غالبًا ما تكون غير فعالة في كبح الصراع على السلطة. ستفسرها الدول لمصلحتها الخاصة، وبالتالي سيتم الالتزام بالقانون الدولي أو تجاهله وفقًا لمصالح الدول المتضررة. ومن ثم، فإن العلاقات الدوليّة تميل دائمًا إلى أن تكون محفوفة بالمخاطر. تكمن هذه النظرة القاتمة للسياسة العالميّة في صميم واقعيّة هوبز.

2. الواقعية الكلاسيكية في القرن العشرين

ولدت الواقعيّة في القرن العشرين استجابةً للمنظور المثالي الذي سيطر على دراسات العلاقات الدوليّة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كان هدف المثاليين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي (المعروفين أيضًا بالأمميين الليبراليين أو الطوباويين) هو بناء سلام من شأنه أن يمنع صراع عالمي آخر. لقد رأوا أن حل المشاكل بين الدول هو إنشاء نظام محترم للقانون الدولي، تدعمه المنظمات الدوليّة. أفضت مثاليّة ما بين الحربين العالميتين إلى تأسيس عصبة الأمم في عام 1920 وإلى ميثاق كيلوغ برياند عام 1928 الذي يحظر الحرب وينص على التسويات السلميّة للنزاعات.

قدم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، وعلماء مثل نورمان أنجيل، وألفريد زيمرن، وريموند ب.فوسديك، وغيرهم من المثاليين البارزين في ذلك العصر، دعمهم الفكري لعصبة الأمم. وبدلاً من التركيز على ما قد يراه البعض على أنه حتميّة الصراع بين الدول والشعوب، اختاروا التأكيد على المصالح المشتركة التي يمكن أن توحد الإنسانيّة، وعلى العقلانيّة والأخلاق. بالنسبة لهم، الحرب لم تنشب نتيجة طبيعة إنسانيّة أنانيّة، بل بسبب ظروف اجتماعيّة غير مثاليّة وحسابات سياسيّة، يمكن تحسينها.

ومع ذلك، تم انتقاد أفكارهم في أوائل الثلاثينيات من قبل رينهولد نيبور وفي بضع سنوات لاحقة من قبل إي إتش كار. عصبة الأمم، التي لم تنضم إليها الولايات المتحدة، والتي انسحبت منها اليابان وألمانيا، لم تستطع منع اندلاع الحرب العالمية الثانية. هذه الحقيقة، ربما أكثر من أي حجة نظريّة، أنتجت رد فعل قوي للواقعيّة. على الرغم من أن الأمم المتحدة، التي تأسست في عام 1945، لا يزال من الممكن اعتبارها نتاجًا للتفكير السياسي المثالي، فقد تأثر حقل العلاقات الدوليّة بشدة في السنوات الأولى في فترة ما بعد الحرب بأعمال الواقعيين “الكلاسيكيين” مثل جون هيرز، هانز مورجنثاو، جورج كينان، وريموند آرون.

بعد ذلك، خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تعرضت الواقعية الكلاسيكيّة لتحدي العلماء الذين حاولوا تقديم نهج أكثر علميّة لدراسة السياسة الدوليّة. خلال الثمانينيات أفسِح المجال لاتجاه آخر في نظرية العلاقات الدوليّة: الواقعيّة الجديدة.

نظرًا لأنه من المستحيل في نطاق هذا المقال تقديم جميع المفكرين الذين ساهموا في تطوير الواقعيّة الكلاسيكيّة في القرن العشرين، فقد تم اختيار إي إتش كار وهانس مورغينثاو، ربما كالأكثر تأثيرًا بينهم، للمناقشة هنا.

1.2 تحدي إي. إتش. كار للمثالية الطوباوية

في عمله الأساسي في العلاقات الدوليّة، “أزمة العشرين عامًا“، الذي نشر لأول في يوليو 1939، هاجم إدوار هاليت كار (1892 – 1982) الموقف المثالي والذي يصفه بأنه “طوباوي”. وهو يصف هذا الموقف بأنه ينطوي على الإيمان بالعقل، والثقة بالتقدم، والشعور بالاستقامة الأخلاقيّة، والاعتقاد بتناغم ضمنيّ للمصالح. وفقًا للمثاليين، فإن الحرب هي انحراف عن مسار الحياة الطبيعيّة، والطريقة لمنع ذلك تكمن في تثقيف الناس من أجل السلام، وبناء نُظم أمن جماعي مثل عصبة الأمم أو الأمم المتحدة اليوم. يطعن كار في المثاليّة من خلال التشكيك في مطالبتها بأخلاق عالميّة وفكرتها حول تناغم المصالح، فهو يؤكد أن “الأخلاق يمكن أن تكون نسبيّة فقط، ولا يمكن أن تكون عالميّة” (19)، ويذكر أن عقيدة تناغم المصالح تتذرع بها المجموعات ذات الامتيازات “لتبرير والحفاظ على مكانتها المهيمنة” (85).

يستخدم كار مفهوم نسبيّة الفكر، الذي يُعيد جذوره إلى ماركس وغيره من المنظرين الحديثين، ليبيّن أن المعايير التي يتم بها الحكم على السياسات هي نتاج ظروف ومصالح. فكرته الأساسيّة هي أن مصالح طرف معيّن تحدد دائمًا ما يعتبره هذا الحزب مبادئ أخلاقيّة، وبالتالي، فإن هذه المبادئ ليست عامة. يلاحظ كار أن السياسيين، على سبيل المثال، غالبًا ما يستخدمون لغة العدالة لتستّر على المصالح الخاصة لبلدانهم، أو لخلق صور سلبيّة لأشخاص آخرين لتبرير أعمال العدوان عليهم.

إن وجود مثل هذه الحالات من التشويه الأخلاقي لعدو محتمل أو التبرير الأخلاقي لموقف الشخص ذاته يدل على أن الأفكار الأخلاقيّة مستمدة من السياسات الفعليّة. فالسياسات، على خلاف ما يعتقده المثاليون، ليست قائمة على مبادئ عامة أو مستقلة عن مصالح الأطراف المعنيّة.

وإذا كانت هناك معايير أخلاقيّة محددة تستند بحكم الواقع إلى المصالح، فإن حجة كار تقول إن هناك أيضاً مصالح تقوم على ما يعتبر مبادئ مطلقة أو قيم أخلاقيّة عالميّة. في حين أن المثاليون يميلون إلى اعتبار هذه القيم مثل السلام أو العدالة قيمًا عالميّة ويزعمون أن التمسك بها يخدم مصلحة الجميع، فإن كار يجادل ضد هذا الرأي. وفقًا له، لا توجد قيم عالميّة ولا مصالح عالميّة. وهو يزعم أن أولئك الذين يشيرون إلى المصالح العالميّة يعملون في واقع الأمر من أجل مصالحهم الخاصة (71). ويعتقدون ما هو الأفضل بالنسبة لهم هو الأفضل بالنسبة للجميع، ويعرّفون مصالحهم الخاصة باعتبارها مصالح عالميّة للعالم بأسره.

يستند المفهوم المثالي لتناغم المصالح على فكرة أن البشر يمكنهم أن يدركوا بعقلانيّة أن لديهم بعض المصالح المشتركة، وبالتالي فإن التعاون بينهم ممكن. يقارن كار هذه الفكرة مع واقع تضارب المصالح، وبالنسبة إليه فإن العالم تمزقه المصالح الخاصة لمختلف الأفراد والجماعات. وفي مثل هذه البيئة الصراعيّة، يعتمد النظام على القوة، وليس على الأخلاق. فضلاً عن ذلك فإن الأخلاق ذاتها هي نتاج القوة (61). وعلى غرار هوبز، ينظر كار إلى الأخلاق على أنها مبنيّة على نظام قانوني معين تم فرضه بواسطة سلطة قسريّة، وتُفرض المعايير الأخلاقيّة الدوليّة من قبل الدول المهيمنة أو مجموعات الدول التي تقدم نفسها بوصفها المجتمع الدولي ككل، لقد تم اختراع هذه المعايير الأخلاقيّة لإدامة هيمنة هذه الدول.

القيم التي يعتبرها المثاليون جيدة للجميع، مثل السلام والعدالة الاجتماعيّة والازدهار والنظام الدولي، ينظر إليها كار باعتبارها مجرد مفاهيم للوضع الراهن. فالقوى الراضيّة عن الوضع الراهن تعتبر الترتيب القائم عادلًا وبالتالي يبشّر بالسلام. يحاولون حشد الجميع حول فكرتهم حول ما هو الصواب. “مثلما تصلي الطبقة الحاكمة في مجتمع ما من أجل السلام الداخلي، الذي يضمن أمنها وهيمنتها،… كذلك يصبح السلام الدولي مصلحة خاصة للقوى المهيمنة” (76).

من ناحية أخرى، ترى القوى غير الراضية النظام القائم غير عادل، لذا تستعد للحرب. ومن ثم، فإن طريقة الحصول على السلام، إذا لم يكن من الممكن فرضه ببساطة، هي إرضاء القوى غير الراضيّة. ” إن أولئك الذين يستفيدون أكثر من غيرهم من النظام [الدولي] يمكنهم فقط أن يأملوا في الحفاظ عليه على المدى الطويل من خلال تقديم تنازلات كافية لجعله مقبولاً لمن بالكاد يستفيدون منه [النظام الدولي]” (152). إن الاستنتاج المنطقي الذي يتوصل إليه قارئ كتاب كار هو سياسة الاسترضاء.

كان كار مفكراً مُحَنّكًا. لقد أدرك بنفسه أن منطق “الواقعيّة البحتة لا يمكن أن يقدم شيئًا عدا صراع صريح على السلطة ما يجعل أي شكل من أشكال المجتمع الدولي مستحيلاً” (87). على الرغم من أنه يهدم ما يسميه “اليوتوبيا الراهنة” للمثاليّة، إلا أنه في نفس الوقت يحاول بناء “يوتوبيا جديدة”، وهو نظام عالمي واقعي (نفس المرجع السابق). بالتالي، فهو يقر بأن البشر يحتاجون إلى معايير وقيم أساسيّة معينة معترف بها عالميًا، ويعارض حجته التي يحاول من خلالها إنكار عاهلالميّة أي معايير أو قيم.

لتقديم مزيد من الاعتراضات، فإن حقيقة أن لغة القيم الأخلاقيّة العالميّة يمكن إساءة استخدامها في السياسة لصالح طرف أو آخر، وأن هذه القيم لا يمكن العمل بها بصورة كاملة في المؤسسات السياسيّة، لا يعني أن هذه القيم غير موجودة.

يوجد توْق عميق لدى كثير من البشر، سواء كانوا يتمتعون بامتيازات أو لا، إلى السلام والنظام والازدهار والعدالة. تتمثل شرعيّة المثاليّة في المحاولة المستمرة للتفكير في هذه القيم والتمسك بها. يفشل المثاليون إذا لم يولوا اهتمامًا كافيًا لواقع القوة. من ناحية أخرى، في عالم الواقعيّة البحتة، حيث يتم تشكيل جميع القيم وفق علاقتها بالمصالح، تتحول الحياة إلى مجرد لعبة قوة لا تطاق.

إن “أزمة العشرين عامًا” تمس عددًا من الأفكار العالميًة، ولكنها تعكس أيضًا روح عصرها. ولئن كان بوسعنا أن نخطئ مثاليي فترة ما بين الحربين لعدم قدرتهم على بناء مؤسسات دوليّة قوية بما يكفي لمنع اندلاع الحرب العالمية الثانيّة، فإن هذا الكتاب يشير إلى أن الواقعيين فترة ما بين الحربين لم يكونوا مستعدين أيضًا لمواجهة هذا التحدي. كثيرًا ما يشير كار إلى ألمانيا تحت الحكم النازي كما لو كانت بلدًا مثل أي بلد آخر. ويقول إنه إذا توقفت ألمانيا عن أن تكون قوى مستاءة و عن رغبتها بأن “تصبح قوة عليا في أوروبا”، فإنها سوف تتبنى لغة تضامن دولي مماثلة لتلك التي تتبناها القوى الغربيّة الأخرى (79). إن عدم قدرة كار والواقعيين الآخرين على إدراك الطبيعة المحفوفة بالمخاطر للنازيّة، وإيمانهم بأن ألمانيا يمكن أن ترضى بالتنازلات الإقليميّة، ساعد في تعزيز بيئة سياسيّة مكنت ألمانيا من تنامي قوتها، وضم تشيكوسلوفاكيا عندما أرادت ذلك، وحدها بولندا واجهت ألمانيا عسكرياً في سبتمبر/أيلول 1939.

إن نظرية العلاقات الدوليّة ليست مجرد مشروع فكري؛ بل له عواقب عمليّة. وهو يؤثر على تفكيرنا وممارستنا السياسيّة. وعلى الجانب العملي، كان الواقعيون في الثلاثينات، الذين قدم لهم كار الدعم الفكري، من الناس المعارضين لنظام الأمن الجماعي الذي تجسده عصبة الأمم، وعملوا داخل مؤسسات السياسة الخارجيّة في ذلك الوقت، مساهمين بذلك في إضعافها. وبمجرد إضعافهم لعصبة الأمم، انتهجوا سياسة الاسترضاء والتّسوية مع ألمانيا كبديل للأمن الجماعي (Ashworth 46).

بعد ضم تشيكوسلوفاكيا، عندما التف فشل الواقعيين المحافظين المناهضين لعصبة الأمم حوْلNeville Chamberlain وأصبح فشل هذه السياسة واضحًا، حاولوا إعادة بناء النظام الأمني نفسه الذي هدموه في وقت سابق. وأولئك الذين دعموا الأمن الجماعي وُصفوا بالمثاليين.

2.2 مبادئ هانز مورغنثاو الواقعية

لقد طور هانز مورغنثاو (1904-1980) الواقعيّة إلى نظرية شاملة للعلاقات الدوليّة. متأثرًا باللاهوتي البروتستانتي والكاتب السياسي رينهولد نيبوهر. إلى جانب هوبز، يضع هانز الأنانيّة وشهوة السلطة في مركز تصوره للوجود الإنسانيّ. إن الرغبة الإنسانيّة اللامتناهية للسلطة أزليّة وعالميّة، والتي يطابقها هانز بالنفسِ الساعيةِ إلى السيطرةِ. الرغبة في الهيمنة، هي بالنسبة له السبب الرئيسي للصراع. وكما يؤكد في عمله الرئيسي “السياسة بين الأمم: الصراع من أجل السلطة والسلام“، الذي نُشر لأول مرة في عام 1948، بأن “السياسة الدوليّة شأنها شأن أي سياسة، صراع على السلطة” (25).

ينظّم مورغنثاو الواقعيّة في العلاقات الدولية على أساس ستة مبادئ يدرجها في الطبعة الثانيّة من “السياسة بين الأمم”. وباعتباره تقليدياً، فإنه يعارض ما يسمى بالعلماء (العلماء الذين حاولوا، وخاصة في الخمسينات، تقليص حقل العلاقات الدوليّة إلى فرع من فروع العلوم السلوكيّة). ومع ذلك، في المبدأ الأول، 1. ينص على أن الواقعيّة تستند إلى قوانين موضوعيّة تعود جذورها إلى الطبيعة البشريّة الثابتة (4). يريد هانز أن يطوّر الواقعيّة إلى نظرية للسياسة الدوليّة، وإلى فن سياسي، وإلى أداة مفيدة للسياسة الخارجيّة.

إن الركيزة الأساسية لنظرية مورغينثاو الواقعيّة هي مفهوم القوة أو “المصلحة المحددة على أساس القوة”، والذي يسترشد به في مبدؤه الثاني: 2. افتراض أن الزعماء السياسيين يفكرون ويتصرفون من حيث المصلحة المحددة على أساس القوة” (5). يحدد هذا المفهوم استقلاليّة السياسة، ويسمح بتحليل السياسة الخارجيّة بغض النظر عن الدوافع المختلفة، والتفضيلات، والصفات الفكريّة والأخلاقيّة للأفراد السياسيين. وعلاوة على ذلك، فهو أساس الصورة العقلانيّة للسياسة.

على الرغم من أن المصلحة المحددة على أساس القوة هي -كما يشرح مورغنثاو في المبدأ الثالث- فئة صالحة عالميًا، وفي الواقع عنصر أساسي في السياسة، يمكن أن ترتبط أشياء مختلفة بالمصلحة أو القوة في أوقات مختلفة وفي ظروف مختلفة. وتحدد البيئة السياسيّة والثقافيّة مضمونها وطريقة استخدامها.

4. وفي المبدأ الرابع، ينظر مورغنثاو في العلاقة بين الواقعيّة والأخلاق. ويقول إنه بينما يدرك الواقعيون الأهمية الأخلاقيّة للعمل السياسي، فإنهم يدركون أيضا التوتر بين الأخلاق ومتطلبات العمل السياسي الناجح. ويؤكد أن “المبادئ الأخلاقيّة العالميّة” لا يمكن تطبيقها على تصرفات الدول بصياغتها العالميّة المجردة، ولكن لابد من تصفيتها من خلال الظروف الواقعيّة الملومسة للزمان والمكان” (9). ولابد وأن تكون هذه المبادئ مصحوبة بحكمة ويحذّر بأنه “لا يمكن أن تكون هناك أخلاق سياسيّة بدون حصافة؛ أي دون النظر في العواقب السياسيّة المترتبة على العمل الذي يبدو أخلاقيًا ” (نفس المرجع السابق).

الحصافة، وليس قناعة المرء بتفوقه الأخلاقي أو الأيديولوجي، ما ينبغي أن يُسترشد به في العمل السياسي. وهذا ما يؤكد عليه المبدأ الخامس، حيث يؤكد مورغنثاو مرة أخرى على الفكرة القائلة بوجوب النظر إلى جميع الأطراف الفاعلة -الدول، بما فيها الدولة المعنيّة نفسها، على أنها كيانات سياسيّة تسعى إلى تحقيق مصالحها المحددة على أساس القوة. من خلال تبني الدولة وجهة النظر هذه إزاء نظرائها سوف يتم تجنب المواجهة الأيديولوجيّة، وسيصبح بوسع الدولة عندئذ اتباع سياسات تحترم مصالح الدول الأخرى، بينما تحمي وتعزز مصالحها في الوقت ذاته.

بقدر ما القوة، أو المصلحة المحددة على أساس القوة، هو المفهوم الذي يعرّف السياسة، إلا أن السياسة مجال مستقل، كما يقول مورغنثاو في مبدؤه السادس للواقعيّة. لا يمكن إخضاع السياسة للأخلاق. بيد أن الأخلاق لا تزال تلعب دورًا في السياسة. “الرجل الذي ليس سوى” رجل سياسي “سيكون وحشًا، حيث لا وجود لقيود أخلاقيّة تعيقه، أما الرجل الذي ليس سوى “رجل أخلاقي” سوف يكون أحمقًا، لأنه سوف يفتقر تماماً إلى الحصافة” (12). يتطلب الفن السياسي مراعاة هذين البعدين من الحياة البشريّة: القوة والأخلاق.


على الرغم من أن مبادئ مورغينثاو الستة للواقعيّة تحتوي على التكرار والتناقضات، إلا أننا نستطيع رغم ذلك أن نحصل منها على الصورة التالية: إن القوة أو المصلحة هي المفهوم المركزي الذي يجعل السياسة في نظام مستقل. تسعى الجهات الفاعلة العقلانيّة إلى تحقيق مصالحها الوطنيّة. لذلك، يمكن بناء نظرية عقلانيّة للسياسة الدوليّة، هذه النظرية لا تهتم بالأخلاق أو المعتقدات الدينيّة أو الدوافع أو التفضيلات الأيديولوجيّة للقادة السياسيين. كما يشير إلى أنه من أجل تجنب الصراعات، يتعيّن على الدول أن تتجنب الحملات الصليبيّة الأخلاقيّة أو المواجهات الأيديولوجيّة، وأن تبحث عن حلول توفيقيّة يلبي المصالح المشتركة.

على الرغم من أنه يعرّف السياسة على أنها مجال مستقل، إلا أن مورغنثاو لا يتبع المسار الميكافيلي في إزالة الأخلاق تمامًا من السياسة. يقترح مورغنثاو أنه وعلى الرغم من أن البشر حيوانات سياسيّة تسعى وراء تحقيق مصالحها، إلا أنهم حيوانات أخلاقيّة. الحرمان من أي أخلاق سوف يهبط بهم إلى مستوى الوحوش أو ما دون البشر، وحتى لو لم تسترشد السياسة بالمبادئ الأخلاقيّة العالميّة، فإن العمل السياسي يحظى بأهميّة أخلاقية بالنسبة لمورغنثاو، إنه يهدف في نهاية المطاف إلى بقاء الدولة، كما أنه ينطوي على الحصافة. إن الحماية الفعالة لأرواح المواطنين من الضرر ليست مجرد عمل بدني قوي؛ إنما لها أبعاد تحوطيّة وأخلاقية.

يعتبر مورغنثاو الواقعيّة طريقة للتفكير في العلاقات الدوليّة وأداة مفيدة لرسم السياسات. ومع ذلك، فإن بعض المفاهيم الأساسيّة لنظريته، وخاصة فكرة الصراع باعتباره نابعًا من الطبيعة البشريّة، فضلاً عن مفهوم القوة نفسها، قد أثارت الانتقادات.

السياسة الدوليّة شأنها شأن كل السياسات، تعتبر بالنسبة لمورغنثاو صراعًا على السلطة بسبب الرغبة الإنسانيّة الأساسيّة في السلطة. لكن اعتبار كل فرد في بحث دائم عن السلطة -وجهة النظر التي يشاركها مع هوبز- هي فرضيّة مشكوك فيها. لا يمكن الكشف عن الطبيعة البشريّة بالملاحظة والتجربة، ولا يمكن إثباتها من خلال أي بحث تجريبي، ناهيك عن الكشف عنها من خلال الفلسفة فقط، والمفروضة علينا كمسألة إيمانيّة يغرسها النظام التعليمي.

يعزز مورغنثاو الإيمان بالدافع البشري وراء السلطة من خلال تقديم جانب معياري لنظريته، وهو العقلانيّة. تعتبر السياسة الخارجية العقلانيّة “سياسة خارجيّة جيدة” (7). لكنه يعرّف العقلانية بأنها عملية حساب تكاليف وفوائد جميع السياسات البديلة من أجل تحديد فائدتها النسبيّة، أي قدرتها على تعظيم مقدار القوة. رجال الدولة “يفكرون ويتصرفون من حيث اعتبار المصلحة بأنها قوة” (5). الضعف الفكري لصانعي السياسات هو ما يمكن أن يؤدي إلى سياسات خارجيّة منحرفة عن المسار العقلاني الرامي إلى تقليل المخاطر وتعظيم الفوائد. ومن ثم، بدلاً من تقديم صورة فعليّة للشؤون الإنسانيّة، يؤكد مورغنثاو على السعي وراء السلطة وعقلانيّة هذا السعي، ويضعها كقاعدة.

كما لاحظ ريموند آرون وعلماء آخرون، إن القوة، المفهوم الأساسي لواقعيّة مورغنثاو، غامضة. كما يمكن أن تكون القوة إما وسيلة أو غاية في السياسة. ولكن إذا كانت القوة مجرد وسيلة لكسب شيء آخر، فإنها لا تحدد طبيعة السياسة الدوليّة بالطريقة التي يدّعيها مورغنثاو. إنها لا تسمح لنا بفهم سلوك الدول بمعزل عن الدوافع والتفضيلات الأيديولوجيّة لقادتها السياسيين. لا يمكن أن تكون بمثابة أساس لتعريف السياسة كمجال مستقل. وبالتالي، فإن مبادئ الواقعيّة لمورغنثاو قابلة للشك فيها.

يسأل آرون: “هل هذا صحيح”، “تلك الدول، وبغض النظر عن نظامها السياسي، تتبع نفس السياسة الخارجيّة” (597) وبأن السياسات الخارجيّة لنابليون أو ستالين متطابقة بشكل أساسي مع سياسات هتلر أو لويس السادس عشر أو نيكولاس الثاني، وأن جميعها ليست سوى صراع على السلطة؟ “إذا أجاب أحدهم بنعم، فإن الاقتراح لا جدال فيه، ولكنه ليس مفيدًا للغاية” (598). وبناءً عليه، لا جدوى من تعريف سلوكيات الدول بالإشارة حصريًا إلى القوة أو الأمن أو المصلحة الوطنّية. لا يمكن دراسة السياسة الدوليّة بمعزل عن السياق التاريخي والثقافي الأوسع.

على الرغم من أن كار ومورغنثاو يركزان في المقام الأول على العلاقات الدوليّة، إلا أنه يمكن أيضًا تطبيق الواقعيّة على السياسة المحليّة. أن تكون واقعيًا كلاسيكيًا يعني عمومًا أن تنظر إلى السياسة على أنها تضارب في المصالح وصراع على السلطة، وأن تسعى إلى السلام من خلال الاعتراف بالمصالح المشتركة ومحاولة الإرضاء، بدلاً من الوعظ الأخلاقي.

ينتقد برنارد ويليامز وريموند جوس، الممثلان المؤثران للواقعيّة السياسيّة الجديدة، وهي حركة في النظرية السياسيّة المعاصرة، ما يصفانه بـ “الأخلاقويّة السياسيّة” ويشددان على استقلاليّة السياسة مقابل الأخلاق. ومع ذلك، تبدو واقعية النظرية السياسيّة وواقعية العلاقات الدوليّة كبرنامجين بحثيين منفصلين. كما لاحظ العديد من العلماء (ويليام شيرمان، أليسون ماكوين، تيري ناردين. دنكان بيل)، أولئك الذين يساهمون في الواقعيّة في النظرية السياسيّة لا يولون سوى القليل من الاهتمام لأولئك الذين يعملون على الواقعيّة في السياسة الدوليّة. 

3. الواقعية الجديدة

وعلى الرغم من أوجه الغموض والضعف فيه، أصبح كتاب مورغنثاو: “السياسة بين الأمم” كتابًا مدرسيًا معياريًا وأثر على التفكير في السياسة الدوليّة لجيل أو نحو ذلك. وفي الوقت نفسه، كانت هناك محاولة لوضع مقاربة أكثر صرامة من الناحية المنهجيّة لتنظير في الشؤون الدوليّة. في الخمسينات والستينات كان هناك تدفق كبير لعلماء من مختلف المجالات نحو حقل العلاقات الدوليّة ومحاولة استبدال “أدب الحكمة” للواقعيين الكلاسيكيين بالمفاهيم العلميّة والتفكير المنطقي. (Brown 35). وهذا بدوره أثار هجوم مضاد من قبل مورغنثاو والعلماء المرتبطين بما يسمى بالمدرسة الإنجليزيّة، وخاصة هيدلي بول الذي دافع عن المقاربة التقليديّة. (Bull 1966)

نتيجة لذلك، تم تقسيم حقل العلاقات الدوليّة إلى فرعيّن رئيسيين: تقليدي/غير وضعي و علمي/وضعي (الوضعيّة الجديدة). في مرحلة لاحقة تم إضافة الفرع الثالث: ما بعد الوضعيّة. يطرح التقليديون أسئلة معياريّة ويتفاعلون مع التاريخ والفلسفة والقانون. بينما يؤكد العلميون أو الوضعيون على الشكل الوصفي والتعليلي للتساؤل، بدلاً من الشكل المعياري. لقد أسسوا حضورًا قويًا في هذا المجال. بحلول منتصف الستينيات من القرن الماضي، تم تدريب غالبيّة طلاب العلاقات الدوليّة الأمريكيين على البحث الكمي، ونظرية الألعاب، وغيرها من تقنيات البحث الجديدة في العلوم الاجتماعيّة. كان لهذا، إلى جانب البيئة الدوليّة المتغيرة، تأثير كبير على هذا الحقل المعرفي.

كان الافتراض الواقعي السائد هو أن الدولة هي الفاعل الرئيسي في السياسة الدوليّة، وأن العلاقات بين الدول هي جوهر العلاقات الدوليّة الفعليّة. ومع ذلك، مع انحسار الحرب الباردة خلال السبعينيات، كان يمكن للمرء أن يشهد الأهمية المتزايدة للمنظمات الدولية والمنظمات الغير حكومية، بالإضافة إلى الشركات متعددة الجنسيات. أدى هذا التطور إلى إحياء التفكير المثالي، والذي أصبح يعرف باسم الليبرالية الجديدة أو التعددية.

على الرغم من قبول بعض الافتراضات الأساسية للواقعية، اقترح التعدديون الرائدون، أمثال روبرت كوهين وجوزيف ناي، مفهوم الإعتماد المتبادل المعقد لوصف هذه الصورة الأكثر تعقيدًا للسياسة العالميّة. وقد جادلوا بأنه يمكن أن يكون هناك تقدّم في العلاقات الدوليّة وأن المستقبل لا يجب أن يبدو مثل الماضي.

1.3 نظان كينيث والتز الدولي

جاء الرد الواقعي بشكل واضح من كينيث والتز، الذي أعاد صياغة الواقعيّة في العلاقات الدوليّة بطريقة جديدة ومميزة. في كتابه Theory of International Politics، والذي نُشر لأول مرة في عام 1979، استجاب والتز للتحدي الليبرالي وحاول علاج عيوب الواقعيّة الكلاسيكيّة لهانز مورغثاو من خلال مقاربة أكثر علميّة، والتي أصبحت تعرف بالواقعيّة البنيويّة أو الواقعيّة الجديدة. بينما أصّل مورغنثاو نظريته في الصراع على السلطة وربطها بالطبيعة البشريّة، بذل والتز جهدًا لتجنب أي مناقشة فلسفيّة للطبيعة البشريّة، وشرع بدلاً من ذلك في بناء نظرية للسياسة الدوليّة مماثلة للاقتصاد الجزئي. يجادل والتز بأن الدول في النظام الدولي مثل الشركات في الإقتصاد المحلي ولها نفس المصلحة الأساسيّة: البقاء على قيد الحياة.

"على الصعيد الدولي، يتم تحديد بيئة سلوك الدول، أو بنيّة نظامها، من خلال حقيقة مفادها أن بعض الدول تفضل البقاء على قيد الحياة على تحقيق الغايات الأخرى التي يمكن الحصول عليها على المدى القصير، وتعمل بكفاءة نسبيّة لتحقيق هذه الغاية" (93).

يؤكد والتز أنه من خلال الاهتمام بالدولة بمفردها والاهتمام بالقضايا الأيديولوجيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة، يرتكب كل من الليبراليين التقليديين والواقعيين الكلاسيكيين الخطأ نفسه. فقد فشلوا جميعهم في تطوير سرديّة جادة للنظام الدولي – سرديّة مجردة من المجال الاجتماعي والسياسي الأوسع. يقر والتز أن مثل هذا التجريد يشوه الواقع ويغفل العديد من العوامل التي اعتبرت مهمة للواقعية الكلاسيكيّة. هذه السرديّة قد لا تسمح بتحليل وضع سياسات خارجيّة محددة، غير أن لها فائدة. فمن الجدير بالذكر أنها تساعد على فهم المحددات الأساسيّة للسياسة الدوليّة.

بطبيعة الحال، إن نظرية الواقعيّة الجديدة التي وضعها والتز لا يمكن تطبيقها على السياسة الداخليّة. فهي لا يمكن أن تساعد في وضع سياسات للدول فيما يتعلق بشؤونها الدوليّة أو الداخليّة. ولا تساعد نظريته إلا في تفسير لماذا تتصرف الدول بطريقة متشابهة على الرغم من اختلاف أشكالها الحكوميّة وأيدلوجياتها السياسيّة المتنوعة، ولماذا من غير المرجح، على الرغم من الاعتماد المتبادل المتزايد، أن تتغير الصورة العامة للعلاقات الدوليّة.

وفقًا لـ والتز، يمكن تفسير السلوك الموحد للدول على مدى قرون بالقيود المفروضة على سلوكها والتي تفرضها بنيّة النظام الدولي، ويتم تعريف بنيّة النظام أولاً بالمبدأ الذي يتم تنظيم هذه البنيّة بموجبه، ثم عن طريق التمييز بين وحداتها، وأخيراً عن طريق توزيع القدرات (القوة) عبر الوحدات. الأناركيّة (اللاسلطويّة)، أو غياب السلطة المركزيّة، هي بالنسبة إلى والتز المبدأ الذي ينظم النظام الدولي، ووحدات هذا النظام الدولي هي الدول. يعترف والتز بوجود جهات فاعلة من غير الدول، إلا أنه يصرف النظر عنها باعتبارها غير مهمة نسبيًا. طالما أن جميع الدول تريد النجاة، وبينما يفترض مبدأ الأناركيّة (اللاسلطويّة) ضمنًا نظام مساعدة ذاتيّة حيث كل دولة في هذا النظام تعتني بنفسها، فإنه لا يوجد تقسيم للعمل أو تمايز وظيفي بينهم، وفي حين أنها متشابهة وظيفيًا، إلا أنها تتفاوت في قدراتها النسبيّة -القوة التي تمثلها كلٍ منها- في أداة نفس الوظيفة.


وبالتالي، يرى والتز القوة وسلوك الدولة بطريقة مختلفة عن الواقعيين الكلاسيكيين. بالنسبة إلى مورغنثاو، القوة هي وسيلة وغاية في الوقت نفسه، ويُفهم سلوك الدولة العقلاني على أنه ببساطة مسار العمل الذي من شأنه أن يراكم أكبر قدر من القوة. في المقابل، يفترض الواقعيون الجدد أن المصلحة الأساسيّة لكل دولة هي الأمن، وبالتالي سيركزون على توزيع القوة. إن ما يميز الواقعيّة الجديدة عن الواقعيّة الكلاسيكيّة هو الدقة المنهجيّة والتصور العلمي للذات (Guzinni 1998، 127–128). يصر والتز على قابليّة الاختبار التجريبي للمعرفة وعلى قابليّة الدحض/falsificationism كنموذج منهجي، والذي، كما يقر هو نفسه، يمكن أن يكون له تطبيق محدود فقط في العلاقات الدولية.

يمكن أن يختلف توزيع القدرات -القوة- بين الدول؛ ومع ذلك، فإن الأناركيّة، المبدأ التنظيمي للعلاقات الدولية، يبقى معطى ثابت. لهذا تأثير دائم على سلوك الدول التي أصبحت اجتماعيّة في منطق المساعدة الذاتية. في محاولة لدحض الأفكار الليبراليّة الجديدة المتعلقة بآثار الاعتماديّة المتبادلة، حدد والتز سببين يقيّد بسببها النظام الدولي الأناركي التعاون: انعدام الأمن والمكاسب غير المتكافئة. في سياق الأناركيّة، تكون كل دولة غير متأكدة من نوايا الدول الأخرى، وتخشى أن المكاسب المحتملة الناتجة عن التعاون قد يجعلها تحابي دولًا أخرى أكثر منها ذاتها، وبالتالي يؤدي بها إلى الاعتماد على الآخرين. “لا تضع الدول نفسها طواعيّة في حالات تبعيّة متزايدة. في نظام المساعدة الذاتية، اعتبارات الأمن تُخضع المكاسب الاقتصاديّة للمصلحة السياسيّة “. (Waltz 1979، 107)

وبسبب وجاهتها النظريّة وصرامتها المنهجيّة، أصبحت الليبراليّة الجديدة ذات تأثير كبير في حقل العلاقات الدوليّة. وفي نظر العديد من العلماء، قد عفى الزمن عن واقعيّة مورغنثاو ــ “حلقة مثيرة للاهتمام وهامة في تاريخ التفكير في الموضوع، بلا شك، ولكن نادراً ما ينظر إليها باعتبارها إسهاماً جاداً في النظريّة العلمية الصارمة” (Williams 2007، 1). ومع ذلك، ففي حين اكتسبت الليبراليّة الجديدة في البداية قبولاً أكبر من الواقعيّة الكلاسيكيةّ، فإنها أثارت أيضا انتقادات قوية على عدد من الجبهات.

2.3 اعتراضات على الواقعية الجديدة

في عام 1979 كتب والتز أنه في العصر النووي، كان النظام الدولي ثنائي القطب، المستند إلى قوتين عظميين – الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – لم يكن مستقراً فحسب بل ومن المرجح أن يستمر (176-77). ما تلى ذلك من تفكك اتحاد الجمهوريات الاشتراكيّة السوفياتيّة ثبت خطأ هذا التنبؤ. تبين أن العالم ثنائي القطب كان أكثر خطورة مما توقعه معظم المحللين الواقعيين. فتحت نهايته إمكانيات وتحديات جديدة تتعلق بالعولمة. وقد أدى هذا بالعديد من النقاد إلى القول بأن الواقعيّة الجديدة، مثل الواقعية الكلاسيكيّة، لا تستطيع تفسير التغييرات في السياسة العالميّة بشكل كافٍ.


الجدل الجديد بين الواقعيين الدوليين (الجدد) والليبراليين (الجدد) لم يعد معنيًا بمسائل الأخلاق والطبيعة البشريّة، بل بمدى تأثر سلوك الدولة بالبنيّة الفوضويّة للنظام الدولي بدلاً من المؤسسات، والتعلم، وغير ذلك من العوامل المؤدية إلى التعاون. وفي كتابه “المؤسسات الدوليّة وسلطة الدولة” الصادر في عام 1989، قَبِل روبرت كوهين تأكيد والتز على نظريّة مستوى- النظام وافتراضه العام بأن الدول هي جهات فاعلة ذات مصلحة ذاتيّة تسعى بعقلانيّة إلى تحقيق أهدافها. ومع ذلك، من خلال استخدام نظرية الألعاب يبيّن كوهين أن الدول يمكن أن توسع مفهوم مصلحتها الذاتيّة من خلال التعاون الاقتصادي والمشاركة في المؤسسات الدوليّة. وهكذا يمكن أن تؤثر أنماط الاعتمادية المتبادلة على السياسة العالميّة. كما يدعو كيوهين إلى وضع نظريات منهجيّة قادرة على التعامل بشكل أفضل مع العوامل التي تؤثر على تفاعل الدولة، ومع التغيّر الحاصل.

يركز المنظرون النقديون، مثل روبرت دبليو كوكس، أيضًا على زعم عدم قدرة الواقعيّة الجديدة على التعامل مع التغيّر. من وجهة نظرهم، إن الواقعيون الجدد يتخذون هيكلًا خاصًا محددًا تاريخيًا للعلاقات الدوليّة قائم على أساس الدولة ويفترضون أنه صالح عالميًا. في المقابل، يعتقد المنظرون النقديون أنه من خلال تحليل تفاعل الأفكار والعوامل الماديّة والقوى الاجتماعيّة، يمكن للمرء أن يفهم كيف نشأت هذه البنيّة وكيف يمكن أن تتغير في النهاية. وهم يؤكدون أن الواقعيّة الجديدة تتجاهل كلاً من العمليّة التاريخيّة التي تتشكل خلالها الهويات والمصالح، والإمكانيات المنهجيّة المتنوعة.

تضفي الواقعيّة الجديدة الشرعيّة على الوضع الراهن للعلاقات الاستراتيجيّة بين الدول وتعتبر المنهجيّة العلميّة هي الطريقة الوحيدة للحصول على المعرفة. الواقعيّة الجديدة هي ممارسة إقصائية، واهتمام بالهيمنة والسيطرة.

بينما يهتم الواقعيون بالعلاقات بين الدول، فإن التركيز بالنسبة للمنظرين النقديين هو على التحرر الاجتماعي. وعلى الرغم من اختلافاتهم، إلا أن النظريّة النقديّة، وما بعد الحداثة، والنسويّة، كلها تتنافى مع مفهوم سيادة الدولة، وتتصوّر مجتمعات سياسيّة جديدة ستكون أقل اقصائيّة إزاء المجموعات المهمشة والمحرومة. تجادل النظريّة النقديّة ضد الإقصاء القائم على الدولة كما تستنكر أن يكون لمصالح مواطني الدولة الأسبقيّة على مصالح الأجانب. وتصر على ضرورة أن يعطي السياسيين مصالح الأجانب نفس القدر من الأهميّة التي يمنحونها لمصالح مواطنيهم، وأن يتوخوا هياكل سياسيّة تتجاوز حدود الدولة القوميّة. نظريّة ما بعد الحداثة تشكك في ادعاء الدولة بأنها محور الشرعيّة للولاء البشري وفي حقها في فرض حدود اجتماعيّة وسياسيّة. كما أنها تدعم التنوع الثقافي وتشدد على مصالح الأقليات. وتجادل الحركة النسويّة بأن النظريّة الواقعيّة تظهر تحيزًا ذكوريًا، وتدعو إلى إدماج المرأة والقيم البديلة في الحياة العامة.


نظرًا لأن النظريات النقديّة ووجهات النظر البديلة الأخرى تشكك في الوضع الراهن، وتجعل المعرفة مستندة على القوة، وتؤكد على تكوين الهوية والتغيّر الاجتماعي، فهي ليست تقليديّة أو غير-وضعية. يطلق عليها أحيانًا نظريات “انعكاسيّة” أو “ما بعد وضعيّة” (Wiver 165) وتمثل هذه وجهات النظر هذه انفصالًا جذريًا عن نظريات العلاقات الدوليّة كالواقعيّة الجديدة والليبراليّة الجديدة أو “الوضعيّة”. يحاول البنائيون، مثل ألكسندر وندت، بناء جسر بين هذيّن النهجين من خلال أخذ نظام الدولة الحالي والأناركيّة (اللاسلطويّة) على محمل الجد من ناحية، ومن ناحية أخرى، من خلال التركيز على تشكيل الهويات والمصالح.

معارضًا الأفكار الواقعيّة الجديدة، يجادل ألكسندر وندت بأن المساعدة الذاتيّة لا تتبع منطقًا أو عرضًا من مبدأ الأناركيّة، بل هو بنيّة اجتماعيّة. أكتستب أفكار وندت تسمية “البنائيّة” وهي القائلة بأن هويات الدول واهتماماتها مصممة اجتماعيًا. وبالتالي، في رأيه، فإن “المساعدة الذاتيّة وسياسة القوة هي مؤسسات وليست سمات أساسيّة للأناركيّة (اللاسلطويّة). الأناركيّة هي ما تصنعه الدول “(Wendt 1987 395). لا يوجد منطق واحد للأناركيّة بل العديد منها، اعتمادًا على الأدوار التي تحدد بها الدول نفسها وتعرف بعضها البعض. تتشكل السلطة والمصالح من خلال الأفكار والمعايير. ويزعم وندت أن الواقعيّة الجديدة لا يمكن أن تفسر التطورات في السياسة العالمية، لكن البنائيّة المستندة إلى المعايير يمكنها فعل ذلك.


استنتاج مماثل، على الرغم من أنه مُستَمدّ بطريقة تقليديّة، يأتي من المنظرين غير الوضعيين للمدرسة الإنجليزية (نهج المجتمع الدولي) الذين يؤكدون على كل من القيود النظاميّة والمعياريّة على سلوك الدول. بالإشارة إلى النظرة الكلاسيكيّة للإنسان كفرد اجتماعي وعقلاني في الأساس، وقادر على التعاون والتعلم من التجارب السابقة، يؤكد هؤلاء المنظرون على أن الدول، مثل الأفراد، لها مصالح مشروعة يمكن للآخرين إدراكها واحترامها، يمكن الدول أيضًا إدارك المزايا العامة لمراعاة مبدأ المعاملة بالمثل في علاقاتهم المتبادلة (Jackson and Sørensen 167).

لذلك، يمكن للدول أن تلزم نفسها بدول أخرى من خلال المعاهدات وأن تطوّر بعض القيم المشتركة مع الدول الأخرى. ومن ثم، فإن بنية النظام الدولي ليست ثابتة كما يدعي الواقعيون الجدد. كما إنها ليست فوضى هوبزيّة دائمة يتهددها خطر الحرب. يمكن للنظام الدولي اللاسلطوي القائم على علاقات القوة الخالصة بين الجهات الفاعلة أن يتطور إلى مجتمع دولي أكثر تعاونًا وسلمية، حيث يتشكل سلوك الدولة من خلال القيم والمعايير المشتركة بشكل عام. التعبير العملي للمجتمع الدولي هو المنظمات الدوليّة التي تدعم سيادة القانون في العلاقات الدوليّة، لاسيما منظمة الأمم المتحدة.

4. الخاتمة: السمة المتغيرة والتحذيرية لـ الواقعية

من العواقب المؤسفة وغير المقصودة للجدل القائم حول الواقعيّة الجديدة هو أن الواقعيّة الجديدة وجزء كبير من النقد الموجه لها (باستثناء ملحوظ من المدرسة الإنجليزيّة) قد تم التعبير عنه بمصطلحات علميّة وفلسفيّة مجردة. وقد أدى ذلك إلى تعذر الوصول تقريبا إلى نظرية لسياسة الدوليّة بالنسبة للشخص العادي، كما أدى ذلك إلى تقسيم حقل العلاقات الدوليّة إلى أجزاء غير متوافقة. في حين أن الواقعيّة الكلاسيكيّة كانت نظرية تهدف إلى دعم الممارسة الدبلوماسيّة وتوفير دليل يتبعه أولئك الذين يسعون إلى فهم التهديدات المحتملة والتعامل معها، فإن نظريات اليوم، المعنيّة بمختلف الصور والمشاريع الكبرى، غير مناسبة لأداء هذه المهمة.

ربما يكون هذا هو السبب الرئيسي لوجود اهتمام متجدد بالواقعيّة الكلاسيكيّة، وخاصة بأفكار مورغنثاو. بدلاً من أن يُنظر إليه باعتباره شكلاً قد عفا عليه الزمن من الفكر الواقعي ما قبل العلمي، والذي حلّ محله نظرية الواقعيّة الجديدة، يعتبر تفكير مورغنثاو الآن أكثر تركيبًا وملائمة للواقع لمعاصر مما كان عليه سابقاً (Williams 2007، 1–9). إنه يتناسب بصعوبة مع الصورة التقليديّة للواقعيّة التي يرتبط بها مورغنثاو عادةً.

في السنوات الأخيرة، شكك العلماء في السرديات السائدة حول وجود تقاليد نظريّة واضحة في حقل العلاقات الدوليّة. أصبح ثوسيديديس ومكيافيلي وهوبز وغيرهم من المفكرين عرُضة لإعادة النظر كوسيلة لتحدي الاستخدامات السائدة لتراثهم في هذا الحقل المعرفي واستكشاف انساب واتجهات أخرى. كما خضع مورغنثاو لعمليّة إعادة تفسير مماثلة. أيد عدد من العلماء (Hartmut Behr، Muriel Cozette، Amelia Heath، Sean Molloy) أهمية فكر مورغنثاو كمصدر لتغيير التفسير المعياري للواقعيّة.

تشدد Muriel Cozette على البعد النقدي لواقعيّة مورغنثاو المعبر عنه في التزامه “بقول الحقيقة للسلطة” و “كشف ادعاءات السلطة بتحليها بالصدق والأخلاق”، وفي ميله أيضًا لتأكيد ادعاءات مختلفة في أوقات مختلفة (Cozette 10–12). تكتب كوزيت: ” إن حماية حياة البشر وحريتهم تحظى بأهمية مركزية من قِبَل مورغنثاو، وتشكل” معيارًا متساميًا للأخلاق” والذي يجب أن يحفز دائمًا التساؤلات العلميّة” (19). وهذا يبين مرونة واقعيته الكلاسيكيّة ويكشف عن افتراضاته المعياريّة القائمة على تعزيز القيم الأخلاقيّة العالميّة. بينما يفترض مورغنثاو أن الدول هي جهات فاعلة ساعيّة نحو القوة، فإنه في نفس الوقت يقر بأن السياسة الدوليّة ستكون أكثر ضررًا مما هي عليه في الواقع لولا القيود الأخلاقيّة وعمل القانون الدولي (Behr and Heath 333).

من السبل الأخرى لتطوير نظرية واقعيّة للعلاقات الدوليّة يقدمها عمل روبرت غيلبين الأساسي “الحرب والتغيّر في السياسة العالمية“. إذا كان لهذا العمل أن يكتسب قدراً أكبر من الأهميّة في علم العلاقات الدوليّة، بدلاً من الانخراط في مناقشات نظريّة غير مثمرة، لكنا مستعدين بشكل أفضل اليوم “للتحولات السريعة في موازين القوة والتغيّر الجيوسياسي” (Wohlforth، 2011 505). لكنا قادرين أيضًا على شرح أسباب الحروب الكبرى وفترات السلام الطويلة، ونشوء وزوال الأنظمة الدوليّة.

ما يزال يوجد سبيل آخر لتطوير نظريّة واقعيّة للعلاقات الدوليّة توفره تطبيقات الاكتشافات العلميّة الجديدة على العلوم الاجتماعيّة. والدليل على ذلك، على سبيل المثال، العمل الأخير لألكسندر ويندت، “العقل الكمي والعلوم الاجتماعيّة”. يمكن أن يعتمد نهج واقعي جديد للسياسة الدوليّة على النظرة العضوية والشاملة للعالم المنبثقة من نظرية الكم، وفكرة التطور البشري، والوعي المتزايد لدور البشر في العمليّة التطوريّة (Korab-Karpowicz 2017).

وبالتالي، فإن الواقعيّة هي أكثر من مجرد نظريّة جامدة وغير أخلاقيّة، ولا يمكن استيعابها فقط في إطار التفسير الوضعي للعلاقات الدوليّة. إنها نظرية عمليّة ومتطورة تعتمد على الظروف التاريخيّة والسياسيّة الفعليّة، ويتم الحكم عليها في النهاية من خلال معاييرها الأخلاقيّة وجدواها في اتخاذ قرارات سياسيّة حكيمة (Morgenthau 1962). تؤدي الواقعيّة أيضًا دورًا تحذيريًا مفيدًا. إنها تحذرنا من التقدميّة والأخلاقويّة والقانونيّة والتوجهات الأخرى التي تفقد اتصالها بواقع المصلحة الذاتيّة والقوة. من هذا المنظور، يمكن أيضًا تفسير الإحياء الواقعي الجديد في السبعينيات على أنه حركة تصحيحيّة ضرورّية للإيمان الليبرالي المفرط في التعاون الدولي والتغيير الناتج عن الاعتماد المتبادل.

ومع ذلك، عندما تصبح مشروعًا دوغمائيًا/عقائديًا، تفشل الواقعيّة في أداء وظيفتها المناسبة. فمن خلال البقاء عالقة في “نموذج” يتمحور حول الدولة ومبسط بشكل مفرط كالواقعيّة الجديدة ومن خلال إنكار إمكانية حدوث أي تقدم في العلاقات بين الدول، فإن الواقعية تتحول إلى أيديولوجية. كما يمكن إساءة استخدام تأكيدها على كل من سياسة القوة والمصلحة الوطنية لتبرير العدوان. لذلك يتعين أن تحل محلها نظريات تأخذ في الاعتبار بشكل أفضل الواقع المتغيّر للسياسة العالميّة. لابد من إضافة معايير إيجابيّة إلى وظيفتها السلبيّة والتحذيريّة. حيث تستمد هذه المعايير من العقلانيّة والحصافة التي أكد عليها الواقعيون الكلاسيكيون؛ ومن خلال رؤية التعدديّة والقانون الدولي والمجتمع الدولي الذي يؤكد عليه الليبراليون وأعضاء المدرسة الإنجليزية؛ ومن قيم الكوسموبوليتية والتضامن العالمي الذي يدعو إليه العديد من كتاب اليوم.



المراجع

  • Aron، Raymond، 1966. Peace and War: A Theory of InternationalRelations، trans. Richard Howard and AnnetteBaker Fox، GardenCity، New York: Doubleday.
  • Ashley، Richard K.، 1986. “The Poverty of Neorealism،” in Neorealism and Its Critics، Robert O. Keohane (ed.)،New York: Columbia University Press، 255–300.
  • –––، 1988. “Untying the Sovereign State: ADouble Reading of the Anarchy Problematique،” Millennium،17:227–262.
  • Ashworth، Lucian M.، 2002. “Did the Realist-Idealist DebateReally Happen? A Revisionist History ofInternational Relations،”International Relations، 16(1): 33–51.
  • Brown، Chris، 2001. Understanding International Relations، 2nd edition، New York: Palgrave.
  • Behr، Hartmut، 2010. A History of International Political Theory: Ontologies of the International، Houndmills:Palgrave Macmillan.
  • Behr، Hartmut and Amelia Heath، 2009. “Misreading in IR Theory and Ideology Critique: Morgenthau، Waltz،and Neo-Realism،” Review of International Studies، 35(2): 327–349.
  • Beitz، Charles، 1997. Political Theory and InternationalRelations، Princeton: Princeton University Press.
  • Bell، Duncan (ed.)، 2008. Political Thought in InternationalRelations: Variations on a Realist Theme، Oxford:Oxford University Press.
  • –––، 2017. “Political Realism and International Relations،” Philosophy Compass، 12(2):e12403.
  • Booth، Ken and Steve Smith (eds.)، 1995. International RelationsTheory Today، Cambridge: Polity.
  • Boucher، David، 1998. Theories of International Relations: FromThucydides to the Present، Oxford: OxfordUniversity Press.
  • Bull، Hedley، 1962. “International Theory: The Case for Traditional Approach،” World Politics، 18(3): 361–377.
  • –––، 1977. The Anarchical Society: A Study of Order inWorld Politics، Oxford: Clarendon Press.
  • –––، 1995. “The Theory of International Politics1919–1969،” in International Theory: Critical Investigations، J.Den Derian (ed.)، London: MacMillan، 181–211.
  • Butterfield، Herbert and Martin Wight (eds.)، 1966. DiplomaticInvestigations: Essays in the Theory ofInternational Politics،Cambridge، MA: Harvard University Press.
  • Carr، E. H.، 2001. The Twenty Years’ Crisis، 1919–1939:An Introduction to Study International Relations، NewYork:Palgrave.
  • Cawkwell، George، 1997. Thucydides and the PeloponnesianWar، London: Routledge.
  • Cox، Robert W.، 1986. “Social Forces، States and WorldOrders: Beyond International Relations Theory،”inNeorealism and Its Critics، Robert O. Keohane (ed.)، NewYork: Columbia University Press، 204–254.
  • Cozette، Muriel، 2008. “Reclaiming the Critical Dimension of Realism: Hans J. Morgenthau and the Ethics ofScholarship،” Review of International Studies، 34(1): 5–27.
  • Der Derian، James (ed.)، 1995. International Theory: CriticalInvestigations، London: Macmillan.
  • Donnelly، Jack، 2000. Realism and International Relations،Cambridge: Cambridge University Press.
  • Doyle، Michael W.، 1997. Ways of War and Peace: Realism،Liberalism، and Socialism، New York: Norton.
  • Galston، William A.، 2010. “Realism in Political Theory،” European Journal of Political Theory، 9(4): 385–411.
  • Geuss، Raymond، 2008. Philosophy and Real Politics، Princeton: Princeton University Press.
  • Gustafson، Lowell S. (ed.)، 2000. Thucydides’ Theory ofInternational Relations، Baton Rouge: Louisiana StateUniversityPress.
  • Guzzini، Stefano، 1998. Realism in International Relations andInternational Political Economy: TheContinuing Story of a DeathForetold، London: Routledge.
  • Harbour، Frances V.، 1999. Thinking About InternationalEthics، Boulder: Westview.
  • Herz، Thomas، 1951، Political Realism and Political Idealism: A Study of Theories and Realities، Chicago:University of Chicago Press.
  • Hobbes، Thomas، 1994 (1660)، Leviathan، Edwin Curley (ed.)،Indianapolis: Hackett.
  • Hoffman، Stanley، 1981. Duties Beyond Borders: On the Limitsand Possibilities of Ethical InternationalPolitics، Syracuse:Syracuse University Press.
  • Jackson، Robert and Georg Sørensen، 2003. Introductionto International Relations: Theories and Approaches،Oxford:Oxford University Press.
  • Kennan، George F.، 1951. Realities of American ForeignPolicy، Princeton: Princeton University Press.
  • Keohane، Robert O. and Joseph Nye، 1977. Power andIndependence: World Politics in Transition، Boston:HoughtonMiffin.
  • ––– (ed.)، 1986. Neorealism and Its Critics،New York: Columbia University Press.
  • –––، 1989. International Institutions and State Power: Essays in International Relations Theory، Boulder:Westview.
  • Korab-Karpowicz، W. Julian، 2006. “How InternationalRelations Theorists Can Benefit by ReadingThucydides،” TheMonist، 89(2): 231–43.
  • –––، 2012. On History of Political Philosophy: Great Political Thinkers from Thucydides to Locke، New York:Routledge.
  • –––، 2017. Tractatus Politico-Philosophicus: New Directions for the Development of Humankind، New York:Routledge.
  • Lebow، Richard Ned، 2003. The Tragic Vision of Politics:Ethics، Interests and Orders، Cambridge: CambridgeUniversity Press.
  • Linklater، Andrew، 1990. Beyond Realism and Marxism: CriticalTheory and International Relations،Basingstoke: Macmillan.
  • Machiavelli، Niccolò، 1531. The Discourses، 2vols.، trans. Leslie J. Walker، London: Routledge، 1975.
  • –––، 1515. The Prince، trans. HarveyC. Mansfield، Jr.، Chicago: Chicago University Press، 1985.
  • Mansfield، Harvey C. Jr.، 1979. Machiavelli’s New Modesand Orders: A Study of the Discourses on Livy، Ithaca:CornellUniversity Press.
  • –––، 1996. Machiavelli’s Virtue، Chicago: University of Chicago Press.
  • Maxwell، Mary، 1990. Morality among Nations: An EvolutionaryView، Albany: State University of New YorkPress.
  • Mearsheimer، John J.، 1990. “Back to the Future: Instabilityin Europe After the Cold War،” InternationalSecurity،19: 5–49.
  • –––، 2001. The Tragedy of Great PowerPolitics، New York: Norton.
  • Meinecke، Friedrich، 1998. Machiavellism: The Doctrine ofRaison d’État in Modern History، trans. DouglasScott. NewBrunswick، NJ: Transaction Publishers.
  • Molloy، Seán، 2003. “Realism: a problematic paradigm،” Security Dialogue، 34(1): 71–85.
  • –––، 2006. The Hidden History of Realism. AGenealogy of Power Politics، Houndmills: Palgrave Macmillan.
  • Morgenthau، Hans J.، 1946. Scientific Man Versus Power Politics، Chicago: University of Chicago Press.
  • –––، 1951. In Defense of the NationalInterest: A Critical Examination of American Foreign Policy، NewYork:Alfred A. Knopf.
  • –––، 1954. Politics among Nations: TheStruggle for Power and Peace، 2nd ed.، New York: AlfredA. Knopf.
  • –––، 1962. “The Intellectual and PoliticalFunctions of a Theory of International Relations،”in Politics in the20th Century، Vol. I، “The Declineof Democratic Politics،” Chicago: The University of ChicagoPress.
  • –––، 1970. Truth and Power: Essays of aDecade، 1960–1970، New York: Praeger.
  • Nardin، Terry and David R. Mapel، 1992. Traditions inInternational Ethics، Cambridge: Cambridge UniversityPress.
  • Nardin، Terry، forthcoming. “The New Realism and theOld،” Critical Review of International Social andPolitical Philosophy، first online 01 March 2017; doi:10.1080/13698230.2017.1293348
  • Niebuhr، Reinhold، 1932. Moral Man and ImmoralSociety: A Study of Ethics and Politics، NewYork: CharlesScriber’s Sons.
  • –––، 1944. The Children of Light and theChildren of Darkness: A Vindication of Democracy and a Critique ofItsTraditional Defense، New York: Charles Scribner & Sons.
  • Pocock، J. G. A.، 1975. The Machiavellian Movement: FlorentinePolitical Thought and the Atlantic PoliticalTradition، Princeton:Princeton University Press.
  • Rosenau، James N. and Marry Durfee، 1995. Thinking TheoryThoroughly: Coherent Approaches to anIncoherent World، Boulder:Westview.
  • Russell، Greg، 1990. Hans J. Morgenthau and the Ethics ofAmerican Statecraft، Baton Rouge: Louisiana StateUniversity Press.
  • Sleat، Matt، 2010. “Bernard Williams and the possibility of a realist political theory،” European Journal ofPolitical Philosophy، 9(4): 485–503.
  • –––، 2013. Liberal Realism: A Realist Theory of Liberal Politics، Manchester: Manchester University Press.
  • Smith، Steve، Ken Booth، and Marysia Zalewski (eds.)، 1996.International Theory: Positivism and Beyond،Cambridge:Cambridge University Press.
  • Scheuerman، William، 2011. The Realist Case for Global Reform، Cambridge:Polity.
  • Thompson، Kenneth W.، 1980. Masters of InternationalThought، Baton Rouge: Louisiana State UniversityPress.
  • –––، 1985. Moralism and Morality in Politicsand Diplomacy، Lanham، MD: University Press of America.
  • Thucydides. History of the Peloponnesian War، trans. RexWarner، Harmondsworth: Penguin Books، 1972.
  • –––. On Justice، Power، and Human Nature: The Essence of Thucydides’ History of the Peloponnesian War،Paul Woodruff (ed. and trans.)، Indianapolis: Hackett، 1993.
  • Vasquez، John A.، 1998. The Power of Power Politics: From ClassicalRealism to Neotraditionalism،Cambridge: Cambridge University Press.
  • Waltz، Kenneth، 1979. Theory of International Politics،Boston، MA: McGraw-Hill.
  • Walzer، Michael، 1977. Just and Unjust Wars: A Moral Argumentwith Historical Illustrations، New York: BasicBooks.
  • Wendt، Alexander، 1987. “Anarchy is What States Make of It: The Social Construction of Power Politics،”InternationalOrganization، 46: 391–425.
  • –––، 1999. Social Theory of International Politics، Cambridge: Cambridge University Press.
  • Weaver، Ole، 1996. “The Rise and the Fall of the Inter-Paradigm Debate،” in International Theory: Positivismand Beyond، Steven Smith، Ken Booth، and Marysia Zalewski (eds.)، Cambridge: CambridgeUniversityPress، 149–185.
  • Wight، Martin، 1991. International Theory: ThreeTraditions، Leicester: University of Leicester Press.
  • Williams، Bernard، 1985. Ethics and the Limit of Philosophy، Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––، 2005. “Realism and Moralism in Political Theory،” in In the Beginning was the Deed: Realism andMoralism in Political Argument، ed. G. Hawthorn، Princeton: Princeton University Press، 1–17.
  • Williams، Mary Frances، 1998. Ethics in Thucydides: The Ancient Simplicity، Lanham، MD: University Press ofAmerica.
  • Williams، Michael C.، 2005. The Realist Tradition and the Limit of International Relations، Cambridge:Cambridge University Press.
  • –––، 2007. Realism Reconsidered: The Legacy of Hans Morgenthau in International Relations، Oxford: OxfordUniversity Press.
  • Wohlforth، William C.، 2008. “Realism،” The Oxford Handbook of International Relations، Christian Reus-Smitand Duncan Snidal (eds.)، Oxford: Oxford University Press.
  • –––، 2011. “Gilpinian Realism and International Relations،” International Relations، 25(4): 499–511.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers، with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

Political Realism، entry the Internet Encyclopedia of Philosophy.

Political Realism، entry in Wikipedia.

Melian Dialogue، by Thucydides.

The Prince، by Machiavelli.

The Twenty Years’ Crisis (Chapter 4: The Harmony of Interests)، by E.H. Carr.

Principles of Realism، by H. Morgenthau.

Peace and War، by Raymond Aron.

Globalization and Governance، by Kenneth Waltz.

مداخل ذات صلة

Egoism |ethics: natural law tradition |game theory |Hobbes، Thomas: moral and political philosophy |justice: International distributive |liberalism |Machiavelli، Niccolò |sovereignty |war


[1] Korab-Karpowicz, W. Julian, “Political Realism in International Relations”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2018/entries/realism-intl-relations/>.