مجلة حكمة
أرسطو موسوعة ستانفورد ميتافيزيقا أرسطو

أرسطو

الكاتبكريستفور شيلدز
ترجمةعلي الحارس
تحميلنسخة PDF

مدخل شامل حول حياة الفيلسوف الإغريقي العظيم أرسطو (Aristotle) وفلسفته، تناقش المقالة مجموعة النصوص الأرسطية وطبيتها وأقسامها، والمنطق وعلم الجدل، والماهوية والمشترك اللفظي، والغائية الأرسطية، والسعادة والتنظيم السياسي؛ نص مترجم ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، فقد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF.


من هو ارسطو؟

أرسطوطاليس (384-322 ق.م) يُعدّ من أعظم الفلاسفة على امتداد العصور، وإذا حكمنا عليه بالاقتصار على تأثيره الفلسفي فلن يناظره في الأهمّية سوى أفلاطون، إذ طبعت مؤّلفات أرسطو بطابعها قرونًا من الفلسفة بدءًا من نهاية العصور القديمة، مرورًا بعصر النهضة، وصولًا حتّى إلى أيّامنا هذه، إذ لا تزال مؤّلفاته تُدرَس بحماسة لا تعبأ بالجانب الآثاري لها؛ ولقد ترك لنا هذا الباحث والكاتب المذهل كتلة ضخمة من النصوص قد يبلغ عددها مئتا رسالة تقريبًا، وصلنا حوالي واحدة وثلاثون منها.[i]

ويجد القارئ في ما وصلنا من مؤلّفات أرسطو تناولًا لنطاق واسع من المعارف، بدءًا من المنطق والميتافيزيقا وفلسفة الذهن، مرورًا بالأخلاق والنظرية السياسية والجماليات والبلاغة، وانتهاء بحقول غير فلسفية في أساسها كالبيولوجيا التجريبية التي امتاز بما قدّمه فيها من معلومات تفصيلية في ملاحظة النباتات والحيوانات ووصفها؛ وفي كلّ هذه المجالات أنارت نظريات أرسطو للبعض طريقه، وقابلها البعض بالمعارضة، ومنها ما أطلق شرارة الجدل، ويمكن القول عمومًا بأنّها حفّزت الاهتمام المتواصل بقراءة نصوصه بين شريحة واسعة من القرّاء.

ولا يمكن الإحاطة بـ فلسفة أرسطو بسهولة، وذلك لاتّساع نطاقها وقدم عهدها، فالتاريخ الطويل لشرح نصوصه وأفكاره الرئيسية وتحصيلها، والتي تمتدّ على ألفين من السنوات وتضمّ فلاسفة من مشارب دينية وعلمانية مختلفة، قد جعل الخلاف يتسرّب حتّى إلى النقاط الرئيسية في شرح هذه النصوص. ولقد تعامل موقع (موسوعة ستانفورد للفلسفة) مع هذا الوضع على ثلاث مستويات:

  1. مدخل عامّ (هذا الذي تقرؤه) يقدّم عرضًا مختصرًا لحياة أرسطو وخصائص الأفكار المركزية التي التزم بها، ويسلّط الضوء على أبرز مناهجه وأكثر منجزاته تأثيرًا.[ii]
  2. (مواضيع عامّة) تقدّم مقدّمات تفصيلية للحقول الرئيسية في النشاط الفلسفي لأرسطو.
  3. (مواضيع خاصّة) تبحث، وبقدر أكبر من التفصيل، في مسائل لم تحظَ سوى بنطاق ضيق من الاهتمام، ولا سيّما المسائل التي يتمحور حولها البحث الأكاديمي المعاصر في نصوص أرسطو. ***

 


 

1. حياة أرسطو

ولد أرسطوطاليس في العام (384 ق.م) في مدينة صغيرة تُعرف بـ(اسطاغيرا) تقع بالمنطقة المقدونية من شمال شرق اليونان (ومن هنا جاء تلقيبه بـ”الاسطاغيري”)، وقد أُرسِل إلى أثينا عندما كان في حوالي السابعة عشرة من العمر ليدرس في أكاديمية أفلاطون التي كانت تحتلّ صدارة مواقع التعليم في أنحاء العالم اليوناني. ولم يقطع أرسطو علاقته بهذه الأكاديمية حتّى وفاة أفلاطون في العام (347 ق.م)، وحينها غادر إلى آسوس (في آسيا الصغرى، ساحل شمال غرب تركيا اليوم)، وهناك واصل نشاطه الفلسفي الذي بدأه في أكاديمية أفلاطون، لكنّ من المرجّح جدًّا أنّه بدأ أيضًا بتوسيع أبحاثه لتشمل البيولوجيا البحرية. وبقي أرسطو في آسوس حوالي ثلاث سنوات، ثمّ انتقل إلى جزيرة ليسبوس المجاورة لساحل آسوس، ويبدو أنّ هذا الانتقال حدث بسبب وفاة مضيفه هرمياس حاكم آسوس، وهو صديقه وزميله في الأكاديمية سابقًا.

زوجة ارسطو

واصل أرسطو أبحاثه الفلسفية والتجريبية في ليسبوس لسنتين أخريين، عمل خلالها مع ثيوفراسطوس الليسبوسي، والذي ورد اسمه في النصوص القديمة ضمن أسماء أكاديمية أفلاطون. وفي هذه المدّة تزوّج أرسطو پوثياس ابنة أخ هرمياس، وأنجبت له ابنة حملت اسم أمّها نفسه.

وفي العام (343 ق.م) غادر أرسطو ليسبوس إلى پيلا، عاصمة مقدونيا، بطلب من ملكها فيليپوس ليكون المعلّم الخاصّ لولده الاسكندر الذي كان يبلغ من العمر حينها ثلاث عشرة سنة، وهو الذي سيعرف في ما بعد بـ(الإسكندر الكبير). وعلى الرغم من أنّ المؤرّخين لا يقاومون جاذبية التفكير بتأثير أرسطو في تطوّر شخصية الإسكندر، فإنّ الحقيقة تشير إلى أنّه ليس هنالك سوى القليل من المعلومات الأكيدة حول ما كان يدور بينهما.

وبالاعتماد على المعلومات المتوافرة يبدو من المعقول أن نستنتج بأنّ أرسطو علّم تلميذه بعض الدروس، لكنّ مدّة التعليم لم تتجاوز سنتين أو ثلاثًا، بلغ بعدها الاسكندر الخامسة عشرة من العمر وأصبح جاهزًا، في ما يبدو، لينوب عن والده في قيادة جيشه، وهو ظرف من شأنه أن يهدم، وإن بشكل غير حاسم، حجج المؤرّخين الذين يخمّنون تجاوز مدّة التعليم لما ذكرناه (منهم من يفترض أنّها دامت ثماني سنوات).

ومن الصعب أن نستبعد هذا الاحتمال بشكل قطعي، وذلك لأنّنا لا نعلم إلّا القليل حول حياة أرسطو في المدّة (341-335 ق.م)، ويبدو أنّه بقي خمس سنوات أخرى في اسطاغيرا أو مقدونيا قبل أن يعود إلى أثينا، للمرة الثانية والأخيرة، في العام (335 ق.م)، ليؤسّس فيها مدرسة خاصّة به في منطقة عمومية للتمارين مكرّسة للرب أپولّو اللوقياني، ومنه جاء الاسم الذي عُرفت به هذه المدرسة (اللوقيون)، أمّا من انخرطوا فيها فأطلِق عليهم لاحقًا (المشّاؤون)، وربّما يعود سبب التسمية إلى وجود ممرّات مسقّفة للمشي في المدرسة بالقرب من ميدان التمارين.

وكان أعضاء اللوقيون يبحثون في طيف واسع من المجالات التي يهتمّ بها أرسطو نفسه، وهي: علم النبات، والبيولوجيا، والمنطق، والموسيقا، والرياضيات، والفلك والطبّ، والكونيات، والفيزياء، وتاريخ الفلسفة، والميتافيزيقا، وعلم النفس، والأخلاق، واللاهوت، والبلاغة، والتاريخ السياسي، ونظرية الحكم والسياسة، والفنون. وكان اللوقيون يضمّ مخطوطات في هذه الحقول، ولذلك يمكن القول، بناءً على بعض الروايات القديمة، بأنّه كان يشكّل أوّل مكتبة عظيمة في العالم القديم.

وفي هذه المرحلة من حياة أرسطو توفّيت زوجته پيثياس، فأقام علاقة جديدة مع هيرپيليس، والتي يحتمل أنّ أصلها يعود إلى اسطاغيرا التي ينحدر منها، لكنّ الشكوك تحوم حول هذا الأصل، كما هو الحال بشأن تحديد طبيعة علاقتها به؛ فهنالك من يفترض أنّها كانت أَمَةً له وحسب، وهنالك من يستنتج من شروط وصيّته أنّها كانت أمَة محرّرة ويرجّح أنّها كانت زوجته حين وفاته؛ ومهما يكن من أمر، فإنّها أنجبت له أطفالًا من بينهم (نيقوماخوس) الذي أسماه باسم والده، ويفترض أنّ كتابه (الأخلاق النيقوماخية) قد سمّي لهذا السبب أيضًا.

وبعد أن أمضى في أثينا ثلاثة عشر عامًا، عثر على مبرّر ليرحل عنها ثانيةً في العام (323 ق.م)، وربّما كان رحيله بسبب تجدّد المشاعر المعادية للمقدونيين في المدينة، وهو أمر ما انفكّ عن التنامي منذ وجودهم فيها، ووصل إلى نقطة الغليان بهزيمة الاسكندر أمام المرض في بابل خلال السنة نفسها؛ وبما أنّ لأرسطو صلات بالمقدونيين، فلقد كان محقًّا بأن يشعر بالخوف على أمنه، فغادرها وهو يقول، وفقًا لرواية قديمة اعتادت الألسنة على تكرارها، بأنّه لم يجد سببًا جديرًا يبرّر له أن يسمح للأثينيين بأن يذنبوا بحقّ الفلسفة مرّتين.

وهكذا غادر أثينا مباشرةً إلى خلقيس في أوبويا، وهي جزيرة على الساحل الأتيكي، ليموت ميتة طبيعية في العام التالي (332 ق.م).[iii]

2. مجموعة النصوص الأرسطية: طبيعتها وأقسامها الرئيسية

تميل كتابات أرسطو إلى تعريض القارئ المبتدئ لصعوبات قاهرة؛ وفي مقدّمتها: استخدامه المكثّف لمصطلحات تقنية غير مشروحة، واستغلاق بنية الجملة على الفهم في بعض الحالات؛ ناهيك عن أنّ بعض الفصول من كتاباته، أو حتّى رسائل كاملة منها، تبدو وكأنّها رُتّبت دون تنظيم، وهذا إن كانت منظّمة في الأصل، حتّى إنّك تجد المختصّين يختلفون في عدد من الحالات على أنّ الرسالة المتواصلة المنظّمة حاليًّا تحت عنوان واحد لم يكن أرسطو ينتوي قطّ إصدارها بشكلها الحالي أو أنّها قد ألصقت أقسامها سويّة على يد محرّر متأخّر استخدم ما استنسبه من مبادئ في تنظيمها.[iv]

وهذا يساعدنا على تفسير ما يحدث للطلبة حين ينتقلون لقراءة كتابات أرسطو بعد أن يكونوا قد اطّلعوا قبله على الأسلوب النثري المرن الجميل في محاورات أفلاطون، فتجدهم يصابون بالإحباط، وذلك لأنّ الأسلوب النثري لدى أرسطو يتطلّب بعض التأقلم أوّلًا.

ويزداد الإرباك أكثر حين نقرأ ملاحظة الخطيب الروماني الشهير كيكيرو التي رأى فيها بأنّه إذا كان كلام أفلاطون من فضة فإنّ كلام أرسطو نهر جارٍ من ذهب (Ac. Pr. 38.119, cf. Top. 1.3, De or. 1.2.49)؛ وهنالك من يرى بأنّ كيكيرو أعظم كتّاب النثر في تاريخ اللغة اللاتينية، وأنّه لا يشكّ في كونه ناقدًا قديرًا منصفًا في ما يخصّ أساليب النثر لدى من كتبوا باللغتين اللاتينية واليونانية على حدّ سواء؛ وعلينا أن نفترض، إذن، بأنّ كيكيرو قد توفّرت له نصوص لأرسطو تختلف عن ما بين أيدينا.

وفي الحقيقة، إنّنا نعلم بأنّ أرسطو كتب (المحاورات)، ويُفترَض أن ذلك حدث خلال وجوده في (الأكاديمية)، وفي القليل المتبقّي منها نجد لمحات للأسلوب الذي وصفه كيكيرو؛ لكنّنا لا نجد في معظم ما وصلنا من نصوص، ويا للأسف، إلّا أسلوبًا لشخصية أقلّ ثقافة إلى حدّ بعيد؛ ناهيك عن أنّ ما بقي من نصوص أرسطو يبدو وكأنّه، ونحن نرجّح ذلك جدًّا، ملاحظات لمحاضرات، ومسوّدات كتبت على عجل ثم أعيدت صياغتها لاحقًا، وسجلّات متواصلة لأبحاث مستمرّة، ويمكن القول بشكل عامّ أنّها احتوت على تجميعات خاصّة بمؤسّسة أرسطو التعليمية لم تكن موجّهة للقارئ العامّ بل لحلقة داخلية ممّن يحضر الدروس، وهي تقف قبالة النصوص “الشعبية” التي ذكرها أرسطو في بعض المواضع، أي: كتاباته ذات الأسلوب الأجمل التي تستهدف جمهورًا أوسع (Pol. 1278b30; EE 1217b22, 1218b34).

إذن، وهذا من دواعي الأسف، فالقسم الأكبر ممّا وصلنا من نصوص أرسطو، وليس كلّه قطعًا، ما هو إلّا كتابات غير مكتملة أُخِذت وهي في طور الإنجاز، وليست نتاجًا نهائيًا مشذّبًا؛ ومع ذلك فإنّ الكثير ممّن يتمسّكون بأرسطو يقدّرون، في نهاية المطاف، أسلوبه المباشر الخالي من الزخارف اللفظية.

والأهمّ من جميع ما سبق أنّ الحالة الخام لما وصلنا من رسائل أرسطو لا تعيق قدرتنا على التقاط محتواها الفلسفي؛ فهذه النصوص الإحدى والثلاثون (والتي وردت في مخطوطات العصر الوسيط باسم “Corpus Aristotelicum” وحكم عليها بالموثوقية) تحتوي جميعها على مذهب أرسطي قابل للتمييز؛ ومعظمها تحتوي على نظريات لا لبس في مزاعمها الرئيسية، حتّى وإن كان تفاصيلها وتعابيرها تظلّ رهن الخلافات التفسيرية.

ويمكن تصنيف نصوص أرسطو وفقًا للمبادئ التنظيمية الحدسية التي فضّلها هو بنفسه؛ فهو يشير إلى فروع التعلّم باعتبارها “علومًا” (epistêmai)، وأنّ الأفضل اعتبارها كتلًا منظّمة لتعليم مكتمل يمكن عرضه، وليست سجلّات مستمرّة لأبحاث تجريبية. يضاف إلى ذلك، وبحسب مصطلحات أرسطو أيضًا، أنّ العلوم الطبيعية كالفيزياء ليست سوى فرع واحد من فروع (العلم النظري)، والذي يضمّ المجالين التجريبي واللاتجريبي كليهما. ويميّز أرسطو العلم النظري عن الدراسات الأكثر توجّهًا نحو الواقع العملي، فهنالك ما يهتمّ بالتصرّفات البشرية وهنالك ما يركّز على المهن المنتجة. وعلى هذا الأساس فإنّ العلوم الأرسطية تتفرّع إلى ثلاثة فروع: نظري، وعملي، وفعلي؛ ومبادئ هذا التقسيم صريحة واضحة: فالعلم النظري يسعى إلى المعرفة من أجل المعرفة، والعملي يهتمّ بالأداء وجودة العمل على الصعيدين الفردي والمجتمعي، والفعلي يهدف إلى خلق أشياء جميلة أو مفيدة (Top. 145a15–16; Phys. 192b8–12; DC 298a27–32, DA 403a27–b2; Met. 1025b25, 1026a18–19, 1064a16–19, b1–3; EN 1139a26–28, 1141b29–32).

  1. العلوم النظرية: تحتوي في الأساس ما يدعوه أرسطو (الفلسفة الأولى)، أو الميتافيزيقا كما ندعوها اليوم، لكنّها تتضمّن أيضًا (الرياضيات)، و(الفيزياء) أو ما يدعى العلوم الطبيعية. والفيزياء تدرس الكون الطبيعي باعتباره وحدة كلّية، وتميل إلى التركيز، عند أرسطو، على الألغاز المفاهيمية المتعلّقة بالطبيعة عوضًا عن البحث التجريبي، لكنّها تمتدّ إلى نطاق أوسع لتتضمّن أيضًا نظرية للتفسير العلّي، وتصل أخيرًا إلى حدّ تقديم برهان على المحرّك الذي لم يُحرَّك الذي يُعتَقد بأنّه السبب الأوّل والأخير لكلّ حركة. ولا شكّ في أنّ الكثير من الألغاز التي شغلت أرسطو قد اجتذبت أيضًا الفلاسفة والرياضيين والمنظّرين (بمن فيهم: علماء الطبيعة) طوال التاريخ، ولنا مثال صغير على هؤلاء هو زينون الذي طرح مفارقات حول الحركة، وألغازًا حول الزمن وطبيعة المكان، والصعوبات التي يواجهها من يفكّر حول اللامتناهي.

والفلسفة الطبيعية تضمّ أيضًا العلوم الخاصّة، بما فيها: البيولوجيا، وعلم النبات، والنظرية الفلكية. ويعتقد الكثير من النقّاد المعاصرين أنّ أرسطو يتعامل مع علم النفس باعتباره فرعًا ثانويًا للفلسفة الطبيعية، لأنّه يعتبر النفس (psuchê) بمثابة المبدأ الرئيسي للحياة بكلّ ما فيها من حيوان ونبات، وذلك على الرغم من أنّ الدليل على هذا الاستنتاج غير كافٍ في الواقع. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ البحوث الأقدم عهدًا حول أرسطو كانت تعتقد بأنّ هذا الاستنتاج جدلي، ولذلك فإنّ حتّى المسائل التي تبدو غير ذات أهمّية (على سبيل المثال: مسألة الموقع المناسب لعلم النفس في تقسيم أرسطو للعلوم) كانت تقدح شرارة جدل يستمرّ عقودًا في عصر النهضة.[v]

  1. العلوم العملية: أقلّ إثارة للجدل، وذلك على الأقلّ ضمن نطاقها. وهذه العلوم تتعامل مع الأداء والفعل على الصعيدين الفردي والمجتمعي، ولهذا فالعلوم الطبيعية تتضادّ مع العلوم النظرية، والتي تسعى إلى المعرفة من أجل المعرفة، وتتضادّ أيضًا، لكن بدرجة أقلّ من الوضوح، مع العلوم الفعلية، والتي تتعامل مع خلق منتجات خارجية بالنسبة للعلوم نفسها. ويندرج في هذا الفرع: علما السياسة والأخلاق.
  2. العلوم الفعلية: وهي، بشكل رئيسي، حِرَف تهدف إلى إنتاج المصنوعات، أو بتفسير أعم: تهدف إلى إنتاج منتجات بشرية. وتتضمّن العلوم الفعلية، من بين ما تتضمّنه: صنع السفن والزراعة والطبّ، ومعها أيضًا: فنون الموسيقا والمسرح والرقص. ومن أشكال العلوم الفعلية: الخطابة، والتي تتعامل مع مبادئ صنع الخطاب بما يناسب الأوضاع المتنوّعة للجدل والإقناع، بما فيها: الاجتماعات المتمحورة حول الشؤون السياسية.

ومن المهم أن نلاحظ عدم ورود المنطق في التقسيم الأرسطي الثلاثي للعلوم. فعلى الرغم من أنّ أرسطو لم يستخدم كلمة (منطق) بالمعنى المعاصر لها، فلقد طوّر فعلًا أوّل منظومة صورية للمنطق والاستدلال المنتج (valid inference). وليس للمنطق مكان في أيٍّ من العلوم ضمن الإطار الأرسطي العام، وإن لم يصرّح أرسطو مطلقًا بذلك، لكنّه يصوغ المبادئ اللازمة للمحاججة السليمة التي تناسب كلّ حقول البحث بشكل مشترك؛ فهو يضع منظومة للمبادئ التي تجيز الاستدلال المقبول، ويساعد على تسليط الضوء في المستوى التجريدي على الأنماط الجذّابة للاستدلال الفاسد، بغيةَ تجنّبها من أيّ شخص يهتمّ بالحقيقة أوّلًا. ولذلك نجد أرسطو يبحث في الأنماط اللاصورية للمحاججة ويسعى لكشف الأنماط الشائعة للتفكير العقلاني المصاب بالمغالطات، وذلك إلى جانب عمله الآخر الأكثر اهتمامًا بالجوانب التقنية للمنطق والنظرية المنطقية.

إنّ بحوث أرسطو في المنطق وأشكال المحاججة تشكّل جزءًا من مجموعة مؤلّفاته التي وصلتنا من العصور الوسطى باسم (الأورگانون = الأداة باليونانية)؛ وهو اسم مناسب وإن لم يكن من وضع أرسطو نفسه، لأنّنا نعلم بأنّ البحث الفكري يتطلّب نطاقًا واسعًا من الأدوات. ولذلك فإنّ مؤلّفات أرسطو، تتعامل، بالإضافة للمنطق والمحاججة (تعامل معهما بشكل رئيسي في كتابيه: القياس والجدل)، مع نظرية المقولات، ونظرية الافتراضات والشروط، وبنية النظرية العلمية، وتناول إلى حدّ ما مبادئ الإپستيمولوجيا.

وإذا أردنا أن نضع مخطّطًا لأهمّ ما وصلنا من مؤلّفات أرسطو وفقًا للرؤية السابقة، فسنخلص إلى الأقسام الرئيسية التالية:

أ. الأورگانون:

  1. المقولات (Cat).
  2. العبارة (DI).
  3. القياس (APr).
  4. البرهان (Apo).
  5. الجدل (Top).
  6. الحكمة المموّهة (SE).

ب. العلوم النظرية

  1. الطبيعة (Phys).
  2. الكون والفساد (Gen et Corr).
  3. السماء والعالم (DC).
  4. ما بعد الطبيعة (Met).
  5. النفس (DA).
  6. رسائل موجزة في الطبيعة (PN).
  7. تاريخ الحيوان (HA).
  8. أجزاء الحيوان (PA).
  9. حركة الحيوان (MA).
  10. الآثار العلوية (Meteor).
  11. تقدّم الحيوان (IA).
  12. تولّد الحيوان (GA).

ج. العلوم العملية

  1. الأخلاق النيقوماخية (EN).
  2. الأخـــلاق الأوديمية (EE).
  3. الأخلاق الكبرى (MM).
  4. السياسة (Pol).

د. العلوم الفعلية

  1. الخطابة (Rhet).
  2. فن الشعر (Poet).

3. الظاهرات ومنهج المسلّمات عند أرسطو

إذا أردنا أن نصل إلى فهم أوّلي للمقاربة الرئيسية التي يقارب بها أرسطو الفلسفة فإنّ أفضل السبل لذلك هي المقارنة؛ فبينما يسعى ديكارت لوضع الفلسفة والعلم على أسس متينة بإخضاع كلّ الادّعاءات المعرفية لشكّ منهجي صارم، يبدأ أرسطو مقاربته باعتقاد مفاده أنّ ملكات الإدراك الفكري والحسّي لدى الإنسان غير مستقلّة في أساسها، فهي تضعنا، في معظم عملها، على تماس مباشر مع خصائص العالم وأقسامه، ويجب أن لا نلهو بأنماط التفكير النقدي قبل أن ننخرط في تفكير فلسفي عميق.

ويعتمد أرسطو رؤيته هذه لكلّ حقول البحث على نحو يماثل نهج علماء الطبيعة في أيّامنا، فهو يسلّم بحدوث التقدّم كنتيجة مباشرة لعمل الذهن المواظب المدرّب جيدًا، والذي يبدأ عمله فورًا بعد عرضه على أيّ مشكلة. ويبيّن أرسطو لنا كيف يبدو العالم لهذا الذهن، فيقول بأنّه عندما يبدأ بعمله يفكّر بما يحيّره من الظاهرات الخارجية، ويراجع ما قيل له حول هذه المحيّرات في السابق وإلى الحين؛ وهذان المنهجان يتشكّلان من لجوئه المزدوج إلى الظاهرات ومنهج المسلّمات.

هذان المنهجان يعكسان، وبطرق مختلفة، الحوافز الأعمق التي تحفّز أرسطو للتفلسف في الأصل، إذ يقول: «بدأ الإنسان بالتفلسف للسبب نفسه الذي يدفعه للتفلسف في أيّامنا، وهو التعجّب، إذ يتعجّب من الأشياء الغريبة التي يراها أمامه، ثمّ يتقدّم شيئًا فشيئًا لأنّه وجد أن الأشياء الأكبر تنطوي على محيّرات» (Met. 982B12). إذن، يرى أرسطو بأنّ الإنسان يتفلسف لأنّه يلاحظ غموضًا في جوانب من تجربته الحياتية؛ وهذا النوع من الغوامض الذي يواجهه عند التفكير في الكون وموقعه منه (معضلات aporiai، وفقًا للمصطلح الأرسطي) يرهق الفهم ويدفع الإنسان إلى التفلسف.

ويرى أرسطو بأنّ هذا الأمر يدفعنا إلى البدء بالتفلسف من خلال عرض الظاهرات (phainomena)، وهي: الأشياء التي تظهر ذات علاقة بما يجري، وفي الوقت نفسه: تجميع ما يدعوه المسلّمات (endoxa)، أي: الآراء الموثوقة التي حصل عليها في ما يتعلّق بالأمور التي تحيّره. وكمثال نموذجي: يواجه أرسطو في موضع من كتابه (الأخلاق النيقوماخية) أمرًا محيّرًا في الأداء البشري، وهو أنّ الإنسان يبدو أحيانًا ضعيف الإرادة، وإزاء هذا اللغز المحيّر يتوقّف أرسطو ليفكّر في مبدأ أساسي يحكم مقاربته للفلسفة، فيقول: «وكما هو الحال في جميع الحالات، يجب علينا أن نعرض الظاهرات ونستكشف ما يحيّرنا فيها.

وبموجب هذه الطريقة يجب علينا أن نبرهن كلّ المسلّمات حول هذا النوع من التجارب الحياتية، وهذا يشمل في الوضع المثالي كلّ المسلّمات، لكن إذا تعسّر ذلك فيمكن الاقتصار على أغلبها ممّن تحتلّ أعلى مواقع الأهمّية. والسبب في ذلك أنّه إذا أجبنا على الاعتراضات دون أن نمسّ المسلّمات فلن يكون في أيدينا حينها برهان كافٍ» (EN 1145b2–7).

وهنا يختلف المختصّون حول مدى اعتبار أرسطو نفسه معتمدًا على المسلّمات التي يعدّدها والظاهرات الرئيسية التي يلجأ إليها.[vi] فلا شكّ في أنّه لا يمكن الوثوق بهما بشكل كامل، وذلك لأنّ المسلّمات تتضارب في ما بينها أحيانًا، وهذا التضارب يحدث في كثير من الأحيان لا لشيء سوى أنّ الظاهرات تنتج معضلات أو أمورًا محيّرة؛ ولذلك يجب إعادة تفسيرها ومنهجتها، كمجموعة، وعندما لا يكفي ذلك يجب رفض بعضها دون تلكّؤ. ومن الواضح جدًّا في كلّ الحالات أن تجد أرسطو مستعدًّا للتخلّي عن بعض أو كلّ المسلّمات والظاهرات أينما اقتضى العلم أو الفلسفة منه ذلك (Met. 1073b36, 1074b6; PA 644b5; EN 1145b2–30).

ومع ذلك، فإنّ موقف أرسطو من الظاهرات لا يتعارض مع تفضيله المحافظة على أيّ عدد من الظاهرات يقع في حدود الإمكان العملي ضمن أيّ مجال من المجالات، وليس هذا لأنّ الظاهرات دقيقة إلى أبعد حدّ، بل لأنّها تميل، كما يفترض، لاقتفاء أثر الحقيقة؛ فنحن مجهّزون بأعضاء للإدراك الحسّي وبقوى ذهنية مبنية على نحو يضعنا على تماس مع العالم، ولذلك تزودنا ببيانات تتعلّق بمكوّناته وأقسامه الرئيسية. وبينما لا تتمتّع هذه الملكات بالعصمة من الخطأ، فإنّها في الوقت نفسه ليست خادعة أو مضلّلة من الناحية المنهجية. وبما أنّ الفلسفة تهدف للحقيقة، وبما أنّ معظم ما يظهر أمامنا يثبت صدقه بالتحليل، فإنّ الظاهرات توفّر أمرين في آن واحد: دافعًا للتفلسف، وضابطًا يقيّد بعض ما يصدر عنها من اندفاعات أكثر تطرّفًا.

ولا شكّ في أنّ تحديد ما يعتبر (ظاهرة) ليس من الأمور الواضحة في جميع الحالات، والأقلّ وضوحًا من ذلك تمييز الظاهرة التي يجدر أخذها بعين الاعتبار عندما ينشب خلاف حقيقي. وهذا جزء من السبب الذي دفع أرسطو لتأييد مبدئه المنهجي الثاني المتعلّق بهذه القضية، وهو أنّه يجب علينا أن نبدأ النقاشات الفلسفية بجمع ما وصلنا من أسلافنا من الآراء الأكثر استقرارًا ورسوخًا في ما يتعلّق بالمسألة المدروسة.

وصاغ أرسطو لهذه الرؤى الاستثنائية مصطلح المسلّمات (endoxa) الذي يترجم بأشكال متنوّعة من قبيل “الآراء حسنة السمعة” أو “الآراء الموثوقة” أو “الآراء الراسخة” أو “المعتقدات الموثوقة” أو “المعتقدات الشائعة”، وكلٌّ من هذه الترجمات يلتقط جزءًا ممّا ينتويه أرسطو بمصطلحه، لكن من المهمّ أن ننتبه إلى أنّه يستخدم هذا المصطلح على نحو تقني تامّ؛ فالمسلّمة هي ذلك الرأي الذي نعتبره، تلقائيًا، ذا مصداقية أو جديرًا بالاحترام، حتّى وإن كان التفكير فيه يحيطه بالتساؤلات (اشتقّ أرسطو هذا المصطلح من لفظة عادية في اللغة الإغريقية، إذ تعني لفظة “إندوكسوس” الرجل الوجيه أو المحترم، أي: رجل ذو سمعة حسنة يحظى باحترامنا تلقائيًا، مع احتمال أن نجد ما ننتقده بسببه عند تفحّص أحواله عن قرب).

ويشرح أرسطو استخدامه للمصطلح بأنّ المسلّمات هي الآراء التي يتشاطرها الناس على نطاق واسع، وتكون في الكثير من الحالات صادرة في الأصل عن من نقابلهم بأعلى مشاعر الاعتزاز:

«المسلّمات هي الآراء التي يقبلها الجميع، أو الأغلبية، أو الحكماء (وقد يقبلها كلّ الحكماء أو معظمهم)، أو من يتمتّعون بأعلى مستويات الاحترام وحسن السمعة» (Top. 100B21–23). 

ومن الأسباب التي تجعل للمسلّمات دورًا خاصًّا في الفلسفة الأرسطية هو أنّها تشكّل فرعًا ثانويًا من الظاهرات (EN 1154b3–8)، وذلك لأنّها الآراء الامتيازية التي نجد أنفسنا تؤيّدها دون تفكير وتعيد تأكيدها بعد القليل من التفكير، فتأخذ هي نفسها منزلة تؤهّلها لتكون ظاهرات يجب الحفاظ عليها ما أمكن.

إنّ هذا السبب يجعل منهج أرسطو المعتمد على البدء بالمسلّمات أكثر من مجرّد عبارات منافقة يراد منها إلزامنا بالاهتمام بآراء من يفوقوننا في المنزلة؛ فهو يعتقد بهذا التأثير مهما كان المدى الذي يصل إليه، لكنّه يؤكّد أيضًا، وعلى نحو يبيّن لنا مراده، بأنّنا قد نضلّ الطريق بسبب الهيأة التي وصلتنا المشكلات الفلسفية عليها، ففي كثير من الأحيان يحدث أنّ الأمور المحيّرة التي تواجهنا قد تناولها في الماضي مفكّرون سابقون وأعطوها صيغًا موجزة تجعلها تبدو محيّرة في نظرنا؛ ومع ذلك، يحدث في كثير من الأحيان أيضًا أنّنا إذا فكّرنا في الهيأة التي صيغت بها هذه الأمور المحيّرة فسنجد الطريق المناسب لتوضيحها، فعندما تتعارض هيأة الأمر المحيّر مع افتراض لهيكلتها لا يمكن الدفاع عنه، من الطبيعي أن يبرز الحل نفسه بشكل طبيعي.

وهذا هو السبب الذي يجعلنا في ميادين البحث الأكثر تجريدًا نميل إلى أن نجد أنفسنا ونحن نفتّش عمّن يرشدنا من الأسلاف حتّى وإن كنّا نسائل طرقهم في التعبير عن ما نواجهه من مشكلات.

ويطبّق أرسطو منهجه هذا (استكشاف الظاهرات وجمع المسلّمات) على نطاق واسع بشكل يكاد يشمل كلّ حقول فلسفته. وعلى سبيل المثال النمطي: نجد هذا المنهج مطبّقًا بوضوح في مناقشته للزمان في كتابه الطبيعة (Physics iv 10–14)، إذ يبدأ بالظاهرة من شعورنا الأكيد بـ(وجود الزمان) أو (مضيّه) على الأقلّ، وذلك إلى الحدّ الذي تبدو فيه هذه الظاهرة في عالمنا بشكل لا ينكر، أي ما تخبرنا به خبرتنا مع الزمان بأنّه يمضي، وأنّه وحيد الاتّجاه، وأنّه يستحيل استرجاعه بعد ضياعه؛ ومع ذلك فإنّنا عندما ننتقل لتقديم تفسير لماهية الزمان تنعقد ألسنتنا، فنطلب الإرشاد ممّا قيل حول الزمان على ألسنة من فكّروا حول طبيعته، ويتبيّن لنا فورًا أن الفلاسفة وعلماء الطبيعة كليهما قد أثاروا مشكلات حول الزمان.

وعندما يبدأ أرسطو بعرض هذه المشكلات فإنّها تأخذ شكل ألغاز أو أمور محيّرة (يدعوها: المعضلات aporiai)، وذلك في ما يتعلّق بوجود الزمان أو عدم وجود، وكيفية هذا الوجود في حالة وجوده (Phys. 218a8–30)؛ فإذا قلنا بأنّ الزمان هو محصّلة الماضي والحاضر والمستقبل، فسنجد على الفور من يعارض ذلك قائلًا بوجود الزمان وعدم وجود الماضي والمستقبل، لأنّ الحاضر هو الموجود وحسب وفقًا له؛ وإذا رددنا عليه بأنّ الزمان هو ما (وُجِد) وما (يُوجَد) في الحاضر وما (سيُوجَد)، فسنلاحظ أوّلًا بأنّ تفسيرنا غير كافٍ، فهنالك في نهاية المطاف الكثير من الأشياء التي وُجدت أو تُوجَد أو ستُوجَد لكنّها أشياء (في) الزمان ولذلك فهي ليست الزمان نفسه.

وعلاوة على ذلك، سنلاحظ بأنّ تفسيرنا يعاني فعلًا من خطر الإصابة بمغالطة (الاستدلال الدائري) ، فعندما نقول بأنّ شيئًا وُجِد أو سوف يُوجَد يبدو أنّه لا يختلف عن القول بأنّه وُجِد في (زمان) سابق أو سيُوجَد في (زمان) لاحق. وبعدها سنجد مرّةً أخرى من يعترض على تفسيرنا قائلًا بأنّ حتّى فكرة (الحاضر) تعاني من مشكلة، ففي نهاية المطاف: إنّ الحاضر إمّا يتغيّر باستمرار وإمّا يبقى على حاله إلى الأبد؛ فإذا كان يبقى على حاله إلى الأبد فهذا يعني أنّ الحاضر الحالي هو نفسه الحاضر قبل عشرة آلاف عام، وهذه سخافة، وإذا كان يتغيّر باستمرار فليس هنالك حاضران متماثلان، وفي هذه الحالة فإن الحاضر المنصرم لا بدّ أنّه جاء إلى الوجود وذهب قبل الحاضر الحالي، لكن متى؟

إمّا إنّه ذهب من الوجود حتّى في لحظة مجيئه للوجود، وهو أمر أقلّ ما فيه غرابة نطقه على اللسان، وإمّا إنّه ذهب من الوجود في لحظة تلي مجيئه للوجود، وهذا يعني، في هذه الحالة أيضًا، أنّه لا بدّ من وجود حاضرَين في لحظة واحدة.

وعندما يضع أرسطو هذه المعضلات فإنّه لا يريد بها دعم أيّ مسلّمة (endoxon) لجهة دون أخرى، بل إنّه يعتقد بأنّ هذه الاعتبارات تطرح ألغازًا ذات مصداقية قد يؤدّي التفكير بشأنها إلى توجيهنا نحو فهم أعمق لطبيعة الزمان.

وبهذه الطريق تمكّننا المعضلات من تحقيق راحة حقيقية من الاضطراب في المسائل التي تتطلّب الانتباه، وذلك عند إنجاز أيّ تقدّم؛ وعلى هذا الأساس: إنّ التفكير بالمعضلات المتعلّقة بالزمان ينقلنا فورًا إلى التفكير بإمكانية التقسيم (الكمّات quanta) والاستمرارية (الاستمرارات continua)، وحول مجموعة متنوّعة من الأسئلة المتعلّقة بـ(المقولات الأرسطية)، أي: إذا كان الزمان موجودًا فأيّ نوع من الأشياء هو؟ هل هو من النوع الذي يوجد بشكل مطلق ومستقلّ؟ أم إنّه من النوع الذي يعتمد في وجوده على أشياء أخرى (كالسطوح)؟ عندما نبدأ بالتعامل مع هذه الأنواع من الأسئلة فإنّنا نبدأ أيضًا بالتثبّت من الفرضيات العاملة ضمن ما وصلنا من المسلّمات المتعلّقة بطبيعة الزمان.

وبالنتيجة: إنّنا عندما نجمع المسلّمات وندقّقها بعين ناقدة فإنّنا نتعلم شيئًا ما بشأن ضالّتنا، وهي طبيعة الزمان في مثالنا، ولا بدّ أن نعلم أيضًا شيئًا ما بشأن مجموعة المفاهيم التي يجب تصفيتها إذا كنّا نرغب بتحقيق تقدّم فلسفي حقيقي فيها. إنّ أرسطو يجادل بأنّ ما يسري على الزمان يسري على أيّ حقل آخر، وهذا هو السبب الذي يجعله يتميّز بنهجه المتمثّل في عرض الظاهرة، وجمع الآراء، واستكشاف ما يثيرانه من ألغاز.

4. المنطق والعلم والجدل عند أرسطو

إن اعتماد أرسطو على المسلّمات يكتسب أهمّية إضافية إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تؤدّيه من دور في الجدل (الديالكتيك)، والذي يعتبره أرسطو شكلًا مهمًّا من أشكال الاستدلال غير العلمي. فالجدل، كما هو العلم (epistêmê) يتعامل بالاستنتاج المنطقي، لكنّ العلم يتطلّب مقدّمات منطقية تتجاوز نطاق الاستدلال الجدلي المعتاد؛ فبينما يعتمد العلم على مقدّمات ضرورية ومن المعلوم أنّها ضرورية، يمكن للنقاش الجدلي أن ينطلق بالاعتماد على المسلّمات، فلا يمكنه أن يزعم بموثوقيته إلّا وفقًا لمدى موثوقية المسلّمات التي يعتمد عليها.

ويرى أرسطو بأنّ هذا الأمر ليس من المشكلات، وذلك لأنّنا في كثير من الحالات نمارس الاستدلال على نحو مثمر جيّد في ظروف لا يمكننا أن نزعم فيها بوصولنا إلى فهم علمي. لكن يمكن القول على أدنى التقادير بأنّ كلّ أنواع الاستدلال، سواء كانت علمية أم جدلية، لا بدّ لها أن تحترم مبادئ المنطق والاستنتاج.

1.4 المنطق

من بين الإنجازات العظيمة التي يمكن لأرسطو أن يدّعيها: أوّل معالجة منهجية لمبادئ الاستدلال الصحيح (المنطق الأوّل). وعلى الرغم من أنّنا نعترف اليوم بأشكال عديدة للمنطق غير ما جاء به أرسطو، فإنّ هذا لا يمنع القول بأنّه لم يطوّر نظرية للاستنباط (ندعوها بالقياس حاليًا) وحسب، بل إنّه أضاف إليها أيضًا شكلًا من أشكال القياس الصوري، وقطع شوطًا واسعًا في إثبات بعض الميتامبرهنات (meta-theorem) المتعلّقة بهذه المنظومات. ولا شكّ في أنّ من سبق أرسطو من الفلاسفة مارسوا الاستدلال، فمنهم من أحسن في ذلك ومنهم من أساء، ومن أظهر الكفاءة في عمله هذا أحكم قبضته على مبدأي الإنتاجية (validity) والصحة (soundness) في المحاججة؛ لكن لم يسبق أرسطو سابق في تطويره لمعالجة منهجية للمبادئ الحاكمة للاستنتاج الصائب، ولم يحاول أحد قبله أن يضع صيغة منظّمة للمبادئ الصورية والنحوية التي تفعل فعلها في هذا الاستنتاج.

ولقد لفت أرسطو الانتباه إلى هذه الحقيقة، على غير عادته، في نهاية مناقشته للاستنتاج المنطقي والمغالطات المنطقية، فقال: «بعد أن تكملوا مراجعة عملكم، فإذا بدا لكم أنّ منظومتنا قد تطوّرت بما فيه الكفاية عند المقارنة مع المعالجات الأخرى المعتادة حتّى يومنا هذا، آخذين بعين الاعتبار ما كانت عليه الأمور في أوّل البحث، فإنّ عليكم التساهل مع أيّ شائبة تشوب هذه المنظومة التي جئنا بها، وأن تشعروا بقدر عالٍ من الامتنان لما تحتويه من اكتشافات» (Soph. Ref. 184b2–8).

وحتّى وإن كنّا في أيّامنا هذه نعتبر من المتعارف عليه أنّ منطق أرسطو ليس سوى جزء ضئيل من المنطق الذي نعرفه ونستخدمه، فإنّ إنجاز أرسطو كان شاملًا إلى الحدّ الذي جعل عالمًا بارزًا مثل إيمانويل كانت، وبعد ألفي عام من ظهور رسالة أرسطو في المنطق، لا يجد صعوبة في أن يقيّمه بما يستحقّه من المدح: «لقد سار المنطق منذ أقدم العصور بخطى واثقة، ويستدلّ على ذلك من أنّه لم يتقهقر إلى الخلف خطوة واحدة منذ أيّام أرسطو […] وما يثير الانتباه أكثر في شأن المنطق أنّه لم يستطع أن يخطو أيّ خطوة إلى الأمام حتّى أيّامنا هذه، ولذلك يبدو جليًا أنّه تامّ كامل» (Critique of Pure Reason B vii).

إنّ المكوّنات الرئيسية للاستدلال في منطق أرسطو تأخذ مصطلحي التضمين (inclusion) والاستبعاد (exclusion)، وهو الاستدلال الذي تمّ تلخيصه، بعد أعوام كثيرة، بواسطة مخطّط (ڤن). ويبدأ أرسطو عمله هنا بفكرة عن نوع من المحاججة يتمتّع بكونه واضح الصواب، حتّى إنّ مقبوليته الواضحة التي لا يستطيع أحد أن ينكرها تدفع أرسطو للإشارة إليها باعتبارها “استنباطًا مثاليًا” (APr. 24b22–25). ويمكن القول بشكل عامّ: إنّ الاستنباط (القياس)، وفقًا لأرسطو، هو حجّة منتجة (valid) أو مقبولة. ويمكن القول بشكل أدقّ: إنّ الاستنباط «حجّة يؤدّي فيها عرض أشياء بعينها إلى أن يتلوها شيء آخر بالضرورة بسبب ما هي عليه» (APr. 24b18–20).

إذن فرؤية أرسطو عن الاستنباط قريبة من فكرة الإنتاجية، وإن كان هنالك بعض الفوارق الصغيرة بين الاثنين؛ وعلى سبيل المثال: يؤكّد أرسطو على أنّ المقدّمات غير ذات العلاقة تفسد الاستنباط، بينما لا تعبأ الإنتاجية بعدم العلاقة بين المقدّمات، بل إنّها لا تعبأ أيضًا بإضافة أيّ مقدّمة مهما كانت إلى الحجّة التي ثبت أنّها منتجة. وعلاوة على ما سبق، يصرّ أرسطو على أنّ الاستنباطات تؤدّي إلى التقدّم، بينما لا يكون لكلّ الاستنتاجات من القضية (أ) إلى القضية (أ) سوى إنتاجية ضئيلة الأهمّية.

ومع ذلك فإنّ المفهوم العام لأرسطو عن الاستنباط قريب من مفهوم الإنتاجية على نحو يكفي للقبول باستخدام مصطلح (البنى المنتجة) عند الحديث عن خصائص بنى القياس لديه. وبشكل عام، يحاجج أرسطو بأنّ الاستنباط هو نوع من الحجج (بنيته) تضمن إنتاجيته، بغضّ النظر عن صدق أو كذب مقدّماتها. ويصدق هذا الأمر، حدسيًا، على البنى التالية:

  1. كل (س) هو (ع).
  2. كل (ع) هو (ص).
  3. إذن، كل (س) هو (ص).

وبموجب ذلك، فإنّ كلّ ما يأخذ هذه الصورة سيكون استنباطًا بالمعنى الأرسطي. فليكن (س) و(ع) و(ص) أيّ شيء على الإطلاق، فإذا كان كلّ (س) هو (ع) حقًّا، وإذا كان كلّ (ع) هو (ص) حقًّا، إذن: فإنّ كلّ (س) هو (ص) بالضرورة. وهذا النوع الخاصّ من الاستنباط يعتبر (كاملًا) لأنّ (إنتاجيته) لا تحتاج إلى برهان، وربّما يقرّ هذا الاستنباط بأنّه لا يمكن برهنته: فأيّ برهان يساق يبدو أنّه يعتمد في نهاية المطاف على الإنتاجية الحدسية لهذه الحجّة.

ويسعى أرسطو لاستغلال الإنتاجية الحدسية للاستنباطات الكاملة على نحو جريء مفاجئ، وذلك عندما نأخذ حداثة سنّ مادّته البحثية بعين الاعتبار: إذ يعتقد بأنّه قادر على تأسيس مبادئ للتحويل في ما يخصّ (كلّ) استنباط (أو بعبارة أدقّ: كلّ استنباط لاجهوي non-modal deduction) يمكن ترجمته إلى استنباط كامل. ويحاجج أرسطو بأنّ استخدام هذه التحويلات يمكّننا من وضع كلّ الاستنباطات على قدم راسخة.

وإذا قصرنا تركيزنا على أبسط أنواع الاستنباط وحسب، فإنّ عملية أرسطو ستطلّ برأسها سريعًا؛ فالاستنباط الكامل المقدّم فعلًا هو مثال لإثبات كلّي: كل (س) هو (ع)، وكل (ع) هو (ص)، إذن: كل (س) هو (ص). وهنا يحاجج أرسطو بأنّ من الممكن أن نتصفّح كلّ تركيبات المقدّمات البسيطة وأن نعرض بناها الاستدلالية الرئيسية ثمّ نعيد ربطها بهذه الاستنباطات المشابهة لها في الكمال. وعلى هذا الأساس، فإذا قمنا بتغيير (كمّ) موضوع القضية (“كلّ” الشاملة مقابل “بعض” غير المحدّدة) مع تغيير (كيف) أو نوع الحمل (الإثبات مقابل النفي) فسنتوصّل لكل التراكيب الممكنة لأبسط أنواع الحجج المنطقية.

ويتبيّن أنّ بعض هذه الحجج استنباطات، أو قياسات منتجة، وبعضها ليس كذلك. وهذه التي ليست كذلك تعتبر أمثلة مناقضة، أمّا الحجج الأخرى فليست أمثلة مناقضة بالطبع. وعلى سبيل المثال: هنالك أمثلة مناقضة للحجج التي تعاني ممّا أصبح يدعى (الحدود الوسطى غير الموزّعة)، كما في: كل (س) هو (ع)، وبعض (ع) هو (ص)، إذن: كل (س) هو (ص)، ومثاله: (كلّ الطلبة الجامعيين متعلّمون، وبعض المتعلّمين يقرؤون الشعر، إذن: كلّ الطلبة الجامعيين يقرؤون الشعر). وليس هنالك مثال مناقض للاستنتاج الكامل على صورة إيجاب كلّي: إذا كان كلّ (س) هو (ع)، وكلّ (ع) هو (ص)، فليس هنالك مفرّ من الحقيقة التي تقول بأنّ كلّ (س) هو (ص). وعليه، إذا كانت كلّ أنواع الاستنباطات يمكن اختزالها إلى أنواع منتجة حدسيًا، فعندها يمكن القول بإنتاجيتها جميعًا.

وفي سبيل إقرار هذا الاختزال، يعتمد أرسطو على سلسلة من الميتامبرهنات (meta-theorems)، يبرهن بعضها ويكتفي بتقرير البعض الآخر (وإن كان يتبيّن في نهاية المطاف أنّها جميعًا تقبل البرهان فعلًا). وإنّ مبادئ أرسطو يقال عنها بأنّها ميتامبرهنات بمعنى أنّه ليس هنالك حجّة تستطيع التملّص منها وتحافظ في الوقت نفسه على ما يؤهّلها لتكون استنباطًا أصيلًا.

وهذه الميتامبرهنات تتضمّن مبرهنات من أمثال: (أ) لا استنباط يحتوي مقدّمتين منفيّتين؛ (ب) الاستنباط ذو النتيجة المنفيّة يجب أن يكون له مقدّمة منفيّة؛ (ج) الاستنباط ذو النتيجة الكلّية يتطلّب مقدّمتين كلّيتين؛ (د) الاستنباط ذو النتيجة المنفيّة يتطلّب تحديدًا مقدّمة منفيّة واحدة. ويقدّم أرسطو، في الواقع، أدلّة على أهمّ هذه الميتامبرهنات، وذلك كي نتيقّن من أنّ كلّ الاستنباطات في منظومته منتجة، حتّى إن كانت إنتاجيتها يصعب إدراكها فورًا.

وفي سبيل تطوير هذه الميتامبرهنات المنطقية وإثباتها، يقوم أرسطو باستكشاف حقل لم تطأه أقدام أسلافه، ولم يطوّره أحد ممّن خلفه طوال قرون عديدة بعد وفاته.

ولمن يرغب بمناقشة أشمل لما أنجزه أرسطو في مجال المنطق، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (منطق أرسطو) في هذه الموسوعة.

2.4 العلم عند أرسطو

لا يقارب أرسطو دراسة المنطق باعتبارها غاية في ذاتها، بل وفقًا لرؤية تنظر إلى دور المنطق في البحث والتفسير عند البشر؛ فهو يعتقد بأنّ المنطق أداة تقدّم مساهمة مهمّة، ولكنّها غير مكتملة، في العلم والجدل؛ وهي غير مكتملة لأنّ العلم (epistêmê) يوظّف محاججات تتّصف بأنّها أكثر من مجرّد استنباطات. فالاستنباط قياس منتج في حدّه الأدنى، ولا شكّ في أنّ العلم يتوجّب عليه أن يوظّف حججًا تتخطّى هذه العتبة؛ بل إنّ العلم يحتاج ما هو أكثر من ذلك، فهو يتقدّم من خلال (تنظيم) البيانات التي في نطاقه ضمن مجموعة من الحجج التي، وبعيدًا عن أن تكون استنباطات، تبرز مقدّمات تتّصف بأنّها ضرورية، وبأنّها وفقًا لعبارة أرسطو: “معروفة أكثر بطبيعتها” أو “معقولة أكثر بطبيعتها” (gnôrimôteron phusei) (APo. 71b33–72a25; Top. 141b3–14; Phys. 184A16–23). وهو يعني بعبارته أنّ حجج العلم يجب أن تكشف ما للأشياء من طبائع أصيلة مستقلّة عن الذهن.

ويصرّ أرسطو، علاوة على ما سبق، بأنّ العلم (العلم لدى أرسطو مصطلح أوسع بالمقارنة مع الاستخدام الشائع، لأنّه يمتدّ إلى حقول بحثية كالرياضيات والميتافيزيقا دون الاقتصار على العلوم التجريبية) لا ينقل الحقائق وحسب بل هو يشرحها أيضًا بإظهار علاقات الأولوية فيها (APo. 78A22–28)، أي: إنّ العلم يشرح ما نعرفه أقلّ بالاعتماد على ما نعرفه بشكل أفضل وأكثر أساسية، ويشرح ما يفتقر إلى الشرح بالاعتماد على ما يتوفّر فيه الشرح.

وعلى سبيل المثال: ربّما نرغب بمعرفة علّة تساقط أوراق الشجر في فصل الخريف، فنقول حينها، ونحن محقّون، بأنّ ذلك يعود لهبوب الرياح خلالها، لكنّ هذا القول ليس تفسيرًا عميقًا أو عامًّا، لأنّ الرياح تهبّ بالشدّة نفسها في أوقات أخرى من العام دون أن تؤدّي إلى النتيجة ذاتها. والتفسير الأعمق أعمّ، وهو أيضًا أكثر علّية بطبيعته (لم يتوفّر هذا التفسير لأرسطو في حينه لكنّه يمثّل رؤيته بشكل جيد): إنّ الأشجار تلقي بأوراقها لأنّ انخفاض شدّة أشعّة الشمس في فصل الخريف يثبّط إنتاج الكلوروفيل اللازم للتمثيل الضوئي، ومن دون التمثيل الضوئي تدخل الأشجار في حالة من السبات.

فمن المهمّ أن لا يكتفي العلم بتسجيل هذه الحقائق، بل أن يقوم أيضًا بعرضها ضمن ترتيبها التفسيري الصحيح؛ أي: على الرغم من أنّ الشجرة التي تسقط أوراقها موسميًا، والتي تعجز عن القيام بالتركيب الضوئي، هي أيضًا شجرة لا تنتج الكلوروفيل، فإنّ عجزها عن إنتاج الكلوروفيل يفسّر عجزها عن التمثيل الضوئي، وليس العكس. فعلى التفسير العلمي أن يلتقط هذا النوع من اللاتناظر، وإن منهج أرسطو في التفسير العلمي مصمّم خصوصًا لتأدية هذا المطلب.

إن العلم يسعى لما هو أكثر من مجرّد التقاط اللاتناظر العلّي في الطبيعة، فهو يشمل أيضًا التقاط ما فيها من أنماط ثابتة عميقة؛ ويستتبع ذلك أنّ المقدّمة الأولى ضرورية في الاستنباط العلمي، إضافةً إلى موقعها كأساس في التفسير. ولذلك يقول أرسطو: «إنّنا نظنّ بأنّنا نفهم شيئًا من الأشياء بلا شرط، بغضّ النظر عن الطريقة السفسطية العرَضية، عندما نظنّ بأنّنا نعرف العلّة على ضوء ما يكونه الشيء (أي: علّة الشيء لا غيره)، ونعرف أيضًا بأنّه لا يمكن أن يكون على العكس من ذلك.

ومن الواضح أنّ المعرفة (epistêmê) هي أمر يشبه ما ذكرناه. وفي نهاية المطاف: إنّ من يمتلك المعرفة ومن لا يمتلكها كلاهما يفترضان بأنّ المعرفة على ما ذكرناه، وذلك على الرغم من أنّ من يمتلك المعرفة هو وحده في الحقيقة من على هذه الحال. وعليه، فإنّ كلّ ما يُعرف بلا شرط لا يمكن أن يكون على العكس من ذلك» (APo 71b9–16; cf. APo 71b33–72a5; Top. 141b3–14, Phys. 184a10–23; Met. 1029b3–13).

ولهذا السبب يتطلّب العلم أكثر من مجرّد الاستنباط؛ ويمكن القول إجمالًا بأنّ العملة التي يتعامل بها العلم هي البرهان (apodeixis)، وهو استنباط تكشف مقدّماته البنية العلّية للعالم، والتي تُعرَض أمامنا من أجل التقاط ما هو ضروري وكشف ما يُعرَف بشكل أفضل وما هو معقول أكثر بواسطة الطبيعة (APo 71b33–72a5, Phys. 184a16–23, EN 1095b2–4).

إنّ مقاربة أرسطو في ما يخصّ الشكل المناسب للتفسير العلمي تستثير التفكير بشأن سؤال إپستيمولوجي مقلق: كيف لنا أن نبدأ ببرهان ذلك؟ فإذا كنّا نبتغي تقديم برهان يكون فيه ما نعرفه بشكل أقلّ مستدَلًّا عليه بواسطة الاستنباط ممّا نعرفه بشكل أفضل، فعندها، وما لم نكن قد بلغنا الحضيض في المعرفة، سينتهي بنا المطاف إلى أن نكون مجبرين على أحد أمرين: إمّا الاستمرار بالتقهقر الذي لا ينتهي نحو أمور يزداد مستوى معرفتنا بها مع استمرار التقهقر، وهو أمر يبدو بلا نهاية من الناحية العملية، وإمّا أن ندخل إلى شيء أشبه بالاستدلال الدائري، وهو أمر لا يبدو مستساغًا. ويبدو أنّ البديل هو الجهل المستمرّ؛ إذ يقول أرسطو:

«يعتقد البعض بأنّه ما دامت المعرفة المستحصلة عن طريق البرهان تتطلّب المعرفة بالأمور الرئيسية، فليس هنالك معرفة حينها. ويعتقد آخرون بأنّ هنالك معرفة وأنّ كل المعرفة قابلة للبرهنة. وكلا الرؤيتين ليس مصيبًا ولا ضروريًا. فالمجموعة الأولى، أي: من يفترضون بأنّه ليس هنالك معرفة على الإطلاق، يحاججون بأنّنا نواجه حركة متقهقرة لا نهاية لها. إنّهم يحاججون بأنّنا نعجز عن معرفة الأمور اللاحقة بالاعتماد على الأمور السابقة إذا لم يكن في الأمور السابقة ما هو رئيسي. والصحيح في حجّتهم هو: إنّ من المستحيل حقًّا الخروج من سلسلة لانهائية.

لكنّهم يصرّون، مع ذلك، على أنّ التقهقر إذا توقّف عند نقطة ما، وكانت هنالك مبادئ أولى، فإنّ هذه المبادئ ستكون عصية على المعرفة، لأنّه لا شكّ في أنّه لا برهان للمبادئ الأولى، انطلاقًا من أنّ ما يمكن معرفته هو ما يمكن برهنته كما يؤكّدون. لكن إذا لم يكن ممكنًا معرفة الأمور الرئيسية، فحينها لن يكون بإمكاننا معرفة ما يشتقّ منها بغياب ما يؤهّلنا لذلك وبغياب أيّة طريقة مناسبة. وعوضًا عن ذلك، لا يمكننا معرفتها إلّا على أساس فرضية ما، أي: العلم بأنّه (إذا) كانت الأمور الرئيسية (صالحة)، فكذلك ستكون أيضًا الأمور المشتقّة منها.

أمّا المجموعة الثانية فتتّفق على أنّ المعرفة لا يمكن أن تنتج إلّا من طريق البرهان، لكنّهم يعتقدون بأنّه لا شيء يقف في طريق البرهان، وذلك لأنّهم يعترفون بإمكانية الاستدلال الدائري البدائلي» (APo. 72b5–21).

ويطرح أرسطو بديله المفضّل الواضح: «إننّا نحاجج بأنّه ليست كلّ المعرفة برهانية: فالمعرفة بالمقدّمات المباشرة غير قابلة للبرهان. ولا شكّ في أنّ ضرورة هذا الأمر واضحة للعيان؛ لأنّه إذا كان من الضروري معرفة الأمور السابقة، أي: الأمور التي يشتقّ منها البرهان، وإذا كنّا نصل بالتقهقر في نهاية المطاف إلى طريق مسدود، فمن الضروري حينها أن تكون هذه المقدّمات المباشرة غير قابلة للبرهنة» (APo. 72B21–23).

وبالمحصّلة: إذا كانت المعرفة تتطلّب البرهان، وكلّ البراهين تنتقل من ما هو أكثر معقولية بطبعه إلى ما هو أقلّ معقولية، فعندها ما يحصل هو إمّا أن تستمرّ العملية دون حدّ، وإمّا أن تتوقّف عند مبادئ أولى غير مبرهنة، وهي مبادئ معروفة، وهي معروفة على نحو محكم. ويصرف أرسطو النظر عن الإمكانية الوحيدة المتبقّية، وهي أنّ البرهان قد يكون دائريًا، وليس محكمًا، مع الملاحظة بأنّ هذا الأمر يصل إلى حدّ «القول ببساطة بأنّ أيّ أمر هو على ما هو عليه إذا كان ما هو عليه»، وهي أداة «تسهّل برهنة كلّ شيء» (APo. 72b32–73a6).

ولقد أدّى ثاني البدائل التي يفضّلها أرسطو (أنّ هنالك مبادئ أولى للعلوم يمكن أن يفهمها من يبدي الاستعداد للانخراط بالدراسة المتواصلة) إلى ترويع الكثير من قرّائه. وهو يشرح في كتابه (البرهان) (Posterior Analytics ii 19) عملية انتقال العارف من الإدراك الحسّي إلى الذاكرة، ومن الذاكرة إلى الخبرة (empeiria: مصطلح تقني شديد التخصّص في هذا السياق، وهو يشير إلى النقطة التي يحدث فيها تجذّر الكلّي في الذهن)، وفي النهاية: من الخبرة إلى فهم المبادئ الأولى؛ وهذه الحالة الفكرية الأخيرة يميّزها أرسطو باعتبارها نوعًا من أنواع الإدراك الفكري دون وساطة (nous) للمبادئ الأولى (APo. 100a10–b6).

ولقد بحث العلماء على نحو واعٍ في ما يبدو أنّه انتقال تؤكّد عليه العلّية من الممكن (الذي تمليه الخبرة الحسّية) إلى الضروري، وذلك وفقًا لمقتضيات المبادئ الأولى للعلم. لكن ربّما كان أرسطو لا يتصوّر سوى نوع من الضرورة البعدية للعلوم، بما فيها العلوم الطبيعية. ومهما يكن من أمر، فإنّ أرسطو يعتقد بأنّه يمكن لنا امتلاك المعرفة، وأنّنا نمتلك المعرفة، ولذلك نبدأ أوّلًا، بطريقة ما، بالإدراك الحسّي ثم يتراكم الأمر ليصل إلى فهم الملامح الضرورية الثابتة للعالم.

وهذه هي المعرفة التي يهتمّ بها العلم الأصيل (epistêmê). ولقد درس بعض المحلّلين التقدّم الذي يتصوّره أرسطو، فاتّهموه بأنّه يعتنق تفاؤلًا إپستيمولوجيًا يصل إلى حدّ السذاجة؛ ودافع آخرون بأنّ تهمة السذاجة هي نفسها تهمة ساذجة تكشف فعلًا عن موازاة بين الضروري والقبلي تفتقر إلى الحجج الكافية والدفاع المتين.[vii]

3.4 الجدل

لا يمكن القول بأنّ كل برهان دقيق يمتلك من المؤهّلات ما يكفي لاعتباره علميًا، والواقع يرينا أنّ القليل من ما بقي من كتابات أرسطو يتوافق مع متطلّبات التقديم العلمي التي وردت في كتابه (البرهان). وكما يلاحظ أرسطو، فإنّنا غالبًا ما نجد أنفسنا ونحن نبرهن انطلاقًا من مقدّمات تتمتّع بحالة المسلّمات، أي: الآراء التي يشيع الاعتقاد بها أو يؤيّدها الحكماء حتّى وإن كانت لا تعرف بكونها من الضروريات. لكنّنا نبرهن، في عدد أقلّ من الحالات، بالاعتماد، وقبل كلّ شيء، على تأمين المبادئ الأولى لمجال بحثنا. وهذا يجعلنا نحتاج إلى «منهج نتمكّن بواسطته من البرهان الاستنباطي في أيّة مسألة تطرح أمامنا، وذلك على أساس المسلّمات، وأن نقدّم تفسيرًا لما نقوم به [حين التعرّض لامتحان الحوار] دون الوقوع في التناقض» (Top. 100a18–20). وهذا المنهج يُميّز عن غيره باسم (الجدل).

إن الاقتراح بأنّنا نستخدم الجدل غالبًا عندما ننخرط في نقاش فلسفي هو اقتراح يعكس افتراض أرسطو بأنّ هنالك نوعين من الجدل: الأوّل سلبي (أو هدّام)، والثاني إيجابي (أو بنّاء). وفي الحقيقة، إن أرسطو يحدّد ثلاثة أدوار للجدل في البحث الفكري ضمن كتابه المخصّص له والذي يحمل الاسم ذاته (الجدل). وأوّل هذه الأدوار هو في الأساس دور تحضيري: «إنّ الجدل نافع لغايات ثلاثة: التمرين، والمناظرة، والعلوم ذات الطبيعة الفلسفية. وأمّا نفعه في التمرين فهو واضح بشكل مباشر على أساس الاعتبارات التالية: إنّنا ما إن نمتلك وجهة للبحث فسنكون أكثر جاهزية للتمكّن من الانخراط في الموضوع المطروح.

وأمّــــا نفعه في المناظرة فيأتي من أنّنا عندما نعدّد معتقدات الكثير من الناس فإنّنا لن ننخرط في نقاشها على أساس ما يعتقد غيرهم بها بل على أساس اعتقاداتهم هم، ثم ينبغي إعادة توجيهها أينما بدا لنا أنّهم يقولون شيئًا يجانب الصواب في نظرنا. وأمّا النفع من ناحية العلوم ذات الطبيعة الفلسفية فهو يأتي من أنّنا عندما نتمكّن من الخوض في الغوامض على كلا جانبي المسألة المطروحة فإنّنا سنكون حينها أكثر جاهزية لإدراك ما هو حقّ وما هو باطل.

ويضاف إلى ذلك أنّ الجدل مفيد لكشف الغطاء عن مبادئ علوم متعدّدة، وذلك لأنّه يستحيل قول أيّ شيء حول المبادئ الأولى لأيّ علم بالاعتماد على المبادئ الأولى المناسبة للعلم نفسه الذي يخضع للنقاش، وذلك لأنّ المبادئ الأولى هي عناصر ابتدائية في أي شيء غيرها، لكنّ يمكن مناقشتها، عوضًا عن ذلك، من خلال المسلّمات المتعلّقة بها. وهو أمر يلائم الجدل، وربّما يلائمه أكثر من غيره؛ وذلك لأنّ الجدل يتحقّق من المبادئ، فهو يحتوي السبيل للتعامل معها دون الأساليب البحثية الأخرى جميعها» (Top. 101a26–b4).

 إن أوّل اثنين من الأشكال الثلاثة للجدل التي حدّدها أرسطو يتّصفان بضيق نطاقهما؛ أما الثالث فهو يتمتّع بأهمّية فلسفية عظيمة خلافًا لهما. وهذا الشكل الثالث يوكل الجدل بدور في «العلم الذي يمارس على نحو فلسفي» (‘pros tas kata philosphian epistêmas‘; Top. 101a27–28, 101a34)، وذلك حيث يتضمّن هذا النوع من العلم ما نجد أرسطو يسعى إليه في رسائله الفلسفية الكبرى.

إنّ الجدل يساعد، في هذه السياقات، على فرز المسلّمات وإحالة بعضها لمنزلة خلافية وإعلاء منزلة البعض الآخر؛ وهو يرسل المسلّمات إلى عملية تحقّق لفحص قدرتها على الاستمرار؛ ويرى أرسطو بأنّ الجدل يؤدّي أمرًا يثير الانتباه أكثر من غيره، وهو أنّه يضعنا على الطريق المؤدّي إلى المبادئ الأولى (Top. 100a18–b4). وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الجدل يؤدّي دورًا مهمًّا في نظام الاكتشاف الفلسفي: فجزء من عملنا للتوصّل إلى تأسيس المبادئ الأولى يكمن في تحديد أيّ من أوائل المسلّمات يستطيع الصمود في وجه التدقيق المستمرّ. وفي هذا الموضع يبدي أرسطو، كما هو دأبه في كلّ مجالات فلسفته، ثقة تسترعي الانتباه بعقل الإنسان وقدرته على البحث.

5. الماهوية والمشترك اللفظي

مهما كانت الطريقة التي نتوصّل بها لمبادئ موثوقة في الفلسفة والعلم، وسواء كان ذلك بطريقة ما تؤدّي إلى إدراك عقلاني لحقائق ضرورية أو من خلال بحث جدلي دائم يعمل وفقًا لمجموعة من المسلّمات المنتقاة بحكمة، يتبيّن لنا في نهاية المطاف، وفقًا لأرسطو، أنّنا نستطيع كشف الميزات الضرورية للواقع والتوصّل إلى معرفة حقيقية لها. ويقترح أرسطو أن هذه الميزات هي التي تعبّر عنها التعريفات المحدّدة للماهوية والتي تستخدم في العلم (هنا أيضًا نستخدم “العلم” بالمعنى الواسع للكلمة epistêmê).

ونجد التزام أرسطو بـ الماهوية (Essentialism) يمتدّ عميقًا في نصوصه؛ فهو يعتمد على مجموعة من التعابير في مناقشة ماهية الأشياء، وهذه التعابير تدلّنا بطريقة ما على توجّهه الرئيسي. ومن التعابير التي نجدها في صنف (الماهية essence) كما في الترجمات المعاصرة لنصوص أرسطو إلى الإنگليزية (APo 83a7; Top. 141b35; Phys. 190a17, 201a18–21; Gen. et Corr. 319b4; DA 424a25, 429b10; Met. 1003b24, 1006a32, 1006b13; EN 1102a30, 1130a12–13):

  • أ. الذي هو يكون (to ti esti).
  • ب. الكينونة (to einai).
  • ج. الكائن (ousia).
  • د. تحديدًا الذي يكون (hoper esti).
  • ه. الذي كان ليكون (to ti ên einai).

ومن بين التعابير السابقة، يتطلّب التعبير الأخير شرحًا مفصّلًا لسببين: أنّه أكثرها تميّزًا، وأنّه التعبير المفضّل لأرسطو في الإشارة إلى الماهية. وهو اختصار للقول: “الذي كان في نظر النوع (ن) مثالًا للنوع (ن)”، وعلى سبيل المثال: “الذي كان (دائمًا) في نظر أي إنسان إنسانًا”. وعندما يتكلّم أرسطو بهذه الطريقة فإنّه يفترض أنّنا إذا كنّا نرغب بمعرف ماهية الإنسان فلا يمكننا أن نعرّف ميزات عابرة أو غير كلّية للنوع؛ ولا يمكننا أيضًا أن نعرّف حتّى الميزات الكلّية التي تقدّم تفسيرات عميقة. وعوضًا عن ذلك يهتمّ أرسطو، كما يدلّ تعبيره المفضّل، بما يجعل الإنسان إنسانًا، فيفترض أوّلًا بأن هنالك ميزة ما (م) تشترك فيها كل الإنسانية دون غيرها، ويفترض ثانيًا بأنّ (م) تفسّر الميزات الأخرى التي نجدها عبر النطاق البشري.

ومن المهمّ أن نلاحظ كيف أنّ الميزة الثانية للماهوية الأرسطية تجعل مقاربته مختلفة عن المقاربة النمطية الشائعة التي يكون بموجبها:[viii]

(خ) خاصّية ماهوية لـ(س=خَ) إذا كانت خسارة (س) لـ(خ) تؤدّي إلى انقطاعه عن الوجود.

ويرفض أرسطو هذه المقاربة لعدة أسباب، ومن أبرزها اعتقاده بأنّ ثمّة ميزات لاماهوية محدّدة تحقّق التعريف، وهكذا فإنّ أرسطو يميّز، وبعيدًا عن الميزات (المقولاتية) والمنطقية (مثلًا: كلّ شيء إمّا هو مطابق للعدد تسعة وإمّا ليس كذلك)، صنفًا من الخاصّيات يدعوه (idia) (Cat. 3a21, 4a10; Top. 102a18–30, 134a5–135b6)، وهو ما درجت العادة حاليًا على الإشارة إليه بمصطلح الترجمة اللاتينية في العصر الوسيط (propria)، وهو الخصائص اللاماهوية التي تتأتّى من ماهوية نوع ما، وذلك على نحو تكون فيه ضرورية للنوع حتّى وإن لم تكن ماهوية.

وعلى سبيل المثال: إذا افترضنا (كون المرء عاقلًا) ماهويًا لنوع الإنسان، فهذا يستتبع أن يكون كلّ إنسان (قادرًا على التعامل مع قواعد النحو)؛ وإنّ (القدرة على التعامل مع قواعد النحو) و(كون المرء عاقلًا) ليستا خاصّية واحدة، وإن كانت الأولى تنشأ عن الثانية؛ ويفترض أرسطو أن القارئ يقدّر أنّ (كون المرء عاقلًا) تفسر على نحو غير متناظر (القدرة على التعامل مع قواعد النحو)، حتّى وإن كانت الضرورة تحكم بأنّ الشيء عاقل إذا وفقط إذا كان أيضًا (قادرًا على التعامل مع قواعد النحو)؛ وعلى هذا الأساس، فإنّ المرتبة التفسيرية القبلية لـ(كون المرء عاقلًا) أرجح من (القدرة على التعامل مع قواعد النحو) في استحقاق منزلة كونها ماهوية للإنسان. وبالنتيجة: فإنّ مقاربة الماهوية لدى أرسطو أدقّ من كونها مجرّد ماهوية نمطية؛ فالماهوية الأرسطية تعتقد بأنّ:

(خ) خاصّية ماهوية لـ(س=خَ) عندما: (أولًا) إذا كانت خسارة (س) لـ(خ) تؤدّي إلى انقطاعه عن الوجود؛ و(ثانيًا) إذا كانت (خ)، موضوعيًا، خاصّية رئيسية تفسّر (س).

والخلاصة: وفقًا لمقاربة أرسطو ما يجعل المرء إنسانًا هو الخاصّية التي كان عليها منذ الأزل وسيبقى عليها إلى الأبد، أي: (كونه عاقلًا). وعليه، فهذه هي الميزة التي يعبّر عنها التفسير المحدِّد للماهوية في ما يتعلّق بالنوع الإنساني (APo 75a42–b2; Met. 103b1–2, 1041a25–32).

ويعتقد أرسطو، في نطاق واسع من الحالات، بأنّ الأنواع ذات ماهويات قابلة للاكتشاف بواسطة البحث الجادّ؛ وهو في الحقيقة لا يكرّس الكثير من الجهد للمحاججة بذلك، لكنّه أقلّ ميلًا إلى بذل الجهد لمقارعة الحجج غير الواقعية الموجّهة ضدّ الماهوية، وربّما يعود جزء من السبب في ذلك إلى أنّه منبهر بما يجده، أو يعتقد بأنّه يجده، من انتظامات عميقة تكفل النتائج التي توصّل إليها في أبحاثه البيولوجية.[ix] ومع ذلك، فلا يمكن اتّهامه بالشطط في ما يتعلّق بآفاق الماهوية عنده.

بل إنّ أرسطو، وعلى العكس من ذلك، ينكر الماهوية في الكثير من الحالات التي لا يمانع الآخرون فيها اعتناق الماهوية؛ ويمكن للقارئ أن يلاحظ هذا الإنكار بوضوح في نقده لأفلاطون، على سبيل المثال لا الحصر. ففي الواقع، إنّ من الأمور التي تميّز نقد أرسطو لأفلاطون والأفلاطونية هو أنّ الكثير من أمثلتهما المفضّلة للتشابه والثبات في العالم ما هي في الحقيقة سوى حالات للمشترك اللفظي (multivocity، أو homonymy بالمصطلحات التقنية الأرسطية). وفي مقدّمة كتابه (المقولات) نجد أرسطو يميّز بين المترادف (synonymy، والذي دعي لاحقًا بـunivocity) والمشترك اللفظي (homonymy، والذي دعي لاحقًا بـmultivocity). وعبارته المفضّلة في الإشارة إلى المشترك اللفظي، والتي تتفشّى في الكثير من كتاباته، هي: «ما يُتكلّم عنه بطرق كثيرة»، أو بصيغة أبسط: «ما يُعنى بطرق متعدّدة»، كترجمة للعبارة الإغريقية (pollochôs legomenon). وهذان التعبيران كلاهما يتبوآن منزلة شبه تقنية لدى أرسطو. أمّا الأقلّ تعقيدًا فهو الترادف:

(أ) و(ب) هما بالترادف (خ) إذا وفقط إذا: (أوّلًا) أ هو خ، (ثانيًا) ب هو خ، (ثالثًا) التطابق في تفسير الاتّصاف بالخاصية (خ) في (أ هو خ) و(ب هو خ).

وعلى هذا الأساس يمكن طرح المثال التالي: نظرًا للتطابق في تفسير الاتّصاف بالخاصّية (إنسان) في (سقراط إنسان) وفي (أفلاطون إنسان)، فإنّ (إنسان) مترادف في هذين التطبيقين (لا بدّ من الانتباه هنا إلى أنّ فكرة أرسطو عن الترادف لا تتطابق مع الاستخدام المعاصر للفظ الذي ينطبق على كلمات مختلفة يجمع بينها معنى واحد). وفي حالات الترادف نتوقّع تعريفات منفردة غير منفصلة [أي: قضاياها المنطقية غير معطوفة بـ(أو).(المترجم)] تعكس حالة وماهوية الأنواع المعنية. وللتوضيح دعونا نقبل مرّة أخرى بأنّ التعريف المحدّد لماهوية (الإنسان) هو (حيوان عاقل). إذن: بما أنّ (الإنسان) يعني (حيوان عاقل) على امتداد نطاق التطبيقات بأكمله، فهنالك ماهوية واحدة ما لكلّ أفراد النوع.

وفي المقابل، عندما لا يتحقّق الترادف نكون أمام مشترك لفظي. فوفقًا لأرسطو:

(أ) و(ب) هما بالمشترك اللفظي (خ) إذا وفقط إذا: (أوّلًا) أ هو خ، (ثانيًا) ب هو خ، (ثالثًا) غياب التلاقي في تفسيري الاتّصاف بالخاصية (خ) في (أ هو خ) و(ب هو خ).

ولنأخذ على ذلك مثالًا سهلًا ليس له أهمّية فلسفية؛ فـ”العين” مشترك لفظي في الجملتين (جلب زيد الماء من العين) و(رأى زيد بعينه ما جرى)؛ وهذه الحالة تصوّر لنا ما قلناه، لأنّ تفسيري “العين” في الجملتين لا يلتقيان في أيّة نقطة مشتركة على الإطلاق. ويكمن جزء من الاهتمام بتفسير أرسطو للمشترك اللفظي في أنّه يسمح بالتلاقي جزئيًا. وتصبح الأمور أكثر إثارة للاهتمام إذا تفحّصنا ما إذا كانت كلمة “وعي” مترادفة في الجملتين: (كانت سعاد على وعي ببعض ما سبّبته ملاحظاتها من حرج) و(الفقاريات العليا تمتلك وعيًا، بخلاف الرخويات)؛ ففي هذين المثالين ربّما لا يمكن الخروج بحكم فوري في ما يخصّ الترادف والمشترك اللفظي، ولذلك نحتاج إلى التفكّر والتحقيق الفلسفي.

ويحدث على نحو منتظم جدًّا، وفقًا لأرسطو، أن يؤدّي هذا النوع من التفكّر إلى اكتشافات مهمّة، ولا سيّما في الحالات التي نفترض فيها تفسيرًا ترادفيًا بينما تبيّن الحقيقة خلاف ذلك. ويرى أرسطو بأنّ الأفلاطونيين أخطؤوا هاهنا: إذ افترضوا الترادف في عالم يقدّم المشترك اللفظي (من الأمثلة الواضحة على تطبيق أفلاطون لافتراضه الترادف ما ورد في محاورة مينون Meno 71e1–72a5، حيث يصرّ سقراط على أنّه ليس هنالك سوى نوع واحد من الفضيلة (aretê) يشترك فيه كلّ أنواع الأشخاص الممتازين، فلا يختصّ بنوع دون غيره من الناس، سواء كانوا رجالًا أو نساءً أو عبيدًا أو أطفالًا). وفي أحد الأمثلة ذات الأهمّية الخاصّة يفترق أرسطو عن أفلاطون بشأن المشترك اللفظي في “الجودة”:

«ربّما كان من الأفضل لنا أن نتناول الجودة الكلّية وأن نخوض في الألغاز التي تتعلق بما يُعنى بها، حتّى وإن كان هذا النوع من البحث غير مرحّب به عندنا، لأنّ من قدّم لنا (الصور) أصدقاء لنا. لكن من المفترض أنّ السبيل الأفضل لنا هو أن نهدم حتّى ما هو مقرّب منّا، عندما تقضي الضرورة بذلك في سبيل المحافظة على الحقيقة، ناهيك عمّا يقتضيه كوننا من الفلاسفة. وعلى الرغم من أنّنا نحبّا أصدقاءنا ونحبّ الحقيقة، فإنّ الورع يدعونا لإجلال الحقيقة وتقديمها على الصداقة» (EN 1096a11–16). 

إنّ أرسطو يعارض ما جاء به أفلاطون فيفترض بأنّه مخطئ بادّعائه أنّ الجودة «أمر كلّي، يشترك به كلّ شيء، وهو واحد» (EN 1096a28)، فيرى عوضًا عن ذلك بأنّه أمر يختلف باختلاف كلّ حالة عن غيرها.

ولإثبات عدم الترادف يلجا أرسطو إلى مجموعة متنوّعة من الاختبارات في كتابه (الجدل) حيث يطرح، مرّة أخرى، صيغه بطريقة لغوية مع أنّ منشأها ميتافيزيقي. ولنتأمّل الأمثلة التالية:

سقراط جيّد.

الشيوعية جيّدة.

الحلويات جيّدة بعد وجبة خفيفة.

مضاعفة المرء لجهوده بعد الفشل أمر جيّد دائمًا.

غناء سعاد جيد، لكنّ غناء ليلى رائع.

ومن اختبارات عدم الترادف التي يوصي أرسطو باتّباعها في كتابه (الجدل) ثمّة اختبار بسيط يعيد صياغة العبارة، فإذا كانت الصيغة الجديدة تؤدّي معنى محدّدًا غير قابل للتبادل فيكون عندها الحدّ المحمول مشتركًا لفظيًا. وعلى سبيل المثال، يمكن لنا إذا أعدنا صياغة العبارات السابقة على نحو مناسب أن نخرج بالعبارات الجديدة التالية:

سقراط (شخص فاضل).

الشيوعية (نظام اجتماعي عادل).

الحلويات (طيبة المذاق ومشبعة) بعد وجبة خفيفة.

مضاعفة المرء لجهوده بعد الفشل أمر (بنّاء) دائمًا.

غناء سعاد (يصل إلى مستوى فنّي عالٍ)، لكنّ غناء ليلى (يتخطى ذلك المستوى بكلّ المقاييس).

فبما أنّنا نعجز عن المبادلة بين هذه العبارات التي أعيدت صياغتها (فلا نستطيع أن نقول مثلًا: الحلويات نظام اجتماعي عادل) فلا بدّ أنّ (جيّد) ليست ترادفية على امتداد نطاق تطبيقاتها. وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ الأفلاطونيين مخطئون في افتراضهم بالتواطؤ اللفظي في هذه الحالة، لأنّ (الجودة) تبدي تعقيدًا يتجاهله افتراضهم.

وإلى هنا يمكن القول، إذن، بأنّ لجوء أرسطو إلى المشترك اللفظي هو بغرض الهدم في الأساس، بمعنى أنّه يحاول هدم افتراض أفلاطوني يعتبره أرسطو غير قادر على الصمود أمام الحجّة. ومن المهم أن نذكر هنا بأنّه كما أنّ أرسطو يرى دورًا إيجابيًا وسلبيًا للجدل في الفلسفة، فإنّه يستشرف دورًا فلسفيًا بنّاءً للمشترك اللفظي بالإضافة لتطبيقاته الهدّامة. ولتقدير فكرته الرئيسية يفيدنا أن التفكّر بسلسلة متّصلة من الأوضاع في التحليل الفلسفي تتفاوت من التواطؤ اللفظي الأفلاطوني الصافي إلى ما يشبهها في (الأسرة) الڤيتگينشتاينية المقسّمة.

فبعد نجاح أرسطو في الطعن بالمشترك اللفظي الأفلاطوني قد يفترض المرء، مثلًا، بأنّ الحالات المتنوّعة للجودة ليس هنالك ما يجمعها في كلّ الحالات، ولذلك فإنّ الأمور (الجيّدة) تشكّل في أحسن التقادير، نوعًا مختلف العناصر، من النوع الذي يبرع فيه الڤيتگينشتاينيون المولعون بالاستعارة اللغوية التي تشبّهها بالأسرة: فكلّ الأمور (الجيّدة) تنتمي إلى نوع ما وفقًا لمعنى محدود وحسب يقضي بأنّها تبدي فسيفساء من الخاصّيات المتداخلة، على نحو يشبه (الأسرة) التي يكون كلّ فرد من أفرادها فردًا أكيدًا فيها حتّى وإن كان لا يحمل من الشبه الجسماني أيّ صفة يشترك بها مع كلّ أفرادها.

ويصرّ أرسطو على أنّ هنالك حلًّا وسطًا (tertium quid) بين كناية (الأسرة) وبين التواطؤ اللفظي: فهو يعرّف، ويشيد بتعريفه هذا، نوعًا من المشترك اللفظي المعتمد على الصميم (يشار إليه أيضًا في الكتابات، وبدرجات مختلفة من الدقة، بالمعنى البؤري والصلة البؤرية).[x] إن المشتركات اللفظية المعتمدة على الصميم تبدي نوعًا من النظام ضمن حالها التعدّدي: فعلى الرغم من غياب التواطؤ اللفظي، بسبب المشتركات اللفظية، لا تتحوّل هذه المفاهيم إلى فسيفساء تشبه مثال الأسرة السابق أيضًا. وبالاعتماد على أحد أمثلة أرسطو المفضّلة، لنتأمّل ما يلي:

سقراط سليم.

سقــــراط يتّبع نظامًا سليمًا في التمرين.

سقراط سليم البنية.

يفترض أرسطو أن القارئ سيقدّر فورًا ميزتين من ميزات هذه الحمليات الثلاثة لكلمة (سليم)؛ وأوّلهما أنّها ليست من التواطؤ اللفظي، فالجملة الثانية لا يمكن إعادة صياغة كلمة (سليم) فيها لتكون (يعزّز الصحّة) إلّا بشكل غير دقيق، وكذلك الأمر في الجملة الثالثة لتصبح (تدلّ على صحّته)، بينما تدلّنا الكلمة في الجملة الأولى على معنى أكثر صميمية، من مثيل (معافى) أو (بدنه يؤدّي وظائفه بشكل جيّد).

ولذلك فإنّ كلمة (سليم) ليست من التواطؤ اللفظي. أمّا الميزة الثانية فهي أنّ الحمليتين الأخيرتين، على الرغم ممّا سبق، تعتمدان على الأولى في توضيحهما: فكلّ منهما تلجأ إلى (السلامة) في معناها الصميمي على نحو لامتناظر. ولهذا فإنّ أيّ تفسير لأيّ من الحمليتين الأخيرتين (يجب) أن يلمّح للحملية الأولى، بينما لا يشير تفسير الأولى إلى أيّ من تاليتيها. ومن هنا يقترح أرسطو بأنّ (السلامة) ليست مجردّ مشترك لفظي، بل هي مشترك لفظي معتمد على الصميم: فبينما ليست الكلمة في الجملتين الأخيرتين من المشترك اللفظي فإنّها ليست أيضًا في كليهما من الحالات الناصعة للتواطؤ اللفظي.

إنّ توضيح أرسطو ينجح فعلًا في أن يظهر لنا أنّ هنالك مساحة مفاهيمية بين كناية (الأسرة) المجرّدة وبين التواطؤ اللفظي؛ ولذلك فهو محقّ في أنّ هذه الخيارات غير شاملة. ويكمن الاهتمام بهذا النوع من النتيجة في إمكانية تصديرها كمفاهيم فلسفية أغنى، وهذا إن لم تكن أكثر تجريدًا. ويلجأ أرسطو إلى المشترك اللفظي كثيرًا، وعلى نطاق كامل من المفاهيم الفلسفية بما فيها: العدالة، والعلّية، والمحبّة، والتماثل، والخيرية، والجسد.

وأبرز حالات لجوئه للمشترك اللفظي المعتمد على الصميم نجده في حالة مفهوم يبلغ سويّة عالية من التجريد إلى الحدّ الذي يصبح فيه من الصعب التحديد الدقيق لنجاحه دون تفكّر ميتافيزيقي موسّع؛ ويتجسّد هذا الأمر في لجوئه إلى المشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ (الكائن)، والذي نشب عنه خلاف على الصعيدين الفلسفي والأكاديمي.[xi]

وفي إحدى نقاط البحث يقوم أرسطو بإنكار إمكانية وجود علم للكائن، مستندًا إلى أنّه ليس هنالك أيّ جنس للكائن يمكن لكلّ الكائنات، ولا شيء غيرها، أن تندرج فيه (SE 11 172a9–15). وربّما كان ممّا حفّزه على البرهان بهذه الطريقة أنّه يعتبر فكرة الجنس فكرة تصنيفية للمقارنة لا يستغنى عنها،[xii] ولذلك فمن المعقول فورًا الاقتصار على الكلام عن جنس الكائن في حالة إمكانية الكلام بالسوية ذاتها عن جنس اللاكائن، تمامًا كما أنّنا قادرون على التحدّث بين الكائنات الحية عن حيوانات ولاحيوانات (أي: مملكة النباتات).

وبما أنّه ليس هنالك لاكائنات، فلا يمكن، بناءً عليه، أن يكون هنالك جنس للاكائنات، وفي نهاية المطاف: ليس هنالك جنس للكائنات أيضًا. وهذا يستلزم: بما أنّ كلّ علم من العلوم يدرس نوعًا ماهويًا واحدًا مندرجًا في جنس واحد، فلا يمكن أن يكون هنالك علم للكائن أيضًا.

وبالتالي، فعندما لا يقوم أرسطو، وبشكل صريح، بعكس حكمه بشأن وجود علم للكائن، فإنّه يعلن أنّ هنالك، على الرغم ممّا سبق، علم للكائن (باعتباره) كائنًا (Met. iv 4)، وهي الفلسفة الأولى، والتي تستمدّ مادّتها من الكائنات ما دامت كائنات، وبالتالي فهي لا تنظر سوى للميزات المتعلّقة بالكائنات، باعتبارها كائنات، ولا شيء غيرها، دون أيّ زيادة على هذا الكلام (أي: دون النظر إليها باعتبارها كائنات رياضية أو فيزيائية أو بشرية).

وعلى الرغم من الخلاف الذي يدور حول هذه المسألة، فإنّ اعتراف أرسطو بهذا العلم يتبيّن في نهاية المطاف أنّه يستند بشكل حاسم على التزامه السابق بالمشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ الكائن.[xiii] وعلى الرغم من أنّ هذه الحالة ليست على الدرجة نفسها من الوضوح وانعدام الخلاف كما في لجوء أرسطو السهل نسبيًا إلى مفهوم (السلامة) الذي ذكرناه في موضع سابق (وهو يفسّر، في نهاية المطاف، اختياره له كمثال توضيحي)، فيُفترَض أنّنا قادرون، بعد تفكّر، على تحديد ما يوازي ذلك من اعتماد على الصميم في الأمثلة التالية لكلمة (يوجد):

يوجد سقراط.

يــــوجد موقع سقراط.

يوجد أنّ سقراط وزنه ثلاثة وسبعون كيلوگرامًا.

يــــوجد أنّ سقراط متكدّر المزاج اليوم.

فلا شكّ في أنّ الأمثلة الثلاثة الأخيرة في القائمة السابقة عبارات ثقيلة على اللسان، وهذا لأنّها تنهك نفسها في إظهار قدرتنا على التحدّث عن الأشياء التابعة (= غير المستقلّة) باعتبارها موجودة إذا كنّا نرغب بذلك، لكن دون أن يحدث هذا إلّا بسبب تبعيّتها للمثال الصميمي للكائن، وهو تحديدًا: الجوهر (من الجدير بالذكر هاهنا أنّ ” الجوهر الأوّلي” هي الترجمة التقليدية التي لم توفّق كثيرًا في نقل معنى مصطلح أرسطو “protê ousia” في الإغريقية، وهي تعني بترجمة أكثر حرْفية ” الكائن الأوّل”).[xiv] وبموجب هذه المقاربة، لم يكن سقراط ليدلي برأيه في أي شيء أو يشعر بأيّ شيء ممّا وصلنا عنه لو لم تكن هنالك حقيقة سابقة على ذلك، وهي حقيقة وجوده.

ولذلك فإنّ (يوجد) في العبارة الأولى تؤدّي دور المثال الصميمي للوجود، والتي تُفسَّر العبارات التالية على أساسها. وإذا كان هذا صحيحًا، فعندها يكون (الكائن) مشتركًا لفظيًا معتمدًا على الصميم، وهذا ما يراه أرسطو ضمنيًا؛ ويضاف إلى ذلك أنّ علم الكائن يصبح ممكنًا، حتّى وإن لم يكن هنالك جنس للكائن، وذلك لأنّه يصبح من الممكن، في نهاية المطاف، دراسة كلّ الكينونات ما دامت تتّصل بالمثال الصميمي للكائن، وعندها يصبح من الممكن أيضًا دراسة المثال الصميمي، أي: المادّة، ما دامت تؤدّي دور الحدوث الرئيسي للكائن. 

6. نظرية المقولات عند أرسطو

عند الحديث حول الكيانات التي تعتمد على المادّة في وجودها، يلجأ أرسطو ضمنيًا إلى التزام فلسفي أساسي ظهر في فكره مبكّرًا، وظلّ مستقرًّا طوال عمله في الفلسفة: وهو نظرية المقولات. فضمن كتاب (المقولات) الذي يعتبر في العادة من أوائل كتاباته، يعلن أرسطو بشكل يكاد يكون مفاجئًا: «في الأشياء التي نتكلّم عنها دون أن تكون مركّبة، كلٌّ منها يشير إلى واحد ممّا يلي: (1) جوهر (ousia)؛ (2) كمّية؛ (3) كيفية؛ (4) نسبية؛ (5) مكانية؛ (6) زمانية؛ (7) وضعية؛ (8) ملكية؛ (9) فاعلية؛ (10) انفعالية». (Cat. 1B25–27).

ولا يقدّم أرسطو سوى القليل في تأطير نظرّيته هذه (المقولات)، فلا يوفّر أيّ اشتقاق صريح عنها، حتّى إنّه لا يحدّد بشكل مكشوف ما الذي تصنّفه (نظرية الأصناف) هذه [الترجمة العربية للمصطلح الإنگليزي (Categories) تتراوح بين (الأصناف) كترجمة للكلمة الإنگليزية بمعناها الحديث، وبين (المقولات) كترجمة للمصطلح اليوناني القديم الذي أبقاه المترجمون العرب الأقدمون على حاله أحيانًا (قاطيغورياس).(المترجم)] فإذا كان القيّمون على المكتبات يصنّفون الكتب، وعلماء النبات يصنّفون النباتات، فما الذي يصنّفه منظّرو التصنيف الفلسفي؟

لا يجيب أرسطو على هذا السؤال بصراحة، لكنّ ما ساقه من أمثلة تجعل من الواضح على نحو معقول أنّه يعني بالتصنيف: تصنيف الأنواع الرئيسية لما قد يوجد من كينونات. وإذا استعنّا مجدّدًا ببعض الأدلّة من البيانات اللغوية، ودون الاستنتاج بأنّ الغايات النهائية للتصنيفات غايات لغوية، فيمكننا أن نقارن بين أشياء نقولها “مركّبةً” من أمثال:

الرجل يركض.

مع أشياء نقولها “دون أن تكون مركّبة” من أمثال:

الرجل.

يركض.

فعبارة (الرجل يركض) قابلة لتقييم صدقيتها المنطقية، بينما لا يمكن ذلك في عبارتي (الرجل) و(يركض)؛ وهنا يقول أرسطو بأنّ هذه الأشياء التي من هذا النوع (تؤشّر) لوجود كينونات، ومن الواضح أنّها كينونات خارج إطار علم اللغة، تتّصف بأّنها مترابطة على نحو تكون فيه العبارة الأولى تحتوي على ما يكفي من التعقيد ليقال عنها بأنّها صادقة (عندما يكون الرجل يقوم بالركض)، وتكون فيه الوحدتان التاليتان ضمن مستوى أدنى من مستوى تقييم الصدقية، أي: (الرجل) لوحده، وفعل (الركض) لوحده. وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ الكيانات المصنّفة وفقًا للأصناف هي كيانات رئيسية تقع أدنى مستوى تقييم الصدقية، أو: الواقعات (facts).

وهذه الكيانات تساهم بوضوح، إذا صحّ التعبير، في وقوعية الواقعة، تمامًا كما هو الحال في موازياتها اللغوية، أي: الأسماء والأفعال التي تقال “دون تركيب”، التي تساهم في إمكانية تقييم صدقية العبارات البسيطة. وعناصر الواقعات تساهم في الواقعات كما تساهم الأجزاء ذات الأهمّية المعنوية للقضية المنطقية في امتلاكها لحالتها الصدقية. ومن هنا فإنّ الوحدات التي تصنّفها مقولات أرسطو هي مكوّنات الواقعات. فإذا كانت عبارة (سقراط ضعيف) واقعة، فعندها نقول بأنّ الكيانات الماثلة أمامنا هي (سقراط) و(كونه ضعيفًا)؛ ووفقًا لمصطلحات أرسطو تكون الأولى (جوهرًا) والثانية (كيفية).

ومن المهمّ أنّ هذه الكيانات ربما تكون (أساسية) دون أن تكون (بسيطة) على الإطلاق؛ فسقراط، في نهاية المطاف، يتكوّن من أجزاء شديدة التنوّع: ذراعان وساقان، وأعضاء داخلية وعظام، وجزيئات وذرّات، …إلخ. وإذا أردنا توضيح ذلك من خلال ما يوازيه في علم اللغة فيمكننا أن نطرح الوحدات الصوتية (الفونيمات phonemes)، فهي تتّصف بأنّها (أساسية)، وتقترب من الوحدات الصرفية (المورفيمات morphemes) في نظريات الألسنيات، وهي مع ذلك (معقّدة) لأنّها تتكوّن من مكوّنات متينة أبسط، وهو أمر لا يتّصل بالموضوع من وجهة نظر علماء الألسنيات، لأنّها في مستوى أدنى من مستوى الصلة الدلالية.

ونظرية المقولات تعترف بعشرة أنواع فقط من الأشياء الأساسية التي تقع خارج نطاق اللغة، وهي:

  1. جوهر (رجل، حصان).
  2. كيفية (أبيض، سليم نحويًا).
  3. كمّية (متران طولًا).
  4. نسبية (ضعفا [عدد]، عبد [فلان]).
  5. مكانية (في السوق).
  6. زمانية (أمس، غدًا).
  7. وضعية (مستلقيًا، جالسًا).
  8. ملكية (منتعلًا حذاءه).
  9. فاعلية (يَقطَع، يُحرِق).
  10. انفعالية (يُقطَع، يُحرَق).

ومن الواضح أنّ أرسطو يفترض، وإن لم يصرّح بذلك في (المقولات)، أنّ هذه التصنيفات العشرة للكينونات شاملة وغير قابلة للاختزال، فليس هنالك أشياء رئيسية تخرج عن هذه العشرة، وليس من الممكن إلغاء أيّ تصنيف منها لصالح تصنيف آخر.

ولقد تعرّض كلا الادّعاءين للانتقاد، ولا شكّ في أنّهما بحاجة للدفاع عنهما.[xv] لكنّ أرسطو لا يقدّم لأيٍّ منهما أيّ دفاع في كتابه (المقولات)؛ بل إنّه لا يقدّم أيّ تأسيس مبدئي لتصنيفات المقولات نفسها، وهو أمر جعله عرضة لانتقادات إضافية ممّن تلاه من الفلاسفة، بمن فيهم إيمانويل كانت الذي أشاد أوّلًا باجتراح أرسطو لفكرة نظرية المقولات، ثمّ شجب اختياره للتصنيفات الخاصّة دون الاعتماد على أساس مبدئي.

وزعم كانت بأنّ أرسطو انتقى مقولات الكائن عندما صادفها في تأمّلاته وحسب (Critique of Pure Reason, A81/B107). إذن، وفقًا لكانت، لا تقوم تصنيفات أرسطو على أساس. ولقد سعى الفلاسفة والعلماء، قبل كانت وبعده، لتوفير الأساس اللازم، أمّا أرسطو فقد مال في العموم إلى تبرير نظرية المقولات بوضعها موضع التطبيق في أبحاثه الفلسفية المتنوّعة.

ولقد صادفنا في ما سبق، ضمنيًا، حالتين لجأ فيهما أرسطو إلى نظرية المقولات: (1) في مقاربته للزمان، حيث تعامل معه باعتباره كائنًا غير جوهري، و(2) في التزامه بالمشترك اللفظي المعتمد على الصميم، والذي يطرح اعتبارات أكثر إثارة للجدل. ولا بأس في العودة إلى هاتين الحالتين بإيجاز لنبيّن كيف اعتقد أرسطو بأنّ عقيدته في المقولات تقدّم الإرشاد الفلسفي عندما نكون بأمسّ الحاجة إليه.

عندما نفكّر أوّلًا بالزمان وألغازه المتنوّعة، أو “معضلاته”، نجد أرسطو يطرح سؤالًا بسيطًا: هل الزمان موجود؟ ثمّ يردّ على السؤال بالإيجاب، لكنّ هذا الردّ لا يستند إلى أيّ شيء سوى أنّ أرسطو يتعامل مع هذا السؤال باعتباره يتعامل مع أمر يندرج في تصنيفاته؛ فهو يدّعي بأنّ «الزمان هو مقياس الحركة في ما يتعلّق بما قبل وما بعد» (Phys. 219b1–2). وهذا التعريف يمكّن أرسطو من الدفع بحكمه بأنّ الزمان موجود حقًّا، وذلك لأنّه كيان يندرج ضمن تصنيف (الكمّية): فالزمان بالنسبة للحركة أو التغيّر هو كالطول بالنسبة للخطّ.

ولهذا فالزمان موجود، لكنّه، ككلّ مفردات أيّ تصنيف غير جوهري، موجود بشكل غير مستقلّ؛ فتمامًا كما إنه لو لم يكن ثمّة خطوط لما كان ثمّة طول، فلو لم يكن ثمّة تغيّر لما كان ثمّة زمان.

وهذه الميزة لنظرية أرسطو حول الزمان واجهت ردود فعل منها الناقد ومنها المؤيّد.[xvi] لكنّ ما يهمّنا في السياق الحالي يقتصر على أنّه يخدمنا في كيفية تعامل أرسطو مع مسائل الوجود، أي: باعتبارها في أصلها مسائل تتعلّق بعضويّتها في تصنيفاته؛ وعلى سبيل المثال: إنّ المسألة المتعلّقة بوجود كلّية أو مكان أو علاقة هي أيضًا، في نظر أرسطو، مسألة تتعلّق بتصنيف الكائن، إن كان له تصنيف في الأصل.

وكما أن الزمان كيان مستقلّ في نظرية أرسطو، فكذلك أيضًا كلّ الكيانات المندرجة في التصنيفات المغايرة للجوهر؛ وهذا يساعدنا على تفسير اعتقاد أرسطو بأنّ من المناسب استخدام جهازه (المشترك اللفظي المعتمد على الصميم) في حالة (الكائن). فلو سألنا عن ما إذا كانت الكيفيات أو الكمّيات موجودة، فسيردّ أرسطو بالإيجاب، لكنّه سيشير أيضًا إلى أنّ اعتبارها كيانات غير مستقلّة يجعلها غير موجودة وفقًا للحال المستقلّ للموادّ. ولذلك، فحتّى في الحالة، التي جعلت نادرة، لـ(الكائن) تقدّم نظرية المقولات سببًا لكشف ما فيها من المشترك اللفظي المعتمد على الصميم.

وبما أنّ كلّ تصنيفات الكائن تعتمد على الصميم، فلا محيد للتحليل الذي يتناول أيًّا منها عن أن يرجع في نهاية المطاف بشكل لامتناظر إلى الجوهر. ويحاجج أرسطو في كتابه (المقولات)، اعتمادًا على أحد أوجه التمييز بين الحمل الماهوي (ما يقال عنه) والحمل العرَضي (في):

«يجب أن يكون كل ما سواها إمّا أن يكون على موضوعات، أي: يقال على الجواهر الأولى، وإمّا أن يكون في موضوعات، أي يقال فيها؛ فيجب إذن إن لم تكن الجواهر الأولى أن لا يكون سبيل إلى أن يوجد شيء من تلك الأخرى» (Cat. 2B5–6). 

وهنا يستنتج أرسطو بأنّه إذا كان الحال هكذا فإنّ كلّ التصنيفات غير الجوهرية تعتمد على الجوهر في صميم كينونتها. ولذلك يخلص إلى أنّ الكائن يمتلك ما يؤهّله ليعتبر حالة من حالات المشترك اللفظي المعتمد على الصميم.

وقد يطعن أحدهم في ما جاء به أرسطو، فيتساءل أوّلًا عن ما إذا كان قد أسّس لانعدام التواطؤ اللفظي لـ(الكائن) قبل الانتقال للمحاججة في اعتماده على الصميم. لكن مهما يكن الجواب، فإنّنا إذا سمحنا بانعدام التواطؤ اللفظي فعندها يوفّر جهاز المقولات، وفقًا لأرسطو، السبب الكافي للاستنتاج بأنّ (الكائن) يمتلك ما يؤهّله ليكون مثالًا مهمًّا من الناحية للفلسفية حول المشترك اللفظي المعتمد على الصميم.

وعلى هذا النحو، فإنّ فلسفة أرسطو حول الكائن والجوهر، وحالها هذا كحال الكثير من محتويات فلسفته، يعتمد على الالتزام بما تقدّم في نظرية (المقولات) التي صاغها. بل إنّك تجد هذه النظرية تتخلّل كلّ كتاباته وتؤدّي دور الدعامة التي يستند إليها الكثير من تنظيراته الفلسفية، من الميتافيزيقا وفلسفة الطبيعة إلى علم النفس ونظرية القيمة. ولهذا السبب فإنّ الأسئلة المتعلّقة بإمكانية الدفاع عن مذهب أرسطو في (المقولات) تصبح في نهاية المطاف أسئلة خاصّة ملحّة عند تقييم الكثير من أوجه فلسفته.

ولمن يرغب بالمزيد من التفاصيل حول نظرية المقولات وأسسها، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (مقولات أرسطو) في هذه الموسوعة.

7. كفاية التفسير بالاعتماد على العلل الأربعة

ثمّة جانب آخر يتبوّأ موقعًا مركزيًا مماثلًا من الفكر الأرسطي، وهو: مخطّط (التفسير بالعلل الأربعة). وإذا حكمنا على هذا المعتقد بناءً على تأثيره فسنجد بأنّه، ولا شكّ، من أهمّ المساهمات الفلسفية لأرسطو.

ويتوقّع أرسطو في هذا المعتقد، كما هو حال غيره من الفلاسفة، أن تكون التفسيرات التي يسعى إليها في الفلسفة والعلوم تحقّق معايير محدّدة للكفاية؛ لكنّه يختلف عن غيره من الفلاسفة في أنّه يعتني بالتعبير الصريح عن معايير الكفاية؛ وبعد أن يقوم بذلك يشير إلى الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها أسلافه بتقصيرهم في تحقيق المعايير المطلوبة. ويعبّر أرسطو عن مخطّطه هذا بمقطع يتّصف بالمنهجية ضمن الفصل الثاني من كتابه (الطبيعة):

«من طرق التعبير عن العلّة أن نقول بأنّ منها تتحقّق كينونة الأشياء وبها تستمرّ، كما هو الحال في برونز التمثال، وفضّة الطبق، والجنس الذي ينتمي إليه البرونز والفضّة كنوعين. ومن طرق التعبير أيضًا: إنّ العلّة هي ما يقال عنه بأنّه الصورة أو النمط، أي: ما يشار إليه في التفسير (logos) عائدًا للماهية وأجناسها؛ ومن ذلك مثلًا: إنّ علّة الأوكتاڤ هي النسبة (2:1)، أو الأعداد بشكل أعمّ، بالإضافة للأجزاء المذكورة في التفسير (logos). ويضاف إلى ما سبق أنّ المصدر الرئيسي للتغيّر والسكون يقال عنه بأنّه علّة، ومن ذلك مثلًا: الرجل الذي تفكّر علّة، والأب علّة لابنه، وبشكل عامّ يعدّ الفاعل علّة للمفعول، والمغيِّر علّة للمغيَّر. وعلاوة على ذلك، فإنّ الغاية (telos) يقال عنها بأنّها علّة، أي: ما من أجله تُفعَل الأشياء (hou heneka)، ومثال ذلك: المحافظة على الصحّة علّة المشي، فعندما نُسأل: (لماذا يمشي فلان؟)، نجيب: (كي يكون صحيح الجسم)، وبقولنا هذا نعتقد أنّنا قد أشرنا إلى العلّة» (Phys. 194b23–35). 

وعلى الرغم من أنّ بعض أمثلة أرسطو التوضيحية لا تكشف فورًا عن المراد بها، فإنّ مقاربته التفسيرية مباشرة على نحو معقول.

وإذا أردنا أن نحقق الفهم الأفضل لموقف أرسطو من التفسير فلا بدّ أوّلًا من تسليط الضوء على مثال بسيط اقترحه في كتابه الطبيعة (Physics ii 3). فالتمثال البرونزي يتيح أبعادًا مختلفة ومتنوّعة للتفسير؛ وإذا كنّا نرغب بمواجهته دون ملاحظة ما هو فيعتقد أرسطو بأنّنا سنقوم تلقائيًا بطرح سلسلة من الأسئلة حوله، إذ نرغب بمعرفة (ما هو)، و(ممّ صُنِع)، و(ما الذي جاء به إلى الوجود)، و(لأيّ شيء يُستخدَم). وعندما نطرح هذه الأسئلة فإنّنا نسعى إلى معرفة العلل الأربع (aitia) للتمثال: العلّة الصورية، والمادّية، والفاعلية، والغائية. وعندما نحدّد هذه العلل الأربعة نكون، وفقًا لأرسطو، قد لبّينا طلبًا معقولًا على الكفاية التفسيرية.

وبشكل أكثر شمولًا، يمكن القول بأنّ التفسير العلّي الرباعي للكفاية التفسيرية يتطلّب من الباحث أن يذكر العلل الأربع التالية:

  1. العلّة المادّية: ما يتمّ توليد الشيء منه، وما يُصنع منه (مثلًا: البرونز للتمثال).
  2. العلّــة الصورية: البنية التي تحقّقها المادّة وبوجبها تصبح أمرًا قابلًا للتمييز (مثلًا: شكل سقراط الذي بموجبه يمكن القول عن كمّية البرونز بأنّها تمثال سقراط).
  3. العلّة الفاعلية: الطرف المؤثّر المسؤول عن اتّخاذ كمّية المادّة لصورتها (مثلًا: النحّات الذي شكّل كمّية البرونز بهيأتها الحالية: صورة سقراط).
  4. العلّـــة الغائية: غاية أو هدف التراكب بين الصورة والمادّة (مثلًا: صنع التمثال لغاية تكريم سقراط).

وفي كتاب (الطبيعة) يضع أرسطو ادّعاءين بشأن هذا المخطّط العلّي الرباعي: (1) من (الضروري) ذكر العلل الأربعة جميعها إذا أردنا للتفسير أن يكون كافيًا؛ و(2) هذه العلل الأربعة (كافية) للمطابقة في التفسير (Physics ii 3). وكلّ من هذين الادّعاءين يتطلّب بعض التفصيل، وكذلك بعض بيان أهليته لذلك.

أمّا في ما يخصّ ادّعاء (الضرورة) فإنّ أرسطو لا يفترض أنّ كلّ الظاهرات تقبل العلل الأربعة؛ ولذلك، مثلًا، تفتقر الصدفة للعلّة الغائية، وذلك لأنّها لا تقع من أجل أيّ شيء، وهو ما يجعلها صدفة في نهاية المطاف. فإذا كان أحد المقترضين قد خرج إلى السوق ليبتاع الحليب، والتقى في طريقه بمن أقرضه المال وهو في طريقه ليبتاع الخبز، فربّما يوافق حينها على إعادة المال الذي اقترضه فورًا.

وعلى الرغم من أنّ هذا اللقاء قد تمخّض عن نتيجة مطلوبة، فإنّه لم يكن في الأصل بهدف تسديد القرض، بل إنّه لم يكن لأيّ هدف على الإطلاق، فهو مجردّ صدفة، ولذلك فهو يفتقر للعلّة الغائية. وعلى النحو ذاته، إذا اعتقدنا بأنّ هنالك تجريدات في الرياضيات أو الهندسة (مثلًا: وجود المثلّث باعتباره جسمًا في الفكر مستقلًّا عن أيّ تحقّق مادّي، فعندها يفقد المثلّث، ببساطة، العلّة الغائية).[xvii] ومع ذلك، فإذا نحّينا هذه الاستثناءات المهمّة جانبًا، فإنّ أرسطو يتوقّع أن تتكيّف الأغلبية الغالبة من التفسيرات مع مخطّطه العلّي الرباعي. ويؤكّد أرسطو، في الحالات التي لا تحتوي على استثناءات، على أنّ الفشل في تحديد كلّ العلل الأربعة يعتبر فشلًا في كفاية التفسير.

أمّا في ما يخصّ ادّعاء (الكفاية) فإنّه لا يقبل الاستثناءات، لكن ربّما نضلّل القارئ إذا تركنا هذه المسألة وثيقة الصلة دون أن ندلي بالملاحظات حولها. ولقد قدّم أرسطو مثالًا توضيحيًا للعلّة المادّية فبدأ أوّلًا بالبرونز في التمثال، والفضّة في الطبق، ثمّ ذكر أيضًا «الأجناس التي يُعتبَر البرونز والفضّة من أنواعها» (Phys. 194b25–27). وهو يعني بهذه العبارة أجناس المعادن التي ينتمي إليها الفضة والبرونز، أو بتعبير أعمّ: (المعادن) ببساطة. أي: يمكن للمرء أن يحدّد العلّة المادّية لوضع ما بشكل تقريبي نوعًا ما، وذلك بتحديد طبيعة المادّة بشكل دقيق نوعًا ما.

ومن هنا، فعندما يذكر أرسطو ضمنيًا بأنّ ذكر العلل الأربعة كافٍ للتفسير، فإنّه لا يقصد الاقتراح بأنّ ذكرها يكفي مع أيّ مستوى من مستويات التعميم؛ بل يقصد أرسطو التشديد، عوضًا عن ذلك، على أنّه ليس ثمّة نوع خامس من أنواع العلل، وأنّ علله الأربعة المفضّلة تندرج فيها كلّ أنواع العلل. ولا يقدّم أرسطو محاججة كاملة لهذا الاستنتاج، لكنّه يتحدّى قرّاءه بأن يحدّدوا أيّ نوع من العلل يمكنه أن يتمتّع بما يؤهّله ليكون نوعًا متميّزًا عن العلل الأربعة المذكورة (Phys. 195a4–5).

يمكن القول، بعد ما أسلفناه، أنّ مخطط العلل الأربع يمتلك كلّ معقولية حدسية يمكن أن تقدّمها الأمثلة التوضيحية التي ساقها أرسطو؛ لكنّ أرسطو لا يقنع بهذا الحدّ، بل يعتقد عوضًا عن ذلك بأنّه قادر على المحاججة بقوّة بأنّ العلل الأربعة عوامل تفسيرية حقيقية، أي: إنّها من الميزات التي يجب ذكرها لا لمجرّد أنّها تقدّم تفسيرات مقنعة، بل لأنّها في أصلها عوامل علّية إجرائية، وإذا غاب أحدها أصبح أيّ تفسير مزعوم مفتقرًا للكمال، وبذلك يفتقر للكفاية.

ويجب أن نشير هنا إلى أنّ حجج أرسطو في دعم العلل الأربع، إذا نظرنا إلى كلٍّ منها بمفرده، تفعل فعلها تحت غطاء الربط العامّ الذي يصوغه بين التفسير العلّي والمعرفة. وبما أنّه يعتقد بأنّ العلل الأربع (aitia) تبرز في الأجوبة المقدّمة على أسئلة البحث عن المعرفة (Phys. 194b18; A Po. 71 b 9–11, 94 a 20)، فلقد أصبح بعض العلماء يفهمها على أنّها (تعليلات) أكثر ممّا هي (علل)، أي: كتفسيرات لا كعلل مفسّرة على نطاق ضيّق.[xviii]

ومعظم هذه الأحكام تعكس التزامًا مسبقًا برؤية حول العلّية والتفسير: أنّ العلّية تربط بين الأحداث لا القضايا؛ أو أنّ التفسيرات متّصلة بالبحث؛ أو أنّ العلّية ماصدقية والتفسير مفهومي؛ وأنّ التفسيرات لا بدّ أن تتقيّد بشكل من أشكال النموذج الاستنباطي-القانوني بينما لا يجب ذلك على العلل؛ أو أن العلل يجب أن تسبق تأثيراتها زمانيًا، بينما قد تلجأ التفسيرات، وخصوصًا المفهومية منها، إلى أوضاع عامّة أسبق زمانيًا من الأفعال التي تفسّرها.

وبشكل عام، يمكن القول بأنّ أرسطو لا يحترم هذه الأنواع من الالتزامات، ولهذا فإنّ مقاربته للعلل ربّما يمكن اعتبارها، إلى الحدّ الذي تصل إليه في إمكانية الدفاع عنها، بمثابة ضباب يشوّش قوانين العلّية والتفسير؛ لكن يجب بالتأكيد أن لا نستسلم فورًا للقول بأنّ أرسطو مذنب بارتكاب هذا الخلط، أو حتّى بأنّ العلماء الذين ترجموا تفسيره للـ(aitia) الأربعة بتعابير العلّية قد فشلوا في التعامل مع ما حدث من تطوّرات في نظرية العلّية بعد هيوم؛ وعوضًا عن ذلك، يجب أن نقول بأنّ غياب الانسجام عن التفسيرات المعاصرة للعلّية والتفسير، والميل الدائم المبرّر لاعتبار التفسيرات العلّية بمنزلة أساسية بالنسبة لباقي أنواع التفسيرات، سببان يشرّعان لنا التساؤل حول ما إذا كان مفهوم أرسطو حول العلل الأربعة لا يتواصل، في أيّ جانب مهمّ، مع المقاربات التي ألهمتها أفكار هيوم، والتساؤل مرّة أخرى عمّا إذا كانت مقاربة أرسطو تضطرب، وبأيّ درجة، عند المقارنة.

ومهما يكن من أمر، فمن حسن التصرّف عند التعامل مع دفاع أرسطو عن علله الأربع أن نأخذ بالحسبان الجدل المحيط بالسبيل الأمثل لشرح مقاربته المدفوعة معرفيًا في العلّية والتفسير بالنسبة لبعض المقاربات التي تلتها.

ولمن يرغب بالاستزادة حول العلل الأربع بشكل عام، يمكن الاطّلاع على المدخل المعنون (أرسطو والعلّية) في هذه الموسوعة.

8. المادّصورية عند أرسطو

من الأفكار التي تتبوّأ موقع القلب من التفسير العلّي الرباعي للكفاية التفسيرية عند أرسطو: أفكار المادّة (hulê) والصورة (eidos أو morphê)، وكلاهما يكوّنان أحد أبرز التزاماته الفلسفية الرئيسية، أي: المادّصورية (Hylomorphism):

المادّصورية = (صَ) أشياء عادية تتركّب من المادة والصورة.

وإنّ اللجوء في هذا التعريف لـ”الأشياء العادية” يدعو إلى التأمّل، لكن إذا نظرنا إليه باعتباره أوّل اقتراب من هذه المسألة فسنجد أنّه يخدم تناول هذه المسألة من ناحية الاعتماد على النوع نفسه من الأمثلة التي يوظّفها أرسطو في ترويجه للمادّصورية: التماثيل والمنازل والخيول والبشر. وبشكل عامّ: إنّنا قد نركّز تفكيرنا على أشياء وكائنات حيّة مألوفة. والمادّصورية تعتقد بأنّه ما من شيء يمكن أن يكون بسيطًا من الناحية الميتافيزيقية، وإنّما يتركّب من عنصرين ميتافيزيقيين مميّزين: أحدهما صوري، والآخر مادّي.

وقد صيغت المادّصورية عند أرسطو في الأصل من أجل التعامل مع الألغاز المتنوّعة المحيطة بالتغيّر؛ فمن بين المسلّمات التي واجهت أرسطو في كتابه (الطبيعة) بعض الطعون الصادمة في انسجام فكرة التغيّر نفسها، وقد طرحها پارمنيدس وزينون من قبل. وكان الحافز الأوّلي الذي دفع أرسطو لمواجهة هذه التحدّيات، كما رأينا في موضع سابق، هو المحافظة على الظاهرات (phainomena) من أجل شرح الكيفية التي يكون بها التغيّر ممكنًا.

ومن العناصر الرئيسية في ردّ أرسطو على التحدّيات التي وصلته من أسلافه: إصراره على أنّ التغيّر لا يخرج عن احتوائه لعاملين على الأقلّ: شيء يستمرّ، وشيء يُكتسب أو يُفقَد.

وعلى هذا الأساس، فإنّ سقراط عندما يذهب إلى الشاطئ ويعود وقد غيّرت لونه أشعّة الشمس، فهنالك شيء ما قد استمرّ (وهو سقراط تحديدًا) حتّى وإن كان هنالك شيء قد فُقِد (البياض) وشيء آخر قد اكتُسِب (السمرة). وهذا التغيّر يطال مقولة (الكيفية)، ومن هنا جاءت العبارة الشائعة “التغيّر الكيفي”. وإذا ازداد وزن سقراط ففي هذه الحالة أيضًا هنالك شيء يبقى على حاله (سقراط) وشيء يُكتسَب (في هذه الحالة: كمّية المادّة)، وعلى هذا الأساس نكون أمام تغيّر كمّي، وليس كيفيًا.

ويحاجج أرسطو، بشكل عامّ، بأنّه مهما كانت المقولة التي يحدث التغيير فيها، فهنالك شيء يُفقَد وشيء يُكتَسب (ضمن) تلك المقولة، حتّى وإن كان التغيير يحدث بينما يبقى شيء آخر (جوهر) في الوجود باعتباره معرّضًا لهذا التغيّر. ولا شكّ في أنّ الجواهر قد تظهر في الوجود وقد تختفي منه، وذلك في حالات التوليد أو الهدم؛ وهي تغيّرات تحدث في مقولة الجوهر. لكنّ من الواضح أن هنالك ما يستمرّ حتّى في حالات التغيّر ضمن هذا الصنف.

ولنطرح هنا مثالًا يحبّه أرسطو: ففي حالة توليد تمثال ما، يستمرّ البرونز لكنّه يكتسب بعدها صورة جديدة، وهي صورة جوهرية، وليست عرضية. وفي كلّ الحالات، سواء كانت جوهرية أو عرضية، فإنّ التحليل المعتمد على العاملين السابقين ينتج عنه: شيء ما يبقى على حاله وشيء يُكتَسب أو يُفقَد.

وفي الصياغة الأبكر للمادّصورية نجدها تطلق اسمين على العاملين السابقين: فما يتبقّى هو (المادّة) وما يُكتَسب هو (الصورة). لكنّ المادّصورية سرعان ما تتعقّد بشكل أكبر بكثير لدى أرسطو عندما تُجبَر أفكار المادّة والصورة على خدمة الفلسفة. ومن المهمّ أن نشير إلى أنّ المادّة والصورة تُقرنان بتمييز اساسي آخر، وهو التمييز بين (الإمكانية) و(الحقيقية). وبالعودة إلى حالة توليد التمثال: قد نقول بأنّ البرونز هو (في الممكن) تمثال، لكنّه لا يكون تمثالًا (حقيقيًا) إلّا حينما، وفقط حينما، يُشكَّل على صورة تمثال.

ولا شكّ في أنّ البرونز قبل أن يُصنَع تمثالًا كان أيضًا (في الممكن) عددًا كبيرًا من الأشياء الأخرى (مدفع، أو محرّك بخاري، أو مرمى في ملعب لكرة القدم)، ومع ذلك فإنّه لم يكن في الممكن زبدة أو كرة مطّاطية، وهذا يبيّن لنا كيف أنّ الإمكانية والاحتمالية لا تتطابقان: فالقول بأنّ (س) هو في الإمكانية (ص) يعني القول بأنّ (س) يمتلك ميزات حقيقية قد يعتمد عليها لصناعته ليكون (ص) عبر فرض الصورة (ص) عليه. ولذلك يصبح من الممكن، على ضوء هذه الصلات المتنوّعة، أن نعرّف جنسي الصورة والمادّة على أنّهما:

الصورة = (صَ) ما يجعل مادّة ما هي (ص) في الممكن لتكون (ص) في الحقيقة.

المادّة = (صَ) ما يستمرّ وما هو في الممكن (ص) وفقًا لنطاق ما من حالات (ص).

ولا شكّ في أنّ هذين التعريفين يتّصفان بالدائرية، لكنّ هذه الصفة ليست مشكلة في ذاتها: إذ يرى أرسطو بأنّ الحقيقية والإمكانية مفهومان أساسيان يقبلان التفسير والوصف لكنّهما لا يقبلان التحليلات الاختزالية.

وإذا لخّصنا مناقشات أرسطو للتغيّر في كتابه الطبيعة (Physics i 7 and 8)، وقدّمنا المادّة بشكل أوضح ممّا فعل، فسنجد أمامنا الحجّة البسيطة التالية حول المادّة والصورة: (1) من الشروط الضرورية لحدوث التغيّر هو وجود المادّة والصورة. (2) يوجد تغيّر، إذن: (3) يوجد مادّة وصورة. والمقدّمة الثانية من الظاهرات (phainomenon)، فإذا قبلناها دون دفاع فلا يبقى حينها سوى المقدّمة الأولى بحاجة إلى تبرير. والمقدّمة الأولى تبررّها فكرة مفادها أنّه ليس هنالك توليد من عدم (ex nihilo)، ففي كلّ حالة من حالات التغيّر هنالك شيء يستمرّ بينما هنالك شيء آخر يُكتسَب أو يُفقَد.

وفي التوليد أو الهدم الجوهري هنالك صورة جوهرية تُكتسَب أو تُفقَد؛ وفي التغيّر الذي لا يحدث إلّا عرضيًا تكون الصورة المكتسَبة أو المفقودة هي نفسها عرضية. وبما أنّ طريقتي التغيّر هاتين تشملان كلّ أنواع التغيّر، فإنّ (كلّ) حالات التغيّر يتواجد فيها العاملان، أي: المادّة والصورة.

ولهذه الأسباب ينتوي أرسطو من مفهومه للمادّصورية أن يكون أكثر من مفهوم تفسيري استكشافي بسيط، فهو يصرّ على العكس من ذلك بأنّ المادّة والصورة ميزتان للعالم مستقلّتان عن الذهن، ولذلك يجب أن يشار إليهما في أيّ تفسير كامل لطريقة عمله.

9. الغائية عند أرسطو

ربّما لا يختلف اثنان، في الأساس، على القبول بأنّ هنالك عللًا فاعلية تدعم العلّة الأصعب والأكثر إثارةً للجدل من بين العلل الأرسطية الأربع، وهي: العلّة الغائية.[xix] لكن تجدر الإشارة، قبل أن نقبل بذلك، أنّ التزام أرسطو بالتعليل الفاعلي يتلقّى الدفاع عنه من أرسطو نفسه في ما كتبه حول مصطلحاته التي يفضّلها؛ وبهذا فهو يقدّم أكثر ممّا قدّمه الكثير من الفلاسفة الذين تعاملوا مع فعّالية العلّة الفاعلية باعتبارها أمرًا مفروغًا منه. إذ يلاحظ أرسطو أنّه لا شيء ممكن يستطيع أن يحضر نفسه إلى عالم الحقيقة دون الاستعانة بتدخّل علّة فاعلية ذات تأثير حقيقي؛ وهي ملاحظة كان ممّا دفعه إليها نقده لنظرية الصور الأفلاطونية، والتي يعتبرها غير كافية بسبب عجزها عن تفسير التغيّر والتوليد.

وبما أنّ ما هو ممكن يمتلك إمكانيّة تتحدّد بما يتناسب مع نطاق ما للحقيقة، وأنّه لا شيء يصبح حقيقيًا بالاستعانة بذاته وحسب (مثلًا: كومة الآجر لا تنظّم نفسها تلقائيًا لتصبح منزلًا أو جدارًا)، فلا بدّ من طرف فاعل يعمل على مستوى الحقيقة في كلّ مثال من أمثلة التغيّر. وهذه هي العلّة الفاعلية. وهذا النوع من الاعتبارات يميل بأرسطو أيضًا إلى الحديث عن أولوية الحقيقية على الإمكانية: فالإمكانيات تتحوّل إلى حقيقة على يد الحقيقيات، والذي يحدث دائمًا أن تجد الإمكانية مستعينة بحقيقة أو بأخرى. وإنّ عمل حقيقة ما على إمكانية ما هو مثال للعلّة الفاعلية.

وبالنظر إلى ما سبق، فإنّ معظم قرّاء أرسطو لا يجدون حاجة للدفاع عن وجود العلّة الفاعلية، لكنّنا نجد أكثرهم، في مقابل ذلك، يعتقد بأنّ أرسطو ينبغي عليه تقديم دفاع عن العلّة الغائية. إنّ من الطبيعي والسهل علينا أن نلاحظ عمل العلّة الغائية في منتجات الحرف البشرية، فالحاسوب وفتّاحة العلب المعدنية من الآلات المكرّسة لتنفيذ مهمّات محدّدة، وإنّ ميزاتها الصورية والمادّية تُشرَح على أساس وظائفها.

كذلك، فليس من الغوامض علينا أن نعرف من أين تستمدّ الأدوات وظائفها: فنحن من يمنحها هذه الوظائف؛ وغايات الأدوات هي نتائج للنشاطات التصميمية للأطراف الفاعلة القاصدة. إنّ أرسطو يعترف بهذه الأنواع من العلّية الغائية، لكنّه يقوم أيضًا، وبشكل يثير إشكاليات أكثر، بطرح تصوّر لدور أكبر بكثير للغائية في التفسير الطبيعي: أنّ الطبيعة تقدّم الغائية دون تصميم؛ فهو يعتقد، مثلًا، بأنّ المتعضّيات لا تمتلك، وحسب، أجزاء تقتضي تفسيرًا غائيًا (مثلًا: الكلية لتنقية الدم، والأسنان لتقطيع الطعام ومضغه)، بل يعتقد بأنّ المتعضّيات ككلّ، البشر والحيوانات الأخرى، لها علل غائية.

وينكر أرسطو بصراحة أن تكون العلل العاملة في الطبيعة معتمدة على القصد؛ ولهذا الإنكار أهمّية حاسمة. إذ يعتقد بأنّ المتعضّيات لها علل غائية، لكنّها لم تمتلك هذه العلل بتأثير الأفعال التصميمية لطرف فاعل قصدي هنا أو هناك؛ وبهذا فهو ينكر أنّ من الضروري أن يكون الشيء (ش) ناتجًا عن التصميم كي يكون لـ(ش) علّة غائية.

وعلى الرغم منّ أرسطو ظلّ يتعرّض باستمرار للنقد بسبب التزامه بهذه الغايات الطبيعية، فإنّ عددًا كبيرًا من الاعتراضات الموجّهة لرؤيته هذه لا يستطيع التأثير عليها، بل إنّ من الواضح أنّه مهما كانت أوجه الجدارة في أكثرها تبصّرًا فإنّ معظم الانتقادات الموجّهة، دون احترام، لأرسطو تفاجئنا بأنّها تجهله على نحو يثير الذهول.[xx] وإليك أحد الأمثلة التي لا تستحقّ التوقّف عندها، وهو ما جاء على لسان عالم النفس الأمريكي الشهير بوروس فريدريك سكينر:

«لقد حاجج أرسطو بأنّ الأجسام الساقطة تتسارع بسبب ازدياد بهجتها وهي تجد نفسها أقرب إلى موطنها» (Skinner 1971, 6). 

إنّ كلّ من قرأ كتابات أرسطو حقًا لن يندهش حين يجد سكينر يهمل ذكر المصدر الذي اقتبس منه ما زعمه؛ ناهيك عن أنّ أرسطو يبدو، وفقًا للصورة التي نقلها سكينر، وكأنّه يعتقد بأنّ الصخور موجودات واعية ذات حالات نهائية يسعدها الوصول إليها على نحو يجعلها تتسارع بسبب الإثارة كلّما أصبحت أقرب لبلوغها. إنّ هذه الرثاثة الفكرية لا يمكن أن نجد لها أيّ عذر، خصوصًا عندما نجد العالم الألماني تسيلر يتمكّن من القول في نهاية القرن التاسع عشر، وبدقّة متناهية، بأنّ

«الميزة الأهمّ في الغائية الأرسطية هي: أنّها ليست إنسانية التمحور، ولا هي ناتجة عن أفعال خالق يتواجد خارج العالم أو حتّى مجرّد منظّم للعالم؛ وإنّما هي متأصّلة في الطبيعة دائمًا» (Zeller 1883, §48).

وفي الحقيقة، لا تكاد تكون هنالك حاجة للسخرية من الالتزامات الغائية لأرسطو من أجل تسليط أضواء النقد عليها؛ ففي الحقيقة، يقدّم أرسطو نفسه نوعين من أنواع الدفاع عن الغائية اللاقصدية في الطبيعة: الأوّل يفيض بالصعوبات، إذ يدّعي في كتابه الطبيعة (Physics ii 8):

«لأنّها [أي: الأسنان وكلّ الأجزاء الأخرى للموجودات الطبيعية] وكلّ الموجودات الطبيعية الأخرى تحدث على النحو الذي تحدث عليه إمّا دائمًا وإمّا في معظم الأوقات، وهذا ما لا ينطبق على ما يحدث بسبب الصدفة أو التلقائية. وعليه، فإذا كانت هذه الأشياء نتيجة للصدفة أو من أجل شيء ما، وكان من غير الممكن أن تكون نتيجة للصدفة أو التلقائية، فهذا يستلزم أنّه يجب أن تكون من أجل شيء ما. وعلاوة عليه، فحتّى من يقول بهذا النوع من الادّعاءات [أي: بأنّ كلّ شيء يحدث بالضرورة] سيتّفق مع القول بأنّ هذه الأشياء طبيعية. وعليه، فإنّ ما يحدث ويوجد في الطبيعة هو من أجل ما هو موجود بين الأشياء الحاضرة» (Phys. 198b32–199a8). 

وهذه الحجّة، والتي قدّمها العلماء بصياغات متنوّعة،[xxi] يبدو أنّها تعاني من إشكالية مزدوجة.

إن أرسطو يبدو في حجّته السابقة وكأنّه يقدّم ظاهرة مفادها أنّ الطبيعة تبدي الانتظام، ولذلك تحدث أجزاء الطبيعة على نحو منمّط ومنتظم. وعليه، يميل البشر، مثلًا، إلى امتلاك أسنان منظّمة على نحو قابل للتنبّؤ، فتتموضع القواطع في مقدّمة الفكّ والأضراس في مؤخّره. ثمّ يبدو أنّ أرسطو يجادل بعدها، طارحًا قضية منطقية فصلية شاملة وحصرية، بأنّ الأشياء تحدث إمّا بالصدفة وإمّا من أجل شيء ما، ليقترح في النهاية أنّ ما “يحدث على النحو الذي يحدث عليه إمّا دائمًا وإمّا في معظم الأوقات” (أي: ما يحدث على نحو منمّط ومنتظم) ليس من المعقول أن يُعتَقد بحدوثه بالصدفة.

ولذلك يخلص أرسطو إلى أنّ كلّ ما يحدث دائمًا أو في معظم الأوقات لا بدّ أن يحدث من اجل شيء ما، وعليه: لا بدّ أن يقبل علّة غائية. ولهذا فإن الأسنان تظهر دائمًا أو في معظم الأوقات بحيث تكون القواطع في مقدّمة الفكّ والأضراس في مؤخّره؛ وبما أنّ هذا يحدث بشكل منتظم وقابل للتنبّؤ فلا يمكن أن يكون بالصدفة. وإذا أخذنا بالحسبان بأنّ كلّ ما هو ليس بالصدفة يمتلك علّة غائية فإنّ للأسنان علّة غائية.

إذا كان هذا ما تضمّه الحجّة المهيمنة لأرسطو حول الغائية فهذا يعني أنّ رؤيته لا تستند إلى محفّز؛ فهي إشكالية في المقام الأوّل لأنّها تفترض قضية منطقية فصلية شاملة وحصرية ركناها: ما هو بالصدفة وما هو من أجل شيء ما، لكنّ من الواضح أنّ هنالك إمكانيات أخرى، فالقلب لا ينبض كي يحدث ضجّة، لكنّه يفعل ذلك دائمًا وليس بالصدفة. وفي المقام الثاني، وهو أمر محيّر إذا عرضناه بالشكل الصحيح، إنّ أرسطو نفسه على علم بمثال مناقض لهذه الرؤية، بل إنّه مهتمّ بالإشارة إليه بنفسه: إذ يؤكّد على أنّه بالرغم من أنّ العصارة التي تفرزها المرارة صفراء اللون على نحو منتظم وقابل للتنبّؤ، فإنّ صفرتها هذه لا هي بمحض الصدفة ولا هي من أجل أي شيء.

وفي الحقيقة، إن أرسطو يورد الكثير من أمثال هذه الأمثلة المناقضة في كتاباته (Part. An. 676b16–677b10, Gen. An. 778a29–b6). ويبدو أنّ هذا يستلزم، دون أن نصف أرسطو صراحةً بالتناقض، إمّا إنّ تفسير حجّته لم يُقدَّم بالشكل الصحيح، وإمّا إنّه غيّر رأيه بكلّ بساطة حول أسس الغائية.

وإذا اعتمدنا الاحتمال الأوّل، فمن الأمور الممكنة أنّ أرسطو لا يحاول، في الواقع، أن (يحاجج) لصالح الغائية على الأساس الذي ورد في الاقتباس السابق من كتابه الطبيعة (Physics ii 8)، واعتبر، عوضًا عن ذلك، أنّ العلل الغائية من المعطيات المسبقة، وحصر نفسه في ملاحظة أنّ الكثير من الظواهر الطبيعية، وخصوصًا: ما يحدث منها دائمًا أو في معظم الأوقات، جديرة بالترشّح لمنزلة قبول التفسير الغائي.

إنّ هذا الأمر يفتح المجال لنوع أوسع من التحفيز للغائية، وربّما من النوع الذي يقدّمه أرسطو في موضع آخر من كتابه (الطبيعة)، عند حديثه حول الحافز للبحث عن ما يفعل فعله في الطبيعة من علل غائية غير معتمدة على القصدية:

«وأوضح ما يكون عليه ذلك في الحيوانات غير الإنسان، إذ تصنع الأشياء دون احتراف أو تحقيق أو تفكير. وهذا، في الحقيقة، مصدر حيرة من يتساءل عن ما إذا كانت هذه الحيوانات تعمل بما يمليه العقل أو أيّة ملكة أخرى، كما هو الحال عند العنكبوت والنمل وما أشبههما. وإذا تقدّمنا في هذا الاتّجاه شيئًا فشيئًا فسيتّضح لنا بأنّه حتّى في النباتات تحدث ميزات مفضية إلى غاية ما، ومثال ذلك الأوراق التي تنمو كي تقدّم الظلّ للثمار. 
وعليه، إذا كانت الطبيعة وخدمة الغاية هي من يجعل السنونو يبني عشّه والعنكبوت تنسج شبكتها، والنباتات تنبت الأوراق من أجل الثمار وترسل جذورها في الأرض لا السماء من أجل التغذية، فمن الواضح أنّ هذا النوع من العلّة يصبح عاملًا في الأشياء التي تكون بالطبيعة والتي هي بالطبيعة كذلك. وبما أنّ الطبيعة مزدوجة التكوين، من مادّة وصورة، فإنّ الصورة هي الغاية، وبما أنّ كلّ الأشياء الأخرى موجودة لخدمة الغاية، فلا بدّ أن الصورة هي العلّة، بمعنى أنّ من أجلها تحدث الأشياء» (Phys. 199a20–32).

وكما يلاحظ أرسطو في هذا المقطع، وهو مصيب تمامًا، نجد أنفسنا نتحدّث بشكل منتظم وسهل بالمصطلحات الغائية عندما نذكر خصائص النباتات والحيوانات غير الإنسان. ولا شكّ في أنّ حديثنا هذا ينسجم مع أنّ كلّ اللغة السهلة المستخدمة في هذه السياقات هي لغة تتّصف بالتراخي والطيش، وذلك لأنّها تعتمد المحورية البشرية بشكل غير مبرّر.

ومع ذلك فإنّنا قد نطالب بأن يجري اختزال حثيث لكلّ لغة مماثلة إلى عبارات غير غائية عندما نرغب بتطبيق الصرامة العلمية والجدّية التجريبية، وإن كنّا نحتاج أوّلًا إلى استقصاء ما نخسره ونربحه جرّاء محاولة القيام بهذا الأمر. ولقد تناول أرسطو ورفض بعض الآراء المعارضة للغائية في كتابيه: الطبيعة (Physics ii 8) والكون والفساد (Generation and Corruption I).[xxii]

10. الجوهر عند أرسطو

ما إن انتهى أرسطو من تقديم مخطّطه التفسيري العلّي الرباعي بشكل كامل، حتّى قام بالاعتماد عليه، فعليًا، في كلّ دراساته الفلسفية الأكثر تقدّمًا. ومن يراقب توظيفه لهذا المخطّط في أطر العمل المتنوّعة يجد أرسطو وهو يقوّي المخطّط ويصقله حتّى في أثناء تطبيقه له، ويصل أحيانًا إلى نتائج مفاجئة. ومن الأسئلة المهمّة في هذا المجال: كيف تتقاطع المادّصورية لديه مع نظرية الجوهر التي وردت سابقًا في سياق نظريته عن (المقولات).

لقد رأينا في ما سبق تشديدًا لأرسطو على صدارة الجوهر الأوّلي في كتابه (المقولات)، لكنّ هذا الكتاب يبرز أمثلة للجوهر الأوّلي ليست سوى كائنات حيّة مألوفة، كسقراط أو حصان ما (Cat. 2A11014). ومع ذلك، فإنّ تقديم المادّصورية يكشف هذه الجواهر الأوّلية على أنّها معقّدات ميتافيزيقية، أي: سقراط باعتباره مركّبًا من مادّة وصورة.

إذن، فنحن الآن أمام ثلاثة مرشحين ممكنين، لا مرشّح واحد، للجوهر الأوّلي، وهم: الصورة، والمادّة، ومركّبهما. وهنا يبرز السؤال: أيّ واحد من بينهم هو الجوهر الأوّلي؟ هل هو المادّة، أم الصورة، أم المركّب؟ إن المركّب يتوافق مع موضوع أساسي في التجربة، ويبدو أنّه ذات أساسية للحمل المنطقي: فنحن نقول بأنّ (سقراط يعيش في أثينا)، وليس (مادّة سقراط تعيش في أثينا).

ومع ذلك، فإنّ المادّة تبطّن المركّب، وبهذا النحو تبدو كذات أكثر أساسية من المركّب، وذلك على الأقلّ من ناحية قدرتها على الوجود قبل وبعد وجود المركّب. ومن الجهة الأخرى، فإنّ المادّة لا تكون شيئًا محدّدًا على الإطلاق إلى أن تأخذ صورتها، ولهذا فقد تكون الصورة، باعتبارها من يحدّد ما هو المركّب، هي التي من يحقّ لها أكثر من غيرها الادّعاء بمنزلة الجوهر.

وفي المقالات الوسطى من كتابه (الميتافيزيقا)، والتي تحتوي بعضًا من أكثر تحقيقاته تعقيدًا واشتغالًا في شأن الموجود الأساسي، يحسم أرسطو أمره باختيار (الصورة) (Met. Vii 17). وهنا يبرز سؤال حول كيفية تلبية الصورة لمعايير أرسطو الغائية في ما يخصّ الجوهر. إنّ أرسطو يتوقّع من الجوهر أن يكون، حسب قوله، شيئًا ما بعينه (tode ti)، لكنّه يضيف إلى ذلك: أن يكون أيضًا شيئًا قابلًا لأنّ يُعرَف، بمعنىً ما.

ويبدو أنّ هذه المعايير تأخذنا في اتّجاهين مختلفين: الاتّجاه الأوّل يفضّل الجواهر المحدّدة، كما أنّ الجواهر الأوّلية في (المقولات) محدّدة؛ والاتّجاه الثاني يفضّل الكلّيات كجواهر، انطلاقًا من كونها الوحيدة التي تقبل المعرفة. ولقد خلص الكثير من العلماء، في خضمّ الجدال المفعم حول هذه المسائل، إلى أنّ أرسطو يتبنّى اتّجاهًا ثالثًا ينطلق فيه، وهو: إنّ الصورة تتّصف بالأمرين معًا، أي: قابلية المعرفة، والتحديد؛ لكنّ هذه النتيجة لا تزال تلاقي انتقادات حادّة جدًّا.[xxiii]

ويمكن القول، بإيجاز شديد ودون الدخول في الجدال الذي أشرنا إليه، بأنّ أرسطو يفضّل الصورة بسبب دورها في التولّد والاستمرار عبر الزمن؛ فعندما يتمّ توليد تمثال، أو عندما يأتي حيوان جديد إلى الوجود، فإنّ هنالك شيئًا ما يستمرّ، وهو تحديدًا: الجوهر، والذي يأتي لتحقيق الصورة الجوهرية المطلوبة. ويشدّد أرسطو على أنّه حتّى في هذه الحالة لا تقوم المادّة بنفسها بتقديم ظروف الهوية للجوهر الجديد؛ ففي المقام الأوّل: رأينا في ما سبق كيف أنّ المادّة ليست سوى صورة ممكنة ما (ص) إلى أن يحين وقت تتحوّل فيه بالحقيقة إلى (ص) عند حضور الصورة (ص).

ويضاف إلى ذلك أنّ المادّة يمكن تغذيتها من جديد، وهذا يجري (بالتأكيد) في حالة كلّ المتعضّيات، ولذلك يبدو أنّها تعتمد على الصورة في ظروف هويتها المستمرّة عبر الزمن. ولهذه الأسباب يعتقد أرسطو بأنّ الصورة سابقة للمادّة، ولذلك فهي أكثر أساسية منها. وهذا النوع من المادّة، أي: المادّة المعتمدة على الصورة، يعتبرها أرسطو (مادّة مقاربة proximate matter) (Met. 1038b6, 1042b10)، ولهذا فهو يوسّع فكرة المادّة إلى ما يتجاوز دورها الأصلي كدعامة ميتافيزيقية.

وبالإضافة لما سبق، يقدّم أرسطو في كتابه (الميتافيزيقا) (Metaphysics vii 17) حجّة تلمّح إلى أنّ المادّة لوحدها لا يمكن أن تكون جوهرًا. ولنفرض هنا أنّ كل أجزاء المادّة المنتمية لسقراط تُسمّى (أ، ب، ج، …، ن)، فيمكن القول بأنّ ممّا ينسجم مع القول بعدم وجود سقراط هو وجود (أ، ب، ج، …، ن)، وذلك لأنّ هذه العناصر موجودة حتّى وإن كانت موزّعة بين الشمس والقمر، لكنّ هذا التوزيع لو حدث لما كان سقراط قادرًا على الاستمرار بالوجود طبعًا. وإذا توجّهنا بالاتّجاه المعاكس، فيمكن لسقراط أن يوجد دون الاقتصار على هذه العناصر، لأنّه قد يستطيع الوجود عندما يجري استبدال أو انعدام أحدها.

ولذلك يشدّد أرسطو على أنّ سقراط، بالإضافة لعناصره المادّية، هو شيء غيرها، وهو أكثر منها (heteron ti; Met. 1041B19–20). وهذا الشيء الأكثر هو (الصورة)، وهو ليس «عنصرًا […] بل علّة أوّلية لكون الشيء ما هو عليه» (Met. 1041B28–30). وإنّ علّة كون الشيء الشيء الحقيقي الذي هو عليه، كما رأينا، هي الصورة. ولهذا يخلص أرسطو إلى أنّ الصورة جوهر لأنّها مصدر للوجود والوحدة.

وحتّى إذا سلّمنا بصحّة كلّ ما ورد إلى هذا الحدّ، ولا بد من التكرار: إنّ الكثير ممّا ورد يكتنفه الخلاف قطعًا، فإنّ الكثير من الأسئلة لا تزال تنتظر الأجوبة، ومنها على سبيل المثال: هل الصورة شاملة أم خاصّة وفقًا لفهمها على الوجه الأفضل؟ ومهما يكن الجواب، فما هي علاقة الصورة بالمركّب وبالمادّة؟ وإذا كانت الصورة جوهرًا فما هو مصير المرشّحين السابقين؟ هل هما جوهر أيضًا ولكن بدرجة أدنى؟ ربّما يبدو من الغريب الاستنتاج بأنّهما ليسا أيّ شيء على الإطلاق، أو بأنّ المركّب خصوصًا ليس أيّ شيء في الحقيقة، ومع ذلك يبقى من الصعب المحاججة بأنّهما قد ينتميان إلى مقولة أخرى غير الجوهر.

ولمن يرغب بالاطّلاع على مقاربة لبعض هذه الأسئلة، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (ميتافيزيقيا أرسطو) في هذه الموسوعة.

11. الكائنات الحيّة

مهما كان الحلّ المقدّم لهذه المسائل وأمثالها، إذا أخذنا بالحسبان أنّ الأولوية هي للصورة باعتبارها مادّة، فليس من المفاجئ أن نجد أرسطو يعرّف النفس، حيث يقدّمها باعتبارها مبدأً أو مصدرًا (archê) للحياة بأجمعها، باعتبارها صورة المركّب الحيّ. وفي الحقيقة، يرى أرسطو بأنّ كلّ الأشياء الحيّة، لا البشر وحسب، لديها أنفس: «ما له نفس يتميّز عن ما ليس له نفس بأنّه يحيا» (DA 431a20–22; cf. DA 412a13, 423a20–6; De Part. An. 687a24–690a10; Met. 1075a16–25). ولهذا فلا بأس في أن نعامل كلّ ذوات الأنفس من الأجسام بالمصطلحات المادّصورية:

«النفس هي علّة الجسم الحيّ ومصدره. لكنّ (العلّة) و(المصدر) يُقصدان بطرق عديدة [أو: هي مشتركات لفظية homonymous]. وعلى النحو ذاته، فإنّ النفس علّة وفقًا للطرق التي رسمناها، وهي ثلاثة: (1) العلّة باعتبارها مصدر الحركة [= العلّة الفاعلية]، (2) وأنّها من أجلها [= العلّة الغائية]، (3) وباعتبارها جوهر الأجسام ذوات الأنفس. أمّا كونها علّة باعتبارها جوهرًا فهو أمر واضح، لأنّ الجوهر علّة وجود كلّ الأشياء، وكلّ الأشياء الحيّة وجودها هو حياتها، والنفس هي أيضًا علّة الحياة ومصدرها» (DA 415b8–14; cf. PN 467b12–25, Phys. 255A56–10). 

إذن، فالنفس والجسم ليسا سوى حالتين خاصّتين للصورة والجوهر (نفس : جسم :: صورة : جوهر :: حقيقة : إمكانية).

ويضاف إلى ما سبق أنّ النفس، باعتبارها هدف المتعضّي المركّب، هي أيضًا العلّة الغائية للجسم. ويمكننا أن نفهم ذلك، بالحدّ الأدنى، على أنّها رؤية مفادها: إنّ أيّ جسم معطى هو الجسم الذي هو عليه لأنّه نُظِّم حول وظيفة تقوم بتوحيد المتعضّي بأكمله. وبحسب هذا المعنى: إنّ وحدة الجسم تأتي من حقيقة مفادها أنّ للجسم غاية واحدة، أو توجّهًا واحدًا في الحياة، وهي حالة ألمّ بها أرسطو من خلال وضعه لميزات الجسم باعتباره نوعًا (عضويًاorganikon) من أنواع المادّة (DA 412a28)، وهو يعني بذلك أنّ الجسم يعمل كأداة (organon) لتطبيق النشاطات الحياتية المميّزة للنوع الذي ينتمي إليه المتعضّي.

وبإجمال ما سبق يمكن القول بأنّ أرسطو يقدّم رؤية مفادها: إنّ النفس هي «التحقّق الأوّل لجسم متعضٍّ طبيعي» (DA 412b5–6)، وأنّ «الجوهر هنا هو صورة جسم طبيعي له إمكانية الحياة» (DA 412a20–1)، وأنّ، مرّة أخرى، «التحقّق الأوّل لجسم طبيعي هو ما له إمكانية الحياة» (DA 412a27–8).

ويحاجج أرسطو بأنّ منهجه المادّصوري يقدم طريقًا وسطًا جذّابًا بين ما يراه انعكاسًا للشطط الذي وقع فيه سابقوه؛ فمن جهة، يرغب أرسطو بنبذ الأنواع الماقبل-سقراطية للمادّية، ومن جهة أخرى يعارض ثنائية أفلاطون. إذ يعترف أرسطو للفلاسفة الذين سبقوا سقراط بالفضل في تحديد العلل المادّية للحياة، لكنّه يخطّئهم لعجزهم عن إدراك العلّة الصورية التي جاء بها. وفي مقابل ذلك يشيد بأفلاطون لإدراكه العلّة الصورية للحياة، لكنّه يأسف لما تلا ذلك من انتقال أفلاطون إلى إهمال العلّة المادّية والاعتقاد بإمكانية وجود النفس دون أساس مادّي. ويرى أرسطو بأنّ المادّصورية تلتقط الصحيح من المعسكرين السابقين مع تحاشي ما فيهما من أحادية بعد لا مبرّر لها؛ فهو يرى بأنّ تفسير المتعضّي الحي يقتضي منّا معالجة المسألة من ناحية المادّة والصورة كليهما.

إنّ أرسطو لا يقتصر في توظيفه التحليل المادّصوري على المتعضّي بأكمله وحسب، بل يطال هذا التوظيف الملكات الفردية للنفس أيضًا. فالإدراك الحسّي يتضمّن استقبال الصور المحسوسة دون مادّة؛ وبموازاة ذلك: يتكوّن التفكير من تصوير الذهن بواسطة صور معقولة. ففي كلّ من هذين الامتدادين يقوم أرسطو بتوسيع واستنزاف طرحه المادّصوري الأساسي، ممّا يؤدّي في بعض الحالات إلى إرهاق الإطار الرئيسي لعمله إلى حدّ يكاد يعرّضه لتشويه كبير.

ولمن يرغب بتفاصيل أوفى حول المادّصورية عند أرسطو في التفسير النفساني، يمكن الرجوع إلى مدخل (علم النفس عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

12. السعادة والتنظيم السياسي

إنّ إطار العمل الغائي الأساسي عند أرسطو يتّسع ليشمل نظرياته الأخلاقية والسياسية، والتي يعتبرها تكمّل بعضها بعضًا؛ فيرى بأنّ من المسلّمات أن يأمل الناس بعيش حياة طيّبة؛ ولهذا يصبح السؤال: ممّ تتكوّن الحياة الأفضل للإنسان؟ وبما أنّ أرسطو يعتقد بأنّ الحياة الأفضل للإنسان ليست مسألة تفضيل شخصي، فإنّه يعتقد أيضًا بأنّ الناس يمكنهم أن يختاروا عيش حياة أدنى مستوى من الحياة المثلى (وهو ما يحدث كثيرًا، مع الأسف). ولتفادي أمثال هذه الاحتمالية التعيسة، ينصح أرسطو بالتفكّر في المعايير التي يجب أن يلبّيها أيّ مرشّح يرغب بالنجاح في تحقيق الحياة المثلى، وينتقل أرسطو بعد ذلك إلى اقتراح نوع واحد من الحياة يلبّي المعايير المطلوبة، وبالتالي فهو يروّج لهذا النوع باعتباره الشكل الأسمى لحياة الإنسان، وهو: العيش وفقًا لما يرتئيه العقل.

وعندما يذكر أرسطو المعايير العامّة للخير النهائي للبشر، فإنّه يدعو القارئ إلى مراجعة هذه المعايير (EN 1094a22–27). وهو أمر يُنصَح به، لأنّ جزءًا كبيرًا من العمل في الانتقاء من بين الحيوات المرشّحة يجري إنجازه في الحقيقة خلال المهمّة ذات المستوى الأعلى لتحديد المعايير المناسبة للانتقاء؛ فما إن توضع هذه المعايير حتّى يصبح من الممكن لأرسطو أن يرفض بشكل مباشر نسبيًا بعض الحيوات المنافسة، بما فيها، مثلًا، حياة اللذّة.

ووفقًا للمعايير التي أسلفنا الحديث عنها، لا بدّ للخير الأسمى للإنسان أن يحقّق الشروط الآتية:

  1. أن يسعى إليه المرء لذاته (EN 1094a1).
  2. ان يكون بحيث يرغب المرء بالأشياء الأخرى من أجله (EN 1094a19).
  3. أن يكون بحيث لا نرغب به من أجل شيء آخر (EN 1094a21).
  4. ان يكون غاية كاملة (teleion)، بمعنى أن يكون جديرًا بالاختيار دائمًا، وأن يختار لذاته دائمًا (EN 1097a26–33).
  5. أن يكون مكتفيًا بذاته (autarkês)، أي: أن يكون حضوره كافيًا لاكتفاء حياته من كلّ النواحي (EN 1097b6–16).

ومن الواضح أنّ بعض الأنواع المرشّحة للحياة المثلى تقصر عن تلبية هذه المعايير؛ إذ يرى أرسطو بأنّ حياة اللذّة وحياة الوجاهة تقصران كلاهما عن تلبية هذه الشروط بتمامها.

إنّ ما يلبّي هذه الشروط جميعًا هو السعادة (eudaimonia)؛ والخبراء يختلفون حول ما إذا كانت الترجمة الأفضل لهذه الكلمة هي (السعادة) أو (الازدهار) أو (الحياة الطيّبة) أو الاكتفاء بمجرّد تركها بلفظها اليوناني القديم (يودايمونيا) والتعامل معها كمصطلح تقني غير مترجم.[xxiv] وإذا اتّخذنا قرارًا نهائيًا بأنّ (السعادة) هي نوع من أنواع الحالات الذاتية، وربّما ليست سوى إرضاء للشهوات، فلن تكون هذه الكلمة مناسبة للترجمة مطلقًا: إذ يرى أرسطو بأنّ اليودايمونيا تتحقّق عند التحقّق الكامل لطبيعة المرء، أي: بتحقّق الدرجة الأعلى لقدراتنا البشرية، وهذان كلاهما (طبيعة المرء وتمتّعه بالقدرات البشرية) لا ينتجان عن الاختيار.

ومع ذلك، فإنّ أرسطو يعترف بصراحة بأنّ الناس لن يتردّدوا في إبداء موافقتهم على الاقتراح بأنّ السعادة هي الخير الأسمى للإنسان، حتّى وإن كانوا يختلفون اختلافًا كبيرًا في كيفية فهمهم للسعادة. ولهذا، فعلى الرغم من الموافقة الظاهرية للناس فإنّهم يختلفون في الواقع على الخير البشري؛ وهذا يجعل من الضروري أن نتفكّر في طبيعة السعادة (اليودايمونيا)، فيقول أرسطو:

«لكن ربّما سيبدو قولنا بأنّ الخير الأسمى هو السعادة (eudaimonia) مجرّد عبارة مبتذلة وأنّنا بحاجة إلى تبيين معناها بعبارة أوضح بكثير. وربّما يمكننا القيام بذلك من خلال تعريف وظيفة (ergon) الإنسان؛ فكما أنّ الإجادة، أو الإتقان، عند عازف الناي والنحّات، وعند كلّ أصحاب الحرف، وبشكل عامّ: عند كلّ من له وظيفة ونشاط مميّز، يبدو أنّها تعتمد على الوظيفة، يبدو لذلك أنّه يصحّ قول الشيء نفسه عن الإنسان، وذلك إذا كان للإنسان وظيفة حقًّا. 
أو: هل يمكن أن يكون للنجّار والإسكافي وظيفيتاهما وليس للإنسان ما يماثلهما فيكون معتازًا للوظيفة (argon) بطبيعته؟ أو، في المقابل، كما أنّه يبدو أنّ هنالك وظيفة محدّدة للعين وأخرى لليد وغيرها لكلّ جزء من أجزاء البدن البشري عمومًا، أفلا يمكن للمرء أن يفترض وجود وظيفة محدّدة للإنسان تضاف إلى ما أسلفناه؟ وماذا يمكن أن تكون هذه الوظيفة؟ فالعيش تشترك فيه حتّى النباتات، أمّا ما نحتاجه فهو ميزة ما (idion)، ولذلك يجب أن نغضّ الطرف عن حياة التغذية والنموّ. ويليها نوع من أنواع حياة الإدراك الحسّي، ولكنّها مشتركة أيضًا، إذ نجدها عند الحصان والثور وكلّ الحيوانات. ولذلك لا يبقى أمامنا سوى حياة الفعل التي تعيشها نفس عاقلة» (EN 1097b22–1098a4). 

وهنا نجد أرسطو يحدّد مكوّنات اليودايمونيا من خلال اللجوء بشكل حاسم إلى الوظيفة الإنسانية (ergon)، وبهذا فهو يلجأ إلى إطار العمل الغائي الواسع الذي وضعه هو.

إنّ أرسطو يعتقد بقدرته على تعريف الوظيفة الإنسانية بواسطة العقل، وهذا يقدّم أساسًا رحبًا لتحديد خصائص الحياة السعيدة باعتبارها متمحورة حول إعمال العقل، سواء كان ذلك من الناحية العملية أو النظرية؛ ليتبيّن أن السعادة نشاط للنفس العقلانية، يجري بالتوافق مع الفضيلة أو الامتياز، أو (وهو لا يختلف مع ما سبق في نهاية المطاف) النشاط العقلاني المنفَّذ بشكل ممتاز (EN 1098a161–17).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الكلمة التي يستخدمها أرسطو للفضيلة (aretê) تحمل معنى أوسع من المعنى المهيمن للكلمة الإنگليزية (virtue)، وذلك لأنّها تضمّ كلّ أنواع الامتياز، ولهذا فهي تتضمّن الفضائل الأخلاقية وتتجاوزها إلى مدىً أبعد. ولهذا فعندما يقول أرسطو بأنّ السعادة تتكوّن من نشاط «يتوافق مع الفضيلة» (kat’ aretên; EN 1098a18) فهو يعني أنّها نوع من النشاط الممتاز، وليس مجرّد نشاط فاضل أخلاقيًا.

إن الاقتراح بأنّ النشاط العقلاني المنفَّذ بشكل (ممتاز) أو (فاضل) يشكّل السعادة الإنسانية إنّما يقدّم لنا الحافز الذي يقف خلف الأخلاق الفاضلة عند أرسطو. ومن المثير للانتباه أنّ أرسطو يصرّ أوّلًا على أنّ الحياة الطيّبة هي حياة فعل، وليس هنالك (حالة) كافية، لأنّنا نلقى الثناء والمديح عندما نحيا حياة طيّبة، وهذا الثناء والمدح لا يستحقّه المرء إلّا مقابل ما يفعله هو (EN 1105b20–1106a13). وعلاوة على ذلك، إذا أخذنا بالحسبان أنّ مجرّد الفعل غير كافٍ وأنّ المطلوب هو الفعل الممتاز أو الفاضل، فسيتحمّل المنظّر الأخلاقي مهمّة تحديد ما تتكوّن منه الفضيلة أو الامتياز في ما يتعلّق بالفضائل البشرية الفردية، بما فيها، مثلًا: الشجاعة والذكاء العملي.

وهذا يفسّر تخصيص جزء كبير من كتابات أرسطو الأخلاقية للبحث في الفضيلة، عمومًا وخصوصًا، وتوسيعها لتشمل أشكالًا عملية ونظرية.

ولمن يرغب بالمزيد من الاطّلاع على الأخلاق القائمة على الفضيلة عند أرسطو، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (الأخلاق عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

ويخلص أرسطو في نقاشه للسعادة الإنسانية في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) إلى تقديم النظرية السياسية كاستمرار واستكمال للنظرية الأخلاقية؛ فالنظرية الأخلاقية تميّز أفضل أشكال الحياة البشرية، والنظرية السياسية تميّز أفضل ما يناسب تحقيق هذه الحياة من أشكال التنظيم الاجتماعي (EN 1181b12–23).

ويرى أرسطو بأنّ الوحدة السياسية الأساسية هي الدولة المدينية (polis)، وهي تجمع أمرين في الوقت نفسه: (الدولة) بمعناها كاحتكارية تمارس السلطة، و(المجتمع المدني) بمعناه كسلسلة من الجمعيات المنظّمة ذات مصالح تتلاقى بدرجات متغايرة.

وتختلف النظرية السياسية الأرسطية عن بعض النظريات الليبرتارية التي ظهرت في ما بعد باختلاف ملحوظ، وهو أنّها لا تعتقد بأنّ الدولة المدينية تتطلّب ما يبرّر كونها جسمًا يهدّد بانتهاك حقوق الإنسان القائمة والسابقة لظهورها، إذ يقدّم أرسطو عوضًا عن ذلك شكل من أشكال الطبيعانية السياسية (political naturalism) التي تتعامل مع البشر باعتبارهم حيوانات سياسية بالطبيعة، وليس بالاقتصار على المعنى الضعيف لها والذي يعتبر البشر ميّالين إلى التنظيم، ولا حتّى بالمعنى الذي ينحصر بمجرّد انتفاعهم من التبادل التجاري، ولكن وفقًا للمعنى القويّ الذي يتلخّص في أنّهم عاجزون عن الازدهار مطلقًا (إلّا) في ظلّ إطار عمل الدولة المدينية، والتي «تظهر في الوجود من أجل العيش، لكنّها تستمرّ في الوجود من أجل العيش الجيّد» (Pol. 1252b29–30; cf. 1253a31–37).

وعلى هذا الأساس ينبغي الحكم على الدولة المدينية وفقًا لمعيار تحقيق هدف تعزيز السعادة البشرية؛ فكلّما تسامى شكل التنظيم السياسي أدّى إلى تحسين الحياة البشرية، وكلّما تدانى أعاقها وأوقفها.

ولهذا يمكن أن نصوغ أحد الأسئلة الكبرى التي سعى أرسطو للإجابة عليها في كتابه (السياسة) على النحو التالي: ما هو نوع الترتيب السياسي الأمثل لتلبية هدف تنمية الازدهار البشري وتقويته؟ وللإجابة يتناول أرسطو ما يكفي من الأشكال المختلفة للتنظيم السياسي، وينحّي معظمها جانبًا باعتبارها تضرّ بهدف السعادة البشرية؛ وعلى سبيل المثال: إذا أخذنا بالحسبان إطار العمل الوسيع الذي قدّمه، فليس من الصعب عليه أن يرفض أيّ نوع من أنواع التعاقدية على أساس أنّها عندما تتعامل مع أشكال النشاط السياسي التي هي في الحقيقة تشكّل جزءًا من الازدهار البشري فإنّها لا ترى فيها سوى أدوات (Pol. iii 9).

وعندما يفكّر أرسطو بالأنواع الممكنة للتنظيم السياسي فإنّه يعتمد على الملاحظات البنيوية بأنّ الحكم قد يكون في يد حاكم واحد أو عدد قليل أو كثير من الحاكمين، وأنّ شكل الحكم المتّبع قد يكون شرعيًا أو غير شرعي، وفقًا للمدى الذي يصل إليه في تلبية معيار هدف تعزيز الازدهار البشري (Pol. 1279a26–31). وإذا أخذنا هذه العوامل مجتمعة فإنّها تعطينا ستّة أشكال مختلفة للحكومة، ثلاثة منها صائبة وثلاثة منحرفة، وهي:

                                  صائبة                              منحرفة

حاكم واحد                     ملكية                              استبداد

القليل من الحاكمين             أرستقراطية                          أوليگاركية

الكثير من الحاكمين             الحكومة المدينية                     ديمقراطية

ويكمن الفرق بين الصواب والانحراف في هذا التمييز بما للشكل المعني من قدرة على تحقيق الوظيفة الأساسية للدولة المدينية، وهي: العيش بشكل جيّد. وبما أنّنا نعتزّ بالسعادة البشرية، فيجب علينا أن نشدّد، وفقًا لأرسطو، على تفضيل أشكال التنظيم السياسي التي تناسب هذا الهدف على النحو الأمثل.

ويشدّد أرسطو على أنّ من الضروري لتحقيق غاية تحسين الازدهار البشري صيانة مستوى مناسب من العدالة التوزيعية؛ وهو يعتمد على هذا الأساس في وصوله إلى تصنيفه للحكومات بين جيّدة وسيّئة بأن يدخل في جزء من حساباته اعتبارات العدالة التوزيعية؛ فهو يرى، وعلى نحو يتوازى بشكل مباشر مع موقفه من اليودايمونيا، بأنّ الجميع سيجدون من السهل الاتّفاق على الاقتراح بأنّ علينا أن نفضّل الدولة العادلة على الدولة الظالمة، وحتّى على الاقتراح الشكلي بأنّ توزيع العدالة يقتضي التعامل مع المطالب المتساوية على نحو متشابه ومع المطالب اللامتساوية على نحو غير متشابه.

ومع ذلك، فإنّ الناس سيختلفون هنا أيضًا حول ما يشكّل المطلب المتساوي وغير المتساوي، أو بشكل أعمّ: حول الشخص المتساوي وغير المتساوي؛ فأنصار الديمقراطية سيفترضون أنّ كلّ المواطنين متساوون، بينما سيصرّ الأرستقراطي على أنّه من الواضح تمامًا أنّ المواطنين الأفضل في رتبة أعلى من المواطنين الأدنى منهم؛ وبموجب هذه الآراء، سيتوقّع الديمقراطي من القيد الشكلي للعدالة أن ينتج توزيعًا متساويًا للجميع، بينما سيسلّم الأرستقراطي بأنّ المواطنين الأفضل مخوّلون بأشياء أكثر من المواطنين الأسوأ.

ويفرز أرسطو هذه المطالب بالاعتماد على تفسيره الخاصّ للعدالة التوزيعية كما قدّمه في كتابه الأخلاق النيقوماخية (Nicomachean Ethics v 3)، وهو تفسير يتجذّر فيه نظام الجدارة (Meritocracy)؛ وبموجبه يستهين أرسطو بالأوليگاركيين، والذين يفترضون بأنّ العدالة تقتضي مطالب تفضيلية للأغنياء، لكنّه يستهين بالديمقراطيين أيضًا، والذين يحاججون بأنّ الدولة يجب عليها أن تقوّي الحرّية على امتداد المواطنين دون تفريق بينهم بحسب الجدارة؛ ويرى أرسطو بأنّ الدولة المدينية المثلى لا تقوم بأيٍّ من الوظيفتين: فهدفها هو تحسين الازدهار البشري، وهي غاية أفضل ما يمكن للحرّية أن تقدّمه لها هو أن تؤدّي فيها دور الوسيلة، فالحرّية ليست شيئًا ينبغي السعي إليه لذاته.

ومع ذلك، يجب علينا أن ننظر بعين واقعية إلى ما يمكن للبشر فعله حقًّا إذا أخذنا بالحسبان ما لهم من ميول استحواذية عميقة مترسّخة، إذ نخلص بعدها إلى أنّ الديمقراطية، وعلى الرغم من انحرافها، قد تؤدّي مع ذلك دورًا مركزيًا في ذلك النوع من الدستور المختلط الذي ينبثق عن أفضل شكل متاح للتنظيم السياسي. وعلى الرغم من أنّها أدنى شأنًا من الحكومة المدينية (حكم الكثرة في خدمة هدف الازدهار البشري)، وأدنى شأنًا من الأرستقراطية (وهي حكومة الأشخاص الأفضل الذين يكرّسون جهودهم لهدف الازدهار البشري أيضًا، وقد جاء المصطلح من الكلمة اليونانية التي تعني الأفضل aristoi)، فإنّ الديمقراطية، باعتبارها الأفضل ضمن الأشكال المنحرفة للحكومة، قد تكون هي أيضًا أفضل ما يمكن أن نأمل بإنجازه على أرض الواقع.

ولمن يرغب بمناقشة معمّقة حول النظرية السياسية عند أرسطو، بما فيها الطبيعانية السياسية عنده، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (نظرية أرسطو السياسية) في هذه الموسوعة [والمترجم في مجلة حكمة].

13. الخطابة والفنون لأرسطو

يرى أرسطو بأنّ الخطابة والفنون تنتمي للعلوم الفعلية؛ وهذا التصنيف يختلف عن تصنيف (العلوم العملية) الذي تنتمي إليه الأخلاق والسياسة، والتي تهتمّ بالأداء البشري، ويختلف أيضًا عن تصنيف (العلوم النظرية)، والتي تهدف إلى الحقيقة من أجل ذاتها. وبما أنّ العلوم الفعلية تهتمّ بخلق المنتجات البشرية وفقًا لفهمها الواسع، فإنّها تتضمّن نشاطات ذات منتجات واضح أنّها من صنع البشر، كالسفن أو المباني، لكنّها تشمل أيضًا الزراعة والطبّ، بل يزداد غموض هذا التصنيف ليشمل حتّى الخطابة، والتي تهدف إلى إنتاج خطاب مقنع (Rhet. 1355b26; cf. Top. 149B5)، وفنّ المأساة، والتي تهدف إلى إنتاج دراما تثقيفية (Poet. 1448B16–17).

وإذا أخذنا بالحسبان أنّ أرسطو يقارب كلّ هذه النشاطات ضمن السياق الأوسع لإطار عمله التفسيري المستند إلى الغائية، فعندها قد نتمكّن من وضع حدود واضحة للبعض، على الأقلّ، من الصعوبات التفسيرية التي ثار حولها الكثير من الجدل في ما يخصّ كتاباته في هذا المجال، ولا سيّما كتابه (فنّ الشعر).

ويتمحور أحد هذه الخلافات على مسألة ما إذا كان كتاباه (فنّ الخطابة) و(فنّ الشعر) في الأساس كتابين وصفيّين أو توجيهيّين.[xxv] وإذا كانا توجيهيّين فقد يتساءل المرء، بالنظر للمدى الذي يصلان إليه في توجيهيّتهما، عن ما إذا كان أرسطو قد افترض في هاتين الرسالتين أنّه يملي على أشخاص بمنزلة سوفوكليس ويوريپيديس السبيل الأمثل لتأدية مهاراتهما.

ويبدو أن أرسطو قد افترض ذلك فعلًا، لكن إلى مدىً معين (وحصرًا: إلى مدىً معيّن)؛ فمن الواضح أنّ هنالك، على الأقلّ، عناصر توجيهية في كلا النصّين، لكنّه لم يتوصّل إلى توجيهاته كحكم ماقبلي، بل من الواضح أنّ أرسطو قد جمع أفضل ما وقعت عليه يداه من النصوص المعتمدة في الخطابة وفنّ المأساة، فدرسها ليميّز ما فيها من خاصّيات متفاوتة في النجاح، وكان يهدف في عمله هذا إلى التقاط وقوننة الأفضل في كلّ من الممارسة الخطابية وفنّ المأساة، وذلك في ما يخصّ الهدف الإنتاجي المناسب لكلٍّ منهما.

إنّ الهدف العامّ للخطابة واضح؛ إذ يقول أرسطو بأنّ الخطابة هي «القدرة على أن تجد السبيل الأفضل للإقناع في كلّ حالة من الحالات» (Rhet. 1355B26). لكنّ اختلاف السياق يقتضي اختلاف التقنية المستعملة، ولهذا يقترح أرسطو أنّ الخطيب يجد نفسه في العادة في واحد من ثلاثة سياقات يكون فيها للإقناع أهميّة عظمى: مشوري (Rhet. i 4–8)، وتثبيتي (Rhet. i 9)، وقضائي (Rhet. I 10–14).

وفي كلّ واحد من هذه السياقات الثلاثة هنالك في متناول المتكلّم ثلاثة سبل رئيسية للإقناع: شخصية المتكلّم، والبنية العاطفية للمستمعين، والحجّة العامّة (logos) للخطاب نفسه (Rhet. i 3). ولهذا فإنّ فنّ الخطابة يبحث في تقنيات الإقناع في ما يخصّ كلّ من هذه المجالات.

ولقد أكثر أرسطو في مناقشته لهذه التقنيات من الاعتماد على المواضيع التي تعامل معها في كتاباته المنطقية والأخلاقية والنفسانية؛ ولهذا فإنّ (فنّ الخطابة) يسلّط الضوء على ما كتبه أرسطو في هذه المجالات التي تعدّ نظرية بالمقارنة، وذلك لأنّه طوّر فيه ما طرحه من مواضيع بطريقة ملموسة بعد أن تعامل معها في كتاباته الأخرى بطرق مجرّدة.

وعلى سبيل المثال: بما أنّ حصيلة الخطاب المقنع الناجح تنبّهنا للحالة العاطفية للمستمعين حين إلقاء الخطاب، فإنّ كتاب أرسطو (فنّ الخطابة) يحتوي بعض أكثر معالجاته للعواطف دقّة وتحديدًا. وإذا توجّهنا إلى جهة أخرى، فستكشف لنا القراءة المعمّقة لفنّ الخطابة أنّ أرسطو يتعامل مع فنّ الإقناع بشكل قريب جدًّا من تعامله مع الجدل (راجع القسم 4. 3. أعلاه).

فالخطابة، كما هو الجدل، تتعامل بتقنيات لا تعدّ علمية بالمعنى الضيق للكلمة (راجع القسم 4. 2. أعلاه)، وعلى الرغم من أنّ هدفها هو الإقناع فإنّها تصل إليه على النحو الأمثل إذا اعترفت بأنّ الناس بطبعهم يقتنعون بالدليل والحجّة المتينة (Rhet. 1354a1, 1356a25, 1356a30). وعليه، فإنّ الخطابة، كما هو الجدل أيضًا، يبدأ بمسلّمات (endoxa) على الرغم من أنّها قد تكون من نوع شعبي وليس من النوع الذي صادق عليه الحكماء فعلًا (Top. 100a29–35; 104a8–20; Rhet. 1356B34). وفي النهاية، ينتقل الخطاب من هذه الآراء إلى استنتاجات يفهم المستمعون أنّها واجبة الاتّباع بموجب الأنماط المتينة للاستنتاج (Rhet. 1354a12–18, 1355a5–21). ولهذا السبب أيضًا يُنصَح الخطيب بأن يفهم أنماط الاستدلال عند الإنسان.

ولمن يرغب بالاستزادة حول فنّ الخطابة عند أرسطو، يمكنه الرجوع إلى المدخل المعنون (فنّ الخطابة عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

إنّ (فنّ الخطابة) بتسليطه الضوء على تقنيات الخطاب الناجح وصقلها، يعدّ كتابًا توجيهيًا بشكل صريح، لكن بالاقتصار على ما يخصّ تحقيق هدف الإقناع، فهو لا يختار هدفًا خاصًّا به ولا يملي، بأيّ شكل من الأشكال، غاية للخطاب المقنع، بل إنّ هذه الغاية تمليها طبيعة هذه المهارة نفسها. وعلى هذا الأساس، فإنّ (فنّ الخطابة) يماثل (الأخلاق النيقوماخية) و(فنّ السياسة) في حمله للختم الأرسطي المتمثّل بالغائية الواسعة الشاملة.

ويمكننا أن نخرج بالحكم نفسه على (فنّ الشعر)، لكنّ الغاية في هذه الحالة لم يُعبَّر عنها بسلاسة أو بشكل لا خلاف عليه؛ فكثيرًا ما يُفترَض بأن هدف فنّ المأساة هو التطهير (catharsis)، أي: تنقية العواطف التي تثيرها مشاهدة تمثيل فنّ المأساة أو التخلّص منها. لكنّ هذا التفسير الذي ورد على لسان أرسطو نفسه في كتابه (فنّ الشعر)، وعلى الرغم من شيوعه، يظلّ تفسيرًا غير حاسم في أحسن حالاته؛ إذ يدّعي أرسطو في تعريفه العامّ لفنّ المأساة:

«إذن، فنّ المأساة هو محاكاة لفعل جدّي ومكتمل، وفيه شيء من العظمة. وهو يحكي ذلك الفعل بالكلمات مزوّقة محبّبة، ينتمي كلّ نوع منها إلى جزء مختلف من أجزاء العمل الفنّي. وهو يحكي أفعال الناس من خلال التمثيل دون الاعتماد على السرد. وهو ينجز، من خلال مشاعر الأسى والخوف، التطهير الذي يحدثه هذا النوع من المشاعر» (Poet. 1449b21–29).

وعلى الرغم ممّا لا يعدّ ولا يحصى من آراء العلماء الذين قدّموا فنّ المأساة عند أرسطو على أنّه (من أجل التطهير)، فإنّ أرسطو نفسه أكثر دقّة في التعبير عن مراده؛ فهو يحاجج بأنّ فنّ المأساة يحدث التطهير أو ينجزه، لكنّه في الوقت نفسه لا يستخدم في التعبير عن رأيه هذا لغة توحي بوضوح بأنّ التطهير بحدّ ذاته وظيفة لفنّ المأساة. وعـــلى سبيل التشبيه: إنّ سرعة شفرة خلّاط الطعام الجيّد ستنجز سرعة (36,000 دورة/دقيقة) لكنّ هذه ليست وظيفتها، بل إنّها تنجز هذه السرعة خدمةً لوظيفتها، والتي هي (الخلط).

وعلى نحو مشابه، يمكن القول وفقًا لمقاربة ما أنّ فنّ المأساة ينجز التطهير، لكنّ ذلك ليس لأنّ وظيفته هي التطهير، وذلك حتّى وإن كان من صلب أدائه لوظيفته أن ينجز التطهير، لأنّ من صلب أدائه لوظيفته أيضًا، وعلى المستوى ذاته من الأهمّية، أن يستخدم المحاكاة (mimêsis)، وأن يستخدمها من خلال الكلمات المقرونات بالمزوّقات المحبّبة (تحديدًا: الإيقاع، والتناغم، والغناء) (Poet. 1447b27).

وممّا يؤسف له أنّ أرسطو لا يعتمد الصراحة الكاملة في مسألة وظيفة فنّ المأساة؛ ومن المؤشّرات التي يستدلّ بها على موقفه هو ما ورد في مقطع يفرّق فيه بين فنّ المأساة وكتابة التاريخ: «لا يكمن الفرق بين الشاعر والمؤرّخ في أنّ أحدهما يراعي أوزان العروض في كتابته بينما يهملها الآخر؛ فمن الممكن أن تُعاد كتابة مؤلّفات هيرودوتوس بالوزن العروضي دون أن ينقص ذلك من مكانتها كمؤلّفات تاريخية، سواء كتبت شعرًا أو نثرًا؛ إنّما يكمن الفرق في أنّ أحدهم يتحدث عن ما حدث، والآخر يتحدّث عن ما ربّما حدث. وعليه، فالشعر أكثر تفلسفًا وأهمّية من التاريخ. والشاعر يتحدّث عن الشموليات أكثر من المؤرّخ الذي يتحدّث عن الخصوصيات. والشمولية تعني أن يتصرّف المرء أو يتكلّم، بحكم الاحتمال أو الضرورة، على نحو ما عندما يتغيّر مسار الأمور؛ وهذا هو ما يسعى خلفه الشاعر وإن كان يضع أسماء محدّدة للأوضاع التي يذكرها» (Poet. 1451a38–1451b10).

إنّ تخصيص أرسطو للشعر بأنّه أكثر تفلسفًا وشمولًا وأهميّةً من التاريخ هو إشادة بالشعراء لما لهم من قدرة على تقييم الميزات العميقة لشخصية الإنسان، وتحليل الطرق التي يتعامل بها الحظّ مع الإنسان ويختبر شخصيته، وعرض الكيفية التي تتزايد بها نقاط ضعف الإنسان في ظروف غير عادية. لكنّ التفكّر بالشخصية ليس في أساسه لأهدافه الترفيه، إذ ينظر أرسطو، بشكل عام، إلى هدف فنّ المأساة بمنظور فكري واسع، فيعتقد بأنّ وظيفة فنّ المأساة هو «التعلّم، أي: التوصّل إلى معرفة كلّ شيء» (Poet. 1448b16–17)؛ إذن، يرى أرسطو بأنّ فنّ المأساة يعلّمنا بشأن أنفسنا.

يتبيّن لنا بلا شكّ، بناءً على ما سبق، أنّ التطهير مفهوم أساسي في كتاب (فنّ الشعر)، وأنّه مفهوم أدّى، بالترافق مع المحاكاة (mimêsis) إلى إثارة جدل هائل.[xxvi] وتتمحور أوجه الخلاف حول ثلاثة محاور للتفسير: (موضوع) التطهير، و(مادّته)، و(طبيعته). ولإيضاح المقصود بهذه المحاور، نقول: وفقًا للفهم البسيط للتطهير، وقد يكون فهمًا صائبًا بالرغم من بساطته، يخضع المستمعون (موضوع التطهير) للتطهير عندما يُخلَّصون (طبيعة التطهير) من عواطف الأسى والخوف عندهم (مادّة التطهير).

ولقد استخدم العلماء هذه الإمكانيات الثلاثة لإنتاج تفسيرات متنوّعة، ومنها: أنّ الممثّلين في فنّ المأساة، أو حبكتها، هم (مواضيع) التطهير، وأنّ ما يحدث من تنقية هو أمر إدراكي أو بنيوي وليس عاطفيًا، وأنّ التطهير تنقية وليس تخليصًا. ولتبيين التضادّ الأخير، نقول: إنّ الأمر يشابه لما يحدث بتنقية الدم من الموادّ غير المرغوبة، فهو يختلف عن تخليص الجسم من الدم بالفصد، وعليه فقد ننقّي عواطفنا بتنظيفها ممّا بها من عناصر غير صحّية، وذلك عوضًا عن تخليص أنفسنا من هذه العواطف بإزالتها كلِّيًّا. والفرق كبير بين الأمرين، وذلك لأنّ العواطف وفقًا لأحدهما تُعتَبر هدّامة بذاتها ولذلك يجب التخلّص منها، بينما تُعتبَر وفقًا للثاني سليمة تمامًا وإن كان من الممكن تحسينها بالتنقية، كما في الحالات النفسانية الأخرى. وهذه الخلافات لا يمكن حسمها بشكل قاطع بالاعتماد على مجرّد السياق المباشر في كتاب (فنّ الشعر).

ولقد تكلّم أرسطو أكثر عن المفهوم الرئيسي الثاني (أي: المحاكاة) في كتابه (فنّ الشعر). وعلى الرغم من أنّ هذه المفهوم أقلّ إثارةً للخلاف من مفهوم (التطهير)، فإنّ فهم أرسطو له قد أثار الجدل أيضًا.[xxvii] إذ يعتقد أرسطو بأنّ المحاكاة من الميول البشرية العميقة، وهو يحاجج بأنّها (طبيعية)، كما هو حال التنظيم السياسي؛ فالإنسان يمارس المحاكاة منذ الصغر، فنجدها في تعلّم اللغة من خلال تقليد من يتكلّمها بطلاقة، وتستمرّ حتّى مرحلة لاحقة من العمر حين يبدأ الإنسان باكتساب شخصيّته عبر الاقتداء بالآخرين؛ فالإنسان بهذين الطريقين يمارس المحاكاة لأنّه يتعلم وينمو بفضلها، والتعلّم عند الإنسان أمر طبيعي وممتع في آن واحد (Poet. 1148B4–24).

وهذا الميل ذاته هو الذي يقودنا نحو ممارسة الدراما، وإن كان في هذه الحالة أكثر تفصيلًا وتعقيدًا؛ فعندما ننخرط في أشكال أكثر تقدّمًا للمحاكاة، تؤدّي المحاكاة إلى (التمثيل) و(التجسيد)، حيث يجب أن لا تُعتبَر هذه الممارسة محاولة لـ(استنساخ) أيّ أحد أو أيّ شيء بأيّ معنى ضيق من معاني الاستنساخ، وذلك لأنّ فنّ المأساة لا يبتغي مجرّد استنساخ هذه الحالة أو تلك، بل، وكما لاحظنا من قبل في تمييز أرسطو بين التاريخ وفنّ المأساة، أن تتحدّث عن ما قد يكون، وأن تتناول مواضيع شاملة على نحو فلسفي، وأن تنوّر المستمعين من خلال تجسيدها. ولهذا، فإنّ المحاكاة، وإن كانت في أصلها عملية تقليد بسيطة، تنمو عند خدمتها لأهداف فنّ المأساة لتصبح أكثر تعقيدًا وقوّة، لا سيّما على أيدي الشعراء القادرين على توظيفها بنجاح.

14. تراث أرسطو

من الصعب عدم المبالغة في أهمّية التأثير الذي تركه أرسطو؛ فبعد وفاته استمرّت مدرسته (اللوقيون) لمدّة من الزمن لا يمكن تحديدها بدقّة، لكن يبدو أنّ كتاباته غابت عن التداول في القرن الذي تلا وفاته، ثمّ ظهرت مرّة أخرى في القرن الميلادي الأوّل، لتبدأ بعدها بالانتشار على نطاق ضيّق في أوّل الأمر، ثمّ اتّسع انتشارها أكثر من ذلك بكثير في ما بعد، وانتهى بها المطاف كمرتكز للفلسفة لحوالي سبعة قرون من الفلسفة من خلال ما اعتاده الفلاسفة من كتابة الشروح عليها، فجاء معظم فلسفة هذه القرون السبعة من خلال إطار عمل أرسطي واسع. ولقد أدّت فلسفة أرسطو دورًا عظيمًا، وإن كان ثانويًا، في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة لأفلوطين وفرفوريوس.

وبعد ذلك، في الحقبة الممتدّة من القرن السادس حتّى نهاية القرن الثاني عشر، وعلى الرغم من أنّ القسم الأكبر من النصوص الأرسطية قد ضاع في الغرب، فلقد تلقّت هذه النصوص عناية مكثّفة من الفلسفة البيزنطية، والفلسفة العربية، حيث بلغ أرسطو من المكانة المرموقة حدًّا جعلته يُعرَف باسم (المعلّم الأوّل) دون الحاجة إلى ذكر اسمه (راجع المدخل المتعلّق بتأثير الفلسفة العربية والإسلامية على الغرب اللاتيني في هذه الموسوعة). وضمن هذه الحقبة ظهرت الشروح التوضيحية المتينة المتميّزة التي فسّر بها ابن سينا وابن رشد آراء أرسطو وطوّراها على نحو مبهر؛ ولقد كان لهذه الشروح تأثير فائق في التقبّل الأوّلي للنصوص الأرسطية عند الغرب اللاتيني في القرن الثاني عشر.

ومن بين أعظم المفسّرين الذين شرحوا نصوص أرسطو في أوائل حقبة إعادة تقديمه للغرب: ألبرتوس ماگنوس، ثمّ تلميذه توما الأكويني الذي تفوّق على كلّ من ظهر من المفسّرين في هذه الحقبة، وقد سعى للتوفيق بين فلسفة أرسطو والفكر المسيحي. وهنالك من الأرسطيين من يزدري الأكويني بتهمة الحطّ من شأن أرسطو، وهنالك من المسيحيين من يتبرّأ من الأكويني بتهمة التمكين للفلسفة الوثنية، وبين المعسكرين هنالك الكثير من الأصوات الأخرى التي تتبنّى رؤية أكثر إيجابية، فتنظر إلى التومائية باعتبارها توليفًا عبقريًا جمع سنّتين بارزتين؛ وقد يحاجج البعض في أنّ الشروح الحادّة التي كتبها الأكويني في نهاية حياته لا تهدف إلى التوليف بقدر ما هي تفسير وشرح مباشر، وليس هنالك سوى قليل من الحالات المشابهة لذلك على امتداد تاريخ الفلسفة.

وهنالك أسباب كثيرة جعلت من الفلسفة الأرسطية إطار عمل للفلسفة المسيحية من القرن الثاني عشر حتّى نهاية القرن السادس عشر، منها اهتمام الأكويني بها، على الرغم من أنّ هذه الحقبة الغنية قد احتوت، ولا شك، على نطاق عريض من النشاط الفلسفي الذي يتفاوت في قربه وبعده من المواضيع الأرسطية. وإذا أردنا أن نبيّن المدى الذي وصل إليه التأثير الأرسطي في هذه الحقبة فيكفينا أن نشير إلى المفهومين اللذين شكّلا ما عُرِف بـ”الزوج الأشهر” (binarium famosissimum)، أي: المادّصورية الشاملة وعقيدة تعدّد الأشكال، والتي جاءت صيغهما الأولى في النصوص الأرسطية.

ولم يقلّ الاهتمام بأرسطو في عصر النهضة، حيث أصبح يُعرَف هذا الاهتمام باسم (أرسطانية النهضة)؛ وأبرز الأسماء في هذه الحقبة تلتقي مع آخر الأسماء التي ظهرت في مرحلة السكولاستية الأرسطية في العصر الوسيط، حيث وصلت إلى نهاية غنية وشديدة التأثير مع سواريز الذي انتهت حياته مع ظهور ديكارت. ومنذ نهاية السكولاستية المتأخّرة مرّت على دراسة النصوص الأرسطية حقب متنوّعة منها ما أهمل هذه النصوص ومنها ما اهتمّ بها بشدّة، لكنّها استمرّت دون انقطاع حتّى أيّامنا هذه.

واليوم نجد الفلاسفة، بتنوّع مشاربهم، يستمرّون في الاسترشاد بأرسطو واستلهامه في الكثير من المجالات المختلفة، بدءًا من فلسفة الذهن وحتّى نظريات اللامتناهي، وإن كان تأثير أرسطو ربّما يبدو بأكثر صوره صراحة وعلنية في عودة الأخلاق الفضائلية للظهور في النصف الأخير من القرن العشرين. وربّما ليس هنالك ما يمنع من القول في هذه المرحلة التاريخية بأنّ حالة الاهتمام بأرسطو ليس من المحتمل أن تتناقص في الألفية الجديدة. وإذا أردنا أن نتبيّن الاتّجاه الذي ستسلكه يكفينا أن نلقي نظرة سريعة على عناوين مداخل هذه الموسوعة لنجد أنّ “أرسطو” و”الأرسطية” أكثر ورودًا من غيرهما من الفلاسفة والفلسفات، ولا يقاربهما في هذا الشأن سوى أفلاطون وتراثه.


المراجع

A. Translations

The Standard English Translation of Aristotle’s Complete Works into English is:

  • Barnes, J., ed. The Complete Works of Aristotle, Volumes I and II, Princeton: Princeton University Press, 1984.

An excellent translation of selections of Aristotle’s works is:

  • Irwin, T. and Fine., G., Aristotle: Selections, Translated with Introduction, Notes, and Glossary, Indianapolis: Hackett, 1995.

B. Translations with Commentaries

The best set of English translations with commentaries is the Clarendon Aristotle Series:

  • Ackrill, J., Categories and De Interpretatione, Translated with notes, Oxford: Oxford University Press, 1963.
  • Annas, J., Metaphysics Books M and N, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1988.
  • Balme, D., De Partibus Animalium I and De Generatione Animalium I, (with passages from Book II. 1–3), Translated with an introduction and notes, Oxford: Oxford University Press, 1992.
  • Barnes, J., Posterior Analytics, Second Edition, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1994.
  • Bostock, D., Metaphysics Books Z and H, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1994.
  • Charlton, W., Physics Books I and II, Translated with introduction, commentary, Note on Recent Work, and revised Bibliography, Oxford: Oxford University Press, 1984.
  • Graham, D., Physics, Book VIII, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1999.
  • Hamlyn, D., De Anima II and III, with Passages from Book I, translated with a commentary, and with a review of recent work by Christopher Shields, Oxford: Oxford University Press, 1999.
  • Hussey, E., Physics Books III and IV, Translated with an introduction and notes, Oxford: Oxford University Press, 1983.
  • Keyt, D., Politics, Books V and VI Animals, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1999.
  • Kirwan, C., Metaphysics: Books gamma, delta, and epsilon, Second Edition, Translated with notes, Oxford: Oxford University Press, 1993.
  • Kraut, R., Politics Books VII and VIII, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1998.
  • , J., On the Parts of Animals, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 2002.
  • Madigan, A., Aristotle: Metaphysics Books B and K 1–2, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 2000.
  • Makin, S., Metaphysics Theta, Translated with an introduction and commentary, Oxford: Oxford University Press, 2006.
  • Pakaluk, M., Nicomachean Ethics, Books VIII and IX, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1999.
  • Robinson, R., Politics: Books III and IV, Translated with a commentary by Richard Robinson; with a supplementary essay by David Keyt, Oxford: Oxford University Press, 1996.
  • Saunders, T., Politics: Books I and II, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1996.
  • Shields, Christopher, De Anima, Translated with an introduction and commentary, Oxford: Oxford University Press, 2015.
  • Smith, R., Topics Books I and VIII,With excerpts from related texts, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 2009.
  • Striker, G., Prior Analytics,, translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1997.
  • Taylor, C., Nicomachean Ethics, Books II-IV, Translated with an introduction and commentary, Oxford: Oxford University Press, 2006.
  • Williams, C., De Generatione et Corruptione, Translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1983.
  • Woods, M., Eudemian Ethics Books I, II, and VIII, Second Edition, Edited, and translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1992.

C. General Works

1. Comprehensive Introductions to Aristotle

  • Ackrill, J., Aristotle the Philosopher, Oxford: Oxford University Press, 1981.
  • Jaeger, W., Aristotle: Fundamentals of the History of his Development, Oxford: Oxford University Press, 1934.
  • Lear, J., Aristotle: the Desire to Understand, Cambridge: Cambridge University Press, 1988.
  • Ross, W. D., Aristotle, London: Methuen and Co., 1923.
  • Shields, C., Aristotle2nd edition, London: Routledge, 2014.

2. General Guide Books to Aristotle

  • Barnes, J., The Cambridge Companion to Aristotle, Cambridge: Cambridge University Press, 1995.
  • Anagnostopoulos, G., The Blackwell Guide to Aristotle, Oxford: Blackwell, 2007.
  • Shields, C., The Oxford Handbook on Aristotle, Oxford: Oxford University Press, 2012.

3. Aristotle’s Life

  • Natali, C., Aristotle: His Life and School, D. Hutchinson (ed.), Princeton: Princeton University Press, 2013.

D. Bibliography of Works Cited

  • Annas, J., 1982, ‘Aristotle on inefficient causes,’ Philosophical Quarterly, 32: 311–326.
  • Bakker, Paul J. J. M., 2007, ‘Natural Philosophy, Metaphysics, or Something in Between: Agostino Nifo, Pietro Pompanazzi, and Marcantonio Genua on the Nature and Place of the Science of Soul,’ in J. J. M. Bakker and Johannes M. M. H. Thijssen (eds.), Mind, Cognition, and Representation: The Tradition of Commentaries on Aristotle’s De Anima, London: Ashgate, 151–177.
  • Barnes, Jonathan, 1994, Posterior Analytics, Second Edition, Translated with a commentary, Oxford: Clarendon Press.
  • Biondi, Paolo C. (ed. and trans.), (2004), Aristotle: Posterior Analytics ii 19, Paris: Librairie-Philosophique-J-Vrin.
  • Bostock, David, 1980/2006, ‘Aristotle’s Account of Time,‘ in Space, Time, Matter, and Form: Essays on Aristotle’s Physics, Oxford: Oxford University Press, 135–157.
  • Charles, David, 2001, “Teleological Causation in the Physics,” in L. Judson (ed.), Aristotle’s Physics: A Collection of Essays, Oxford: Oxford University Press, 101–128.
  • Cleary, John, 1994, ‘Phainomenain Aristotle’s Philosophic Method,’ International Journal of Philosophical Studies, 2: 61–97.
  • Coope, Ursula, 2005, Time for Aristotle: Physics IV 10–14, Oxford: Oxford University Press.
  • Duarte, Shane, 2014, ‘Aristotle’s Theology and its Relation to the Science of Being quaBeing,’Apeiron, 40: 267–318
  • Frede, M., 1980, ‘The Original Notion of Cause,’ in M. Schofield, M. Burnyeat, and J. Barnes edd., Doubt and Dogmatism, Oxford: Oxford University Press, 217–249.
  • Furley, D. J., ‘What Kind of Cause is Aristotle’s Final Cause?,’ in M. Frede and G. Stricker (eds.), Rationality in Greek Thought, Oxford: Oxford University Press, 1999, pp. 59–79.
  • Gill, M. L., ‘Aristotle’s MetaphysicsReconsidered,’ Journal of the History of Philosophy, 43 (2005): 223–251
  • Gotthelf, A., 1987, ‘Aristotle’s Conception of Final Causality,’ in A. Gotthelf and J. G. Lennox (eds.), Philosophical Issues in Aristotle’s Biology, Cambridge: Cambridge University Press, 204–242.
  • Grote, George, 1880, Aristotle, London: Thoemmes Continuum.
  • Halliwell, Stephen, 1986, Aristotle’s Poetics, Chapel Hill: University of North Carolina Press.
  • Hocutt, M., 1974, ‘Aristotle’s Four Becauses.’ Philosophy, 49: 385–399.
  • Irwin, Terence, 1981, ‘Homonymy in Aristotle,’ Review of Metaphysics, 34: 523–544.
  • –––, 1988, Aristotle’s First Principles, Oxford: Oxford University Press.
  • Johnson, Monte Ransom, 2005, Aristotle on Teleology, Oxford: Oxford University Press.
  • Kraut, Richard, 1979, ‘Two Conceptions of Happiness, Philosophical Review, 88: 167–197.
  • Lewis, Frank A., 2004, ‘Aristotle on the Homonymy of Being,’ Philosophy and Phenomenological Research, 68: 1–36.
  • Loux, Michael, 1973, ‘Aristotle on the Transcendentals,’ Phronesis, 18: 225–239.
  • Moravcsik, J., 1975, ‘“Aitia” as generative factor in Aristotle’s philosophy,’ Dialogue, 14: 622–638.
  • Owen, G. E. L., 1960, ‘Logic and Metaphysics in Some Earlier Works of Aristotle,’ in I. During and G. E. L. Owen (eds.), Plato and Aristotle in the Mid-Fourth Century, Göteborg: Almquist and Wiksell, 163–190.
  • –––, 1961/1986, ‘Tithenai ta phainomena,’ Logic, Science and Dialectic, London: Duckworth, 239–251.
  • Owens, Joseph, 1978, The Doctrine of Being in the Aristotelian Metaphysics, 3rdedition, Toronto: The Pontifical Institute of Mediaeval Studies.
  • Patzig, Gunther, 1979, ‘Theology and Ontology in Aristotle’s Metaphysics, in J. Barnes, M. Schofied, and R. Sorabji (eds.), Articles on Aristotle, Volume 3: Metaphysics, London: Duckworth, 33–49.
  • Pellegrin, Pierre, 1996/2003, ‘Aristotle,’ in J. Brunschwig and G. E. R. Lloyd (eds.), A Guide to Greek Thought, Cambridge, MA: Harvard University Press, 32–53.
  • Ross, W. D., 1923, Aristotle, London: Methuen and Co.
  • Sauvé Meyer, S., 1992, ‘Aristotle, Teleology, and Reduction,’ Philosophical Review, 101: 791–825.
  • Shields, Christopher, 1999, Order in Multiplicity: Homonymy in the Philosophy of Aristotle, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2014, Aristotle, London: Routledge.
  • Shute, Richard, 1888, On the Process by which the Aristotelian Writings Arrived at their Present Form, Oxford: Oxford University Press.
  • Ward, Julie K., 2008, Aristotle on Homonymy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Zeller, Eduard, 1883/1955, Outlines of the History of Greek Philosophy, rev. by W. Nestle, trans. L. Palmer, London: Routledge.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

  • Aristotle, maintained by Marc Cohen (Philosophy/University of Washington).
  • Aristotle, a podcast in the History of Philosophy without Gaps project, overseen by Peter Adamson.

مداخل ذات صلة

 الفلسفة العربية الإسلامية، عناوين منهجية وتاريخية: تأثير الفلسفة العربية والإسلامية في الغرب اللاتيني| أرسطو، عناوين عامة: نظرية أرسطو السياسية Aristotle, commentators on |Aristotle, General Topics: aesthetics | Aristotle, General Topics: biology | Aristotle, General Topics: categories | Aristotle, General Topics: ethics | Aristotle, General Topics: logic | Aristotle, General Topics: metaphysics | Aristotle, General Topics: psychology | Aristotle, General Topics: rhetoric | السببية عند أرسطو | Aristotle, Special Topics: mathematics | Aristotle, Special Topics: natural philosophy | Aristotle, Special Topics: on non-contradiction | Aristotle, Special Topics: textual transmission of Aristotelian corpus | essential vs. accidental properties | form vs. matter | happiness |ديالكتيك: هيجل | substance


[1] Shields, Christopher, “Aristotle”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/ archives/win2016/entries/aristotle/>.


هوامش

[i]     هنالك خلافات بين الخبراء حول عدد مؤلّفات أرسطو، وكذلك بشأن موثوقية بعض الأعمال التي وصلتنا وهي تحمل اسمه. ويمكن الاطّلاع على عرض مدهش لتاريخ انتقال مؤلّفات أرسطو عبر العصور في (Shute 1888).

[ii]    يسعى هذه المدخل العامّ للالتزام بأكبر قدر ممكن من الحيادية، ولذلك فهو: (أ) سيشير إلى الحجج التي أثارت الجدل؛ و(ب) سيوفّر إشارات مرجعية لمقاطع في مداخل أخرى من هذه الموسوعة لمسائل متّصلة وردت بتفصيل أكبر؛ و(ج) سيذكر الكتابات التخصّصية التي تناولت المسائل المناقشة لمن يرغب بالاستزادة.

[iii]    إنّ الكثير ممّا أوردناه حول حياة أرسطو يستند إلى الاحتمالات، فممّا يدعو للأسف أنّ كتّاب سيرته اضطرّوا للاعتماد على مصادر مضطربة كُتِب أكثرها في وقت متأخّر عنه، وكانت النتيجة أنّ الاستنتاجات الضعيفة تكتسب الموثوقية أحيانًا لا لشيء سوى لتأثير التكرار؛ ولمن يرغب بالاطّلاع على موجز لعملية الكتابة التاريخية لسيرة أرسطو نحيله إلى (Grote 1880)، وهو يقدّم لمحة مهمّة أيضًا عن حياة أرسطو من منظور القرن التاسع عشر؛ ولمن يرغب بلمحة موجزة متينة بمنظور أواخر القرن العشرين فليراجع (Pellegrin 1996).

وفيما يتعلّق بشخصية أرسطو فإنّنا نجد نهجين متعارضين جذريًا يعودان إلى العصور القديمة: إذ يصوّره النهج الأول كشخص مغرور يزدري الآخرين، وناكر للجميل لم يقدّر قطّ ما منحه أفلاطون من تعليم؛ والثاني يصوّره كباحث مرح متحمّس في إخلاصه لأصدقائه ونظرائه في البحث عن المعرفة، ولا يهدأ له بال في بذل الجهود لتوسيع آفاق المعرفة البشرية. ومن المرجّح أنّ أيًّا من النهجين لا يقدّم صورة صحيحة خالية من الخطأ، والواقع يقول بأنّنا لا نمتلك ما يكفي من الأدلّة للحكم بصواب أحدهم دون الآخر؛ لكن تجدر الإشارة بأنّهما يتقاطعان في نقطة واحدة، وهي: اتّفاقهما على أنّه من العظماء، مع اختلافهما في عرض ذلك؛ ومن كان يرغب بملخّص وجيز لتقييم هذا الوضع يمكنه الاطّلاع على (Shields 2014, 15‐17).

[iv]   سنذكر هنا أربعة أمثلة وحسب، وليس من الصعب العثور على الكثير غيرها:

(1) في رسالة (المقولات)، كما تُدعى في أيّامنا دون أن تحمل الاسم ذاته في العصور القديمة، ثلاثة أقسام متمايزة لا تواصل بينها، ولم يُجمَع بينها إلّا بشكل يثير الشبهات (لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى المادّة الموسوعية المتعلّقة بهذه الرسالة)؛

(2) وفي رسالة (الميتافيزيقا)، وهي أيضًا لا تحمل عنوانًا سطّره أرسطو بيده، أربعة عشر فصلًا يعتقد الكثير من الخبراء بأنّ الثلاثة الأخيرة منها قد كُتِبت في مرحلة مبكّرة من التطوّر الفكري لأرسطو، وذلك بالمقارنة مع ما يسبقها ضمن الطبعات الحديثة التي بين أيدينا (للاطّلاع على مراجعة موجزة لهذه المسألة يمكن الرجوع إلى Ross 1924, vol. i, xiii–xxxii)؛

(3) تبدي رسالة (السياسة) مشاكل في التواصل والانسجام الداخلي، وتثير أسئلة حول تاريخ كتابة كلّ فصل من فصولها (تجد عرضًا موجزًا لهذه المسألة في الملحق المرفق بالمادّة الموسوعية المتعلّقة بالنظرية السياسية عند أرسطو)؛ (4) يرى الكثيرون بأنّ رسالة (الأخلاق النيقوماخية) تعاني من غياب الانسجام الداخلي من ناحية ما تطرحه من وجهات نظر (وهي مسألة خلافية)، ولقد دفعت هذه الحال بارنز، مثلًا، إلى الاستنتاج الجازم بأنّ هذا الكتاب ليس رسالة واحدة: «(الأخلاق النيقوماخية) عمل عبثي، لا شكّ في أنّه وضع على يد ناسخ يائس أو بائع كتب مجرّد من المبادئ، ولم يجمع شمله أيّ كاتب أو محرّر»، ثمّ يجادل بارنز: «(الأخلاق النيقوماخية) التي بين أيدينا ليست وحدة واحدة لا خلاف عليها، ويكفي للاستدلال على هذا الأمر احتواؤها على معالجتين لمسألة السعادة.

والأسئلة الوحيدة التي تُثار هي: من اخترع النصّ الذي بين أيدينا، ومتى، وما النصوص التي اعتمد عليها، وما الدوافع التي دفعته لذلك؟» (Barnes 1997, 58–59). ومن أراد الاطّلاع على نظرة شاملة موجزة لحالة كتابات أرسطو في حقل الأخلاق يمكنه الرجوع إلى المادّة الموسوعية المتعلّقة بالأخلاق عند أرسطو. وعلى الرغم ممّا سبق، يمكن القول بأنّ هذه الخلافات التي يثيرها الخبراء لا تعيق قدرتنا على الخوض في الفلسفة النابضة بالحياة ضمن نصوص أرسطو؛ بل إنّ الكثير من هذه الخلافات يعدّ من المبالغات.

[v]    يقدّم بيكر (Bakker 2007) موجزًا شيّقًا حول هذا الجدل.

[vi]   يقدم أوين (Owen 1961) مدخلًا جيدًا جدًّا للكتابات المتعلّقة بهذا الموضوع. راجع أيضًا: (Irwin 1988, §§13, 16)، و(Cleary 1994).

[vii]   ثمّة تقديم رائع للخلافات المحيطة بعقيدة العقل العياني (nous) في كتاب البرهان (APo. ii 19) يمكن الاطلاع عليها في (Barnes 1994) عند مناقشته للمسألة نفسها. ولمن يبتغي مناقشة أعمق، ويفضّل التفسير التقليدي الذي يعتمد الحدس الفكري، فليراجع (Biondi 2004).

[viii]  للمطالعة حول المقاربة النمطية المهيمنة للماهوية، راجع القسم الأوّل من مدخل (الخاصّيات الماهوية إزاء الخاصّيات العرضية) في هذه الموسوعة.

[ix]   شهدت العقود الأخيرة تجدّد دراسة بيولوجيا أرسطو، وذلك على صعيدين: صعيد أكثر تجريبية وآخر أكثر تفلسفًا. ولمن يرغب بالاطّلاع على مقدّمة شاملة حول نتائج هذه الدراسة وخلافها، يمكن الرجوع إلى مدخل (البيولوجيا عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

[x]    يعود مصطلح (المعنى البؤري) لأوين (Owen 1960)، وقد تعرّض للنقد من إيروين (Irwin 1981) على أساس أنّ نظرية أرسطو لا تهتمّ بالمعاني، أو أنّها لا تهتمّ بها بشكل رئيسي. ويرى إيروين أنّ مصطلح (الصلة البؤرية) أكثر حيادية. ويفضّل شيلدز (Shields 1999) مصطلح (المشترك اللفظي المعتمد على الصميم) لأسباب منها أنّه يعكس اللاتناظر الذي لا بدّ منه في أبرز استخدامات أرسطو للمشترك اللفظي. راجع أيضًا (Ward 2008).

[xi]   لمقدّمة موجزة حول المشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ (الكائن)، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (ميتافيزيقيا أرسطو) في هذه الموسوعة. ويقدّم شيلدز (Shields 1999) مسحًا أعمق بكثير لكتابات الخبراء في هذا الموضوع. ولمن يرغب ببديل نقدي، يمكن الرجوع إلى لويس (Lewis 2004)؛ ولمن يرغب بالاطّلاع على تطوير إضافي للموضوع يمكن الرجوع إلى وارد (Ward 2008) الذي أصاب في إيلائه تشديدًا خاصًّا على العلاقة بين المشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ (الكائن) وبين مفهوم أرسطو للعلم (epistêmê).

[xii]   لمن يرغب باستكشاف فلسفي غني لهذه الإمكانية، يمكن مراجعة (Loux 1973).

[xiii]  لمقدّمة موجزة حول هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (ميتافيزيقيا أرسطو) في هذه الموسوعة. ولمراجعة للنصوص المتعلّقة بدور المادّة في علم الكائن (باعتباره) كائنًا، يمكن مراجعة (Shields 1999, 225–229) و(Ward 2008). وللاطّلاع على دفاع مدعّم بالحجج عن أحد أنواع التفسير التقليدي، يمكن الرجوع إلى (Duarte 2007). ويمكن الاطّلاع على معالجتين متينتين في (Patzig 1979) و(Owens 1978).

[xiv]  يكرّس أوين (Owens 1978, 137–154) فصلًا بأكمله تقريبًا لمسألة الترجمة الصحيحة لكلمة (ousia) إلى الإنگليزية، ويخلص إلى أنّ كلمة “الكائن” مفضّلة على “الجوهر” في الترجمة. وعلى الرغم من أنّه يقيم استنتاجه هذا على أسباب رفيعة المستوى تستند إلى خبرة علمية، فإنّ توصياته لم تحظَ بالجاذبية في المجتمع العلمي، إذ لا يزال يفضّل كلمة “الجوهر”. وليس هنالك من ضرر في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ “الجوهر” مصطلح تقني في كتابات أرسطو، ولا بدّ من تحصيل معناه عبر خصائصه النظرية.

[xv]   لنظرة عامّة واضحة حول الأنواع الرئيسية للانتقادات التي تعرّض لها التصنيف الأرسطي العشري للأشياء، راجع القسم الثاني من المدخل المخصّص لـ(مقولات) أرسطو في هذه الموسوعة.

[xvi]  لمن يرغب بالاطّلاع على القضايا المتعلّقة بمعالجة أرسطو لموضوع الزمان، يمكن مراجعة (Bostock 2006) و(Coope 2005).

[xvii] الوضع الأنطولوجي للأجسام الرياضية عند أرسطو يقدّم تعقيداتنا أصبحت تلقى التجاهل في أيّامنا. ولمن يرغب بمقدّمة حول بعض هذه التعقيدات، يمكن الاطّلاع على القسم السادس من مدخل (الرياضيات عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

[xviii] راجع على سبيل المثال (Hocutt 1975)، وخصوصًا (Annas 1982). ويفضّل (Moravcsik 1974) المصطلح الأكثر حيادية (العامل التوليدي).

[xix]  ليس هنالك إجماع بين المتخصّصين على أنّ العلّة الفاعلية تتّصل بشكل واضح مع الفكرة الحديثة المميّزة للعلّية، وكذلك لا يجمعون على اعتبارها مثالًا لا خلاف عليه للعلّية. ولذلك نجد في (Frede 1980, 218)، مثلًا، إثارة للشكوك حول هذا الطرح. ولمن يرغب بالاطّلاع على نظرة أكثر خلافية حول العلّة الفاعلية، فليراجع (Ross 1923, 75).

[xx]   يقدّم جونسون (Johnson 2005, 15–39) استعراضًا يحيطنا علمًا ببعض الأصوات الأكثر انتقاصًا من أرسطو.

[xxi]  يقدّم إيروين (1988, 522 n. 18) تلخيصًا جليًا لبعض التفسيرات الرئيسية لحجّة أرسطو في الدفاع عن الغائية، والتي وردت في كتابه الطبيعة (Phys. ii 8 198b36–199a5).

[xxii] شهدت العقود الأخيرة مناقشة حيوية للغائية. ولمن يرغب بالاطّلاع على تمهيد أوّلي للقضايا المتعلّقة بهذا الموضوع، فليراجع القسم الرابع من مدخل (أرسطو والعلّية) في هذه الموسوعة. ولمن أراد التوسّع أكثر، يمكنه الرجوع إلى: (Sauvé Meyer 1992)، (Gotthelf 1997)، (Furley 1999)، (Charles 2001)، (Johnson 2005).

[xxiii] لمن يرغب بالاطّلاع على مقدّمة موجزة لبعض القضايا ذات العلاقة، بالإضافة لبيبليوگرافيا لقراءات إضافية، يمكن الاستعانة بالقسم العاشر من المدخل المعنون (ميتافيزيقا أرسطو) في هذه الموسوعة. ولمن يرغب بالاطّلاع على رؤية معاكسة، يمكن الاطّلاع على المقالة المعنونة (سؤال حول ميتافيزيقا النفس)، وهي ملحقة بالمدخل المعنون (علم النفس عند أرسطو) في هذه الموسوعة أيضًا. ولمن يرغب بمناقشة أكثر تفصيلًا، يمكنه أن يجد في (Gill 2005) مراجعة عامّة للتطوّرات الأخيرة في ما يخصّ الميتافيزيقا عند أرسطو بشكل عام، مع التركيز بشكل خاصّ على المسائل المتعلّقة بالجوهر.

[xxiv] حول معنى (eudaimonia)، راجع القسم الثاني من المدخل المعنون (الأخلاق عند أرسطو) في هذه الموسوعة. ولدى (Kraut 1979) مناقشة تسلّط الضوء المقاربات الذاتية والموضوعية للسعادة.

[xxv] لمن يرغب بمراجعة ماهرة حول هذه المسألة، يمكن الرجوع إلى (Halliwell 1986).

[xxvi] يقدم هاليويل (Halliwell 1986, Appendix 5) عرضًا شاملًا موجزًا للمقاربات المتنوّعة التي تعامل بها العلماء مع فكرة التطهير عند أرسطو.

[xxvii]         يقدم هاليويل (Halliwell 1986, 109–137) مقدّمة ممتازة لبعض القضايا المعرفية والفلسفية المتعلّقة بمفهوم أرسطو للمحاكاة.