الكاتب | العياري العربي محمد |
تستأنف رحيل جايجي مشروع النقد الذي دشّنته مدرسة فرانكفورت في علاقة بإعادة صياغة النظرية النقدية، أو التحيين النسقي لأطروحة المجتمع ضمن استراتيجيات النقد والتجاوز. تسعى هذه النظرية الى تفهُّم العالم والتفكير بعيدا على “سلطان العادة الطاغي” وفق توصيف كارل ياسبرس. كما يظهر هذا التّفهُم في أطروحات رحيل جايجي، باعتباره نوعا من المقاومة التي تُقيم في الداخل الفلسفي من أجل ترميم الفلسفة لاستعجال تغييرها قبل استعجال تغيير العالم. يعتمد النقد الذي تُقيمه رحيل جايجي على حركة مزدوجة من الترتيب والقطيعة؛ ترتيب لأولويات السؤال الفلسفي وقطيعة مع ملامح تشكيل الأشياء في مقولات “المطلق المُحنّط” في استعارة لعبارة موريس ميرلوبونتي. تحاول رحيل جانجي أن تجعل من أطروحات الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت بمثابة فلسفة الطور الأخير من نقد الأيديولوجيا بما هي “ثرثرة سرمدية حول الممارسة والواقع الملموس” حسب جاك رونسيير في نصه حول الأيديولوجيا السياسية عند لوي ألتوسير؛ وأيضا، كإقرار بعدم صلاحية أىّ خطاب فلسفي يبني نفسه ويتأسس على دعوى تماسكه الخاص. تتفق رحيل جايجي مع أطروحات تيودور أدورنو حول الأيديولوجيا. ففي كتابه المشترك مع هوركهايمر “جدل التنوير”، يعتمد أدورنو على مفهوم الحتمية السلبية الذي يعني وفقا لهيغل، تخليص الحقيقة من العقيدة الأيديولوجية. يعني ذلك أنه إذا كانت القدرة على التفكير هي موضع الالتزام في سيرورة بناء الحقيقة، فيجب علينا أن نتساءل حول ما إذا كانت الظروف التي تُبنى فيها هذه الحقيقة مثالية بشكل من الأشكال، أو متطابقة من جهة الشروط الفلسفية لإمكان ظهور الحقيقة. بذلك، تتوسط الحقيقة الفلسفية بين الواقع وبين شروط الإنتاج بالمعنى السوسيولوجي الذي يُحيل على ما أسمته رحيل جايجي بأشكال الحياة الممكنة.
من هذا المدخل المفاهيمي، تبدو فلسفة رحيل جايجي استئنافا معياريا لسردية تكوُّن الهوية المقاومة في مقابل مفاهيم السيطرة بتعريف أرنستو لاكلو، وتأسيسا للذاتيّة المقاومة بوصفها وفاء لحدث الحقيقة في استعارة لعبارة آلان باديو.
في هذا السياق، تتساءل رحيل جايجي في نصها المعنون: “هل يمكن صياغة نقد لأشكال الحياة الممكنة؟ السلبية النقدية عند أدورنو في Minima Moralia، عن إمكانية نقد لأشكال الحياة، بمعنى التساؤل حول الحياة الناجحة أو الجيّدة والعقلانية. تستعيد رحيل جايجي مقاربة ايمانويل كانط القائلة بقدرة الفلسفة على تحديد الصواب من وجهة نظر أخلاقية، لكن هذه القدرة لا يمكن لها أن تكشف على ماهية الحياة الجيّدة أو السعادة. حيث، توقف السؤال عند حدود ‘كيف؟’ دون البحث فيما أسماه جاك رونسيير بالتدبير (للإشارة نعتمد ترجمة police بكلمة تدبير وذلك للتمييز بين السياسة وpolice في جذرها اليوناني والتي تعني تدبير شؤون المدينة أو إدارة المدينة). إذا ستتحوّل المهمة النقدية أو تعويض سؤال ‘كيف’ الى مهمة تدبير شرط إمكان وجود أشكال الحياة الممكنة. وهو سؤال في مقاومة السائد من أجل التفكير في المشترك أو المحسوس كما يقول رونسيير، والتأسيس للمقاومة الفلسفية أو مقاومة الأدلجة داخل قوى العلمنة. تعتمد رحيل جايجي على أطروحة أدورنو في Minima Moralia حول التمييز بين العلاقة بالنفس والعلاقة بالآخرين؛ اذ يطلق أدورنو على هذه العلاقات تسمية علم أمراض العلاقات الإنسانية Pathologie des relations humaines.
تنطلق رحيل جايجي من فكرة أمراض العلاقات الإنسانية، لتُوسع هذا التشخيص ليشمل ما يُسميه اكسل هونيث بالباثولوجيات الاجتماعية. عند نقطة تقاطع المجتمع مع أمراضه، تبرز العقدة الغوردية في نسق التدبير الذي يعني فقدانه من وجهة نظر كورنيليوس كاستورياديس بأن المجتمع توقف على مساءلة نفسه. تعتبر رحيل جايجي أن هذا التوقف أو الإيقاف الذي تسبب فيه تصميم العالم الرأسمالي حوّل إمكانية التمييز بين العالم المعيش وعالم النسق الى مهمة شبه مستحيلة. حيث تبدو مهمة تخليص الحقيقة من الأيديولوجيا فعل مقاومة تتطلّب توفُّر هوية عمليّة تكون مصدر التزامنا المعياري وفق كريستين كورسجارد. تتجلّى فلسفة المقاومة في أعمال رحيل جايجي من خلال عرضها لأطروحة التملُّك L’appropriation التي تستأنف من خلالها نقد علاقات التشيؤ عند هربرت ماركوز. يعني التملُّك ضربا من علاقة خاصة تقيمها الذات مع نفسها ومع العالم. يظهر التشيؤ كنفي للتملك بما هو تجسيد أنطولوجي للاعتراف يُترجم هذا المفهوم دلالات الفلسفة بما هى مقاومة للتشيؤ وفقدان الاعتراف، حيث تغدو المهمة الرئيسية للنظرية النقدية التي تتعلّق في ظل الأوضاع الراهنة للمجتمعات المعاصرة، بمُهمّة وصفية تسعى الى تشخيص الباثولوجيات الاجتماعية التي تُعرقل عملية التذاوت –اجتماعيا وأخلاقيا- ومهمة معيارية تقوم على تحديد أشكال الحياة الاجتماعية الناجحة. تتقاطع هتين المهمتين في نقطة التكامل بين الطابع الوصفي والمعياري من الناحية النظرية، بحيث تظهر هذه الأخيرة كنظرية نقدية للمجتمع. من خلال البحث في مُخرجات النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، تتعامل رحيل جايجي مع مفهوم التشيؤ عند جورج لوكاتش لتُقدّم تصورا لعملية التشيؤ بطريقة مغايرة وذلك من خلال فحص العلاقة بين التشيؤ من جهة، بإعتباره يُشكّل وضعا Haltung أو نمطا من السلوك الجدّ مُتطوّر في المجتمعات الرأسمالية وفقدان الاعتراف، من جهة أخرى. ضمن نفس السياق، تعمل رحيل جايجي على بلورة صيغة التقاء بين التشيؤ والمشاركة الملتزمة عند مارتن هايدغر، لتستخلص ما يُفيد بأن التشيؤ يعني استبعاد الذات الفاعلة وأن المقاومة هي ضرب من النشاط الذي يخص الأقلية، بما أن الأقلية هي كل شيء والأكثرية تصبح لا شيأ في ظل أزمات الرأسمالية والهيمنة والاخضاع –في استعارة لمقولة جيل دولوز-.
تعمل الأيديولوجيا من وجهة نظر رحيل جايجي على خلق اللاّمرئية الاجتماعية؛ وحيث تستحضر دلالات اللاّمرئية عند موريس ميرلوبونتي لتفسير الهيمنة التي تقوم على التفوُّق الاجتماعي. وتنتقل من اللامرئية invisibilité الى المرئية visibilité من خلال عرض لما يمكن تسميته بالقُدرات الإجرائية لمفهوم التملُّك وتجاوز أشكال الاحتقار. في جانب آخر، تتحدّث رحيل جايجي على الجانب الأيديولوجي للاعتراف، اعتمادا على لويس ألتوسير في علاقة بتمييزه بين العلم والايديولوجيا، إذ أن الأيديولوجيا تتصف بالخطأ والزيف لتسحب هذا الزيف على الاعتراف المُشوّه الذي يتطابق من وجهة نظرها مع الأيديولوجيا، وحيث يُعبّر هذا النوع من الاعتراف الى تماثل مع النظام وتغذية الهيمنة والاخضاع وفقدان الحرية.
استنادا الى أدورنو، تُموضع رحيل جايجي أطروحته حول التشيؤ الثانوي الذي يُعيده الى سيطرة الأقلية، في سياق نقد فكرة الأغلبية ولتُفرد الأقلية بمشروع المقاومة. سوف تعمل هذه المقاومة على نقض المستويات الثلاثة (المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي – النفسي والمستوى السياسي – الاقتصادي) التي يقوم عليها مجتمع التبادل كما يصفه أدورنو. سيكون نقض هذه المستويات، مُقترنا بتطوير تمفصل بين الحياة والمعرفة والتفكير في المعقول والباثولوجيات الاجتماعية، وأيضا ضمن صياغة عرض نقدي لأشكال الحياة والعلاقات الاجتماعية المُشوّهة، أو كما اسماها تيودور أدورنو في Minima Moralia بأمراض الأشخاص الأصحاء. يعني هذا التمفصل والعرض النقدي، أن للفلسفة مهمة التأسيس لمعايير جديدة تُعنى بإعادة تركيب شكل من أشكال الحياة يكشف عن اتجاه متزايد للتحويل الوظيفي الذي يهدد الفرد حتى يؤدي إلى انخفاضه أو نهايته كما يقول هوركهايمر. في هذا السياق، تستعيد رحيل جايجي ما يعرضه أدورنو حول ‘الجدل السلبي’ من خلال المقولة التالية: “إن الفكر الذي لا يُفسر سوى الوجود يبقى ظالما لتسميته، فالحقيقة تكون لا حقيقة، والفلسفة عبثا،” لتُحوّل هذا الحكم في نصها الى قوّة انتاج اجتماعي فلسفي لمقاومة تخلق قوة النظرة الذاتية التي تخترق زيف الذاتيّة المُتشكّلة.
لكن ما معنى أن يعيش الفرد حياته الخاصة أو كيف تتشكّل الذاتيّة ضمن شكل من اشكال الحياة الممكنة؟
تُجيب رحيل جايجي على هذا الاشكال في نصها:
Vivre sa propre vie comme une vie étrangère : l’auto aliénation comme obstacle à l’autonomie أود الإشارة الى انني (قمت بترجمة l’autonomie بالتدبير الذاتي تناسقا مع المعنى الذي تقصده رحيل جايجي في اعتمادها على جاك رونسيير في علاقة بالتدبير والسياسة أو السياسة و Policeوالذي أشرنا اليه سلفا) تكتب رحيل جايجي: “سأدافع عن فكرة أنه من خلال تجارب مثل الخلاف الحميم، والشعور بالعجز، واللامبالاة تجاه العالم وتجاه ذواتنا، نجد أنفسنا ممنوعين من عيش حياتنا. في رأيي، مثل هذه التجارب، التي يمكن جمعها في إطار مفهوم “الاغتراب“، تؤثر في جوهرها على شروط الاستقلال الشخصي. وعلى العكس من ذلك، فإن المنظور المفتوح لـ “نظرية الاغتراب” يقودنا إلى فهم الاستقلالية على نطاق أوسع باعتبارها قدرة تعتمد على عملية الاستيلاء على العالم وعلى الذات”. نلاحظ التمييز الذي تُقيمه رحيل جايجي بين مشكلة الاغتراب ومفهوم الاستقلال الذاتي، وكيفية صياغة العلاقة بين الاغتراب وما تُسمّيه بالتغاير، وذلك للدفع بدلالات الاستقلالية بما هي تكثيف لفكرة “الإدراك المادي” التي تُناقش مفهوم تحقيق الذات.
سوف تتحوّل الفلسفة وفق رحيل جايجي ومن خلال التخصصات المعرفية الأربعة (الفلسفة الأخلاقية moral philosophy– النظرية الاجتماعية Social theory– النظرية السياسية political theory– السياسات العملية Practical politics)، إلى تمفصل عملي مع أشكال الحياة الممكنة، والى نوع من مأسسة المطالب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. بذلك تكون المقاومة مشروعا لإعادة اكتشاف ينطلق من مفهوم Bildung عند هيغل، والذي يُترجم إلى “ثقافة” أو “تعليم”، ولكنه يشير بشكل أساسي إلى عملية “تدريب” (اعتمادا على ترجمة برنارد بورجوا)، سوف يُفكّر هذا التدريب في حقيقة تكوين الحياة، وإعطاء شكل للطبيعية الحية وفي شكل ممكن من أشكال الحياة. ومن هذا المنظور، تستطيع الفلسفة بما هي مقاومة أن تُميّز بين أشكال التنظيم الاجتماعي المرضيّة وغير المرضيّة، ليس من منطلق الاستناد المبدئي للعدالة الاجتماعية، ولكن وفقا لتجربة الأفراد الذين يعانون من تشوّه الاعتراف أو عدم تلبية احتياجاتهم، بالنظر إلى أن هذه الاحتياجات ليست بأي حال من الأحوال احتياجات “أولية”، ولكنها صورة أولية تتشكّل انطلاقا من الثقافة أو التدريب Bildung.
في المحصلة، ستشتغل الفلسفة بما هي مشروع مقاومة، على صياغة انطولوجيا للاعتراف ضمن شكل ممكن من الحياة، يتعارض مع أيديولوجيا مع تماثل الذات مع شكل الحياة الراهن، ومع التشيؤ كفقدان للاعتراف ليتحوّل التملُّك كما تعرضه رحيل جايجي الى مساءلة الذات لعلاقات المرئيّة الممكنة. إن هذه الفلسفة لن تكون أنصاف حلول كما يصفها مارتن هايدغر، بل أنها ستكون بما هي مقاومة، مقياسا للحقيقة الداخلية. إن مفارقة الذات المقاومة في فلسفة رحيل جايجي، قد تكون عنوانا لفلسفة متكاملة تقف على خط التماس بين ما يحدث في الشرق وما يحدث في الغرب، أو في المركز والأطراف. هي فلسفة تناقش الأفكار وليس الأحداث، مع أطروحات فرانز فانون وغاياتري سبيفاك وهومي بابا وادوارد سعيد وشاكرا بارتي وغيرهم. لقد وفّرت هذه الفلسفة إمكانات التفتح الفردية في وجه التراجع الأخلاقي والقيمي. ومهّدت لمبدأ تحقيق الذات من خلق القدرة على الحوار الداخلي والتضامن الذي أصبح امتيازا، من خلال تطبيق الفعل الاستراتيجي على الذات وعلى الآخرين. لا يتعلق سؤال المقاومة بالعودة إلى الماضي، لأن المسالة أصبحت مرتبطة بمعرفة كيف نواجه هذه الاتجاهات المرضية التي تسعى العولمة إلى تضخيمها. بل بالمحافظة على مسافة متساوية من الأشكال الطاغية للسياسة ونقصد الفكر الليبرالي والفكر الجماعاتي، حتى لا تقع الذات في مصيدة التقاطع مع كانط والليبراليين في مفهوم الاستقلالية وكونية المعايير؛ ومع الجماعاتيين فيما يخص أن تحقيق الذات يحتاج إلى أشكال جديدة من العلاقات الاجتماعية التفاعلية بين الذاتية والنظر إلى الآخرين، باعتبارهم ذوي قدرات إيجابية.
لن تكون فلسفة المقاومة مستودعا للمقولات التي قٌرّرت مُسبقا لترسم جوهر الواقع، بل هي فلسفة قادرة بموجب نظامها الداخلي على أن تُحوّل أنطولوجيا التملُّك الى أوسع تجربة ممكنة.