مجلة حكمة
أخلاقيات الصحة العامة

أخلاقيات الصحة العامة

الكتابروث فادِن
جَستِن بيرنستين
سيرين شيبايا
ترجمةصفاء تُنكر
مراجعةأحمد الناشري
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول أخلاقيات الصحة العامة؛ نص مترجم، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.

مقدمة المترجمة

أعود إلى معقل الكتابة بتجرّؤ على الترجمة. وهل الترجمة إلا تجرؤ الكاتب على تحرير معاقل الفكر من قيد اللغات، ثم إضاءتها بسرج اللغة العربية، وإرسالها إلى مدارك النفس لتُبعث بأسلوب من نفس الكاتب ملفوفة بنور اللغة العذبة دون أن تختل صلابة معانيها أو تتفكك وشائج حياكتها العلمية الرصينة؟

على مشارف انقشاع جائحة كوفيد١٩ وتلاشي السياج المكانيّ الذي فرض بين أفراد المجتمع وحشودهم، ودخولنا في عهد التعافي وامتصاص الصدمة، أقف على هذا العمل أستقرئ فيه تساؤلات عامين من التجارب. في هذا العمل يعبر بنا المؤلفون عبر بوابة الأخلاقيات إلى الرواق الغربي للصحة العامة. نجوب مسائل الصحة العامة وأحداثها عبر ثلاث مسارات فلسفية متوالية: سؤال المفهوم ثم سؤال العدالة فسؤال الشرعية. نفككها حيناً ونجمّعها حيناً آخر في تقاطعات وتشابكات سياسية اجتماعية أخلاقية لا تخلو من الإسقاطات الميدانية التاريخية ولا تنفكّ عما عايشناه في جائحة كوفيد١٩. ولا ريب أنها معينة على مسيرة حافلة نحو مستقبل الوقاية التي يدفعنا لخوض هذا الاشتباك الواعي من أجل انفتاحٍ إبداعيّ خلّاق.

غني عن القول، فالوفادة إلى الأخلاقيات عبر كوة المنظور الغربي يجب أن يكون منطلقاً لا سقفاً، منظوراً لا المنظور، استعارةً لا حلّا. وهذا العمل على أهميته لا يروم عن كونه تمهيدٌ لالتماس انطلاقاتٍ أشدّ متانة وأفقاً أوسع رحابة في الصحة العامة، ودعوة لابتكاراتٍ أكثر جرأة فيها. إذ أننا مقبلين على عهدٍ جديد لمفهوم الوقاية لأجل الصحة، وما زال في وسعنا إصلاح أساسات هذا الصرح وإحكام بنائه، ليبقى عتيداً لسنوات مقبلة وأجيال متعاقبة.

وأخيراً، فإني بترجمتي هذه أرجو أن أقدم عملاً يليق بمقام الصحة الوقائية والصحة العامة، وأن أرسم للقارئ ملامح عملها الشاق الذي بانت معالمه في أزمة كوفيد١٩، واستشعر جمهور الناس أهميتها ­­في حياتهم؛ إذ كانوا هم الغاية والقيمة العليا في كل خطوة خطاها عرابو هذا المجال في بلدنا الآمن وسائر أرجاء المعمورة.


إن حفظ صحة المجتمع وتعزيزها هو عصب عمل الصحة العامة (١). ويقتضي حفظ صحة المجتمع وتعزيزها، عملاً منظماً من الجانب الحكومي. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، يعمل كلٌ من: مركز الوقاية من الأمراض ومكافحتها CDC، وهيئة الغذاء والدواء، ووكالة حماية البيئة، ووكالة حماية المستهلك كمؤسسات للصحة العامة أو على الأقل ينصرف جزء من عملها لخدمة الصحة العامة. كذلك تشتمل كافة الدول وجل الولايات والمحافظات والبلديات على مديريات صحية، تعنى بكل ما له علاقة بالصحة العامة بدءً من تفتيش المواد الغذائية التجارية، وصولاً إلى جمع بيانات التقصي الوبائي ومعالجتها. ويجري ذات النسق لأعمال تعزيز الصحة وحفظها على المستوى العالمي بصورة تجميعية، كما في حال منظمة الصحة العالمية.

نمهّد في هذا المدخل أرضيةً ترتكز عليها أبرز التحديات والمعضلات الأخلاقية النابعة من سياسات الصحة العامة وأنشطتها، والتي تزخر بها أدبيات أخلاقيات الصحة العامة. بعض هذه المعضلات مفاهيمية: ماهية الصحة؟ وعلى أي وجه يمكن للمجتمع أن يكون صحياً؟ وبعض التساؤلات تدور حول جوهر الأخلاق: ما هي القيمة التي تركن إليها الصحة العامة؟ وما هي المسوغات الأخلاقية الحاثّة للسعي إلى تعزيزها؟

تندرج عموم أدبيات أخلاقيات الصحة العامة ضمن أحد نطاقين:

يتمركز النطاق الأول حول الغايات والأهداف والأوليات في سياسات الصحة العامة وبرامجها من منطلق العدالة. نتطرق فيها إلى سجالات مألوفة حول النهج الأمثل لتحريك الموارد وتوزيع المنافع والأعباء بين المدرسة النفعية ومدرسة المساواتية (انظر: مدخل إلى العدالة)؛ والتي تحتدم في فضاءات سياسات الصحة العامة للموازنة بين المساواة (equity) والكفاءة (efficiency). وكذلك تقدم أدبيات العدالة في أخلاقيات الصحة العامة معالجة عامة للجور البنيوي والإنصاف والقوة. تتفاوت الصحة ومهدداتها بين مختلف الفئات والشرائح في مجتمع معين تفاوتاً كبيرا، ولأن هذه التفاوت مؤشراً للحرمان أو القوة، وحيث أن هناك العديد ممن يرى الصحة ركيزة أساسية لرفاه الإنسان وازدهاره، فإن البعض يؤطر أساسيات الصحة العامة ومسوغاتها بإطار العدالة والإنصاف، أسوة بالإطار العام للتفاوتات الجسيمة في الموارد والحريات. ورغم أن تساؤلات العدالة تصاغ عادة في نطاق مجتمع محدد، إلا أن ذات التساؤلات يمكن طرحها على النطافات الدولية والإقليمية. مثلاً، يقلّ معدل العمر الافتراضي لبعض الشعوب في الشق الجنوبي للعالم بفارق كبير عن الدول الغنية، ويعدّ البعض هذا صورةً جليّة للجور وانعدام العدالة، ولذا يجب أن تكون مسألة الجور نواة نقاشات الصحة العامة وأولوية أطروحاتها.

يتمركز النطاق الثاني في أدبيات أخلاقيات الصحة العامة أيضاًحول الغايات والأهداف والأوليات في سياسات الصحة العامة وبرامجها، ولكن من منطلق شرعية الدولة وسلطتهافي تطبيق إجراءات الصحة العامة لحفظ الصحة وتعزيزها (انظر: مدخل إلى الشرعية السياسية). ولا يمكن اجتزاء المنظور المعياري للشرعية تحديداً من سياق أخلاقيات الصحة العامة، لأن الجهات الحكومية للدول هي المخوّلة بتنفيذ إجراءات الصحة العامة، وهناك من يرى أننا بحاجة لمسوّغات أخلاقية للعديد من تلك التدخلات. في سياق مشابه، ثمة مداولات مألوفة حول صراع الموازنة بين الصالح العام وحرية الفرد، والمبررات الأخلاقية للتدخلات الوصائية؛ التي طالما كانت وقوداً لهذه النقاشات. يؤطر آخرون التحديات في مواجهة شرعية الدولة وسلطتها بإطار مختلف، وذلك بالتساؤل عن الحل الأمثل في حال وقع صدام مع المواطنين، واحتدم الخلاف على قيم محددة، مثلاً، حول أهمية الصحة (للفرد أو المجتمع على السواء). مع هذا، يرفض العديد في التقليد الليبرالي تأطير أساسات الصحة العامة وتسويغ إجراءاتها من منطلق الشرعية.

تعتمد العديد من تحديات أخلاقيات الصحة العامة في أرض الواقع على ثنائية العدالة والشرعية لتقديم تحليل ملائم لكل ما هو معضل أخلاقاً. مثلاً، يمكن تأويل التحدي الذي يواجه ضريبة المشروبات الغازية التي فرضتها حكومة ولاية نيويورك، بأن الولاية لا تملك الحق في التدخل في خيارات الأفراد بفرض الضرائب، أو بأن قرار الضريبة معرّض للرفض لأنه يستند في تسويغه على افتراض تجريد المشروبات المحلاة من قيمتها disvalue، حيث أن قيمة هذه المشروبات موضع خلاف. إلا أن هذا النوع من القرارات لا تكتمل أركان تسويغه أخلاقاً، دون معالجة آثار الضريبة العكسية المتوقعة، والتي قد تقع على عاتق فئة دون أخرى في المجتمع، وهي في الأساس تعاني حرماناً لا يمكن تسويغه.

يهتمّ العديد من كتّاب أخلاقيات الصحة العامة بإدراج منطلقي العدالة والشرعية في تحليل معضلات محددة في سياسات الصحة العامة، وكما في مثال ضريبة المشروبات الغازية، فإنه لا يمكن علاج المسألة دون التحليل الثنائي للعاملين. ولأن العديد من جدليات أخلاقيات الصحة العامة تتطرق لعاملٍ دون الآخر، فسنقوم بإدراج كل منهما على حدا في هذا المدخل.

وقبل أن نشرع في نقاش هذه الجدليات، نستهلّ القسم الأول من المدخل بتوضيح سمتين فارقتين لمجال الصحة العامة، بغية تحديد معالم مجال أخلاقيات الصحة العامة، والمساعدة في تمييزها عن غيرها من مجالات العلوم الحيوية خصوصاً أخلاقيات الممارسات الإكلينيكية. أول السمتين وأشدها وضوحاً: التزام الصحة العامة بإثراء صحة المجموعة لا صحة الفرد. ينطلق القسم الأول في معظمه رافداً عن العديد من الآراء والأطروحات التي تناقش المفاهيم المتعلقة بهذه السمة. أما السمة الفارقة الثانية للصحة العامة: فهو الدور البارز الذي تقوم به الحكومات، وقوتها في سبيل تعزيز الصحة العامة.

نسترسل في غالبية نقاشنا في القسم الثاني من المدخل لتناول إشكاليات أخلاقيات الصحة العامة حول العدالة. ترفد بعض هذه الإشكالات إلى ارتكاز الصحة العامة على صحة المجتمع، والحاجة الحتمية لتجميع الأهداف وإجمال النتائج. بالإضافة لذلك، نناقش الارتباط المباشر للصحة العامة بالوقاية، والناتج عن الاهتمام الأصيل للصحة العامة بالصحة على مستوى المجتمع.

أما القسم الثالث والأخير، فيغلب عليه طرح قضايا الصحة العامة في الشرعية، والتساؤلات الناجمة من تعويل الصحة العامة على العمل الحكومي والقوة الحكومية لتحقيق أهدافها.

جدول المحتويات


١.ما هي السمات الفارقة للصحة العامة، وأخلاقيات الصحة العامة؟

لا توجد معايير واضحة لتنظيم أخلاقيات الممارسة الإكلينيكية والصحة العامة والعلوم الطبية الحيوية. وبينما تنتظم كلها تحت المظلة الواسعة لأخلاقيات العلوم الحيوية، يستقل كل حقلٍ منها عن الآخر. فأحياناً يراد بالإشارة إلى أخلاقيات العلوم الحيوية الحديث عن الأخلاقيات الطبية الإكلينيكية، أو الصحة العامة في أحيان أخرى أو قد نعني أخلاقيات العلوم الحيوية في صحة السكان. وأيا يكن النهج الذي نؤثره، يبقى السؤال المفصلي هو: ما العلامات الفارقة التي تميز أخلاقيات الصحة العامة عن بقية هذه المجالات، لا سيما أخلاقيات الرعاية الصحية الاكلينيكية؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في سمتين بارزتين تحددان اختلافاً أخلاقياً بين الصحة العامة والرعاية الصحية؛ أولهما هو اهتمام الصحة العامة برعاية الصحة على مستوى المجتمع، وثانيهما هو الدور البارز للحكومات في هذا المجال.  

١.١. المجتمع، محور الاهتمام

السمة الأولى، ولعلها السمة الأبرز أيضاً للصحة العامة، هو التزامها بإثراء الصحة على مستوى المجتمع، على عكس تطبيقات الرعاية الإكلينيكية التي تعنى بصحة الفرد. وبينما تعد الصحة في مجال الرعاية الإكلينيكية نفعٌ خاص، فإنها في الصحة العامة نفعاً عاماً لمجموعةٍ أو تجمّعاً من الناس يشكّلون “العموم”.

ولأن صحة المجتمع هو موضوع الصحة العامة ومستهدفها، فهذا يحتّم التعامل مع المشكلات التجميعية للصحة عند تحديد الأهداف وتقييم المخرجات. هذه الحاجة للتجميع والإجمال في الصحة العامة التي قد يُختزل فيها الأفراد وتتوارى فيها بعض الفئات الفرعية للمجتمع؛ تثير الكثير من التساؤلات في أدبيات الصحة العامة حول العدالة. كما سيتضح في القسم ٢ من هذا المدخل.

يضع اهتمام الصحة العامة بالمجتمع في موقع ملائم لقيادة عمل الوقاية من الأمراض وإصابات الحوادث (Rose 1985, Rose et al. 2008; Childress et al. 2002; Faden, Shebaya, and Siegel 2019). وبالرغم من توخّي الأطباء سبلاً وقائية ضمن الخطط العلاجية للمرضى، فإنه لا يوجد أي مؤسسة مجتمعية أخرى تنصرف أعمالها صراحة بهدف العمل الوقائي. صُممت العديد من مؤسسات الصحة العامة كالمركز الأمريكي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، وهيئة الغذاء والدواء الأمريكية للعمل على الوقاية من الأمراض والإصابات على مستوى المجتمع. وهذا العمل الوقائي في الصحة يأتي بحمولته من التحديات الأخلاقية. قد يبدو أحياناً أن تخفيف الضرر الراهن والقضاء عليه أكثر أهمية أخلاقاً؛ أو أنه ببساطة يبدو أكثر إلحاحاً وأدعى للاهتمام الفوريّ بها من الاستراتيجيات طويلة الأمد المعنية بالوقاية من تحقق الضرر ووقوعه. تسويغ المفاضلة الأخلاقية بين ضرورة الاهتمام بالأمراض الراهنة المعروفة والتي يمكن تحديدها والتعرف عليها، على الأمراض المتوقع وقوعها مستقبلا بين الناس، والتي لا يمكن تحديدها وتعريفها في الوقت الراهن، هو نموذج لإشكاليات العدالة التي تواجه أخلاقيات الصحة العامة والتي نستفيض في مناقشتها في الجزء ٢.

١.١.١ من هم العامة في الصحة العامة؟

مع أن العديد من أسئلة الأخلاق النابعة من اهتمام الصحة العامة بصحة السكان تدور بشكل رئيسي حول العدالة، إلا أننا سنخصص في هذا القسم 1.1.1 والذي يليه 1.1.2  لمناقشة مواضيع مختلفة؛ منها الإشكاليات المفاهيمية.

تنشأ مسائل الأخلاق في الصحة العامة كون المجتمع هو مادة اهتمامها لا الفرد (Rose 1985; Rose et al. 2008; Coggon 2012). ما يطرح تساؤلاً مفاهيمياً مفصلياً: ما هو المجتمع؟ ورغم أن هذا السؤال مثيرٌ للاهتمام في ذاته، إلا أنه يقودنا لمسائل محورية لا مفرّ لأخلاقيات الصحة العامة من الالتفات إليها وتسويرها لتسويغ أعمال الصحة العامة؛ على من تعود الفائدة من الصحة العامة؟ بصحة من نهتم في الصحة العامة؟ ما التضحيات المتوقع من الأفراد تقديمها في سبيل تحقيقها؟ وما الداعي لتعزيز الصحة العامة؟

للإجابة على هذه التساؤلات، من المهم أن نتساءل ابتداءً عن دلالات لفظي” العموم”، و”السكان” الواردة آنفاً، هل تشملان الفئة عينها، والتي تهتم الصحة العامة بصحتها؟ هل يمكن استخدامهما بالتبادل؟ هل يوجد اختلاف مفاهيمي جوهري بين اللفظين؛ اختلافٌ في تكافؤ الأخلاق بينهما؟ أو في توجه ومنهج أخلاقيات الصحة العامة من جهة وأخلاقيات صحة السكان من جهة أخرى؟

تعبّر الأدبيات عن الفئة الواقعة تحت اهتمام الصحة العامة بأحد ثلاث طرق: المجتمع (the community)، أو العموم (the public)، أو السكان (population). يميل أحد الآراء لاستخدام “المجتمع” لما في المصطلح من حمولة دلالية تخصص فئة بعينها تجنى نفع إجراءات الصحة العامة (Beauchamp and Steinbock 1999). تضفي صفة “المجتمع” تصوراً متماسكاً لمجموعة يغلُب أن تتشارك في لغتها وثقافاتها وتاريخها، وتضمّهم أرضاً واحدة. ويبدو أن وصف مستهدف الصحة العامة “بصحة المجتمع” مستساغاً لصبغته التلقائية ومعقوليته أيضاً عند استدعاء النفع المجتمعي في تسويغ تدخلات الصحة العامة.

تشترك “العامة” في الخصائص التي أوردناها “للمجتمع”، بيد أنها أقل ثقلاً منها في ميزان الأخلاق. ذلك أنه يغلب عليها صورة ضبابية مجهولة المعالم، لا تشير بالضرورة إلى تماسكٍ ثقافيٍّ وحضاريّ. وقد تُصوّر دِلالة “عامة” وحدة منفصلة نسبياً تنتمي إلى المؤسسات العامة وحياة سياسية مشتركة.

يدفع الاستناد على دلالتي “المجتمع” و”العموم” للاعتقاد بأن النفع الذي نسعى إلى تحقيقه هو خاص بكيانٍ محددٍ جغرافياً: مجتمعٌ متآلف وثيق الارتباط ثقافياً، وعموم يتضمّن وحدة سياسية رسمية، كولاية أو دولة ضمن حيّزٍ جغرافيٍ محدد. أحد أسباب التردد في قبول هذا التوصيف هو وقوعه في مأزق عدم ملاءمة بعض مهددات الصحة، فالأمراض السارية مثلاً، لا تعترف بالحدود الدولية، وقد لا تجدي الإجراءات الوقائية داخل الدولة الواحدة نفعاً إن لم تحذُ الدول المتاخمة حذوها (٢).

في المقابل، قد يحجّم توصيف الفئة التي تأمل الصحة العامة تحسين صحتهم “بالسكان” من الصفات التشاركية التي يختص بها مجموعة من الناس لتشكيل كياناتهم التجمعية، والتي تُعتبر صحتهم محل اهتمام الصحة العامة. ولهذا فإن هذا التوصيف بحمولته الأقل انكفاءً على الذات، قد يلائم السياقات الدولية: إذ نعني بهم أيّ سكان يتشاركون اهتمامات صحية، ويلزم رعاية صحتهم وتعزيزها، بغضّ النظر عن جنسياتهم ومواقعهم الجغرافية (Wikler & Brock 2007). وقد يحمل لفظ “السكان” مرونة أكثر من “المجتمع” أو “العامة”، وقد نعني بها التركيز محلياً أو الشمول عالمياً. فمن شأن هذا التوصيف إزالة الحدود المرسومة بين الشعوب، والتعامل بمرونة أكثر في تحديد الفئة التي نهتم بصحتهم في الصحة العامة.

في سياق مشابه، فإن النقاش حول “الصحة العالمية” (global health) يساعد على تأييد مفهوم “الصحة للجميع”، الذي يهتم برعاية الشعوب في البلدان الأخرى وليس داخل الدولة الواحدة فحسب، على عكس الصحة الدولية (international health) التي تُسلّط الضوء على التعاون بين مجموعة محددة من الدولٍ لاستيفاء الاحتياجات الصحية لشعوبها.

هذا لا ينفي بالضرورة توافق توجهات من يفضّل “الصحة العامة” أو “صحة السكان” مع توجهات الصحة العالمية. في الواقع، يشار إلى منظمة الصحة العالمية عموماً كمؤسسة تعنى بالصحة العالمية، ويشار إلى العاملين على تعزيز الصحة عبر الحدود بأنهم مختصين في الصحة العامة، لا مختصين في صحة السكان. ومع أن البعض قد يعتقد أن تلك المفاهيم شديدة التباين والاختلاف في المستهدف من تعزيز الصحة وحفظها، فهناك من لا يجد تعارضاً بينها، على الأقل بين مفهومي الصحة العامة وصحة السكان. على سبيل المثال، يدرج مجلس نوفيلد لأخلاقيات العلوم الحيوية لفظ “صحة السكان” دلالة على الحالة الصحية الكلية لعناصر مجتمع ما، بينما أدرجت “الصحة العامة” في إشارتهم إلى المساعي الرامية لتحسين البيئة السياسية والتنظيمية والاقتصادية المؤثرة في منظومة الصحة. ويفهم من ذلك أن مستهدف الصحة العامة هو تحسين صحة السكان (Nuffield Council on Bioethics 2007, p. XV).

على حسب التحدي الصحيّ القائم، قد نستهدف في “العامة” نطاقاً أكثر محلية، أو أكثر عالمية من سكان الدولة الواحدة. لا يمكن إغفال الحدود الدولية هنا، لأن لكل دولة مجموعة من النظم والسياسات التي تتفاوت بينها وبين بعضها البعض. وأيضا لأنها تعتمد على مراقبة الحكومات التي تبلّغ الهيئات العالمية (كمنظمة الصحة العالمية) ببيانات فاشيات الأمراض المعدية وأعباء الصحة وشتى المؤشرات الصحية لديها، طواعيةً واختياراً. بالرغم من أن ١٩٦ دولة وقّعت ميثاق اللوائح الصحية الدولية WHO 2014)) لتشكيل هياكل دولية لأعمال الصحة العامة العالمية، إلا أن آليات إعمالها -وكما هو حال الاتفاقيات الدولية- لا زالت متراخية. ولهذه العراقيل أثراً أخلاقيا بالغاً على الصحة العامة، تتشابه في بنيتها مع التحديات البيئية (كالتغير المناخي) الذي سنتناوله في القسم ٣.١، والتي أضحت في حد ذاتها كارثة متردية في الصحة العامة، لأن بعض محددات اعتلال الصحة لا تصدّها الحدود الدولية ولا يمكن لدولة واحدة معالجتها بمعزل عن غيرها.

١.١.٢ ما هي الصحة في الصحة العامة؟

أياً تكن محددات ملامح العامة: بوصفها سكاناً أو عموماً، أو بالإشارة إليها كمجتمعٍ أكثر تحديداً؛ فهناك زمرة مغايرة لتحديات مفاهيمية من جوهر أخلاقيات الصحة العامة، تشتبك خيوطها حول طبيعة الصحة على مستوى المجموعة وكيف تختلف عن الصحة على مستوى الفرد.

هناك جدال محتدم حول تحديد مفهوم الصحة: هل يتوقّف تعريفها على غياب المرض أم يتعدى ذلك؟ أ يمكن تعريف الصحة دون وضع المفاهيم المعيارية نصب العين؟ تتساءل بعض النقاشات حول الصحة كقيمة، وما إن كان نفع الصحة نتيجة في مآلها (غاية) أم معنوياً لذاتها (وسيلة)، أم كلا الأمرين معاً، أم سواهما؟ وهل يؤثر ما يعتقده المصابون بحالة صحية ما إزاء حالتهم تلك، في التوصيف بصحي أو غير صحي؟ والعديد من الأسئلة الأخرى التي لا يتسع المقام لسردها  (Ananth 2008; Boorse 1975; Coggon 2012; Hoffman 2010; Holland 2007;؛ انظر مدخل إلى مفهوم الصحة والمرض). هب أننا قررنا تجنّب خوض تلك التساؤلات، فهناك تساؤلات أخرى متعلقة بطبيعة الصحة العامة؛ ألا يمكن فهم الصحة العامة فهماً تامّاً إلا عن طريق حشد العدد الإجمالي للصحة الخاصة بكل فرد، والذي بطبيعة الحال يشكّل كيان هذا المجتمع؟ أم أنه أمر يفوق ذلك؟ وهل تستقيم قيمة صحة العموم لذاتها؟

تكمن أهمية هذه التساؤلات في تأثيرها على توجهات محددة في أخلاقيات الصحة العامة. ينفي بعض منظّري الصحة العامة إمكانية تعريف صحة العموم بإسنادها إلى صحة الفرد فيما ندعوه بالتوجه اللااختزالي. ينظر اللااختزاليون إلى العموم على أنهم مجتمعاً أو كياناً سياسياً وليس سكاناً (Coggon 2012; Jennings 2007). في حال تأييد أحدهم للااختزالية، فهناك شتى القيم التي ينبغي استحضارها كركيزة لوضع النظريات المعنية بالصحة العامة، فالقيم الجماعاتية لديهم كالتكافل مثلاً، جزء لا يتجزأ من تشكلات قيمة الصحة العامة (Dawson and Jennings 2012; Jennings and Dawson 2015). وعادة ما يغالي هذا المنظور في المطالبة بتدخل الحكومات في إجراءات حفظ الصحة العامة وتعزيزها، إلا أن هذا لا يعد بالضرورة سمة أصيلة له.

وخلافاً لهذا، لا يرى الاختزاليون بأساً من استنتاج الحالة الصحية للعموم باختزالها وإحالتها إلى صحة الأفراد ومن ثم تجميعها إجمالاً. يوعز هذا الادعاء بمناوءة الدور الموغل للحكومات في تعزيز الصحة العامة وحفظها. ومع أن البعض يرفض تصور أن لكيان ما (العموم في هذه الحالة) أهمية أخلاقية تمنع اختزاله إلى مصلحة الفرد أو قيَمه، إلا أنهم -على غرار اللاختزاليين- يسلّمون بأّهمية الإجراءات السياسية. فيرجّح البعض -مثلاً- أن القيمة العائدة على الفرد من فرض الإجراءات التي تحدّ من وقوع الأمراض في المجتمع أنجع من تركيز إجراءات العلاج والوقاية على الفرد (Rose 1985; Rose et al. 2008). لا يحُول نهج اللااختزاليين بينهم وبين وصول حجاجهم إلى النتيجة نفسها، إلا أنهم يتوسلون بقيَمٍ مغايرة في حجاجهم.

يتبنى الفريق الثالث نهجاً اختزالياً أيضاً، إلا أنهم يرون ضرورة تقييد إجراءات الصحة العامة. مثلاً، يجادل الليبراليون التقليديون عادة حول القيد الأخلاقي الذي يحدّ ممثلي الحكومات من التعدّي على حرية الأفراد بغية الوصول للقيمة الجمعية (نسهب النقاش في القسم ٣.٢ عن الليبرالية والصحة العامة). ينادي هؤلاء الكتاب بتقنين العمل الحكومي في حقل الصحة العامة بيد أن بعضهم لا يجد بدّاً من العمل الحكومي لإحراز بعض المنافع العامة المتعلقة بالصحة، كتحقيق المناعة الجمعية (Anomaly 2011, 2012; Brennan 2018; Dees 2018; Epstein 2004; Flanigan 2014b, 2017; Horne 2019)..

وبالنظر إلى البعد الاقتصادي؛ فللنفع العام سمتين: عدم التنافسية؛ والذي يعني أن استمتاع الفرد بالنفع واستخدامه، لا ينفي عن الآخرين الاستمتاع بعين النفع بالقدر ذاته. وكذلك يتسم بعدم الاستبعاد؛ إذ يصعب الحيلولة دون استمتاع الأفراد بالنفع ومنعهم من استخدامه (انظر مدخل إلى معضلة الراكب المجاني). ينطبق نموذج النفع العام في الصحة العامة على: المناعة الجمعية والصرف الصحي وتنقية الهواء. وإجمالاً، لا يمكن تعميم هذا المفهوم للنفع على كافة المنافع في الصحة العامة.

يوظف مفهومي النفع العام (public good) والنفع المجتمعي (common good) في جدليات تسويغ إجراءات الصحة العامة. يحتمل هذان المفهومان التأويل على أوجه عدة حسب اقتضاء السياق، وعادة ما يُلتبس بينهما. ولربما يُكسى اللفظ بقيمة سياسية، مثلا، كما في إشارة “النفع المجتمعي” إلى القيمة المشتركة والجمعية التي يسعى لإحرازها كافة عناصر مجتمع ما. ويستخدم العديد من اللااختزاليون “النفع المجتمعي” بهذا التوصيف لتسويغ تدابير الصحة العامة وسياساتها. وعلى ضوئه، مثلاً، يذهب البعض للقول بأن لدى كل عنصر في المجتمع، بوصفهم المحض عنصراً من عناصر المجتمع، مصلحةً للعيش ضمن فئة مجتمعية يتمتع كل أفرادها بدرجة عالية من الصحة.

من منظور اقتصادي، يشير النفع المجتمعي إلى الموارد المجمّعة التي تتسم بالتنافسية (يؤثر استخدام الفرد على إمكانية انتفاع الآخرين بها)، لكنها غير قابلة للاستبعاد، فيصعب إبعاد الأفراد ومنعهم من الانتفاع بها. ووفقا لهذا المنظور تعدّ بعض تدابير الصحة العامة كالمياه النقية، الغذاء الآمن والدواء الآمن نفعاً مجتمعياً.

١.٢ تدابير الحكومة وتداخلاتها في الصحة العامة

السمة المميزة الثانية للصحة العامة هو الدور البارز لتدخل الحكومات وقوة نفوذها في سبيل تعزيز الصحة العامة، والتي تثير أسئلة جدلية في أخلاقيات الصحة العامة. كثيراً ما تستدعي التدابير الرامية لتحسين الصحة العامة، تفعيل الجهاز الحكومي للدولة والتقوّي بنفوذها. تقول بعض الآراء أن ما يجعل الصحة العامة “عامة” هو أن الصحة العامة شأن عام – جزئيا على الأقل – على عكس الصحة الخاصة للأفراد.  ويرى أصحاب هذا التوجه أن تمييز الصحة العامة عن صحة الفرد لا يقتصر على مبدأ الإجمال والتجميع، أو حتى على ردّه إلى مستوى الأفراد فحسب، إنما يلزم النظر إليه بموضوعية، وتوثيق ربطه بالعوامل المواتية لتعزيزه وإنمائه: من القائم عليه؟ وكيف يقوم بذلك؟ (Coggon 2012; Jennings 2007; Verweij and Dawson 2007; Dawson and Verweij 2008). ومثال ذلك، نصّ التعريف الوارد في كتاب “مستقبل الصحة العامة”، الصادر عن معهد الطب في الولايات المتحدة: “الصحة العامة هي جملة ما نقوم به كمجتمع، لضمان الأحوال التي يمكن للناس فيها أن يكونوا أصحّاء ” (Institute of Medicine 1988, p. 1).

إن افترضنا أن ممارسات الحكومات الديموقراطية الفاعلة، هي في الأصل مجمل ممارساتنا نحن، فبهذا نصل كذلك إلى رابط إضافي ومغاير يوصل التدخل الحكومي بنشاطات الصحة العامة. وإن استرسلنا في افتراضنا -جدلا- أن ممارسة ما، لا تعدّ من ممارسات الصحة العامة إلا في حال اتّكأت على عامل الإجمال والكلية؛ وأنه لا يمكن استيفاء شرط الإجمال والكلية لممارساتنا نحن، إلا إن مثلتها الحكومات في ممارستها وعبرت عنه في مضاميرها، إذاً: هذا يفضي إلى أن التدخل لا يُعدّ تدخلاً للصحة العامة، إلا في حال قامت به الحكومات.

هذا الاستنتاج في الصحة العامة صادمٌ وضيّق الأفق. لأننا نجد أن مضامين ونتائج العديد من نشاطات القطاعات الخاصة، والمنظمات غير الربحية كالمؤسسات الخيرية، وغيرها من الجهات غير الحكومية، تنصرف إلى الصحة العامة، ويصعب تصنيف عملها تحت أي شيء آخر (٣). ومثال ذلك، تقديم الجهات غير الحكومية للدعم المالي لاحتضان أبحاث اللقاحات وتطويرها. وعادة ما تنبثق مشاريع توزيع اللقاحات في سياقات مكافحة الأوبئة من قبل الجهات غير الحكومية. وتقود القطاعات غير الربحية ركب الحملات المعززة للصحة، بتقديم الدعم اللازم لتحسين البنى التحتية للصحة العامة في المجتمعات. لذا فإن إنكار دور المؤسسات غير الربحية في إثراء الصحة العامة ونجاعة تدابيرها لكونها غير خاضعة لتصرف الحكومات يبدو أمراً مجحفاً على أقل تقدير. ولمزيد من الإيضاح، فهذه المؤسسات بوصفها خاصة وغير ربحية، تباشر إجراءات إنمائية للصحة العامة رغم أنها لا تصنف كجهة حكومية للصحة العامة (Coggon 2012). وبطبيعة الحال فقد يعارض البعض أهلية هذه المؤسسات للانضمام إلى نشاطات الصحة العامة، كونها غير خاضعة لمساءلة المواطنين ولأنها لا تعبر عن توجهاتهم. ويعد هذا التوضيح مرتكزا رئيسيا لسؤال الشرعية الذي يواجه شتى نشاطات المنظمات الخيرية والتي تمارس على نطاق واسع عموما (Reich 2018).

هذا الانتشار العارم لمؤسسات غير الحكومية مثير للاهتمام. إذ قد يمكّنها نفوذها من تهميش صلاحيات عناصر الدولة القومية وانتزاع امتيازاتها والاستئثار بتحديد الاحتياجات وترتيب الأولويات وفق أجنداتهم الخاصة. تتبدد هذه المزاعم وتبدو واهية في سياقات أخرى. فهناك على سبيل المثال المبادرات التعاونية الوطيدة التي تقدمها المؤسسات غير الحكومية بالتعاون مع الجهات الحكومية أو استجابة لدعوتها، وكذلك تدخّلها في السياقات الدولية المتدهورة أوضاعاً، عند شحّ الموارد أو عند الإحجام عن حفظ صحة القاطنين على الحدود كلهم أو جلهم. أما المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، فتقوم بدورٍ هامٍ لازدهار الصحة العامة. وسيكون ضرباً من ضروب الفوضى العارمة، لو خلُصنا إلى أن السياسات والتوجيهات والتدخلات التي تقودها منظمة الصحة العالمية على مستوى كافة الدول ليست من سياسات وتدخّلات الصحة العامة، حيث أن هذه المنظمة ليست ممثلة عن دولة ما، ولا تملك الصلاحيات لفرض نفوذها على أي دولة.

برغم أن التجميع والإجمال في التدخلات الحكومية ليست ضرورة دائماً، فلا محيد عن التدخلات الحكومية للقيام بمهام وتدابير الصحة العامة. يستدعي تحقيق المستوى المأمول من الصحة قدرا عالياً من الانضباط بين أطراف متعددة. واستمرار تظافرها مرهون بقدرٍ عالٍ من الانتظام والاتساق، الأمر الذي تضمنه الحكومات بفضل صلاحياتها في وضع سياسات الحثّ والردع. تظفر الحكومات بهذه المهمة، لما تملكه من نفوذ وقدرة على تجاوز التحديات الخاصة بتعزيز الصحة وإحراز مستهدفاتها. مثلاً، تشكل حملات التحصين تحدٍ نموذجي يواجه الصحة العامة لمحاربة الأمراض المعدية، حيث يتطلب الوصول إلى المناعة الجمعية حصول عدد كافٍ من المجتمع على اللقاح، وقد يحول الممانعون دون الوصول إلى النصاب اللازم لتحقيق المناعة الجمعية. رغم الخلاف حوله، يبرز الدور المنوط بالحكومات في فرض سياسات رادعة لمجازاة الممتنعين عن تلقي اللقاح.

ولملاءمة دور الحكومات للتحكم بالبنى الجزائية للحث والردع للأفراد، تثور أسئلة اعتبارية في أخلاقيات الصحة العامة، إذ تتسم العديد من الإجراءات في الصحة العامة بالقسرية ويتم إنفاذها بذريعة القانون. أسوة بالنقاشات حول الممارسات الرسمية للدول، يوجّه المختصون تساؤلات حازمة للحكومات على صعيد أخلاقيات الصحة العامة، عن أثر هذه التطبيقات على الأمن والعدالة، ونطاق القيود والأنظمة القانونية. وتُطرح كذلك تساؤلات عن ممارسات السلطات العامة في فضاءات الصحة العامة وتشريع الجزاءات وفرض العقوبات المهددة للخصوصية الفردية، والتدخل في حرية الاختيارات الصحية لهم، ما يستدعي وجود مسوّغات مقنعة ورصينة لتبرير هذه الممارسات. كما تطرح في سياقات الصحة العامة التساؤلات ذاتها التي تتصاعد عادة في المعترك السياسي، حول المسوغات لمقايضة حرية الفرد بمقابل النفع العام. يقودنا هذا السياق للتفكير في شرعية تدابير الصحة العامة وطبيعة الوصاية في تدابيرها، والتي سنعالجها في القسم ٣.

١.٣ ملاحظات ختامية للقسم الأول

إن السمتين المميزتين للصحة العامة هما عصب الصحة العامة وما تنطوي عليه تدابيرها، وهما مظان التساؤلات عن حدودها ونطاقات عملها (Powers and Faden 2006; Coggon 2012; Anomaly 2011; Dees 2018). في العديد من السياقات العالمية، لا يوجد فرق شاسع بين المجال التقليدي للصحة العامة في تقديم خدمات تنقية المياه، والصرف الصحي وسلامة الغذاء والدواء، وحماية العموم من الأمراض المعدية، وتعزيز الصحة وبين تنظيمات تمويل الخدمات الطبية الشخصية وإسدائها. تسود هذه النظرة في الأماكن التي تنفرد فيها الخدمات الطبية بحظوة التمويل المالي كاملاً. يرسخ هذا الاعتقاد خصوصا في الدول التي تولي اهتماما رئيسيا بالرعاية الصحية للأفراد، وتفرد لها دون غيرها من الخدمات الصحية التمويل المالي. كثيرا ما تفرّق أدبيات أخلاقيات العلوم الحيوية بين تناولها لأخلاقيات سياسات تقديم خدمات الرعاية الطبية وأخلاقيات الصحة العامة. وكما سيتضح لاحقاً في القسم ٢ من هذا المدخل، ينصبّ اهتمام أدبيات الصحة والعدالة على قضايا تحديد خدمات الرعاية الطبية للأفراد، ومعايير تحديد نطاقات التأمين الطبي للتدخلات الطبية في مرافق الرعاية الصحية. يمكن لنا أن نتصور أن أخلاقيات سياسات الرعاية الطبية تشتبك مع أخلاقيات الصحة العامة وأخلاقيات الرعاية الإكلينيكية في بعض جوانبها. بالرغم من أننا ركزنا الحديث في هذا القسم عن تمايز الصحة العامة عن الرعاية الإكلينيكية بالسمتين الواردتين آنفاً، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى التقاطعات العديدة مع أخلاقيات الصحة العامة، مثلاً، في كثير من السياقات التي تمتلك فيها القطاعات الحكومية سلطة مطلقة لتحديد نطاق خدمات الرعاية الصحية المسداة للمريض يلزم الأخذ بالاعتبارات الأخلاقية لمدى تأثير ذلك على علاقة الطبيب بالمريض، وكفاءة الخدمة المسداة، بالإضافة إلى جوانب أخرى متعلقة بتكريس مبدأ العدالة الذي يقترن بقرارات الصحة العامة في توزيع الموارد حسب الأولويات الصحية من هذا المنظور.

وهناك أيضا تقاطعات ذات أهمية بالغة بين الصحة العامة والعلوم الحيوية الطبية مع اعتبارات لأخلاقيات الصحة العامة. مثلاً، تتكشّف حول الابتكارات في مجالات: تحليل البيانات الضخمة بإسنادها إلى الذكاء الصناعي، وقاعدة بيانات علوم الجينوم، وتقنيات تعديل الجينات، تساؤلات حديثة لم يسبق معالجتها، مما يستدعي تأهّب الصحة العامة لها واستقراء الانتهاكات المحتملة المهددة للصحة فيها، ومعالجتها قبل وقوعها (Geller et al., 2014). تنشأ العديد من التساؤلات المتعلقة بتطور هذه العلوم وما إذا كان هذا التطور سيضفي على الصحة العامة بَدعاً مغايراً من الخدمات، وما إذا كانت قوالب نقاشات الشرعية الواردة في القسم ٣ من هذا المدخل ملائمة لاحتواء هذا الطور من التغير في العلوم.

من المتوقع أن تتداخل مجالات الصحة العامة والممارسات الإكلينيكية وأخلاقيات العلوم الحيوية الطبية؛ فكل هذه المجالات تتظافر لتحقيق ازدهار صحة الإنسان. يكمن التحدي في فهمنا للمجال العام والخاص لمضمون الصحة العامة وما تنطوي عليه تدابيرها. ولما للصحة من مفهوم فسيح المجال وبالنظر إلى العوامل المؤثرة على صحة الجمهور، يمكن أن نتصور أن للصحة العامة مفهوماً مسهِباً لا يمكن حصره لا بمؤسسة ولا بحدود اجتماعية ولا حتى بمجال مهني. تتسع هذه الطبيعة الفضفاضة لمفهوم الصحة العامة لقضايا عديدة، تمتد من عالم الجرائم والحروب والكوارث الطبيعية إلى علم الوراثة السكانية، والمخاطر البيئية وممارسات التسويق والممارسات الأخرى للشركات الضخمة؛ بل يتعدى ذلك ليشمل القمع السياسي، والجور في توزيع الدخول، وسلوكيات الأفراد؛ وكل هذا ينطوي تحت المظلة الرحبة للصحة العامة. بالرغم من أن كل ما يهدد رفاه الإنسان يؤثر بشكل ما على صحته، إلا أنه يصعب تصور إحلال الصحة العامة محل المجالات الاجتماعية المختلفة، اللازمة للحد من المخاطر والتخفيف من وطأة أحداثها الجسيمة. فبينما يعد خفض معدلات العنف أمراً بالغ الأهمية لصحة المجتمع مثلاً، إلا أن سنّ القوانين، وعمل أجهزة العدالة الجنائية والعلاقات الدولية والدبلوماسية لا تعدّ من أدوات الصحة العامة قطعاً.

هل يعد تأطير أو إعادة تأطير الأحداث الاجتماعية وصياغتها بقواعد الصحة العامة أخلاقيا أم لا؟ وما إن كان كذلك، فما هي الشروط والمحددات؟ هي مسائل يكتنفها تشابكات أخلاقية عديدة. ومثال ذلك، إرجاء معالجة بعض قضايا العنف المسلح وإدمان المواد المخدرة إلى كنف الصحة العامة، بدلاً من تناولها في سياق العدالة الجنائية؛ ما ينزع فتيل التوتر بين عناصر المجتمع، ويحدّ من تفاقم إشكاليات التفاوتات العرقية، ويقلل من تبعاتها الجسيمة على الأقليات؛ ويفضي إلى نتائج محمودة عموماً (Dorfman and Wallack 2009). على التوازي، يمكن لتدخلات جهاتٍ غير الصحة العامة ودون صلاحيات المختصين فيها، مثل؛ برامج التعليم المبكر للأطفال، ودعم الدخول، ومبادرات محو الأمية الموجّه للفتيات، وبرامج البيوت الآمنة، أن تحرز أهدافا صحية تضاهي البرامج النموذجية للصحة العامة كفاءةً.

توجب المسؤولية الأخلاقية مراعاة العديد من المحددات الصحية في سياسات الصحة العامة. لا يعني هذا أن للصحة العامة نفوذاً مطلقة. تقف الصحة العامة هنا أمام مهمة إشرافية فريدة من نوعها على الصحة؛ لا سيما محدداتها ذات الأثر الاستراتيجي البالغ على الصحة. تتماشى بعض هذه المحددات مع الوظيفة التقليدية للصحة العامة كالسيطرة على الأمراض المعدية، وسلامة المياه والغذاء وتأمين الاحتياجات الأساسية للدواء. لا مفر من تدعيم هذه المهمة الإشرافية بأحدث البراهين العلمية للمحددات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنسيج المجتمعي، والذي يأوي إلى استراتيجيات الصحة. إلا أن بعض محددات الصحة تقع خارج دائرة صلاحيات وكالات الصحة العامة وأعمالها التقليدية. وكما يمكن لأثر سياسات الصحة أن يبلغ حد العلاقات الدولية والاقتصاد المحلي والعالمي، فيمكن لتأثير سياسات حوكمة قطاعات التعليم، والمساعدات الخارجية، والزراعة والبيئة أن يمتدّ إلى الصحة بفعالية.

ينجم عن هذا التداخل الشائك بين المجال السياسي والحياة الاجتماعية قلقٌ إزاء تفلّت ما يُنسب إلى الصحة العامة من تساؤلات الشرعية (Anomaly 2011; Coggon 2012). وإن اعتقدنا بنزاهة استهداف حماية الصحة العامة، فهذا قد يحرّر ممارسات الأجهزة الحكومية من قيود التدقيق مقارنة بالقضايا الشائكة الأخرى؛ ما يعزّز نفوذ القائمين على الصحة العامة وينأى بهم عن المحاسبة والمساءلة الديموقراطية.

من ناحية عملية، فهذه المخاوف ليست منطقية. لننظر إلى التغير المناخي كمثال، في مطلع عام 2020 خاطبت الرابطة الطبية في أمريكا بمعية ٢٣ منظمة صحية وطبية أخرى رئيسَ الولايات المتحدة، بضرورة التحرك لمواجهة أزمة التغير المناخي كطارئة في الصحة العامة: “ليس هنالك طريقٌ أكثر إسباغاً على صحة الأمريكيين من تمسّكنا ووفائنا بما أبرمناه في معاهدة باريس للتغير المناخي” (Robeznieks 2020)؛ فمن المستبعد أن تنسلّ السياسات المناخية من الخضوع لتساؤلات الشرعية عبر إطار كوارث الصحة العامة. وخلاف ذلك هو الصحيح؛ فبالرغم من صعوبة استجلاب البراهين الإحصائية هنا؛ فعلى الأرجح أن مؤسسات الصحة العامة تعاني من عجز نفوذها السياسي وضعف صلاحيتها السلطوية وشحّ مواردها المتاحة واللازمة لإحراز أهدافٍ طارئة وملحّة. والحقيقة، أن الصحة العامة لا تستهدف الحريات الفردية في تدخلاتها، بل إنها تخوض صراعاً ضد المصالح المادية للشركات الخاصة الضخمة، كمصانع التبغ ومنتجات الألبان واللحوم ونحوها. وعلى كل، فلا محيد عن استبقاء هذه المخاوف ووضعها نصب العين كإشكالية محتملة الوقوع، ينبغي لأخلاقيات الصحة العامة معالجتها. 

قد لا تعدو مخاوف تهديد الحريات المدنية من نسبة شيء إلى الصحة العامة عن كونها قلق مبالغ؛ بيد أنه لا مفرّ من تناول توسّع الصحة العامة المحفوف بالتحفظات في القسم٣ من هذا المدخل. لكن قبل ذلك، دعونا نستأنف نقاشنا حول السمة الثانية من سمات الصحة العامة. وبعد أن طرحنا مسألة تمحورها حول صحة المجتمع لا الفرد، دعونا نتجه الآن بالسؤال عن العدالة في الصحة العامة.

٢. العدالة والصحة العامة

من المألوف أن نتحدث عن سجالات النفعية والمساواتية عند الحديث عن منهجيات التوزيع والتي تتناسب في أحايين كثيرة مع سياقات الصحة العامة. بطبيعة الحال، يُطالَب اختصاصيو الصحة العامة والساسة أصحاب القرار، بالوصول إلى أفضل حالات الصحة الممكنة باستخدام الموارد المتاحة. هذا الفهم لنطاق اختصاص الصحة العامة مرحب به، بل محمود على عدة أوجه. فلا يوجد في أي سياق في الصحة العامة، بوابات للموارد مفتوحة على مصراعيها، وقد لا يتوفر منها حتى ما يكفي لتأمين التغيير المأمول في الصحة. لا تعد كفاءة تخصيص الموارد المحدودة مطلباً أخلاقياً فحسب، بل هو أمر حتمي، خصوصا فيما يعد ملكاً عاماً. يعتقد النفعيون، أن الطريقة العادلة الوحيدة للإمداد بالموارد يكمن في تحقيق أقصى حد من إجمالي النفع – الصحة في هذا السياق- (انظر على سبيل المثال المدخل إلى العدالة).

يدرك المختصون في الصحة العامة وصنّاع السياسات مخاطر المنهجيات التي تمهد الوصول إلى الحد الأمثل للصحة، وأنها قد تأتي على الصحة العامة بما لا يحمد عقباه. فانتهاج هذا المسلك عادة ما يفاقم الجور في الصحة ويعطّل رفاه الإنسان. منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي على أقل تقدير، رفع علماء الاخلاقيات وتيرة التحديات في الصحة العامة بالمطالبة بإرساء مبدأ المساواة وتحقيق العدالة والرمي إلى ما هو أبعد من كفاءة إدارة الموارد. وكذلك يطالب العديد من نشطاء العدالة المهتمين بالتفاوتات العرقية، والنوعية الجنسانية، وأشكال الجور الفئوي الأخرى، مؤسسات الصحة العامة بضرورة المساواة المنصفة في الصحة تحديداً بالتخفيف من وطأة الحرمان الجائر من الصحة.

تدور رحا سجالات تخصيص الموارد على مبدأ المساواتية بمقابل الكفاءة، أثناء خوض الصحة العامة لمرحلتين من مراحل عملها: إرساء الغايات وتحديد الأولويات؛ فمثلا، عند إرساء وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية في مبادرتها “أشخاص أصحاء” لغاياتها وأهدافها بغية تحسين صحة الإنسان ورفاهه في الولايات المتحدة، وتخصيص الموارد التي تساعد على تحقيق تلك الأهداف، فكيف سيكون توزيع التمويل المخصص -مثلاً- لخفض الوفيات الناجمة عن أمراض القلب والشرايين؟ في غمار الحديث عن مبدأ العدل في أخلاقيات الصحة العامة، تبرز مواضيعٌ أخرى لا يلفها صراع المساواة والكفاءة، إلا أنها تضاهيها أهمية، منها ما يدور حول القيم الأخلاقية للوقاية، والمسؤولية الأخلاقية للأفراد تجاه صحتهم، والوصمة التي قد تعقب برامج الصحة العامة. وتؤثر الصحة العامة كذلك على جوانب أخرى ذات أهمية أخلاقية كالمعاملة باحترام، والأمن الشخصي والعلاقات الشخصية. ويمكن خوض هذه النقاشات بالنظر إليها من زاوية العدالة وأحيانا من زاوية الشرعية، انطلاقاً من طريقة فهمنا لمكنون العدالة المجتمعية وبنائها، إلا أن هذه النقاشات لا تعدّ نموذجا معتاداً في أدبيات العدالة ولا الشرعية.

نستهل في القسم ٢.١ بمراجعة شتى الأسباب التي تجعل الصحة ذات أهمية من منطلق أخلاقي، ولماذا تعد الصحة من المواضيع التي تتناولها أو قد تتناولها تساؤلات العدالة. في القسم ٢.٢ نتناول إشكاليات الصحة العامة في الجمعية والإجمال وإرساء الغايات وتخصيص الموارد. في القسم ٢.٣ نناقش الإشكالات الأخلاقية الناجمة عن تكريس الصحة العامة لأعمال الوقاية. وفي القسمين ٢.٤ و ٢.٥ نتحدث عن مسؤولية الفرد ثم الوصمة، بالإضافة إلى أمثلة لنتائج ناجمة عن انخراط الصحة العامة في مضمار العدالة، وهي نتائج لا تمسّ الصحة بشكل رئيسي، كالقلق الذي يعتري الوصم لما له من تأثير على عدم الاحترام بين فئات المجتمع. في القسم الأخير من الجزء الثاني لهذا المدخل ٢.٦ نلخّص النقاش بلمحة وجيزة لإشكاليات العدالة من منظور عالمي.

٢.١ قيمة الصحة من منظور الأخلاق: لماذا تعد الصحة أمراً هاماً؟

يعمل العديد من منظّري العدالة المرتبطة بأخلاقيات الصحة العامة على ضوء قيمة الصحة، والتي طالما كانت أحد أوجه الخلافات الجوهرية بينهم (٤). تذهب نظريات النفعيين، إلى أن قيمة الصحة تتشكل في جوهر مساهمتها في النفع أو الرفاه. فكل نفع يعود على الصحة يثري الرفاه، وكل ما يضر الصحة اضمحلالٌ له. كيف يتشكّل تصوّر النفع والضرر؟ وكيف يقاس؟ لا يزال دأب تساؤل وجدال، كما هو الحال عموماً في التساؤل حول التصنيفات الرئيسية للنفع والرفاه. سنوجز بعض هذا الحجاج في مجال الصحة في القسم ٢.٢.

تستمر نظريات المساواتية عن العدالة بما فيها من نظريات وثيقة الصلة بأخلاقيات الصحة العامة، بسبر أغوار حجاج رولز (انظر رولز١٩٧١، ومدخل إلى جون رولز). لم تبرز موضوعات الصحة في حجاج رولز المحتفى به، ولم يُشِر رولز إليها كنفع رئيسي للمجتمع (Rawls 1971, 62). توسلاً بحجاج رولز، قام البعض باستنباط نظريات سياسات الصحة والصحة العامة. تتقدمها وجاهة ورصانة، جدليات نورمان دانييلز التي طورها باستدعاء الفكر الرولزي. رصد دانييلز للصحة أهميةً جوهريةً في مبدأ رولز” التكافؤ العادل للفرص”، والذي وضعه رولز أساساً لتولي الوظائف المدنية وتقلّد المناصب. يرى دانييلز أن الصحة أجدر بتطبيق هذا المبدأ. وفق هذا المنظور، فإن تمتع كل فرد بقدرٍ من الصحة، هو من صميم تمكينهم من “المجال الطبيعي للفرص”: أو من تمكينهم لخوض مختلف خطط الحياة التي عادة ما يرسمها صُوّابة مجتمع ما وعقلائهم لأنفسهم (Daniels 2008, p. 43). ترسّخ محاولة دانييل الأهمية الأخلاقية للصحة ومنها الصحة العامة، باستدعاء مبدأ الفرصة لا الرفاه (Daniels 1985; 2001; 2008). وبعبارات أخرى وفق هذا المنظور، فالصحة مسألة تتعلق بالعدالة، لأنها العامل الرئيسي الذي يمكّننا (في حال تمامها) أو يمنعنا (في حال اعتلالها) من مواصلة مساعينا المكفولة لنا بموجب العدالة.

رداً على نظرية رولز، مهّد آمارتيا سِن لريادة نهجٍ مختلفٍ للعدالة، تركن في ركيزتها إلى تمكّن الأفراد وقوتهم (القدرة) من الوصول إلى حالة وظيفية قيّمة أو حالة من الاستقرار في اكتمال السلامة ووفرة العافية. تهتم نظرية القدرة بحريّة الأفراد في إحراز هاتين الحالتين. تقاس عدالة النظام المجتمعي بمجال تعزيز هذه الحرية ونتائجها للجميع، وهو ما يتعهده المساواتية تحديداً (انظر مدخل إلى منهج القدرة). يعدّ منهج مارثا نوسباوم أبرز منهجٍ للقدرة في مجال العدالة يرتبط مباشرة بالصحة العامة. حددت نوسباوم عشر قدرات رئيسية يجب توفيرها للمواطنين في المجتمع الذي يتحلى بالعدالة، منها الصحة الجسدية والحياة، والتي عرّفتها بأنها: “أن تتمكن من الحياة إلى منتهى العمر الطبيعي للإنسان، دون أن ينتزعك الموت قبل الأوان، أو تخفت الحياة لدرجة لا تستحق معها أن تُعاش” (Nussbaum 2006, 76). الصحة هي الركن الشديد الذي تأوي إليه كرامة الإنسان وتزدهر بها حياته. بالنسبة لنبوسام ومنظّرين آخرين في القدرة، تتصل أهمية القدرة على الصحة اتصالاً مباشراً بالعدالة؛ خلافاً لدانييل، الذي يعدّ الصحة سبيلاً استراتيجياً هاماً لتحقيق تكافؤ الفرص.

طور كلا من باورز وفادن نظرية مغايرة لبنية العدالة، وكما في نظرية القدرة عند نبوسام، فالصحة أيضا مرتبطة ارتباطاً مباشراً بسؤال العدالة. وبينما تركز نبوسام على القدرة على الصحة، فيركز باورز وفادن على الصحة نفسها بإرساء دعائم هذه النظرية على ستة عناصر لاكتمال السلامة ووفرة العافية واستقراراها عند الإنسان(well-being)؛ أحدها الصحة. لا يمكن الاستغناء عن أي عنصر منها وينبغي حراستها، لأنها من صميم الحياة الكريمة للإنسان، ولأن نماءها الآمن يستلزم بنية مجتمعية خصبة، ويستعصي على الأشخاص جني ثمارها بالتعويل على جهودهم فرادى. يدلّ على التزام باورز وفادن بالمساواة في هذا المنظور، ما تتضمنه العدالة البنيوية من تمتع كل فرد في العالم بالعناصر الستة لاكتمال السلامة ووفرة العافية عند الإنسان، وارتباطها بحقوق الإنسان أصالة، والتي تعهد للإنسان بالحياة الكريمة. يساور النظرية أيضاً قلق إزاء الحيثيات المجحفة لارتباط القوة بالامتيازات، وكذلك بحقوق الإنسان، وإزاء الروابط الوثيقة بين ثلاثية الجور، وحالة اكتمال السلامة ووفرة العافية عند الإنسان، وحقوق الإنسان (باورز وفادن ٢٠١٩).  تعجّ النظرية بمعالجات جمّة على ضوء العلاقة المتشابكة بين هذه العناصر التي يتألف منها الجور البنيويّ. في اعتقاد باورز وفادن أن الحرمان من أحد العناصر الرئيسية لاكتمال السلامة ووفرة العافية عند الإنسان (كالصحة) هو على الأرجح كلا الأمرين: نتيجةً وسبباً للحرمان من أحد العناصر الأخرى وهذا له تأثيرٌ مباشرٌ على سياسات الصحة العامة. وكذلك فالنمط الجائر للعوائق، والحيثيات المجحفة للقوة والنفوذ بدورها من بواعث الحرمان، ودواعي انتهاك حقوق الإنسان، ونذيرٌ بتأجّج أوجه الجور البنيوي.

تبين كل هذه المنهجيات المختلفة دواعي ارتباط الصحة بسؤال العدالة: لأن الصحة تساهم في إرواء النفع والرفاه؛ أو لأن للصحة أهمية استراتيجية لإيجاد الفرص المتكافئة؛ أو لأنها ركيزة أساسية لقدرة الإنسان؛ أو لأنها عنصرٌ رئيسي من عناصر اكتمال السلامة ووفرة العافية عند الإنسان. لذا يتحتم أن تكون الصحة من الأولويات في تشكيل السياسات الدولية والعالمية. يسوّغ كلّ من هذه المنهجيات– اتفقت أم تباينت – للإسهامات الكلية المشتركة في خدمات الصحة العامة وتطبيقاتها. وتحتوي كل منها دلالات تشير بشكل أو بآخر إلى سياسات الصحة العامة. فمثلا، يؤكد حجاج التكافؤ الطبيعي للفرص على أهمية (وأولوية ذلك – جدلاً-) التدخلات التي من شأنها حفظ أحد جوانب الصحة، أو استرداد العافية فيها لما لها من تأثير على النطاق الطبيعي للفرص، أو على الآفاق المجتمعية. تحمل مضامين النظريات التي تناولت مبدأ القدرة على الصحة وتلك التي ركزت على إحراز الصحة، مختلف الطرق لمساعدة مؤسسات الصحة العامة على تحديد مستهدفاتها وترتيب أولوياتها، وتقدم كذلك طرقاً تساعد على تقييم السياسات الصحية. تتبنى النظريات المؤيدة للروابط المتشابكة بين الصحة والجوانب القيّمة الأخرى للإنسان، طيفاً واسعاً من النتائج التي تلامس الاحتياج الفعلي للصحة العامة وأخلاقيات الصحة العامة، وهي أكثر شمولاً من النظريات التي ركزت على جانب الصحة فحسب. بشكلٍ أو بآخر، كل هذه المنهجيات معرّضة لانتقادات نظريات النفعية، والرولزية، والقدرة، واكتمال السلامة ووفرة العافية عند الإنسان.

علاوة على ما سبق، نجد أيضاً في أدبيات (الصحة وحقوق الإنسان) منظومة مختلفة لسكّ مفهوم قيمة الصحة، والصحة العامة، انظر ( (Mann et al. 1994; Mann 1996; Beyrer et al. 2007; Beyrer and Pizer 2007; Tasioulas and Vayena 2015a; Tasioulas and Vayena 2015b; Gostin and Friedman 2013).). في مطلع تسعينيات القرن الماضي (١٩٩٠)، استحدث جونثن مان منهجاً يؤطر الصحة العامة بإطار حقوق الإنسان؛ ويؤطر انتهاكات حقوق الإنسان، بإطار الصحة العامة. توالت بعدها أعمالاً عديدة تنتهج مسلك الصحة العامة وحقوق الإنسان، وتقدم في طليعتهم العديد من علماء قانون الصحة والصحة العامة ومناصريها، واتصلت أعمالهم بالنشطاء في المنظمات الإنسانية (Gostin 2008, 2010). تستند تقاليد الصحة وحقوق الإنسان على الإعلانات الدولية لحقوق الإنسان، وقانون حقوق الإنسان كأساس لها، إلا أنها لا تنقّب في الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان وارتباطاتها بنظريات العدالة. هذا ليس بسبب تنافر التفسيرات الفلسفية لحقوق الإنسان مع إدراج الصحة كحق أساسي، بل على العكس، إذ يمكن تأويل العديد من نظريات حقوق الإنسان في سياقات تدعم إدراج الصحة كحق مكفول بدءً من نظريات المصلحة (Powers and Faden 2019; Raz 1988; Griffin 2008; Beitz 2015)، مروراً بنظريات التحكم (Darwall 2006; Hart 1982)، وحتى نظريات الكرامة (Kamm 2007; Tasioulas 2015)، (انظر مدخل إلى حقوق الإنسان). وبعيداً عن تأويل المرء لأساسات حقوق الإنسان؛ فالتسليم بأن الصحة حق من حقوق الإنسان، يجعل الصحة مسألة من مسائل العدالة باعتبار أن الصحة حقّ مكفول لكل فرد. يتّسق تأطير الصحة بإطار حقوق الإنسان مع نقاشات أخلاقيات الصحة العامة، إذ يمهّد هذا الإطار لتأسيس مسؤولية الدول كراعٍ أول لها، ويولي إليهم مسؤولية حفظ الصحة وتعزيزها لكل فرد من أفراد المواطنين القاطنين داخل الدولة.

وكما يطال سائر النظريات التي عالجت قيمة الصحة من منظور العدالة الانتقادات العامة للعدالة، فكذلك تتعرض النظريات التي تتناول الصحة من منظور حقوق الإنسان، للمآخذ العامة لإشكاليات مسألة حقوق الإنسان (Buchanan 2012; Sreenivasan 2012).

٢.٢ التجميع والإجمال، وتحديد الغايات وتخصيص الموارد

كما أسلفنا في القسم ١.١، فإن أحد السمات المميزة للصحة العامة تمحورها حول تعزيز الصحة على مستوى المجتمع. تستند الصحة العامة على تجميع وإجمال مقاييس الصحة لتحديد مواطن الخلل وترتيب أولويات السياسات الصحية، وتقييم الآثار الناتجة عن تدابيرها وتخصيص الموارد فيها. هذا الاعتماد على التجميع والإجمال في الصحة العامة هو ما شكّل المنصة التي تحتشد عليها تساؤلات عديدة في العدالة في الصحة العامة، وأشهرها المناورات بين المقاربة المساواتية للعدالة، والتوجه النفعي للكفاءة.

٢.٢.١ العدالة والوحدات الطبيعية لقياس صحة السكان

بالرغم من أن العديد من أدبيات العدالة والصحة العامة فندت الأسلوب التجميعي في طريقة نشوئه وتنفيذه، لكن ما إن تُعرض أبسط أشكال مقاييس الصحة بالصيغة الإجمالية إلا وسوّرها قلق العدالة. لازالت العديد من المقاييس التقليدية للصحة العامة متداولة حتى يومنا الحاضر والتي تعرف “بالمقاييس الطبيعية الحيوية”، منها: مأمول الحياة، والوفاة، ومعدل البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات، ومعدل التمنيع. وعادة ما تعرض كقيمة متوسّطة (كمتوسّط العمر المتوقع للإنسان في أمريكا)؛ كما يستخدم “الوسيط” في بعض الحالات ونحو ذلك من طرق القياس. تكمن إشكالية استخدام المقاييس الإجمالية، في احتمالية إخفاء العوامل التفاوتية بين عناصر المجتمع في طياتها، ما يثير سؤال الأخلاق. وعودة إلى مثال معدّل عمر الإنسان في أمريكا، فالتركيز على هذا المقياس وحده يخفي الفروقات بين الإنسان الأسود والملون، وبين إنسان الريف وإنسان الحضر، وبين الإنسان المتعلم والحاصل على تعليم أدنى، ونحوها من مسائل مهمة أخلاقاً قد تنجم في كنف الجور. للارتكاز على متوسط المقاييس الإجمالية في إحصائيات الأجور أو التعليم عواقب أخلاقية في الصحة العامة. مثلاً: عندما استرشدت مؤسسات الإغاثة بنظام متوسط معدلات الأجور في الدول لتقدير أهلية توزيع اللقاحات عالمياً، بهدف حفظ الأرواح، أدى ذلك إلى حجب المساعدات عن الدول متوسطة الأجور؛ ما أثار انتقادات تستنكر تعزيز الجور في تلك البلدان. هنالك تفاوت جسيم في متوسط الأجور بين فئات المجتمع في البلدان متوسطة الدخل، والمقاييس الإجمالية تخفق في كشف احتياجات الفئات المهمّشة والتي -بطبيعة الحال- يُستبعد حصولهم على اللقاحات بدون تدخّل مؤسسات الإغاثة العالمية (Shebaya, Sutherland, Levine, and Faden 2010). تكمن أحد مهام أخلاقيات الصحة العامة في التيقظ لنتائج المقاييس الإجمالية، واستقراء التفاوتات المجتمعية المتوارية في تلافيف الصيغ الإحصائية الإجمالية، والذي قد يكون مؤشراً على تفاوتٍ جائرٍ يستدعي استدراكه وعلاجه.

قد يستعصي أحياناً اكتشاف ثغرات التفاوتات المجتمعية بين الفئات المتوارية في تجميع القياسات الإجمالية، ومعرفة عمقها، ثم تحديد الثقل الأخلاقي لها؛ وقد يُعتمد على منظور العدالة المحدد حسب السياق لاستقرائها (٥). ولكن في حال كان التفاوت المجتمعي في المقاييس الحيوية للصحة يضمن إحراز الصحة لأكبر عددٍ من أفراد المجتمع، فهذا -بلا شك- يتساوق مع مذهب النفعيين في الصحة العامة. وحتى إن ذهب المساواتية بجور التفاوتات المجتمعية على أية حال، فلا يمكن حقيقةً استقراء وجودها أو قياس مقدارها. وعلى منظّري العدالة (أو الجور بالأحرى) رتق هذا الفراغ بين استقراء التفاوتات المجتمعية، وتحديد ما إذا كانت هذه التفاوتات دلالة قطعية على وجود الجور (Powers and Faden 2006, pp. 95–99).

٢.٢.٢ العدالة والمقاييس المختصرة لقياس صحة السكان

هنالك إشكاليات أخرى للمقاييس الحيوية لصحة السكان من منظور صنّاع سياسات الصحة العامة (كمأمول الحياة ومعدل بقاء الرضّع على قيد الحياة). تلك المقاييس عاجزة عن إيجاز الحالة الصحية في المجتمع أو بيان أعباء اعتلال الصحة فيها، ولا يمكنها عقد مقارنات لاسثمارات صحية بديلة وتحديد قيمتها أو أثرها على سائر أولويات الصحة. تواجه أولويات الصحة على وجه التحديد، إشكالية تخصيص الميزانيات وتقنين الأولويات التمويلية. وبالرغم من أن أساليب تحليل التكلفة والمنفعة التقليدية (cost-benefit analysis) قد يحل إشكالية عقد المقارنات بين مختلف مجالات الصحة ومخرجاتها، إلا أن اختزال كافة فوائد ومخاطر إجراءات الصحة العامة إلى قيمتها النقديّة الصرفة هو محل استنكار. استداركاً، طُوّرت سلسلة من المقاييس المختصرة لقياس صحة السكان على أمل التخفف من تعدد المقاييس، وإحلالها بمقياسٍ واحدٍ يجمع مأمول الحياة وعواقب المرض ويراعي تأثير الأمراض والتدخلات الطبية على الحالة الوظيفية والعجز. وفقاً لذلك، انطلقت العديد من المقاييس المختصرة التي ذاع استخدامها، ومنها:مقياس سنوات العمر المصحّحة وفق مدد جودة الحياة ((QALY، ومقياس سنوات العمر وفق مدد العجز (DALY)، ومقياس العمر الافتراضي وفق مدد العجز (DALE)، ومقياس أجل الحياة الصحية المتوقع تحقيقها باعتبارات الظروف المحيطة HeaLY)).

لم تسلم المقاييس الملخّصة من الثلم ونالت انتقادات أخلاقية لاذعة (انظر مدخل إلى العجز وترشيد الرعاية الصحية). استنكر جانب منها القصور الذي يلفّ الطريقة النفعية في تصورها وتطبيقاتها في احتساب حق الرعاية. قد تستند المقاييس الملخّصة مثلاً، على تخمينات فردية وحدسية بحتة لتصنيف حالة صحية ما بنطاقٍ معين دون آخر، أو لاختيار عوائد مفضّلة دون أخرى؛ وقد تجري عملية المفاضلة بين عينة صغيرة من الناس لا تمثّل كافة الرغبات. وطال النقد أيضاً استناد المقاييس الملخّصة على القيمة المتوسطة لتلك التفضيلات ما يسبب تجاهل الآراء الأخرى التي قد تختلف في اختيار تفضيلاتها وترفض انتزاع قيمة حالات العوز الصحي والإنقاص منها.

ذهب بعض الانتقادات مذهب المساواتية في المحاذير الأخلاقية حول الافتراضات محلّ الخلاف في المقاييس الملخّصة، ومنها الاختلاف حول تقدير قيمة السنوات المحفوظة للعمر بين مختلف مراحل الحياة، وحول كيفية انتزاع قيمة بعض حالات العجز والإعاقات. وتبعا لطريقة تعيين هذه الافتراضات، انتقدت القياسات الملخّصة بكونها تمييزاً على أساس السن، أو أنها ليست ملائمة لمراعاة الفوارق العمرية، وبأن فيها انتقاصٌ مجحفٌ للمصابين بالعجز والإعاقات، وأنها تخفق في التوضيح الأخلاقي لقيمة حفظ سنوات العمر المحفوظ وإنقاذ الحياة، وبأنها لا تراعي الفوارق النوعية في مختلف المنافع والخسائر وتتعامل معها كعوامل كمية قابلة للقياس (Brock 2002, 2006; Daniels 2008; Kappel and Sandoe 1992; Nord 2005; Powers and Faden 2006; Ubel 1999; Williams 2001; Whitehead and Ali 2010; Soares 2012; Pettit et al. 2016; Schroeder 2017).

نجد في قياس صحة السكان في مشروع “العبء العالمي للمرض” أشهر تطبيقٍ معتبرٍ لمقياس DALY والتي تجريها العديد من الدول لبحث الأعباء الوطنية للأمراض بدعم منظمة الصحة العالمية. تقوم تلك الأبحاث بدور كبير للمساعدة على تصنيف أنماط اعتلال الصحة محلياً وعالمياً. تناولت أدبيات الصحة العامة الإشكاليات الأخلاقية في استخدام مقياس دالي في أبحاث أعباء الصحة تحت بند الإشكاليات الاجتماعية، وخصوصاً حول ما يجب احتسابه في تقدير قيمة العوامل المدرجة في المقياس كتقدير أوزانها وفق العمر، أو انتزاع قيمتها وفق الزمن. ولما لهذا المشروع أهمية نافذة في تحديد اتجاه أولويات الصحة، تشدّد الأدبيات على توخّي أخلاقيات المقاييس الملخّصة في خضمّ أعمال الصحة العامة.

٢.٢.٣ الكفاءة والإنصاف

عرّجت كثيرٌ من أدبيات أخلاقيات الصحة العامة في المقاييس المختصرة على معالجاتٍ لتحليل التكلفة والفائدة (cost-utility analysis) (٦). يعتمد تحليلُ التكلفة والفائدة على المقاييس المختصرة لتحديد طرق تأمين أكبر قدر من الصحة بتوظيف الموارد المتاحة، بغية تأسيس أرضية لعقد مقارنات التكاليف المالية، مع مراعاة الكفاءة في تخصيص الموارد. علاوة على ما أسلفنا عن الإشكاليات الأخلاقية حول بنية المقاييس المختصرة، وما تتضمنه من افتراضات في تحليلها، فإن تحليل التكلفة والفائدة – وكما هو الحال في تحليل التكلفة والمنفعة (cost-benefit analysis) والتنظير النفعيّ عموماً- يثير تساؤلات العدالة في تجاهلها لمسائل التوزيع. ويخطر هنا، أنه عادةً ما تُغطي تدخلات الصحة العامة ذات التكلفة المادية المجدية احتياجات الفئات أكثر عوزاً مقارنة بمن هم أحسن حالاً نسبياً.  وهذا يعود لأن النزر اليسير من المال قد يرفع الفئات أشد عوزاً درجاتٍ في سلم الصحة لانخفاض سقف مأمول الصحة لديهم نسبياً. وهذا ما نلمسه مثلاً، عند الإسهام في حملات تحصين الأطفال، وتوفير الفيتامينات المكملة في المجتمعات ذات الدخول المتوسطة والمنخفضة. ومع هذا، فانكفاء السياسات الصحية على تحليل التكلفة والفائدة، قد ينطوي على أوجهٍ من الجور عند تحديد الأولويات الصحية وتخصيص الموارد. مثلاً، قد تتسبب صناعة السياسات وفق نتائج تحليل التكلفة والفائدة في تعزيز الجور الصحي أو تأجيجه؛ فبينما يتيسر اكتساب الصحة بأعلى جدوى في الفئات أكثر ترفاً، يحدث إجحافاً أن: يتعثر تأمين العلاج لمن يعاني مرضاً نادر الحدوث، أو يتعذّر تقديم الرعاية لمن يعاني مرضاً وخيم العواقب، أو قد لا نلتفت للأمراض باهظة الوقاية والعلاج.

ثمة حلول بديلة لمواجهة إخفاقات التوزيع العادل الناجمة عن تحليل التكلفة والفائدة التي تتخذ من مضاعفة الأثر مبدأً لإعمالها. يقترح علماء أخلاقيات الصحة العامة مبادئ مغايرة لمواجهة إشكالية التوزيع، في جدليات تعكس في مضمونها النظريات المعروفة في أدبيات عدالة التوزيع. ومع أن بعض الدفوع تسير في مدار المساواة في توزيع الموارد المخصصة للصحة (Marmot 2005; Wilkinson 2005).، لا سيما العدالة في الفرص (Daniels 2004, 2008)، إلا أن هناك أدبيات تزخر بالصراع بين مناصري مبدأ الأولويات ومناصري مبدأ حد الكفاف.  يزعم مناصرو مبدأ الأولويات أنه بالرغم من أن التوزيع يجب أن يهدف عموماً إلى إثراء صحة السكان وتعزيزها، إلا أنه يجب إيلاء اهتمامٍ إضافي للعمل على أولوية تعزيز الصحة وتخصيص الموارد في مظان العوز للصحة (Parfit 1997; Ottersen et al. 2008; Ottersen, Mæstad, and Norheim, 2014). لكن يبقى سؤال تحديد كنه العوز للصحة محل نزاعات عديدة. في المقابل، يفضّل مناصرو الكفاف توزيع الموارد المخصصة للصحة بغية تحقيق سائر أفراد المجتمع قسطاً مأمولاً من الصحة أو إلى حد وصولهم إلى حالة من القدرة على الصحة (Nussbaum 2006; Powers and Faden 2006; Fourie and Rid 2017).. يصور هذا المنظور عالَماً يصل فيه كل الأفراد إلى مستوىً مأمول من الحالة الصحية أو من القدرة على الصحة، وهذا يبدو أفضل من عالم يتخطى فيه متوسّط السكان المستوى المأمول من الحالة الصحية أو من القدرة على الصحة بينما تتخلّف عن اللحاق بهم الفئات الفرعية للمجتمع. يكمن التحدي هنا في استشفاف تصور واضح أولاً، وتبين التطبيق العملي ثانياً، لتحديد مقدار الصحة المأمول، والقدرة على الصحة الذي يمكن على أعتابها الوصول إلى حالة الكفاف.

بطبيعة الحال، لا مناص من التفكير في التحديات التي تفرضها توترات الإنصاف والكفاءة في الصحة العامة (Daniels 2019). ففي الولايات المتحدة مثلاً، نجد أن معدلات وفيات الرضّع تتجاوز ما يرصد في البلدان الغنية الأخرى لا سيما بين الأطفال الذين يعانون من الفقر وشظف العيش وفي أطفال أقليات المجتمع. تعتنق بعض الدول على رأس أولوياتها مهمة تخفيف وطأة التباين العرقي باعتبار هذا الجور إشكال أخلاقي ذو أولوية حرجة. بخلافهم، تهدف دولٌ أخرى لتحسين معدلات الإبقاء على حياة الرضّع. ويعتقد هؤلاء أن التوزيع المتساوي لحصص الموارد بين فئات المجتمع يضمن تحسين إجمالي الصحة على صورته الشمولية، وعلى التوازي لا بدّ من العمل كذلك على تخصيص الموارد للفئات أشد عوزاً من الأطفال (HRSA 2014 في مصادر أخرى من الانترنت). والحقيقة أنه لا يمكن الإمساك بخيط حاسم للمفاضلة بين سرديات عدالة التوزيع ويجزم بعدالة سياسة دون أخرى.

على طاولة صناعة القرارات السياسية للصحة العامة يتاخم مبدأُ الإنصاف مبدأَ الكفاءة، وعادة ما تدرج البلدان ضمن خططها للصحة العامة أهدافاً عديدة تعنى بالإنصاف في الصحة (Krubiner and Faden 2017). يقتفي صناع القرارات في الصحة العامة العديد من الطرق لمساعدتهم على استبقاء أهداف المساواة في غمار اهتمامهم برفع كفاءة إنفاق الموارد المخصصة لصحة المجتمع. يواجه صناع القرار إشكالية تضخّم النتائج عند إلى تحليلي التكلفة والفائدة (cost-utility analysis) والتكلفة والفعالية cost-effectiveness analysis). قد تحمل الصفة الكمية لنتائج التحليلين دلالات مخاتلة، تبدو – زيفاً- أنها مسلّمة وبرهاناً تصنع القرارات على ضوئه. وليتلافى صناعُ القرار السياسي مجازفةَ الوقوع في هذا الفخ، يأخذ بعضهم في الحسبان التعامل مع تحليلي التكلفة والفعالية، والتكلفة والفائدة على أنهما رافدين مساندين فحسب، إلى جانب التّقيّد – بمنهجٍ علميٍّ أكثر رصانة وبالتماس التحليلات البيّنة في الأخلاقيات.

على ضوء ذلك، حاولت عددٌ من الأطر الأخلاقية مساعدة صناع القرار على دمج جدوى الإنفاق ومسؤولية العدالة في سياساتهم في وثيقة إرشادية واحدة (انظر Ottersen et al. 2014). ثمة اهتمام متنامٍ في الصحة العامة بأداة “التحليل لاتخاذ القرارات متعددة المعايير” التي تستخدم عادة في أبحاث التشغيل للمساعدة على اتخاذ قرار مركّب، عن طريق معالجة منهجية للمعايير المتعددة ذات العلاقة ومنها معياري الكفاءة والإنصاف. تبعتها محاولات أخرى لتضمين معيار الإنصاف في أدوات التحليل التقليدية المستخدمة في الحقل الاقتصادي والتي تعرف بتحليل التكلفة والقيمة (cost-value analysis) (Distefano and Levin 2019).

يخضع هذا التوجه في استخدام الطرق التحليلية للتخفف من حدة تحليل التكلفة والفائدة بغرض تضمين العدالة في القرارات المتخذة لمختلف موازين النقد. فمثلاً، تواجه المنهجيات التي تتكلف إظهار تعدد الأبعاد في عملية اتخاذ القرارات لصانع القرار، وتأطرها بأطر مبطنة مسبقاً بملامح الأخلاقيات، منعطفاً أخلاقياً حاداً نتيجة إخفاقها في استيعاب طبيعة الصناعة السياسية وأنها ذات توجّه كميّ يتأثر بالأرقام. على النظير، انتُقدت بعض الطرق بسبب تضمينها مسائل أخلاقية لا تزال طور التجربة في منهاجها ولأنها حاولت دمجها في التحليلات الاقتصادية. وكذلك بعض الطرق الكمية في تحليل اتخاذ القرار متعدد المعايير، بسبب إدراجها لعوامل لا تخضع في طبيعتها للمقاييس الكمية، ولمواراتها المسائل الأخلاقية التي قد تُبنى عليها القرارات السياسية عن أنظار الساسة والعامة.

٢.٢.٤ الندرة المطلقة للموارد

كما لاحظنا آنفاً فالموارد المالية في الصحة العامة دائما ما تكون محدودة، وقلّما تتوفر الأموال المعينة لها على أداء مهامها وتنفيذ سياساتها للنهوض بصحة المجتمع. إمداد الصحة العامة عن طريق تحريك مخصصات الجهات العامة الأخرى كدعم ميزانية الصحة بنسبة من ميزانية الدفاع في الدولة مثلاً مبررٌ أخلاقياً ويخفف من التزاماتها الطارئة، إلا أنه لا يعفيها من تحديد الأولويات واتخاذ قرارات تخصيص الموارد؛ فذلك عملٌ أصيل من طبيعة صناعة سياسات الصحة العامة يستحيل الاستغناء عنه. ثمة حالات لا يكون فيها المال عائقاً رئيسياً، وتظهر إشكاليات مغايرة لمسألة العدالة في الحالات التي تعرف بالندرة المطلقة أو الترشيد الصارم. إذ يتزامن مع الأزمات الطارئة الجسيمة ندرة الموارد اللازمة للتحكم بها، والتي لا يجدي فيها تخصيص المزيد من الأموال أو تحريك الموارد للحصول عليها (٧). مثال ذلك، في حال التصدي لحالات الأوبئة وتوقف تصنيع المنتجات الوقائية اللازمة لبلوغ النصاب الأدنى للسيطرة على المرض (كاللقاحات). في هذه الحالة، تسير جدليات مبدأ الكفاءة والمبادئ الأخرى للتوزيع في منحىً آخر يتوسّل بمبادئ داعمة من نوع مختلف. مثلا، في حالات الأوبئة التي يندر فيها إنتاج اللقاحات، يتفق العديد على أهمية إتاحة أولوية التحصين للممارسين الصحيين وخطوط الدفاع الأمامية. يتوسّل هذا المنحى بمزيجٍ من الأسباب النفعية وغير النفعية؛ لاستيفاء هذا الرأي لمبادئ التوزيع العادل لكونه يجمع بين الإسهام في الصحة وتبادلٌ المنفعة ((Reciprocity. إذ أن هؤلاء يقفون في ميدان الوباء دون أفراد المجتمع، معرّضين أنفسهم لاحتماليةٍ أكبر لخطر الإصابة بالعدوى، حاملين أرواهم على أكفّهم. وعليه فإن أولوية الحصول على التدبيرات الوقائية هي لخط الدفاع الأول. ومن ناحية أخرى، فنظام الصحة العامة بحاجة لأن يُقبل المختصّون فيها على أداء مهامهم وأن يكونوا قادرين عليها، ولهذا فإن تمكينهم من تلقي اللقاحات النادرة استثمارٌ يحثّهم على العمل نيابة عن المواطنين كما أنه يؤمّن لهم صحتهم.

يعتمد تشارك أخلاقيات الصحة العامة والأخلاقيات الطبية الإكلينيكية في بعض مسائل الندرة المطلقة للموارد حسب النظام المتبع في كل دولة. وعلى كلٍ، فالمسألة تنصرف لتدابير سلطات الصحة العامة في عمومها، مثلاً: الإمداد بالمضادات الحيوية وأسرّة العناية المركزة أثناء وباء الانفلونزا، وكذلك تخصيص منح الأعضاء الحيوية، والنقص الحاد في إنتاج عقاقير علاج السرطان (Unguru et al. 2014). ولنأخذ منح الأعضاء على سبيل المثال، قد يوحي الفهم البدهي للإنصاف إلى اللجوء إلى الاقتراع العشوائي بين الحالات، أو بمنح الأعضاء على أساس أسبقية الوصول (Arras 2005; Broome 1984; Silverman and Chalmers 2001). ولكن في حال نتج عن استخدام أحد هذين الافتراضين تقدّم مريض يبلغ ٨٥ عاماً على طفلٍ في العاشرة من عمره، فسيقف النفعيين أول المعارضين، متعللين بمنظور مقياس السنوات المصححة وفق جودة الحياة (DALY)، وسنوات العمر المصحّحة باحتساب مدد العجز (QALY)، أو بمبدأ المساواة بين الأجيال “جدلية المراحل العادلة”، الذي يتيح أولوية الاستبقاء على حياة الشخص لمنحه فرصة تجربة المراحل المقبلة من العمر، قبل تأهيل من نال نصيبه من تجربة تلك المراحل. تهيمن مساجلات بين مفاهيم مبدأ المساواة في الفرص والمخرجات العادلة على الأدبيات من هذا الباب. تتجه العديد من الدول لتخصيص منح الأعضاء الحيوية بتبني وتكييف لفيفٍ هجين من مبادئ التوزيع الآنفة. وفي محاولات مماثلة، يآلف “نظام الحيوات المكتملة” بين تلك الرؤى المتعددة في منهجية عامة لأهلية منح الموارد النادرة (Persad, Wertheimer, and Emanuel 2009)، بينما برزت أنظمة أخرى لتخصيص موارد نادرة بعينها، كتخصيص أجهزة التنفس الصناعية في مواجهة وباء الأنفلونزا (Daugherty Biddison et al. 2018).

٢.٢.٥ توزيع الأعباء الصحية

قمنا حتى الآن بطرح أسئلة العدالة في تحديد الأولويات الصحية، ثم ألحقناها بمسائل تخصيص الموارد في سبيل تحسين الصحة. يتخلل التدخلات الصحية عددا من الأخطار والأعباء، التي قد تقع على كاهل الأفراد أو المجتمعات المستهدفة. لكن في بعض السياقات قد يقع النفع والضرر على الفئة نفسها ما يثير تساؤلات العدالة. مثلاً، في سبيل محاربة الانفلونزا الموسمية، أصدرت اليابان سياسة برنامج التحصين ضد الانفلونزا في (١٩٦٢-١٩٩٤)، لتمنيع الأطفال بغية حماية كبار السن، الذين يرجح أن تكون إصابتهم بالانفلونزا مميتة، ويمكن للقاح أن يتسبب لهم بمضاعفات جسيمة (Reichert et al. 2001; Sugaya 2014). يتبع مثال الحصبة الألمانية النسق السردي ذاته، فنجد أن للحصبة الألمانية أعراضاً طفيفة في العادة، إلا أن العواقب وخيمة في حال انتقال المرض إلى الحامل ما قد يتسبب بفقدان حملها أو تشوه جنينها. لذا تقوم العديد من الدول بتمنيع الأطفال بغية حماية الحامل وجنينها (Miller et al. 1997; ACIP 2010 in Other Internet Resources). يثور سؤال هنا، هل من الأخلاقي أن يتحمل فئة من المجتمع عوارض الإجراءات – وإن كانت طفيفة – بغية حماية فئات أخرى، يحول حائلٌ بينهم وبين التلقي المباشر لذات الإجراءات؟  قد تجيب إحدى جدليات تبادل المنافع على هذا السؤال. في سياق التحصين من الحصبة الألمانية، فالأطفال الذين تم تمنيعهم اليوم، كانوا بالأمس رهن المخاطر نفسها وهم أجنة في بطون أمهاتهم، لولا أن أطفالاً آخرين تلقوا هذا اللقاح لحمايتهم من خطر العدوى (بلا ريب، ليس من المنطقي سحب هذه الجدلية على الرعيل الأول ممن تلقى اللقاح إبّان تطويره). تطالعنا جدلية أخرى تقول بأن تعرض فئة للمخاطر، بغية حماية فئة أخرى، مبررٌ من باب التوزيع المنصف لأعباء المرض بين كافة فئات المجتمع. تفسر الجدلية الأخيرة لمَ على جزء من المجتمع تلقي بعض إجراءات الصحة العامة دون أن تعود عليهم بنفع مباشر. على الأرجح، كما في حال الإتاوات الضرائبية، فإن أي محاولة لتبني هذا المنهج لتسويغ توزيع الأعباء، سينازعها دائما سؤالٌ لجوجٌ عمّا يمكن أن يحدّ توزيع الأعباء الصحية. وقد تُوجّه أيضاً تساؤلاتٌ عن مدى معقولية توزيع الأعباء الصحية بهذه الطريقة.

٢.٣ الصحة العامة والوقاية وسؤال العدالة

في هذا المنحى ينشأ طيف من الأسئلة الاستثنائية للعدالة حول إجراءات تعزيز الصحة العامة المترعة بمهام الوقاية من المرض وإصابات الحوادث. يُعدّ هذا الاهتمام بالوقاية من المرض سمة مميزة لمؤسسات الصحة العامة، وإن كانت مؤسسات الصحة العامة تقدم أيضاً خدمات تشخيص المرض وتقديم العلاج بمشاركة مختلف المؤسسات الطبية عبر المنصات المختصة بتقديم مثل هذه الخدمات (٨). في الحقيقة، هناك تنامٍ ملحوظ لدمج الوظائف الوقائية وتقديم الخدمات الطبية للأفراد في المنظومة الصحية في العديد من الدول. وعادة ما تدمج هذه الوظائف والخدمات ضمن هيكل سياسي أو إداري مشترك. ويحتكم قرار فصل الخدمات والوظائف الوقائية عن الخدمات والوظائف الطبية إلى السياق المتّبع لتعزيز صحة السكان. وعليه، فإن سائر السياسات والبرامج الرامية إلى الوقاية من الأمراض وإصابات الحوادث هي – بالتأكيد- مظانّ عمل الصحة العامة ونموذجها. ومما لا شك فيه، فإن مؤسسات الصحة العامة قمينة بأن تقوم بهذه الوظائف دوناً عن سائر المؤسسات المجتمعية.

ولعل أبرز سؤال أخلاقي يطالع الصحة العامة في عملها الوقائي هو: هل الوقاية من الأمراض بذات أهمية علاج الأمراض والإصابات أم يفوقها أهمية، أم أنه أدنى أهمية منها؟ إن اعتبرنا الوقاية والعلاج متكافئين في ميزان الأخلاق، كأن تكون وقاية أحدهم من الإصابة بأمراض القلب يعادل (أخلاقاً) علاج شخص مصاب بالمرض؛ ولأن الأعمال الوقائية عموما أقل تكلفة من علاجها فهذا يُقدّم الوقاية من المرض درجة على علاجه -على الأقل من منطلق الأخلاقيات- وفق المنطق النفعيّ لاستيفاء العدالة في الصحة العامة. في الواقع، فإن الاندفاع في الاستثمارات في المجالات العلاجية يقابله ضحالة الإنفاق على الوقاية. وكنا قد عرجنا على التعقيدات الأخلاقية في إجماع التحليلات الاقتصادية على الإنقاص التراكمي مع الزمن لقيمة عوائد الصحة والإنفاق المستقبلي عليها مقارنة بالقيمة الراهنة لعوائد الصحة والإنفاق الحالي عليها؛ والذي يوازيه كذلك إجماعٌ على تبخيس الإنفاق والعائد الذي سيحدث مستقبلاً. ولكن هذه التحيزات ليست حصراً على التحليلات الاقتصادية وحدها.

 ثمة تنامٍ مشهود في توجه السياسات الصحية إلى الوقاية في الآونة الأخيرة، إلا أن الإنفاق العام على الإجراءات الوقائية للصحة العامة لا يزال دون المستوى المأمول، وإجراءات الوقاية لا تحظى بالشعبية نفسها للتدخلات العلاجية عند العموم. مثلاً، بالرغم من تنامي التوجّه لتحسين الصحة في السياسات العامة لأماكن العمل، إلا أنا نشهد نزوعاً من الساسة والعموم إلى تفضيل أولوية التأمين على أمراض القلب وتسهيلات الوصول إلى أقسام الجراحة والحصول على العقاقير الطبية على برامج الوقاية من أمراض القلب كالنشاط البدني والغذاء المتوازن (٩).  فهل هذا النزوع إلى الخدمات العلاجية مبرَّرٌ أخلاقا؟

تتوسّل الإجابة على هذا السؤال ببعض الفروقات الهامة والتي قد تبدو غير واضحة أحياناً، إلا أنها تخدم سياق مسألة الأخلاق. من ذلك ما أشرنا إليه آنفاً، في فرق الإنفاق والعوائد حالاً وآجلاً، والتمييز بين المحسوس وغير المحسوس (أرقام إحصائية)، والفرق بين الحالات الحاضرة والحالات المتوقعة مستقبلاً. عادة ما يقع أثر التدخلات الوقائية في المستقبل، بينما يمثُل لنا أثر الإجراءات العلاجية في أمد قصير. ومن غير الواضح إن كان على المرء أن يبخس من قيمة العائد الذي سيحصده مستقبلاً، أمام ما يمكن أن يجنيه اليوم حاضراً بين يديه. لا سيما أن المنفعة الواقعة حالاً محسوسة، على عكس المنافع المؤجّلة. يؤثّر عامل الزمن على المفاضلة بين حالات ماثلة في الحاضر، وأرقام الإحصائيات التي لم ندرك كنهها بعد. تدعى هذه الظاهرة النفسية “بتأثير الضحية الشاخصة”، وهي الرغبة العارمة لتقديم المعونة وإزالة الضرر اللاحق بالأفراد أو المجموعات المعرّفة لدينا والشاخصة أمامنا، في مقابل تقديم المساعدة لإزالة الضرر نفسه، الواقع آجلاً أم عاجلاً على أفرادٍ أو مجموعاتٍ نجهل هوياتهم ولم نتعرّف عليهم في أي سياق مجتمعي يعنينا. فأولاء المجهولون عن إدراكنا، محض أرقام، وبالكاد بيانات إحصائية (pp.1–2; Eyal et al. 2015; Jenni and Lowenstein 1997; Jonsen 1986; McKie and Richardson 2003; Small 2015)..

يبدو تأثير “ظاهرة الضحية الشاخصة” (The identified victim effect) جليا في المقارنة بين الوقاية والعلاج. فبالرغم من أن الموارد تُخصّص لكل من الوقاية والعلاج على حد سواء بصفة إجمالية على مستوى المجتمع، إلا أن التدخلات العلاجية حتماً تقدَّم في نهاية المطاف إلى أشخاص بعينهم، يشهد الطاقم الطبي المعالج وغيرهم نتائجها عياناً. في المقابل، مثلاً، مع أن حملات التحصين قد تستهدف فئةً معلومة ومحددة، إلا أن نتائجها لا يلزم أن تكون محسوسة. ومثل ذلك فرض ضرائب السجائر الرامية لخفض معدلات استهلاك التبغ بين عدد كبير من أناس نجهل وجوههم وأسماءهم. وحتى في مثال حملات التمنيع الموجهة إلى فئات بعينها، فنحن لا ندرك هويات من يعود عليهم نفع التحصين من الفئات الأخرى (هم محض إحصائيات).

ترى العديد من الأطروحات أن الاستمتاع بحالة اكتمال السلامة ووفرة العافية من قبل الأشخاص الماثلين والمعرّفين لدينا الآن، مُقدمٌ أخلاقاً على تأجيل الانتفاع بها من المجهولين في الأرقام الإحصائية (Hare 2015; Slote 2015; Verweij 2015) (١٠). تعزز” قاعدة إنقاذ الأرواح” هذا الادعاء، إذ أن من الواجب الأخلاقي تقديم المساعدة لأولئك الذين هم في حاجة ماسّة إليها حالاً (١١). يقترن في هذه الدفوع إنقاذ الأشخاص من الموت المحتّم أو من الإصابة بالعجز القاهر أو تخفيف معاناتهم، بالمسؤولية الأخلاقية للطبابة الالكينيكية. استرسالاً، يشير بعض الحجاج الاستتباعيّ إلى أن معرفة قومٍ بوفرة الموارد التي ستُبذَل في سبيل إنقاذ حياتهم في حال تعرضهم للخطر، يعزز من ازدهار حياتهم ورفاههم McKie and Richardson 2003)). 

يعتقد من يعتبر أن سردية الضحية الشاخصة محجة مقنعة أخلاقياً وسيكولوجياً، بالإضافة إلى أولئك الذين يدعمون قاعدة إنقاذ الأرواح، أن على الصحة العامة أن تبنى سياسات الأولويات الصحية وتخصيص الموارد بالتحيّز لصالح العلاج. في المقابل، تواجه قاعدة إنقاذ الأرواح بالرفض، إذ أنه لا يجب أن تُبنى الأولويات ولا تُخّصص الموارد بالتحيز لإنقاذ الأشخاص المعرّفين على الأشخاص في الإحصائيات (Brock and Wikler, 2006, 2009; Hope 2001, 2004; Otsuka 2015). مثلاً، تجد بعض الجدليات أن التّحيز باتجاه أولوية الأشخاص المعرّفين دون الأشخاص في الإحصائيات، هو في حقيقته تطفيفٌ للأخلاق، وعليه فإن تقديم الأولوية للأشخاص لكونهم معرّفين لدينا (بعد تساوي سائر العوامل الأخرى) غير مبرر (Brock 2015; Eyal 2015; Jecker 2013).. وفي حال سلّمنا بهذا الادعاء، يجب إذاً تجاهل ظاهرة الأرواح الشاخصة أثناء تخصيص الموارد وتحديد الأولويات. فهذا النزوح إلى تفضيل الأشخاص المعرّفين لدينا، على الأشخاص في الإحصائيات (في المستقبل)، ينمّ عن الكيل بمكيالين للمعاملة الأخلاقية بين الفئتين (Jecker 2013, 2015) (١٢).

اقتصرنا نقاشنا إلى هنا، حول أشخاصٍ كائنين وموجودين حالياً. وسواءً كان المردود حاصلاً في الوقت الحاضر أو في ​​المستقبل، ولأشخاص المعرّفين أو في الإحصائيات، فالواقع أن سائر المستفيدين من الفئتين موجودين حاليًا. تتصاعد وتيرة التعقيد في حال خُصصت الموارد لتنفيذ الإجراءات الوقائية التي يجني فائدتها أشخاص غير كائنين وقد يتواجدون في المستقبل (انظر مدخل إلى غياب الهوية .(Parfit 1987; تعود برامج استئصال شلل الأطفال أو الجدري مثلاً، بفائدة محدودة على من اكتسب مناعة سواءً من إصابةٍ سابقة أو لمن تلقى اللقاح؛ ويجني جلّ نفعها أشخاصٌ موجودون الآن ومعرّضون لخطر الإصابة بالعدوى، بالإضافة للأشخاص الذين سيولدون مستقبلاً في عالم يخلو من هذه الأمراض. وبالطبع، فإن الجدليات الداعمة لبرامج استئصال الأمراض تتوسل عادة بالفائدة العائدة على الأشخاص الذين سيتواجدون في المستقبل وبالعدالة القائمة بين مختلف الأجيال (Emerson 2010; 2014). يبرز هنا من جديد سؤال التراتبية، هل يجب أن تتقدم أولوية مصلحة الأشخاص الموجودين حالياً (سواء معرّفين أم متضمنين في الإحصائيات) على مصلحة الأشخاص الذين سيتواجدون في المستقبل؟ إن سلّمنا بذلك، فنحن بصدد مواجهة سيلاً من الأسئلة الأخرى حول احتساب الأوزان التقديرية لتحديد القيمة الإضافية للأشخاص الكائنين حالياً.

هناك حزمة من التساؤلات المغايرة عندما تتطلب مساعي الصحة العامة الرامية لنفع الأشخاص في المستقبل، مشاركة الأشخاص الموجودين الذين يعانون من قصورٍ جائرٍ في تلبية احتياجاتهم الصحية. على سبيل المثال، يجادل سكان الدول منخفضة الدخول ومتوسطة الدخول أنهم يعانون من أمراضٍ أكثر إلحاحاً من الأمراض العديدة التي هم بصدد القضاء عليها ودحرها: فهل هذا من الإخفاق في توجيه الموارد للتخفيف من وطأة التفاوتات الجائرة في الصحة؟ أم أن في تخصيص الموارد لنفع الأشخاص في المستقبل، حصافة وبعد نظر؟ أو أن تلك البرامج تُعنى بإلحاق الأشخاص الحاليين الذين يعانون من الحرمان حالياً، في الإجراءات الصحية المصممة لإفادة الأشخاص في المستقبل؟ (Rubincam and Naysmith 2009).

عالج جيفري روز بعض تلك المسائل في عمل وجيه، يحلل فيه أسئلة العدالة والوقاية والصحة العامة (1985; Rose et al. 2008). يركز روز في تحليله على العلاقة المركّبة بين السمات المميزة المألوفة لنا الآن (الوقاية بمقابل العلاج أو البُرء وكذلك المستفيدين المعرّفين والمجهولين ضمناً في الإحصائيات)، ومقدار الفائدة المرجوة من التدابير، ولمن تسدى هذه الفائدة، وما تكلفة هذه التدابير. يبحث روز أيضاً، منهجين مختلفين للوقاية: “استراتيجية الخطورة المرتفعة ” و”منهجية السكان”. تتضمن “استراتيجية الخطورة المرتفعة” اكتشاف الحالات ذات الخطورة العالية المعرّضة للإصابة بمرض ما، كالأزمات القلبية أو الجلطات، ومن ثم التدخل بالعلاجات (كالستاتين) لخفض مستوى الكولسترول. تتضمن “منهجية السكان” تنفيذ الإجراءات الوقائية التي تؤثر على المجتمع ككل، وليس الأفراد ذوو الخطورة المرتفعة فحسب. ومثاله، فرض الضرائب على المشروبات الغازية والأنظمة التي تحد من إدراج الدهون المتحولة في الأطعمة المُصنّعة والمعالَجة. صاغ روز في عمله مفهوم “مفارقة الوقاية”: بالمقارنة مع تدخلات “استراتيجية الخطورة المرتفعة”، فالتدخلات الوقائية الموجهة للمجتمع برمته دائما تتيح القليل -نسبياً- من النفع لكل فردٍ. وعلى كل، فهذه الإجراءات تخفض نزراً قليلاً من المخاطر الصحية لدى كل فردٍ من أفراد المجتمع. إلا أن قليلُ هذه النزر في الفرد الواحد كثيرٌ في المجموعة الكبيرة، فهي تضاهي في شموليتها وجدواها البدائل المقابلة من إجراءات “استراتيجية الخطورة” (Rose 1985, 1993; Rose et al. 2008). وتحديد المدى الذي يمكننا فيه تقديم “منهجية السكان” على وجه التفضيل، مودَع في إجاباتنا على الأسئلة التي ناقشناها في هذا القسم؛ في مقارنة الأشخاص في الإحصاء بمقابل الأشخاص المعرّفين، وقاعدة الإنقاذ، ومكانة الأشخاص في المستقبل.

٢.٤ مسؤولية الفرد في الصحة العامة

كما لاحظنا حتى الآن، فإن قضايا العدالة لا تنحصر في إشكاليات مصفوفة الأولويات أو تخصيص الموارد. وأحد الإشكاليات الملحّة فيها، هو مدى تحمل الفرد مسؤولية صحته. مثلاً، تلزم جدليات الحظ عند المساواتية تعويض الشخص عن سوء حظه أو نظير عوامل خارجة عن سيطرته. أما في الحالات الواقعة تحت تصرفه واختياره فالتعويض ليس ملزماً (Albertsen 2015انظر أيضاً: مدخل إلى العدالة وسوء الحظ). يُستنبط من أحد الأشكال غير المعقدة للمساواة في الحظ، أنه ينفي عن المرء حق الحصول على موارد العلاج أو الوقاية لدفع اعتلال الصحة الذي لحق به نظير سوء تدبيره. أما في حال اتفق وقوع الضرر على المجتمع جله أو كله جرّاء تفشّي الإيذاء الذاتي للنفس والاختيار الطائش، يمكننا أن نجادل أنّ تدخّل الصحة العامة عندئذ، يكون بمقتضى الإحسان وفعل الخير، لا من باب العدالة. إذ أن إصلاح الضرر الواقع ليس ملزِماً من باب العدالة في حال نتج عن طيش الاختيار. وبالطبع فهناك العديد من المساواتية يجادلون أن رأيهم في الحظ لا يسفر عن الاستنباط السابق (Albertsen 2015; Knight 2015; Segall 2010). هذا الرفض لشكل مبسّط وغير معقد للمساواة في الحظ كفيلٌ بإظهار الوضع الشائك بين المسؤولية الفردية، والمهام المنوطة بالصحة العامة.

تأطير تدابير الصحة العامة بموجب الإحسان لا العدالة، هو أحد أوجه الاستجابة لمخاطر الإيذاء الذاتي على الصحة. تبيّن بعض الجدليات أن الممارسة المتعمّدة للإيذاء الذاتي يتسبب في ازدياد التكاليف على بقية أفراد المجتمع، ويجب على من يمارس الإيذاء الذاتي تغطية التكاليف الإضافية بموجب العدالة. نعني بالتكلفة في هذا السياق إثقال موارد الصحة العامة بأعباء تشتتها عن أعمالها الملحّة، واستنزاف خدمات الطوارئ الطبية، والتسبب برفع تكاليف الرعاية الطبية وأقساط التأمين الصحية. تتردد هذه الدفوع كثيراً في موضوع تدخين السجائر؛ فتذهب بعض الجدليات مثلاً إلى تحميل المدخنين التكاليف التي تسببوا في ارتفاعها، عن طريق فرض ضرائب على السجائر لموازنة هذا الارتفاع. في منعطف آخر للإيذاء الذاتي وبمقتضى العدالة أيضاً، يرى البعض ضرورة فرض قيود على السلوك محفوف بالمخاطر. مثلاً، لاحظ مقترحو قانون ارتداء الخوذة أثناء ركوب الدراجة النارية، أن راكبي الدراجات النارية الذين لا يرتدون الخوذة أكثر عرضة للإصابات الوخيمة التي تحتاج إلى تدخل فوري من المختصين في أقسام الطوارئ الطبية، فينشغل المختصون بمداواتهم بدلاً من رعاية الحالات الحرجة الأخرى أكثر تحوّطاً (Bayer and Jones 2007). وفقا لهذا المنظور، فإن فرض قانون ارتداء الخوذة، وكذلك فرض ضرائب السجائر من مسألة العدالة. إذ ترمي هذه السياسات إلى منع أو موازنة ارتفاع التكاليف التي نتكبّدها نحن، جرّاء مجازفات اختيارية تؤثر على صحتهم.

هناك من يعارض هذا الرأي رغم الإقرار بمسؤولية الفرد في اتخاذ قرارات صحية محفوفة بالمخاطر. إلا أن هذا لا يجيز الاستنتاج المتعلّل بالعدالة وأنها تتطلب سنّ مثل هذه القوانين. هناك طرق بديلة لتحميل الأشخاص التكاليف الناجمة عن قراراتهم، ومنها إتاحة نوعٍ من التأمين الذاتي لأصحاب الممارسات محفوفة بالمخاطر (Flanigan 2014b). يرى حجاج آخر في تمويل خدمات الرعاية الصحية، أن الهدف من الدعم المجتمعي لتغطية الإنفاق على الصحة عبر التأمين الطبي أو البرامج الحكومية للرعاية الصحية، هو توزيع أعباء تكاليف الرعاية الصحية بين أفراد المجتمع. ولا ضير في أن تتكفل أيضاً بالتكاليف الصحية الناجمة عن طيفٍ من العوامل الخارجية المستبعدة، كالتي تطرأ من ممارساتٍ يعدّها البعض رعناء وخطيرة. لمزيدٍ من التوضيح، فإن الرعاية الصحية تتكفّل بتغطية شتى تكاليف الرعاية الناجمة عن أي ممارسة، ومنها العمل لساعات طويلة (Wikler 1987, 2002). وإن استمر تدفّق السرديات التي تعالج ما لا يعد ولا يحصى من السلوكيات، سيُغرق الحجاج بتناول سلوكيات بعينها، ما يؤول في نهاية الأمر إلى انتقاصِ السلوك أو التمييز على أساسه. بالنظر إلى الطيف العريض من السلوكيات المُدانة بالنزق والاستهتار بالقرارات المتعلقة بالصحة، والتي تتناولها الصحة العامة في صياغة قراراتها وسياساتها، سنجد أن تلك السلوكيات تتعلق عادة بفئات محرومة، أو فئات مهمشة في المجتمع (Wikler 1987, 2002). مثلاً، تفرض نيويورك ضرائب المشروبات المحلّاة على المشروبات الغازية، بينما لا تفرض أي ضرائب على مشروباتٍ أغلى سعراً رغم أنها مكتنزة بالسكر كالفرابتشينو.

تتجه جدلية مغايرة إلى تحميل الأفراد مسؤولية خياراتهم غير الصحية عبر مفهوم “المسؤولية”، وتتساءل عن مدى استقامة إسناد المسؤولية من هذا الباب (Dworkin 1981). عند كل منعطف يتنازع المنظّرون إذا ما كان المرء مسؤولاً عن ارتكاب تصرفات محفوفة بالمخاطر؟ وإلى أي مدى؟ وبأي منطق؟ يعود جزءٌ من تلك المصادمات إلى جدليات مفاهيمية وأخرى تجريبية حول عدد من الأفكار كالإدمان والطوعية. منذ سنوات، يتداول العلماء والإنسانيون في نقاشاتهم مفهوم الإدمان وكيف يشكّل ذلك فهمنا لسلوكيات كالتدخين ومعاقرة الكحول والمخدرات. ينصرف بعضها إلى مصادمات حول التأثير الجامح لأدوات التسويق التي تتيح للتجار ترويج منتجات غير صحية، وعلاقة ذلك باختلال ميزان القوة والتأثير بين كبرى الشركات أصحاب النفوذ بمقابل مؤسسات الصحة العامة التي تبذل جهوداً مضنية للإمساك بزمام الأمور.

ولعل أكثر الحجاج حصافة، تلك المتوسّلة بالدلائل الوبائية المتنامية والتي وجدت أن السلوك غير الصحي يظهر عادة بشكل غير متناسب مع الفئات المحرومة في المجتمع. ثمة عددٌ من التفسيرات البنيوية، فمثلاً: يجنح الفقراء في المجتمع إلى تناول غذاء أقل جودة مقارنة بالموسرين وأنهم أكثر تدخيناً لمنتجات التبغ، وأقل ممارسة للرياضة وكذلك يدمنون تعاطي المخدرات ومعاقرة الكحول. كما لاحظنا، فإن العديد من نظريات الصحة العامة ونشاطاتها تعمد إلى تقديم الأولوية على اعتبارات الحاجات الملحّة للعدالة، وخفض التفاوتات في المزايا الاجتماعية والاقتصادية وموازين القوة (Powers and Faden 2006; Venkatapuram 2019). يزعم العديد أن الدور الرئيسي للصحة العامة يكمن في تصحيح التفاوتات الصحية الجائرة (Powers and Faden 2006). وعندما يتبين أن تلك الممارسات غير الصحية تمخّضت من رحم الجور؛ فالتدخّل بتحميل التكاليف الإضافية على كاهل الأفراد الواقعين تحت ظروف الجور هو أمرٌ جانح ومستنكَر، وهذا يناقض الدور الرئيسي للصحة العامة (Buchanan 2019, Resnik, 2013; Arno et al., 1996; Hoffman and Tan, 2015; Nestle and Bittman, 2015; Pomeranz, 2012.). من هذا المنظور، فإن معاقبة من يجازف بممارساتٍ غير صحية بسبب الجور الواقع عليه، يزيد الطين بلة؛ وهذا مثال نموذجيّ على “لوم الضحية”.  

يظهر من هذا النقاش أن مجمل الأعمال التي تتناول الصحة العامة تبتدئ في معالجتها للأعباء الصحية من تفحّص الجور المبطّن. وهذا ما صاغته مارغرِت تشِن بجلاء في تصريحها عام ٢٠٠٨، كمديرة عامة لمنظمة الصحة العالمية آنذاك: “الظروف الاجتماعية التي يولد فيها الإنسان وتساور حياته ويؤدّي فيها عمله؛ هي المحدّد الأهم للصحة أو اعتلالها، لحياة مديدة خصبة أو لمعيشة قصيرة ضنكة “. تتفاوت الصحة عادة بين الفئات المهيمنة اجتماعياً والفئات المحرومة، وتقترن تلك التفاوتات بأوجه مختلفة للجور وتتماشى معها (Wolff and de-Shalit 2007; Powers and Faden 2006). في عديد من السياقات، يقترن الفقر بالحرمان الممنهج والذي ينشأ عن التمييز العرقي والتمييز النوعي وأشكال عدة من التفرقة والازدراء، ونبذ الفئات بعضها لبعض. وحتى إن لم يثبت هذا الاقتران، فإن الهوة السحيقة في حظوة الموارد المالية، والأثَرة الاجتماعية، والوضع الاجتماعي (والتي تُعَدّ دليلاً قاطعاً على شدة الفقر والإملاق)؛ تلازم نمطاً ممنهجاً للحرمان يستعصي (وقد يستحيل) اجتثاثه. وحتى لو تمكّنا من تخفيف حدة هذا النمط على من يعيش في ظروف الفقر الشديد، أو تحت هيمنة فئة ما في المجتمع، فإن آفاق الفرص المتاحة لهم ستكون أضيق بكثير مما يتاح لغيرهم. في ظل اقتران أوجهٍ مغايرة من الجور بتفاوتات الصحة العامة تحديداً، يجادل البعض بأن أحد الوظائف الأخلاقية الحرجة للصحة العامة: المراقبة المتيقّظة لصحة الفئات المحرومة حرماناً ممنهجاً، والتدخّل لاقتلاع التفاوتات حال ظهورها قدر الإمكان. إن وضْع تلك الفئات في واجهة قضايا الصحة العامة وإيلاءها الاهتمام اللازم، من شأنه أن يُحدِثَ إصلاحاتٍ واسعة في سياساتها.

تكمن المعضلة الأخيرة في صياغة سياسات التعويض عن سوء الحظ لا عن القرارات الطائشة في الابستيمية المعرفية وإشكالية التطبيق. حتى لو سلمنا بوجود حالاتٍ لأشخاصٍ يتحملون مسؤولية انخراطهم في سلوكيات غير صحية، وقمنا باستقطاع التكلفة المالية الناجمة عن سلوكياتهم، أو بحجب بعض الخدمات عنهم، فحقيقة أن للأمراض والإصابات سببيات متعددة، يشكّل تحدٍ معرفيّ وجوهريّ في صياغة سياسات صحية ملائمة تؤدي الغرض منها. لنأخذ سرطان الرئة على سبيل المثال، سنجد أن العديد من المدخنين لا يصابون بسرطان الرئة، بينما يصاب به العديد ممن لم يدخن قط. فقد يستعصي أن نوضّح لشخصٍ – دع عنك مجموعة من الناس- الدّور السببي المحدد للسلوك محفوف بالمخاطر في اعتلال صحته. لكن هب أننا تجاوزنا عقبة المسألة المعرفية، فستبقى سياسات الصحة العامة (كأي سياسة عامة) محض أداة كليلة، وعلينا نحن أن نتنبّه إلى أن السياسات الرامية لضمان سداد الأشخاص ما يترتب على قراراتهم غير المسؤولة، تغفل في أحايين كثيرة عن مجازاة السلوك غير المسؤول ذاته؛ والأدهى أنها قد توقِع الجزاءات على أشخاصٍ يتوجّب عدم تحميلهم مسؤولية اعتلال صحتهم.

٢.٥ العدالة والوصم في الصحة العامة

كما لاحظنا آنفاً في القسمين ٢.٣و ٢.٤، فإن قضايا العدالة في الصحة العامة لا تقتصر على إشكاليات الأولويات الصحية أو تخصيص الموارد فحسب، بل تتجاوزها إلى مسؤولية الأفراد في الصحة؛ وكذلك مسألة احتمالية تتسبّب تدخلات الصحة العامة بوصمٍ مجحف لبعض الفئات. هناك العديد من الطرق للتفكير في الوصم، إلا أنه يتمحور حول الحكم على بعض صفات الأشخاص أو سلوكياتهم، بأنها لا ترقى إلى استحسان المعايير المجتمعية (Courtwright 2011; Bayer 2008; Burris 2008; Link and Hatzenbuehler, Phelan, and Link 2013). يتسبب الوصم بحزمة من العواقب الوخيمة، منها، فقدان المكانة والأثَرة المجتمعية والعزلة الاجتماعية. يدّعي العديد أن الوصم خطأ من باب الأخلاق لما يخلّفه من ضرر. وكذلك، قد يُعَدّ الوصم جوراً وفقاً لنظرتنا في العدالة، خصوصاً عندما يصدر الوصم ممن يمثل الدولة أو أي وكالة أو مؤسسة معروفة. عندما يصدر الوصم من أصحاب السلطة، فإنه يعزز من النمط البنيوي للحرمان ويخلّ إجحافاً بميزان القوة، ويؤدي إلى الإخفاق في معاملة عناصر الفئات الموصومة على أنهم متساوون أخلاقاً (Powers and Faden 2019, 35–36).

هناك قلق إزاء الوصم في عدد من سياسات الصحة العامة، منها ما يتعلق بتصنيف فئة في المجتمع بأنها “معرّضة لإصابة متنامية…” بمرض له أصداء غير محبّذة في المجتمع ويعدّ هذا المرض وصماً في حد ذاته. مثال ذلك، تعرض المصابون بالأمراض النفسية أو متلازمة العوز المناعي المكتسب (الإيدز) في بعض السياقات للنبذ والمقْت (رغم فداحة هذا السلوك وإجحافه) وما هو أسوأ من ذلك. وهكذا، يمهّد التصنيف “بمعرّض لخطر الإصابة…” بأحد تلك الأمراض طريقاً للوصم.

تغدو التساؤلات أكثر تعقيداً حول طيف من البرامج الموجّهة في الصحة العامة، عندما يقع عبء الوصم على كاهل الفئات المحرومة أصلاً. من جانب، فإن تخصيص برامج الصحة العامة للفئات المعدمة، أو استهداف العناصر التي تعاني من التمييز النوعي، أو توجيهها إلى عرقٍ بعينه قد يخدم مسألة الإنصاف والكفاءة، لا سيما لو صادف ذلك – مثلاً – وجود إصاباتٍ بالأمراض المعنيّة بالتدخل بين تلك الفئات. من جانب آخر، في حال ارتبطت المشكلة الصحية أصلا بالوصم أو العار، فاستهداف هذه الفئات يعزز من النمطيّة والقولبة المقيتة عليهم، بل إنه قد يؤدي إلى تعطيل أحد أوجه العدالة والمتمثلة في المساواة في الاحترام المجتمعي (Powers and Faden 2008). وهكذا، في حال توقعنا أن يُحدث تدخل الصحة العامة وصمةً عرضية بين الفئات المحرومة أصلاً، فإن تعهّد سلطات الصحة العامة بمسألة العدالة يجعلهم أمام تحدٍ مختلفٍ عما ذكرناه آنفاً حول الموازنة بين كفّتي الإنصاف والكفاءة. ويضعهم على مفترق نوعين من البرامج؛ فإما برنامجاً أكثر كفاءة يستهدف فئة بعينها، أو برنامجاً عاماً أقل كفاءة نسبياً، يمكّن من تحقيق نسباً ضئيلة من الصحة بين سائر المجتمع ويحرز كذلك نسباً ضئيلة من الصحة في الفئات المحرومة؛ بينما نتخلى عن مهمة رأب صدع التفاوتات الصحية الجائرة، مخافة تأجيج التصرفات المجتمعية التي تنطوي على عدم احترام هذه الفئات (Faden, Kass, and Powers 1991).

في سياق آخر، يسوّر قلق الوصمة الحملات التوعوية للصحة العامة. بجانب تمكين الناس من المعلومات الصحية عن شتى المنافع والأضرار لسلوكيات معينة، تستهدف الحملات التوعوية للصحة العامة تغيير توجه الناس نحو هذه السلوكيات، بطرق تهيّء للعموم نبذ من يمارس سلوكاً أو لا يتجنب آخر. يظهر أحد أوجه التفسير لما يحدث، في أن هذه الحملات تهدف حقيقة إلى تغيير القيم المجتمعية الحالية عن طريق وصم السلوك غير الصحي أو النمط الحياتي.

تصادق بعض المساهمات في أدبيات أخلاقيات الصحة العامة على إجراءات صحية من شأنها وصم العديد من السلوكيات غير الصحية؛ كالاتصال الجنسي دون توقي أو التدخين أو عادات الأكل غير السليمة (Courtwright 2011; Kim and Shanahan 2003; Brown-Johnson and Prochaska 2015)؛ أو وصم حالات صحية معينة كزيادة الوزن المفرطة (Callahan 2013). نجد في جدليات مدافعة عن هذا الرأي، أن بواعث الوصم المتعمد لبعض السلوكيات في إجراءات الصحة العامة عدة افتراضات: منها، أن هذه المشكلات الصحية (كزيادة الوزن المفرطة) تلفّها حالة من الجور، ويمكن للوصم أن يحدّ من المشكلة الصحية وكذلك يخمد الجور بطريقة فاعلة وفريدة. بالتأكيد، أَضرم هذا النوع من الدفوع جدلاً خلافيّاً حامياً. تجد بعض الاعتراضات المبنية على التجريبية؛ أنه لا توجد براهين دامغة على فعالية الوصم المتعمّد في خفض معدلات انتشار المشكلات الصحية (Goldberg and Puhl 2013)، أو حتى ما يدلّ على أن الوصم يزيد من انتشار السلوك المعني (Goldberg and Puhl 2013; Burris 2008.). يعترض آخرون على هذه الدفوع لما يقع من ضرر نفسي أو اجتماعي على الأفراد الذين يعانون من الحالة الصحية المعنية بالوصم، أو على من ينخرط في السلوك المعني بالتدخل (Burris 2008; Goldberg and Puhl 2013، أو لأن الوصم يعدّ أمراً غير إنسانيّ ولذلك هو غير مقبول أخلاقاً (Burris 2008). يتفرّع من هذا الاعتراض اعتراض آخر، يقول بأن الوصم يحمل نظرةً تبخيسية في اختزاله أصحاب المشكلة الصحية في قالب تعريفي محدد “هوية اجتماعية سلبية”؛ فيشار إلى شخص يمارس التدخين على أنه “المدخن” فحسب، وكذلك ينتقص الإنسان الذي يعاني من فرط الوزن، بوصفه “البدين” لا أكثر (Burris 2008; Nussbaum 2004).  

يثير تيار آخر من المعترضين قلقاً حول ظاهرة لوم الضحية. يسير هؤلاء في اعتراضهم على النسق الآنف لمعارضي السياسات الرامية لمعاقبة ممارسي السلوكيات غير الصحية. يتحدّى هذا الاعتراضُ جدليةَ اتخاذ الوصمَ أداةً للصحة العامة، بتسليط الضوء على أن المعنيين بالوصم، هم في حقيقتهم أشخاصاً ومجموعات رازحين تحت وطأة الجور. لمزيدٍ من الإيضاح، تنبع مخاوف لوم الضحية إثر الوصم، من خطر غرس ظاهرة لوم الضحية في ثقافة المجتمع وترسيخها، أو احتمال معاقبة الأشخاص الذين يعانون من وضع صحيّ متدنٍّ نتيجة انتمائهم إلى فئات تسبب الجور في حرمانهم، أو لأسباب أخرى خارجة عن إرادتهم.

على ضوء نقاشنا السابق حول جدليات مسؤولية الفرد على صحته، تطالعنا الكثير من النقاشات التي تدور في فلك المسبّبات الرئيسية لتلك السلوكيات، والتي تستهدفها الصحة العامة في برامج الوقاية. مثلاً، إذا كانت البنية المجتمعية الجائرة مسبباً جذرياً لبدانة بعض الفئات، فإن الإقدام على الوصم لإيصال رسائل الصحة العامة، أو تغيير المعايير الاجتماعية بغية ترسيخ شعور الخزي عند البدناء أو عند من يحتمل إصابتهم بالسمنة، هو في حقيقته انتقاصٌ لأشخاص خاضعين لأشكال أخرى من الجور (Goldberg and Puhl 2013. ينطبق ذلك أيضاً على حالات يشكّل فيها تكوينهم الجينيّ أو أمراض الأيض أسباباً جذرية لفرط الوزن، فاستهدافهم بإجراءات الوصم جائرٌ في حقهم أيضاً.

بالرغم من الدفاع المستمر عن إجراءات الوصم في الصحة العامة ومخالفة الجدليات المعترضة عليها (Callahan 2013)، أبدى البعض دفوعاً أكثر اعتدالاً في صالح بعض إجراءات الوصم، بينت الاختلافات الأخلاقية الجوهرية المحتملة في مستهدفات الوصم. على سبيل المثال، لا يوجد من منظور العدالة إشكالية في الحملات التوعوية التي تستهدف وصم الاتصال الجنسي دون استخدام الواقيات؛ لا سيما أن هذه الحملات تشمل العديد من الأشخاص والفئات، ولا تتبع في مستهدفاتها فئة محرومة في المجتمع؛ ولا تجرّد الأشخاص المصابين بأمراض معينة أو يتّبعون نمطاً حياتياً ما من الصفة الإنسانية، فتختزلهم في قالب ذو سمة معينة أو حالة محددة. بينما يحمل وصم البدانة العديد من التحفظات في مسألة العدالة. لا سيما وأن فرط الوزن مرضٌ من الأمراض، ومظهرٌ للأشخاص، وليس سلوكٌ فحسب. وحتى لو كانت إجراءات الوصمة فعالة في هذه الحالة، فوصم السمنة يؤدى إلى الإضرار الوخيم بالأشخاص الذين يعانون من الازدراء بسبب أحجامهم في العديد من السياقات المجتمعية (Courtwright 2013).

٢.٦ الصحة العامة والإشكالات العالمية والعدالة العالمية

من البداهة والصواب الاعتقاد بأن مهددات الصحة عابرة للحدود، فالأحرى أن يتجاوز الاهتمام بتعزيز الصحة العامة حدود الأوطان. سنمهّد في هذا القسم لثلاثة أنماط تسوغ لمنظور الصحة العامة كمسألة متجاوزة للحدود الوطنية: (١) المصالح الذاتية (٢.٦.١)، والاعتبارات الإنسانية (٢.٦.٢)، ومسألة العدالة والحقوق والواجبات (٢.٦.٣) (Wolff 2012). كما سنلاحظ، فإن النمطين الأولين لا ينحدران من مفهوم العدالة، بيد أنهما يُفضيان إلى تساؤلاتٍ تتعلق بمسألة العدالة. أما النمط الثالث والأخير فيحوي طيفاً من التفسيرات التي أشارت إليها تساؤلات القسم الثاني من هذا المدخل، ويفحص جدلياتٍ عامة عن المفهوم العام للعدالة العالمية، وامتدادها ووجاهتها. (Powers and Faden 2019, 145–186; Brock 2013; Miller 2007; انظر أيضا مدخل إلى العدالة التوزيعية و مدخل إلى العدالة العالمية).

٢.٦.١ المصلحة الذاتية والعدالة العالمية

نرى في الدوافع التي تحمل كل الدول على الوقاية من الأمراض المعدية المستجدة والمنبعثة ومكافحتها مثالاً نموذجياً للمصلحة الذاتية. تتفشى هذه الأمراض عادة في الدول منخفضة ومتوسطة الدخول، إلا أنها تشكل تهديداً خطيراً على الصحة في بقية أرجاء العالم. لذا، فإن من مصلحة الدول الغنية تقديم الدعم المالي والفني لمساعدة الدول الفقيرة على بناء نظم الترصّد ولتنمية قدرات الاستجابة السريعة لديها لتوفر العون اللازم خلال حالات الطوارئ وتفشي الأمراض. فالوقاية من الأمراض المعدية المستجدة ومكافحتها في معاقل نشوؤها في الشق الجنوبي من الكرة الأرضية، طريقة مثلى تتبعها الدول الغنية لتتجنب حدوث عوارض وخيمة على تخومها.

تدفع المصلحة المشتركة بين كافة الدول، لا سيما الغنية، للمشاركة في النظام الدولي للترصد عبر مشاركة البيانات والعينات الحيوية للجراثيم المشتبهة، من خلال آليات تتعهدها منظمة الصحة العالمة، وافقت عليها– وعلى غيرها- قرابة ٢٠٠ دولة بتوقيعها على نظام اللوائح الصحية الدولية (كما أسلفنا في القسم ١.١.١). وهذا تحديداً مناط احتدام العديد من الصراعات حول العدالة العالمية، والمصالح الذاتية للدول. تُستخدم العينات الحيوية التي تشاركها الدول في تصنيع اللقاحات وتطوير المنتجات الاستشفائية للتشخيص والعلاج. وقد تتاح أولاً – اعتماداً على سياق الحدث- للدول الغنية، أو بتكاليفٍ باهظة في متناول الدول التي يغلب أن تكون مموِّلة ومصنِّعة لتلك اللقاحات والمنتجات الوقائية. وهذا تحديداً ما أثار حفيظة إندونيسيا عام ٢٠٠٧، والتي امتنعت على إثره عن تسليم عينات انفلونزا الطيور H5N1 إبان تفشي المرض لديها. وعلى الرغم من أن إندونيسيا قدمت في اعتراضها عدداً من الانتهاكات الأخلاقية إلا أن أهمها ما يمسّ مسألة العدالة. إذ أن الدول ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة تسلم عيناتها الحيوية طوعاً، لتتخذها الشركات في الدول الغنية فيما بعد وسيلة لتصنيع اللقاحات التي تطرحها مع منتجات أخرى بتكلفة باهظة تحول دونها والدول النامية (Sedyaningsih et al. 2008). انحرف مسار المشهد عند منعطف آخر في مسألة العدالة أيضاً، يدور حول ما إذا كان تصنيع اللقاحات وإنتاجها باستخدام العينات المسلمة من إندونيسيا، يعطيها حق أولوية الحصول على اللقاح قبل الدول الأخرى منخفضة ومتوسطة الدخول، والتي تواجه نفس التهديد بتفشي انفلونزا الطيور، عدا أن سوء حظها منعها من الانضمام لمصافّ الدول التي سبقت تسليم العينات الفيروسية.

ترتب على الأحداث التي أثارتها الشكوى الإندونيسية واعتراضات أخرى مشابهة عددا من الإجراءات، ومنها إنشاء إطار عمل منظمة الصحة العامة في ٢٠١١، بغية إحكام عملية مشاركة عينات فيروس الانفلونزا، وضبط عملية الوصول إلى اللقاحات والتدابير الوقائية الأخرى (انظر منظمة الصحة العامة ٢٠١٢ ومصادر أخرى في الانترنت). إلا أن سلسلة تحديات مسألة العدالة في المشاركة الدولية للعينات الحيوية ونظم التأهب للأوبئة والاستجابة لها مستمرة في الظهور. عام ٢٠٠٩، اشتعلت أحداثٌ مشابهة في ادّعاء الاستغلال والجور، إثر ظهور تقارير أفادت بوصول عينات دم أخذت من مرضى الإيبولا من دول في الغرب الأفريقي، إلى معامل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة ودول غنية أخرى، ما اعتُبر جوراً واستغلالاً وإهانة في ظل الظروف الراهنة غرب أفريقيا ومناطق أخرى (Freudenthal 2019).

في خضمّ الحديث عن الأمراض الناشئة، لا بد من الإشارة إلى مصادمة أخرى بين المصالح الذاتية للدول ومسألة العدالة. فعندما تقع أعباء الصحة العامة على عاتق الفئات أشد حرماناً، لا يمكن عندها تبرير الوسائل.  تتكرر هذه المسألة دائماً في حقل التأهب العالمي للأوبئة، وهي في صميمها أسئلة للعدالة العالمية لا سيما في تناول العديد من الصراعات القائمة حول العدالة البيئية، كالتوجه لاختيار بعض المواقع في الدول منخفضة الدخل لإنشاء مرافق ومكبّات للنفايات الخطرة، أو لبناء مصانع عالية الخطورة. يقع الاختيار عادة على أكثر المناطق الرازحة تحت وطأة الفقر في هذه الدول (Powers and Faden 2019, 204–206). ولأن الأمراض المعدية تنشأ عادة في الدول الفقيرة، فكثيراً ما تخلّف الإجراءات الدولية لمنع وباء الانفلونزا واحتوائه، عبئا كبيراً على الشعوب الفقيرة في العالم. وكما سبق وعرضنا، نادراً ما يرافقها أي نوع من أنواع التعويضات المضمونة والموازنات الكافية. مثلاً، في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، وفّرت استراتيجية التخلص من الطيور الموبوءة، ومنع تربية الدواجن في المنازل في حواضر الدول الموبوءة، خطوة هامة في سبيل احتواء الانفلونزا المتفشية في الطيور لمنع انتقالها إلى البشر. إلا أن هذه السياسة أثقلت كاهل النساء الفقيرات وعوائلهن، وحرمتهن من مصدر دخلهن الوحيد الذي يعتمد على تربية الدواجن في الفناء الخلفي لمنازلهن. ولندرة التعويضات عن هذه الخسائر المتجرّعة (أو انعدامها في أحيانٍ كثيرة) كانت عواقب هذه الإجراءات فادحة ومدمرة اقتصادياً (Bellagio Working Group 2007 in Other Internet Resources; Faden and Karron 2009; Uscher-Pines, Duggan, Garoon, Karron, and Faden 2007).

ومن الأساس، فإننا لا نستطيع فصل مبررات المصلحة الذاتية في مشاركة الدول في الصحة العامة العالمية، عن مسألة الجور البنيوي العالمي الذي يطال العلاقات بين الدول. ولا يمكن مواجهة مهددات الصحة بفعالية، لا سيما التغير المناخي، في غياب التكاتف العالمي. وبالنظر إلى الوضع الراهن للتفاوت البالغة بين الدول في الثراء وفي مختلف أشكال القوة، فاحتمالية التمثيل المنصف للدول الفقيرة وحماية مصالح شعوبها لاتزال هشة. وفي معرض الحديث عن التغير المناخي، ومن العجيب أن الدول أعلى حرارة، وأشد فقراً، وأكثر اعتماداً على الزراعة، هي من أقل الدول الباعثة على الغازات الدفيئة، لكن ينالهم النصيب الأكبر والأسبق من أضرار الاحتباس الحراري (Powers and Faden 2019, 172–178). ومع ذلك، لا زلنا نشهد تعويقاً وممانعة من تنفيذ مقتضيات تقنين الانبعاث من الدول ذات الانبعاثات المرتفعة. وبالمثل، فمع أن الأمراض المعدية تتغلغل في الدول الفقيرة وبين الشعوب المعدمة في حالات الأوبئة والتفشيات؛ لكنها عاجزة عن التأثير على خطط التأهب والاستجابة العالمية بما يتوافق مع الأوضاع المتدهورة لديها.

٢.٦.٢ الاعتبارات الإنسانية، والعدالة العالمية

تتكشّف أعمال الصحة العامة العالمية على تخوم التدخلات الإنسانية والتي تدخل حيز التنفيذ بتنظيم عدد من الجهات؛ منها المؤسسات غير الحكومية، والمؤسسات الخيرية للإغاثة، وكذلك المنظمات متعددة المرجعيات؛ كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، عن طريق استثمار الدعم الذي توفره الجهات الصحية والعسكرية للعديد من الدول. يمكن فهم الأعمال الإنسانية في الصحة العامة بداهة من المفهوم العام للمسؤولية الأخلاقية، إذ أنه من الخطأ أن نتخذ موقف المتفرج في وقت الأزمات دون أن نمد يد المساعدة للتخفيف من معاناة الغير ونحن نملك من الموارد ما يخفف عنهم ويساعدهم. من هذا الإطار، فنحن ملزمون بتقديم الأعمال الإنسانية و مد المساعدات الإغاثية لمؤازرة المحتاج خارج الحدود الوطنية. وعادة ما تكون خدمات الصحة العامة وأدواتها والعاملين فيها من أهم عوامل الاستجابة للكوارث الإنسانية؛ ليس في الفاشيات والأوبئة فحسب، بل يشمل ذلك الكوارث الطبيعية، والحروب، ومناطق النزاعات المسلحة، والجماعات النازحة، والهجرات الجماعية، والقحط والمجاعات.

لا يقابل الالتزام بالإغاثات الإنسانية العالمية في الصحة العامة تحقيق مسألة العدالة العالمية بالضرورة. حتى المنظّرون من المتماهين في انتماءاتهم الحكومية، يقرون بوجود التزامات إنسانية لمساعدة من هم في حاجة ملحّة في دول أخرى (انظر مثلاً مدخل إلى العدالة التوزيعية العالمية ). وهذا بالطبع لا يدل على غياب التضارب الأخلاقي أو إشكالات الجور في أعمال الإغاثة الإنسانية. فعادة ما تواجه مؤسسات الإغاثة وموظفيها تحديات أخلاقية بين المبادئ الإنسانية للنزاهة والحياد، والالتزامات الأخلاقية بالتوزيع العادل للموارد الصحية المحدودة (Broussard et al. 2019). يلوح في أفق الأعمال الإنسانية، تساؤلاً عما إن وفّى الأفراد والدول، التزاماتهم من الأعمال الإغاثية العالمية. قد لا يُدرَك المعنى من هذا التساؤل، في حال فسرت الأعمال الإنسانية على أنها محض أعمال خيرية وليست مسألة من مسائل العدالة، لا سيما أن مفهوم الالتزام بالأعمال الخيرية يبدو عائماً، وأقل حسماً من الالتزام بمسألة العدالة. قد يُفهم من بعض الرؤى في العدالة على أنها تتضمن مسؤوليات الأعمال الخيرية، كما في الحالات التي تندرج فيها هذه الالتزامات ضمن الحد الأدنى اللازم لاستيفاء حقوق الإنسان، أو الحد الأدنى لاستيفاء العدالة العالمية وفق منظور مناصري مبدأ الكفاية (١٣). وعموماً فهذه الرؤى المختلفة، لا يعتد بها كموجّه لما يعتبر جدلاً مسألة صميمة في العدالة العالمية؛ ولا تجيب عما إذا استوفت الدول واجباتها تجاه المساعدات الإنسانية.

٢.٦.٣ الصحة العامة والعدالة العالمية والحقوق والواجبات

رغم أهمية الأعمال الإنسانية في الصحة العامة عالمياً، إلا أنه ليس في وسعها معالجة أبسط إشكالات العدالة العالمية في الصحة العامة؛ خصوصاً معالجة التفاوتات الصحية الصارخة في صحة الشعوب بين الدول مرتفعة الدخل، وسكان الدول منخفضة الدخل، وبعض الدول متوسطة الدخل، لا سيما الشعوب أشد فاقة. ولا يمكن – بطبيعة الحال- الحديث عن العدالة العالمية في الصحة، بمعزل عن تحديات العدالة في الوصول إلى حالة من اكتمال السلامة ووفرة العافية عموماً. وتساوقاً، لابد من استدعاء جدليات نظريات العدالة لدى أولئك المؤيدين لتمركز السلطة، والمنظرين الذين يتبنّون المنظور النفعي والمساواتي. مع ذلك لا يزال هناك من يعتقد أن استدعاء الصحة العامة وأخلاقيات الصحة العامة – بالضرورة- مهماً في سياقات العدالة العالمية والتزاماتنا نحو الفقراء في الأرض قاطبة (Holland 2007). تلحّ مسألة تخطي واجبات العدالة للحدود الوطنية مراراً في حقل الصحة العامة، ولا مندوحة عن سردها في الحالات أدناه:

  •  في حال لم تُستخدم عينات الدول منخفضة الدخل في صناعة اللقاحات، فهل من العدل أن تصنّع الدول الغنية مخزون اللقاحات الذي يضمن كفاية مواطنيها فحسب، مع العلم بغياب الإمكانيات في الدول منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل؟ وبالرغم من تزامن الفاشيات التي تفتك بالدول الفقيرة وتتزايد الوفيات لديهم، فهل للدول الغنية الاحتفاظ بكامل اللقاحات لتحصين مواطنيها؟
  • توفر أنظمة حفظ حقوق الملكية الفكرية، واتفاقيات التجارة الدولية، حماية منقطعة النظير لشركات الأدوية في الدول الغنية. ونتيجة لهذا، تحدد تلك الشركات أسعار منتجاتها الدوائية ومستحضراتها الطبية الحيوية، بما يتخطى إمكانيات البلدان منخفضة الدخل، ويطرح هنا التساؤل الأدهى من التساؤلات الآنفة: هل يمكن تقنين الإنتاج وحكر توزيع المنتج الدوائي الجنيس (مشابه لمنتج آخر انقطع تداوله لسبب أو آخر) لدعم المصنّع، حتى وإن وافق ذلك إعاقة احتواء أمراض يسهل علاجها في الدول الفقيرة؟ (Pogge 2002; Grover, Citro, Mankad and Lander 2012)؟
  • وحدها الدول الغنية بالموارد المالية والبشرية بوسعها الاستثمار الضخم في الأبحاث الطبية الحيوية. فهل هي ملزمة بموجب العدالة، بتخصيص شيءٍ من مواردها في سبيل حل الإشكالات الصحية في المناطق الفقيرة؟
  • وأخيراً، تعاني المناطق الفقيرة في العالم من شح الأيدي العاملة في المجالات الصحية، وهذا يعود جزئياً لهجرة العقول إلى الدول الغنية. أ على السلطات الصحية في البلدان الغنية التدخل لاحتواء هذه الإشكالية، علماً أنها قد تعود بالنفع على صحة مواطنيها؟

تؤطر إحدى المعالجات سائر هذه التحديات بإطار الادعاءات المسوّغة للعدالة في مواجهة الأثرياء من الدول والأفراد. في منظور أحد أكثر الجدليات تماسكاً، فإن الدول الغنية ومواطنيها مسؤولين عن هياكل المنظمات عابرة الحدود، التي ساهمت في تعميق فجوة التفاوتات العالمية الجائرة، لا سيما التفاوتات الصحية العالمية. لا تتوقف مسؤولية مالكي هذه المؤسسات عند إعادة هيكلتها، بل تتخطاها إلى حدّ إسهام مخرجاتها في إصلاح التفاوتات الجائرة الناجمة عنها. وفي سياق الصحة العامة، يشمل ذلك توفير الموارد اللازمة لتغطية الاحتياجات الناجمة عن الأزمات الصحية، ومساعدة الدول الفقيرة لإحكام البنى التحتية للصحة العامة حتى تمكّنها من تفادي الأزمات الصحية مستقبلا. وبهذا الفهم، فالإخفاق في استيفاء تلك المسؤوليات الدولية هو عين الجور، وليس تقاعساً عن أداء أعمال خيرية أو استيفاء الإغاثة الإنسانية فحسب (١٤). خلاصة القول، توسلاً بما أوردناه سابقاً، فلا يمكننا التنصّل من مسؤولياتنا للتدخل في حالات الأزمات (كتفشّي الإيبولا مثلا)، وهذه المسؤولية ليست مشفوعة بالمصلحة الذاتية المحضة، ولا بمنّة التعاطف الإنساني (Powers and Faden 2019).

أولئك النزّاعون إلى اعتبار تفاوتات الصحة العالمية جوراً، يتوسّلون عادة بكون الصحة حق أساسيّ للإنسان ومبعث ذلك حقل الصحة وحقوق الإنسان. وكما لاحظنا، يقبل العديد الرأي القائل بأن الصحة حق أساسي من حقوق الانسان. فبالإضافة لوثائق أخرى، دُوّن هذا صراحةً في الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان التي أعلنت عنها الأمم المتحدة في اجتماعها العمومي عام ١٩٤٨. وكما هو الأمر في كافة حقوق الإنسان، طرأت من فورها تساؤلات شائكة حول تحميل مسؤوليات حفظ الصحة، وتعزيزها واستيفاء الحقوق تجاه الصحة، وتوصيف هذا الحق ومجاله ومرماه (Millum and Emanuel 2012; Tasioulas and Vayena 2015a; Tasioulas and Vayena 2015b).

بالنظر إلى التنظيمات العالمية – القائمة حالياً على الأقل- ولعوامل وجيهة، فالدول القومية قمينة لأن تكون خط الدفاع الأول عن حق الصحة وعن حقوق الإنسان الأخرى على السواء ضمن حدودها. وهذا لا يعفي الدول القومية من مسؤولية أن يكونوا في طليعة من يقوّض – على الأقل- قدرة البلدان الأخرى على استيفاء حقوق الإنسان. جدلا، تُحمّل مسألةُ العدالةِ البلدانَ القومية معالجة المعوقات التي تمنع الدول من استيفاء حقوق الإنسان فيها، والناجمة عن التمايز الجائر بين البلدان، وتفاوتات القوة المؤسساتية العالمية (Powers and Faden 2019, 146). ولكن بتحميل مسؤولية خط الدفاع الأول عن حقوق الإنسان على البلدان القومية، فهذا لا يحدد المسؤول عن حقوق الإنسان الذي يعيش في دول ليس في مقدورها حفظ مصالحه – لا سيما حق الصحة – أو أنها غير مهتمة بذلك أصلاً (Powers and Faden 2019, 146–177). 

في حال فُسّرت التفاوتات بين الشعوب في البلدان الغنية والشعوب في بقية العالم كمسألة في العدالة لا مسألة إنسانية، فإنه حريّ بمن ينظر إلى أخلاقيات الصحة العامة من منظور العدالة، التأمل في عدد من المسائل. عند هذه الفئة من المنظرين، فإن التباين الجسيم في متوسط العمر المتوقع، والاستبقاء على حياة الأطفال، والصحة التي تتباين بين الأقوام الغنية والفقيرة، دلالة حالة الجور العميق، الذي يجب على المجتمعات العالمية إصلاحها. يفوق سبيل إصلاح حالة الجور وسع الإجراءات البسيطة، كإسداء الرعاية الطبية والتدبيرات الاعتيادية للصحة العامة؛ وهو أمرٌ مرهون بإصلاح الوضع الاقتصادي، والحالة الاجتماعية، والتعليم، والبيئة. فمزاعم إصلاح العدالة في الصحة تتساوق مع إصلاحات العدالة في تلك الجوانب كافة، ويستعصي علاجها بمعزل.

وما عيش بعض الفئات تحت وطأة الفقر المدقع والحرمان المملق، وأن تزهق أرواحهم هم وأطفالهم في مجاعاتٍ أو تأثراً بأبسط شكلٍ من أشكال العدوى إلا علامة خطيرة على عمق الجور في المخططات المؤسساتية العالمية (١٥).

٣. الشرعية السياسية والصحة العامة

كما أسلفنا في القسم ٢.١ تتميز الصحة العامة بالدور الأساسيّ للسياسات الحكومية ونفوذها في تعزيزها. بالرغم من الدور الفاعل للجهات الخاصة غير الربحية والمنظمات العالمية، في تقدم الصحة العامة (١٦)، إلا أن جُل عمل الصحة العامة يحدث داخل إطار الدولة القومية المؤيَدة بقوة حكومتها وضبط تنظيماتها. تعجّ أدبيات الصحة العامة بالعديد من النقاشات الذي تتناول شرعية هذه الإجراءات في تلك الدول.

تنشأ التحديات التي تواجهها مؤسسات الصحة العامة وشرعية سياساتها في عديد من فضاءات المعترك السياسي. تختلف تساؤلات الشرعية حد التباين بين المؤسسات غير الليبرالية في بعض الدول، والمؤسسات الليبرالية التقليدية. دأبت أدبيات أخلاقيات الصحة العامة في عمومها على التركيز على تساؤلات الليبرالية التقليدية، مولية التقليد الليبرالي أهمية مرجعية في مؤلفاتها حول التشريعات السياسية للصحة العامة؛ سنطالع أبرز معالمها في القسم (٣) من هذا المدخل.  ثم نولّي شطر القسم ٣.١ قِبَل عموم النفع، ولزومية النشاط المتّسم بالجمعية والكفاءة، للتسويغ لمهام وكالات الصحة العامة وتكليفها عموما. وفي ٣.٢ ندلف إلى أبرز منطلقات جدليات الليبرالية التقليدية، لمعالجة تمرير سياسات بعينها أو إجراءات محددة (١٧). ثم نستتبعها بتمهيد عام عن الأعمال التي وضعت خارطة توضح شتى معالم تدخلات الصحة العامة في حرية الفرد (١٨)، والمتفرعة فيما بعد إلى أربع شعابٍ تجيب عن تساؤلات تدخل سياسات الصحة العامة وشرعيتها؛ الوصاية (٣.٢.١)، مبدأ الضرر عند جون ستيوارت مِل (٣.٢.٢)، وما يعرف بالليبرالية التقليدية (٣.٢.٣) حتى نفرغ إلى الوصاية التحررية (٣.٢.٤).

ندير دفة النقاش في القسم ٣.٣ في هذا المدخل باتجاه شتى أنماط الشرعية والمرتبطة أيضاً بالليبرالية التي تدور حول إشكالية احترام الاختلافات القيمية بين المستهدفين بسياسات الصحة العامة، وفيها يُعرض رأيان للإجابة على تلك التساؤلات؛ النزّاعة إلى العقل العمومي (٣.٣.١)، والمتوسّلة بالقرارات الإجرائية للسلطة (٣.٣.٢). ثم نبلور في ٣.٤ الرأي المدني الجمهوري في أخلاقيات الصحة العامة، التي تنقض قطعاً الاحتمال المتاح في منهج الليبرالية للتدخل في الأشخاص بصفتهم أحراراً أنداداً.

٣.١ الشرعية والكفاءة وعموم النفع

يعتقد البعض بشرعية مؤسسات الصحة العامة بفضل نوعية المنافع التي تحققها وتتعهدها. يتمتع بهذه المنافع كل فرد منا، بيد أنا لا نستطيع تأمينها بمجرّد الاعتماد على أنفسنا. تبلغ الحاجة إلى تلك المنافع درجة يتقدم فيها ضمان نجاعة تحقيقها على افتراضية ممانعة التدخل في الأشخاص الأحرار والأنداد. فمثلاً، كلنا بحاجة إلى ما يحمينا من عدوى الأمراض أو العقاقير غير الآمنة أو غير الفعالة، لكن يستعصي تحقيق ذلك بدون المؤسسات المنظمة كمركز الوقاية من الأمراض ومكافحتها وهيئة الغذاء والدواء، والتي تسخّر نفوذها ويعمل خبراءها لمواجهة الأوبئة المحتملة أو لئلا تفسح في الأسواق العامة إلا أدوية فعالة ومأمونة. بهذا المنطق، فإن سياسات الصحة العامة الممهدة بالخبرات والتي تنفذها باستخدام قوتها تعود سلطتها لصالحنا جميعاً، وإن لم يكن في بعضها نفع مباشر ودائم لكل فرد وفي كل آن.

بهذا المنطق، فإن أخلاقيات الصحة العامة ليست ملزمة بتسويغ كل قرار أو إجراء بعينه. عوضاً عن ذلك يمكن التسويغ للصحة العامة عموماً طالما بقيت نشاطاتها ضمن المعايير المعمول بها. قياساً على التسويغ لنظام اقتصاد الأسواق أو نظام الممتلكات الخاصة، أو كما هو الحال عند تسويغ أي مؤسسة مشابهة تقدم خدمات متعددة وتفيد عدداً كبيراً من الناس، وقد تتضمن أحياناً تدخلاً في الأشخاص أحراراً وأنداداً بغية تمكينهم من المزيد من النفع. فوجود تلك المؤسسات عموماً أجدى بكثير لسائر الناس من غيابها، في حال أُحكم تنظيمها وإدارتها. وعلى هذا النحو، فإن التسويغ لتدخلات محددة في الصحة العامة ولمتطلباتها وقيودها، يمكن أن يتم بالقياس المنطقي على المعايير التي سبق إرساؤها.

توضّح إحدى المسوغات ذات الصلة إلى أن السعي الحثيث إلى الصحة لا يمكن أن يتحقق إلا بإرساء قواعد تنظيمية وبشراكة شبه كونية تحكم مسارها. من هذا المنظور، فإن الصحة العامة تواجه إشكالات في هيكلية التعاون، أو في الكفاءة الجمعية. مثلاً، في حال قرر شخص ما (أو عدد كافٍ من الأشخاص) السير حال أضاءت الإشارة الحمراء، والتوقف إن أضاءت الخضراء، فحتى لو التزم الآخرون بقواعد السير، فإن هذا الفعل الناشز الصادر عن الشخص كفيلٌ بتعطيل نظام السير، ويزيد احتمالية وقوع المخاطر. وكذلك في حال أعرض شخص (أو عدد جمعوي كاف من الأشخاص من نفس الفئة المعنية) عن تنظيمات الصحة العامة، معللين مخالفتهم بأن هذا التنظيم لا يعود عليهم بالفائدة الشخصية، فإن أثر ذلك سيكون ملموساً في محيطهم، وربما يتخطاه (١٩). ولهذا يلزم مساهمة كل فرد من أفراد المجتمع تقريباً، وإلا فإن الإخفاق في المساهمة يعني الحرمان الذاتي وحرمان المجتمع من الصحة المثلى، التي يمكنهم تحصيلها بالمشاركة الجمعوية، وبهذا لن يتمكن أحد من جني المنافع التي لا تثمر إلا في المجتمع الصحي.

في العديد من سياقات الصحة العامة، توجد طريقة عملية وحيدة وذات كفاءة مقبولة في تنفيذ السياسات التي تؤثر على المجتمع برمّته: وذلك بالتعامل مع الأفراد الممتنعين إما بتركهم بلا خيارات أو بتقييد الخيارات المتاحة لهم. أشهر مثال لذلك هو فلورة المياه، إذ اتفقت جميع التنظيمات المعنية بالسلامة الغذائية والدوائية والمنتجات الاستهلاكية وكذلك العديد من الجهات المعنية بصحة البيئة والصحة المهنية على هذا المعيار في مواصفات المياه؛ ما يبين أثر الكفاءة الجمعية في الصحة العامة. يحرص الجميع على العيش في محيط صحي، وعلى الحصول على منتجات صحية، إلا أن قدرات الأفراد عموما لا تؤهلهم للتأكد من نقاء الهواء المتنفس، أو لمعرفة سلامة مئات الآلاف من المواد الغذائية والمنتجات الأخرى المتاحة في ساحات الأسواق في عصرنا هذا. ومن هذا المنطلق فإن تفويض هذه الوظائف إلى مؤسسات الحكومة وخبراء الصحة فيها، مسوغ لذات الأسباب التي أوكل بموجبها وظيفة حفظ الأمن العام إلى مؤسسات الحكومة التي توظف الخبراء في قوات الدفاع الوطني وفي تنفيذ القانون (Mill 1859).

يتوسل حجاج الكفاءة الجمعية بادعاءاتٍ حول الأعداد الهائلة والتعقيدات التقنية التي تحيط بالقرارات التي نحتاج لاتخاذها بغية حفظ الصحة في بيئتنا وفي الأسواق التجارية. وتتوسل كذلك بطبيعة الاستجابة لما يهدد الصحة، والتي لا تقبل التجزئة. يسند هذا الحجاجَ الادعاءات حول القيود المعرفية عند الأفراد، والعقلانية المقيدة (Bounded Rationality) في عملية اتخاذ القرار عند البشر، لا سيما في مواجهة القوة غير المتكافئة للشركات، وممارساتها لاستغلال الفجوة الإدراكية عند الأشخاص والتلاعب بهم على حساب صحتهم (Ubel 2009).

لاقى استدعاء عموم النفع أو الكفاءة الجمعية استحساناً واسعاً، خاصة في التسويغ المتوسل بالتنظيمات القائمة لمؤسسات الحكومية كوكالة حماية البيئة وهيئة الغذاء والدواء ومركز الوقاية من الأمراض ومكافحتها. إلا أن هذا الحجاج غير مكتمل الأركان، وبحاجة إلى دفوعات مغايرة تدعمه من منطلق الأخلاقيات، وهذا لافتقار الحجاج إلى أساس يوضّح المعايير التشغيلية لهذا النوع من الوكالات، وحاجتها إلى ضابط أخلاقي رقابي للتدقيق على القرارات المحددة والتي تتخذ في هذا النوع من المؤسسات (٢٠).

٣.٢ حرية الفرد والشرعية والصحة العامة

حسب نوع تدخلات الصحة العامة ينشأ طيف من الإشكاليات لمعالجة مسألة الشرعية. قام مجلس نافيلد لأخلاقيات العلوم الحيوية بإطلاق أداة ناجعة تدعى “سلّم التدخلات” (Nuffield Council on Bioethics 2007)، يتدرج فيها نطاق التدخلات بطريقة عملية، ترشدنا لتقدير مدى قبول سياسات الصحة العامة وإمكانية تسويغها. يتصاعد السلم متراوحاً من قاعدته التي تمثّل أبسط أشكال التدخل “عدم التدخل”، إلى قمته التي تمثّل أقصى أشكال التدخل “طمس الاختيار بالكلية” (كما في حالة العزل القسري). يشترط المجلس في قراءة كل درجة من سلم التدخلات، بما فيها “عدم التدخل”؛ وجود المسوّغ، وألا تستخدم الأداة إلا بهدف التحليل الأخلاقي لسياسات الصحة العامة.

جدول 1: سلم التدخلات (مجلس نافيلد لأخلاقيات العلوم الحيوية، سياسة الإجراءات والممارسات، 2007)

الإجراءأمثلة
طمس الخياراتالعزل الصحي لمصابي إيبولا
تضييق الخياراتمنع الدهون المتحولةسن قوانين ربط حزام الأمان وارتداء الخوذة اشتراط التطعيمفلورة المياه (بالفلورايد)
توجيه الاختيار بأساليب الردعضريبة المشروبات الغازيةضريبة التبغاستحداث معايير اجتماعية تضادّ استهلاك المشروبات الغازية
توجيه الاختيار بأساليب التحفيزتخفيض الضرائب على من يركب الدراجة الهوائية للوصول إلى العملقسائم مجانية مقابل الحصول على تطعيم الانفلونزا الموسمية
توجيه الاختيار بواسطة تحسين الخيار الافتراضي في متناول اليد بالترغيب” (Nudging)تقديم السلطات كطبق جانبي افتراضي، بينما البطاطا المقلية يلزم طلبها لتقدم اشتراط وضع المشروبات عالية السكريات في الأرفف الخلفية في المتاجر
التمكين من الخيارات وإتاحتهاتقديم محاضرات مجانية عن الإقلاع عن التدخينتوفير المياه النقية وإتاحتها للجمهور
توفير المعلوماتالحملات التوعوية والتثقيف الصحيالملصقات الغذائية
لا يوجد تدخل–––

رغم نجاح سلم نافيلد، إلا أنه يشكو من ثلاث مشكلات رئيسية:

أولاً: لا يغطي السلم كافة الإجراءات النموذجية في الصحة العامة. فلا يتوافق إدراج التقصي مثلاً ضمن أيٍ من الدرجات الموضّحة في السلم، رغم أنه من صميم عمل مؤسسات الصحة العامة، وعمود تعزيز الصحة وحفظها. كما أن التقصي أداة هامة لتسويغ التساؤلات حول حقوق المواطنين إزاء تدخلات الدولة (Lee 2019; Taylor 2019; Fairchild and Bayer 2004).

ثانياً: تبالغ مصفوفة سلم نافيلد بتبسيط الآثار المعقدة للتدخل على الاختيار والحريات وعلى علاقة المواطن بالدولة. وعندما لا يكون للصحة العامة أي تدخل، فهذا لا يعني أنه في صالح الحرية والاختيار بالضرورة، مثلا، عندما لا تحرك الحكومة ساكناً، عندها قد تقلل شركات الأدوية، والغذاء والطاقة من شأن حق الفرد في الاختيار وتتجاهل صحته، من خلال تمرير المعلومات المغلوطة والتلاعب في الدعايات التسويقية، أو بالممارسات المناهضة للمنافسة.  وأما أسلوب التحفيز فلا يضاهي دائماً أسلوب الردع في حصر الخيارات، وكلا الأسلوبين مرفوضين عند البعض لما فيهما من تلاعب وتقليل من شأن الاستقلالية الذاتية (Quong 2011). تثير أساليب الترغيب وحملات تعزيز الصحة تساؤلات حول التدخل غير المعلَن للدولة في بعض السياقات. فحملات التثقيف الصحي التي تتبناها مؤسسات الصحة العامة علانيةً، كحملات الوقاية من عدوى الانفلونزا التي تقوم بتعزيز ممارسات مكافحة العدوى بين الأفراد، أو حملات خفض البدانة والتشجيع على الرياضة وتناول الغذاء المتوازن، لا تثير نفس الإشكاليات الأخلاقية كما تفعل تورية محاربة المخدرات، أو الرسائل المبطنة حول الأطعمة بين سطور برامج الترفيه المتلفزة، والتي تدار من قبل السلطات ذاتها (FCC 2000; Forbes 2000 (Other Internet Resources); Goodman 2006; Krauthammer 2000; Kurtz and Waxman 2000). وكما هو شأن الإعلانات التسويقية للشركات، قد تفلح هذه الرسائل المتوارية وأساليب الترغيب في رسم تفضيلات الأشخاص دون وعي منهم. يدفع التأثير المخفيّ للتداخلات للتساؤل حول ما إذا كان هذا من الخداع والتلاعب من قبل الحكومات، وما إن كانت قابلية رفضها أقل من قابلية رفض التدخلات المُعلنة المتمثلة في الضرائب وتقييد الحريات.

ثالثاً: تتدرج إجراءات الصحة العامة على سلم نافيلد باعتبار حزمة واحدة من اعتبارات التسويغ والتي تعتمد على تأثير الإجراء الصحي على: الحرية والاختيار. بينما يجب أن تتضمن مسوغات السياسات تقدير المنافع المحتملة من الإجراء كما وضحنا سابقا في القسم ٣.١، وكذلك احتساب حصيلة النفع والضرر للإجراءات المختلفة (بما فيها عدم التدخل)، والإجابة بدقة على التساؤلات الحرجة للعدالة التي أثرناها سابقا في القسم ٢ من المدخل.

يصبو سلم نافيلد في نهاية الأمر إلى تحديد النطاق الملائم لعمل الدولة، وكيف يضيق أو يتسع مجال العمل تبعاً لحقوق المواطنين ومصالحهم. أحد الأطر الهامة التي قد تحل هذه الإشكالية تنبع من نقاش مشابه حول الشرعية السياسية (انظر مدخل إلى الشرعية السياسية)، وفيها ثلاث ادعاءات يغلب عليها مداولات وتوترات:

  1. أن ممارسة السلطة السياسة تقتضي التدخل في حياة الأفراد الأحرار الأنداد، وقد لا يوافق بعضهم على هذا التدخل.
  2. هناك افتراض أخلاقي يضادّ التدخل في حال عدم موافقة الأشخاص الأحرار والأنداد.
  3. تدخلات الصحة العامة (في غالبها) ممارسات للسلطة السياسية.

تعمّدنا الاستخدام العام  “للتدخل” هنا، إلا أنه يمكن إضفاء صفة تخصيصية له حسب الاقتضاء. وكما شاهدنا، فالحالة النموذجية لأغلبية التدخلات حسب سلم نافيلد تندرج تحت سن القوانين التي تضيّق خيارات الأفراد أو تطمسها. لكن هناك تدخلات أخرى تمسّ الأشخاص الأحرار والأنداد كما في استخدام التحفيز أو الردع أو هندسة الاختيار، أو إجرءات التقصّي. يجد البعض أيضا في برامج التوقف عن التدخين الممولة عن طريق الضرائب، شكلاً من أشكال التدخل التي تمسّ الأفراد الأحرار الأنداد؛ وبما أن دفع الضرائب مسألة قسرية فهذا إذاً يقتضي صفة التدخل (Quong 2011).

وكذلك يتسع توصيف الأشخاص بأحرارٍ وأنداد لعددٍ من التفسيرات، (انظر مدخل إلى الليبرالية). والفكرة الأساسية خلف التوصيف (حر)، هو قصر النقاش حول الأشخاص ذوو الأهلية السيكولوجية لولاية ذواتهم، وفقاً لقيمهم الذاتية وتخطيطهم لحياتهم. ولا يعد الأطفال والبالغون ذوو الإعاقات الذهنية الحادة أحراراً بهذا التوصيف، وكذلك الحال في الادعاءين (١) و (٢) فلا تنطبق هاتان النقطتان عليهم بشكل مباشر. أما المقصود في الوصف “أنداد” هو أن نؤكد أن الأحرار متساوون ومتماثلون وفق منظور الأخلاق، ولا يملك أحدً حقاً طبيعياً لولاية غيره.

إنّ حل الاشتباك بين (١) و (٢) ليس بالغريب على الصحة العامة، بل من السائد التعامل معهما كمشكلة رئيسية عند منظري الأخلاق السياسية عموماً، لا سيما عند من ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية. على أي حال، كما تشير النقطة (٣) فالاشتباك بين (١) و (٢) يتكرر في سياقات تطبيقات الصحة العامة وسياساتها. وسنرفد إلى عدد من المسائل المتعلقة بهذا الاشتباك.

٣.٢.١ الوصاية

لم يسبق أن تداولت جدليات شرعية الصحة العامة لمسألة قط كما تداولت معالجات مسألة الوصاية، ومتى -إن سُوغت أصلاً- يؤذن للوصاية أخلاقاً. لا يوجد إجماعٌ على تعريف موحد للوصاية، وحل معضلة تعريفه ليس في وسع هذا المدخل (انظر إلى مدخل إلى الوصاية). قد تُفسّر الوصاية تقليدياً على أنها التدخّل في حرية تصرف الشخص خلافاً لرغبته، بغية حمايته أو تعزيز رفاهه (Dworkin 2005; Feinberg 1986) (٢١). “الخشنة” (Hard) و”القوية” (strong) من أشكال الوصاية التي يتّقد حولها خلافٌ حامٍ بسبب تدخلها في القرارات التي يتخذها المرء على أساس القيمة والدراية، بغية الارتقاء بمصالحه ورفاهه. ليتضح المقال، تخيل مثلاً أن شخصاَ يفضّل ركوب الدراجة النارية بدون ارتداء الخوذة رغم درايته بما قد يترتب على قراره من خطورة التعرض لإصابة جسيمة أو الوفاة، حيث يقدّر هذا الشخص قيمة الإحساس المفعم بالحرية في الركوب حاسراً.  فالتدخل في هذا القرار بغية حفظ مصلحته، بسنّ الغرامات، ثم سحب رخصة القيادة إن لزم الأمر، أو بفرض عقوبات صارمة، يشكّل نموذجاً للوصاية الخشنة والقوية.

يحتدم الجدال حول الوصاية الخشنة والقوية في كافة الميادين، ويندر أن يسوّغ الليبراليون للتدّخل كوصاية خشنة أو قوية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر باستقلالية المرء وأهليته، ودرايته المستنيرة. ونادراً ما يُسوّغ لتدخلات الصحة العامة بإرسائها صرفاً على الوصاية الخشنة أو القوية، أو باعتبار هذا النوع من الوصاية مسوغاً رئيسياً. فضلاً عن تحاشي مؤيدو قانون خُوَذ الدراجات النارية، الخوضَ في جدالات مبنية على مسألة الوصاية. وعادة ما يُسند حجاجهم إلى مسائل التكاليف الإضافية التي يتسبب الدرّاجون في تحميلها على غيرهم نتيجةً لركوبهم حاسرين (Jones and Bayer 2007).

هناك أنواع أخرى للوصاية: الناعمة (soft)، أو الضعيفة (weak)، لاقت صدىً واسعاً بين نشطاء الصحة العامة ويُتوسّل بها في جدلياتهم. في نموذج الوصاية الناعمة يهدف التدخل الناعم في الأشخاص إلى التأكد من أن قراراتهم التي تعرّضهم للخطر، ليست مبنية على اعتقادات خاطئة. يمثّل جون سيتيوارت مِل ذلك بشخص يوشك أن يعبر جسراً آيلاً للانهيار وليست لدينا أدنى فكرة عمّا إذا كان مدركاً لخطورة عبور الجسر، ففي هذه الحالة، تعني ممارسة الوصاية الناعمة التأكد من إدراك الشخص لخطورة الجسر، فإن كان مدركاً، يُترك وشأنه يفعل ما يشاء. في الوصاية الضعيفة، يحمل التدخل على التصحيح العام “للوسيلة” التي يختارها الشخص، لأن تلك الوسيلة تخفق في تحقيق “غايته” المرجوة، فلنقل بسبب ضعف الإرادة مثلاً (للاستزادة كذلك حول موقف سقراط من الرغبات اللاعقلانية). وكلا نوعي الوصاية “الناعمة” و”الضعيفة” يتّفقان في التدخل في القرارات المتأثرة بالجهل أو غياب الإرادة الطوعية.

تواجه الوصاية الناعمة، والضعيفة بالأخص، تحدياً في كيفية التجاوب مع حالات التدخل التي تؤدي بالأشخاص إلى غايةٍ مقررة عنهم، إلا أنها تخالف تفضيلاتهم ولا تعكس رغباتهم. عموماً، فتلك التفضيلات التي توافق حالاتٍ تَبطُل فيها استقلالية الشخص أو طوعيته كالإعاقة الذهنية أو عدم نبوغ سنّ الرّشد أو في حالاتٍ محدودةٍ بسبب الجهل أو الاعتقادات الخاطئة، لا تُولى اعتبارا قوياً (٢٢). وفي حالاتٍ أقل شيوعاً في سياقات الصحة العامة، يُنظر إلى التفضيلات المُتكيّفة التي وافق تشكّلها ظروفٌ قاهرة أو جائرة، على أنها أقل استقلالية، فهي وفقاً لهذا، أكثر قابلية لإخضاعها للتدخل، خلافاً للتفضيلات المتشكلة في كنف العدالة أو في ظروف معتدلة (٢٣) (انظر مدخل إلى الاستقلالية من منظور النسوية).

ثمة تحدٍ يواجه التزام الصحة العامة باحترام التفضيلات الشخصية، ويتوسّل بادعاءات مغايرة حول الاستقلالية والطوعية. فمثلاً، تتوسّل تدخلات الصحة العامة الموجَّهة إلى اليافعين، كمتطلّب العمر الأدنى لابتياع الكحول ومنتجات التبغ والحصول على رخصة القيادة، برؤيةٍ حول اكتمال النضوج والتمييز عند اليافعين؛ إذ أن دماغ اليافع طور النمو، وخبرات الحياة لديه لا تزال محدودة. أما عند البالغين، فضلاً عن المراهقين، فإن الادعاءات بالطبيعة المخدّرة لبعض المواد والتي تتسبب بالإدمان، بالإضافة إلى القوة التسويقية للشركات الكبرى التي تمكنّهم من التلاعب في التفضيلات، توعِز غالباً إلى تسويغ التدخل. تستخدم هذه السردية المنطقية مثلاً، للدفاع عن سياسات تقييد العقاقير والكحول ومنتجات التبغ، وكذلك السياسات التي تقيد الحصول على المشروبات المحلاة والمتخمة بالسكر (٢٤). لا بد أن نوضّح أن تلك الحالات المذكورة تسوغ للتدخل في حال تبيّن بطلان الاستقلالية أو الأهلية أو المنطقية خلال انتخاب تفضيلاتٍ معينة أو الإصرار على عقد تفضيلاتٍ محددة. ولا بد من عدم الخلط بينها وبين التدخّل بموجب موضوع التفضيلات ونوعها. ففي الأولى يسوّغ للتدخّل بالوصاية الناعمة أو الضعيفة، بينما في الثانية يستلزم تدخل الوصاية الخشنة أو القوية.

لا تبدو ملامح هذا التوصيف النظري بذات الجلاء على أرض الواقع. عملياً، نستدلّ على الخلل في تفضيلٍ محددٍ عن طريق الإمعان في محتوى التفضيل وموضوعه؛ فنميّز الوصاية القوية عن الوصاية الضعيفة بأنها تتطلب أن يكون أساس التفضيل المنتخب ودعائمه مقوَّضاً، وليس لمجرد أن القرار بني على حكمٍ غير سديد أو جهالة. تساعد هذه المبادئ على فهم فروقات منهجية مهمة للحالتين:

  • في الوصاية الخشنة أو القوية: أن يكون التدخل مبنياً على أساس محتوى التفضيلات وموضوعاتها الجوهرية، والتي لا تكون في المصلحة المثلى لصاحب القرار (٢٥).
  • في الوصاية الناعمة أو الضعيفة: أن يملك الشخص كافة الوسائل لكنها تنأى به عن المصلحة المثلى، بيد أن هذا لا يُسوّغ للتدخل، إذ أن هذه الحالة لا تستوفي شروط التقويض.

بالرغم من النزوع العام لتحاشي التوسل بادعاءات الوصاية في حجاج أخلاقيات الصحة العامة، إلا أن العديد من الدفوعات الوجيهة تناولت الوصاية على اختلاف أنواعها بسفور في السنوات الأخيرة (Conly 2013, 2014; Hanna 2019). فبرزت مثلاً، سارة كونلي في دفاعها عن الوصاية الضعيفة تحديداً، باعتبار أن الهدف الملائم للوصاية – حسب ادعائها – هو تمكين كل شخص قدر الإمكان من التصرف وفق القيم الخالصة له، أو وفق الرتب العليا لتفضيلاته. مثلاً، تؤيد كولي في جدلياتها العديد من أشكال الوصاية في الصحة العامة كمنع الدهون المتحولة، إذ أن تقدير الأفراد لقيمة الصحة يفوق تقديرهم قيمة استهلاك الدهون المتحولة (Conly 2013, 2014).

٣.٢.٢ جون ستيوارت مِل، عن الحرية ومبدأ الضرر

لا يوجد في الصحة العامة على الأرجح أطروحةٌ في الفلسفة الكلاسيكية يفوق استدعاؤها أطروحة جون ستيوارت مِل “عن الحرية”(Mill 1869). سكَّ مِل في أطروحته مفهوماً يُعرف اليوم “بمبدأ الضرر”، بيد أن مِل نفسه لم يورد العبارة في أعماله مطلقاً. ينطوي مبدأ الضرر على أن المسوّغ الوحيد للتدخل في حرية الفرد خلافاَ لرغبته هو منع وقوع الضرر المباشر على الآخرين عن غير عمد. يُستدعى مبدأ الضرر في سياسات الصحة العامة على السبيلين؛ دعم حجاجٍ، أو تقويض آخر.

تُنتقد السياسات المتدخّلة في الممارسات التي لا ضرر مباشر على الأخرين إثرها، بكونها تطاولٌ متهافت لا يستوفي مبدأ الضرر (Jones and Bayer 2007; Quong 2011; Flanigan 2014b). مثلاً، يتوسل مناوئي قانون خوَذ الدرّاجين في ماساتشوستس صراحةً بمبدأ مِل في مرافعاتهم عن قضاياهم في المحكمة (Jones and Bayer 2007, 211). في المقابل، يُستدعى مبدأ الضرر كذلك كمسوّغ للسياسات التي تتعهد الحالات التي يلازمها الإضرار البالغ بالآخرين، كما في نموذج تدخلات مكافحة الأمراض المعدية في الحجر الصحي والعزل الطبي والعلاج القسري (Flanigan 2014a; Holland 2007; Navin 2016; Giubilini 2019). يُعد مبدأ الضرر في منظور الديموقراطية الليبرالية أهم مسوٌغ متماسكٍ لتدخّل سياسات الصحة العامة في حرية الأفراد. في الولايات المتحدة مثلاً، يدّعي البعض أنه لولا الحجة الدامغة لمضارّ التدخين اللاإرادي عند العموم، لم يكن ليفرض أهم تدخل في ممارسات التدخين: حظر التدخين في الأماكن العامة.

على غرار المبادئ الأخلاقية والسياسية، ينبثق السؤال عن محددات مبدأ الضرر. تدور عدد من التساؤلات حول طبيعة الضرر، والذي يفهم عادةً بما يحول دون الناس وسبيلهم إلى مصالحهم باعتبارها حقّ مكفول لهم، لا سيما المصالح الاقتصادية. ما هو مدى جسامة الخطر الذي يمكن أن يحيقه الضرر ويحدد وقوعه، قياساً على أرجحية وقوعه وحدّته؟ (٢٦) وهل يفوق الإضرار الجسدي بصحة الآخرين، الضرر الاقتصادي عليهم أو على أي شكل من أشكال المصالح الأخرى لهم؟ فإن للفرد منا – بلا شك – مصالح متعددة الأوجه لا تتوقف عند سلامة الجسد فحسب.

ومن هذا المنطلق، لا بدّ إذاً من الإمعان في مجال “الضرر” في سياق الصحة العامة. وبالإشارة إلى امتداد تأثير ممارسة السلوك المضرّ ذاتياً على الآخرين، قد يتوسّع البعض في التساؤل عن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الإضرار الذاتي والإضرار بالآخرين، إلا أن هناك من يرى هذا التساؤل غلوٌ عبثي (Jones and Bayer 2007). كما في مثال الادعاء القائل: بأن الشخص يلحق الضرر بالآخرين في ركوبه دراجته النارية حاسرَ الرأس، لأن مؤدّى هذه الممارسات: انصراف الموارد الصحية والبشرية الهامة لتقديم الرعاية الصحية لأشخاص أصيبوا في حادث مروري دون ارتداء الخوذة. فالبعض يدين هذا التأويل بأنه استطراد غير ملائم، وقد ينسلّ منه التوسل بمبدأ الضرر لإطلاق العنان لبعض التدخلات الحكومية التي يلزم حظرها (Jones and Bayer 2007). يصبح الأمر أكثر تعقيداً عند تناول الحالات التي يكون فيها وقع الضرر ذاتياً في المقام الأول، فعندئذ، تطرح العديد من التساؤلات حول اتساع مجال تأويل مبدأ الضرر.

ولما لمبدأ مِل من شيوع واسع في أخلاقيات الصحة العامة، فلا مندوحة عن ملاحظة أن مِل يشير إلى أن صياغة السياسات العامة، في مسائل المصالح والحريات لا يقابلها تساوٍ في أرجحية التأييد. يفرّق مِل بين: المصالح العليا التي تتمتع بحصانةٍ ضد تدخل الدولة، والمصالح التي تتمتع بافتراض أرجحية تأييد الحرية، ومصالح أخرى لا تتمتع بذات التأييد المفترض للحرية. يبرز استدعاء مبدأ الضرر في المسائل الخاضعة للنوع الثاني من مصالح الحرية. بينما تستهدف بعض التدخلات في الصحة العامة النوع الثالث من مصالح الحرية، والذي لا يتمتع بذات الامتياز. فمثلاً، من غير الواضح إن كان اهتمام الأشخاص بتناول أطعمة تحتوي على دهون متحولة هو اهتمامٌ نابعٌ من افتراض تأييد الحريات (Powers, Faden and Saghai 2012).

أخيراً، قمين بالإشارة أن الاهتمام بمبدأ الضرر تنامى مؤخراً في مجال أخلاقيات الصحة العامة، بعد إخضاع العديد من جدليات مِل للتنقيح الدقيق. تركن إحدى جدليات مِل إلى الادعاء بأن الآخرين (بما فيهم الدولة) ليس بوسعهم معرفة مصلحة الفرد أكثر من الفرد نفسه؛ وأن اهتمام الفرد بالصالح العائد عليه يفوق اهتمام غيره به. لذا فإن تكبيل حرية الفرد توسّلاً بالصالح العائد عليه مآله الإخفاق حتماً. إلا أن دراسات علم الاقتصاد السلوكي وعلم النفس الاجتماعي أسفرت مؤخراً عن نتائج تدرأ ادعاءات التجريبية عن معرفتنا بذواتنا ومحفزاتنا وأهليّتنا لتحقيق ما نصبو إليه؛ وهذا يتحدى كذلك الادعاء الضمني لمبدأ الضرر. تظهر أبرز محددات هذا التحدي في أننا لا نتقن التفكير المنطقي للوسائل والغايات بسبب جهلنا ((means-end reasoning، فالعديد منا يودّ أن يملك زمام الحياة الصحية إلا أننا نفتقر إلى المعرفة الغذائية مثلاً. ونحن كذلك لا نُحسن اتخاذ الوسائل التي تتطلبها تحقيق غاياتنا لأننا معرضون للعديد من المحيّزات المعرفية cognitive biases)): كتضاؤل قيمة المردود المأمول عند الشخص كلما امتدّ الزمن وتأجّل تحقيقه (temporal discounting)، أو بسبب الافتقار إلى الوظائف الإدراكية التنفيذية (executive function). يعرف المرء عادة ما في مصلحته، إلا أنه يتعثر بالمغريات أو يتصرف وفق طريقة تنأى به عن تحقيق المصالح المثلى التي لا يتنازع حولها اثنان (Conly 2013, 2014; Hanna 2019; Sunstein 2013; Thaler and Sunstein 2003; 2008).

وغنيّ عن القول، فإن أصابت تلك الادعاءات التجريبية، فكيف سنتمكن إذاً من معرفة الشروط التي تضمن اتساق معرفة الشخص وسعيه نحو المصالح المثلى المأمولة: ما الذي يضمن لنا أننا نسير وفق مصالحنا المثلى؟ وما الذي يدل على أن التحيّزات المعرفية فعلاً تحول بين الأشخاص وبين التصرف بما يتفق ومصالحهم المثلى؟ ومع ذلك، كما سيطالعنا في القسم القادم، حتى وإن سلّمنا بخضوع الأشخاص للشوائب الآنفة، إلا أن هذا لا يعني ردم الصورة العامة لمحجة مِل على الإطلاق.

٣.٢.٣ الحرية التقليدية

نأياً عن تأويلنا لمبدأ الضرر أو رأينا في الجدليات بشأنه، يتوسل الليبراليون في بالأهمية الأخلاقية لحرية الفرد في حجاجهم حول تجاوزات الحكومات الليبرالية عندما يتعلق الأمر بتعزيز الصحة العامة. تشكّل هذه الحزمة من الآراء عند إرِك ماك وجيرالد غَس “الحرية التقليدية”((Mack and Gaus 2004; Brennan 2018. تتضمن الحرية التقليدية (غير اليساريين ومناهضي الوصاية) من الليبرتاريين وأنواعاً مختلفة لليبرالية الكلاسيكية. في الآونة الأخيرة زاد اهتمام بعض مناصري الحرية التقليدية بأخلاقيات الصحة العامة، ولهم آراء مختلفة كثيراً عما سبق، لأنهم يولون اعتباراً معيارياً هائلاً لحرية الفرد، ولأنهم عادة لا يؤيدون تدخلات الصحة العامة التي تنطلق من مبدأ العدالة، إلا ما كان تدخلاً من مبدأ النقل والتصحيح. مع ذلك، يندد هؤلاء المنظرون عادةً بأي إفراط ملاحظ في عمل الدولة الساعي لتحسين الصحة العامة.

تشكك إحدى الجدليات المتداولة في أدبيات هذا الموضوع، في الدراية العلمية لممثلي الحكومات، وأهليتهم، وحرصهم للتحسين الفعّال في صحة العموم. وبعبارات أخرى، يعترض البعض على التدخلات الواسعة للصحة العامة بسبب ادعاءات التجريبية التي تطال ممثلي الحكومات، فضلاً عمن يسعى منهم لتعزيز الصحة العامة. فبينما رأينا التحديات التي تواجه الافتراض بأرجحية تأييد الحرية، استدلالاً بأن الأفراد في حقيقة الأمر لا يملكون زمام الوسائل التي تقودهم لتحقيق غاياتهم؛ لأسباب تتعلق بالجهل أو لافتقارهم إلى قوة الإرادة أو الحيادية في الإدراك المعرفي. فعندئذ، إن سلمنا بصحة هذه الادعاءات التجريبية، ففي منظور الحرية التقليدية ليس هناك ما يجعل ممثلي الحكومات أفضل حالاً. أي أن التدخل في الأشخاص بوصفهم أحراراً وأنداد، يلزِمنا بالتبين من أن إمكانية الساسة لحفظ مصالح الفرد تفوق إمكانية الفرد نفسه. وفي الحالات التي يقتضي فيها تدخل الصحة العامة لحماية الأفراد من أنفسهم، يدعي أولئك المنظرون أن علينا التأكد من أن ممثلي الحكومات يستوفون أّهلية القيام بذلك (Brennan 2017; Epstein 2004; Flanigan 2014b).

ترتكز الجدليات الواردة حتى الآن على ادعاءاتٍ تجريبية حول أهلية ممثلي الحكومات وحرصهم ودوافعهم، غير أن العديد من مناصري الحرية التقليدية -وربما معظمهم- يناوئون هذه التدخلات من منطلقات المعيارية أيضاً. فحتى لو سلمنا -جدلاً- بأهلية مسؤولي الصحة العامة، وحرصهم وبأن معرفتهم بمصالح الأفراد تفوق معرفة الأفراد بها، فهذا لا يسقط في الحرية التقليدية معارضة تسويغ العديد من سياسات الصحة العامة الهادفة لتحسين صحة المواطنين (Brennan 2018; Epstein 2004; Flanigan 2014b; Quong 2011; Anomaly 2011; Gaus 2010). نخلص هنا إلى عبارة لديفد ايستلند، ورغم أنه أوردها في سياقٍ مغاير إلا أنها تتسق مع الفكرة ضمناً “ربما تكون محقًّا، لكن متى أصبحت زعيماً؟ ” (Estlund 2007). لهذا الاستنتاج المعياري عدداً من المبررات المنطقية: البعض قد يتوسل بالحق الطبيعي أو بأخلاق الواجب إجمالاً، بينما يتوسّل آخرون بالحاجة إلى التسويغ المجتمعي (نسهب في ذلك لاحقاً). ولا يزال هناك من يبني استنتاجاته على التفكير العواقبي، ويجادل على أساس الكفاءة والنفع الجمعي، أي أنه يمكن لإجمالي الكفاءة التسويغ لتدخلات الصحة العامة، غير أنهم ينكرون أن العديد من تدخلات الصحة العامة تعمل في حقيقتها بكفاءة تلبي الحاجة الفعلية (Brennan 2018).

إن الافتراض الأخلاقي للأرجحية نحو حرية الفرد هو موضوع الحرية التقليدية. يتكشّف هذا الموضوع في عدد من سياقات الصحة العامة: كما في احتجاج البعض على أساليب الصحة العامة في إيصال المعلومات إلى المجتمع، باستخدام ملصقات إشارة المرور على الأطعمة، أو صور الآثار الضارة للتدخين (Bonotti 2014)، وهناك من يعارض القوانين الرادعة التي تضعها الحكومات كضريبة المشروبات الغازية (Anomaly 2011, 2012)، وبطبيعة الحال كذلك يرفض مؤيدو الحرية التقليدية تقييد الخيارات المتاحة، فهم يتهمون الجهات التنظيمية، كهيئات الغذاء والدواء مثلاً، بالتقييد غير الشرعي لحرية الفرد عندما يحظرون ابتياع أو استخدام عقارات وجدت الهيئة أنها غير مأمونة (Anomaly 2011, 2012; Flanigan 2014b, 2017; Epstein 2004).

تتفق الحرية التقليدية مع مبدأ الضرر على أهمية إجراءات الصحة العامة التي تحول دون إضرار الأشخاص بالغير. لكننا قد نتساءل ما إذا جرّت الحرية التقليدية بمغالاتها في حرية الأشخاص، إلى ممانعة بعض تدخلات الصحة العامة بما يخالف رغبة مناصري الحرية التقليدية في إمضائها وإجازتها.  أحد الطرق المثيرة للاهتمام بغية اختبار حدود الحرية التقليدية، هو معرفة رأي مؤيديها في إلزامية اللقاحات، لا سيما اللقاح الثلاثي (الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية) Bernstein 2017; Brennan 2018; Flanigan 2014a; Giubilini 2019; Navin 2015). بصفة تجميعية إجمالية، قد يجرّ إحجام الآباء وتخلفهم عن تطعيم أبنائهم خطراً جسيماً على الآخرين، بينما لا ينجم ذات الخطر من طفلٍ واحدٍ غير محصّن بصفته الفردية. وبالنظر إلى هذا الخطر طفيف الضرر، قد يبدو أن أكثر الدفوع بداهة حول إلزامية التحصين، ستسوّغ لتقييد الحرية الفردية للوالدين لأجل تحقيق شيء من النفع الإجمالي. وبما أن الليبرتارية يرون عدم شرعية التدخل في الأشخاص الأحرار والأنداد لتعزيز النفع العام، فهذه الجدلية ليست واردة. وأولئك الذين ينسبون أنفسهم إلى مدرسة الليبرتارية خارج سياقات الأكاديميا، كانوا قد ناوؤوا التحصين الإجباري بوصفه تعدٍّ على حريات الأفراد، كما في خطاب السيناتور راند بول عام ٢٠١٥، خلال جداله الرافض لإلزامية التطعيم بأن ” الدولة لا تملك أطفالكم، أبناءكم ملكٌ لكم”. هذا الاستنتاج صادم لأنه – جدلاً – يضادّ منطق الليبرتارية، قبل مناوءته شرعية إلزامية التطعيم (Brennan 2018; Bernstein 2017).

ولعل من استدراك هذا الموقف محاولة بعض من ينسب نفسه إلى الليبرتارية الدفاع عن إلزامية التحصين جدلاً بأن في السماح لطفلٍ واحدٍ بعدم تلقي التطعيم انتهاكاً لحقوق الآخرين (Flanigan 2014a; Brennan 2018). وفي حال أفلح حجاجهم، سيتمكّن الليبرتاريون من المغالاة في حرية الفرد دون أن يتكلفوا زعماً مستهجناً بعدم شرعية الإلزام بالتطعيم. ويستأنف السجال في الرد المستنكر: فإن كان في التخلف عن التحصينات أو الإحجام عنها انتهاكٌ للحقوق بموجب الإضرار بالآخرين، فيمكن بالمثل سحب هذا الرأي على التدابير الأخرى؛ فكّر مثلاً في مخاطر امتلاك الأسلحة النارية أو المسابح الخاصة أو قيادة سيارة منخفضة الكفاءة في استهلاك الطاقة. إن صح هذا الرد، إذاً فالدفاع الليبرتاري عن مسألة إلزامية التطعيم يشوبه أحد أمرين: إما أنه غير ناجح أو أنه إذنٌ مضمَرٌ للحكومة بالتقييد الواسع للحريات، وهذا يجرّ تساؤلاً بدهياً عما إن كان هذا الدفاع أصيلٌ عن الليبرتارية (Bernstein 2017).

٣.٢.٤ الوصاية الليبرتارية

هدفت بعض المساعي إلى الجمع بين حسنات الوصاية والليبرتارية التقليدية، فانبثق منهج توليفيّ بينهما يدعى “بالوصاية الليبرتارية” (Thaler and Sunstein 2003; Thaler and Sunstein 2008; Sunstein 2013). يعالج منهج الوصاية الليبرتارية أوجه القصور في سعينا نحو غاياتنا والتي برهنتها الدراسات الرصينة، بينما يزيح عن الحرية التقليدية قلق إجراءات الوصاية المتمثلة في الردع والتقييد أو تقنين الخيارات المتاحة.

يُعرَف التّرغيب “Nudge” كأحد التدخلات في هندسة الاختيار، وهو موضع اهتمام الوصاية الليبرتارية. يتنامى توظيف الترغيب في سياسات الصحة العامة والحكومات الليبرالية، بغية توجيه السلوكيات الصحية في اتجاهٍ مأمول. تشجع الوصاية الليبرتارية الخطط المتدخّلة في هندسة المحيط البيئي للأفراد (كخطط هيئات الصحة العامة (إذ أنها تهيّء لهم التفاعل باتخاذ القرارات أو ممارسة التصرفات التي تحقق مصالحهم (كالصحة)، ولكن وفق شرطين، أولاً: أن يتم توجيه الأفراد بالإجراءات التي تثريهم وتجعلهم أحسن حالاً، وفق ما يحددونه لأنفسهم. فلا يحتمل إرباك حياة الأفراد بمشاكسة رغباتهم، على عكس السمة الملازمة والمرفوضة للوصاية المطلقة. ثانيا: ألا ينجم عنها إثقالٌ لكاهل الأفراد بأعباءٍ تحول بينهم وبين ممارسة الحرية المكرّسة للازدهار. يقترح ثيلر وسانستين مثلاً، أن تقدم السلطة في المطاعم كطبقٍ جانبيّ بدلاً من أصابع البطاطا المقلية، على أن يتاح لرواد المطعم طلب البطاطا من قائمة الطعام إن رغبوا في ذلك. فنجد في ترغيب الأشخاص لتناول السلطة، تحسيناً لمخرجات الصحة العامة دون المساس المستهجن بحرية الأفراد.

هناك تساؤلٌ جوهري يُطرح حول منهج الوصاية: هل يلزم أن يكون التدخل في حريات الأشخاص مضادّاً لرغباتهم؟ (Beauchamp 2010). فإن كانت هذه سمة أصيلة في الوصاية، فالوصاية الليبرتارية تحمل عنواناً غير ملائم. وبالمثل نطرح تساؤلاً عن مدى توافق الاشتقاق الليبرتاري مع هذا المنظور، إذ أن نواة عمل الليبرتارية يتجلى في اهتمامها بحماية الحريات، ورفضها القاطع لأي شكل من أشكال التدخل والإكراه لا سيما التلاعب. ومع ذلك فإننا نجد أن العديد من مؤيدي التدخلات الوصائية ومرجّحيها ومعارضيها كذلك يتفقون على إدانة ممارسة الترغيب في هندسة الاختيار بأنها تلاعباً (Conly 2013; Quong 2011).

من منطلق أخلاقيات الصحة العامة، فإنه لا يعزى لسلامة عنونة الوصاية الليبرتارية أي اهتمام؛ وينصرف اهتمامها بمسوغات مسائلٍ أخلاقية. وهناك تنامٍ ملموس في أدبيات مسألة الترغيب وأخلاقياته، ويعرّج كثيرٌ منها على موضوع الصحة (Engelen 2019; Levy 2017; Moles 2015; Muldoon 2018; Noggle 2018; Saghai 2013a; Saghai 2013b; Soccia 2019; Quigley 2013; Hollands et al. 2013; Quong 2011).

في رأي أولئك الذين يتهمون الترغيب بالتلاعب ويرفضونه لذات أسباب رفض التدخلات القسرية، فإن الوصاية الليبرتارية لا تتوسط الوصاية واللبيرتارية التقليدية. وأنها لا تعدو عن كونها شكلاً آخر من أشكال الوصاية؛ بل أنها والوصاية من أرومة واحدة تثير نفس التساؤلات حول قضايا احترام الأفراد كما في الوصاية القسرية (Quong 2011; Noggle 2018; Soccia 2019). فضلاً عن ذلك، وكما أسلفنا، فإن الليبرالية التقليدية تسلّم بأن الأفراد لا يتقنون اتخاذ قراراتٍ تخدم غاياتهم، وكذلك يجدون أن أهلية ممثلي الحكومات قاصرة، وأنهم لا يحرصون على هندسة الترغيب بالصورة التي يغلب النفع فيها على الضرر. كل هذه التساؤلات حول الوصاية الليبرتارية هي تساؤلات تجريبية معقدة. والحقيقة أن الإقرار بأن الوصاية الليبرتارية تتسم بالتلاعب، لا يزيح عنها قلق تساؤلات الحرية التقليدية.

يعتقد آخرون أن اشتراطات الوصاية الليبرتارية مُقيِّدة، ولهذا فهي أوهن من أن تكون قابلة للتطبيق في حقل الصحة العامة (Nuffield Council on Bioethics 2007; Ubel 2009; Conly 2013; Conly 2014; Menard 2010). فمثلاً، يتهم البعض الوصاية الليبرتارية بالمبالغة في إفساح المجال لصناعة قرارات فردية، وهذا لا يثري النفع العام المرتبط بالصحة العامة، وليس بفاعلٍ مؤثرٍ في معالجة المحددات الاجتماعية المتدنّية في الصحة العامة (Menard 2010). بينما أجدى بعض التقييد على الحرية نفعاً هائلاً في الصحة العامة؛ كقانون ربط حزام الأمان، وقوانين الدرّاجين، ومنع استخدام الدهون المتحولة (Conly 2013; Conly 2014; Menard 2010). أما أولئك الذين لا يعتدّون بالآراء المناوئة لتقييد حرية الأفراد لتحقيق مكاسب في الصحة العامة، فيجدون في مقترح الليبرتارية امتثالاً للحرية التقليدية. ولأن السياسات المتوافقة في سماتها مع الوصاية الليبرتارية محدودة التأثير، فالوصاية الليبرتارية عاجزة عن تحقيق مهام جوهرية في الصحة العامة؛ ولذلك فهي لا تسترعي اهتمام مناوئي الحرية التقليدية.

٣.٣ الخلافات المعيارية والشرعية

ثمة أدبيات محدودة ومتنامية تهتم بمسألة الشرعية وتحتضن الرؤية الليبرالية العامة للأخلاق السياسية، ولكنها تعالج حزمة مغايرة من المسائل. للمزيد من الإيضاح، هنالك جدليات ترى بأن مهمة أخلاقيات الصحة العامة لا تتوقف عند تقديم الإجابات في مسائل الأخلاق حول -مثلاً- صلاحية الدولة للتدخل في تخفيض معدلات حدوث السمنة المفرطة، أو كون هذا النوع من السياسات من مسائل العدالة.  بل إن على مختصي أخلاقيات الصحة العامة كذلك مواجهة أسئلة أخلاقية حول الأساليب المعيارية الملائمة عند الحكومات للتعامل مع نزاعات المواطنين حول تخصيص الموارد، أو توضيح الاعتبارات التي تسوّغ إجراءات تخفيض معدلات حدوث السمنة المفرطة. على ضوء هذه التعددية في الآراء حول العيش الرغيد والعدالة، كيف يمكننا صياغة السياسات المحددة لتعزيز الصحة العامة؟ Kristine Bærøe et al. 2014; Anomaly 2011; Coggon 2012; Daniels and Sabin 1997; Daniels and Sabin 2008; Bonotti 2014; Bonotti and Barnhill 2019).

لنأخذ على سبيل المثال، إتاوات الضرائب على المشروبات المحلاة بالسكر؛ قد تبرر سلطات الصحة العامة وصناع القرار فرض الضرائب بالإشارة إلى أعباء الصحة التي ترتبط بارتفاع معدل السمنة المفرطة، والتي يزيدها استهلاك المشروبات المحلاة سوءً، خصوصاً أنها لا تقدم أي فائدة تذكر. قد لا يتفق كافة أفراد المجتمع الخاضع للضريبة مع القيمة التي يحددها هذا الرأي. وهناك من المواطنين من يخالف التصور الراهن عن البدانة، ويعبر عن تصورٍ مغايرٍ تماماً؛ فالبدانة أو امتلاء الجسد في بعض الأعراف علامةً للجاذبية والجمال. بل أن هناك من يجد قدراً هائلاً من المتعة في تناول السكريات كالمشروبات المحلاة، وقد يصل تقديرهم للاستمتاع بالحلويات وجمال المظهر إلى حد تجاهل المخاطر التي قد تترتب على زيادة أوزانهم من ارتفاع ضغط الدم أو الإصابة بالسكريّ. فهنالك تباين جذريّ في آراء السكان حول معايير الجمال، وتقديرهم للمشروبات المحلاة وقيمة هذه الأمور بالمقارنة مع الصحة. بل إن التباين قد يصل إلى حد التساؤل حول التصور المقبول للصحة عند المجتمع.

وفي حال تطبيق الضرائب على المشروبات الغازية باسم تعزيز صحة السكان، تثور عندئذٍ عددٌ من الإشكاليات: تسويغ ضرائب المشروبات الغازية باستدعاء مفهومٍ يحدّد ما هو ذا قيمة أو ذا مصلحة قد لا يتفق عليها كل السكان. كما أن هذا الخلاف لتحديد القيَم، يثير قلق الصحة العامة حول مسألة العدالة. ولكن كما عرضنا آنفاً، ثمة نظريات وجيهة حول أهمية الصحة في منظور الأخلاق، وما إن كان على الصحة العامة أن تعمل لأجل رفع مستوى الصحة إجمالاً، وإذا ما اشتملت مهامها على إخماد التفاوتات الجائرة في الحالة الصحية أو التفاوتات في الوصول إلى الرعاية الصحية. وفي مواجهة كل هذه الصراعات حول مفهوم الصحة والعيش الرغيد والعدالة، ما الذي يجعل من سياسات الصحة العامة سياساتٍ شرعية؟

٣.٣.١ ليبرالية العقل العمومي

أحد أوجه معالجة النزاع المعياري يعوّل على أعمال الفلسفة السياسية التي طورت نظريتي العقل العمومي والتسويغ العمومي (انظر: مدخل إلى العقل العمومي، ومدخل إلى التسويغ العمومي). في نظرية العقل العمومي، تكون القوة السياسية شرعية إذا وإذا فقط تمت ممارستها في حال الإجماع على قيمة سياسية أو منطق معياريّ والتي يستطيع أن يقبلها، أو يمكن أن يقبلها، أو لا يستطيع أن يرفضها، أو لن يرفضها، أي عنصر مثالي في المجتمع السياسي. وبالعودة إلى مثالنا السابق حول فرض ضريبة المشروبات الغازية، فتخيل أن من المشرّعين من لجأ إلى الاستدلال بالنصوص الدينية لإقناع المواطنين بالضرائب، وادعى آخرون أن الأجساد أصغر حجماً أجمل من الأجساد كبيرة الحجم؛ وبناء على هذين الاستدلالين يجب خفض معدلات حدوث السمنة. لا يُعتد بأي من هذين الموقفين كمسوغ لدى العقل العمومي، لتباين المعايير الجمالية بين صُوَّابة القوم وعقلاءهم، ولأن هناك اختلافٌ بينهم على محجّة النصوص الدينية المختلفة. وفقًا لليبرالية العقل العام، فإن التسويغ للسياسات باستدعاء هذا النوع من المبررات التي لا يستطيع بعض المواطنين المثاليين أن يقبلها، أو لن يقبلها أصلاً، هو بحد ذاته انتهاكٌ لشروط الشرعية.

تقدّم مساجلات منظّري التسويغ العمومي أسباباً وجيهة لضرورة عدم ممارسة القوة السياسية إلا بالارتكاز على القيم التشاركية التي تستوفي متطلبات التسويغ العمومي. مثلاً، يجادل البعض بأن الإنفاذ القسري للسياسات المستندة على قيمٍ لا يستطيع بعض المواطنين قبولها -كحدٍ أدنى- ينطوي على إخفاقٍ في إظهار الاحترام المستحق لهم. لا تعير نظريات أخرى ذات القدر من الاهتمام بالقسرية، بيد أنها تتمسّك بأن الاعتبارات التبادلية والمجتمعية تولّد الحاجة إلى العقل العمومي (للنظر في أمثلة عديدة عن أهمية المعيارية لاستيفاء متطلبات العقل العمومي انظر (Quong 2011; Rawls 1993; Gaus 2010؛ مدخل إلى العقل العمومي، ومدخل إلى التسويغ العمومي).

وبغضّ النظر عن المبرر المنطقي الأمثل، فإن افترضنا صحة الادّعاء القائل بأنه لا يمكن لسياسة أن تكون شرعية إلا في حال استيفاء مسوّغ العقل العمومي، فالسؤال الجوهري هنا، كيف لنا أن نحدد العقل العمومي؟ لهذه المحددات أثر هائل على مجال الصلاحية الموكلة للصحة العامة. يجادل البعض بأن العقل العمومي يتضمن مبررات مقبولة، لالتماسه المعايير المعرفية التشاركية، والقيم الداخلية للفكر السياسي، والمفهوم السائد للعدالة في المجتمع. ويفترض أن تتساوق المعايير المعرفية التشاركية والقيم الداخلية للفكر السياسي مع العديد من تدخلات الصحة العامة. لنتصوّر أن يسوّغ أحدهم لعددٍ من البرامج التي تعزز الوصول إلى الأغذية الصحية، فإن هذا من شأنه تحفيز المعايير المعرفية التشاركية بإشارته إلى العلاقة الارتباطية لإمكانية الوصول إلى الغذاء الصحي للأطفال بالمخرجات الصحية التي لا يقبلها العقل السليم ولا صُوَّابة القوم، كإصابة الأطفال بأمراض السكري. وبإمكان هذا الشخص تحفيز مفهومٍ مشتركٍ للعدالة عبر الادعاء بأنه لا يجب أن تحدّ البقعة الجغرافية التي نولد فيها من أفق الصحة المثلى (Bonotti and Barnhill 2019; Moles 2013; Nielsen and Jensen 2016).

على النقيض، يجادل آخرون حول مفهوم أكثر تحفظاً للعقل العمومي. مثلاً، تزعم إحدى النظريات الشهيرة حول ليبرالية العقل العام أن العقل يكون عامّاً إذا وإذا فقط اجتمعت حزمة من الدوافع عند كل فرد من الأفراد المثاليين: الرغبات والنزوع إلى التقييم وأنماط الانفعالات (Bonotti and Barnhill 2019). ونظراً لأن حزمة الدوافع عند بعض “المثاليين” قد لا تتوافق مع المبررات المقدمة في دفوع تدخلات الصحة العامة، فإن العقل العمومي عندئذ سيدعم عدداً محدوداً من إجراءات الصحة العامة. يؤدي التصور المتحفظ للعقل العمومي إلى التضييق على مجال الصلاحية المفوّضة للصحة العامة. دون الخوض في مفهوم “المثالية” في هذه السردية، فالانسياق خلف هذا المفهوم المتزمّت يفضي إلى الافتراض المطلق لعدم شرعية أي إجراء في الصحة العامة. ولأن سياسات الصحة العامة صممت ليشمل أثرها أكبر عدد ممكن من الأشخاص، فلا يمكن أن نعتقد أن أي سياسة من سياسات الصحة العامة – فضلاً عن أي سياسة عامة – تتوافق مع حزمة الدوافع عند كل شخص من هؤلاء المستفيدين من السياسة المحددة؛ وسيكون هناك دائماً من يعترض على سياسة ما، بحجة عدم توافقها مع القيم الخاصة به. ليس مستغرباً أن يتماهى مناصرو هذا التعريف المتحفظ للعقل العمومي مع توجّه الحرية التقليدية. بالعودة إلى مثالنا حول فرض الضرائب على المشروبات الغازية، نجد أن أحد الأسباب المطروحة لهذا الإجراء هو التخفيف من السمنة المفرطة لتحسين الصحة العامة. ومع ذلك، كما رأينا فإن حزمة الدوافع عند البعض تقدّم قيمة الأجسام كبيرة الحجم أو الاستمتاع بالمشروبات المحلاة على الصحة حتى لو افترضنا وجود مفهوم سائد للصحة. وبما أن الدفوع المقدمة لسياسة ضريبة المشروبات المحلاة لا تتفق مع حزمة الدوافع عند بعض الأشخاص، إذاً لا يعدّ هذا عقلاً عاماً. وإذا كانت جدلية الصحة هي المحجة الوحيدة القائمة في ضريبة المشروبات الغازية، فبدعوى هذا المفهوم الليبرالي للعقل العام، فإن ضريبة المشروبات الغازية ليست شرعية؛ ولا يسوغها المواطنون المثاليون (Bonotti and Barnhill 2019).

٣.٣. إجراءات القرار السلطوي

انطلقت مجموعة فريدة من الأعمال المتجاوبة مع المخاوف التي تسوّر الخلافات حول الشرعية، لتقدّم خطةً إجرائية لصناعة القرارات الرسمية للسلطة. يعتقد العديد أن الحل البدهي للخلاف الجوهري حول مفاهيم العدالة أو الحياة الطيبة المأمولة، يكمن في إرجاعه للاقتراع بين آراء الناس، ففي الرأي الغالب قبول معياري أو ربما ضرورة لحسم الخلاف الشائك (Waldron 1999)، والتي يتبناها بعض منظّري الصحة العامة. بالنظر إلى التباين في قيمة صحة السكان، يجد البعض أن صناعة القرار الآخذ بآراء أصحاب العلاقة ينم عن شفافية ويشبع القيم المختلفة السالفة ضمن الحديث عن الخلافات والسلطة (Childress et al. 2002; Emanuel 2002; Goold et al. 2005; Upshur 2002; Marckmann et al. 2015).

تعنى مجموعة نادرة من التساؤلات بتصميم المؤسسات وتخطيطها، وأخرى تدور حول الخلافات حول علاقة التخطيط المؤسسي بالوكالات الإدارية والصحة العامة وصناعة القرارات الديموقراطية. فعادة ما تُتخذ قرارات الصحة العامة في مؤسسات إدارية، يعيّن رؤساؤها دون برامج انتخابية، إلا أنهم يحكّمون قرارات غاية في الأهمية في تأويل تشريعات الصحة العامة وتطبيقاتها وموجّهاتها التنفيذية (Weinstock 2016). تثور حول هذه السمة للصحة العامة تساؤلات عديدة للشرعية، تمتد لمواجهة الدفاع الوطني ومؤسسات البيئة ومن جرى تعيينهم من المحكّمين. رغم حساسية هذا الموضوع في أخلاقيات الصحة العامة، نادراً ما تجد عملاً بحثياً فيه. يتطلب البحث الرصين في هذا الباب، النظر في شرعية الديموقراطية وكذلك شرعية الهيئات الإدارية وتأثير كلاهما على الصحة العامة خصوصاً.

تهتم معظم النقاشات التي تناولت آليات اتخاذ القرارات الشرعية المصممة لحل الخلافات المعيارية، بالخلافات حول المفاضلات والأولويات. لنعطي لمحة عن تلك الجدليات والإشكالية الفلسفية العامة التي تثيرها، سنستعرض عملاً استثنائياً لنورمان دانييلز وجيمس سابين في إطار”المساءلة في سبيل المعقولية” (Accountability for Reasonableness (A4R))  (٢٧). يهدف المشروع إلى تقييم شرعية إجراءات صناعة القرار عند تحديد تراتبية الأولويات ومعالجة إشكاليات مدى شمولية الصحة العامة. وفي باكورة أعمال المساءلة عن المعقولية كان الهدف المبدئي منه إرشاد صانعي القرارات في شركات التأمين الخاصة، وامتدّ بعد ذلك شأوه ليعالج مسائل المفاضلة في الأولويات عموماً وفي تقييم التكنولوجيا الصحية.

يكمن الافتراض الأساسي في “المساءلة في سبيل المعقولية” في أنه: عند مواجهة معضلة الاختلافات الأخلاقية الجوهرية في توزيع الموارد الصحية، فإنه من الأسهل التوصّل إلى اتفاق حول الإجراءات لصناعة قرار للمضيّ قدماً، بدلاً من محاولة معالجة الاختلافات الجوهرية نفسها (Daniels 2000; Daniels and Sabin 1997; Daniels and Sabin 2008). يسكّ مبدأ المساءلة في سبيل العقلانية أربعة شروط، يضمن استيفاؤها شرعية إجراء القرار المتخذ، حتى في حال اختلف الأشخاص حول مسائل جوهرية كالقيمة والعدالة أو حول الإجراء المتخذ أثناء صناعة القرار:

  1. شرط الإعلان: أن تكون مبررات تخصيص الموارد متاحة للعموم
  2. شرط التساوق والملاءمة: أن يكون القرار محفزاً للمبررات ذات العلاقة، والتي يجدها الأشخاص ذوي العقول الراجحة مقبولة. ذوي العقول الراجحة: هم أولئك القادرون على استحداث أرضية مشتركة وفق شروط مسوغة بغية التعاون (Daniels 2008, 118). يتبنى مبدأ مساءلة في سبيل المعقولية هنا نظرية العقل العمومي، ويشير كذلك إلى التداول الديموقراطي. يهيئ اقتراح عدد من السياسات من قبل ذوي العقول الراجحة نوعاً من الإجماع على السياسات المتباينة، على الأقل في تحديد المبررات ذات الصلة بصناعة القرار (انظر مدخل إلى الديموقراطية).
  3. شرط المراجعة والاستدعاء: يتطلب توفّر آلية تتيح اختبار القرارات بالتحديات، ومراجعته على ضوء ما يستجد من جدليات وبراهين.
  4. الشرط التنظيمي (يعرف كذلك بشرط الإنفاذ): يتطلّب أن يراعى تنظيماً طوعياً للعموم يتخلل إجراءات صناعة القرار.

برغم ذيوعه، يعترض مبدأ المساءلة عن العقلانية عدداً من التساؤلات. يقوّض أحدُ التساؤلات الافتراض الأساسي للمبدأ القائل بأن الاتفاق على إجراءات صناعة القرار، أجدى من محاولة فك النزاعات حول القيم الجوهرية (Friedman 2008; Dawson and Verweij 2014; Sabik and Lie 2008). ويجادل آخرون فيما إذا كان شرطيّ الإعلان والمراجعة والاستدعاء يستوفيان أسلوباً ديموقراطياً (Friedman 2008, 102) أو أن يكون الإعلان من ضرورات الشرعية (de Fine Licht 2011; Martin and Giacomini and Singer 2002).

وأكثر ما تعرض للتدقيق في مساءلة العقلانية هو شرط الملاءمة، فكما أسلفنا في نقاشنا حول العقل العمومي، فقد اختلف المنظرون السياسيون في أي العقل الذي يصح أن يكون عمومياً. يدّعي دانييلز أن استخلاص التساوق لا يقبل سوى مما يوافق عليه ذوو العقول الراجحة المتزنة. ويجد في حجاجه أن قبول كل رأي دون غربلة يجعل الإجماع مستحيلاً، وربما نضلّ باتباع سبيل الآراء التي يرفضها أصحاب العقول الراجحة (Daniels 2009, 144).

ومع هذا، فإن تقنين الرؤى المختلفة بغية الوصول إلى قرار، يؤدي إلى إشكاليات أخرى. وقد يتفق ذوو العقول الراجحة وذوو العقول غير الراجحة مع هذا التصنيف أو يخالفونه؛ فكيف يرجُح عقلٌ ولا يرجح سواه؟ وبناء عليه فأي نوع من الأسباب المطروحة التي يجب أن نعتدّ بها خلال صناعة القرار؟ (Hasman and Holm 2005; Friedman 2008). تحديد العقلاء أمر ملغز ومحير، فهل نستخدم أداة يقبلها الناس بغية تحديد أي من الرؤى والأسباب هي الأقرب لما قد يتفق إزاءه ذوو العقول الراجحة؟ وكيف لنا أن نتعامل مع أصحاب الآراء المردودة بوصفها غير مناسبة، والتي يغلب أن تصدر من ذوو العقول غير الراجحة؟

هناك قلق أعمق إزاء تكريس الاهتمام باختيار الأسباب الاعتبارية عند اتخاذ قرار موصول بالصحة العامة، ما قد يؤدي إلى الاشتباك المعضل للخلافات بدلاً من فكها وحلها. فإن الأمر لا يتوقف عند فك الخلاف حول انتخاب أجدى الاعتبارات المعيارية التي تحدد الأولويات، بل يتخطاها إلى حل معضلة الاختلاف حول أي الاعتبارات والأسباب أحرى بالتنحية (٢٨). يتصعّد الارتياب حول شرط التساوق، كونه يتفادى أسئلة الشرعية الناشئة عن الخلافات المعيارية بدلاً من الإجابة عليها. ليس من الصعب الوصول إلى إجماع إذا قصرنا النظر إلى الآراء التي سبق اتفاقها. وإن قبلنا -جدلاً- بأهمية الوصول إلى قرار مقبول بين مجموعة ستختلف حوله في نهاية الأمر، إذاً فمحاولة الالتفاف حول مصفوفة الأسباب المتعلقة بصناعة القرار قد لا تكون إلا مُنزَلَقٌ نحو نتائج عكسية.

٣.٤ بدائل الليبرالية

أخيراً، هناك أطروحات ترفض رفضاً قاطعاً الرأي الذي يسند إلى الليبرالية تولّي طلائع التفكير في مسوغات تدابير الصحة العامة. وأدانت الليبرالية مراراً بإخفاقها في احتواء قيم الجماعاتية المشاعية (communal values) كالتكافل والتضامن ((Dawson and Jennings 2012)؛ ولفشلها في مراعاة مفهوم الأفراد أحراراً وأنداد والذي قد يتضمن ما يحيد عن الطبيعة البشرية ويميل عنها؛ ولأن موارد الليبرالية تعجز عن تقديم تصور مناسب للصالح العام والخير الجوهري المشترك. مثلاً، كتب كل من بايلِس وكِني وشِروِن في ورقة لجدولة أعمال الإطار النسوي غير الليبرالي لأخلاقيات الصحة العامة: “نحن نتفق مع بروس جيننغ في أن تأطير أخلاقيات الصحة العامة بإطار الليبرالية مفيدٌ إلى حد معين، إلا أن محدوديتها في النهاية تمنعها من تقديم المسوغات المعيارية أو الرؤى الأخلاقية الملائمة لمواكبة تطور المسائل الاجتماعية والتي يجب أن تسعى الصحة العامة لتحقيقها” (Baylis and Kenny and Sherwin 2008, 196) (٢٩).

تتفق الجمهورياتية المدنية مع الليبرالية في أن الحرية من أساسيات – إن لم تكن أساس- القيم السياسية الأخلاقية. يقدم الجمهوريون تعريفاً للحرية ينافس التعريف المقترح في الليبرالية. وبدلاً من تبني الموقف الليبرالي من الحرية بعدّها حرية سلبية أو تحرراً من التدخلات، يزعم الجمهوريون أن الحرية تتجسد في غياب الهيمنة (Pettit 1997; Pettit 2012). هناك العديد من التعريفات للاهيمنة، لكنها تتلخص في ادعائين؛ الأول: أن التمتع بالحرية الخالصة يكون في التحرر من التدخلات التعسفية، والثانية: أن يكون التحرر من قيد التدخلات التعسفية ثابتاً ومستقراً؛ فيكون التمتع بالحرية متاحاً في العوالم الممكنة المحيطة.

لإيضاح الفرق بين عدم التدخل وعدم الهيمنة، هب أن عبداً مملوكاً يعطف عليه سيده، فيسمح له بممارسة ما يشتهي ويغدق عليه بما أراد من موارد لا تحصى، ويبقى في مقدور سيده أن يمنع عنه الموارد متى أراد وأن يوقفه عن ممارسة ما يشتهي كيفما شاء. ولأن السيد يملك من القوة ما يسود به على المملوك ويستطيع بها أن يمارس نفوذه كيفما اتفق، فهذا المملوك لا يتمتع بالحرية الخالصة؛ هو واقع تحت هيمنة سيده (Lovett 2001; Lovett 2018; Pettit 1997; Pettit 2012; Skinner 1998; Skinner 2008; انظر أيضا: مدخل إلى الجمهورياتية).

يجادل الجمهوريون بأن قوة التدخل لا تكون تعسّفاً عندما تكون القوة أصالة عن الجمهور عموماً، ولهذا هي ليست هيمنة أيضاً. وحتى تكون القوة قوة عمومية ونابعة عن الجمهور، لا بد أن تخضع لآلياتٍ تتحرى احتياج الخاضعين لها (جمهور المواطنين على الأغلب). ولضمان هذه الآليات، يجادل الجمهوريون بحماية الحقوق دستورياً، وأن تمثّل الديموقراطية تمثيلاً حقيقياً وفعالاً. باستيفاء هذه الشروط يمارس عموم الجمهور القوة السياسية بطريقة تحمي حرية كل فرد فيها. في حال أخفقت المؤسسات السياسية في تحري احتياج المواطنين بالطرق المطلوبة، فعندها يخضع المواطنون تحت سطوة الدولة المهيمنة. عوضاً عن تقديم التشريعات على أنها تقييداً للحرية، فإنّ تحري التشريعات لاحتياج جمهور المواطنين، وتمكين الأفرادَ من التخلص من السطوة التعسفية للآخرين، فالتشريعات الديموقراطية عندئذ تكفل الحرية (Pettit 1997, 2012).

يعدّ البعض أن أطروحة الجمهورياتية المدنية أجدر من أطروحة الليبرالية كنظرية أساسية في مضمار الصحة العامة (Jennings 2007; Jennings 2009; Weinstock 2016). بدلاً من التفكير في التوترات بين ممارسات الحكومات لتعزيز الصحة العامة والحرية بوصفها تحرراً من التدخل، يرى الجمهوريون أن للحكومات دورٌ لا غنى عنه في ضمان عدم خضوع الأفراد لسطوة تعسف الآخرين كعواقب للفقر مثلاً، أو نتيجة الخوف من فقدان التأمين الصحي المقدم من جهة العمل. في امتدادٍ طبيعي للرؤية الجمهورياتية في الصحة العامة، تُطرح تساؤلات فاحصة لمدى تمكّن الجهات الخاصة من إخضاعنا للسطوة التعسفية في التسويق التلاعبي أو في التسعير أو بالأعمال المضرة بالصحة العمّالية أثناء أداء العمل. يقترح الجمهورياتية في طرحهم هذا أن أحد أهم مهام الصحة العامة هو منع هيمنة الجهات الخاصة ذات النفوذ. وعليه فإن هيئات الصحة العامة ليست متدخلة في الحريات إنما معززة لها.

يقاوم العديد من منظّري الليبرالية التوصيف الجمهوري لمنظورهم، ويرفضون مزاعمهم حول ثغرات الليبرالية (Rajczi 2016; Radoilska 2009). فبينما يثير الرأي الجمهوري حراكاً فكرياً صاخباً حوله، إلا أن أمامه عراقيل عديدة تتحدى الفكر الجمهورياتي عموماً، مثلاً، يرى البعض أن الجمهوريين بالكاد يعيرون مسألة عدم التدخل أي اهتمام، برغم أهميتها الأخلاقية (Larmore 2001; Wall 2001; List and Valentini 2016). ويجد آخرون أن شرط اللاتعسف عند الخضوع للآخر يؤدي إلى نتائج تخالف الحس البديهي السليم، مثلاً، في حالة الشخص المسجون دون تعسّف، هو بداهة ودون ريب خاضعٌ لشكلٍ من أشكال الهيمنة بالدلالة التلقائية الذي نعقلها للهيمنة، ولكن تبعاً لتعريف الجمهوريين فإن هذا الشخص غير خاضعٍ للهيمنة (List and Valentini 2016).

ثمة إشكالية أخرى تتعلق بتشبّث الجمهوريين بالصناعة الديموقراطية للقرارات لضمان تحررها من الهيمنة، الذي يتولّد عنه إشكاليات عديدة في أخلاقيات الصحة العامة. فكما عرفنا آنفاً، عادة ما تُنفّذ تدخلات الصحة العامة أو تُتخذ قراراتها من جهات لا تشكّل حلقة في السلسلة الديموقراطية. يحاجج نشطاء الصحة العامة في دفوعهم عن دور تلك الجهات الإدارية باستدعاء طيفٍ من المسوغات: تحقيقاً لشروط العدالة؛ ولما لها من فائدة عموماً؛ وباستدعاء أحد أشكال الوصاية أحياناً. أما رأي الجمهوريين هنا فهو غير واضح (Weinstock 2016). وعلى عكس ادعاء الجمهوريين من المختصين في الأخلاقيات الصحية، يصرّ البعض على أن الجمهورياتية تحدّ الأفق الحالي لممارسات الصحة العامة، لأن عدم انحدار الجهات الإدارية من الديموقراطية يقلّص نطاق الصلاحية الموكلة لعملها. وهذه الرؤية تضع الصحةَ العامة في قبضة الديموقراطية. ووضع الصحة العامة في نطاق ديموقراطي بغية تجنب مخاوف الهيمنة، يسلّط عليها مشاكل أخرى. يكمن أحد المخاوف في أن تشبّع مقترح الديموقراطية المدنية بمفهوم الشعبية والمواطنة يشقّ عليهم لدرجة مرفوضة، لا سيما بالنظر إلى الوقت الذي يبذله الأفراد للمشاركة السياسية (Latham 2016). وفي رأي يدمغ أساس المقترح الديموقراطي، نجد بأن الادعاء بحاجة الصحة العامة للمزيد من الديموقراطية كونها لا تتمتع بالشرعية الكافية التي يظهرها نشطاء الصحة العامة؛ يقوّض الدافع الرئيسي لتبني المقترح الجمهورياتي القائل: بأن الجمهورياتية تسعى لنظريةٍ توليفيةٍ، تضاهي التوجّه الليبرالي في تشريع أفقٍ أرحب للصلاحيات الموكلة للصحة العامة.

هناك مخاوف أخرى تختص بأخلاقيات الصحة العامة، تتمحور حول حجم الملفات في حقيبة الصحة العامة التي تهتم بتعزيز الحرية وتحريرها من سطوة الهيمنة. من المعقول أن ننظر إلى بعض التدخلات، كالتنظيمات التي تضبط الادعاءات الصحية لمنتجات الغذاء والدواء، كعامل مساعد يعزز الحرية بالتصدي للهيمنة؛ ولكن يستعصي أن نُلبِسَ العديد من التدخلات بهذا التوصيف كالتقصي الوبائي للأمراض المعدية وبرامج التحصين، وبرامج التثقيف الصحي للنشاط البدني. ولا يمكن تمزيق مفهوم اللاهيمنة والادّعاء بأن هذه السياسات والممارسات تحسّن من الحرية وتفكّ قيد الهيمنة عنها. وحتى لو قبلنا -جدلاً- هذا التوصيف، فإنّ أي تقدم في الحرية بالتخلص من الهيمنة يبدو عرَضاً جانبياً يشبع طموح السياسة المقترحة، وإن لم يكن أثرها فاعلٌ وحقيقي. في رأي آخر (مثلاً: (Viens 2016، يحتجّ فينز على أن تسليط الضوء على الحرية لدى الفرد بربطها بعدم الهيمنة ليس بأفضل من ربط الحرية لدى الفرد بعدم التدخل ولا يقدّم أي تطور، وخصوصاً وأن الغاية الأسمى للصحة العامة هو اكتمال السلامة ووفرة العافية للمجتمع لا الفرد.

وبسبب هذه المآخذ، فإن هناك من يعمل في أخلاقيات الصحة العامة وفق منهج الجمهوريين، ويتسم برحابة أفقٍ تُنزل العمل الحكومي منزلته في الصحة العامة، بالقدر الذي يرتقي بالصالح العام ويحمي حرية الأشخاص من سطوة الهيمنة (Jennings 2007, 46-47). ومع ذلك، إذا كان التسويغ لتحسين الصالح العام بنهاية المطاف تسويغاً لسياسة الصحة العامة، فإننا نجد أنفسنا عالقين في مأزق الصراع المألوف بين حرية الفرد المرتبطة بعدم الهيمنة والصالح العام؛ وهو ذات الصراع الباعث لمخاوف من يعمل وفق الحرية التقليدية. وعلى غرار مطالبة الليبرالية بتقديم معالجات لمسألة الصالح العام والحرية الفردية بتوصيفها خلوٌ من التدخلّ، فهناك مطالبات تواجه الجمهوريين لرأب الصدع بين الصالح العام والحرية بتوصيفها خلوٌّ من الهيمنة.

 ٣.٥ إطار عمل شاملٍ لحيثيات العدالة والشرعية

كما أوردنا في مقدمة هذا المدخل، فهناك العديد من التحديات الميدانية التي تواجه الصحة العامة وتستدعي استحضار مسألتي العدالة والشرعية على حد سواء، لترشدنا إلى تحليل ملائم للمعضلات الأخلاقية.  وبوضع هذا نصب العين، اقترح البعض منهجياتٍ لأخلاقيات الصحة العامة تعتني بالاعتبارات المعيارية لحرية الفرد، ولكنها تتيح التسويغ للمسائل الأخلاقية التي تضاهي في ثقلها حرية الفرد أو قد تتجاوزها أهميةً حسب السياق (٣٠). وفقاً لهذه المنهجيات ظهر عدد من الأعمال الإثرائية لأخلاقيات الصحة العامة أريدَ بها تقديم إرشادات عملية لمختصي الصحة العامة ممن يحمل هم المسائل الأخلاقية في صناعة القرار، موضحة في الأعمال التالية:(Kass 2002; Childress et al. 2002; Marckmann et al. 2015; Petrini 2010; ten Have et al. 2010)..  شكلت هذه الأعمال خيطاً ناظماً لعملٍ فاعل ومؤثرٍ في مجال أخلاقيات العلوم الحيوية والتي طورها توم وجيمس (Beauchamp and Childress 2019). من المعلوم أن صناعة القرار يلزم موازنة ومعادلة بين مختلف الاعتبارات الأخلاقية والتي لا يمكن اكتشاف ارتباطها النسبي أو أهميتها النسبية إلا في سياق محدد للسياسة أو للعمل.

علاوة على مسائل الشرعية وحرية الأفراد والاستقلالية والعدالة وإجمالي النفع والكفاءة، فإن هذه النماذج تتضمّن عمومًا اعتبارات أخلاقية أخرى مثل التعبير عن التكافل وبناء الثقة والمشاركة المجتمعية (Childress et al.2002)، كما أنها بحاجة إلى شروطٍ إجرائية أيضًا لضمان الإنصاف في عملية اتخاذ القرارات (Marckmann, et al. 2015; Bernstein et al. 2020).

يمكن لكل مسألة من هذه الاعتبارات الجوهرية للأخلاق أن تقدم تسويغاً أوّلياً لفسح السياسة أو لنقضها. ولكن عندما تتعارض هذه المسائل بعضها مع بعض، يتوجّب عندئذ تقييم الأهمية النسبية للسياسة الصحية المعنية. وأخيراً، فإن كلاً من علماء أخلاقيات الصحة العامة وصنّاع القرارات في الصحة العامة بحاجة فائقة لتحكيم التجربة الميدانية، وتوظيفها في موازنة هذا الطيف العريض من الحيثيات والمسائل، باختبارها دون اجتزائها من السياقات المحددة لها في الصحة العامة، في سبيل اتخاذ قرارهم الحاسم حول أي السياسات أجدى بالفسح أو التنفيذ.

٤.حاشية لمدخل إلى أخلاقيات الصحة العامة

  1. مثلاً، يعرّف معهد الطب في الولايات المتحدة الصحة العامة بأنها: “جملة ما نقوم به كمجتمع، لضمان الأحوال التي يمكن للناس فيها أن يكونوا أصحّاء” (IOM 1988; IOM 2003)
  2. عدوى إبولا ما بين ٢٠١٤-٢٠١٥ التي تفشت في العديد من دول غرب أفريقيا، أحد الأمثلة للتحديات التي تواجه مساعي التعاون الدولي للسيطرة على الأمراض المعدية.
  3. فيما عدا المؤسسات غير الحكومية، فممثلي القطاعات الخاصة (وخصوصا التي تملك صفة ربحية / ريعية)، تلعب كذلك دوراً متمماً في إثراء الصحة العامة. ومثال ذلك قطاع شركات الأدوية المنتجة للقاحات أو المضادات الحيوية، التي تعد مكملة للإجراءات الوقاية من الأمراض المعدية. التقنيات العصرية التي تنتجها قطاعات هندسية والتي يمكن استخدامها في تنقية الماء والهواء للمواطنين. ومع ذلك يبدو غريباً أن نصور هذه الإجراءات كتدخلات للصحة العامة. وتتوقف وظيفة هذه القطاعات على تطوير العقاقير والتقنيات وليس تمكين المواطنين من الوصول إليها. بالقياس على هذا المثال سيكون من المستغرب عزو تقديم خدمات الرعاية الطيبة إلى شركات التكنوطبية الناشئة، كونها تقوم على تطوير التقنيات المستخدمة في المرافق الصحية. وبطبيعة الحال، فالكيفية التي تنسق بها الحكومات هذا العمل المترامي بين كل هذه الجهات، هو مدعاة للنقاشات أخلاقيات وله أثره على الصحة العامة.
  4. هذا التوصيف لا ينطبق على نظريات الليبرتارية الواردة في القسم ٣ من هذا المدخل.
  5. يمانع بعض المنظرين تصور التفاوتات الصحية على أساس الفئات المجتمعية، وعوضاً عن ذلك، يتّبعون منهجية التفاوت في الصحة من منظور الحالة الصحية بين الأفراد. للمزيد حول هذه المداولات (انظر القسم ٤، مدخل إلى العدالة، والتفاوت والصحة).
  6. يبنى تحليل الجدوى الاقتصادية على المقاييس الطبيعية ذاتها التي تستند عليها المقاييس المجملة، كتحليل معدل البقاء لخمس سنوات، أو مقياس وفيات الرضّع، لدراسة الكفاءة والقيمة المالية لبدائل التدخلات الطبية المستخدمة لعلاج مرض بعينه أو مشكلة صحية متشابهة. فمثلا،ً يمكن للتحليل مقارنة عقاقير مختلفة يمكن استخدامها في علاج أمراض سرطان الرئة، أو أي تدخل طبي آخر لخفض معدل وفيات الرضّع. والتحليلُ معرّض للتساؤلات الأخلاقية والنقد، كما هو الحال في تحليل الفائدة الاقتصادية.
  7. للنقاش حول الفرق بين حالتي الموارد النادرة، والموارد غير النادرة انظر Ubel and Goold 1998
  8. وكما سنرى في اللاحق من هذا المدخل، فالفروقات بين الخدمات الوقائية والعلاجية يكتنفها الغموض، فنجد أن بعض الإجراءات تصنف كعلاجات وقائية مثلاً.
  9. كمثال، انظر الأطروحات التالية: Baicker, Cutler and Song (2010); Bolnick, Millard and Dugas (2013); and Schmidt, Stock and Doran (2012).
  10. من المرافعات المكررة مراراً، أنه في حال كانت الفائدة الزهيدة العائدة على كل عنصر من عناصر مجموعة ما، تؤدي إلى نتيجة شمولية أكبر نفعاً من إنقاذ روح واحدة، فيبقى الواجب إنقاذ هذه الروح. مثاله، إذا كنا مجبرين على الاختيار بين إنقاذ حياة أحد الأشخاص، والقضاء على ألم الحلق في العالم بأسره، لاستنكر الجميع تقديم ألم الحلق على إنقاذ الحياة، حتى لو كان استقراء مؤشر ما يدل على أن القضاء على ألم الحلق في العالم سيؤدي إلى التمتع بصحة أفضل والذي يحسن بالضرورة رفاه الإنسان (Kamm 1993, 1994). تفند جدليات أخرى هذا الادعاء، بأنه ليست كل عملية إنقاذ يقابلها ضرر وخيم، ولا كل عمل وقائي يقابله نفع زهيد. وهذه الادعاءات حول المنفعة الزهيدة تبدو مغلوطة عند النظر إلى التدابير والسياسات التي اقترنت بالإنقاذ الفعلي للكثير من الأرواح الإحصائية، وكذلك عند النظر إلى مقارنة هذه الإحصائيات بإنقاذ الأرواح الشاخصة. للاستزادة من الردود المماثلة، انظر (Hope 2001; Sheehan 2007).
  11. تستخدم قاعدة إنقاذ الأرواح أحياناً للإشارة إلى الظاهرة النفسية “تأثير الأرواح الشاخصة”، أو للإشارة إلى أنه لا يوجد فرق جليّ بين ظاهرة تأثير الأرواح الشاخصة وتلبية الواجب الأخلاقي. ونستخدمها للإشارة إلى الواجب الأخلاقي بغية التوضيح والتبسيط.
  12. وإن اعتقدنا بأن قاعدة إنقاذ الأرواح يجب ألا تفضي إلى قرارات تخصيص الموارد أو ترتيب الأولويات، فهذا لا ينفي أهميتها في إطار العمل الإكيلينيكي (Cookson and McCabe and Tsuchiya 2007; Hughes and Walker 2009)..
  13. انظر نقاشات صامويل موين في هذا المنهج (Moyn 2018).
  14. اختلف الفلاسفة حول أهمية تمايز العدالة عن الأعمال الإنسانية الصرفة. فيُنظر إلى التزامات العدالة بأنها أكثر حسماً وحزماً، لذلك هي تضاهي الحقوق المكفولة للأشخاص. بالتالي فإنها ليست مسألة إحسان صرف، إذ يتصرف المانح وفق تقديره، ليحدد من يستحقها، وكم قدارها، وما وسيلة تقديمها (انظر Barry 1982).
  15. جدير بالتوضيح هنا: أن المقصود بالفقر في هذه المسألة تحديداً، ليس ما يحدث عرضاً، إنما ما تسببت فيه مؤسسات الاقتصاد العالمية، ونوعٌ من التعامل المتبادل بين البلدان الغنية والفقيرة. وبالطبع لزم هذا التوضيح لتأكيد صلته بالعدالة لا بالعمل الخيري. وأشكر (المؤلفة) كل من تقدم بملاحظاته للإشارة إلى أهمية هذا التوضيح.
  16. تطرقت أسئلة الشرعية كذلك إلى المنظمات الأممية، والمؤسسات الخاصة كمؤسسات الإغاثة الإنسانية، إلا أن هذه الأسئلة لم يطلها إلا تدقيق طفيف في سياق أخلاقيات الصحة العامة.
  17. جدير بالذكر أن الشرعية التي نتناولها هنا معيارية، لا وصفية. الشرعية المعيارية تعبر عن الحالة التي يسمح فيها للحكومات بممارسة القوة القسرية بمقتضى الأخلاق، بخلاف الحالة التي تقتضي حكم العموم للسماح بالتدخل القسري. والنقطة الثانية التي تستدعي التوضيح، أن البعض يفرق بين حقهم في سن القوانين، بمقابل سلطة الأخلاق المُلزِمة للمواطنين للرضوخ للقانون. ويستخدم مصطلح شرعية عادة دلالة على أحد هاتين الحالتين (Simmons 1999). مؤخراً، تصاعدت العديد من المطالبات بين العلماء للتمييز بينهما. انظر (Applbaum 2010; Buchanan 2002; Edmundson 1999; Zhu 2016). أخيراً، يحتد البعض في الفصل بين “الشرعية”، و”المسوغات” وعليه النظريات التي تناولت المسوغات العمومية، لا تتضمن دلالات نظريات الشرعية (Simmons 1999). وبغرض التبسيط، قررنا عدم الالتفات إلى هذا التمييز في جل هذا المدخل، إلا أنه قد يثري بعض النواحي التي ناقشناها. فمثلاً، قد يصر بعض المنظرين ومناصرو الليبرالية التقليدية، على أنه في حال دراسة عدد من الاعتبارات أفضت إلى تسويغ تنفيذ إجراءات سياسة ما، فهذا لا يقتضي أن للدولة الحق في الدخول في حيز التنفيذ بعد (سياسة مسوغة لكنها غير شرعية).
  18. في هذا المدخل نلجأ إلى “حرية” و”ليبرالية” ترادفاً، إلا حين يقتضي التفريق بين المبدأين، كما في معرض آراء الجمهوريين حول مفهوم الحرية التي تذوي بالتدخل، أو ما دعاه ازايا برلين “الحرية السلبية” (Berlin 1958). وللاطلاع على الأعمال التي تعالج مفهوم “الاستقلالية العلائقية”، من منظور أخلاقيات الصحة العامة انظر (Baylis et al. 2008).
  19. مثاله النموذجي: بتتبع بعض فاشيات الحصبة، وجد أنها تعود إلى عدم اكتمال نصاب التطعيم في الدول الأخرى، نظراً لامتناع الآباء عن تطعيم أطفالهم (Omerand et al. 2009; Thompson et al. 2007; Sugarman et al. 2010).
  20. يحاكي هذا ما تقدمنا به إجمالاً حول نفع تواجد الأسواق الحرة على تغيبها، إلا أن هذا لا يعفيها أو أي جانب تشغيلي منها من تلقي النقد والامتثال بالتعديلات، الصادرة من منطلقات الأخلاقية.
  21. هناك العديد من التعريفات المستفيضة للوصاية، مثلاً، يعرف جون كوانغ الوصاية باستيفائها شرطين:
    1. a.      يسعى [س] للارتقاء بما يعود عليه من رفاه، أو منافع، أو سعادة، أو اكتفاء أو مصالح أو قيم [ص]، والمتعلق بقرار ما ضمن حالة محددة.
    1. b.    تبنّي [س] مدفوع بحكمٍ يخلّ بقدرات [ص]، وبافتراض أن [ص] يملك كافة المعلومات اللازمة لاتخاذ قرار صائب، أو للتعامل مع وضع معين للارتقاء ب [ص] بما يعود عليه من رفاه أو نفع أو سعادة أو اكتفاء أو مصالح أو قيم (Quong 2011, 80).

ولسنا بصدد مباحثة مسألة الوصاية من هذا الباب لثلاثة أسباب:

أولا: أن اعتقاد المرء بالضرورة الأخلاقية لمخالفة الوصاية للأسباب التي صغناها، يعتمد على مفهومه الخاص للوصاية. فمثلاً، قد يتفق أحدهم مع شرعية الوصاية وفق تعريف دووركِن، إلا أنه يرى خلاف ذلك في الوصاية المتبنية لتعريف كوانغ. ويتعذّر التفلّت في مباحثة تعاريف مسألة الوصاية وتشعبات اسقاطاتها المعيارية لغرض السلاسة والاستساغة.

ثانياً: نؤثر تعريف دووركن، دع عنك ما إذا كان أفضل تعريف لفهم الوصاية، إلا أنه الغالب في أوساط الصحة العامة.

ثالثاً: تتمخض إحدى الرؤى المستفيضة في مفهومية الوصاية، والمتماهية مع ادعاءات عدم شرعية إجراءات الوصاية، عن رؤية تضيّق النطاق الملائم للنشاط الحكومي. ومع هذا سنتناول بعضها في معرض الحديث عن التقاليد الليبرالية. يمكن للمرء تعريف الليبرالية التقليدية بالتوسل بعاملين:

  1. تعريف أكثر إسهاباً للوصاية من التي نستند عليها.
  2. الادعاءات المعيارية لعدم شرعية الوصاية الحكومية.
  3. الجهل والاعتقادات الخاطئة ليست كافية دائماً لإخضاع التفضيلات للتدخل، وينبغي تأييدها بمكمّل اعتباريّ أكثر تماسكاً كالعمر، أو الإعاقة الذهنية، أو التسبب في إيذاء الآخرين (الأبناء مثلاً) النابع من جهلٍ أو اعتقادٍ خاطئ. بطبيعة الحال، فكل البشر لديهم قابلية اتخاذ قرارٍ مبنيٍ على أساس الجهل أو الاعتقاد الخاطئ، ما قد يستلزم الوصاية الناعمة، ومع ذلك لا يعد التدخل شرعياً إلا في حال وجد سببٌ مقنع يخلّ بالعقلانية بسبب وقوعنا في شَرَك ضعف الإرادة.
  4. يناوئ البعض هذا الادعاء، فمثلاً تطرح سيرين كادير تحدٍ وجيهٍ في النظر إلى التفضيلات المتكيّفة، من قبيل عدم الاستقلالية (انظر Khader 2009; 2012).
  5. للاطلاع على الجدليات المؤيدة لسياسات تقييد بيع السجائر انظر تحديداً (Goodin 1990).

يرى البعض على أن هذه الجدلية مفرطة في صفة التعميم، إذ أن ما يخلّ بالوسيلة في هذا السياق، يتجاوز جانب الصحة العامة إلى جوانب أخرى كذلك، ومع هذا، فنحن لا نشفع للتدخل في حال اختلال الجوانب الأخرى (Grill and Voigt 2016).

  1. يقترن هذا عادةً برأيٍ أشدّ حدّة حول شرعيّة استقاء الحكم بظاهر ما يعدّه المرء صالحاً له، وهو كذلك أدعى للتساؤل عن تقديرات الأشخاص في انتخابهم لتفضيلاتهم، خلافاً للوصاية الناعمة.
  2. مثاله، الجدل في الولايات المتحدة حول ملاءمة وضرورة عزل الممارسين الصحيين ولم تظهر عليهم أعراض المرض بعد عودتهم من غرب أفريقيا حيث قدموا المساعدة لمرضى إيبولا.
  3. لا يمكننا إغفال أنه عادة تُؤطَّر المساءلة عن المعقولية بإطار مسألة العدالة والإنصاف، أو بإطار العدالة الإجرائية والإنصاف. وعادة ما يتوسل بإطار العدالة الإجرائية والإنصاف كمتطلب للشرعية. وهنا نركز على الشرعية كأحد أبعاد المساءلة عن المعقولية.
  4. مثلاً، كتب آلكسندر فريدمَن أن توظيف المساءلة عن المعقول يترك صانع القرارات “مثقلاً بالجدليات الفلسفية التجريدية حول مسائل لا إجماع عليها، وبحاجة إلى حلّ نزاعاتٍ أصيلة تتعلق بطبيعة العملية السياسية وأساساتها، وفك خلافات في الشرعية الديموقراطية، والتعامل مع مختلف الرؤى ذات الصلة الاعتبارية بجوهر الأخلاق في تلك المسائل. فبدلاً من أن تحدّ من الخلافات حول الأخلاق وتجعلها سائغة في المتناول، فإن شرط التساوق ينزلق بنا لمعالجة سجالات في الفلسفة السياسية مغرقة في التجريد ومفرطة في التواتر والاستمرارية، قبل أن نتمكن حتى من علاج المتضادات الأخلاقية” (Friedman 2008, 107).
  5. ورد النص مقتبساً عن بايلِس وكِني وشِروِن ضمن ما سكّه بروس جيننغ حول المنهج المدني الجمهوري لأخلاقيات الصحة العامة، والذي حظي باهتمام واسع مؤخراً.
  6. هذا يعكس موقفاً حاسماً للصحة العامة، مفاده أن على السياسات المستدامة وطويلة الأمد توظف أقل الإجراءات تقييداً في سبيل تحقيق أهداف الصحة العامة (Upshur 2002; Childress et al. 2002, 173; Gostin 2008, 142).

مراجع

  • Adler, M., 2012, Well-Being and Fair Distribution: Beyond Cost-Benefit Analysis, New York: Oxford University Press.
  • Adler, M. D., J. K. Hammitt, and N. Treich, 2014, “Luck Egalitarianism, Social Determinants, and Public Health Initiatives,” Journal of Health Economics, 35: 82–93.
  • Albertsen, A., 2015, “Workplace Wellness Programs Can Generate Savings,” Public Health Ethics, 8 (1): 42–49.
  • Anand, S, F. Peter, and A. Sen, (eds.), 2006,Public Health, Ethics, and Equity, Oxford University Press.
  • Ananth, M., 2008, In Defense of an Evolutionary Concept of Health, Aldershot: Ashgate.
  • Annas, G., 1998, “Human Rights and Health – The Universal Declaration of Human Rights at 50,” New England Journal of Medicine, 339(24): 1778–1781.
  • Anomaly, J., 2011, “Public Health and Public Goods,” Public Health Ethics, 4 (3): 251–259.
  • Anomaly, J., 2012, “Is Obesity a Public Health Problem?,” Public Health Ethics, 5 (3): 216–221.
  • Arras, J., 2005, “Rationing Vaccine During an Avian Influenza Pandemic: Why It Won’t Be Easy,” Yale Journal of Biology and Medicine, 78: 287–300.
  • Bærøe, K., and R. Baltussen, 2014, “Workplace Wellness Programs Can Generate Savings,” Health Affairs, 29 (2): 304–311.
  • Baicker, K., D. Cutler, and Z. Song, 2010, “Workplace Wellness Programs Can Generate Savings,” Health Affairs, 29 (2): 304–311.
  • Baker, R., I. Bateman, C. Donaldson, M. Jones-Lee, E. Lancsar, G. Loomes, H. Mason, and M. Odejar, 2008, Weighting and Valuing Quality Adjusted Life Years: Preliminary Results from the Social Value of a QALY Project, Publication No. JH12, London: Crown. [Available online].
  • Barry, B., 1982, “Humanity and Justice in Global Perspective,” in NOMOS XXIV: Ethics, Economics and Law,J.R. Pennock and J.W. Chapman (eds.), New York: NYU Press.
  • Barton, A., 2013, “How Tobacco Health Warnings Can Foster Autonomy,” in Public Health Ethics, 6: 207–219.
  • Bayer, R, 2008, “Stigma and the Ethics of Public Health: Not Can We But Should We,” in Social Science and Medicine, 48: 463–472.
  • Bayer, R., and A.L. Fairchild, 2004, “The Genesis of Public Health Ethics,” in Bioethics, 18 (6): 473–92.
  • Baylis, F., N. Kenny, and S. Sherwin, 2008, “A Relational Account of Public Health Ethics,” in Public Health Ethics, 1 (3): 196–209.
  • Bernstein, J., 2017, “The Case Against Libertarian Arguments for Compulsory Vaccination,” Journal of Medical Ethics, 43 (11): 1–5.
  • Beauchamp, T., 2010, “The Concept of Paternalism in Biomedical Ethics,” in Standing on Principles, T. Beauchamp (ed.), New York: Oxford University Press, pp. 101–119.
  • Beauchamp, T., and J. Childress, 2019, Principles of Biomedical Ethics (Eighth Edition), New York: Oxford University Press.
  • Beauchamp, D. E., and Steinbock, B. (eds), 1999, New Ethics for the Public’s Health, New York: Oxford University Press.
  • Beitz, C., 2015. “The Force of Subsistence Rights,” in Cruft, R., S.M. Liao, and M. Renzo (eds.), Philosophical Foundations of Human Rights, Oxford: Oxford University Press
  • Belsky, L., and Richardson, H. S., 2004, “Medical Researchers’ Ancillary Clinical Care Responsibilities,” BMJ, 328 (7454): 1494–1496.
  • Benatar, S. R., 2002, “Reflections and Recommendations on Research Ethics in Developing Countries,” Social Science & Medicine, 54 (7): 1131–1141.
  • Beyrer, C., and H. F. Pizer, (eds.), 2007, Public Health and Human Rights: Evidence-Based Approaches, Baltimore, MD: JHU Press.
  • Beyrer, C., J. C. Villar, V. Suwanvanichkij, S. Singh, S. D. Baral, and E. J. Mills, 2007, “Neglected Diseases, Civil Conflicts, and the Right to Health,” The Lancet, 370 (9587): 619–627.
  • Bickenbach, J., 2016, “Disability and Health Care Rationing,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2016 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2016/entries/disability-care-rationing/>.
  • Blake, M., and P.T. Smith, 2015, “International Distributive Justice,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2015 edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2015/entries/international-justice/>
  • Bolnick, H., F. Millard, and J. Dugas, 2013, “Medical Care Savings from Workplace Wellness Programs: What Is a Realistic Savings Potential?,” Journal of Occupational and Environmental Medicine, 55 (1): 4–9.
  • Bonotti, M., 2014, “Food Labels, Autonomy, and the Right (Not) to Know,” Kennedy Institute of Ethics, 24 (4): 301–321.
  • Bonotti, M., and A. Barnhill, 2019, “Are Healthy Eating Policies Consistent with Public Reason Liberalism?” Journal of Applied Philosophy, 36 (3): 506–522.
  • Boorse, C., 1975, “On the Distinction Between Disease and Illness,” Philosophy and Public Affairs, 5 (1): 49–68. [Available online.]
  • Braveman, P., et al. 2011. “Health Disparities and Health Equity: The Issue is Justice,” American Journal of Public Health (Supplement 1), 101 (1): 149–155.
  • Braveman, P. & S. Gruskin, 2003, “Defining Equity in Health,” Journal of Epidemiology and Community Health, 57: 254–258.
  • Brennan, J., 2018, “A Libertarian Case for Mandatory Vaccination,” Journal of Medical Ethics, 44: 37–43.
  • Brock, D. W., 2002, “Priority to the Worse Off in Health-Care Resource Prioritization,” in Medicine and Social Justice: Essays on the Distribution of Health Care, R. Rhodes, M. Battin, and A. Silvers (eds.), New York: Oxford University Press, pp. 362–372.
  • –––, 2015, “Identified Versus Statistical Lives,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 43–52
  • Brock, G. (ed.), 2013, Cosmopolitanism versus Non-Cosmopolitanism: Critiques, Defenses, Reconceptualizations, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2017, “Global Justice,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2017 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = ≶https://plato.stanford.edu/archives/spr2017/entries/justice-global/>.
  • Broome, J., 1984, “Selecting People Randomly,” Ethics, 95: 38–55.
  • Brown-Johnson, C.G. and J.J. Prochaska, 2015, “Shame-Based Appeals in a Tobacco Control Public Health Campaign: Potential Harms and Benefits,” Tobacco Control, 24 (5): 419–420.
  • Broussard, G., L.S. Rubenstein, C. Robinson, et al., 2019, “Challenges to ethical obligations and humanitarian principles in conflict settings: a systematic review,” International Journal of Humanitarian Action, 4 (15): 1–13.
  • Buchanan, A, 2013, The Heart of Human Rights, New York: Oxford University Press.
  • Buchanan, D. R., 2008, “Autonomy, Paternalism, and Justice: Ethical Priorities in Public Health,” American Journal of Public Health, 98 (1): 15.
  • –––, 2019, “Public Health Interventions: Ethical Implications,” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics, ed. Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass. New York: Oxford University Press.
  • Burris, S., 2008, “Stigma, Ethics and Policy: A Commentary on Bayer’s ‘Stigma and the Ethics of Public Health: Not Can We but Should We?’,” Social Science & Medicine, 67: 473–475.
  • Callahan, D., 2013, “Obesity: Chasing an Elusive Epidemic,” Hastings Center Report, 43 (1): 34–40.
  • Caspar Hare, 2015, “Statistical People and Counterfactual Indeterminacy,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 124–136.
  • Childress, J. F., R. R. Faden, R. D. Gaare, L. O. Gostin, J. Kahn, R. J. Bonnie, N. E. Kass, A. C. Mastroianni, J. D. Moreno, and P. Nieburg, 2002, “Public Health Ethics: Mapping the Terrain,” The Journal of Law, Medicine & Ethics, 30 (2): 170–178.
  • Christakis, N. & J. Fowler, 2007, “The Collective Dynamics of Smoking in a Large Social Network,” The New England Journal of Medicine, 358 (21): 2249–2258.
  • Christiano, T., 2013, “Authority,” Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2013 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2013/entries/authority/>.
  • –––, 2018, “Democracy,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2018/entries/democracy/>.
  • Cochrane, J., 2015, “After the ACA: Freeing the Market for Healthcare,” in The Future of Healthcare Reform in the United States, ed. Anup Malani and Michael Shill, Chicago: University of Chicago Press: pp. 161–201.
  • Coggon, J., 2012, What Makes Health Public? A Critical Evaluation of Moral, Legal, and Political Claims in Public Health, Cambridge: Cambridge University Pres.
  • Cohen, J. T., P. J. Neumann, and M. C. Weinstein, 2008, “Does Preventive Care Save Money? Health Economics and the Presidential Candidates,” The New England Journal of Medicine, 358 (7): 661–663.
  • Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), 2015, Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal, New York: Oxford University Press.
  • Cohen, J., and C. Sabel, 2006, “Extra Rempublicam Nulla Justia?” Philosophy and Public Affairs, 34 (2): 147–175.
  • Conly, S., 2014, “Against Autonomy: Justifying Coercive Paternalism,” Journal of Medical Ethics, 40 (5): 349.
  • Conly, S., 2014, “Against Autonomy: Justifying Coercive Paternalism,” Journal of Medical Ethics, 40 (5): 349.
  • Cookson, R., C. McCabe, and A. Tsuchiya, 2008, Journal of Medical Ethics, 34: 540–544.
  • Cookson, R., M. Drummond, and H. Weatherly, 2009, “Explicit Incorporation of Equity Considerations into Economic Evaluation of Public Health Interventions,” Health Economics, Policy and Law, 4 (2): 231–245.
  • Coons, C., and M. Weber (eds.) 2014, Manipulation: Theory and Practice, Cambridge: Cambridge University Press
  • Crawford, R., 1977, “You Are Dangerous to Your Health: The Ideology and Politics of Victim Blaming,” International Journal of Health Services, 7 (4): 663–680.
  • Courtwright, A., 2013, “Stigmatization and Public Health Ethics,” Bioethics, 27 (2): 74–80.
  • Daniels, N., 2002, “Accountability for Reasonableness: Establishing a Fair Process for Priority Setting is Easier than Agreeing on Principles,” BMJ, 321 (7272): 1300–1301.
  • –––, 2006, “Equity and Population Health,” Hastings Center Report, 36 (4): 22–35.
  • –––, 2008, Just Health: Meeting Health Needs Fairly, New York: Cambridge University Press.
  • –––, 2012, “Reasonable Disagreement about Identified vs. Statistical Victims,” Hastings Center Report, 42 (1): 35–45.
  • –––, 2015,“Can There Be Moral Force to Favoring to an Identified over a Statistical Life?” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 110–123.
  • –––, 2019,“Reconciling Two Goals of Public Health”
  • Daniels, N., and J. Sabin, 1997, “Limits to Health Care: Fair Procedures, Democratic Deliberation, and the Legitimacy Problem for Insurers,” Philosophy and Public Affairs, 26 (4): 303–350.
  • –––, 2008, Setting Limits Fairly: Learning to Share Resources for Health, New York: Oxford University Press.
  • Darwall, Stephen, 2006, The Second Person Standpoint: Morality, Respect, and Accountability, Cambridge: Harvard University Press.
  • Daugherty Biddison, E., R. Faden, H. Gwon, D. Mareiniss, A. Regenberg, M. Schoch-Spana, J. Schwartz, E. Toner, (2018), “Too Many Patients… A Framework to Guide Statewide Allocation of Scarce Mechanical Ventilation During Disasters” CHEST (2018) 155 (4).
  • Dawson, A., (ed.), 2011, Public Health Ethics, New York: Cambridge University Press.
  • Dawson, A., and B. Jennings, 2012, “The Place of Solidarity in Public Health Ethics,” Public Health Review, 34, 1: 65–79.
  • Dawson, A., and M. Verweij, (eds.), 2007, Ethics, Prevention, and Public Health, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2008, “Public Health Ethics: A Manifesto,” Public Health Ethics, 1 (1): 1–2.
  • –––, 2014, “Public Health and Legitimacy: Or Why There is Still a Place for Substantive Work in Ethics,” Public Health Ethics, 7 (2): 95–97.
  • Dees, R., 2018, “Public Health and Normative Public Goods,” Public Health Ethics, 11 (1): 20–26.
  • Department of Health, 2009, Tackling Health Inequalities: 10 Years On, Publication No. 291444, London: Crown.
  • Distefano, M. and J. Levin, 2019, “Does Incorporating Cost-Effectiveness Analysis Into Prescribing Decisions Promote Drug Access Equity,” AMA Journal of Ethics, 21 (8): 679–685.
  • Dorfman, L., and L. Wallack, 2009, Moving From Them to Us: Challenges in Reframing Violence Among Youth, Berkeley Media Studies Group.
  • Dworkin, G., 1981, “Taking Risks, Assessing Responsibility,” The Hastings Center Report, 11 (5): 26–31.
  • Dworkin, G., 2005, “Paternalism,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2005 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2005/entries/paternalism/>.
  • Emanuel, E., 2002, “Patient v. Population: Resolving Ethical Dilemmas Posed By Treating Patients as Members of Populations,” in Ethical Dimensions of Health Policy, M. Danis and C. Clancy and R. Churchill (eds.) Oxford: Oxford University Press: pp. 227–245.
  • Emanuel, E., H. Schmidt, and A Steinmetz, eds., 2018, Rationing and Allocation in Health Care: Essential Readings, New York: Oxford University Press.
  • Emanuel, E., D. Wendler, J. Killen, and C. Grady, 2004, “What Makes Clinical Research in Developing Countries Ethical? The Benchmarks of Ethical Research,” The Journal of Infectious Diseases, 189 (5): 930–937.
  • Emerson, C.I., 2014, “The Moral Case for Eradication” in. Disease Eradication in the 21st Century: Implications for Global Health, Cochi, S.L., and W.R. Dowdle (ed.), Cambridge: MIT Press: pp. 103–113.
  • Emerson, C.I., P. Singer, 2010, “Is there an Ethical Obligation to Complete Polio Eradication,” The Lancet, 375: 1340–1341.
  • Engelen, B., 2019, “Ethical Criteria for Health-Promoting Nudges: A Case-by-Case Analysis,” The American Journal of Bioethics, 19 (5): 48–59.
  • Epstein, R., 2004, “In Defense of the ‘Old’ Public Health,” Brooklyn Law Review: 69, 1421–1470.
  • Estlund, D., 2007, Democratic Authority: A Philosophical Framework, Princeton: Princeton University Press.
  • Eyal, N., 2015, “Concentrated Risk, the Coventry Blitz, Chamberlain’s Cancer,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 94–109.
  • Eyal, N., S. A. Hurst, O. F. Norheim, and D. Wikler, (eds.), 2013, Inequalities in Health: Concepts, Measures, and Ethics, New York: Oxford University Press.
  • Faden, R. R., 1987, “Ethical Issues in Government Sponsored Public Health Campaigns,” Health Education & Behavior, 14 (1): 27–37.
  • Faden, R., and R. Karron, 2009, “A Moral Obligation? Should the U.S. Produce Enough H1N1 Flu Vaccine to Help Developing Countries?,” Baltimore Sun, August 17, 2009, [available online]
  • Faden, R.R., N. Kass, and M. Powers, M. 1991, “Warrants for Screening Programs: Public Health, Legal and Ethical Frameworks,” in AIDS, Women and the Next Generation, Faden, R., G. Geller, and M. Powers (eds.), Oxford University Press, 1991: pp. 3–26.
  • Faden, R., S. Shebaya, and A. Siegel, 2019, “Public Health Programs and Policies: Ethical Justifications,” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics, ed. Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass. New York: Oxford University Press, pp. 21–32.
  • FCC, 2000, Investigation into NORML Foundation’s Complaint Against ABC, CBS, NBC, FOX, and WB, Publication No. EB-00-IH-0078.
  • Feinberg, J., 1986, The Moral Limits of the Criminal Law, Volume 3: Harm to Self, New York: Oxford University Press.
  • Feudtner, C., and E. K. Marcuse, 2001, “Ethics and Immunization Policy: Promoting Dialogue to Sustain Consensus,” Pediatrics, 107 (5): 1158–1164.
  • de Fine Licht, J., 2011, “Do We Really Want to Know? The Potentially Negative Effect of Transparency in Decision Making on Perceived Legitimacy,” Scandinavian Political Studies, 34 (3): 183–201.
  • Flanigan, J., 2014a, “A Defense of Compulsory Vaccination,” HEC Forum, 26: 5–25.
  • –––, 2014b, “The Perils of Public Health Regulations,” Society, 51: 229–236.
  • –––, 2017, Pharmaceutical Freedom, New York: Oxford University Press.
  • Fourie, C., and A. Rid (eds.), 2017, What Is Enough?: Sufficiency, Justice, and Health, New York: Oxford University Press.
  • Freudenthal, E., “Ebola’s lost blood: row over samples flown out of Africa as ‘big pharma’ set to cash in,” The Telegraph, February 6, 2019.
  • Frick, J., “Treatment versus Prevention in the Fight Against HIV/AIDS and the Problem of Identified versus Statistical Lives,” in Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 182–202.
  • Friedman, A., 2008, “Beyond Accountability for Reasonableness,” Bioethics, 22 (2): 101–112.
  • Gafni, A., 1991, “Willingness-to-Pay as A Measure of Benefits: Relevant Questions in the Context of Public Decisionmaking about Health Care Programs,” Medical Care, 29 (12): 1246–1252.
  • Gaus, G., 2011, The Order of Public Reason : a Theory of Freedom and Morality in a Diverse and Bounded World, New York: Cambridge University Press.
  • Gaus, G., S. Courtland, and D. Schmidtz, 2018, “Liberalism,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2018/entries/liberalism/>.
  • Geller, G., R. Dvoskin, C.L. Thio, P. Duggal, M.H. Lewis, T.C. Bailey, A. Sutherland, D.A. Salmon, and J.P. Kahn, 2014, “Genomics and infectious disease: a call to identify the ethical, legal and social implications for public health and clinical practice,” Genome Medicine, 6 (106): 1–13.
  • Giubilini, A., 2019, The Ethics of Vaccination, Palgrave Macmillan.
  • Gold, M.R., D. Stevenson, and D.G. Fryback. (2002). “HALYS and QALYS and DALYS, Oh My: Similarities and Differences in Summary Measures of Population Health,” Annual Review of Public Health, 23(1): 115–134.
  • Gold, M.R., J.E. Siegel, L.B. Russell, and M.C. Weinstein (eds.), 1996 Cost-Effectiveness in Health and Medicine, New York: Oxford University Press.
  • Goldberg, D., and Puhl, R, 2013, “Obesity Stigma: A Failed and Ethically Dubious Strategy,” Hastings Center Report (May-June) 2013, 43 (3): 5–6
  • Goodin, R., 1990, No Smoking: The Ethical Issues, Chicago: Chicago University Press.
  • Goodman, E. P., 2006, “Stealth Marketing and Editorial Integrity,” Texas Law Review, 85, 83–152.
  • Goold, S.D., A.K. Biddle, G. Klipp, C.N. Hall, and M. Danis, 2005, “Choosing Healthplans All Together: a deliberative exercise for allocating limited health care resources,” J. Health Polit Policy Law 30 (4): 563–602.
  • Gostin, L. O., 2002, “Public Health Law in the Time of Terrorism,” Health Affairs, 21 (6): 79–93.
  • –––, 2003, “The Model State Emergency Health Powers Act…” Health Matrix, 13 (1): 3–32.
  • Gostin, L. O., 2012, “A Framework Convention on Global Health: Health for All, Justice for All,” Journal of the American Medical Association, 307 (19): 2087–2092.
  • Gostin, L. O., and E. Friedman, 2013, “Towards a Framework Convention on Global Health: A Transformative Agenda for Global Health Justice,” Yale Journal of Health Policy, Law, and Ethics, 13, 1–75.
  • Grill, K., and K. Voigt, 2016, “The Case for Banning Cigarettes” Journal of Medical Ethics, 42: 293–301.
  • Grover, A., B. Citro, M. Mankad, and F. Lander, 2012, “Pharmaceutical Companies and Global Lack of Access to Medicines: Strengthening Accountability Under the Right to Health,” The Journal of Law, Medicine & Ethics, 40 (2): 234–250.
  • Grynbaum, M., and M. Connelly, 2012, “60% in City Oppose Bloomberg’s Soda Ban, Poll Finds,” New York Times, August 21, 2012, [available online]
  • Hanna, J., 2019, In Our Best InterestA Defense of Paternalism, New York: Oxford University Press.
  • Hardin, R., 2013, “The Free Rider Problem,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy, Edward N. Zalta (ed.), Spring 2013 Edition URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2013/entries/free-rider/>
  • Hare, C., 2015, “Statistical People and Counter-Factual Indeterminacy,” in Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 124–136.
  • Hart, H.L.A., 1982, Essays on Bentham: Jurisprudence and Political Theory, Oxford: Oxford University Press.
  • Hasman, A., and S. Holm, 2005, “Accountability for Reasonableness: Opening the Black Box of Process,” Health Care Analysis, 13 (4): 261–273.
  • Hatzenbuehler, M., J.C. Phelan, and B. Link, 2013, “Stigma as a Fundamental Cause of Population Health Inequalities,” American Journal of Public Health, 103 (5): 813–821.
  • ten Have, M., I.D. de Beaufort, J.P. Mackenbach, A van der Heide, 2010, “An overview of ethical frameworks in public health: can they be supportive in the evaluation of programs to prevent overweight?” BMC Public Health, 10 (638): 1–11.
  • Hesslow, G., 1993, “Do We Need a Concept of Disease?”, Theoretical Medicine, 14: 1–14.
  • Hoffman, S.J., and C. Tan, 2015, “Overview of Systematic Reviews on the Health-Related Effects of Government Tobacco Control Policies,” BMC Public Health, 15 (744): 1–11.
  • Hofmann, B., 2010, “The Concept of Disease – Vague, Complex, or Just Indefinable?” Medicine, Health Care, and Philosophy, 13 (1): 3–10.
  • Holland, S., 2007, Public Health Ethics, Cambridge: Polity Press.
  • Hollands, G. J., I. Shemilt, T. M. Marteau, S. A. Jebb, M. P. Kelly, R. Nakamura, M. Suhrcke, and D. Ogilvie, 2013, “Altering Micro-Environments to Change Population Health Behaviour: Towards an Evidence Base for Choice Architecture Interventions,” BMC Public Health, 13 (1): 1218.
  • Hope, T., 2001, “Rationing and Lifesaving Treatments: Should Identifiable Patients Have Higher Priority?” Journal of Medical Ethics, 27: 179–185.
  • Horne, L., 2019, Public Health, Public Goods, and Market Failure. Public Health Ethics, 12 (3): 287–292.
  • Hughes, J., and T. Walker, 2009, “The Rule of Rescue in Clinical Practice,” Clinical Ethics, 4 (1): 50–54.
  • Hunt, P., and UN Economic and Social Council, 2004, Report of the Special Rapporteur on the Right of Everyone to the Enjoyment of the Highest Attainable Standard of Physical and Mental Health, Paul Hunt, Publication No. E/CN.4/2005/51.
  • Hyder, A. A., B. Pratt, J. Ali, N. E. Kass, and N. Sewankambo, 2014, “The Ethics of Health Systems Research in Low and Middle-Income Countries: A Call to Action,” Global Public Health, 7: 1–15.
  • Hyder, A. A., and M. W. Merritt, 2009, “Ancillary Care for Public Health Research in Developing Countries,” Journal of the American Medical Association, 302 (4): 429.
  • Institute of Medicine (USA), 1988, The Future of Public Health, Washington: National Academy Press.
  • Institute of Medicine (USA), 2003, The Future of the Public’s Health in the 21st Century, Washington: National Academies Press.
  • Jecker, N., 2015, “Rethinking Rescue Medicine,” The American Journal of Bioethics, 15 (2): 12–18.
  • –––, 2013, “The Problem with Rescue Medicine,” Journal of Medicine and Philosophy, 38 (1): 64–81.
  • Jenni, K.E. and G. Lowenstein, 1997, Journal of Risk and Uncertainty, 14: 235–257.
  • Jennings, B., 2007, “Public Health and Civic Republicanism: Toward an Alternative Framework for Public Health Ethics,” in Ethics, Prevention, and Public Health, A. Dawson (ed.), Oxford: Oxford University Press, pp. 30–58.
  • –––, 2009, “Public Health and Liberty: Beyond the Millian Paradigm,” Public Health Ethics, 2 (2): 123–134.
  • Jennings, B., and A. Dawson, 2015, “Solidarity in the Moral Imagination of Bioethics,” Hastings Center Report, 45 (5): 31–38.
  • Johri, M., and O. F. Norheim, 2012, “Can Cost-Effectiveness Analysis Integrate Concerns for Equity? Systematic Review,” International Journal of Technology Assessment in Health Care, 28 (2): 125–132.
  • Jones, M. M., and R. Bayer, 2007, “Paternalism & Its Discontents: Motorcycle Helmet Laws, Libertarian Values, and Public Health,” American Journal of Public Health, 97 (2):208–217.
  • Jonsen, A., 1986, “Bentham in a Box: Technology Assessment and Healthcare Allocation” Law, Medicine, and Healthcare Sep 14 (3–4): 172–174.
  • Kamm, F., 2007, Intricate Ethics, Rights, Responsibilities, and Permissible Harms, New York: Oxford University Press.
  • Kappel, K., and P. Sandoe, 1992, “QALYs, Age and Fairness,” Bioethics, 6 (4): 297–316.
  • Kass, N. E., 2001, “An Ethics Framework for Public Health,” American Journal of Public Health, 91 (11): 1776–1782.
  • Kettner, J., and J. Ball, 2004, Reducing Health Disparities: Roles of the Health Sector: Discussion Paper, Ottawa, Ontario: Public Health Agency of Canada.
  • Khader, S., 2009, “Adaptive Preferences and Procedural Autonomy,” Journal of Human Development and Capabilities, 10, (2): pp. 169–187.
  • –––, 2012, “ Must Theorising about Adaptive Preferences Deny Women’s Agency?” Journal of Applied Philosophy, 29 (4): 302–317.
  • Kim, S.-H., and Shanahan, J. 2003, “Stigmatizing Smokers: Public Sentiment toward Cigarette Smoking and its Relationship to Smoking Behaviors,” Journal of Health Communication, 8(4): 343–367.
  • Knight, C., 2015, “Abandoning the Abandonment Objection: Luck Egalitarian Arguments for Insurance,” Res Publica, 21: 119–135.
  • Krauthammer, C., 2000, January 21, “A Network Sellout,” Washington Post, p. A29.
  • Krubiner, C., and R. Faden, 2017, “A Matter of Morality: Embedding Ethics and Equity in the Health Benefits Policy,” in What’s In, What’s Out: Designing Benefits for Universal Health Coverage, A. Glassman, U. Giedion, P.C., Smith (eds.)Washington, DC: Center for Global Development.
  • Kurtz, H., and S. Waxman, 2000, January 14, “White House Cut Anti-Drug Deal with TV,” Washington Post, p. A1.
  • Kymlicka, W., 1992, “The Rights of Minority Cultures: Reply to Kukathas,” Political Theory, 20 (1): 140–146.
  • Larmore, C., 2001, “A Critique of Philip Pettit’s Republicanism,” Philosophical Issues, 11: 229–43.
  • Latham, S.R., 2016, “Political Theory, Values, and Public Health,” Public Health Ethics, 9 (2): 139–149.
  • Lee, L., 2012, “Public Health Ethics Theory: Paths to Convergence,” Journal of Law, Medicine and Ethics Spring: 85–98.
  • Lee, L., C. Heilig, and A. White, (2012), “Ethical Justification for Conducting Public Health Surveillance Without Patient Consent,” American Journal of Public Health, 102 (1): 38–44.
  • Lee, L.M., 2019, “Public Health Surveillance: Ethical Considerations,” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics, ed. Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass. New York: Oxford University Press.
  • Levy, N., 2017, “Nudges in a Post-Truth World,” Journal of Medical Ethics, 43 (8): 495–500.
  • Liao, M., 2015, The Right to Be Loved, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2019, “Human Rights and Public Health Ethics,” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics ed. Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass. New York: Oxford University Press pp. 47–56.
  • Link, B. G., and J.C. Phelan, (2001), “Conceptualizing Stigma,” Annual Review of Sociology, 27: 363–385.
  • Lipscomb, J., M. Drummond, D. Fryback, M. Gold, and D. Revicki, 2009, “Retaining, and Enhancing, the QALY,” Value in Health, 12 (s1): 18–26.
  • List, C. and L. Valentini, 2016, “Freedom as Independence,” Ethics, 126: 1043–1074.
  • Lovett, F., 2001, “Domination: A Preliminary Analysis,” The Monist, 84: 98–112.
  • –––, 2018, “Republicanism,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2018/entries/republicanism/>.
  • –––, 2018, “Non-Domination,” in The Oxford Handbook of Freedom, D. Schmidtz and C.E. Pavel (eds.), Oxford: Oxford University Press.
  • Mack, E. and G. F. Gaus, 2004, “Classical Liberalism and Libertarianism: The Liberty Tradition,” in The Handbook of Political Theory, Gerald F. Gaus and Chandran Kukathas (eds.), London: Sage, 115–130.
  • Mann, J. M., 1996, “Health and Human Rights,” BMJ: 312 (7036): 924.
  • Mann, J. M., L. Gostin, S. Gruskin, T. Brennan, Z. Lazzarini, and H. V. Fineberg, 1994, “Health and Human Rights,” Health and Human Rights, 1 (1): 6–23.
  • Marckmann, G., H. Schmidt, N. Sofaer, and D. Strech. (2015). “Putting Public Health Ethics into Practice: A Systematic Framework,” Frontiers in Public Health, 3 (23): 1–7.
  • Marmot, M.M., 2005, “Social Determinants of Health Inequalities,” The Lancet, 365: 1099–1104.
  • Mason, H., R. Baker, and C. Donaldson, 2011, “Understanding Public Preferences for Prioritizing Health Care Interventions in England: Does the Type of Health Gain Matter?,” Journal of Health Services Research & Policy, 16 (2): 81–89.
  • Martin, D.K., M. Giacomini, and P.A. Singer, “Fairness, accountability for reasonableness, and the views of priority setting decision-makers,” Health Policy, 61 (3): 279–90.
  • Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass (eds.), 2019, The Oxford Handbook of Public Health Ethics, New York: Oxford University Press.
  • McKie, J., J. Richardson, “The Rule of Rescue,” Social Science and Medicine, 2003, 56 (12): 2407–2419.
  • McLeroy, K. R., D. Bibeau, A. Steckler, and K. Glanz, 1988, “An Ecological Perspective on Health Promotion Programs,” Health Education & Behavior, 15 (4): 351–377.
  • Mello, M. M., 2009, “New York City’s War on Fat,” The New England Journal of Medicine, 360 (19): 2015–2020.
  • Menard, J.F., 2010, “A Nudge for Public Health Ethics,” Public Health Ethics, 3: 229–238.
  • Menzel, P., M. R. Gold, E. Nord, J. L. Pinto-Prades, J. Richardson, and P. Ubel, 1999, “Toward A Broader View of Values in Cost-Effectiveness Analysis of Health,” The Hastings Center Report, 29 (3): 7–15.
  • Mill, J. S., 1869, On Liberty & Other Essays (2nd edition), J. Gray (ed.), New York: Oxford University Press, 1998.
  • Miller, D., 2017, “Justice,” in Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 edition), E.N. Zalta (ed.) URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2017/entries/justice/>
  • –––, 2007, National Responsibility and Global Justice, Oxford: Oxford University Press.
  • Miller, E., P. Waight, N. Gay, M. Ramsay, J. Vurdien, P. Morgan-Capner, L. Hesketh, D. Brown, P. Tookey, and C. Peckham, 1997, “The Epidemiology of Rubella in England and Wales Before and After the 1994 Measles and Rubella Vaccination Campaign: Fourth Joint Report from the PHLS and the National Congenital Rubella Surveillance Programme,” Communicable Disease Report Review, 7 (2): R26–32.
  • Millum, J., and E. J. Emanuel (eds.), 2012, Global Justice and Bioethics, New York: Oxford University Press.
  • Moles, A, 2015, “Nudging for Liberals,” Social Theory and Practice, 41 (4): 644–667.
  • Moyn, S., 2018 Not Enough: Human Rights in an Unequal World, Cambridge: Belknap Press.
  • Muldoon, R., 2018, “Norms, Nudges, and Autonomy” in the Palgrave Handbook of Philosophy and Public Policy, ed. David Boonin, Palgrave-Macmillan: 225–233.
  • Murphy, D., “Concepts of Disease and Health,” Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.), <https://plato.stanford.edu/archives/spr2015/entries/health-disease/>
  • Navin, M., 2016, Values and Vaccine Refusal: Hard Questions in Ethics, Epistemology, and Health Care, New York: Routledge.
  • Nestle, M., and M. Bittman, 2015, Soda Politics: Taking on Big Soda (And Winning), New York: Oxford University Press.
  • New York Times, 2012, “The New York Times’s Public Opinion Poll,” New York Times, August 21, 2012, [available online].
  • Nickel, J., 2019, “Human Rights,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2019 Edition) E.N Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2019/entries/rights-human/>.
  • Nielsen, M.E.J and J.D. Jensen, 2016, “Sin Taxes, Paternalism, and Justifiability to All: Can Paternalistic Taxes Be Justified on a Public Reason-Sensitive Account?” Journal of Social Philosophy, 47 (1): 55–69.
  • Noggle, R., 2018, “Manipulation, Salience, and Nudges,” Bioethics, 32: 164–170.
  • Nord, E., 1999, “Towards Cost-Value Analysis in Health Care?,” Health Care Analysis, 7 (2): 167–175.
  • –––, 2005, “Concerns for the Worse Off: Fair Innings Versus Severity,” Social Science & Medicine, 60 (2): 257–263.
  • Nuffield Council on Bioethics, 2007, Public Health: Ethical Issues, Cambridge: Cambridge Publishers.
  • Nussbaum, M., 2004, Hiding from Humanity: Disgust, Shame, and the Law, Princeton: Princeton University Press.
  • –––, 2006, Frontiers of Justice, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Omer, S. B., D. A. Salmon, W. A. Orenstein, M. P. deHart, and N. Halsey, 2009, “Vaccine Refusal, Mandatory Immunization, and the Risks of Vaccine-Preventable Diseases,” The New England Journal of Medicine, 360 (19): 1981–1988.
  • O’Neill, O., “Public Health or Clinical Ethics: Thinking Beyond Borders,” Ethics and International Affairs 16 (2): 35–45.
  • Orenstein, W. A., and A. R. Hinman, 1999, “The Immunization System in the United States – The Role of School Immunization Laws,” Vaccine, 17 (Supplement 3): S19–S24.
  • Otsuka, M., 2015, “Risking Life and Limb: How to Discount Harms by their Improbability,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 77–93.
  • Ottersen, T., D. Mbilinyi, O. Mæstad, and O.F. Norheim, 2008, “Distribution Matters: Equity Considerations among Health Planners in Tanzania,” Health Policy, 85 (2): 218–227.
  • Ottersen, T., O.F. Norheim, F. Berhane, B. Chitah, R. Cookson, N. Daniels, et al., 2014, “Making Fair Choices on the Path to Universal Health Coverage,” Final report of the WHO Consultative Group on Equity and Universal Health Coverage, Geneva: World Health Organization.
  • Ottersen, T., O. Mæstad, and O.F. Norheim, 2014, “Lifetime QALY Prioritarianism in Priority Setting: Quantification of the Inherent Trade-Off,” Cost Effectiveness and Resource Allocation, 12(1), first online 14 Jan 2014. doi: 10.1186/1478-7547-12-2
  • Parfit, D, 1987, Reasons and Persons, Oxford: Clarendon Press.
  • –––, 1997, “Equality and Priority,” Ratio, 10(3): 202–221.
  • Persad, G., 2019, “Justice and Public Health” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics, Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass (eds.), New York: Oxford University Press, pp. 33–46.
  • Persad, G., A. Werthehimer, E.J. Emanuel, 2009, “Principles for Allocation of Scarce Medical Interventions,” The Lancet, 373 (9661): 423–431
  • Peter, F., “Political Legitimacy,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2017 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2017/entries/legitimacy/>
  • Petrini, C., 2010, “Theoretical Models and Operational Frameworks in Public Health Ethics,” Int. J. Environ. Res. Public Health, 7 (1): 189–202.
  • Pettit, P, 1997, Republicanism : a Theory of Freedom and Government, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2012, On the People’s Terms: A Republican Theory and Model of Democracy, Oxford: Oxford University Press.
  • Pogge, T. W., 2002, “Responsibilities for Poverty-Related Ill Health,” Ethics & International Affairs, 16 (2): 71–81.
  • –––, 2002, “Moral Universalism and Global Economic Justice” in Politics, Philosophy, Economics, 29 No. 1.
  • –––, 2007, Freedom from Poverty as a Human Right: Who Owes What to the Very Poor?, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2008, World Poverty and Human Rights: Cosmopolitan Responsibilities and Reforms, 2nd edition, Cambridge: Polity Press.
  • Pomeranz, J.L., 2012, “Advance Policy Options to Regulate Sugar-Sweetened Beverages to Support Public Health,” Journal of Public Health Policy, 33 (1): 75–88.
  • Powers, M., forthcoming in 2020, “Ethical Challenges Posed by Climate Change: an Overview,” in Moral Theory and Climate Change, D. Miller and B. Eggleston, (ed.), London; Taylor & Francis/Routledge.
  • Powers, M., and R. Faden, 2006, Social Justice, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2019, Structural Injustice: Power, Advantage, and Human Rights, New York: Oxford University Press.
  • Powers, M., R. Faden, and Y. Saghai, 2012, “Liberty, Mill, and the Framework of Public Health Ethics,” Public Health Ethics, 5 (1): 6–15.
  • Pratt, B., and A. Hyder, 2015, “Reinterpreting Responsiveness for Health Systems Research in Low and Middle-Income Countries,” Bioethics, 29 (6): 379–88.
  • Pugh, J., 2014, “Coercive Paternalism and Backdoor Perfectionism,” Journal of Medical Ethics, 40 (5): 350–351.
  • Quigley, M., 2013, “Nudging for Health: On Public Policy and Designing Choice Architecture,” Medical Law Review, 21 (4): 588–621.
  • Quong, J., 2011, Liberalism Without Perfection, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2018, “Public Reason,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2018/entries/public-reason/>.
  • Radoilska, L., 2009, “Public Health Ethics and Liberalism,” Public Health Ethics,, 2 (2): 135–145.
  • Railton, P., 2015, “‘Dual-Process’ Models of the Mind and the ‘Identifiable Victim Effect,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 24–40.
  • Rajczi, A., 2016, “Liberalism and Public Health Ethics,” Bioethics, 30 (2): 96–108.
  • Rawls, J., 1971, A Theory of Justice, Cambridge: Harvard University Press.
  • –––, 1993, Political Liberalism, New York: Columbia University Press.
  • Reich, R., 2018, Just Giving: Why Philanthropy is Failing Democracy and How it Can Do Better, Princeton:Princeton University Press
  • Reichert, T. A., N. Sugaya, D. S. Fedson, W. P. Glezen, L. Simonsen, and M. Tashiro, 2001, “The Japanese Experience with Vaccinating Schoolchildren Against Influenza,”The New England Journal of Medicine, 344 (12): 889–896.
  • Resnik, D.B., 2015, “Food and Beverage Policies and Public Health Ethics,” Health Care Analysis, 23: 122–133.
  • Roberts, M.A., 2019, “The Non-Identity Problem,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2019 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2019/entries/nonidentity-problem/>
  • Roberts, M.J. and M.R. Reich. (2002). “Ethical Analysis in Public Health” The Lancet, 359 (9311): 1055–1059.
  • Robeyns, I., 2016, “The Capability Approach,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2016/entries/capability-approach/>
  • Robeznieks, A., 2020, “Doctors Demand Presidential Action on Climate Change,” American Medical Association, 10 Jan 2020, available online.
  • Rose, G., 1985, “Sick Individuals and Sick Populations,” International Journal of Epidemiology, 14 (1): 32–38.
  • Rose, G., K.T. Khaw, and M. Marmot, 2008, Rose’s Strategy of Preventive Medicine, New York: Oxford University Press.
  • Rubincam, C., and S. Naysmith, “Unexpected Agency: Participation as a Bargaining Chip for the Poor,” Health and Human Rights in Practice, 11 (1): 87–92.
  • Ruger, J.P., 2010, Health and Social Justice, New York: Oxford University Press.
  • Russell, L. B., 1986, Is Prevention Better than Cure?, Washington: Brookings Institution Press.
  • Sabik, L.M., and R.K. Lie, “Priority Setting in Health Care: Lessons from The Experiences of Eight Countries,” International Journal for Equity in Health, 7 (4): 1[special-character:ndash13.
  • Saghai, Y., 2013a, “The Concept of Nudge and its Moral Significance: A Reply to Ashcroft, Bovens, Dworkin, Welch and Wertheimer,” Journal of Medical Ethics, 39: 499–501.
  • –––, 2013b, “Salvaging the Concept of Nudge,” Journal of Medical Ethics, 39: 487–493.
  • Schroeder, S.A., 2017 “Value Choices in Summary Measures of Population Health,” Public Health Ethics, 10 (2): 176–187.
  • Segall, S., 2010, Health, Luck, and Justice, Princeton: Princeton University Press.
  • Selgeid, M., 2009, “A Moderate Pluralist Approach to Public Health Policy and Ethics,” Public Health Ethics, 2 (2): 195–205.
  • Schmidt, H., S. Stock, and T. Doran, 2012, Moving Forward with Wellness Incentives Under the Affordable Care Act: Lessons from Germany, Commonwealth Fund.
  • Schwappach, D. L. B., 2007, “The Economic Evaluation of Prevention–Let’s Talk about Values and the Case of Discounting,” International Journal of Public Health, 52 (6): 335–336.
  • Sedyaningsih E.R., S. Isfandari S, T. Soendoro et al., 2008, “Towards mutual trust, transparency and equity in virus sharing mechanism: the avian influenza case of Indonesia,” Annals of the Academy of Medicine Singapore, 37 (6): 482–88.
  • Shebaya, S., A. Sutherland, O. Levine, and R. Faden, 2010, “Alternatives to National Average Income Data as Eligibility Criteria for International Subsidies: A Social Justice Perspective,” Developing World Bioethics, 10 (3): 141–149.
  • Sher, G., 2017, “How Bad Is it To Be Dominated?”, in Me, You, Us, New York: Oxford University Press, pp. 88–108.
  • Shiffrin, S., 2000, “Paternalism, Unconscionability Doctrine, and Accommodation,” Philosophy and Public Affairs, 29 (3): 205–250.
  • Siegler, M. & A. Moss, 1991, “Should Alcoholics Compete Equally for Liver Transplantation,” Journal of the American Medical Association, 265 (10): 1295–1298.
  • Silverman, W.A. and Chalmers, I., 2001, “Casting and Drawing Lots: A Time Honoured Way of Dealing with Uncertainty and Ensuring Fairness,” BMJ, 323: 1467–68.
  • Skinner, Q., 1998, Liberty Before Liberalism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2008. “Freedom as the Absence of Arbitrary Power,” in Republicanism and Political Theory, C. Laborde and J. Maynor (eds.), Malden, MA: Blackwell Publishing.
  • Slote, M., 2015, “Why Not Empathy?” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 150–158.
  • Small, D., 2015, “On the Psychology of the Identifiable Victim Effect,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 13–22.
  • Soares, M. O., 2012, “Is the QALY Blind, Deaf and Dumb to Equity? NICE’s Considerations Over Equity,” BMJ, 101 (1): 17–31.
  • Soccia, D., 2019, “Paternalism and Nudges,” Economics and Philosophy, 35 (1): 79–102.
  • Sreenivasan, G., 2012, “A Human Right to Health? Some Inconclusive Scepticism,” Proceedings of the Aristotelian Society (Supplementary Volume), 86(1): 239–265.
  • ––2016, “Health Care and Human Rights: Against the Split Duty Gambit,” Theoretical Medicine and Bioethics, 37(4): 343–364.
  • –––, 2018, “Justice, Inequality, and Health,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2018/entries/justice-inequality-health/>
  • Stein, M.S., 2002, “The Distribution of Lifesaving Medical Resources: Equality, Life Expectancy, and Choice Behind the Veil,” Social Philosophy and Policy, 19: 212–45.
  • Stoljar, Natalie, 2018, “Feminist Perspectives on Autonomy” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2018/entries/feminism-autonomy/>.
  • Sugaya, N., 2014, “A Review of the Indirect Protection of Younger Children and the Elderly Through a Mass Influenza Vaccination Program in Japan,” Expert Review of Vaccines, 0: 1–8.
  • Sugerman, D. E., A. E. Barskey, M. G. Delea, I. R. Ortega-Sanchez, D. Bi, K. J. Ralston, P. A. Rota, K. Waters-Montijo, and C. W. LeBaron, 2010, “Measles Outbreak in a Highly Vaccinated Population, San Diego, 2008: Role of the Intentionally Undervaccinated,” Pediatrics, 125 (4): 747–755.
  • Sunstein, C. R., 2013, “The Storrs Lectures: Behavioral Economics and Paternalism,” Yale Law Journal, 122: 1826–2082.
  • Tasioulas, J., and E. Vayena, 2015a, “Getting Human Rights Right in Global Health Policy,” The Lancet, 385(9978): e42–4. doi: 10.1016/S0140-6736(14)61418-5
  • –––, 2015b, “Just Global Health: Integrating Human Rights and Common Goods,” in The Oxford Handbook of Global Justice, T. Brooks (ed.), New York: Oxford University Press. [publication forthcoming]
  • Taylor, H.A., 2019, “Overview of Ethics and How Public Health Does its Work,” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics, ed. Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass. New York: Oxford University Press.
  • Thaler, R. H., and C. R. Sunstein, 2003, “Libertarian Paternalism,” American Economic Review, 93 (2): 175–179.
  • –––, 2008, Nudge, New Haven: Yale University Press.
  • Thomas, J. C., M. Sage, J. Dillenberg, and V. J. Guillory, 2002, “A Code of Ethics for Public Health,” American Journal of Public Health, 92 (7): 1057–1059.
  • Thompson, J. W., S. Tyson, P. Card-Higginson, R. F. Jacobs, J. G. Wheeler, P. Simpson, J. E. Bost, K. W. Ryan, and D. A. Salmon, 2007, “Impact of Addition of Philosophical Exemptions on Childhood Immunization Rates,” American Journal of Preventive Medicine, 32 (3): 194–201.
  • Ubel, P. A., 1999, “How Stable Are People’s Preferences for Giving Priority to Severely Ill Patients?,” Social Science & Medicine, 49 (7): 895–903.
  • –––, 2009, Free Market Madness: Why Human Nature Is At Odds With Economics – and Why It Matters, Boston: Harvard Business School Press.
  • Unguru, Y., M. DeCamp, C. Fernandez, R. Faden, and S. Joffe, “Chemotherapy Drug Shortages in Pediatric Oncology: A Consensus Statement” Pediatrics, 133(3) (2014): 1–9.
  • United Nations General Assembly, 1948, Universal Declaration of Human Rights, G.A. res 217A (III), U.N. Doc A/810 at 71.
  • Upshur, R, 2002, “Principles for the Justification of Public Health Intervention,” Canadian Journal of Public Health,, 93 (2): 101–103.
  • Uscher-Pines, L., P. S. Duggan, J. P. Garoon, R. A. Karron, and R. R. Faden, 2007, “Planning for an Influenza Pandemic: Social Justice and Disadvantaged Groups,” Hastings Center Report, 37 (4): 32–39.
  • Vallier, K., 2018, “Public Justification,” Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2018 Edition), E.N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2018/entries/justification-public/>.
  • Venkatapuram, S., 2011, Health Justice: An Argument from the Capabilities Approach, Cambridge: Polity Press.
  • –––, 2019, “Health Disparities and the Social Determinants of Health,” in The Oxford Handbook of Public Health Ethics, ed. Mastroianni, A.C., J.P. Kahn, N.E. Kass. New York: Oxford University Press.
  • Verweij, M., “How (Not) to Argue for the Rule of Rescue: Claims of Individuals versus Group Solidarity,” Identified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary PerspectiveIdentified versus Statistical Lives: An Interdisciplinary Perspective, Cohen, G., N. Daniels, and N. Eyal (eds.), New York: Oxford University Press: pp. 137–149.
  • Verweij, M., and A. Dawson, 2007, “The Meaning of ‘Public’ in Public Health,” in Dawson, A. and M. Verweij, (eds.), Ethics, Prevention and Public Health, Oxford: Oxford University Press.
  • Viens, A.M., 2016 “Public Health and Political Theory: The Importance of Taming Individualism,” Public Health Ethics, 9 (2): 136–138.
  • Wall, S., 2001, “Freedom, Interference, and Domination,” Political Studies, 49: 216–30.
  • Weinstock, D., 2016, “Can Republicanism Tame Public Health,” Public Health Ethics, 9 (2): 125–133.
  • Whitehead, S. J., and S. Ali, 2010, “Health Outcomes in Economic Evaluation: The QALY and Utilities,” British Medical Bulletin, 96 (1): 5–21.
  • Wikler, D., 1987, “Who Should Be Blamed for Being Sick?” Health Education Quarterly, 14 (1): 11–25.
  • –––, 2002, “Personal and Social Responsibility for Health,” Ethics and International Affairs, 15 (2): 47–55.
  • Wikler, D., and D. W. Brock, 2007, “Population-Level Bioethics: Mapping A New Agenda,” in Ethics, Prevention, and Public Health, A. Dawson, and M. Verweij (eds.), New York: Oxford University Press, p. 78.
  • Wilkinson, R.G., 2005, The Impact of Inequality: How to Make Sick Societies Healthier, Abindgdon: Routledge.
  • Wilkinson, R.G., and K.E. Pickett, 2006, “Income inequality and population health: a review and explanation of the evidence,” Social Science & Medicine, 62 (7): 1768–84.
  • Williams, A., 2001, “The ‘Fair Innings Argument’ Deserves a Fairer Hearing! Comments by Alan Williams on Nord and Johannesson,” Health Economics, 10 (7): 583–585.
  • Wolff, J., 2012, “Global Justice and Health: The Basis of the Global Health Duty,” in Global Justice and Bioethics, J. Millum and E. J. Emanuel, (eds.), New York: Oxford University Press, pp. 78–101.
  • Wolff, J., and A. de-Shalit, 2007, Disadvantage, New York: Oxford University Press.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى من الانترنت

مداخل ذات صلة

authority | beneficence, principle of | democracy | disability: health, well-being, personal relationships | ethics, biomedical: clinical research | ethics, biomedical: justice, inequality, and health | ethics, biomedical: justice and access to health care | ethics, biomedical: privacy and medicine | feminist philosophy, topics: perspectives on autonomy | free rider problem | justice: distributive | justice: global | justice: international distributive | justification, political: public | legitimacy, political | liberalism | luck: justice and bad luck | Mill, John Stuart: moral and political philosophy | nonidentity problem | paternalism | public reason | Rawls, John | republicanism | rights: human


[1] Faden, Ruth, Justin Bernstein, and Sirine Shebaya, “Public Health Ethics”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2022 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2022/entries/publichealth-ethics/>.