مجلة حكمة
الفلاسفة العرب نقرأ

كيف تفلسف العرب في العصور الوسطى – إبراهيم بيطار


« […] فقد ظهر أنَّ الزهرة أحد الالهة […]»

الفيلسوف، القاضي والطبيب ابن رشد

«لماذا نقرأ الفلاسفة العرب» كتاب صدر باللغة الفرنسيّة عام ٢٠١٥ للفيلسوف والأكاديمي المغربي/الفرنسي علي بن مخلوف. من العنوان يمكن إدراك دعوة الكاتب إلى إعادة النّظر في ما قدّمه الفلاسفة العرب من إسهامات أصيلة في التّراث الفلسفي. هذه الإسهامات التي لم تُنصف ولم تدُرج كما يجب في تاريخ الفلسفة، ولا تاريخ المنطق على وجه الخصوص، حتى نعتها الكاتب في عنوانه الثانوي بالإرث المنسي. يبدأ بن مخلوف مع « يعقوب بن إسحاق الكندي » الذي عاش في القرن الميلادي التاسع وصولاً إلى ابن خلدون المتوفى عام ١٤٠٦ ميلادي؛ وبينهما يعبر على محمد بن زكريا الرازي [٨٦٥-٩٢٥]، الفارابي [٨٧٢-٩٥٠]، ابن سينا [٩٨٠-١٠٣١]، أبو حامد الغزالي [١٠٥٨-١١١١]، ابن طفيل [١١١٠-١١٨٥]، ابن رشد [١١٢٦-١١٩٨]، موسى ابن ميمون [١١٣٨-١٢٠٤]، شهاب الدين سهروردي [١١٥٥-١١٩١]، ابن تيميّة [١٢٦٣-١٣٢٨]، وغيرهم من الأسماء الأخرى. لا يهدف الكتاب إلى عرض إسهامات كل فيلسوف على حِدة؛ بل يتناول موضوعات مختلفة ثم يبرز إسهامات الفلاسفة العرب فيها.

حوافز عديدة كانت وراء الجهد الأكاديمي الذي بذله بن مخلوف في العودة إلى النصوص القديمة؛ منها الصّعوبة التي تسم غالبًا دراسة العصور الوسطى والإنجازات المعرفية التي تحقّقت فيها سواء على صعيد الفلسفة الأوروبيّة أو العربيّة. هذا فضلاً، وهنا الجانب الأهم، عن مراجعة ما رسّخته أعمال المؤرّخ الفرنسي إرنست رينان (Ernest Renan) [١٨٢٣-١٨٩٢]، بين غيره من المؤرخين، من أحكام مسبقة سلبيّة حول الفلاسفة العرب في العصور الوسطى. هؤلاء، بالنسبة إلى رينان، لم يقدّموا شيئًا في الحقل الفلسفي، بل جلّ إنجازهم ينحصر في المجال العقائديّ والدّينيّ. على سبيل المثال، لم يعترف رينان في كتابه « ابن رشد والرشدية » الصّادر عام ١٨٥٢، بأي أصالة لأعمال الفيلسوف الأندلسي، وحصر جهوده في ترجمة أعمال الفلاسفة الإغريق دون أي إضافة. إلا أنّ الباحث المذكور قد غيّر رأيه أواخر حياته واعترف بأنه لم يُنصف كما يجب قاضي قرطبة. يلاحظ بن مخلوف أنَّ هذا الحكم المسبق قد ترسّخ مع مرور الوقت، نتيجة السّلطة المعرفيّة التي مثّلها رينان في زمانه، وفي ظلّ غياب نقد جادّ لهذه المقولات والمغالطات التاريخيّة؛ حتّى بلغ الظنّ حدَّ القول إنّ يقظة العقل الإسلامي، بعد سباتٍ طويل، قد تمّت على يد الإستعمار الأوروبي للبلاد العربيّة الذي بدأ مع حملة نابليون على مصر عام ١٧٩٨. واليوم، إذا ما أراد بعض المعاصرين ذكر الفلسفة العربيّة بشيء، أوّل ما يتبادر الى أذهانهم هي صورة بعض الأحكام الدّينيّة القاسية في عملية خلط بين الإسهام الفلسفي والإجتهادات التشريعيّة/الفقهيّة التي قالت بها بعض التّيارات الإسلاميّة في التّاريخ القريب والبعيد.

كذلك يودُّ بن مخلوف من عمله إظهار الفرق بين براديغم عصر ما قبل ديكارتي عاشه العقلُ الفلسفيّ في العصور الوسطى، حيث لم يكن العقلُ إنسانيًا بل مُفارقًا وكلّيًا يتجاوز الإنسانَ وجسده (الدّماغ، على وجه الخصوص، كان يُعتبر مجرّد عضو لتبريد الجسد) وذا طبيعة خالدة، وما على الإنسان سوى أن يسعى، من خلال التعلّم، للدّخول في علاقة تناغم معه (وهذا ما أشعل، بعد ترجمة أعمال ابن رشد إلى اللاتينيّة، بحسب الباحث الفرنسي جان بابتيست برونيه، غضبًا أوروبيًا/مسيحيًا عارمًا على عقيدة ابن رشد، نال على أثرها وبيلاً من المقت واللعن امتدّ على قرون). في حين أنّ رينيه ديكارت [١٥٩٦-١٦٥٠] في فلسفته الجديدة جعل من العقل ملكة إنسانيّة تتيح للمرء أن يعرف حقائق الأشياء جميعها في العالم؛ أما اليوم، بحسب بن مخلوف، فقد أصبحنا في عصر ما بعد ديكارتي؛ ولعلّه يقصدُ بهذا العصر ما بدأ به إيمانويل كنط عندما حصر دور العقل في معرفة الظواهر دون حقيقة الأشياء. وعليه، فإن التنبّه إلى فروقات الأطر الفكرية بين العصور، يساعد المرء على تفادي هفوات تحليليّة وعلى تجنّب الوقوع في مفارقات تاريخيّة من قبيل أن يُسقط بديهيّات زمانه على عصرٍ سابق يدور في فلك فكري آخر. ومن بين الأمور اللطيفة التي أبرزها بن مخلوف على طول كتابه وجود تقاطعات بين ما طرحه الفلاسفة العرب وما جاء به الفلاسفة المعاصرون من فتوحات جديدة، مع حرص الكاتب الشديد على تجنّب القفز فوق حقبات التاريخ وتحميل القدماء ما لا يطيقونه من مفاهيم أنتجتها الفلسفة الحديثة وما كان بمقدور السّابقين تناولها بذات الشّكل والمضمون.

إذًا، يرغبُ علي بن مخلوف إثبات أنه لا يمكن التّغاضي عن إسهامات الفلاسفة العرب في العصور الوسطى. يفعل ذلك في أوروبا، حيث يُمارس نشاطه البحثي والتعليمي منذ أكثر من ثلاثة عقود، بعدما لاحظ الحضور النادر لأسماء الفلاسفة العرب مقارنة بالأسماء الأوروبيّة منذ عصر النهضة فصاعدًا. من أجل ذلك، يكشف بن مخلوف عبر كتابه عن إنجازات لا يمكن تجاهلها كابتكار العرب لنوع جديد من الكتابة الفلسفيّة، ودورهم في صناعة البرهان حسب الأصول المنطقيّة، مع إعادة الإعتبار لأدوات جديدة كالتعبير المجازي والشعر في عملية إنتاج المعرفة وإيصال المعنى. فلم يكن الفلاسفة العرب مجرّد مترجمين للأعمال الإغريقية؛ بل هم صنعوا منهجًا خاصًا في التعليق وابتكروا شكلاً جديدًا في الكتابة الفلسفية يقسّمه بن مخلوف إلى أنواع ثلاثة: الأوَّل، يسمّونه « المُخْتَصَر »، يسلّطون فيه الضوء على الموضوع الأساس بصورة عامة من دون معالجة برهانيّة تفصيليّة؛ النّوع الثاني، ويسمّى بـ« التّلخيص » أو « التّعليق الوسط »، وهو يقضي بتتبّع النّص والتوقّف عند النّقاط التي تثير الإنتباه بشكل خاص ومن ثم التّعليق عليها دون إسهاب؛ أما النّوع الثالث، يطلق عليها « التّفسير » أو « التّعليق الكبير »، حيث يعيدون صياغة النّص الأصليّ بشكل حرفي ثم يعرضون كافة التّعليقات التي سبق أن كتبها معلّقون سابقون، هذا فضلاً عن إضافة تعليقاتهم الخاصّة التي يبيّنون فيها النّقاط التي تستعصي، ربما، على فهم معاصريهم من غير الضّليعين في أنساق الفلسفة الإغريقية. هذا الشكل من الكتابة جديدٌ، ويشكّل، بحسب بن مخلوف، نشاطًا فلسفيًا مبتكرًا بامتياز؛ وهو يتمّ بموجب المنطق الأرسطي وخطواته الأربعة التي تبدأ من « التّصوّر » (la concéption) الذي يسمح ببلورة نظرة معيّنة عن مفهوم ما؛ ثم « التّصديق » أو « الحكم »  (le jugement) الذي يقضي بالرّبط بين مفهومين؛ بعدها، يحين دور « القياس » (le syllogisme) ويعني الرّبط بين مقولتين لاستنتاج مقولة جديدة من رحمهما؛ وانتهاءً ب « التّحديد» (la définition) الذي يسمح بالتّمييز المنطقيّ للمفاهيم في ما بينها . وقد توسّع الفلاسفة العرب، بشكل خاص، في فنّي البلاغة والشّعر، أي اللجوء إلى تقنيات وصور تهدف إلى الإقناع عبر التعبير الأدبيّ وطرقه الأسلوبيّة، مستفيدين من خبرتهم العريقة منذ الجاهليّة؛ لأنّ ذلك يجعل من المُمكن مشاركة أطروحات مجرّدة مع كافة أصناف الناس بعدما يلطّفها الشعر والبلاغة.

في ما يلي أورد باختصار شديد ما أسهم به بعض الفلاسفة العرب في القرون الوسطى.

طرقٌ متعدّدة وحقيقة واحدة

في بداية رسالته عن الفلسفة الأولى – الميتافيزيقيا – يشرعُ الكِندي في ترجيح كفّة « البحث عن الحقيقة » مقابل « امتلاك الحقيقة نفسها »، في محاولة منه لنقد نزعة الجزم في العلوم الزّائفة وتجنّب الوقوع في الدوغمائية؛ ليس ثمّة من حقيقة مسبقة ينبغي التمسّك بها، بل ما يتوجّب تقديره وصونه هو السّعي والبحث عن الحقيقة أينما كانت. يذكّرنا بن مخلوف بأطروحة الكندي التي تربط نشاط الأنبياء بنشاط الفلاسفة، وذلك في سياق دفاع الكِندي عن ضرورة الإشتغال الفلسفي، وفي سعي منه لانتقاد المواقف التي تضع الفلسفة في تناقض مع الدّين. وهو يعتبر أنّ التّفلسف يرتكز على طريقة زمنيّة في نظم وهيكلة رسالته عبر منطق البرهان؛ في حين أنّ النبوّة تحصل في لحظة تجاوز حيويّة وفريدة. كذلك، حاول الفلاسفة العرب أن يثبتوا أنّ دراسة أطروحات أرسطو، الذي يعتقد بقِدَم العالم، لا تُشكّل مبّررًا لاتّهام الفيلسوف بالكفر كما فعل بعضُ المتكلّمين. ويعودُ الفضل إلى الكِندي، وإلى الفلاسفة الذين جاؤوا بعده وتحديدًا ابن رشد، في بلورة قبول عام للفلسفة على أنها حكمة مدعّمة بالبرهان ويمكن منقاشتها وأشكلتها وليس مجرّد تكرار حرفي وقبول بلا مساءلة لما قاله القدماء.

ابن رشد وتمجيد البرهان

وقف ابن رشد أمام الأصوات الإسلاميّة التي اتّهمت الفلسفة بأنها نشاطٌ وثنيٌ يزعمُ المعرفة. أبو حامد الغزالي [١٠٥٨-١١١١] هو المتكلّم الأبرز الذي عاش قبل ولادة ابن رشد، والذي درس فلسفة الإغريق جيدًا في بغداد وقرأ بتمعّن أعمال الفارابي وابن سينا؛ حتّى أنّه انهمَّ لفترة من حياته بمعالجة إشكاليات التّوفيق بين ما أتى به الإغريق من طروحات لا توافق بالضّرورة الوحيَ القرآني. ولمّا عجز عن التّوفيق، انتهى الأمر بالغزالي إلى التخلّي عمّا تقول به الفلسفة لصالح ما فهِمَهُ من إخبار الوحي. وهكذا، كتب الغزالي كتابه الأشهر « تهافت الفلاسفة » عام ١٠٩٥، الذي تعرَّض فيه للمسلمين الذين يحاولون برأيه تفسير القرآن على ضوء الفلسفة الإغريقيّة؛ هذا بعد تناوله الأطروحات الإغريقية، وانتقاده الجذري للعلاقة السببيّة في موقف تجريبي متطرّف يشبه ما قال به لاحقًا، بعد ٦٠٠ عام، الفيلسوف الإسكتلندي دايفيد هيوم. في أعوامه الأخيرة، واصل الغزالي تحذيره من التعليم الفلسفي الذي غالبًا ما يؤدي، برأيه، إلى الإبتعاد عن الله عبر تشويه فطرة الإنسان الذي لن يعرف ربّه طالما أنه لم يتخلَّ عن المتع الدنيوية. في المقلب الآخر من العالم، لم يوافق ابن رشد على ما انتهى إليه الغزالي؛ بل كتب « تهافت التهافت » كردّ مباشر على خلاصة الغزالي في ذمّ النشاط الفلسفي، ليؤكّد قاضي قرطبة على ضرورة اتّباع النّموذج المعرفيّ في شكله البرهانيّ الذي ترتكز عليه الفلسفة، مذكّرًا أنّ العلوم الدينية والفقهية، وإن كانت قد تبلورت في مرحلة سابقة على انتشار المنطق الأرسطي، إلا أنها استخدمت طرق الإستدلال، والعلاقات المنطقيّة بصيغها الشرطية. بل كثيرًا ما وقع المتكلّمون المسلمون في حيرة كلّما تناولوا القضايا اللاهوتيّة باحثين لها عن مسوّغات منطقيّة؛ من ذلك، يضربُ بن مخلوف مثلًا، علاقة الله بصفاته، الأمر الذي انتهى بظهور تناقضات منطقيّة باعثة على الإرتباك. خلاصة القول، بالنسبة لابن رشد، أنّ حرمان العقل من تعلّم التفكير البرهاني، كما دعا الغزالي، يحول دون نفاذ البصيرة وتملّك الإنسان لبعد النّظر بل ويحرم المرء من ازدهار ما فيه من قدرات كامنة.

وفي سياق القضايا اللاهوتية، يشير بن مخلوف إلى التحليل اللغوي الذي اعتمده ابن رشد للتخفيف من حدة الخلافات اللاهوتية؛ ويعطي مثلًا عن الرأي الذي اتخذه ابن رشد من قضية قِدَم العالم التي أثارت زوبعة من الخلاف بين المتكلّمين. يعتقد ابن رشد أن الكثير من الخلافات هي ظاهرية يمكن معالجتها من خلال اللغة وحسن التسمية. وهكذا ينسجُ الكاتب رابطًا بين تنبّه ابن رشد إلى موقع اللغة الجوهري في النقاش مع ما بيّنه فلاسفة اللغة في القرن العشرين (جوتلوب فريجه، برتراند راسل، لودفيج فيتجنشتاين) من نتيجة مشابهة وأكثر جذريّة. وهنا، ينبّه بن مخلوف إلى تجنّب الوقوع في مفارقة تأريخية (anachronisme) عبر ردّ الإشتغالات الفلسفيّة الحديثة إلى جذور عربيّة لمجرّد وجود تشابه فكري بين ما قاله القدماء من العرب وما يقترحه المعاصرون من مفاهيم جديدة لم تكن موجودة في السّابق؛ وهذا ما نجده، للأسف، كثير الحضور في الكتابات العربية المعاصرة.

من جهة أخرى، تحاشى ابن رشد طرح الأسئلة الميتافيزيقية، التي يستعصي على العقل تناولها مباشرة، من حقل الإشتغال الفلسفي؛ جاء ذلك مقابل مجازفة ابن سينا حين حاول تفسير الوحي النبوي من خلال عمل المخيّلة غير الحسيّة التي تستورد من العقل مباشرة، وبلا وسيط، مادة الوحي. لقد تعاطى ابن سينا مع النبوّة كحالة إدراكيّة خاصّة تسم بعض الرّجال دون غيرهم، وهو يعطي مقاربة تشبيهيّة بين الأحلام التي يراها الإنسان خلال نومه مع حال اليقظة التي يكون عليها النبي خلال تجربة الوحي؛ وهكذا يقوم بالفصل بين الإلهام والبرهنة. في حين أنَّ ابن رشد قد بقي محترزًا في تناول الجانب النّظري من بعض المواضيع الميتافيزيقيّة الجدليّة.

عن الحكمة والشريعة

انطلاقًا من كلمة « الحكمة » التي تكرّرت في القرآن تسع مرّات ملتصقة بكلمة « الكتاب » (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، يعتقد ابن رشد أن الله يتوجّه بخطابه إلى الأنبياء والعلماء على حدّ سواء. العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يخاطبهم الله في النّصوص المقدّسة من خلال الحكمة أي لغة البرهان. وبهذه الطريقة يعترف العلماء بأن القرآن هو حقًا كلام الله. « الحكمة » التي وردت في القرآن ليست سوى « الفلسفة » عند ابن رشد، على عكس ما قال به الشافعي [٧٦٧-٨٢٠] حول تفسير الحكمة على أنها « السنّة النبويّة ». وهذا خلافٌ مفصليٌّ وجوهريٌّ في تفسير « الحكمة »، يودي إلى فهمين مختلفين لمفهوم « الشّريعة ». هذه الكلمة التي أصبحت في زمننا تثير الخوف كلّما ذكرت؛ والتي تصوّر، عن طريق الخطأ، يقول بن مخلوف، على أنها كتلة متجانسة وثابتة من النّصوص القديمة. الشّريعة هي القوانين التي تنتج عن عملية التّشريع. وقد استنتج الشافعي، بناءً على ما افترضه من تفسير للحكمة، أنّ التّشريع هو عملية استنباط للقوانين والأوامر من القرآن والسنّة النبويّة بطريقة حصريّة ومتساوية، وهو ما صعّب الإجتهاد العقلي، وجعله مع « الإجماع » في منزلة ثانويّة، إذا ما لم يعتمد صراحةً على مرجعيّة نصيّة من قرآنٍ وسنّة؛ بل بلغَ الأمرُ بالبعض أن أعلن لاحقًا  إقفال باب الاجتهاد بعد نجوز المدارس الفقهيّة الأربعة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية)، وهو ما لم يحصل أبدًا في التاريخ، كما يقول بن مخلوف. في المقابل، فإن المذهب الفلسفي، الذي بدأ به الفارابي ثم تابعه ابن رشد، جعل من القرآن («الْكِتَابَ») والفلسفة («الْحِكْمَةَ») منبعين للتشريع؛ ما أباح الاعتقاد باستمراريّة عملية التشريع والقوننة مع تبدّل الحكّام وتغيّر أحوال الزّمان.

تفسير « الحكمة » على أنها فلسفة، يشكِّلُ تحوُّلاً جوهريًا شرّع لابن رشد إعادة الاعتبار للفلسفة في العالم الإسلامي؛ حتى أنه كان يشير إلى أفلاطون وأرسطو على أنهما حكيمان في سعي منه لتحفيز المسلمين على الإهتمام بطروحاتهما بموجب الآيات القرآنية التي تشير بوضح إلى ضرورة التعلُّم ب « الْكِتَاب وَالْحِكْمَة ».

هكذا حاول ابن رشد المصالحة بين الحكمة والشريعة. في هذا السياق، يشير بن مخلوف إلى خلط تاريخي وقع فيه أوروبيّو القرن التاسع عشر في تناولهم لأعمال ابن رشد حيث فهموا توفيقه بين الحكمة والشريعة على أنه توفيق بين العقل والإيمان. في حين أن الأخيرين يشكلان جدليّة أوروبية، تخصّ الفضاء المسيحي بامتياز، وتحديدًا بعد الثورة المفاهيميّة الذي أحدثها الفكرُ الدّيكارتي لمَّا أنسنَ العقل وأعطاه مرتبة ذاتيّة. وخلطهم هذا إنّما نتج عن إسقاطهم للأسئلة التي تشغل عصرهم على فضاء أنتروبولوجي سابق عليهم له أسئلته وعالمه المفاهيمي الخاص.  وهذا ما حدا بكثيرٍ من القرّاء العرب المعاصرين، يقول بن مخلوف، إلى الوقوع بذات الخلط في تناولهم لأعمال ابن رشد.

التاريخُ كأحداثٍ طارئة مع ابن خلدون

يميل بن مخلوف للأخذ بنظرية الاتصال المعرفي، مقابل نظرية القطيعة في تاريخ العلم (والفلسفة)، في ما يخصّ تحديدًا علاقة الرّبط بين العصر الوسيط وما بعده.  يودّ من ذلك إثبات أنّ إرث العرب الفلسفي في العصور الوسطى لا يقلّ أهمّيّة عن إسهامات الأمم الأخرى، وأنّ ما كتبوه من تعليقات قد عاد بأثر حميد على تابعيهم وخاصة فلاسفة النهضة الأوروبية. في هذا السياق، يحاجج بن مخلوف بأن طريقة « التأمّل النظري » (speculation) التي كانت سائدة في العصور الوسطى لا تتعارض، كما يقول مؤيدو مذهب القطيعة، بالضرورة مع طريقة « الملاحظة » (observation)؛ بل، من الأجدر اعتبار « التأمّل النظري » مرحلة سابقة مهّدت ل «الملاحظة ». كذلك، مثلًا، فإنّ ابن خلدون مدينٌ في قوله في الحضارة إلى أعمال الفلاسفة الأندلسيين السّابقين عليه كابن باجة، ابن طفيل وابن رشد. تمعَّنَ ابن خلدون في قراءة تعليقات هؤلاء الفلاسفة على النصوص الإغريقية، وقد استفاد ممّا أعطوه للبلاغة من موقف معتبر بين فنون الإقناع؛ ثم جمع ما بين السّياسة باعتبارها فنّ تحفيز الإرادات، وبين والبلاغة كفنّ للإقناع، في سياق تدشين موضوع جديد للدراسة، ألا وهو « العمران ». من الميّزات الأخرى لابن خلدون، يذكر بن مخلوف، أنه كان سبّاقًا إلى اعتماد منهج تاريخي في تناول مواضيع يحيلها الناس في العادة إلى الغيب متعالين بها عن طبيعتها الزمنيّة؛ فأعطى ابن خدون الحقل التاريخي اليد العليا في الدراسة. في كتابه « المقدّمة » أمثلة عن ضرورة اعتماد المنهج التاريخي في فهم ما هو غامض ومحظور. يذكر مثلا نشأة لقب: « أمير المؤمنين ». جاء ذلك على لسان رسولٍ جاء من الشام لينقل خبرًا للخليفة أبي بكر بإعلان حرب؛ عندما وصل سأل القوم (المؤمنين) عن أميرهم قائلًا: « أين أمير المؤمنين ؟ ». هكذا وجد المسلمون في هذا اللقب ملاذًا ينقذهم من معضلة إطلاق لقب « خليفة الرّسول » أو « خليفة خليفة الله »، التي سوف تزداد تعقيدًا بعد موت كل خليفة. كذلك يعرض ابن خلدون أمثلة أخرى، حيث يقوم بتتبّع تاريخيّ لمعاني ودلالات الكلمات – « الولاء » و « البيعة » مثلًا – الأمر الذي خوّله إزالة الغشاوة عن عدد من النقاط الغامضة التي تكتسب، إذا لم تُعالج بعناية، سماتٍ تقديسيّة مع مرور الزّمن؛ في حين أنَّها انبثقت من أمر طارئ (كحادثة نشوء لقب « أمير المؤمنين »)، أو سبق أن تداولها أهلُ العصور الآفلة ليشيروا بها إلى دلالات مغايرة عمَّا هو رائجٌ في العصور المتأخّرة.

الأمر الأخير الذي سوف أذكره عن ابن خلدون هو اعتناقه لتبدّل الأحوال كسمة للإجتماع البشري. لا يعتقد صاحبُ « المقدّمة » أنه ثمّة غاية للتاريخ، وليس ثمّة من نهاية محدّدة مسبقًا، ولا منطق معلوم يسير عليه؛ وهو يرجعُ تبدّل الأحوال إلى حوادث وحالات طارئة ما كانت ضروريّة قبل حصولها (يذكّرني ذلك بأطروحة « البجعة السّوداء » (Black swan theory) التي أتى بها المفكّر المعاصر نسيم طالب، التي تقول باستحالة تنبؤ الأحداث بسبب غياب منطق حاكم على التاريخ). هكذا  حين ينسى الإنسان طارئيَّة الحدث وطبيعته العرَضيّة، فإنه ينزع إلى جوهرته عبر اعتباره ضروريًا وذا دور مسبق ومحدّد؛ وهذا خطأ تاريخي جسيم. وهنا يبرز بن مخلوف مقارنة بين ابن خلدون وبين الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في تناوله « لإرادة الحقيقة »، فليس للتّاريخ سرديّة معيّنة يلتحفُ بها، ولا معنى منشود من مساره، بل إن إرادة المرء في إيجاد حقيقة ما هي التي تخوّله صناعة سرديّة متماسكة يقيم عليها هويّته. فالماضي، ينقل بن مخلوف عن فوكو، لم يعد أصلًا (origine) يؤسّس لنا، بل مصدر (provenance)، أي مجرّد محطَّة تاريخيَّة عبرنا منها إلى الحاضر.

خاتمة

في كتاب علي بن مخلوف « لماذا نقرأ الفلاسفة العرب » دروس كثيرة. ثمَّة تاريخ مطموسٌ وإرث مفقود لا بدَّ أن يتمَّ إنصافه كي يجد مكانًا يليق به في الكتب التي نقرأ فيها تاريخ تفلسف وتمنطق الإنسان. هذا البحث الأكاديمي هو خطوة مهمّة تعيدُ بعض الإعتبار لما أنجزه الفلاسفة العرب في العصور الوسطى، بعدما نجح مؤرخو القرن التاسع عشر، الذين عايشوا حقبة الاستعمار، من تهميش تلك الإنجازات، بسبب قصر نظرهم أو، ربما، في محاولة مؤازرة فلسفيّة لسياسة الإستعمار من أجل تلميع صورة حملاتهم وتشريعها بحجّة انتشال الشرق من كبوته وبعث الرّوح في جسده. الأجدر بنا الإستماع لما قاله فلاسفة عصر النّهضة الأوروبية بخصوص الإسهامات الفلسفيّة العربيّة؛ ذلك لأنّ زمانهم ما كان بعيدًا عن العصور الوسطى وهم رأوا بأمّ أعينهم كيف مهّد السابقون في الماضي، القريب من العرب والبعيد من الرواقيين والإغريق، وغيرهم، أدوات العقل ليشرع في الإزدهار. يشير بن مخلوف إلى ما قاله ألفرد وايتهيد (Alfred Whitehead) [١٨٦١-١٩٤٧]، الرياضي والفيلسوف الإنكليزي الشهير، بأنّه ما كان لعصر النهضة الأوروبي [١٣٠٠-١٦٠٠] أن يكون لولا أنّ فلاسفة العصور السّابقة قد شحذوا العقل بأدوات جديدة تتجاوز التأمّل وتعتني جيدًا بالمنطق.

في إشارة معبّرة، يذكر بن مخلوف ما لاحظه فرانز روزنتال (Franz Rosenthal) [١٩١٤-٢٠٠٣]، وهو أستاذ ألماني متخصّص باللغات الساميّة، بأن مصطلح « عِلمْ » كان الأكثر رواجًا في الكتابات العربية في القرون الوسطى، حتى فاق التداولُ به رواجَ كلمتين جوهريّتين في العقيدة الإسلامية: التّوحيد والدّين . ذلك لأن استخدام كلمة « عِلمْ » لم يقتصر على مجال دون آخر، بل هي شملت كافة شؤون الحياة من فكر وسياسة ودين فضلًا عمّا يتعلّقُ بالحياة اليوميّة. وهذا ما يعكس صورة عن مجتمع نشط يمجّد العلوم كافة. لن أقول ليتَ الزمان يعود يومًا لأن هذا كلام سقيم؛ والهوية ليست حكرًا على الماضي والمجد ليس محكورًا على الأجداد!

ميزةُ فلسفة أجدادنا في العصور الوسطى، ألاحظ مع بن مخلوف، نزعتها إلى الرَّبط والجمع والمصالحة؛ حتَّى بلغ الأمر بفيلسوف الأندلس، على غرار نظيره ابن ميمون، أن صالح بين حكمة أفلاطون المثاليّة وحكمة أرسطو الواقعيّة؛ لينتقل بعد ذلك ليصالح بين القوانين الإلهية التي أتى بها الكتاب مع الفلسفة « الوثنيّة » التي جاء بها الإغريق.

في يومنا أصبحَ الإنسانُ أكثر عالميّة؛ رغم موجات النّكوص الهوويّة والقوميّة التي تتفاقم مع أزماتنا المعاصرة إلا أنّ المستقبل البعيد، كما أظنُّ، سيجد سلامه مع الإنسان كلّه، لا الغربيّ ولا الشرقيّ، بل الإنسان الرّشدي الذي يدرك قيمة التّوفيق في ظلّ تحدّيات حقيقيّة، لا ظاهريّة، واحدة!

١ شباط ٢٠١٩


ملاحظات متفرّقة

  • عنوان الكتاب باللغة الفرنسيّة « Pourquoi lire les philosophes arabes – L’héritage oublié» للكاتب Ali Benmakhlouf تحرير Albin Michel منشورات ٢٠١٥.

  • تنبّهت بعد انتهائي من قراءة الكتاب إلى وجود ترجمة عربيّة له بعنوان : « لماذا نقرأ الفلاسفة العرب». أنور مغيث، كاتب مصري ورئيس المركز القومي للترجمة، من بادر إلى ترجمة الكتاب؛ ودار الآفاق من تولّت عملية  النشر.
  • اعتمدت في هذا النصّ على كتاب علي بن مخلوف بالدرجة الأولى. إضافة إلى عن عدد المحاورات والمحاضرات التي ألقاها الكاتب ومنها حلقة النّقاش التي شارك فيها بن مخلوف في الخامس من حزيران ٢٠١٥ في معهد العالم العربي في باريس.
  • جان بابتيست برونيه (Jean-Baptiste Brenet) هو أحد المراجع الذي اعتمدت عليها أيضًا. باحث فرنسي أنجز أطروحته للدكتوراه مع آلان دو ليبيرا (Alain de Libera) الذي يذكره بن مخلوف في كتابه. أستاذ محاضر في تاريخ الفلسفة في جامعة باريس ١ (بانتيون-سوربون)، له العديد من الكتب عن ابن رشد، وهو ملمّ بالفلسفة العربية/الإسلامية في القرون الوسطى.
  • العبارة التي بدأت بها، تُنسب إلى ابن رشد في أحد شروحه لأرسطو قرأتها في نصّ للدكتور فتحي المسكيني بعنوان « محنة ابن رشد»؛ وهي قد ساهمت في إدانة ابن رشد من قبل المنصور (ملك البربر) بتهمة المسّ بالمحظور والمقدّس فضلاً عن أنّه، مع آخرين، يشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل.
  • اللوحة هي للرسّام الكاتالوني فرانسيسكو فونولوسا (Francisco Fonollosa) وهي بعنوان « تمثيل ابن رشد (أبو الوليد محمد ابن رشد) (1126 – 1198)، فيلسوف وطبيب عربي».