مجلة حكمة
ضعف الإرادة الفعل الإكراسي فلسفة

ظاهرة ضعف الإرادة بين سقراط وأرسطو – أنس عيسى

الفعل الأكراسي أو ما يسمّى بـ ضعف الإرادة هو الفعل المُناقض للمعرفة حول ما هو جيّد أو خير. عندما يقوم الإنسان بفعل أكراسي، هو يعرف ما هو الفعل الصحيح ويستطيع القيام به، ولكنه يقوم بالفعل غير الصحيح. مثلًا، شخص يعرف أن عليه أن لا يدخن سيجارة، وهو غير مضطر لتدخينها. ورغم ذلك يقوم بتدخينها، هذا الشخص يعرف ما هو الفعل الأفضل ويستطيع القيام به، ولكنه يفعل العكس. يعرض هذا النص تحليليَن لظاهرة ضعف الإرادة، الأول هو تحليل سقراط في المحاورة الأفلاطونية بروتاغوراس[1]، والثاني هو تحليل أرسطو في المقالة السابعة من كتابه الأخلاق النيقوماخية[2]. يحاول النص الإجابة عن الأسئلة التالية: هل أيًّا من تحليل سقراط وتحليل أرسطو يفترض إمكانية حدوث الظاهرة؟ في حال كانت الإجابة نعم، فبأي شكل تحدُث الظاهرة؟ وفي حال كانت الإجابة لا، فما هي الظاهرة التي نظن أنها ضعف إرادة؟

ضعف الإرادة سقراط

في المحاورة الافلاطونية بروتاغوراس في المقطع 352-357[3] يُبرهن سقراط “للجمهور” أن ظاهرة الأكراسيا بوصفها ضعف إرادة هي ظاهرة غير ممكنة، إذا عرفَ الإنسان أن فعل معين هو فعل سيّئ، فإنه لن يقوم به. وبالتالي فإن الظاهرة التي تبدو كأنها ضعف إرادة هي في الحقيقة حالة عدم معرفة وليست ضعف إرادة. يأتي البرهان حول مفهوم الأكراسيا في سياق إقناع بروتاغوراس (مُحاوِر سقراط) بأطروحة وحدة الفضائل[4]، وبالأخص بأن الشجاعة هي المعرفة. 

 يمكن تقسيم الإثبات إلى جزأين. في الجزء الأول يبرهن سقراط للجمهور أنهم ملزَمون بموقف فلسفي محدد. وفقًا لهذا الموقف فإن الجيّد واللذة هما نفس الشيء، والسيّئ والألم هما نفس الشيء. ما يستَدل من هذا الموقف هو أن الأكراسيا هو مفهوم غير مُتماسك، وَصف ظاهرة الأكراسيا كـ ضعف للإرادة هو وصف عبثي. وبالتالي فإن ظاهرة ضعف الإرادة غير ممكنة. في الجزء الثاني يبيّن سقراط للجمهور أن ظاهرة الأكراسيا هي حالة عدم معرفة وليست ضعف إرادة.

يعتقد الجمهور أن ظاهرة الأكراسيا كضعف للإرادة هي ظاهرة تحدُث عادةً. الأكراسيا وفقًا للجمهور هي عندما يعرف الإنسان أن فعل معيّن هو سيّئ. ومع ذلك يقوم به، بالرغم من قدرته على عدم فعله، يقوم به لأنه يخضع للذة. ومن جهة أخرى عندما يعرف الإنسان أن فعل معيّن هو جيّد، ومع ذلك لا يقوم به لنفس السبب.[5]

في بداية الجزء الأول من الإثبات يسأل سقراط الجمهور حول الظروف التي يخضع فيها الإنسان للذة (الطعام، الشراب والجنس)، عندما يقوم الإنسان بفعل مؤذٍ يحتوي على لذة فورية ومباشرة. ولكنها قد تسبب على المدى الطويل المرض والفقر. سؤال سقراط للجمهور هوَ، بأي معنى يكون هذا الفعل مؤذٍ؟ هل الفعل مؤذٍ لأنه يحتوي على لذة فورية أم لأنه يؤدي إلى المرض والفقر فيما بعد؟ يتّفق سقراط وبروتاغوراس على أن الجمهور سيقول أن الفعل مؤذٍ \ سيّئ  لأنه يؤدي إلى المرض والفقر، والمرض والفقر يسببان الألم. أي أن الفعل هو فعل سيّئ فقط لأنه يؤدي إلى الألم ويحول دون اللذة[6].

بعدها يسأل سقراط الجمهور حول الأفعال التي تعتبر جيّدة ولكنها تسبب الألم – كالتدريب العسكري، الرياضة، الخضوع للرعاية الطبية – هل هذه الأفعال جيّدة لأنها تسبب الألم والمعاناة أم لأنها في نهاية المطاف تؤدي إلى الصحة وسلامة الجسد؟ يتّفق سقراط وبروتاغوراس على أن الجمهور سيقول أن هذه الأفعال جيدة لأنها تؤدي إلى الصحة، هي جيّدة فقط لأنها تؤدي إلى اللذة والمتعة وتحول دون الألم، وبأنه لا يوجد معيار آخر – غير اللذة والألم – يستطيع الجمهور أن يقترحه[7].

في هذه المرحلة، يصل سقراط مع الجمهور إلى استنتاج مفاده أن الجيّد واللذة هما الشيء نفسه، وأن السيّء والألم هما الشيء نفسه. وبالتالي فبإمكاننا استبدال الواحد بالآخر. ولكن لو استبدلنا اللذة بما هو جيّد، وصف ضعف الإرادة سيكون: “يعرف الإنسان أن فعل معيّن هو سيء، ومع ذلك يقوم به. بالرغم من قدرته على عدم فعله، يقوم به لأنه يخضع لما هو جيّد”. أي أن ضعف الإرادة معناه أن يقوم الإنسان بالفعل السيء لأنه يخضع ويستسلم لما هو جيّد (وبالتالي فهو يرغب بما هو جيّد). الإنسان في هذه الحالة يقوم بفعل محدد لأنه يريد القيام بالفعل المعاكس. ولكن كيف يمكن لمن يرغب بما هو جيّد أن يقوم بالفعل السيء بالضبط لأنه يرغب بما هو جيّد؟ من الواضح أن عليه القيام بالفعل الجيّد. وهذه هي بالضبط عبثية مفهوم ضعف الإرادة[8]، ولذلك فإن الأكراسيا كضعف للإرادة هي ظاهرة غير ممكنة.

بعد ذلك يُجيب سقراط على اعتراض يقول بأن هنالك فرق بين اللذة الفورية واللذة البعيدة[9]، اللذة الفورية أكثر جاذبيّة من اللذة البعيدة، ولذلك بالرغم من أن الشخص الأكراسي (الشخص الذي يتعرض لظاهرة الأكراسيا) يعرف أن الفعل الذي اختاره هو فعل سيء – لأنه يؤدي إلى ألم اكثر ولذة أقل – هو يختاره لأنه يخضع للذة الفورية. يُجيب سقراط على الاعتراض بأنه يجب فعلًا أخذ الزمن بالاعتبار، ولكن مع ذلك يبقى الدافع للاختيار بين فعلين هو اللذة والألم، وعلى أي حال فإن على الإنسان أن يختار الفعل الجيّد، أي الفعل الذي يحتوي على لذة أكثر وألم اقل، لا يوجد معيار آخر للاختيار[10].

في الجزء الثاني من الإثبات يبدأ سقراط بالحديث عن أوهام الادراك الحسّي، يذكّر الجمهور بأننا أحيانًا نرى الأشياء أكبر أو أصغر من حجمها الحقيقي نتيجة قربنا منها أو بعدنا عنها، وأن الأصوات تكون قويّة إذا كانت قريبة وضعيفة إذا كانت بعيدة. الآن يسأل سقراط الجمهور، لو افترضنا أن الحياة الجيّدة تعتمد على اختيار الأشياء الكبيرة والامتناع عن الأشياء الصغيرة، ما الذي سينقذ حياتنا؟ فن القياس أم قوة المظهر؟ في الكثير من الأحيان تظهر لنا قوة المظهر الأشياء أكبر أو أصغر من حجمها الحقيقي، قوة المظهر لا تُرينا الأشياء كما هي وتؤدي في كثير من الأحيان إلى الأوهام. أمّا فن القياس فإنه يعرض لنا حقيقة الأشياء كما هي، ولذلك فإن فن القياس هو ما سينقذ حياتنا[11].

وبالتالي بما أن إنقاذ حياتنا يعتمد على الاختيار الصحيح بما يتعلق باللذة والألم (لأن الجيّد واللذة هما الشيء نفسه)، وهو اختيار كمّي بين الأكثر والأقل، الكبير والصغير، القريب والبعيد، فإن فن القياس هو ما سينقذ حياتنا، وفن القياس هو أحد أنواع المعرفة[12]. ولذلك فإن الإنسان الذي يمتلك هذا النوع المحدد من المعرفة سيقوم باختيار الفعل الصحيح، لأنه قام بحساب اللذة والألم بشكل صحيح. أمّا من يختار الفعل غير الصحيح – الأكراسي – هو ببساطة أخطئ في حسابه لأنه لا يمتلك هذه المعرفة. ولذلك فإن الظاهرة التي تبدو كأنها ضعف إرادة هي في نهاية المطاف حالة عدم معرفة وليست ضعف إرادة.[13]

أرسطو

في المقالة السابعة من كتابه الأخلاق النيقوماخية يعرض أرسطو تحليلًا لظاهرة ضعف الإرادة. في الفصل الثاني من المقالة يسأل ارسطو كيف يمكن لشخص يعرف أن فعل معيّن هو الفعل الصحيح بينما يقوم بفعل مناقض لهذه المعرفة، أي كيف تحدث ظاهرة الأكراسيا وبأي شكل هي ممكنة. يشير أرسطو إلى موقف سقراط القائل بأن الظاهرة لا تحدث أبدًا لأنها غير ممكنة، وبأن ما يحدث فعلًا عندما يبدو لنا أن شخصًا يتصرف بما يناقض معرفته حول ما هو جيّد، هو عدم معرفة، أي أن الشخص لا يميّز بين الفعل الصحيح والفعل غير الصحيح. يقول أرسطو أن هذا الموقف يناقض الحقائق الملاحَظة، يبدو أن ظاهرة الأكراسيا تحدث فعلًا من حين إلى آخر. ولذلك فإن أرسطو يريد أن يبحث كيفية حدوث هذه الظاهرة. وفي حال افترضنا أن سقراط محق في تحليله للظاهرة كحالة عدم معرفة، فبأي معنى هي عدم معرفة؟[14]

يذكر أرسطو الموقف الذي يقول بأن الإنسان الأكراسي لا يتصرف بما يناقض معرفته حول ما هو جيّد، بل بما يناقض اعتقاده أو رأيه. يرفض أرسطو هذا الموقف. إذا كان الفعل الذي يقوم به الشخص الأكراسي هو التصرف بما يناقض الاعتقاد – والاعتقاد أقل قوة وأقل يقينية من المعرفة ولذلك فمن السهل التصرف بما يناقضه – فإننا عادةً لا نلوم هذا الشخص، بالمقابل فإننا نلوم ونذنّب الشخص الأكراسي. وبالتالي فإن هذا الموقف غير صحيح[15].

في الفصل الثالث يحلل أرسطو الفعل الأكراسي بواسطة ثلاثة تمييزات. التمييز الأول بين نوعين من المعرفة. في النوع الأول يمتلك الشخص معرفة ولكنه لا يستخدمها، وفي النوع الثاني يمتلك معرفه ويستخدمها. وفقًا لأرسطو، إذا قلنا بأن خلال الفعل الأكراسي  يتصرف الشخص بما يناقض معرفته وكان المقصود المعرفة من النوع الأول – معرفة بالمعنى الجزئي –  فإن حدوث الفعل الأكراسي غير مُستبعَد، ما هو مُستبعَد وغريب هو حينما يمتلك الشخص معرفة ويستخدمها، ومع ذلك يتصرف بما يناقضها[16].

لا يشرح أرسطو هذا التمييز بين نوعي المعرفة. حسب تفسير ممكن لهذا التمييز، عندما أعرف أن التدخين يؤدي إلى السرطان، ولكنني لا أُفكر في هذا الادعاء الآن، فإنني أعرف بالمعنى الأول، أي لا استخدم هذه المعرفة، ولكن عندما أذكر هذا الادعاء وأُفكر به، فإنني أعرف بالمعنى الثاني، أي امتلك معرفة وأستخدمها. حسب تفسير آخر للتمييز الذي يقدمه أرسطو بين نوعي المعرفة، من جهة، إذا لم أتمكن من قول لماذا يسبب التدخين السرطان، إذا لم استطع شرح الادعاء ودعم صحته، فإنني امتلك معرفة من النوع الأول، بمعنى أنني أعرف أن التدخين يؤدي إلى السرطان ولكنني لا أستخدم هذه المعرفة. من جهة ثانية، إذا تمكنتُ من شرح الادعاء، على سبيل المثال إذا استطعت أن أرى الادعاء كنتيجة مصحوبة بمقدمات، فإنني أعرف أن التدخين يؤدي إلى السرطان وأستخدم هذه المعرفة[17]

التمييز الثاني الذي يقدّمه أرسطو يتعلق بالقياس العملي (Practical Syllogism). عندما يقوم الإنسان بفعل معيّن، يتم ذلك بناءً على قياس عملي، نتيجة القياس العملي هي الفعل نفسه، يبدأ القياس العملي بمقدمتين على الأقل. التمييز هو بين نوعين من المقدمات، مقدمة كبرى ومقدمة صغرى. المقدمة الكبرى هي مقدمة عملية وتتعلق بأشياء كثيرة، على سبيل المثال “من الجيّد تذوق كل شيء حلو” هي مقدمة كبرى. المقدمة الصغرى هي مقدمة غير عملية وتتعلق بشيء معيّن، مثلًا “هذا الشيء حلو” هي مقدمة من هذا النوع. وإن لم يكن هنالك موانع فإن النتيجة هي الفعل، وفي حالة المقدمتين السابقتين فإن النتيجة هي تذوق هذا الشيء الحلو. يدّعي أرسطو أن من الممكن لمن يمتلك المقدمتين، ولكنه يستخدم المقدمة الكبرى فقط، من الممكن أن يتصرف بما يناقض معرفته[18].

التمييز الثالث يقع ضمن نوع المعرفة الجزئي، عندما يمتلك الإنسان معرفة ولكنه لا يستخدمها. المعرفة التي يمتلكها الإنسان في حالة نومه تختلف عن المعرفة التي يمتلكها في حالة يقظته، بمعنى معين فإن الإنسان في حالة نومه يعرف ولكن بمعنى آخر لا يعرف، وهكذا أيضًا بما يتعلق بالإنسان في حالة الغضب أو السُكر. يقول أرسطو أن الشخص الأكراسي، أي الشخص الذي يتصرف بما يناقض معرفته، هو في حالة مشابهة للشخص النائم أو الغاضب أو الثمل. يستطيع الأكراسي الكلام بطريقة تُظهر معرفته، ولكن هذا لا يدل امتلاكه المعرفة بالمعنى الكامل، الأشخاص في حالة الغضب والسُكر يستطيعون أحيانًا قول براهين علميّة، هذا لا يعني أنهم يمتلكون معرفة بالمعنى الكامل[19].

تحليل أرسطو بواسطة التمييزات الثلاثة يظهر أن الفعل الأكراسي ممكن فقط إذا كانت المعرفة جزئية، يستطيع الإنسان القيام بفعل مناقض لمعرفته فقط في حال لم يستخدمها. أمّا إذا امتلك الإنسان معرفة كاملة، أي إذا امتلك معرفة واستخدمها، فإن الفعل الأكراسي غير ممكن، لا يستطيع الإنسان القيام بفعل يناقض هذه المعرفة. وبالتالي فإن أرسطو لا يتّفق مع سقراط، يصح هذا الادعاء فقط إذا اعتبرنا المعرفة الجزئية معرفة حقًا. ولكن في حال كانت المعرفة هي المعرفة بمعناها الكامل حصرًا، حينها يمكننا القول أن أرسطو وسقراط يتّفقان في نهاية المطاف، الفعل الأكراسي غير ممكن، وما يظهر على أنه فعل أكراسي هو في الحقيقة حالة عدم معرفة وليس ضعف إرادة.


هوامش

[1] Plato: Complete Works. Edited by John M. Cooper

[2] Nicomachean Ethics [Aristotle، Terence Irwin]

[3] تُستخدم الأرقام والحروف للإشارة إلى الفقرات والسطور في محاورات أفلاطون.

[4] تقول أطروحة وحدة الفضائل بأن الإنسان لا يمكن أن يكون شجاع وأحمق، أو شجاع وشرير، أو معتدل وأحمق. كل الفضائل يجب أن تتحقق معًا أو لا تتحقق، الشخص الحكيم هو بالضرورة أيضًا شجاع ومعتدل وخيّر.

[5] Protagoras 355b1-5

[6] Protagoras- 353c1-354a3

[7] Protagoras 354a4-354c2

[8] Protagoras- 354e6-355c7

[9] Protagoras 356a6-7

[10] Protagoras- 356b1-356c4

[11] Protagoras 356c5-356e5

[12] Protagoras- 357a7-357b8

[13] Protagoras 357b9-357e4

[14] Nicomachean Ethics 1145b21-32

[15]  Nicomachean Ethics- 1145b33-1146a5

[16] Nicomachean Ethics 1146b32-37

[17] Hendrik Lorenz، “Aristotle’s Analysis of Akratic Action” (2014) 244-246

[18] Nicomachean Ethics 1147a1-12

[19] Nicomachean Ethics 1147a10-24