حول موسى بن ميمون (ابن ميمون) وحياته وتوجهه الأساسي، وحول الخلق والفلسفة العملية، نص لد. كينيث سيسكين، ترجمة: سارة اللحيدان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، فقد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF
من هو موسى بن ميمون؟
موسى بن ميمون، هو أعظم فيلسوف يهودي في العصور الوسطى، (يعرف للناطقين بالإنجليزية باسم ميمونايدس (Maimonides)، ولمتحدثي العبرية باسم رمبم/ ولد عام 1138 وتوفي عام 1204)، وما يزال حتى يومنا هذا يُقرأ على نطاق واسع. وضعه عمله (مشناه التوراة- The Mishneh Torah)، وهو عبارة عن أربعة عشر مجلدا في الشريعة اليهودية، كأبرز سلطة حاخامية في زمانه، أو ربما في على مر الزمان. أما تحفته الرائعة (دلالة الحائرين-The Guide of the Perplexed) فتعدّ علاجا ثابتا للفكر اليهودي والممارسة التي تسعى إلى حلّ الصراع بين علوم الدين والعلوم العلمانية.
بالرغم من تأثره الشديد بالأرسطية الأفلاطونية الجديدة التي كان لها جذور في الأوساط الدينية، إلا أنه انحرف عن النسق السائد للفكر الأرسطي، عبر التأكيد على حدود المعرفة البشرية والأسس المريبة للأجزاء العلمية لعلم الفلك والميتافيزيقا. اكتسب ابن ميمون شهرة أخرى أيضا، لكونه طبيبا، فقد كتب مقالات طبية في مجموعة من الأمراض وعلاجها. علّقت أجيال من الفلاسفة التابعين له على أعماله التي أثرت على المفكرين بشتى أنواعهم، الأكويني، سبينوزا، لينيز، ونيوتن.
جدول المحتويات
1. حياة ابن ميمون وأعماله
وُلد موسى بن ميمون لأسرة بارزة في قرطبة “إسبانيا” عام 1138 [1]. كانت مدينة قرطبة في تلك الفترة تحت الحكم الإسلامي، واُعتبرت كواحدة من أعظم المراكز الفكرية في العالم. تلك المدينة كانت مسقط رأس ابن رشد، إلى جانب ابن ميمون . لكن الأمور اتخذت مجرىً سيئا بعدما غزاها الموحّدون عام 1148، وعرضوا عليهم بعد ذلك خيار ترك دينهم، نفيهم من البلاد، أو الموت. أُجبرت عائلة ابن ميمون على الرحيل من قرطبة وسافرت عبر الجنوب الإسباني لتصل إلى مدينة فاس “المغرب” عام 1160. أول أعماله الملحوظة كانت (مقالة في فن المنطق- Treatise on the Art of Logic).
بدأ في ذلك الوقت بالعمل على أول تحفة دينية له (شرح المشناه- Commentary on the Meshnah)، والتي أنهاها عام 1168. لُوحظ في هذه التحفة أن ابن ميمون قد ركز على التوراة الشفوية، والتي عنى بها التفاصيل، المميزات، والتفسيرات المستمدة من التوراة المكتوبة، التي أُوحي بها إلى موسى في سيناء.
من الجدير ذكره أيضا، تعليق موسى بن ميمون على الفصل العاشر لمقالة مشناهية “السنهدرين”. بينما يناقش الادعاء القائل بأن لكل بني إسرائيل حصة قادمة في العالم، بيّن أيضا ثلاثة عشر مبدأ اعتبرها مبادئ مُلزمة لكل يهودي: وجود الإله، الوحدة المطلقة للإله، لا مادية الإله، خلود الإله، وحدة الإله ليكون معبودا، تواصل الإله مع الأنبياء، موسى أعظم الأنبياء، التوراة جاءت من الإله، وأنها غير قابلة للتبديل، هناك عقاب وجزاء إلهي، وأن المسيح بعث لإحياء الموتى من جديد. [2] تلك كانت أولى المحاولات لإدخال مقالات للدين اليهودي، لينطلق منها جدل واسع لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا (Kellner 1986, 1999).
وصل ابن ميمون إلى مصر عام 1966، واستقر أخيرا في الفسطاط، مدينة تعتبر جزءا من القاهرة. مع نشر (مشناه التوراة) كان قد وضع لنفسه اسما كمفكر لكافة العصور. لم يصنف هذا العمل كافة وصايا التوراة فقط، بل حاول أن يُظهر أن كل جزء من الشريعة اليهودية يخدم غرضا منطقيا، وأنه ليس هناك شيء يمنح لمجرد الطاعة.
من الكتب التي يجدر ذكرها، الكتاب الأول (كتاب المعرفة- The Book of Knowledge)، والذي يستعرض الأسس الفلسفية للمعتقد اليهودي، نظرية للسمات أو القواعد الأخلاقية، الحاجة لدراسة التوراة، الشرائع المتعلقة بالوثنية، وأهمية الندم والتوبة. ومما هو جدير بالذكر أيضا، الكتاب الرابع عشر (القضاة-Judges)، والذي يخلص إلى الزعم بقدوم المسيح، واستعادة السيادة لبني إسرائيل، وينشر السلام مع الشعوب الأخرى، ويقود العالم لدراسة العلم والفلسفة. وعلى العكس مما يقال، فالمسيح لن يجعل الناس أغنياء، أو يبدل في التوراة، أو يطلب منه إثبات المعجزات.
اكتمل كتاب (دلالة الحائرين) عام 1190، واحتوى على أكثر النقاشات الفلسفية شمولا لـ موسى بن ميمون . ظاهريا، كان الكتاب عبارة عن مقالة كُتبت من طالب متقدم في العلم، لم يستطع أن يقرر ما إذا كان يريد دراسة الفلسفة أو تعاليم دينه، لكنها أكثر من ذلك في الواقع، فيها شرح للمصطلحات التوراتية التي يظهر أنها تنسب صفاتا جسدية إلى الإله، وهي دفاع متصلب للاهوت السلبي، نقد موسع للكلام، وعلاج منهجي للخلق والتدبير، وهي نظرية في فلسفة التشريع.
وفقا لـ ابن ميمون ، فإن الشريعة اليهودية تهدف لأمرين: صلاح الجسد وصلاح الروح. الأول في كل حالة هو وسيلة للآخر. تصلح الروح باكتساب الآراء السليمة والعلم بكل ما يستطيع الإنسان الإلمام به. وكلما اكتسبت الروح مزيدا من المعرفة، كلما كانت أقدر على تحقيق الالتزام (سفر التثنية 6.5) وحب الإله. إن أكبر مُعيق لحب الإله هو الإيمان بأن الإخلاص للكتاب المقدس لا يكون إلا بتفسيره بشكل حرفي. بالتالي، ينتج عن هذا التفسير الحرفي مفهوم مادي للإله، والذي يعادل، من منظور ابن ميمون ، الوثنية.
لطالما اُعتبر (دلالة الحائرين) عملا جدليا، وحُظر في بعض الأوساط الحاخامية. فعند رفض التفسير الحرفي، سيثير تساؤلا ما إذا كانت قراءة موسى بن ميمون للتوراة تتطابق مع ما فهمه الأنبياء، أم أنها تقدم إعادة تشكيل فلسفي يعود لأرسطو والفارابي أكثر من كونه عائدا على النبي موسى. وتُثير تساؤلا آخر أيضا، حول ما إذا كان المعنى الحقيقي للتوراة معقدا للغاية لكي يدّرس لعامة العبّاد، ولذا يجب قصره على قلة من المتعلمين. بكل اختصار، هو تساؤل عن إثارة مسألة الباطنية.
آخر عملان لـ موسى بن ميمون كانا، (مقالات حول البعث- Treatise on Resurrection)، والذي نشر عام 1191، و (مقالة في علم التنجيم- Letter on Astrology)، نُشرت عام 1195. [3] كُتب الكتاب الأول ردّا على تهمة بأنه حينما آمن ببعث الجسد، لم يكن مؤمنا به في الحقيقة. لم تكن تهمة عبثية، إذا نظرنا إلى أن مفهوم الآخرة لدى ابن ميمون هو مفهوم فكري خالص، وأن طبيعته جعلته مشككا في أمر المعجزات. لقد دافع عن نفسه بقوله إن المسألة الأهم ليست في حدوث البعث أو عدمه، بل فيما إذا كان هناك إمكانية لحدوثه. الخلاصة، عندما يقبل الفرد الإيمان بالخلق، فإن الإيمان بالبعث يتبعه على الفور.
أما بالنسبة للكتاب الآخر (مقالة في علم التنجيم) فقد كُتب في وقت آمن فيه العديد من الناس أن للأجرام السماوية تأثير على الحوادث البشرية. مع ذلك، زعم ابن ميمون أنه ما من أسس علمية لهذا الاعتقاد، وعلى هذا الأساس يجب تركه حتى لو وُجدت له دعائم في الكتب المقدسة.
من أجل الارتقاء لحجم المطالبات المتزايدة، جاهد موسى بن ميمون وأرهق نفسه في العمل حتى توفي في الفسطاط عام 1204. ومثلما قيل في الأثر، من موسى إلى موسى، لم يكن هنالك مثل موسى.
2. توجه ابن ميمون الأساسي
يمثل موسى بن ميمون تحديا للقارئ الحديث، لأن وجهة نظره للحقيقة لا تتفق مع وقائع التاريخ. وقد رأينا كم كان موجّها بالحاجة إلى التنظيم. قام بتقديم 613 وصية أصلية، وزعم أن كافة هذه الوصايا بمثابة وسائل لتحقيق أول وصيتين، وهما الإيمان بوجود الإله، ورفض الوثنية. [4] تشكل هذه الوصايا مجتمعة ما نسميه بالتوحيد. وهو على أي حال، يرى أن هناك الكثير في الوحدانية مما لا يقتصر على الإيمان بإله واحد.
ولأجل الوفاء بالوصيتين، على المرء أن يؤمن بإله خالد، غير مادي ولا متغير، وأنه الواحد الأعظم ليس له شبيه أو مثيل في هذا الكون. ومن يفشل في إدراك هذت الإله، سيكون وثنيا مهما حقق عددا من الوصايا الأخرى، أو مهما كان متحمسا لتحقيقها. بكل بساطة، حينما تعبد الإله تحت وصف كاذب، فذلك لا يعدّ عبادة على الإطلاق. هذه حقيقة، ليس لأن ابن ميمون يراها كذلك، بل لأنها كذلك منذ بدء الخليقة يوم أن كلم الله آدم.
في بداية دليله، يزعم موسى أن آدم قد صُوّر على أنه يمتلك أتمّ المعرفة الميتافيزيقية التي يمكن للإنسان أن يصل إليها وذلك قبل طرده من جنات عدن. وهذا يتضمن بالضرورة الإيمان بإله خالد، غير مادي ولا متغير. حتى لو أن النص التوراتي لم يعرّج على ذكر لاهوتية آدم، إلا أن موسى بن ميمون يعتقد (MT 14 Kings and Wars, 9.1) أن من المستحيل لأحد أن يكون بهذا القرب من الإله ويكتم سوء فهم بهذا العمق. لسوء الحظ، ضاع العلم بآدم خلال زمن أينوش وكان لزاما أن يعاد اكتشافه عبر إبراهيم (MT 1, Idolatry, 1.1–2; GP 3.29).
مرة أخرى، يعتقد ابن ميمون أن من السائغ قول إن إبراهيم قد اكتشف الدلائل على وجود الإله الذي ليس له كيان ولا قوة متجسدة، رغم أن التوراة قد سكتت عن هذه المسائل. وقد كان من المفترض أن تمرر هذه الدلائل إلى إسحاق ويعقوب لكنها ضاعت خلال زمن العبودية في مصر، عندما اتخذ بني إسرائيل الأوثان آلهة لهم مثلما كان عليه أسيادهم.
عندما ظهر موسى ليعتق الناس من هذه العبودية، واجهته مشكلة عظيمة. إذا كان جلّ ما فعله هو تقديم الدلائل الفلسفية، فإن الناس سينسونها مثلما نسوا ما قبلها. عوضا عن تقديم الدلائل لوحدها، قام بتقديم مخطط لنظام اجتماعي من شأنه أن يساعد الناس على تذكر تاريخهم والمبادئ التي قام عليها. ولهذا السبب كان هناك 611 وصية إضافة إلى أول وصيتين، كلها تهدف إلى خلق بيئة يجد فيها الناس الوقت اللازم والتسهيلات الصحية والنفسية لفهم التوحيد (GP3.27–28).
اليهودية إذن، مبنية على فلسفة معينة. يعني بذلك موسى بن ميمون (GP 1.71) أن أفلاطون وأرسطو قد قدموا العلوم لبني إسرائيل قبل أن يقدموها إلى الإغريق. ولمن يسأل عن عدم وجود دليل دامغ لفلسفتهم، فالجواب لدى ابن ميمون هو أن سجلات هذه التعاليم قد دمرت حينما نُفي بنو إسرائيل وتعرضوا للاضطهاد. وبالرغم من ظهور انقسام بين أثينا والقدس، إلا أنه رأى أن التقليد الوحيد الذي يجب الحفاظ عليه هو الحقيقة.
قام بشرح هذه النقطة في دليله، إذ يقول أن التقليد اليهودي المدروس تحت غطاء تفسير بدء الخليقة ma’aseh bereishit)) هو ما درسه المفكرون اليونانيون كعلم الفيزياء. بينما المدروس تحت غطاء تفسير مركبة حزقيال (ma’aseh merkavah) هو ما درسه اليونان كعلم الميتافيزيقا. بصورة مختصرة، لطالما كان التقليد اليهودي فلسفيا. لكن المشكلة أن هذه المواضيع عسيرة على فهم العامة من العبّاد، كي تُفهم ويعبّر عنها كاستعارات أو رموز يفسرها قلة من المتعلمين على مستوى واحد، ويفسرها العامة لبعضهم البعض (Stern 2013).
بالنظر لوضعه الشخصي، انتهى موسى بن ميمون إلى أن التقليد التعليمي الذي بدأ عند بني إسرائيل قد ضاع مرة أخرى. أصبح الناس يصلون إلى إله متجسد، ويبررون أفعالهم على أساس تفسير حرفي. فاستدعت الحاجة رجلا ليغير هذا الحال ويعيد اليهود إلى تقاليدهم الخاصة. بمعنى أدق أن هذه الحقائق يهودية فقط لأن اليهود أول من اكتشفها. من وجهة نظر أثنية، أنها لم تكن يهودية بأكثر مما كانت نظرية فيثاغورس يونانية.
كل ذلك يشير إلى أن ابن ميمون لم يتصور التقدم مثلما تصورناه نحن. بالرغم من أنه اعتبر إتقان العلوم والفلسفة كأجزاء أساسية من الكمال البشري، إلا أنه لا يراها على أنها تراكمية. فبدلا من أن يأخذنا إلى أرض جديدة، كان هدفه أن يعيد تعريفنا بالأرض التي خرج منها موسى وقومه. إن الحقائق الهامة لا تتغير. حيث يقاس التقدم البشري بالقدر الذي عُرفوا وفهموا به. ومن أجل ذلك كانت المهمة الأساس للمسيح أن يعلّم هذه الحقائق، ويساعد في خلق ظروف يستطيع أن يتماشى معها معظم الناس.
3. دين بلا ميثولوجيا
كان من الواضح أن الدين الذي يحمله موسى بن ميمون في تصوره، لم يكن من النوع العادي. وقد أدرك أن المرء عندما يتعرض لقصص الكتاب القدس وطقوس الصلاة اليومية لأول مرة سوف يحتاج لوصف متجسد للإله ووعود بثواب مادي منه. كما أشار لذلك مرارا وتكرارا، فالتوراة تتحدث بلغة العامة من الناس. وإلا لما لقيت هذه الجاذبية بينهم. لكن ابن ميمون استمر مصرّا على أن الغرض من الدين هو الوصول لنقطة تكون فيها تلك الأشياء أقل أهمية ويمكن التغلب عليها.
لنأخذ القليل من الأمثلة، على سبيل المثال، يشير الكتاب المقدس غالبا إلى أن النبي أو “في حالة واحدة أكبر شيوخ بني إسرائيل” قد رأى الإله (e.g., Exodus 24:10, Numbers 12:8, Isaiah 6:1–3, Ezekiel 1:26–29). يواصل ابن ميمون بقوله إن الرؤية كانت ذهنية بدلا من بصرية، تماما مثلما يرى المرء طريقه للخروج من مشكلة عويصة. وعلى هذا القياس، عندما يوصف الإله بأنه قريب أو الأقرب فإن الكتاب المقدس لا يتحدث عن قرب مادي بل إدراك ذهني- كما يقول العلماء عندما يقتربون من اكتشاف علاج لمرض معين (GP 1.18). العديد من المواضع التي تشير التوراة فيها إلى أن الإله تكلم للنبي، لا تلمح إلى أنه يملك حبالا صوتية تخرج صوتا، بل أن النبي قد توصل لفهم ما يريده الإله (GP 1.65). بطريقة أكثر تعقيدا، يشير حلم يعقوب إلى الهيكل الهرمي للعالم المادي، ويقدم الطريق الذي يسلكه الفيلسوف من معرفة العالم الكوني إلى معرفة المحيط والوعي بوجود الإله (GP 1.65).
مرة أخرى يتساءل المرء، هل هذا دين الأنبياء أم دين معقم فلسفيا اخترعه مفكر قرن أوسطي تحت تأثير أرسطو؟ يرد موسى بن ميمون على ذلك بأنه ليس هنالك من فرق. إن أعلى إنجاز بشري هو كمال العقل (GP 3.27)، وهو مستحيل دون السعي للحقيقة. التوراة مصدر للحقيقة كوثيقة مقدسة. بينما الحقائق التي وردت في الكتاب المقدس ربما لا تكون ظاهرة على الدوام، فنحن نعلم من حيث المبدأ أنها موجودة إذا سعى المرء إلى البحث عنها بشكل عميق. يترتب على ذلك، أن المرء حينما ينسب للكتاب المقدس مذهبا غاية في الزيف والكذب، مثل الادعاء بتجسد الإله، فالتفسير خاطئ مهما بدا مباشرا وبسيطا. هل على المعرفة الإنسانية أن تتقدم وتأتي ببراهين كانت تفتقر لها، حينها لن يكون لنا خيار إلا العودة للكتاب المقدس وتغيير تفسيرنا لنضعها في الحسبان (GP 3.27)، ماعدا ذلك لن يكون صدقا فكريا.
أين يأخذنا ذلك؟ إلى (حكاية القصر) (GP 3.51). حين يصف ابن ميمون الشخص الذي دخل السكن الداخلي للملك كالتالي:
هو… من حقق البرهان إلى درجة أن أي شيء قابل لأن يشرح: وهو من تحقق في المسائل الإلهية إلى درجة أن جعل أي شيء يمكن التحقق منه، وهو من اقترب إلى اليقين في تلك المسائل التي لا يقترب منها سواه…
وهذا ليس بإنجاز فكري في رأي ابن ميمون، بل وإنجاز روحي أيضا. وهو الهدف الذي أشارت إليه جميع وصايا التوراة. ليس هنالك شعور رضا يمكن أن يلحق ذلك، لكن لا شأن له هنا برضا الحاجات المادية أو “النشوة” كما يفهم عادة.
4. الإله ووساطة السلبية
عرض موسى بن ميمون عدة أدلة على وجود الإله، وكلها نسخ من الحجة الكونية (GP 2.1). فبدلا من البدء بتعريف الإله ومحاولة بيان أن ماهيته تفضي إلى وجوده، بدأ بوصف العالم كما نعرفه، محاولا إظهار أن ذلك ينطوي على وجود إله.
وفقا لواحدة من حججه، نحن نفترض أن الأجرام السماوية منخرطة في الحركة الأبدية. ثم ندرك بعدها أن من المستحيل أن يكون هناك جرم أبدي أو رقم لانهائي لأجرام أبدية. لذا، كل شيء مادي ومحدود. وإذا كان محدودا، فإنه يحتوي على قدر محدود من القوة، ويمكن أن يفسر الحركة على فترة زمنية محدودة. لأن الأجرام السماوية في حركة دائمة، والأمر الوحيد الذي يمكن أن يفسر تلك الحركة هو القوة اللانهائية. لأن القوة اللانهائية لا يمكن أن تكون مضمنة في شيء محدود، ولا يمكن أن تكون مادية. وإذا لم تكن مادية فإنها لا تخضع للتقسيم والتغيير. إذا رأينا أن قوتها لا نهائية، فلا يمكن أن تستمد قوتها من شيء آخر. بالتالي، فإن الطريقة الوحيدة لتفسير حركة الأجرام السماوية هو وضع وجود الكائن الذي ليس بجرم أو قوة داخل جرم.
رغم أن ابن ميمون يعتقد أن هذه الحجة تقدم لنا أسسا كافية بوجود إله، إلا أنها لا تقدم لنا أسسا حول ماهيته. ولمعرفة سبب ذلك، علينا أن ندرك أن الإله واحد لا مثيل له: شخص واحد، رقم واحد، فكرة واحدة. وفقا لـ (دلالة الحائرين 1.51):
ليس هنالك وحدانية إطلاقا باستثناء الإيمان بأن هناك جوهر واحد بسيط، ليس فيه تعقيد أو تعدد للمفاهيم، بل مفهوم واحد، لذلك، من أي زاوية أو وجهة نظر تراها، سوف تجد أنه واحد، لا ينقسم بأي طريقة كانت إلى مفهومين.
إذا كان موسى بن ميمون على حق، فليس هناك تعدد للقوى، والقواعد الأخلاقية، أو الصفات الأساسية لدى الإله. حتى القول بأن الإله يملك المعرفة، الخير، القوة المطلقة هو بمثابة إضفاء تعددية عليه، إذا كانت الوحدانية هكذا فعلى هذا النحو تكون هذه المزايا صفات منفصلة. هذا يطابق قولنا إن الإله مركب من مادة وشكل، له نوع وفرق محدد، أو جوهر وحادث. كلها بمثابة إدخال تعددية لا يمكن التسامح معها.
بغض النظر عن الاعتبارات الدينية، تُرفض التعددية لأنها لا تقبل التسوية مع منطقية الأولوية. إذا كان الإله مركب من ف و ج، يجب أن توجد بعض الأسباب لتفسر جمعهم وإبقائهم مع بعضهم. باختصار، إذا كان الإله مركب يجب أن يكون سبب سابق للإله، وهو مناف للعقل (GP 2. Intro., premise 21). لنفس السبب، لا يمكن أن يصنف الإله تحت فئة، كما يصنف الإنسان تحت فئة الحيوانات (GP 1.52). عندما يدخل الإله تحت نوع من الجنس، فإن ذلك يعني وجود سابق له أو أكثر شمولا منه، وكلا هذين القولين ينافيان العقل. من دون نوع لجنسه أو أدنى تشكيل لتركيبته، فلا يوجد إمكانية لتعريفه، وبالتالي ليس هناك إمكانية في معرفة ماهيته. حتى صيغ التفضيل لا تقدم أي مساعدة، فالقول بأنه الإله هو أحكم أو أقوى ما في الوجود يبقى تصنيفا له تحت وصف أوسع.
الأسوأ من ذلك، أن القول بأنه أحكم وأقوى يمكن أن يكون فيه موازاة للقوة والحكمة التي نتمتع بها. وهذا ما ينكره موسى بن ميمون بشكل مطلق (GP 1.56–57). القوة التي تتجسد في متجسد هي قوة محدودة، ويمكن قياسها بواسطة قدم/باوند. مهما كانت قوتها، فبالإمكان أن نتخيل بسهولة أن هناك أقوى منها. وما هو أقوى، إذا كنا نتحدث عن قوة متجسدة، فمن المنطقي أن نسأل من أين تستمد قوتها، أو كيف ترتبط قوتها بشيء آخر، على سبيل المثال جودتها. ولا شيء من هذا ينطبق على الإله. بالتالي، يخلص ابن ميمون إلى أن (GP1.56) القول بأن قوة الإله أعظم من قوتنا غير صحيح، وأن حياة الإله مستمرة أبدية أكثر منا، وأن معرفة الله أوسع منا، أو أن أرادة الله أشمل من إرادتنا، إذا كان ذلك يعني أن الإله يمكن أن يوضع في سلم مقارنة مع شيء آخر، أنه الأكبر، الأقوى، النسخة الأفضل في النظام المُنشأ،
هل يعني ذلك أن عبارات مثل “حياة الإله” أو “قوة الإله” غير منطقية؟ الإجابة نعم، إذا أصر الإنسان على تفسيرها على أنه قوى ذاتية عادية. لكنها يمكن أن تفهم إذا حاول المرء أن يحللها على أنها نفي مقنّع. أي أن “قوة الإله” يجب أن تؤخذ على أنه “غير مفتقر إلى القوة”. يُساء غالبا فهم ابن ميمون في ميله للنفي (GP 1.58)، لأن النفي المزدوج في الحديث العامي يلمح دائما إلى إثبات.
فلو قلت إن كلبا ما لا يفتقر إلى قوة البصر، سيكون من السائغ أن تخلص إلى أنه يستطيع أن يرى لسبب بسيط وهو أن قوة البصر مرتبطة في طبيعة الكلاب. وما كان في ذهن ابن ميمون هو أبلغ من النفي. بالتالي، “الإله قوي” تعني “أن الإله لا يفتقر إلى القوة، ويمتلكها على نحو يجعلها مماثلة لشيء آخر.” هل يمكن للإله أن يحرك شيئا مثل كتاب على الرف؟ نعم، إلى درجة أن الإله لا يفتقر إلى القوة، ولا، إلى درجة أن الإله ليس مرغما على تحريك عضلة، أو استجماع طاقة، أو الحصول على إمداد من غذاء أو وقود. قوته في خلق كون بأكمله هي أبعد بكثير من مجرد تحريك كتاب على رف، وهذه المقارنات من شأنها المساعدة في التضليل فقط لا أكثر.
من وجهة نظر معرفية، فإن بيانا مثل “قوة الإله” غير مقبول إذا ألمح أننا نملك بصيرة حول جوهر الإله. ميزة هذه الصيغة السلبية أنها لا تلمح إلى شيء من هذا القبيل. فالقول بأن الإله لا يفتقر إلى القوة أو يمتلكها بطريقة تضاهي الآخرين، هو بمثابة القول بأن قوته فوق إدراكنا. وبالمثل في حياة الإله، حكمته، وحدته، أو إرادته. بالتالي، معظم المصطلحات التي نستخدمها لوصف الإله مبهمة تماما، مثلما الذي بيننا وبينه. من ثمّ، لا يوجد سبب يدعونا للتفكير بأن في كل مرة نمجدّ الإله، فنحن نحدد جزءا منفصلا من الشخصية الإلهية، ونقارنها بشيء آخر.
بقدر ما كانت حجة موسى بن ميمون متينة، إلا أنها لم تكن كافية. رغم أن النفي كان مفضلا للإثبات، لكن النفي المزدوج يقبل الاعتراض إلى درجة أنه يفضي إلى التعقيد: فالإله ليس بهذا أو ذاك. ما العمل إذن؟ كان جواب ابن ميمون (GP 1.58) إلى أنه في النهاية ستخذلنا كافة التعبيرات اللفظية. فبدلا من تقديم تفسير ميتافيزيقي دقيق لطبيعة الإله، فإن غرض الخطاب اللاهوتي هو الكشف: أي “يقود العقل إلى أقصى ما يمكن أن يدركه الفرد”. لغة اللاهوت مهمة إلى درجة أنها تلغي الخطأ وتبين لنا الطريق لإدراك سمو الإله. مالم يتحدث المرء بشأن الإله، فمن الممكن أن يسقط في فخ الاعتقاد بمادية الإله. لكن في النهاية، سيتبين لنا أمر واحد، وهو أن الإله فوق كل شيء. بالتالي (GP 1.59)
اعلم أنه حينما تصدر إثباتا يسند شيئا آخر له، ستكون أبعد عنه من ناحيتين: الأولى أن كل شيء تثبته هو الكمال، مع إشارة لنا. أما الثانية فإنه لا يملك شيئا غير جوهره…
يعلم ابن ميمون (GP 3.32) أن الدين المبني بأكمله على انعكاس صامت لن ينجح، ويصرّ على أن الصلاة اليومية الإلزامية (MT 2, Prayer, 1.1). كان رأيه بأن الميزات المذكورة للصلاة إما نفي أو أوصاف لآثار النشاط الإلهي، ولا تقدم بأي حال من الأحوال معرفة بماهيته. لإيضاح هذه النقطة، يسألنا أن نعتبر في أثر النار على عدة أشياء يمكن أن تكون قبله. يمكن أن يليّن الشمع، يجعل الطين صلبا، يسوّد السكر، ويبيّض العديد من الأشياء. هذا لا يعني أن النار لينة، قاسية، أو تسوّد وتبيّض معا، بل إن لها هذه التأثيرات على عدة أشياء.
حينما نُطّبق هذا التشابه على الإله، يمكننا أن نقول إن الإله رحيم إلى درجة أن نظام الطبيعة (الذي خلقه الإله) يحمل سمات الرحمة والغضب إلى درجة أنه يقسو نحو الأشياء التي لا ترعى نفسها بشكل لائق. هذه النقطة لا تعني أن الإله يملك مشاعرا تشابه مشاعرنا، لكن أثر أفعاله يشابه أثرنا. يشير موسى بن ميمون إلى هذه الميزات كصفات للفعل ويطابقها مع الخير الذي كشفه الإله لموسى في الخروج 33. في هذا النص، يرفض الإله أن يُطلع موسى على الوجه السماوي (والذي يحدده ابن ميمون على أنه جوهري)، لكنه أتاح له أن ينظر له من الخلف (والتي حددها ابن ميمون مع عواقب أو آثار خرجت من الإله). بالتالي، يمكن أن نثني على الإله طالما أننا ندرك أن مثل هذا الثناء غير مباشر، ويترك جوهر الإله غير موصوف وغير معلوم.
5. الخلق عند ابن ميمون
يُدرج ابن ميمون في ثنايا دلالة الحائرين أربعة تفسيرات للخلق وهي: علم الكلام، موسى، أفلاطون، أرسطو. يرفض تفسير علم الكلام (GP 1.71–73) بناء على أي دليل يدلّ على أن الكون لا بد وأن يكون مخلوقا، ثم الأسباب التي تقول إن كان مخلوقا فمن المحتّم أن له خالقا. مثلما كان عليه توما الأكويني، يؤمن ابن ميمون بأن من المستحيل أن تُظهِر بواسطة العبارات المنطقية لوحدها أن الكون مخلوقا أو أبديا. رغم أن موسى يقول إنه يؤمن بالخلق، إلا أنه يعترف أن المرء لا يسعه إلا أن يقلّب الموازين في هذا الاتجاه. كما جاء في دلالة الحائرين (2.13) فقد كان يحصر نقاشه لنظريات موسى، أفلاطون، وأرسطو. لكن للأسف، أوصاف ابن ميمون لهذه البدائل ليست دقيقة ولا تحمل دقة تاريخية أيضا (Seeskin 2005). يكفي القول بأن معالجته لهم كانت موضوعية بشكل أساسي، وباختصار هي:
موسى: العالم قد خلق من البدء من اللاشيء تماما.
أفلاطون: العالم قد خلق من البدء من أساس مادي موجود مسبقا.
أرسطو: العالم أبدي وأفضل فهم لوجوده أن يكون بمثابة حقائق أبدية للمادة.
بناء على إشاراته الصريحة، يفضّل موسى بن ميمون نظرية موسى لكنه يأذن للمرء بأن يتمسك بنظرية أفلاطون لأنها البديل المنطقي. لكن كان هناك مدرسة فكرية متمسكة بأنه كان ملتزما بنظرية أرسطو (Harvey 1981). وجهة نظري تتفق مع أولئك الذين يزعمون بأن ملاحظاته الصريحة هي تفسير دقيق لمنظوره وأن كل النقاشات التي يستعرضها تشير نحو هذا الاتجاه Davidson 1979, Feldman 1990, Hyman 1988, Wolfson 1973).
زعم أرسطو التاريخي بالفعل أن العالم أبدي، وأن كل ما هو أبدي هو ضروري [On Generation and Corruption 338a1–4, Physics 203b 29, Metaphysics 1050b8–15]. أخذ أتباعه خلال القرون الوسطى هذا المعنى إلى معنى آخر يعني أنه حينما يعتمد العالم في وجوده على الإله، فلم يكن هناك لحظة لوجوده، وعلى هذا لا يدين بوجوده إلى قرار للخلق. مثلما يمكن أن نقول، أنه وُجد ليس بسبب شيء فعله الإله، بل بسبب ماهية الإله بكل بساطة. وفقا لهذا الموقف، فإن طبيعة الإله لا تتغير، ولا يتغير الوجود أو الأساس البنائي لهذا العالم. أهم تبعات هذا الرأي، هو أن الإله لا يمارس حرية الاختيار، والتي تعني وفقا للبديل أرسطو أن العالم محكوم بالضرورة.
تأخذ الحجج المعتادة لهذا الموقف اتجاهين اثنين، إما أن تُظهر أن هناك شيء كامن في طبيعة العالم والذي يجعل الخلق مستحيلا، أو أن هناك شيء كامن في طبيعة الإله المتصرف. لنعطي مثالا على ما سبق، هو أن التغيير يبدأ دائما من شيء إلى شيء آخر، مثلما تخرج الدجاجة من البيضة، أو عندما تنمو شجرة بلوط إلى شجرة مكتملة. إذا كان هذا صحيحا، فإن من المستحيل لشيء أن يأتي من (العدم). مثال على ذلك، أنه إذا كان الإله كاملا، فليس من المنطقي أن نعتقد بأنه يمكن أن يقوم بأي شيء جديد مثل أن يخلق العالم للوجود.
يجيب ابن ميمون على الحجة الأولى (GP 2.17)، بأنه بالنظر للعالم كما نعرفه، فالتغيير يبدأ من شيء إلى شيء آخر. لكن، لماذا نفترض أن العالم يجب أن يتبع نفس هذا النمط؟ تفسير الخلق يشابه نظرية النشوء، وكيف أتت الأشياء ابتداء. على النقيض من ذلك، تفسير التغيير يشبه نظرية التطور أو التغيير، كيف يبرز من الوجود وجود آخر.
كل ما نعلمه، أن منشأ الشيء ربما يكون مختلفا تماما عن تطوره اللاحق. بالتالي، من العجرفة أن نفترض بأننا نستطيع الاستقراء من تجربتنا للعالم كما هي في الوقت الحالي إلى لحظة خلقه. ينطوي على ذلك أن الحجة الأولى ضد الخلق ليست قطعية، مما يعني أن الخلق يبقى احتمالية.
أما الحجة الثانية، فيجيب ابن ميمون، (GP 2.18) أن الرغبة في شيء جديد في الوجود الكامل لا توحي بحاجة للتغيير. مثلا، إذا رغبت بالذهاب في رحلة غدا، وتتداخل الأحداث لتفسد خططي، فربما اضطر لتغيير رأيي، لكن الافتراض بأن هناك أمر مشابه يحدث للإله هو محض عبث. لنفترض أنني رغبت بعمل شيء غدا بمعزل عن الظروف الخارجية، للتفكير في الخصائص العددية. ولنفترض أنه حينما يأتي الغد، أفعل مثلما خططت له. بينما شرعت في شيء جديد، إلى درجة أنني نويت القيام به إلى الأبد، سيكون مضللا القول بأنني خضعت لتغيير. قطعا لم يكن تغييرا في رأيي.
يأخذ موسى بن ميمون هذا إلى ما معناه أن من الممكن ألا يتأثر الوجود بالظروف الخارجية ليرغب بشيء جديد طالما أنه جزء من مقصده الأصل. وهذا أمر يعبر عنه بالقول إن تغيير رغبة المرء لا يشابه الرغبة في التغيير. لذلك مرة أخرى، الحجة القائمة ضد الخلق لم تكن قطعية.
يدرك ابن ميمون أن كافة حججه قائمة على إمكانية الخلق، لا على حقيقته. ليمضي إلى أبعد من ذلك، ناقش حقيقة الخلق وعاد إلى الادعاء بأن كل شيء أبدي هو ضروري. إذا أمكننا أن نثبت أن هناك سمات غير ضرورية للعالم، سينطوي على ذلك حتمية خلق العالم. هنا يتحدى ابن ميمون أرسطو وأتباعه من جانب عالم الفلك.
يؤمن أتباع أرسطو بما هو آت. أن الإله يفكر وله وعي ذاتي. لأن الإله واحد وبسيط، وما ينبثق من الإله لا بد أن يكون واحد وبسيط أيضا. على هذا الأساس، يكون الإله هو المنتج الأول للفهم السماوي. وفقا للفارابي، الفهم الأول مُدرك لأمرين: ذاته والإله، وقادر على توليد شيئين: الفهم السماوي الثاني، والأبعاد الخارجية للكون. على النقيض من ذلك، تمسك ابن سينا بأن الفهم الأول مدرك للإله وللثنائية بحد ذاتها، وهذا يولد ثلاثة أشياء. لا يتوجب علينا القلق من الاختلاف القائم هنا. فالنقطة الهامة هي أن إنتاج الإله للأبعاد الخارجية للكون كان بشكل غير مباشر؛ والسبب المباشر هو نشاط الفهم الأول. تستمر هذه العملية حتى نصل إلى الأفهام العشرة والأبعاد الأساسية التسع التي شكّلت الصورة النموذجية لعلم الكونيات في العصور الوسطى.
ينتقد موسى هذا التفسير من جهتين: إذا كان المنشئ لهذا التسلسل السببي واحد وبسيط فلا سبيل إذن لوجود تعقيد، وكل شيء يتبع تسلسلا يفترض أن يكون واحدا وبسيطا (GP 2.22). حتى لو كان التسلسل يحتوي على آلاف الأفراد، لن يستطيع تفسير المجال السماوي، والذي يتركب من مادة وشكل. عندما نذهب للمجالات الداخلية، نحتاج لأن نفسر أكثر، ليس لأن هناك مجال بذاته بل لأن هناك نجوم وكواكب تسبح فيه. كيف يمكن أن يكون لدينا تعقيد إذا بدأنا من متوحد جذريا؟
الثاني أن هناك سمات للأجرام السماوية التي تتحدى التفسير العلمي، وبالتالي تظهر لأن تكون مشروطة بمعنى أنها اُختيرت بدلا من أن تكون ضرورة (GP 2.19–24). إذا كانت المجالات الخارجية تنقل الحركة للمجالات الداخلية، فسوف نتوقع حركة كروية تتباطأ كلما اقتربنا من الأرض. لكن هذا جزء بسيط من المسألة كما أوضح ذلك ابن ميمون (GP 2.19): نحن نرى أنه في بعض المجالات تكون خفة الحركة فوق البطء، وفي الحالات الأخرى بطء الحركة فوق خفتها، وهذا يتكرر في حالة أخرى، تكون حركة المجالات متساوية السرعة مع وجود واحدة فوق أخرى. هناك أيضا مسائل أخرى خطيرة إذا اتخذت من منظورها فهذه الأمور تظهر على ما هي عليه بحكم الضرورة.
إذا لم يكن يوجد تفسير عن سبب تصرف هذه المجالات بهذه الطريقة، أو لماذا تبعث بعض النجوم والكواكب ضوء أقوى من الأخريات، أو لماذا تزدحم أجزاء من السماء وتبقى أجزاء كبيرة فارغة، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن الظواهر المسؤولة تبدو على ما هي عليه بحكم الضرورة. إذا لم يكن هناك ضرورة، فلا وجود لأسس الأبدية. والبديل هو القول بأن الله خلق العالم كنتيجة لحرية الإرادة وصممه بطريقة معينة.
يدرك موسى بن ميمون (GP 2.24) أن حجته لا تؤخذ على أنها إثبات. لإن العلم لا يستطيع شرح شيء الآن، فهذا لا يعني أنه لن يشرح على الإطلاق. كما يعترف بنفسه أن العلم بإمكانه أن يحقق التقدم. لكن في هذه الحالة، حالة الأجرام السماوية فالتقدم مستبعد جدا. لأنها أبعد من أن تلاحظ عن قرب، ومرتفعة جدا في رتبتها، نستطيع فقط أن نتكئ على الاستدلالات فقط بناء على حجم الميزات العرضية، السرعة، الاتجاه. مادام أن ذلك صحيحا، لن نعرف أبدا طبيعتها الأساسية، ولن نستطيع أبدا دعم الادعاءات القائلة بالضرورة. مادام أن ذلك صحيحا، فإن عدم ثبوت الخلق سيكون دوما في صالح الأبدية.
يعرض ابن ميمون (GP 2.25) أيضا سببا عمليا للإيمان بالخلق: كيف يمكن لإله بلا إرادة حرة أن يصدر الأوامر؟ فوق ذلك يوجد سبب نصي: الاعتقاد في الخلق يسيء بشكل أقل للكتاب المقدس مقارنة بالإيمان بالأبدية. وينتهي إلى أن نظرية موسى تقدم أفضل بديل، بينما تمسك أفلاطون بفكرة أن خلق العالم من البدء تعد مقبولة. رغم أن البعض عاب على ابن ميمون عدم إتيانه بحجج قوية فيما يخص بموسى، إلا أنه كان يرد بأنه بالنظر لحدود المعرفة لدينا فإن هذه هي أقوى حجة يمكن أن نتوقعها. رغم أنه يُرى على أنه ينتمي في الغالب إلى تقليد أرسطي، ويثني كثيرا على أرسطو، إلا أن تفسيره للخلق يلمح إلى أنه مستعد للانفصال عن أرسطو عندما يعتقد بأن الحجج تقوده لذلك الاتجاه.
6. الفلسفة العلمية عند ابن ميمون
لقد علمنا الآن أن الكمال الأعلى لدى موسى بن ميمون هو الكمال الفكري القاضي بالتحقق من المسائل الإلهية في كل شيء يمكن التحقق فيه. معرفة السلوك السليم، وما إذا كان من أجل الفرد أو لأجل المجتمع هو وسيلة لهذه الغاية (GP 3.27). على مستوى سياسي، يعني أن الدولة يجب أن تفعل أكثر من مجرد حماية الأفراد والممتلكات، كأن تقرّ حق تعليم المسائل الدينية لكافة مواطنيها، ويكون هناك عدد قليل يصلون لإتقان هذه المسائل (GP 2.40). على المستوى الشخصي يعني أن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها، بل هي وسيلة للتحكم بالعواطف لتخلق فضاء يمكن للعلم والفلسفة أن يزدهرا بدخله (GP 3.8). في حين أن الكمال الفكري موجّه إلى الحقيقة والكذب، ويهدف إلى الإثبات، يتوجّه الكمال الأخلاقي إلى الحسن والسيء، ويتعلق بآراء مقبولة بين العامة.
بناء على ذلك، بُورك آدم بالمعرفة الميتافيزيقية التامة في جنة عدن، لكنه مع ذلك لم يعلم أن من الخطأ عدم تغطية المرء لأعضائه التناسلية. رغم أننا لا يمكن أن نعرف هذه المعرفة بالدقة العلمية، وما إذا كانت اعتباطية. بل العكس تماما، كانت من بين الأعراف الأساسية التي يمكن للمرء أن يتصورها. يشرح موسى بن ميمون هذه النقطة (GP 2.40) بذكر هذا القانون الظاهر “مع أنه ليس من الطبيعي، الخوض فيما هو طبيعي.” أرى أن ما يعنيه هنا، هو أنه مختلف عن الحقيقة العلمية، وأنه افتراض القانون مسبقا لسياق اجتماعي، وشعور بالعار. ويرى ابن ميمون ، أن هذا الأمر بحاجة لمزيد من الدراسة بشكل تفصيلي. لهذا لا يزال هذا الاقتباس حيا: “إنه جزء من الحكمة الإلهية المختصة ببقاء الأنواع”.
تبدأ الفلسفة العملية عند ابن ميمون بـ (ثمانية فصول-Eight Chapters) مقدمة لتعليقه حول مقالة (بيركي أفوت-Pirkei Avot) وجزء من تعليقه على المشناه. [5] بتوافق مع أفلاطون وأرسطو، يتمسك موسى بفكرة أن الروح مثل الجسد، يمكن أن تكون مريضة وصحيحة. ومثلما ينشد المرضى جسديا طبيبا للجسد، فإن عليليّ الأرواح يحتاجون للسعي خلف حكمة الحاكمين، الذين يقومون مقام طبيب الأجساد.
فإذن، ليس من المستغرب أن أجزاء رئيسية من أعماله حاولت إظهار أن الشريعة اليهودية قائمة على فهم شامل وعميق للروح والشروط اللازمة لسلامتها الكاملة. من بين أهم هذه الشروط تحقيق المتوسط من بين الأعلى. في الفصول الثمانية، كتب قائلا: “إن الفضائل بمثابة حالات للروح، وقواعد ثابتة في المتوسط بين حالتين سيئتين، واحدة منها سيئة بشكل بالغ، والأخرى ضعيفة.” لاحقا، وفي الكتاب الأول من مشناه التوراة (1, Character Traits, 1.4)، يستدرك بقوله: “أن الطريق الصحيح هو المتوسط في كل سمة من سمات الفرد الشخصية”
أدرك موسى بن ميمون ، كما فعل أرسطو، بأن هناك اختلافات من شخص لآخر، وأن الشخص يتخطى أحيانا المتوسط لأسباب علاجية (Eight Chapters 4 andMT 1, Character Traits, 2.2). أيضا كما فعل أرسطو، أصرّ موسى على أن الفضيلة عادة لا يمكن أن تتطور إلا بالممارسة. وبالتالي، فإن الحاكم الحكيم سيوجّه على إثر ذلك باتباع تصرفات وعادات أخلاقية تتكرر بشكل واجب إلى أن يذهب عبئها وتصبح جزءا من سمات الفرد. إذا كان الفرد يطور عادات خاطئة بشكل متجاوز للحد، على الحاكم “اتباع المسار نفسه الذي يعالج به مريض البدن، ألا وهو إعادة التوازن” (“Eight Chapters” 4).
يزعم ابن ميمون أن نظريته متينة في حد ذاتها، وقد تكون نتاج أقوال الأنبياء والعلماء. يعرض لنا مزمور 9:18 (“إن شريعة الرب كاملة لتجدد الروح؛ لقد كان البرهان الرباني الراسخ بأن جعل الحكمة في البساطة”) كدليل على أن الكتاب المقدس يعترف بفكرة صحة ومرض النفس الإنسانية. كما أنه يربط الالتزام بالغاية مع تقليد الإله (imitatio Dei)، بالاحتجاج إلى أن (GP 2.28): “أعمال الإله هي الأكمل، فيما يتعلق بالإفراط والتقصير”. وبما أن الإله يحكم الطبيعة، لذلك يعتقد ابن ميمون أن الحاكم الحكيم سيميل لأن يحكم المجتمع.
هذا صحيح، مثلما ذكر ذلك عدة مرات، الشريعة اليهودية لا تطلب من الناس أن يعيشوا مثل النسّاك، يجوعون أنفسهم، ويضربونها، أو يعرضون صحتهم للخطر. رغم أنها تسمح لفئة من المتطرفين في قوانين تختص بالنذيرية، كان موسى على حق حينما قال إنها تتعامل مع النذيرية بالشك (“Eight Chapters” 4). إن الصفات المهمة حقا، هي الحكم السليم، الرحمة، التعاطف- وكل ما شرحه ابن ميمون من خلال العودة إلى عقيدة المتوسط. يؤمر الناس بالتبرع، بر الوالدين، الإحجام عن بعض العلاقات الجنسية، نبذ الكراهية والانتقام، وعدم تناول أطعمة معينة لأجل ترسيخ موقف معتدل. على هذا القول، رُتبت الأعياد بحيث يكون بعضها مبهجا بينما ينطوي آخر على صور معتدلة من الإنكار الذاتي. ولا تتطلب الشريعة في أي حال من الأحوال الطاعة بمفردها.
يشير موسى بن ميمون إلى أن هناك حالات ينهار فيها التماثل بين الجسد والروح، تحديدا في مسألة أن السبب المنطقي مختلف عن السبب الطبي. فهذا الطبيب لا يعالج مفهوم الإنسانية بل الإنسان المحدد الذي قدم إليه. لكن هذا لا ينطبق على الشريعة، التي تعالج في نظر موسى (GP 3.34)، الحال العام ولا تلقي بالا للأمر النادر. ولهذا لا تتكئ الشريعة على زمان ومكان، بل تحاول بناء معيار قياسي مطلق وعالمي. لنأخذ مثالا حديثا، ينص القانون على حد معين للكحول أثناء قيادة السيارة. من دون شك أن هناك اختلافات بين الأفراد، الأمر الذي يسمح لكمية معينة من الكحول أن تكون خطرة على فرد دون آخر. لكن ليس من شأن القانون أن يضع هذه الاختلافات في الحسبان. كل ما يمكنه القيام به، هو وضع القانون وتطبيقه بشكل عادل.
أي شخص مطّلع على ابن ميمون سيرى أن مسألة الأخذ بالمتوسط من الصعب أن تتفق مع جوانب فكره الأخرى. فعندما يصف الإله بأنه حاكم الكون يوازن بين العدل والرحمة، فهنا عقيدة المتوسط منطقية، وعندما يصف الإله على أنه مفتقر للعواطف، ولا يضاهيه أي مخلوق آخر، فلا يبدو ذلك منطقيا. وبالمثل، عندما يصف الأنبياء على أنهم حاملين لواء الشريعة فإن المتوسط هو المعيار المناسب؛ إذا يفشل عندما يصفهم على أنهم بشر محسودون على وقتهم الذي يقضونه مع الناس ويفضلون التفكر في الإله لوحدهم في تأمل صامت (GP 3.51).
وقد كتب الكثير عن ذلك، فأي من هذه المقاربات تمثل وجهة نظر ابن ميمون الحقيقية (Fox 1990, Davidson 1987, Schwarzschild 1990). لحسن الحظ، لسنا بحاجة لإجراء مسح على كامل المؤلفات، لأن المشكلة تظهر في جزء من مشناه التوراة MT 1, Character Traits, 1.4–6))، بعكس “الفصول الثمانية” حيث أن المبرر الوحيد للإفراط في المتوسط كان لغرض علاجي، هذه الفقرة تقرّ بأن هناك أوقات يكون الانحراف عن المتوسط بمثابة معيار عال. وهي كما صاغها ابن ميمون ، أن الفرد الذي يتمتع بتوازن في سماته الشخصية يقال عنه حكيم (Hakam)، بينما الفرد الذي يتجاوز المتوسط عندما تتطلب الظروف يعرف بالتقيّ (حاسيد-Hasid):
أي فرد ينبذ القلب المتحجر لنقيض أكثر تطرفا، بحيث تتواضع روحه بشكل مفرط يسمى تقيا؛ وهذا هو مقياس التقوى. أما إذا اتجه الفرد نحو المتوسط وكان متواضعا، فيمسى حكيما؛ وهذا هو مقياس الحكمة. وهذا ينطبق على بقية السمات الشخصية. اعتاد التقي في القدم أن يوجّه سماته الشخصية من الطريق المتوسط نحو اثنتين بشكل مفرط؛ توجّه واحدة إلى أقصى درجة من التطرف، والأخرى إلى عتبة التطرف، وهذا هو معنى “داخل خط الشريعة” [أي تتخطى ما نصّت عليه الشريعة].
فالتقوى إذن، تنطوي على تجاوز المتوسط إلى معيار أعلى. وفيما يتعلق بذلك، يستشهد موسى بن ميمون بالأرقام 12:3 Numbers 12:3، والتي لا تقول بأن موسى كان حليما، بل غاية في الحلم.
تنطبق ملاحظات مشابهة على “تحليل الغضب” لابن ميمون . بالنسبة لأرسطو [Nicomachean Ethics1125b31–1126a8] يجب أن نثني على الشخص الذي يغضب على من يستحق، بالأسلوب الصحيح والوقت السليم. من يسمح بالإساءة إليه ويتلقى الإهانات دون أن يغضب فإنه مفتقر للشعور، ويتصرف على نحو وضيع. إن الفضيلة تستحق أن تكرّم. فمثلما أن من الخطأ طلب المزيد، فمن الخطأ طلب القليل أيضا.
بالنسبة إلى الغضب، لا يتفق ابن ميمون مع ذلك، زاعما بأنه (MT 1, Character Traits, 2.3)، “سمة شخصية سيئة للغاية” وعلى ذلك، “من اللائق للفرد أن يتنحى عنها لتوجّه آخر، ويعلّم نفسه عدم الغضب، حتى إذا كان ما يغضبه أمر يستحق الغضب” (Frank 1990). بالنسبة لأرسطو، فالحلم يشير إلى فقدان الثقة بالنفس؛ أما بالنسبة لـ ابن ميمون الحلم ليس فضيلة بل فضيلة بامتياز. من خلال وصفه لموسى ألمح إلى أنها أعلى مستوى يمكن للفرد أن يصل إليه.
كان هناك رأي مشابه في مشناه التوراة (1- المبادئ الأساسية، 4:12) عندما ناقش ابن ميمون الحاجة إلى دراسة الفيزياء والميتافيزيقا. ختمها بالثناء على أولئك الذين يتمتعون بروح متواضعة:
عندما يعكس الفرد هذه السمات، فإن ذلك يحول بالنظر إلى كل ما هو حي بدءا من الملائكة والأفلاك إلى البشر وما إلى ذلك. بعدما يدرك الحكمة الإلهية الظاهرة في الجميع، سيزيد حبه للإله، وتتوق روحه، ويحنّ جسده لحب الإله. سيمتلئ بالخوف والرعدة، حينما يدرك أنه شخص ضعيف، فقير، وغير مهم مقارنة بالأجرام العظيمة؛ ويتعاظم ذلك عندما يقارن نفسه بأي روح من الأرواح النقية روحيا، التي لم ترتبط أبدا بأي شيء مادي. يدرك بعد ذلك أنه مجرد إناء ينضح بالعار والخزي، ويلوم فراغه ونقصه.
لا يعني هذا أن موسى بن ميمون قد نبذ فكرة أن الطبيعة تتجنب الفرط والنقص، لكن يبدو أن ما يقوله هو أن المستوى الأعلى للإنسان يتطلب التطرف. ولذلك، أمضى موسى أربعين يوما وليلة دون ماء، عندما كان وحيدا في الجبال وحقق هذا المستوى الأعلى من التركيز الذي في رأي ابن ميمون “جعل كل القدرات الوظيفية في الجسد تكف عن العمل” على ضوء ذلك، فالهدف الأسمى ليس الحكمة العملية في منطق أرسطو، بل التواضع، والخشية والخزي في حضرة الإله.
يناقش موسى بن ميمون في مواضع أخرى، أن هدفنا لا يجب أن يكون الاعتدال في العاطفة بل الاعتلاء فوق هذا الاعتدال. فلقد رأينا أن الإله لا يخضع للعاطفة. قام ابن ميمون بتحويل هذا إلى معنى أن الحالة المثالية حينما يتصرف الفرد بطريقة خالية من العاطفة تماما ليقرر الأمور بأحقيتها وجدارتها دون اللجوء إلى العاطفة. في حين أن هذا الشخص مطالب بإصدار حكم لائق، إلا أنه لن يكون هناك سمة شخصية أو قاعدة ينبع منها هذا الحكم. وفقا لدلالة الحائرين 1:45
حريٌّ بحاكم المدينة، إن كان نبيا، أن يكتسب ما يشابه هذه الصفات (الغيرة، الكراهية، الغضب) حتى تصدر تلك الأفعال منه وفقا لتدابير محددة ووفقا لأهواء الناس المتأثرين بها، وليس بسبب عاطفته اللاحقة. عليه ألا يسمح لزمام الغضب بأن ينحلّ ولا يسمح أيضا بسيطرة العاطفة عليه، لأن كل العواطف في أصلها شر؛ بل على النقيض يجب أن يحترس أمامها مادامت من صميم استطاعة الإنسان. في بعض الأحيان، يجب أن يكون رحيما وكريما مع بعض الناس، لا لأجل التعاطف والشفقة، بل وفقا لما هو مناسب لهم.
في مقالته حول السمات الشخصية، يعترف أن هناك أوقات على الإنسان أن يظهر فيها بعض الغضب، لكنه يصرّ على أن يكون هادئا في داخله. أين ذهب التوازن ومفهوم الصحة النفسية؟ الجواب، مادامت متاحة في الوقت الراهن، فليست غايات بحد ذاتها. من خلال أعماله الحاخامية والفلسفية، يصرّ ابن ميمون على (MT 1, Character Traits, 3.1) أن من المستحيل أن تحب الإله وتصل للمستوى الأعلى إذا كنت مريضا، غير منضبط، أو أنك تعيش في خوف من الأذى الجسدي. لكن في النهاية، الكمال الأخلاقي شرط ضروري فقط للكمال الفكري.
مثل أفلاطون، يؤمن موسى بن ميمون في التأثير العلاجي للفلسفة. إذ يزعم في الفصل الأخير من دلالة الحائرين أن الفلسفة تعلمنا أن معظم الأمور التي يكرس الناس حياتهم لها هي “ليست إلا جهد يتطلع إلى شيء أنقى في مخيلته، إلى شيء غير دائم”. مثلما انتهى أيوب إلى أن الأشياء التي كانت يوما موضع تقديره واحترامه، أصبحت غير مهمة، فالفلسفة تحضّنا على التخلي عن هوسنا بالمال، الكسوة، والأرض، وتركز الاهتمام على الأبدية.
في النهاية، نقول إن العلاقة بين الفضيلة الأخلاقية والفكرية هي أكثر تعقيدا مما عرضه موسى لأول مرة. ليس فقط لأن الأول غاية للأخير، لكن لأنه بعد تحقق الأخير، وبعدما يصل المرء للقناعة بأن المتاع الدنيوي عابر وزائل في النهاية، سيشهد سلوكه تحولا؛ فبدلا من أن يتوجّه للحصول على قدر معتدل من متع الدنيا، سيتخلى عنها ويقضي وقته بين خوف وتبجيل للإله، حينها ينهار التمييز بين الكمال الأخلاقي والفكري.
7. الباطنيات عند ابن ميمون
عانى الباحثون من قضية شائكة منذ نشر دلالة الحائرين: هل يأخذون كلام ابن ميمون على أساس قيمته الإسمية، ام على أنها إشارات ودلائل تشير إلى معنى خفي وأكثر عمقا (Ravitzky 1981, 1990, 2005; Strauss 1952). حينما رفض موسى التفسير الحرفي ولعب على وتر أهمية المعجزات، كان على دراية بأنه يتخذ موقفا جدليا. مثلما ألمح في مقدمة دلالة الحائرين، بأن الشريعة اليهودية تمنع الفرد من مناقشة المسائل الباطنية كتفسير بداية الخلق، أو تفسير المركبة بين العامة.
الغرض من ذلك هو أن تلك المسائل يجب أن تناقش فقط مع طالب علم متقدم يستطيع العثور على الحقيقة لوحده. يرى ابن ميمون أن الشروح الحاخامية التي نشأ عليها إلى جانب الكتاب المقدس كلاهما باطنيان، بمعنى أن المعنى الحقيقي غالبا يختلف عن المعنى السطحي أو الواضح. وما مردّ ذلك إلا اختلاف الناس في مستويات إدراكهم عند القراءة. يذهب موسى إلى أبعد من ذلك حينما يقول بأن للمؤلف الحق في مناقضة نفسه في بعض الحالات.
من بين الأسباب السبعة لاستخدام التناقض، يقول ابن ميمون أنه سينتفع من نفسه من جانبين. الأول وهو غير مُشكل نسبيا: وهو أن من الضروري أحيانا أن تقول المعلمة شيئا لطلابها لتنزل إلى مستواهم الفكري، وتقول شيئا مختلفا عندما يصبح الطلاب في سن متقدمة. أما الثاني وهو ما يزعج أكثر: أنه في المسائل الغامضة جدا، من الضروري الاستهلال بنقاش يتطور وفق افتراض واحد، ثم في وقت لاحق يُجرى نقاش آخر يقوم على افتراض آخر. ثم يضيف، “في مثل هذه الحالات يجب ألا يكون العاميّ مدركا للتناقض؛ بالتالي يلجأ المؤلف لاستخدام حيل لإخفائه بكل الوسائل”
وهذا يثير عدة مسائل. 1- هل يوظف موسى بن ميمون تناقضات التنوع المزعجة؟ 2- إذا كان قد فعل، ففي أي موضع؟ 3-أكانت من نقاشين اثنين متناقضين، وأيهما الذي يمثل وجهة نظره؟ زعم ليو ستراوش في القرن الواحد والعشرين، بأن التناقضات مركزية لفهم دلالة الحائرين، وكلما قدم ابن ميمون دليلا على رأي معين كلما قلّت احتمالية تمسكه به (Strauss 1952). هناك اتفاق جماعي على أن ما كتبه ابن ميمون باطني إلى درجة أنه يتناول موضوعات صعبة ولا يضع كل ما يقوله في أي موضوع معين في أي مكان. السؤال هنا هو هل لهذه الباطنية معنى أعمق من ذلك.
نرى على سبيل المثال أنه ينتقد أرسطو على فكرة خلود العالم. هل يعني ذلك أنه يؤمن بالخلق، أم أننا حينما نجرد ظاهر هذا المعنى يكون مؤمنا بالأبدية؟ مثلما يحدث في الغالب، سؤال واحد سيجرّ آخر: هل نسوّي المسألة من خلال فحص قوة حججه أو من خلال البحث عن دلائل خفية؟ على أي حال، خسرت القراءة الباطنية بريقها في الآونة الأخيرة (Davidson 2005, Ivry 1991, Manekin 2005, Ravitzky 2005, Seeskin 2000).
8. الخلاصة
يعتمد تقييم المرء لفلسفة موسى بن ميمون على فلسفة المرء الشخصية. بالنسبة للمؤمن التقليدي مثل الأكويني، هو محقّ حينما يقول بأن هناك العديد من المسائل، على سبيل المثال: مسألة الخلق، والتي لا يمكن أن تحل بالبرهنة والإصرار على أن كل محاولات تجسيد الإله مضللة. المشكلة هي أنه برفضه التجسيد، لربما ذهب بعيدا. إذا كان الإله لا يماثل أي شيء في هذا النظام المنشأ، وإذا كانت مصطلحات مثل الحكمة، القوة، أو أن الحياة غامضة جدا حينما نطبقها علينا وعلى الإله، فإن مفهوم الألوهية الذي ولدنا به ضعيف للغاية ليقدّره العابد العادي.
بالنسبة لطبيعي مثل سبينوزا، فإن ابن ميمون كان مستعدا لنبذ العلم واللجوء إلى المفاهيم القديمة مثل الخلق والإرادة الإلهية. من المعلوم أن علم الفلك في العصور الوسطى لم يتوصل لتفسير حركة الكواكب. ومع حلول الثورة العلمية، كان هناك تفسير واحد- على الأقل في رأي سبينوزا. فإذا بقي موسى مخلصا لما قاله، واكتسب الحجة الأقوى مهما أدت إليه، على حد قول سبينوزا، فقد كان بإمكانه أن يبني علما جديدا، خلود العالم، وضرورة أن كل حدث يأخذ حيزا فيه.
من أجل أن يقوم بذلك، يتوجب عليه أن يتخلى عن فكرة أن الكتاب المقدس يحمل الحقيقة الفلسفية والعلمية، ويطلع عليه فقط على ضوء ما يخص الكيفية التي يعيش بها المرء حياته. غني عن القول إن ذلك سيكون كارثة في نظر ابن ميمون. حتى لو اتخذ هذه الخطوة وقرأ الكتاب المقدس لمحتواه الأخلاقي، لن يلغي هذا الأمر المشاكل الموجودة. كان ابن ميمون نخبويا، قاس القرب الإلهي بكمية المعرفة التي يملكها المرء، والنتيجة أن الأشخاص الذين حرموا من إكمال دراستهم بسبب الظروف لن يكونوا محبين للإله أو قريبين منه. وإن كان ذلك التفسير صحيح أو خاطئ، إلا أنه يسيء للتفسيرات الحديثة بالغة الديمقراطية.
وأخيرا، بالنسبة لملحد، فإن فلسفة موسى بن ميمون تُظهر لنا ما يحدث عندما تقوم بتنحية محتوى التجسد في مفهومك عن الإله: فإنك تنحّي المحتوى بأكمله من أي نوع. وما يبقى لك في النهاية سوى جوهر الإله غير المعلوم وغير الموصوف. ولأي قيمة ممكنة يصبح هذا المفهوم فلسفيا أو دينيا؟
سئل سقراط في محاكمته عام 339 قبل الميلاد، كيف لأكثر الأشخاص حكمة في أثينا أن يزعم الجهل في المعرفة التي يسعى إليها. كان جوابه (Apology 23a-b)، بأنه حكيم لأنه، على عكس الآخرين، يدرك أنه إذا قيست مقابل الحكمة الإلهية، فالحكمة البشرية ضئيلة وليس لها قيمة. رغم أنه لا يوجد ضمان على أنه قرأ ما كتبه سقراط، إلا أن هناك شك بأن هذه هي البصيرة التي سعى موسى بن ميمون للحفاظ عليها. ذلك الشخص الحكيم من ينكص برهبة وتواضع في حضرة من هو أعظم من أن يُدرك ويُفهم. تفسر هذه البصيرة سبب عدم عثور ابن ميمون على براهين للعديد من رؤاه حول الإله، الخلق، والتجلي رغم جهوده المضنية، وظهر في الغالب راضيا على موازنته للمقاييس في اتجاه واحد أو في تقديمه تقييما صادقا للمشكلة. في عمل حديث، يؤكد ألفريد إيفري (2016, 4) على أن ابن ميمون بنفسه هو أحد الحائرين الذي كتب دلالة الحائرين لهم.
من منظور ودي، تنبع نخبوية موسى بن ميمون من معرفة أن هناك قلة من الناس سيرضون به. رغم أنه لن يتفق الجميع في تاريخ الفلسفة، إلا أنه ما من شك على أن وجهة نظر ابن ميمون لها تاريخ فلسفي طويل ولا تزال بديلا قويا.
المراجع
مصادر رئيسية
- Munk, S. and Joel, I. (eds.), Dalalat ha‘irin, S. Munk and I. Joel (eds.), Jersualem: Janovitch, 1929.
- Pines, S. (tr.), The Guide of the Perplexed, Chicago: University of Chicago Press, 1963. Cited as [GP].
- Kafih, Y. (tr.), Moreh Nevukhim, Jerusalem: Mosad ha-Rav Kook, 1972.
- Schwarz, M. (tr.), Moreh Nevukhim, Tel Aviv: Tel Aviv University Press, 2002.
- Frankel, S. (ed.), Mishneh Torah, 12 vols., Jerusalem: Jerusalem: Hotzaat Shabse Frankel, 2000. Cited as [MT].
- Hershman, A. (tr.), The Code of Maimonides, Book Fourteen: The Book of Judges, New Haven: Yale University Press, 1949.
- Hyamson, M. (tr.), Maimonides: The Book of Knowledge, Jerusalem: Feldheim, 1974.
- Twersky, I. (ed.), A Maimonides Reader, West Organge, N.J.: Behrman House, 1972.
- Weis R. and Butterworth, C. (eds.), The Ethical Writings of Maimonides, New York: Butterworth, 1975.
- Halkin, A. and Hartman, D. (eds.), Crisis and Leadership: Epistles of Maimonides, Philadelphia: Jewish Publication Society, 1985.
مقتطفات
- Buijs, J. (ed.), 1988. Maimonides: A Collection of Critical Essays. Notre Dame: Notre Dame University Press.
- Kraemer, J. (ed.), 1991. Perspectives on Maimonides. Oxford: Oxford University Press.
- Pines, S. and Yovel, Y. (eds.), 1985. Maimonides and Philosophy. Dordrecht: M. Nijhoff.
- Seeskin, K. (ed.), 2005. The Cambridge Companion to Maimonides. New York: Cambridge University Press.
مصادر ثانوية
- Davidson, Herbert, 1979. “Maimonides Secret Position on Creation,” in I. Twersky (ed.), Studies in Medieval Jewish History and Literature, Cambridge: Harvard University Press, pp. 16–40.
- –––, 1987. “The Middle Way in Maimonides’ Ethics,” Proceedings of the American Academy for Jewish Research, 54: 41–44.
- –––, 2005. Moses Maimonides, Oxford: Oxford University Press.
- Davies, Daniel, 2011. Method and Metaphysics in Maimonides’ Guide for the Perplexed, New York: Oxford University Press.
- Feldman, Seymour, 1990. “Abravanel on Maimonides’ Critique of the Kalam,” Maimonidean Studies, 1: 5–25.
- Fox, Marvin, 1990. Interpreting Maimonides, Chicago: University of Chicago Press, 1990, pp. 251–296.
- Frank, Daniel, 1990. “Anger as a Vice: A Maimonidean Critique of Aristotle’s Ethics,” History of Philosophy Quarterly, 7: 269–281
- Halbertal, Moshe, 2014. Maimonides: Life and Thought, Princeton: Princeton University Press.
- Harvey, Warren Z., 1981. “A Third Approach to Maimonides’ Cosmology Prophetology Puzzle,” Harvard Theological Review, 74: 287–301
- Hyman, Arthur, 1988. “Maimonides on Creation and Emanation,” in J. F. Whippel (ed.), Studies in Medieval Philosophy, Washington, D.C.: The Catholic University of America Press, pp. 45–61.
- Ivry, Alfred, 1991. “Leo Strauss and Maimonides,” in A, Udoff (ed.) Leo Strauss’ Thought, Boulder: Reinner, pp. 75–91.
- –––, 2016. Maimonides’ Guide of the Perplexed, Chicago: University of Chicago Press.
- Kellner, Menachem, 1986. Dogma In Medieval Jewish Philosophy, New York: Oxford University Press.
- –––, 1999. Must a Jew Believe Anything?, London: Littman Library of Jewish Civilization.
- –––, 2006. Maimonides’ Confrontation With Mysticism, Oxford: Littman Library of Jewish Civilization.
- Kraemer, Joel, 2005. “Moses Maimonides: An Intellectual Portrait,” in K. Seeskin (ed.), The Cambridge Companion to Maimonides, New York: Cambridge University Press, pp. 10–57.
- –––, 2008. Maimonides: The Life and World of One of Civilizations Greatest Minds, New York: Doubleday.
- Manekin, Charles, 2005. On Maimonides, Belmont, CA: Wadsworth.
- Ravitzky, Aviezer, 1981. “Samuel Ibn Tibbon and the Esoteric Character of the Guide of the Perplexed,” AJS Review, 6: 87–123.
- –––, 1990. “The Secrets of Maimonides,”, in I. Twersky (ed.), Studies in Maimonides, Cambridge, MA: Harvard University Center for Jewish Studies, pp. 159–207.
- –––, 2005. “Maimonides: Esotericism and Educational Philosophy,” in K. Seeskin (ed.), The Cambridge Companion to Maimonides, New York: Cambridge University Press, pp. 300–323.
- Schwarzschild, Steven S., 1990. “Moral Radicalism and ‘Middlingness’ in the Ethics of Maimonides,” in M. Kellner (ed.), The Pursuit of the Ideal, Albany: SUNY Press, pp. 137–160.
- Seeskin, Kenneth, 2000. Searching for a Distant God, New York: Oxford University Press, pp. 177–188.
- –––, 2005. Maimonides on the Origin of the World, New York: Cambridge University Press, 2005.
- Stern, Josef, 2013. The Matter and Form of Maimonides’ Guide, Cambridge: Harvard University Press.
- Strauss, Leo, 1952. “The literary Character of the Guide for the Perplexed,” in Persecution and the Art of Writing, Glencoe, IL: The Free Press.
- Stroumsa, Sarah, 2009. Maimonides in His World, Princeton: Princeton University Press.
- Wolfson, Harry, 1973. Studies in the History of Philosophy and Religion, in I. Twersky and G. H. Williams (eds.), Cambridge, MA: Harvard University Press, pp. 207–221.
أدوات أكاديمية
How to cite this entry. | |
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society. | |
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO). | |
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database. |
مصادر أخرى على الأنترنت
Maimonides/Rambam, article by Joseph Telushkin, in Jewish Virtual Library, sponsored by The American-Israeli Cooperative Enterprise
- Maimonides: The 13 Principles and the Resurrection of the Dead, in Internet Medieval Source Book, maintained by Paul Halsall (Fordham University).
- Maimonides Resources, maintained by Columbia University Libraries.
مداخل ذات صلة
Aristotle, General Topics: psychology | cosmological argument | Maimonides: the influence of Islamic thought on | omnipotence
[1] Seeskin, Kenneth, “Maimonides”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/ archives/spr2017/entries/maimonides/>.