مجلة حكمة
نظريات النفس في الفلسفة القديمة ستانفورد

نظريات النفس في الفلسفة القديمة

الكاتبهندريك لورينز
ترجمةناصر حلواني
تحميلنسخة PDF

مدخل حول نظريات النفس في الفلسفة القديمة اليونانية، ومفهوم النفس ما قبل سقراط، وعند أفلاطون وأرسطو، ونظريات أبيقور والرواقية؛ نص مترجم للـد. هندريك لورينز، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


تتسم النظريات الفلسفية القديمة عن النفس، في كثير من النواحي، بأنها حساسة لطرق التفكير غير الفلسفية أو النظرية، عن النفس [psuchê]. لذلك نبدأ ببيان ما تعنيه كلمة “نفس Soul” لمتحدثي اللغة اليونانية الكلاسيكية، وما الذي كان يمكن أن يكون طبيعيا من أشكال التفكير  عن النفس أو المرتبط بها. ثم ننتقل إلى عدد من مفكري فترة ما قبل سقراط، وإلى النظريات الفلسفية التي هي محل اهتمامنا الأساسي، تلك الخاصة بـ أفلاطون (أولا في محاورة فيدون، ثم في محاورة الجمهورية)، ثم أرسطو (في كتابه  DE Anima أو النفس)، ثم أبيقور، والرواقيين. تلك، إلى حد بعيد، هي أكثر نظريات النفس التي طُرحت بعناية في الفلسفة القديمة. من الأفضل دراسة التطورات النظرية اللاحقة -على سبيل المثال، في كتابات أفلوطين وغيره من الأفلاطونيين، وكذلك آباء الكنيسة– في مقابل تلك الخلفية من النظريات الكلاسيكية، التي استمد منها هؤلاء أفكارهم إلى حد كبير.

من خلال تبني نظرة شاملة للمساحة التي سنغطيها، وإرجاء العديد من التفاصيل، في الوقت الحالي، يمكننا وصفها على النحو التالي: خضعت كلمة “نفس”، ابتداء ببدايات هوميروس المتواضعة نسبيا، لتوسع دلالي ملحوظ للغاية، في استخدام القرنين السادس والخامس لها. بحلول نهاية القرن الخامس -حين وفاة سقراط– كان المعتاد هو التفكير والتحدث عن النفس، على سبيل المثال، كعلامة مميزة للكائنات الحية، كشيء هو موضع الحالات العاطفية، والمسؤول عن التخطيط والتفكير العملي، وكذلك كحامل لتلك الفضائل، مثل الشجاعة والعدالة. بوصولنا إلى النظرية الفلسفية، نتتبع أولا تطورا متوجها نحو التعبير الشامل، لمفهوم واسع جدا، عن النفس، بحسبه لا تكون النفس مسؤولة فقط عن الوظائف العقلية أو النفسية، مثل الفكر، والإدراك، والرغبة، وحاملة للصفات الأخلاقية، ولكن، بطريقة أو بأخرى، مسؤولة عن جميع الوظائف الحيوية التي يقوم بها أي كائن حي. وجد هذا المفهوم الواسع، الذي كان على صلة وثيقة، بشكل واضح، مع الاستخدام اليوناني العادي، في ذاك الزمن، التعبير التام عنه في نظرية أرسطو. كانت نظريات الفترة الهلنستية، على النقيض من ذلك، تهتم بشكل أضيق بالنفس، باعتبارها مسؤولة بشكل خاص عن الوظائف العقلية أو النفسية. إنهم يقللون من أهمية رابطة اللغة العادية، أو يقطعونها، بين النفس والحياة، في جميع وظائفها ومظاهرها.

 

  1. المفهوم اليوناني للنفس

  1. التفكير في النفس ما قبل سقراط

  2. نظريات أفلاطون عن النفس

3.1 نظرية محاورة فيدون عن النفس

3.2 نظرية محاورة الجمهورية عن النفس

  1. نظرية أرسطو عن النفس

  2. النظريات الهلينستية عن النفس

    • نظرية أبيقور عن النفس

    • النظرية الرواقية عن النفس

  3. الخلاصة

  • قائمة المراجع

  • أدوات أكاديمية

  • مصادر أخرى على الإنترنت

  • مداخل ذات صلة


 

  1. المفهوم اليوناني للنفس

تستخدم قصائد هوميروس، التي يُفترض أنها كانت مألوفة بالنسبة لمعظم الكتاب القدماء، كلمة “نفس” بطريقتين متمايزتين، وربما مرتبطتين. فالنفس، من ناحية، شيء يخاطر به الإنسان في المعركة، ويخسره بالموت. ومن ناحية أخرى، هو ما ينفصل حين الموت عن جسد الشخص، ويرحل إلى العالم السفلي، حيث توجد آخرة، أكثر أو أقل بؤسا، لتكون مثل ظل أو صورة للشخص المتوفى. لقد اقتُرح (على سبيل المثال، بواسطة Snell 1975, 19) أن ما يشار إليه بالنفس في كلتا الحالتين، هو، في الواقع، ما يُعتقد أنه الشيء نفسه، شيء يمكن أن يخاطر به المرء ويخسره، وبعد الموت، يبقى كظل في العالم السفلي. الافتراض مقبول، لكن لا يمكن التحقق منه. على أي حال، فبمجرد مغادرة نفس الإنسان إلى الأبد، يصبح الشخص ميتاً. لذلك، فإن وجود النفس يميز الجسد الحي عن الجثة. ومع ذلك، من الواضح أن هذا لا يعني القول إنه يُنظر إلى النفس على أنها ما يفسر، أو أنها مسؤولة عن الأنشطة، والاستجابات، والعمليات، وما شابه ذلك، مما يشكل حياة المرء. لم يقل هوميروس أبدا إن المرء يفعل بفضل نفسه، أو بها، كما لم ينسب أي نشاط إلى نفس المرء الحي. وهكذا، على الرغم من أن وجود النفس أو غيابها هو ما يميز حياة المرء، إلا أنها لا ترتبط بتلك الحياة. إضافة إلى ذلك، فمن السمات اللافتة للنظر، لاستخدام هوميروس، على حد تعبير فورلي (Furley 1956, 4)، إن ذكر النفس يستدعي فكرة الموت: لا يَرِد ذكر النفس على ذهن المرء إلا عندما يفكر في أن حياته، أو حياة الآخرين، معرضة للخطر. وهكذا يقول أخيل إنه يخاطر، باستمرار، بنفسه (الإلياذة 9.322)، ويفكر أجينور في حقيقة أنه حتى أخيل لديه نفس واحدة فقط (الإلياذة 11.569). وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه في قصائد هوميروس، يُقال إن البشر فقط هم من لديهم (ويفقدون) نفوسا. في المقابل، لا يتخيل هوميروس أبدا وجود ظلال أو صور لمخلوقات غير بشرية في العالم السفلي. تشير هاتان الحقيقتان مجتمعتان إلى أنه مهما كانت الطريقة التي يُنظر بها إلى النفس دقيقة، باعتبارها مرتبطة بالحياة، فإنه يُعتقد، على أي حال، أنها لا ترتبط بالحياة بشكل عام، أو الحياة بجميع أشكالها، بل بالأحرى، بشكل أكثر تحديدا، ترتبط بحياة الإنسان.

حدثت عدة تطورات مهمة في طرق تفكير الإغريق وتحدثهم عن النفس، في القرنين السادس والخامس. وقد انبثقت الأسئلة المتعلقة بالنفس، التي تمت صياغتها ومناقشتها في كتابات أفلاطون وأرسطو، كما احتاجت إلى أن يتم تفسيرها على خلفية هذه التطورات، في القرنين السادس والخامس. أحد العوامل البالغة الأهمية هو الخفوت التدريجي للعلاقة التي أنشأها هوميروس بين ذكر نفس المرء وبين فكرة أن حياته معرضة للتلف، أو معرضة للخطر (contra Burnet 1916, 253). في اللغة اليونانية العادية، في القرن الخامس، فإن امتلاك النفس يعني ببساطة أنك على قيد الحياة، ومن هنا كان الظهور، في تلك الفترة تقريبا، للصفة “مُنح نفسا ensouled” [نُفخت فيه النفس empsuchos] باعتبارها الكلمة القياسية التي تعني: “على قيد الحياة”، والتي لم يتم تطبيقها على البشر فقط، بل وعلى الكائنات الحية الأخرى أيضا. هناك سبب ما للاعتقاد بأن كلمة “نفس” كانت قد استُخدمت بتلك الطريقة الإيجابية المباشرة بالفعل، في القرن السادس. يُقال إن طاليس الميليتي، الذي يُنسب إليه الفضل في توقع حدوث كسوف شمسي حدث عام 585، ينسب النفس إلى المغناطيس، على أساس أن المغناطيس لديه القدرة على تحريك الحديد (Aristotle, De Anima 1.2, 405a19-21) . اعتقد طاليس أنه نظرا لما تتميز  به الكائنات الحية من قدرة على إنشاء حركة، فيجب أن يكون المغناطيس حيا، أو، بعبارة أخرى، مُنح نفسا. وهكذا، بينما تحدث هوميروس عن النفس في حالة البشر فقط، نجد أن استخدام كلمة نفس، في القرنين السادس والخامس، يُنسب إلى كل نوع من الكائنات الحية. إذن، فما لدينا، في تلك الفترة، هو فكرة أن النفس هي ما يميز ما هو حي عما هو غير ذلك.

على أية حال، لا يقتصر الأمر على القول بأن النفس موجودة في كل شيء حي، بل أيضا نسبة مجموعة واسعة بشكل متزايد من طرق الفعل والتأثر، إلى النفس. وهكذا، أصبح من الطبيعي، بحلول نهاية القرن الخامس، إرجاع اللذة التي يبعثها الطعام والشراب، وكذلك الرغبة الجنسية، إلى النفس. (للاطلاع على مناقشة مفصلة، انظر  Claus 1981, 73-85). يقال للناس، على سبيل المثال، أن يقوموا بإرضاء أنفسهم بالطعام الفاخر (يوريبيديس، مسرحية إيون 1170)، ويُزعم أن أرواح الآلهة والرجال عرضة للرغبة الجنسية (fragment assigned by Nauck to Euripides’ first Hippolytus). في سياق المشاعر الشديدة، أو الأزمات، فإن مشاعرا كالحب والكراهية، والفرح والحزن، والغضب والعار، ترتبط بالنفس. “لا شيء أشد ألما على نفس الرجل من العار”، يقول أياكس في شذرة من مأساة مجهولة المؤلف، قبل أن ينتحر (نوك، شذرات تراجيدية يونانية، مجهولة المؤلف، شذرة 110 Nauck, TGF, Adesp. fr. 110). يقول أوديب أن نفسه تندب بؤس مدينته وسكانها (أوديب ملكا 64). علاوة على ذلك، ترتبط النفس أيضا، بشكل مهم، بمشاعر الجرأة والشجاعة، خاصة في المعركة. يُقال عن الرجال الشجعان، على سبيل المثال في أعمال هيرودوت وثيوسيديدس، إن لديهم أرواحا ثابتة أو قوية (راجع: تعريف لاخيس الثاني لفضيلة الشجاعة، في محاورة لاخيس لأفلاطون 192 فقرة ج، على أنها: “قوة النفس”، ومما له صلة Pindar, Pythian 1.47-8 “الصمود في المعركة بنفس ثابتة”). في نص أبقراط: الهواء والمياه والبلدان، يُنظر إلى النفس كمرادف للشجاعة، أو، كما قد يكون الحال، نقيضها: في حالة سكان الأراضي المنخفضة، فإن الشجاعة والتحمل ليست في أرواحهم بطبيعتها، ولكن يجب غرسها بالقانون (الفصل 23)، وبالمثل في المناخات اللطيفة، يكون الرجال بدناء، يعانون من آلام المفاصل، وفيهم ليونة، وبلا قدرة على التحمل، وضعفاء النفس (الفصل 24).

من الواضح أن العلاقة بين النفس وصفات مثل الجرأة، والشجاعة في الحرب، هي جانب من جوانب التطور الجدير بالملاحظة، في القرن الخامس، حيث يُنظر إلى النفس باعتبارها مصدرا، أو حاملا للصفات الأخلاقية مثل، على سبيل المثال، الاعتدال والعدالة. في خطبة جنازة بريكليس التي ضمَّنها ثوسيديديس في روايته عن الحرب البيلوبونيزية، يقول إن أولئك الذين يفرقون، بكل وضوح، بين اللطيف والمريع، ومع ذلك لا يبعدهم هذا عن الخطر، يُحكم عليهم بحق بأنهم “الأقوى، فيما يتعلق بالنفس” (2.40.3). يشير هذا النص، وغيره من النصوص المشابهة (راجع أيضا: هيرودوت 7.153)، إلى امتداد دلالي، بحسبه تأتي كلمة “النفس” للدلالة على الشخصية الأخلاقية للمرء، في غالب الأحيان، وليس دائما، مع مراعاة خاصة لصفات مثل التحمل، والشجاعة. في حين أن الارتباط بالشجاعة واضح في عدد من النصوص، إلا أن هناك نصوصا أخرى تتصف فيها النفس بصفات أخرى رائعة، مثلما في شذرة يوريبيديس، التي تتحدث عن الرغبة التي تتصف بها النفس بأنها عادلة، ومعتدلة، وصالحة. (شذرة 388). يصف هيبوليتوس نفسه، في مسرحية يوريبيدس التي سميت باسم هيبوليتوس، بأنه يمتلك “نفسا عذراء”  (Hippolytus 1006)، وذلك ليستحضر زهده عن ممارسة الجنس. في القصيدة الثانية، من قصائد الأوليمب، لبيندار، جاء الخلاص كوعد لأولئك الذين “يحفظون أرواحهم عن الأعمال غير العادلة” (2.68-70). ربما تأثر النصان الأخيران المذكورين بالمعتقدات الأورفية، ومعتقدات فيثاغورس، حول خلود النفس وطبيعتها، والتي سننتقل إليها في الوقت المناسب. لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن وصف النفس بأنها أخلاقية (أي: ارتباطها بالصفات الأخلاقية) يعتمد كليا على التصورات الأورفية وتصورات فيثاغورس. سيتم، على أقل تقدير، تجاهل علاقة النفس بالشجاعة، في الشعر، ولدى المؤرخين، وكتابات أبقراط.

بالنسبة للمثقفين المتحدثين باليونانية، في القرن الخامس، كان سيكون من الطبيعي أن يفكروا في صفات النفس باعتبارها تُمثل، وتتجلى في السلوك الأخلاقي للمرء. يتصرف بريكليس بشجاعة، ويتصرف هيبوليتوس باعتدال (أو بعفة)، بسبب صفات نفوسهم، التي تميل مثل هذه الأفعال بقوة إلى الصدور عنها، وتوضح أفعالهم، وتعبر عن الشجاعة والاعتدال، وما شابه ذلك، مما يميز نفوسهم. ما أن نكون في موقع يسمح لنا بفهم العلاقة بين النفس والصفة الأخلاقية، التي شعرنا بالفعل أنها صارت طبيعية في هذه المرحلة، فلا ينبغي أن يكون مفاجئا أن النفس تعتبر أيضا مشاركة في أنشطة مثل: التفكير والتخطيط. إذا كانت النفس، بمعنى ما، مسؤولة عن الأفعال المتسمة بالشجاعة، على سبيل المثال، فمن المتوقع أن تدرك النفس، في هذه الظروف، ما تتطلبه الشجاعة، وكيف يُؤدى، عند مستوى مناسب من الحدث، الفعل الشجاع. وهكذا في خطبة أنتيفون، تم حث هيئة المحلفين على “أن تنزع عن المتهم النفس التي خططت للجريمة”، في تجاور، لافت للنظر ،لأفكار النفس المسؤولة عن الحياة (كما عند هوميروس) والنفس كمسؤولة عن الفكر العملي. بشكل مشابه إلى حد ما، في شذرة سوفوكليس (شذرة 97) يقول أحدهم: “النفس الطيبة، ذات الأفكار العادلة مبدعة بأفضل من أي سفسطائي” (راجع أيضا: يوريبيديس، أوريستوس). علاوة على ذلك، فمن السهل ملاحظة أن هناك صلات بين الاستخدامات المألوفة للفظةـ “النفس”، في السياقات العاطفية والإسنادات إلى النفس المعرفية، والأنشطة والإنجازات الفكرية. بعد كل شيء. لا يوجد، في نهاية الأمر، فرق واضح ومحدد، على سبيل المثال، بين أن تكون في حالة خوف شعورية، وبين امتلاك فكرة أو تصور مفزع. عندما تندب نفس أوديب، أو تكتوي نفس أياكس بالخزي، فمن الواضح أن العاطفة تسير جنبا إلى جنب مع الإدراك، وإذا كان من الطبيعي إحالة أحدهما إلى النفس، فلا ينبغي أن يكون هناك شيء محير بشأن إسنادها إلى الآخر. وهكذا، في اللغة اليونانية غير الفلسفية، في القرن الخامس، نُظر إلى النفس كحامل للصفات الأخلاقية، وأيضا باعتبارها مسؤولة عن الفكر العملي والإدراك. لمزيد من المناقشة، انظر هذا الملحق على الادعاءات المخالفة لبيرنيت 1916:

ملحق: بيرنيت: عن المفهوم اليوناني للنفس

خضعت كلمة “نفس”، من هوميروس إلى نهاية القرن الخامس، لتوسع دلالي ملحوظ، في الوقت الذي  أصبح من الطبيعي عدم الاقتصار، عند التحدث عن النفس، على أنها ما يميز الأحياء عن الموتى (ليس نفس التمييز)، والكائن الحي عن الجماد، ولكن، أيضا، أصبح يُنسب إلى النفس مجموعة متنوعة من النشاطات والاستجابات المعرفية، وكذلك العاطفية، والتفكير فيها على أنها حامل للفضائل، مثل الشجاعة، والاعتدال، والعدالة. نتيجة لهذه التطورات، أتاحت اللغة شيئا تفتقر إليه اللغة اليونانية الهوميرية؛ وهو التمييز بين الجسد والنفس. هكذا فإن المؤلف الأبقراطي لكتاب الهواء، والمياه، والبلدان، يكتب عن “التحمل في الجسد والنفس” (الفصل 23). يقول أنتيفون، عن مدعى عليه على يقين من براءته، أنه على الرغم من أن جسده قد يستسلم، فإن نفسه تنقذه من خلال استعدادها للنضال، من خلال معرفة براءتها. بالنسبة للمذنب، من ناحية أخرى، حتى الجسد القوي لا طائل من ورائه؛ لأن نفسه تخذله، “معتقدا أن الانتقام الذي سيناله هو من أجل عدم تقواه” (Antiphon 5). على النقيض من ذلك، فإن هوميروس يعرف ويتحدث عن مجموعة كبيرة من المصادر المختلفة، وحوامل للمسندات النفسية، لكنه يفتقر إلى كلمة مفردة لتدل على النفس كعنصر واحد، يمكن إحالة المسندات موضع التساؤل إليه، بطريقة أو بأخرى، والتي يمكن تمييزها عن الجسد ، وتتناقض، في سياقات مناسبة، معه (راجع: Snell 1975, 18-25).

 

  1. التفكير في النفس ما قبل سقراط

انعكس التوسع الدلالي لـلفظة “النفس”، في القرنين السادس والخامس، في الكتابات الفلسفية لتلك الفترة. فعلى سبيل المثال، بمجرد أن أصبح من الطبيعي التحدث عن النفس باعتبارها ما يميز الكائن الحي عن الجماد، عوضا عن الحديث عنها كأمر يقتصر على البشر، يتضح أن مجال الأشياء التي وهبَت أرواحا، لا يقتصر على الحيوانات، بل يشمل النباتات أيضا. اعتقد أمبادوقليس، وعلى ما يبدو، فيثاغورس (cf. Bremmer 1983, 125) أن للنباتات أرواحا، وأن أرواح البشر، على سبيل المثال، يمكنها أن تنتقل إلى النباتات. (لاحظ، مع ذلك، أن أمبادوقليس، في الشذرات الباقية، نادرا ما يستخدم كلمة “نفس”، مفضلا كلمة daimôn القوى الإلهية الحاكمة). ادعى أمبادوقليس أنه كان شجيرة في تجسد سابق، وكذلك، من بين أشياء أخرى، أنه كان طائرا وسمكة (fr. 117, Kirk, Raven & Schofield 1983 [in what follows KR&S], 417) . وعلى نحو عارض، أشار أمبادوقليس، مثلما فعل أنكساجوراس وديموقريطيس إلى النباتات على أنها حيوانات، ربما، على وجه التحديد، لأنها حية. (zên، التي اشتقت منها كلمة حيوان، zôon) (لمزيد من التفاصيل، راجع: Skemp 1947, 56  ). وقد تابعه أفلاطون في ذلك (محاورة طيماوس 77b)، ولكن، المؤكد، إن أرسطو لم يفعل (عن النفس 2.2, 413b1f ).

هناك، علاوة على ذلك، سبب للاعتقاد بأن النشاط الفلسفي، ولا سيما تكهنات فيثاغورس (بداية من منتصف القرن السادس تقريبا)، قد ساهم في التوسع الدلالي لـلفظة “النفس”. وكما رأينا، فأن بعض النصوص القديمة الموجودة، على الأقل، والتي تربط بين النفس وبين الفضائل الأخلاقية، بخلاف الشجاعة، تفترض تأثير فيثاغورس. ليس من الصعب، في الواقع، أن نرى كيف أمكن للفيثاغورية تعزيز التوسع الدلالي للفظة “النفس”. كانت الفيثاغورية مهتمة، من بين أمور أخرى، بالوجود المستمر للمرء (أو شيء يشبه المرء بشكل ملائم) بعد الموت. من الواضح أنه مقابل الخلفية الهوميروسية، كانت “النفس” كلمة مناسبة، بشكل بارز، لاستخدامها للإشارة إلى الشخص، أو شبه الشخص، الذي استمر في الوجود بعد الموت، كان هناك، في النهاية، استخدام هوميروس المألوف لكلمةـ “النفس”، ذلك الشيء الذي يبقى في العالم السفلي، بعد موت الشخص. من أجل جعل استمرار وجود هذه النفس مهما، مثل استمرار وجود الشخص المعني، يجب لبعض الحالات، والأنشطة، والعمليات، وما شابهها ، على الأقل، والتي بدت بالغة الأهمية بالنسبة لهوية الشخص، أن تُنسب إلى النفس (متابعة لـ Furley 1956, 11، الذي يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ كتب عن الحاجة إلى النفس “لتشمل جميع وظائف الشخصية”، راجع: Barnes 1982, 103-6; Huffman forthcoming ). نجد التوضيح الجيد لهذا الاتجاه في قصة عن فيثاغورس، نقلها إكسينوفان (شذرة 7, KR&S 260): “ذات مرة، حسبما ذكروا، كان فيثاغورث يمر بالقرب من جرو يُجلد، فأشفق عليه، وقال للضارب:” توقف، لا تضربها، إنها نفس صديق عرفته من صوتها [أي صوت النفس!]”. لا يتعلق الأمر فقط بأن نفس صديق فيثاغورس هي المسؤولة عن صفة الصياح (أو أي شيء آخر). في الواقع، أن ما نُقل عن فيثاغورس يعني إن نفس صديقه هي التي تصرخ!

ينسب هيرقليطس (ظهر حوالي عام 500 قبل الميلاد)، الذي يذكر فيثاغورس مرارا وتكرارا، الحكمة إلى النفس، بشرط أن تكون في الظرف أو الحالة الصحيحين: إن “النفس الجافة”، يزعم، “هي الأفضل والأكثر حكمة” (شذرة 118، KR&S 230). ربما كان هو أول مفكر يعبر بوضوح عن علاقة بين النفس والوظائف الحركية. يلاحظ هيرقليطس أن “الرجل في حال سكره، يقوده فتى صغير، يتعثر ولا يدري إلى أين هو ذاهب، كون نفسه رطبة” (شذرة 117، KR&S 231). في أكثر التفسيرات منطقية لعبارة هيرقليطس، فإنه يقول إن السكران يتعثر ، لأن قدراته الإدراكية قد ضعفت، وأن الضعف ناتج عن رطوبة النفس (Schofield 1991, 22). ومثل الكثير من مفكري القرن السادس والخامس (أو في الواقع جميعهم)، الذين عبَّروا عن وجهات نظرهم حول طبيعة أو تكوين النفس، اعتقد هيرقليطس أن النفس مادية، لكنها تتكون من مادة نادرة، أو رائعة بشكل غير عادي، على سبيل المثال. من الهواء أو النار. (الاستثناء المحتمل هو فيلولاوس الفيثاغوري، الذي ربما يكون قد اعتقد أن النفس هي “تناغم” الجسد، راجع: Barnes 1982, 488-95, and Huffman). تفسر سيطرة فكرة مادية النفس غياب مشكلات في العلاقة بين النفس والجسد. إذ لم يكن يُعتقد أن النفس والجسد يختلفان جذريا في النوع، وأن اختلافهما يقوم فقط في اختلاف درجة الخصائص، مثل النقاء، وسلاسة الحركة.

 

  1. نظريات النفس عند أفلاطون

أدت التطورات المختلفة، التي حدثت في القرنين السادس والخامس، في الكيفية التي يفكر بها الإغريق ويتحدثون عن النفس، إلى فكرة معقدة للغاية، تصدم المرء لوضوح قربها من التصورات التي نجدها في نظريات القرن الرابع الفلسفية، عن النفس، وبشكل خاص نظرية أفلاطون. هناك، بالتالي، سبب ما للاعتقاد بأن النظريات الفلسفية المعنية، يتم تفسيرها بشكل أفضل باعتبار أنها تعالج، وتعمل على المفهوم العملي نسبيا للنفس، والذي أصبح، عند نهاية القرن الخامس، جزءا لا يتجزأ من اللغة العادية. فيما يلي، سينصب اهتمامنا على بيان الخصائص المميزة لبعض النظريات المعنية. لكن يجب علينا أيضا أن نعتني، حيثما يبدو هذا مناسبا ومفيدا، بالطرق التي قد يمكننا بها الإلمام بالمفهوم الاعتيادي للنفس من أن نفهم، بشكل أفضل، سبب استمرار نظرية ما، أو حجة ما، بالطريقة التي واصل وجوده بها. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نلاحظ الطرق التي قد يبدو أن النظريات الفلسفية تبين، من خلالها، وتزيد توضيح المفهوم الاعتيادي. نبدأ بأفلاطون، وبمسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمفهوم الاعتيادي للنفس، كما تطور من قصائد هوميروس فصاعدا، أي: ما إذا كانت نفس المرء تبقى بالفعل بعد موت الشخص.

 

3.1 نظرية النفس في محاورة فيدون

ربما يكون صحيحا، في الثقافة اليونانية السائدة في القرن الخامس، أن الاعتقاد بالحياة الآخرة للنفس كان ضعيفا وغير واضح (Claus 1981, 68; Burnet 1916, 248-9). إذا كان الأمر كذلك، فمن المناسب أن تُعرض حجج سقراط حول خلود النفس، وبنحو بارز في محاورة فيدون، على المحاورين، الذين بدوا، في مستهل المناقشة، غير مقتنعين، بأي حال من الأحوال، بالفكرة. (في الواقع، تم تقديم سقراط نفسه، في محاورة الدفاع، فقرة 40c، على أنه غير ملتزم بشأن ما يحدث للنفس عند الموت، وحتى حول ما إذا كانت ستبقى أصلا). “إن الشك يملأ صدور الرجال” يقول سيبس في الفقرة 70a، من محاورة فيدون “وفيما يتعلق بما ذكرته عن النفس. فإنهم يعتقدون أنه بمفارقة النفس للجسد لا يعود لها وجود في أي مكان، بل تتلف، وتتبدد في يوم وفاة الرجل”. تمت إعادة صياغة هذا الرأي من قبل سيمياس (في الفقرة 77b ( باعتبارها رأي الأغلبية (راجع الفقرة 80d)، مع ملاحظة أن هذا القول يتضمن فكرة أن النفس شيء مادي، وهلك بالتبدد، “كأنها نَفَس أو دخان” (70a). فوجئ جلوكون، في الكتاب الأخير لمحاورة الجمهورية (608d)، بسؤال سقراط:

“ألم تدرك أن أرواحنا خالدة، ولا تتبدد أبدا؟” ينظر إليه مندهشا، وقال: “لا، حقا لم أدرك ذلك. هل يمكنك فعلا تأكيد ذلك؟ “

بالإضافة إلى ذلك، بصرف النظر عن مسألة الخلود أو غير ذلك، هناك سؤال إضافي؛ عما إذا كانت النفس، إذا كانت تتصف بشكل من أشكال الوجود بعد موت الشخص، “لا تزال تمتلك بعض القوة والحكمة” (محاورة فيدون، 70b، قارن 76c). لا يقتصر سقراط، في إجابته على السؤالين، على القول بأن النفس خالدة، ولكنها أيضا تتأمل الحقائق، بعد مفارقتها للجسد بموته. وغني عن القول، أن أيا من الأسطر الأربعة الرئيسية للحجة، التي استفاد منها سقراط لتأكيد رأيه، نجحت في إثبات خلود النفس، أو في إثبات أن الأرواح المفارقة للجسد تتمتع بحياة من الفكر والذكاء. تمت مناقشة الحجج بقدر من التفصيل، على سبيل المثال؛ في Bostock 1986، وفيما يخص مقاصدنا، فليس هناك حاجة لذكرها وتحليلها بشكل منهجي. يكفي التعليق بشكل انتقائي على جوانب من الحجج، تلك التي تتصل، بشكل مباشر، بمفهوم أفلاطون عن النفس. الحجة التي تلقي الضوء الأكبر على ما يراه أفلاطون كطبيعة للنفس، وهي حجة التقارب The Affinity Argument (78b-80b). تتصدى هذه الحجة، بشكل مباشر، للقلق السائد من أن النفس، عند الموت أو بعده بقليل، تهلك بالتبدد. تبدأ الحجة بالتمييز بين نوعين من الأشياء: من ناحية: الأشياء المحسوسة، وتتركب من أجزاء، وهي عرضة للتحلل والهلاك، ومن ناحية أخرى: الأشياء اللا محسوسة، ولكنها معقولة (مدركة بالفكر)، ولا تتكون من أجزاء، ولا تتعرض للتحلل أو الهلاك. من الواضح أن هاتين الفئتين متنافيتان. ليس من الواضح ما إذا كان المقصود منهما أن تكونا شاملتين أم لا. علاوة على ذلك، يتم تمثيل فئة الوجود غير القابل للفساد، والمعقول، ولكن، يبدو أنه لم يتم استنفادها بواسطة المُثُل الأفلاطونية؛ مثل المساواة، والجمال، وما أشبه (contra Bostock 1986, 118). من الواضح أن الوجود المعقول يتضمن ما يدعوه سقراط: الإلهي، الذي بطبيعته يحكم ويقود (80a)، وليس هناك ما يشير إلى أن المُثُل تعالج الإلهي، أو حتى تشمله، وفق ذلك. وهكذا فإن الحجة تترك مجالا لفكرة أن الأرواح ليست مُثلا، لكنها، مع ذلك، معقولة، وغير منقسمة، وغير قابلة للفساد (contra Robinson 1995, 29). في الواقع، إن صياغة الحجة، بالطريقة التي قام بها أفلاطون، يؤسس للإطار المفاهيمي المطلوب للقول بأن الجسد والنفس يختلفان في النوع، أحدهما محسوس وقابل للفساد، والآخر معقول ولا يتعرض للفناء. ومع ذلك، فإن الحجة لا تدعم مثل هذا الاستنتاج القوي، وسقراط مدرك لذلك.

ما يفعله، في الواقع، يخلص إلى أن النفس هي أشبه وأقرب إلى وجود معقول، وأن الجسد يشبه، إلى حد كبير، كائنا محسوسا وقابلا للفناء. من الواضح أن القول بذلك لا يعني التأكيد أو الإيحاء (كما يبدو أن روبنسون 1995، 30، يعتقد) بأن النفس، بطريقة أو بأخرى، تقصُر عن أن تكون وجودا معقولا، وغير قابل للفساد، كما لا يعني التأكيد أو الإيحاء بأن الجسد، بطريقة أو أخرى، يقصُر عن، أو بالأحرى يرقى عن كونه مجرد كائن محسوس وقابل للفساد. تترك الحجة الأمر مفتوحا، بخصوص ما إذا كانت النفس عضوا معتبرا تماما في الواقع المعقول، بالطريقة التي تكون بها الأجسام البشرية أعضاء معتبرة تماما في الواقع الحسي، أو ما إذا كانت النفس، بدلا من ذلك، ذات مكانة وسيطة بين الوجودين المعقول والمحسوس، وترقى على الأخير، لكنها تقارب الأول. يبدو أن سقراط يستخدم استنتاجه ليوحي، أو على الأقل ليقترح بقوة، أنه من الطبيعي أن تكون النفس إما “كلٌ لا يتجزأ، أو أقرب إلى ذلك”، ولكن، على أي حال، أن النفس أقل عرضة للانحلال والهلاك من الجسد، وليس، كما تقول النظرة الشعبية، أكثر منه. إذا ما تقرر هذا الموقف، فإن سقراط في وضع يسمح له بدحض الرأي السائد، الذي يذهب إلى أن النفس، لكونها مادة أثيرية، أكثر عرضة للتبدد والفناء من الجسد. ومع ذلك، كما يشير سيبيس (88b)، ما لم يتمكن سقراط من إثبات أن النفس لا يصيبها الفناء، فإن الثقة في النجاة عند مواجهة الموت تكون في غير محلها. قد تكون نفس سقراط أقوى بكثير من جسده، ولكن طالما أنها ليست محصنة ضد الفناء حقا، فلا يمكن أن يكون هناك ضمان بأنها ستنجو بعد موت سقراط الوشيك. لأنه يحتمل أنها شهدت بالفعل عددا من التجسدات، وربما يكون تجسدها الحالي هو الأخير. لذلك يطلق سقراط حجته الأخيرة والأكثر تفصيلا، عن خلود النفس، والتي تخلص إلى أنه بما أن الحياة تنتمي إلى النفس بنحو جوهري، يجب أن تكون النفس غير قابلة للموت – أي: خالدة.

من المفترض أن لا تُظهر حجة التقارب أن النفس تشبه إلى حد كبير وجودا معقولا وغير قابل للفناء، فقط، ولكن أيضا أنها أقرب إلى ذلك. يرى سقراط أن النفس تشبه وجودا معقولا باعتبار أنها غير مرئية، وبشكل عام، غير محسوسة (على أي حال بالنسبة للبشر، كما يضيف سيبيس في 79b)، وأنها تتشارك في وظيفتها الطبيعية مع الإلهي، بمعنى: أنها تحكم وتقود (الجسد من ناحية، والبشر من ناحية أخرى). هناك حجة منفصلة لقرابة النفس بالوجود المعقول. عندما تستخدم النفس الحواس وتُعني بالمحسوسات، “فإنها تبتعد وتتشوَّش وتضطرب كأنها سكرى” (79c). على النقيض من ذلك، عندما تبقى “بذاتها في ذاتها”، وتتفحص المعقولات، ينتهي اضطرابها، وتحقق الاستقرار والحكمة. لا يقتصر الأمر على أن النفس، في حالة أو أخرى، تعتمد على نوع الموضوع الذي تعتني به، بحيث تتوافق حالتها، بطريقة أو بأخرى، مع طبيعة هذا الموضوع المعني. لن يُظهر هذا، في حد ذاته، أن النفس أقرب إلى أحد المجالات أكثر من الآخر (هذه هي نقطة نقد بوستوك، Bostock 1986, 119). لفهم الحجة بشكل صحيح، من الأهمية بمكان ملاحظة أنه عندما تعنى النفس بالمحسوسات، فإنها تتأثر سلبا، بطريقة تؤدي، على الأقل، إلى ضعف وظيفتها مؤقتا (“مشوشة، كما لو كانت في حالة سكر”)، في حين أن لا يكون هناك مثل هذا الاضطراب، عندما تتفحص المعقولات (راجع خوف سقراط، في 99eـ، بأن فحص الأشياء عن طريق الحواس قد يصيب نفسه بالعمى). وهكذا فإن الادعاء بأن النفس تقارب الواقع المعقول يستند، على الأقل جزئيا، إلى وجهة النظر القائلة بأن الواقع المعقول ملائم، بشكل خاص، للنفس، حيث يزودها بنطاق من الموضوعات المتعلقة بها، وفقط فيما يتعلق بما يمكن أن يعمل دون تثبيط وتشوش، وفي توافق تام مع طبيعتها الخاصة، من أجل  تحقيق حكمتها الأكثر تطورا والأفضل حالا.

لا يحتاج الأمر إذن إلى الإشارة إلى أن النفس، كما تصورها أفلاطون في محاورة فيدون، تتميز بشكل حاسم بالصفات الإدراكية والعقلانية: إنها شيء يفكر، إلى حد ما، استنادا إلى مدى اضطرابها أو تشوشها، بتأثير الجسد والحواس، شيء ينظم ويتحكم في الجسد ورغباته وعواطفه، “خاصة إذا كانت نفسا حكيمة” (94b)، ويفترض أن يكون ذلك بطريقة تنطوي على أحكام، وتجعلها فعالة، حول ما هو الأفضل للقيام به، وكيف يمكن القيام به بأفضل طريقة، وهي شيء لديه، كنوع من الزينة المناسبة له حقا، فضائل كالاعتدال، والعدالة، والشجاعة (114e). لكن، يجب أن يكون واضحا أن النفس، كما تم تصورها هنا، ليست هي العقل، كما نتصوره. إنها، معا، أوسع وأضيق من ذلك. إنها أوسع من حيث أن أفلاطون يحتفظ، بشكل واضح، بالفكرة التقليدية للنفس على أنها ما يميز الكائن الحي عن الجماد. يعتمد اثنان من الخطوط الأربعة الرئيسية للحجة حول خلود النفس، ليس على السمات الإدراكية، أو ، على وجه التحديد، السمات النفسية للنفس، ولكن ببساطة على العلاقة المألوفة بين النفس والحياة. وفقا لحجة الأضداد (70c-72d)، فإن البقاء حيا يسبقه، بشكل عام، تماما كما أنه سبق، الموت. يستخدم سقراط هذه الحجة ليبين أن موت كائن ما ينطوي على الوجود المستمر للنفس المعنية، والتي تستمر عبر فترة الانفصال عن الجسد، ثم تعود لتُحيي جسدا آخر، في تغيير مطابق للتغيير السابق، الموت. وفقا للسطر الأخير من الحجة الذي قدمه سقراط في محاورة فيدون، فإن النفس خالدة؛ لأنها تمتلك الحياة بنحو جوهري، مثلما تملك النار حرارة بنحو جوهري. من الجلي أن هاتين الحجتين تنطبقان على أرواح جميع الكائنات الحية، بما في ذلك النباتات (راجع: 70d, 71d). وفي الحجة الأخيرة، يناشد سقراط صراحة فكرة أن النفس هي التي تحمل الحياة إلى جسد الكائن الحي (105c):

ما الشيء الذي يوجد في الجسد فيجعله حيا؟ – نفس.

الآن، كما رأينا بشيء من التفصيل، تضمن المفهوم اليوناني للنفس فكرة النفس كجسد متحرك، منذ القرن السادس، على الأرجح، عندما نسب طاليس النفس إلى المغناطيس. إن الروابط بين النفس وبين الصفات الأخلاقية المهمة؛ مثل الشجاعة، والاعتدال، والعدالة، وبينها وبين الوظائف الإدراكية والعقلانية، لا سيما التخطيط، والفكر العملي، قد ترسخت بقوة في الاستخدام المألوف للغة اليونانية في القرن الخامس. لكن من غير الواضح ما إذا كانت الفكرة العادية عن النفس، كما تطورت ،بداية من قصائد هوميروس وحتى نهاية القرن الخامس، هي فكرة جيدة الصياغة ومتماسكة، فكرة يمكن أن تدعم، بشكل مناسب، الدور البارز جدا، الذي حدده أفلاطون للنفس، في محاورة فيدون، وكذلك في المحاورات الأخرى. ربما يكون الأمر الأكثر إلحاحا هو أنه من غير الواضح ما إذا كان ما يميز الكائن الحي عن الجماد هو الشيء ذاته، الذي يعد مسؤولا، في حالة بعض الكائنات الحية، عن الوظائف الإدراكية؛ مثل الإدراك الحسي والفكر، والذي يعد حاملا، بالتحديد في حالة البشر، للصفات الأخلاقية، مثل العدل، والشجاعة، وما شابه. لم يُطرح هذا السؤال صراحة، كما لم يتم حله، بالطبع، في محاورة فيدون، لكن مقطعا في محاورة الجمهورية (352d-354a)، والتي سنوليه بعض الاهتمام في القسم 3.2، يشير إلى أن أفلاطون أعتبر المفهوم العادي للنفس، بكل ثرائه وتعقيداته المحيرة، بأنه حسن الصياغة ومتماسك، وقادر على دعم متطلبات نظريته الخاصة.

بافتراض أن فكرة أن النفس هي المميزة لجميع الكائنات الحية، بما في ذلك النباتات، فإن المفهوم اليوناني للنفس، كما رأينا بالفعل، أوسع من مفهومنا للعقل. لأنه من الممكن، على الأقل، وربما كان ذلك صحيحا في واقع الأمر، أن هناك كائنات حية (ومن ثم تتضمن نفسا) بدون عقول، أي، إن جاز لنا القول، لا تملك رغبة أو إدراكا حسيا أو عقليا. (يبدو أن أفلاطون يعتقد أن النباتات لديها عقول بهذا المعنى، لأنه يعتبر أنها تظهر رغبة، وإدراك حسي (محاورة طيماوس 77b)، ولكن من المحتمل أن يُفترض أنها مسألة واقعة أو استنتاج تجريبيين، وليست مجرد نتيجة، ناشئة من حقيقة أن للنباتات أرواح).

من ناحية أخرى، فإن تصور النفس، الذي يظهر في محاورة فيدون، هو أضيق بكثير من تصورنا للعقل، من حيث أن النفس، كما تم تصورها، في هذا الحوار تحديدا، ليست مسؤولة، في الواقع، أو ليست مسؤولة بشكل مباشر، عن جميع أنشطة المرء واستجاباته العقلية أو النفسية، ولكنها مسؤولة فقط عن مجموعة فرعية، محدودة للغاية، منها. يعزو سقراط مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحالات العقلية (وما إلى ذلك)، ليس إلى النفس، ولكن إلى الجسد (الحي)، على سبيل المثال: المعتقدات والملذات (83d)، والرغبات والمخاوف (94d). في الوقت نفسه، النفس ليست عقلانية بشكل ضيق: إذ لديها أيضا رغبات (81d)، بل ورغبات عاطفية (مثل: حب النفس غير الفلسفي للجسد، 80b)، والمتع أيضا، مثل متع التعلم (114eـ). علاوة على ذلك، فإن وظائف النفس، كما رأينا، ليست مقتصرة على فهم الحقيقة وتقديرها، بل تشمل، بشكل بارز، تقويم الجسد، والتحكم فيه وضبط مشاعره (مثل الاعتقادات، والمتع، والرغبات، والمخاوف)، وذلك، بلا شك، في ضوء الأحكام المناسبة، التي تم التوصل إليها، أو تم، بأي حال، دعمها والتحكم فيها عن طريق التفكير. يبدو أن النفس، بحسب محاورة فيدون، في الواقع، هي بالضبط ما تم تحديده في الكتاب الرابع من محاورة الجمهورية، بأنه مجرد جزء واحد فقط من النفس، أي النفس العاقلة، في حين يتم تعيين وظائف الأجزاء الدنيا؛ الشهوانية والغضبية، في الإطار النفسي لمحاورة فيدون، للجسم الحي. وكما أن وظائف العقل (في محاورة الجمهورية) والنفس (في محاورة فيدون) لا تقتصر على الإدراك، وإنما تتضمن الرغبة والعاطفة، مثل الرغبة في التعلم ومتعة التعلم، فإن وظائف النفس غير العقلانية (في محاورة الجمهورية) والجسد (في محاورة فيدون) لا يقتصران على الرغبة والعاطفة، بل يشملان الإدراك، مثل الاعتقادات (على الأرجح) المتعلقة بموضوعات الرغبة، “الوصفية” أو (بالأحرى) غير التقييمية (“يوجد طعام هناك”) وكذلك (contra Lovibond 1991, 49) التقييمية (“هذا المشروب لذيذ”) (راجع: محاورة فيدون 83d ).

إحدى السمات المدهشة، إلى حد ما، وربما المحيرة، في إطار عمل محاورة فيدون، هي تلك: من ناحية، من الواضح أن سقراط يعتبر النفس مسؤولة، بطريقة ما، عن حياة أي كائن حي، وبالتالي، فمن المفترض أن تكون مسؤولة عن جميع الأنشطة المختلفة (وما إلى ذلك) التي تشكل، أو تشارك بشكل حاسم، في حياة أي كائن حي. ومن ناحية أخرى، يعتبر أيضا أن هناك فئة محدودة من الأنشطة، تعد النفس مسؤولة عنها بطريقة خاصة، وبهذا، لا تكون النفس، في الواقع، مسؤولة بهذه الطريقة الخاصة عن جميع الأنشطة ذات الصلة، والتي تشارك فيها الكائنات الحية. بالتالي، على ضوء فكرة أن النفس مسؤولة، بطريقة أو بأخرى، عن مجمل حياة أي كائن حي، يتوقع المرء، بالتأكيد، أن تكون مسؤولة، بطريقة أو بأخرى، عن ( على سبيل المثال) رغبات وعواطف واعتقادات الكائنات الحية، التي تتضمن حياتها مثل هذه الحالات النفسية – وليس فقط بالنسبة لبعض المجموعات الفرعية المحددة من هذه الرغبات والعواطف والمعتقدات، ولكن، في الواقع، لجميع هذه الرغبات والعواطف والاعتقادات. ومع ذلك، فإن عزو سقراط إلى النفس جميع الرغبات والعواطف واعتقادات العقل فقط (لاستخدام إطار محاورة الجمهورية) يتوافق تماما مع الرأي بأن النفس مسؤولة عن جميع أنشطة الحياة التي تقوم بها الكائنات الحية، بما في ذلك، بالطبع، الرغبات (وغيرها) مما هو، في نطاق محاورة الجمهورية، النفس غير العقلانية. ما يحتاج إليه سقراط هو شيء ما، يمكنه ضمان توفير صياغة مناسبة للطرق المختلفة التي يمكن من خلالها القول بأن النفس مسؤولة عن الأنشطة المتصلة بالكائن الحي. إحدى هذه الطرق، أن تكون قادرا على الانخراط في النشاط المعني بأي شكل، ويجب أن يكون الكائن الحي قد مُنح نفسا، وربما قد مُنح نفسا بشكل معين (على سبيل المثال: على النحو الذي تكون به نفس الحيوانات، وليس على النحو الذي تكون به نفس النباتات). طريقة أخرى (أقوى) يمكن للنفس أن تكون بها مسؤولة عن نشاط ما هي بشكل مباشر: بدلا من أن تكون هي الشيء الذي بفضله يمكن للكائن أن يفعل، أو أن يخضع لشيء ما أو غيره (على سبيل المثال: أن يصبح ظمآنا، وتشكل الرغبة في الشرب على أساس من ذلك)، فيمكن للنفس أيضا أن تؤدي أنشطة بذاتها (على سبيل المثال: التأمل في الحقائق الرياضية). لذلك، لإعادة البيان بشكل أكثر وضوحا، إلى حد ما: فإن تصور محاورة فيدون عن النفس أضيق من تصورنا للعقل، بالطريقة التالية. إن نطاق الأنشطة (وما إلى ذلك) التي تكون النفس مسؤولة عنها بشكل مباشر، والتي يمكن وصفها بأنها أنشطة النفس، بالمعنى الدقيق للكلمة، أضيق بشكل كبير من نطاق الأنشطة العقلية. فهي لا تشمل جميع رغبات المرء، كما لا تحتاج إلى تضمين جميع الاستجابات العاطفية، أو حتى جميع الاعتقادات. من الواضح أنه لا يمكن للمرء أن يكون لديه (على سبيل المثال) رغبات “جسدية”، مثل الجوع والعطش، دون أن يكون حائزا لنفس، لكن هذا لا يعني أنه يجب أن تكون النفس ذاتها هي التي تشكل، أو تدعم، مثل تلك الرغبات.

ما إن نفهم نظرية محاورة فيدون عن النفس بشكل صحيح، نصبح في وضع يسمح لنا برؤية أنها تقدم إطارا نفسيا يتصف بالتماسك، وإن لم يتم التعبير عنها بشكل تام. لكن يجب أن نلاحظ أيضا أن النظرية، إلى حد ما، غير مرضية، حيث يبدو، بنحو لافت للنظر، أنها تفشل في التعبير بشكل مناسب عن وحدة العقل. إن الأنشطة المختلفة (وما إلى ذلك) التي نصفها بأنها عقلية أو نفسية، مثل: (وهي الأكثر أهمية) الرغبة والإدراك، تبدو أنها، أو تظهر لنا على أنها أنشطة لموضوع واحد متكامل، ولا تبدو (عادة) أنها تنتمي إلى مجموعة من العناصر المتميزة، والتي تعمل، بشكل أو بآخر، على نحو منفصل عن بعضها البعض. عندما انقطع تأمل سقراط في الحقائق الرياضية، بسبب الرغبة الشديدة في الطعام، لم يبدو أن الأمر وكأن شيئا واحدا (لنقل: نفسه) كان يقوم بالتأمل، وأن شيئا آخر (لنقل، جسده) هو ما يريد الآن أن يأكل شيئا. بل الأحرى، أن كلا من التأمل، والرغبة في تناول الطعام، ينتميان إلى موضوع واحد متكامل، بغض النظر عما إذا كنا نريد أن نقول إن الموضوع المعني هو عقل سقراط، أو ما إذا كنا نفضل القول إنه سقراط، بقدر ما لديه من عقل (أو شيء من هذا القبيل). حسبما هو الحال، فإن النظرية النفسية في محاورة فيدون تنسب تأمل سقراط مباشرة إلى نفسه، لكنها تنأى برغبته في الطعام بعيدا عنها بشكل غريب، وعلى ما يبدو، فأنها ترى أن الرغبة “الجسدية”‘ (على سبيل المثال) ترتبط بالنفس بنفس الطريقة التي ترتبط بها العمليات (مثلا) في التمثيل الغذائي والنمو. (وهي تحدث فقط لأن جسده يملك نفسا). ومن المعقول، وإن لم يكن مؤكدا، أن أفلاطون شعر بقوة هذه المشكلة. وعلى أي حال، فقد تم حلها من خلال النظرية الجديدة في النفس، التي تقدمها محاورة الجمهورية.

 

3.2 نظرية النفس في محاورة الجمهورية

كانت محاورة فيدون معروفة أيضا للقراء القدامى، باسم عن النفس لأفلاطون، في حين كانت محاورة الجمهورية معروفة باسم عن العدالة، كعناوين بديلة قديمة. ومع ذلك، يرى أفلاطون في العدالة الحالة الأسمَى للنفس، ولذا فليس من المستغرب أن تلقي محاورة الجمهورية قدرا كبيرا من الضوء على تصور أفلاطون للنفس. إحدى الطرق التي تم بها ذلك، كانت الدمج الصريح لعدد من الملامح المركزية للفكرة الاعتيادية عن النفس، وهي الملامح التي، في محاورة فيدون، تتعايش إلى حد ما بصعوبة؛ أي: المسؤولية عن حياة الكائن الحي (أي: في حالة الإنسان، المسؤولية عن وجوده، وبقائه حيا كإنسان)، وعن الوظائف الإدراكية و(خاصة) العقلية، وعن الفضائل الأخلاقية، مثل: الشجاعة والعدالة. مع اقتراب نهاية الكتاب الأول من محاورة الجمهورية، يقدم سقراط لثراسيماخوس حجة مفصلة، تنتهي إلى أن “الظلم لا يكون أبدا أكثر نفعا من العدالة” (354a). إذا وضعنا جانبا، نظرا لعدم ارتباطه بالسياق الجدلي، احتمالية أن يكون الظلم والعدالة نافعين بقدر متساوٍ، فمن الواضح أن الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هنا، مساو للموقف الذي صُممت محاورة الجمهورية من أجل تأسيسه، فاستجابة لطلب جلوكون، في بداية الكتاب الثاني، لكي يقتنع سقراط بأنه “من الأفضل في كل الأحوال أن تكون عادلا من أن تكون غير عادل” (357a). تواصل الحجة، في نهاية الكتاب الأول، محاولة إثبات استنتاج مؤقت، وقوي بشكل غير ضروري، أي: أن الشخص العادل سعيد، بينما الشخص الظالم بائس. من أجل تأسيس النتيجة المرجوة، يكفي إثبات أن الشخص العادل دائما ما يكون أكثر سعادة من الشخص الظالم، والذي، على عكس الاستنتاج المؤقت القوي غير الضروري، يتوافق مع الرأي القائل بأن العدالة ليست كافية لتحقيق السعادة (الكاملة)،إذ يتطلب ذلك ظروفا خارجية مناسبة، بالإضافة إلى العدالة. لا شيء في رد سقراط الطويل على جلوكون (وأديمانتوس) يلزم بأن يُسند إليه الرأي القائل بأن العدالة كافية للسعادة (الكاملة) (راجع: (Irwin 1999 ومع ذلك، فإن هذا الرأي لا يتضمنه تصور النفس الذي يعتمد عليه سقراط في هذه الحجة (الكتاب الأول). علاوة على ذلك، لا يوجد في محاورة الجمهورية ما يناقض، أو يعدّل، هذا التصور للنفس (على العكس من ذلك، راجع: 445a9f., 609b f.) علاوة على ذلك ، لا يوجد في الجمهورية ما يناقض أو يغير مفهوم الروح هذا (على العكس من ذلك: راجع 445a9f., 609b f.)، وبالتالي، لا يوجد سبب لعدم اعتبار أهميتها، كمساهمة في تأمل أفلاطون المستمر في النفس، على الرغم من أن الحجة التي تحيط بها مصممة لدعم استنتاج، نجح سقراط لاحقًا في تجنبه.

تبدأ الحجة بمقدمة تفترض أن الأشياء تؤدي وظيفتها بشكل جيد، إذا كانت لديها الفضيلة المناسبة لها، وتؤديها بشكل سيء، إذا كان لديها الرذيلة المتوافقة معها (353c). ثم ينسب، بعد ذلك، إلى النفس مهمة “العناية بالأشياء، والحكم والتدبر (وجميع الأشياء المماثلة)”، ويضيف أن الحياة، أيضا، تعد جزء من وظيفة النفس (353d). يثمر ذلك استنتاجا مؤقتا، بأن النفس الصالحة تهتم، وتحكم، وتتدبر (إلخ) وتعيش بشكل جيد، بينما تفعل النفس السيئة هذه الأشياء بشكل سيء. المقدمة الثالثة هي أن العدل هو الفضيلة الملائمة للنفس، والظلم رذيلتها. وبالتالي، يكون الاستنتاج المؤقت الآخر: النفس العادلة تحيا بشكل جيد، والنفس الظالمة تحيا على نحو سيء. لكن العيش بشكل جيد، تقول المقدمة التالية، هو السعادة (والعيش بشكل سيئ، أمر بائس). وهكذا يمكن لسقراط أن يستخرج الاستنتاج المؤقت الذي قابلناه بالفعل، وهو أن الشخص العادل (أي الشخص ذو النفس العادلة) سعيد، بينما الشخص ذو النفس الظالمة شخص بائس.

نحن نفسد الحجة إذا افترضنا (مع روبنسون 1995، 36) أنه عندما يقدم سقراط الحياة كوظيفة من وظائف النفس، كان يضع البقاء حيا في الاعتبار. من الواضح أن فكرة أن يتصف أمر البقاء حيا بأنه جيد (أو سيء)، هي فكرة غريبة جدا، مثل فكرة أن تكون على قيد الحياة بشكل جيد أو سيئ. لكن ليس هناك حاجة لافتراض أن مثل هذه الأفكار مشاركة هنا، أو أن سقراط ينتقل من معنى “للحياة” [to zên] إلى آخر. الأمر، في النهاية، مفتوح لنا لتفسير ما يقوله سقراط، على أساس تصور يدمج الأشياء التي ينسبها سقراط إلى النفس كوظائف، أو كأجزاء، أو جوانب من وظيفتها، أي: على أساس تصور لعيش حياة، ولكن، ليس أي نوع من أنواع الحياة، بل حياة إنسانية بشكل خاص. إن الاهتمام بالأنواع الصحيحة من الأشياء، وبالطريقة الصحيحة، التي تحكم أو تنظم نفس المرء و(عند الاقتضاء) نفوس الآخرين، والتشاور حول كيفية التصرف، ليست ضرورية فحسب، بل إنها جوانب رئيسية لعيش حياة إنسانية، وكل هذه الأشياء، يمكن أن تُفعل بشكل حسن أو سيء. واعتمادا على حالة نفوسهم، يكون المرء أفضل أو أسوأ في القيام بتلك الأشياء. فالشخص العادل، الذي تكون نفسه في أفضل حالة، هو متفوق حقا وبامتياز في أن يحيا حياة إنسانية، وفي ذلك هم متفوقون في القيام بالأشياء المختلفة، التي تشارك، بنحو بالغ الأهمية، في توجيه حياة إنسانية مميزة. إذا أخذنا ذلك على الامتداد الصحيح، فربما نكون في وضع يمكننا من رؤية إجابة أفلاطون على السؤال عن الكيفية التي يمكن بها لهذا الشيء المفرد، النفس، أن يكون مسؤولا عن حياة الكائن الحي، وكذلك عن وظائفه الإدراكية والعقلية، وتكون أيضا هي الوعاء الحاوي للقيم الأخلاقية أو الفضائل. الإجابة التي تقترحها الحجة، في  الكتاب الأول، هي: الطريقة التي تكون بحسبها النفس البشرية مسؤولة عن حياة الكائن البشري، تكون من خلال مسؤوليتها عن الحياة البشرية المميزة التي يحياها الفرد المعني. ولكن بمسؤوليتها عن مثل هذه الحياة، يجب أيضا أن تكون مسؤولة عن الوظائف الإدراكية والعقلية، التي توجه وتشكل مثل هذه الحياة. علاوة على ذلك، فإن الاختلافات الدراماتيكية في كيف يكون يقود البشر الطيبون حياتهم، وما يرتبط بذلك من الاختلافات الدراماتيكية في مدى جودة ممارستهم لوظائفهم الإدراكية والعقلية، ويرجع ذلك إلى الاختلافات في أحوال نفوسهم، أي: إلى وجود أو غياب الفضائل، كالعدل، والحكمة، والشجاعة، والاعتدال. توضح هذه الإجابة بشكل كبير (الجوانب ذات الصلة من) المفهوم اليوناني العادي عن النفس (انظر القسم 1)

تطرح محاورة الجمهورية، أيضا، نظرية جديدة عن النفس، تتضمن القول بأن النفس البشرية المتجسدة، لديها (على الأقل) ثلاثة أجزاء، أو جوانب، وهي: النفس العاقلة، والنفس الغضبية، والنفس الشهوانية. تم تقديم حجة هذا القول في الكتاب 4، وتمضي، تقريبا، بالطريقة التالية؛ يبدأ سقراط بإعلان مبدأ مفاده أن الأفعال، والتأثيرات، والحالات المتعارضة، لا يمكن أن ننسبها إلى شيء واحد، بالنسبة للجزء نفسه منه، فيما يتعلق بنفس الموضوع، وفي نفس الوقت. ومن ثم تم الاتفاق على أن الرغبة والكره ضدان، وبالتالي، فإن الرغبة في فعل شيء، وكراهية فعل الشيء نفسه، هما حالان متضادان، فيما يتعلق بنفس الموضوع. لكن يحدث كثيرا، كما يشير سقراط ويوافقه جلوكون، أن ترغب النفس في القيام بشيء ما، وهي كارهة، في الوقت نفسه، من فعله. يحدث هذا، على سبيل المثال، عندما يكون المرء ظمآنا، وعلى هذا الأساس، يريد أن يشرب، لكنه يرغب، في الوقت نفسه، في عدم الشرب، بناء على بعض الحسابات، أو التمعن في الأمر، وفي الواقع، ينجح في الامتناع عن الشرب، رغم ظمأه. ويترتب على المقدمات المطروحة أن النفس الإنسانية تتضمن، على الأقل، موضوعين متمايزان، بحيث يمكن نسبة أحدهما (الرغبة في الشرب) إلى أحدهما، ونسبة الآخر (كراهة الشرب) إلى الآخر. مع الأخذ في الاعتبار أن لديه نفس عاقلة ونفس شهوانية محددين، كأجزاء متمايزة للنفس، يلفت سقراط الانتباه إلى أنواع أخرى من الصراع بين الرغبات، والتي تهدف إلى تسليط الضوء على النفس الغضبية؛ الجزء الثالث من النفس.

تشتمل محاورة الجمهورية على قدر كبير من المعلومات، التي يمكننا الاعتماد عليها في وصف الأجزاء الثلاثة للنفس، التي يقدمها سقراط، وهي معلومات يمكن العثور عليها، ليس في الكتاب الرابع نفسه فقط، ولكن أيضا (من بين أماكن أخرى) في قائمة النظم الفاسدة للمدينة والنفس، في الكتابين 8 و 9. إليكم الخطوط العريضة لما يظهر. المبدأ العقلي هو جزء النفس الذي يرتبط، بطبيعته، بالمعرفة والحقيقة. وهو معني أيضا بتوجيه وتنظيم الحياة التي، أو، يجب أن تكون، مسؤولة، مثالية، على نحو تسترشد فيه بالحكمة، وتراعي اهتمامات كلٍ من الأجزاء الثلاثة على حدة، وللنفس ككل (442c)، ويُفترض لهذه الاهتمامات أن تشمل احتياجات الشخص الجسدية، على الأرجح، من خلال المبدأ الشهواني. إن الارتباط الطبيعي للمبدأ الغضبي هو التشريف، وبشكل أكثر عمومية، الاعتراف والتقدير من قبل الآخرين (581a). كقوة محفزة، فإنه بشكل عام مسؤول عن تأكيد الذات والطموح. عندما يتم إحباط رغباته، فإنه يؤدي إلى ردود فعل عاطفية، مثل: الغضب، والسخط، وإلى سلوك يعبر عن مثل هذه الاستجابات، وينشأ عنه، بشكل طبيعي. يعتبر سقراط المبدأ الغضبي حليفا طبيعيا للمبدأ العقلي، على الأقل، هو جزء من وظيفته؛ وهي دعم المبدأ العقلي في مثل هذه النزاعات، التي قد تنشأ بينه وبين المبدأ الشهوي (440ef, 442ab). إن إسناد هذه الوظيفة له لا يعني القول، أو الإيحاء، بأن المبدأ الغضبي لا يمكنه، في حالة النفس الفاسدة وغير الطبيعية، أن ينقلب ضد المبدأ العقلي، حتى لو لم يكن الأفراد، الذين نشأوا جيدا، مثل جلوكون، على دراية بهذا الفساد، سواء في حالتهم الخاصة، أو في حالة الآخرين (440b). (Pace Robinson 1995، 45، يرى أن سقراط يناقض نفسه هنا). يهتم المبدأ الشهواني، بشكل أساسي، بالطعام، والشراب، والجنس (439d, 580eـ). إنه يثير الرغبة إلى هذه الأشياء، وغيرها مما تقوم في كل حالة، ببساطة وبشكل فوري، على فكرة أن الحصول على الموضوع المتعلق بتلك الرغبة، هو، أو سيكون، أمرا ممتعا. يطلق سقراط على المبدأ الشهواني، أيضا، الجزء المحب لكسب المال، لأن المبدأ الشهواني، في حالة البالغين من البشر، على الأقل، يميل، أيضا، إلى الارتباط بشدة بالمال، باعتبار  أنه، بواسطة المال، يتم تحقيق رغباتهم الأساسية (580e, 581a). يجب أن تكون الفكرة أنه بالنظر إلى التعود المناسب والتثقف، في سياق الحياة التي نعيشها في المجتمع الإنساني، يميل المبدأ الشهواني إلى الارتباط بالمال، بطريقة تثير  الرغبة في المال، التي تقوم في كل حالة، ببساطة وفورا، على فكرة أن الحصول على المال هو، أو سيكون، أمرا ممتعا، وهذه الفكرة طبيعية ومعقولة بما فيه الكفاية. (Irwin 1995 & Price 1995, 57-67, يقدمان تفسيرا بديلا متضاربا).

إذا نظرنا إلى نظرية محاورة الجمهورية من منظور نظرية النفس المقدمة في محاورة فيدون، فإن نظرية محاورة الجمهورية لا تتضمن تقسيما للنفس، بقدر ما تتضمن اندماجا في النفس للوظائف العقلية أو النفسية، التي تم إسنادها، على نحو، إلى حد ما، إشكالي، إلى الجسد. في كلتا المحاورتين، يلجأ سقراط إلى نفس المقطع من الأوديسة (Od. 20.17-18 at Phaedo 94d, Od. 20.17 at Republic 4, 441b)، حيث يتغلب أوديسيوس على غضبه: في محاورة فيدون، لتمثيل الصراع بين النفس والجسد، وفي محاورة الجمهورية، لتمثيل الصراع بين جزأين، أو جانبين، من جوانب النفس، هما المبدأ العقلي والمبدأ الغضبي. ما تقدمه محاورة الجمهورية هو نظرية للنفس، التي، من بين أمور أخرى، تسمح بإسناد (من حيث المبدأ) جميع الوظائف العقلية أو النفسية إلى شيء واحد، هو النفس. وهكذا تحترم النظرية وحدة العقل، بشكل لا تحققه نظرية النفس في محاورة فيدون. علاوة على ذلك، تقدم نظرية النفس في محاورة الجمهورية، أيضا، تعبيرا محببا، ومدعما بشكل جيد، للرغبة، في أنواع مختلفة، ذات مضامين عميقة لكل من معنى امتلاك نفس (أو عقل) في الحالة المثلى، وللكيفية التي يحدث بها هذا الشرط، وأنه أفضل ما تم جلبه. (لكي نرى أن أفلاطون مدرك تماما لهذه المضامين، يحتاج المرء فقط إلى النظر إلى ما كان على محاورة الجمهورية أن تقوله عن الفضيلة والتعليم). ومع ذلك، قد يكون من المفيد الإصرار، مرة أخرى، على أنه لا ينبغي لنا تجاهل حقيقة أن تصور النفس، التي رُسمت ملامحه في محاورة الجمهورية، أوسع من تصورنا للعقل، حيث يظل جزءا من هذا التصور؛ الذي يذهب إلى أن النفس هي المسؤولة عن حياة الكائن الحي الذي حاز نفسا. لكن، إذا كانت النفس هي المسؤولة عن، حياة الكائنات البشرية، على سبيل المثال، فلا بد أن يكون هناك معنى ما بحسبه تكون النفس البشرية ليست مسؤولة، فقط، عن الوظائف العقلية، مثل الفكر، والرغبة، ولكن أيضا عن الوظائف الحيوية الأخرى، مثل الأنشطة، والعمليات، وأنظمة التغذية، والتناسل. وحيث أنه من غير الواضح كيف ترتبط النفس بمجموعة واسعة من الأنشطة (إلخ) التي تشارك بشكل حيوي في حياة الكائنات التي مُنحت نفسا، تظل نظرية أفلاطون عن النفس، في محاورة الجمهورية وما بعدها. غير مكتملة. ليس من المستغرب، بالطبع، ألا تواجه محاورة الجمهورية مسألة كيفية ارتباط النفس بوظائف الحياة التي، كما يقر أرسطو (الأخلاق النيقوماخية 1.13, 1102b11-2 )، أنها لا تمت بصلة للاهتمامات الأخلاقية والسياسية في محاورة الجمهورية. ومع ذلك، فإن السياق والموضوع لا يفرضان مثل هذه القيود على “الأسطورة المعقولة” في محاورة طيماوس، وكذلك فشل ذلك الحوار، الخاص بتقديم نسخة منقحة، إلى حد ما، من رواية الجمهورية (محاورة طيماوس 69c ff.)، في معالجة مسألة كيفية ارتباط النفس بالوظائف الحيوية غير العقلية.

 

  1. نظرية النفس عند أرسطو

تقترب نظرية أرسطو، كما قدمها، بشكل أساسي في كتابه النفس  De Anima(للحصول على تقرير كامل، انظر مدخل: علم النفس عند أرسطو)، من طرح وصف شامل وتقرير كامل بتطور النفس، في جميع جوانبها ووظائفها، وهو تقرير يوضح فيه الطرق التي ترتبط بها جميع الوظائف الحيوية، لجميع الكائنات الحية، بالنفس. وبذلك، تقترب النظرية جدا من تقديم إجابة شاملة للسؤال الذي ينشأ من المفهوم اليوناني العادي للنفس، أي: إلى أي مدى من الدقة تكون النفس، التي تم الاتفاق، بطريقة أو بأخرى، على أنها مسؤولة عن مجموعة متنوعة من الأشياء التي تفعلها وتخبُرها الكائنات الحية (خاصة البشر)، هي أيضا السمة المميزة للكائن الحي. وفقا لنظرية أرسطو، فإن النفس نوع خاص من الطبيعة، وهي مبدأ يفسر التغيير والسكون في حالة الأجساد الحية بشكل خاص، أي: النباتات، والحيوانات، والبشر. إن العلاقة بين النفس والجسد، من وجهة نظر أرسطو، هي أيضا مثال على العلاقة الأكثر عمومية بين الصورة والمادة: وبالتالي، فإن الجسد الحي، الحائز لنفس، هو نوع خاص من المادة غير الحائزة لصورة. تبسيط الأمور قليلا عن طريق حصر أنفسنا في العالم الأرضي (راجع  De Animaالنفس 2.2, 413a32; 2.3 415a9)، يمكننا وصف النظرية على أنها تقدم إطارا تفسيريا موحدا، يتم من خلاله التعامل مع جميع الوظائف الحيوية على حد سواء، من التمثيل الغذائي إلى التفكير، باعتبارها وظائف تؤديها الكائنات الطبيعية، ذات البنية والتعقيد المناسبين. ليست نفس الكائن الحي، في هذا الإطار، سوى نظامها من الأنشطة الفعالة في أداء الوظائف الحيوية، التي تؤديها الكائنات الحية المنتمية إلى نوعها بشكل طبيعي، بحيث إذا انخرط الكائن في الأنشطة ذات الصلة (على سبيل المثال: التغذية، أو الحركة، أو التفكير) فإنه يقوم بذلك بفضل نظام القدرات الذي هو نفسه.

بالنظر إلى أن النفس، وفقا لنظرية أرسطو، هي نظام من القدرات، تمتلكه الأجساد الحية ذات البنية المناسبة، ويتجلى بواسطتها، فمن الواضح أن النفس، وفقا لأرسطو، ليست هي ذاتها جسدا أو شيئا ماديا. وهكذا يتفق أرسطو مع الادعاء المذكور في محاورة فيدون؛ بأن النفوس تختلف بنحو تام عن الأجساد. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن أرسطو يعتقد أن جميع القدرات التي تقوم عليها نفوس النباتات، والحيوانات، والبشر ،تجعل استخدامها يشمل ويتطلب أجزاء وأعضاء جسدية. من الواضح أن الأمر كذلك، على سبيل المثال، مع القدرة على الحركة بالنسبة للمكان (على سبيل المثال: بالمشي أو الطيران)، وبالنسبة للإدراك الحسي، الذي يتطلب أعضاء حسية. ومع ذلك، لا يعتقد أرسطو أن هناك عضوا للتفكير، وكذلك لا يعتقد أن استخدام القدرة على التفكير تنطوي على استعمال جزء من الجسم، أو عضو موجود خصيصا لهذا الاستخدام. ومع ذلك، يبدو أنه يتبنى وجهة النظر القائلة بأن نشاط العقل البشري يتضمن دائما بعض نشاطات جهاز الإدراك الحسي، وبالتالي، يتطلب وجود أجزاء وأعضاء مناسبة من الجسم، في ترتيب صحيح؛ لأنه، كما يبدو، يعتقد أن الانطباعات الحسية [phantasmata] مشاركة، بطريقة ما، في كل فعل حادث للفكر، على الأقل، فيما يتعلق بالبشر (De Anima 3.7, 431a14-7; 3.8, 432a7-10; cf. De Memoria 1, 449b31ff.). إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أن أرسطو ملتزم بالرأي ، المخالف للموقف الأفلاطوني، والقائل بأنه حتى النفوس البشرية لا تقدر على الوجود و (ربما بنفس الأهمية) والفعل، بمعزل عن الجسد (cf. De Anima 1.1, 403a3-25, esp. 5-16).

من الجدير بالذكر أن نظرية أرسطو لا تحدد تلك الوظائف الحيوية العقلية بواسطة ربطها بالنفس، بطريقة خاصة تختلف وتتجاوز الطريقة التي ترتبط بها الوظائف الحيوية بشكل عام. من المؤكد أنه ليس جزءا من نظرية أرسطو الذهاب إلى أن النفس مسؤولة، بشكل خاص ومباشر، عن الوظائف العقلية من خلال أدائها منفردة، في حين أنها مسؤولة، بنحو أقل مباشرة، عن أداء الكائن الحي للوظائف الحيوية الأخرى، مثل: النمو. كما يقترح هذا الجانب من نظريته، فإن أرسطو على ثقة من أنه بمجرد أن يكون لدى المرء فهم صحيح لكيفية تفسير الظواهر الطبيعية بشكل عام، فلن يكون هناك سبب لافتراض أن الوظائف العقلية، مثل الإدراك، والرغبة، وعلى الأقل، بعض أشكال التفكير، غير قابلة للتفسير، ببساطة، عن طريق اللجوء إلى المبادئ، بحيث يمكن للظواهر الطبيعية، بشكل عام، أن تُفهم وتُفسَّر بشكل صحيح (cf. Frede 1992, 97).

قد يُعتقد، نظرا لأن نظرية أرسطو تعالج الوظائف العقلية، والوظائف الحيوية الأخرى، على حد سواء تماما، فإنها تحجب تمييزا مهما. هذا القلق، مع ذلك، تبين أنه غير مبرَّر. إذ تعالج النظرية الوظائف العقلية والوظائف الحيوية الأخرى، على حد سواء، فقط من حيث أنها تنظر إلى أن كلا النوعين من الوظائف، تؤديهما الكائنات الطبيعية، من النوع الصحيح من البنية والتعقيد. إن النظر إلى الوظائف العقلية، والوظائف الحيوية الأخرى، بهذه الطريقة، متوافق تماما مع تقديم تمييز بين الوظائف العقلية والوظائف الأخرى، إذا كانت هناك مخاوف، من نوع أو آخر، تستدعي مثل هذا التمييز. إن أرسطو قادر تماما، على سبيل المثال، على تنحية الوظائف الحيوية غير العقلية جانبا، باعتبارها غير ذات صلة بأغراض الفلسفة العملية (NE 1.13, 1102b11-12).

 

النظريات الهلينستية عن النفس

انطلاقا من نظريتي أفلاطون وأرسطو، فإن أول ما قد يذهلنا حول نظريات النفس التي اعتمدتها المدرستان الهلنستيتان المهيمنتان: حديقة أبيقور والرواق، هو العقيدة المشتركة بين كليهما، وهي أن النفس مادية. لقد وصلت إلينا عدد من الحجج الرواقية للزعم بأن النفس جسد (see: Annas 1992, 39-41). أفضل هذه الحجج تلك التي تقول إن النفس جسد لأن (تقريبا) الأجساد فقط هي ما يؤثر بعضها في بعض، والنفس والجسد يؤثران في بعضهما البعض، على سبيل المثال: في حالات الأذى الجسدي، والعاطفة. إن أبيقور يستخدم نفس الحجة في رسالته إلى هيرودوت، والتي تتضمن ملخصا لمذهبه الطبيعي (Long & Sedley 1987 [in what follows L&S] 14A7). بطريقة تُذكِّر بإحدى نظريات ما قبل سقراط، يرى كل من أبيقور والرواقيين أن النفس جسد من نوع لطيف خاص، منتشر في جميع أنحاء الجسد الملموس (اللحم والدم) للكائن الحي. كما لو كان يردد وجهة النظر عن النفس، التي قدمها سيمياس في محاورة فيدون على أنها وجهة النظر السائدة، يعتقد إبيقور أن النفس تتبدد عند الموت، مع الذرات المكونة لها، وتفقد القوى التي ملكتها أثناء احتواء جسم الكائن الحي، الحائز للنفس، لها (L&S 14A6). يتفق الرواقيون على أن النفس البشرية فانية، لكنهم يعتبرون أيضا أنها تستطيع وتتمكن من النجاة بعد موت الشخص – أي: بانفصالها عن الجسد المحسوس. يبدو أن كريسيبوس كان يعتقد أن أرواح الحكماء تواصل (ككيانات جسدية لطيفة وغير محسوسة) طوال الطريق إلى الحريق العظيم التالي، في الدورة الكونية، بينما تبقى أرواح سائر البشر لبعض الوقت، ثم تتبدد (Diogenes Laertius 7.157; cf. L&S 53W). وهكذا يمكن أن يقبل كريسيبوس، على الأقل بالنسبة لأرواح الحكماء، ادعاء سقراط في محاورة فيدون بأن النفس “غير قابلة للتحلل تماما، أو تقريبا كذلك” (محاورة فيدون 80b)، على الرغم من أنه، بوضوح، لا يستطيع قبول كل حجج سقراط بخصوص هذا الادعاء.

 

5.1 نظرية النفس عند أبيقور

يقول أبيقور بالمذهب الذري، ووفقا لمذهبه الذري هذا، فإنه يرى أن النفس، مثل كل شيء آخر غير الفراغ، تتكون، في النهاية، من الذرات. إن مصادرنا غير واضحة، إلى حد ما، فيما يتعلق بالضبط بأي نوع من المادة التي اعتبر أنها تدخل في تكوين النفس. ومع ذلك، فثم احتمال كبير، أنه، بالإضافة إلى بعض المواد المألوفة نسبيا – مثل المواد الشبيهة بالنار والريح، أو، بالأحرى، الذرات التي تشكل هذه المواد – فإن النفس، من وجهة نظر أبيقور، تتضمن أيضا، في الحقيقة كعنصر رئيسي، ذرات مادة من نوع مجهول، وهي المسؤولة عن الإدراك الحسي. وهكذا، يبدو أنه بينما كان يعتقد بإمكانيته على شرح ظواهر مثل حرارة أو دفء الكائن الحي، بالإضافة إلى حركته وسكونه، من خلال مناشدة مواد مألوفة نسبيا، وخصائصها المألوفة نسبيا، شعر بالحاجة إلى تقديم نوع إضافي غامض من المادة، حتى يكون قادرا على تفسير الإدراك الحسي، على ما يبدو، على أساس أن “الإدراك الحسي لا يوجد في أي من العناصر المعروفة”(L&S 14C) . من الجدير بالذكر، خاصة فيما يتعلق بالإدراك الحسي، أن أبيقور يعتقد أن إدخال نوع آخر  مجهول من الجوهر المادي، هو مما تدعو إليه الحاجة، بدلا، على سبيل المثال، مما يتعلق بالإدراك العقلي. ما يوحي به هذا، وما لدينا، في الواقع، هو سبب موضوعي لنفكر فيه، وهو أنه من وجهة نظر أبيقور، بمجرد أن يكون المرء في وضع مناسب لتفسير الإدراك الحسي، فسيكون، أيضا، في وضع يسمح له بإيجاد تفسير للإدراك العقلي، من خلال التوسع المناسب في تفسير الإدراك الحسي. دعونا ننظر، بإيجاز، في كيفية عمل هذا التوسع.

سيتم شرح معتقدات الإدراك الحسي، مثل الاعتقاد بأنه “يوجد حصان هناك”، في نظرية أبيقور، من ناحية الانطباعات الحسية، وتطبيق التصورات (‘preconceptions’; for discussion cf. Asmis 1999, 276-83)، ويتم تفسير تشكيل التصور، بدوره، من ناحية الانطباع الحسي والذاكرة. وفقا لملخص ديوجين اللايرتي (L&S 17E1-2)، يقول الأبيقوريون ذلك:

إن التصور المسبق، إذا جاز التعبير، هو إدراك، أو اعتقاد صحيح، أو تصور، أو “فكرة مخزَّنة” كلية (أي: ذاكرة)، لما أصبح، بنحو متكرر، واضحا خارجيا: على سبيل المثال “كذا وكذا، من مثل هذا الشيء، هو الإنسان”. فبمجرد أن تُنطق كلمة “إنسان”، فعلى الفور، يتبادر انطباعها، أيضا، إلى الذهن، عن طريق التصور المسبق، كنتيجة للإدراكات الحسية السابقة.

علاوة على ذلك، فإن الانطباعات الحسية، التي يتم تفسيرها وصياغتها، من جهة التصورات أو التصورات المسبقة، تُنتج خبرة متعلقة بالأمور الواضحة، والتي بدورها تشكل الأساس لاستنتاجات حول الأمور غير الواضحة. على سبيل المثال: يمكن للخبرة الواسعة أن تبين للفرد، ليس فقط أن البشر الذين تعامل معهم يملكون صفات معينة (على سبيل المثال: العقلانية)، ولكن أيضا (سيقول الأبيقوريون لاحقا، ربما يطورون موقف أبيقور قليلا) أنه لا يمكن تصور عدم امتلاك أي إنسان لتلك الصفة (cf. L&S 18F4-5). وهكذا، فإن الخبرة لن تجعل المرء يقوم، فقط، بتوقع، بقدر كبير  من الثقة، أن أي إنسان سيقابله المرء، في أي مكان، سيكون عقلانيا. تدعم الخبرة أيضا، وفقا للأبيقوريين، الاستدلال على، وبالتالي تبرر قبول المرء، الاستنتاج (غير الواضح) بأن جميع البشر، في كل مكان، وفي كل زمان، عقلانيون (للمناقشة التفصيلية، راجع: Allen 2001, 194-241 194-241). من الواضح أن هذه نظرة رحبة للغاية لما يمكن أن تفعله الخبرة، وبنحو جوهري، الإدراك الحسي! بمجرد أن ندرك الدور القوي والأساسي الهائل، الذي يعينه إبيقور وأتباعه للإدراك الحسي، فلن يفاجئنا معرفة أنهم يشعرون بالحاجة إلى تضمين نوع خاص جدا من المواد، تكون مسؤولة، بشكل خاص، عن الإدراك الحسي، ولكن لا أعتقد، بالإضافة إلى ذلك، أن هناك حاجة إلى بعض المواد الخاصة الأخرى، لتمكين النشاط الفكري أو العقلاني.

في التراث الأبيقوري، تُستخدم كلمة “نفس” أحيانا بالطريقة التقليدية السائدة، بأنها ما يسبب حركة الكائنات الحية (e.g., Diogenes of Oenoanda, fr. 37 Smith)، ولكن محور الاهتمام، بقدر ما يتعلق الأمر بالنفس، هو في أغلبه خاص بالوظائف العقلية للإدراك، والعاطفة، والرغبة. وجهة النظر الشائعة في التراث الأبيقوري، والتي من المحتمل أن ترجع إلى المؤسس، هي أن النفس تتركب من جزأين، أحدهما عقلاني، والآخر غير عقلاني. الجزء العقلاني، الذي يسميه لوكريتيوس: العقل [animus]، هو الأصل الذي تصدر عنه العاطفة والدافع، وهو أيضا حيث يتم (بلا شك، بين عمليات أخرى) تطبيق التصورات، وتشكيل المعتقدات، وحيث يتم تقييم الأدلة، وإنشاء الاستدلالات. أما الجزء غير العقلاني من النفس، والذي، بحسب لوكريتيوس، يُطلق عليه، بشكل محير إلى حد ما، اسم: النفس [anima]، فهو مسؤول عن تلقي الانطباعات الحسية، والتي تكون كلها صحيحة، وفقا لأبيقور. وينشأ الخطأ في مرحلة لاحقة، عندما يتم تفسير الانطباعات الحسية من قبل الجزء العقلاني من النفس، بطريقة، كما رأينا، تتضمن الذاكرة بشكل حاسم. إن الإدراك الحسي، الذي يُنظر إليه على أنه مجرد استقبال للانطباعات الحسية من جانب النفس، غير العقلانية، لا ينطوي على ذاكرة (cf. L&S 16B1). نظرا لأن تكوين التصورات وتطبيقها يتطلب ذاكرة، فإن الإدراك الحسي، المتصوَّر على هذا النحو، لا ينطوي على فعل إنشاء التصورات أيضا. الجزء غير العقلاني مسؤول أيضا عن نقل البواعث الصادرة عن الجزء العقلاني، وكذلك (على الأرجح) عن مجموعة متنوعة من الوظائف الحيوية الأخرى. (عندما يميز أبيقور بين ملذات وآلام النفس، وتلك الخاصة بالجسد، فبنحو عارض، يجب أن يكون التمييز الذي يدور في ذهنه، بين الجزء العقلاني من النفس من جهة، والجسد الذي تحركه النفس غير العقلانية، من جهة أخرى).

 

5.2 النظرية النفس في الرواقية

تسمح الفلسفة الطبيعية الرواقية بثلاثة أنواع مختلفة من النَّفَس الكوني pneuma (حرفيا: “التنفس”)، وهو مادة تشبه التنفس، تتكون من عنصرين من العناصر الرواقية الأربعة، النار والهواء. تختلف أنواع النَفَس من حيث كلا من: درجة التوتر الناتج عن تأثيرات التمدد والتقلص، يليه في الترتيب: درجة مكوِّنيها، وفي لوازمهما الوظيفية. النوع الأدنى هو المسؤول عن تماسك وخصائص الجمادات (مثل الصخور)، والنوع الوسيط، المسمى النَفَس الطبيعي، مسؤول عن الوظائف الحيوية المميزة للحياة النباتية، والنوع الثالث هو النَفْس، المسؤولة عن استقبال واستخدام الانطباعات (أو التمثيلات) (phantasiai) ، والمحفز (hormê الدافع الروحي: الذي يولد حركة الحيوانات) أو، باستخدام مصطلحات بديلة، الإدراك والرغبة. تشير أدلتنا بقوة ، وهي للأسف شذرات، وغالبا ما تكون غير واضحة، إلى أنه وفقا للنظرية الرواقية، يحتوي جسم الحيوان (بشري أو غير بشري) على الأنواع الثلاثة للنفَس الكوني، الأدنى منها مسؤول عن التماسك وصفة الأجزاء، مثل الأسنان والعظام، والنفَس الطبيعي، وهو مسؤول عن التمثيل الغذائي، والنمو، وما شابه، وأخيرا، النَفْس، وهي مسؤولة عن تمييز الوظائف، سواء كانت عقلية أو نفسية، والإدراك الجوهري، عن طريق الإحساس و (في حالة البشر) عن طريق العقل والرغبة (cf. Long 1999, 564, for discussion and references). إذا كانت هذه هي الصورة التي تقدمها النظرية بالفعل، فإن النَّفس لم تعد مسؤولة عن جميع الوظائف الحيوية، وجميع جوانب الحياة، ولكن فقط، عن الوظائف العقلية أو النفسية على وجه التحديد. (وفقا لذلك، يحيد الرواقيون عن النظرة الأفلاطونية والأرسطية القائلة بأن النباتات كائنات تحوز نفسا). وفي الوقت نفسه، تحاول النظرية الرواقية تفسير الوظائف الحيوية غير العقلية أيضا، من ناحية نشاط “الطبيعة”، وهو النوع المتوسط ​​من النَّفَس. في سبيلها لقطع الصلة المتجذرة في اللغة اليونانية العادية، بين النفس والحياة في جميع أشكالها، تتخذ النظرية الرواقية خطوة تاريخية بالغة الأهمية، خطوة، من الواضح أنها تقيد، بالأحرى على نحو درامي، الموضوع المناسب لنظرية النفس. في الواقع، بوسعنا القول إن الرواقيين، في حدهم لوظائف النفس، بالطريقة التي فعلوا بها ذلك، لعبوا دورا مهما في تاريخ معقد، نتج عنه التصور الديكارتي للعقل، والذي وفقا له فأن العقل ليس هو الشيء الذي يبعث الحياة في الأجساد الحية. هذا التضييق لتصور النفس هو أحد جانبين، من جوانب النظرية الرواقية، التي، لأغراضنا، تستحق بيانا خاصا.

الجانب الثاني، الجدير بالملاحظة، هو إصرار النظرية الرواقية على أن عقل الإنسان البالغ عنصر واحد غير منقسم، ويهيمن بعقلانيته على كل ما دونه. وفقا للنظرية الرواقية، هناك ثمانية أجزاء للنَّفْس: “القوة الآمرة” [hêgemonikon] أو العقل، والحواس الخمس، والصوت، و (جوانب معينة من) التناسل. والعقل، الذي يتموضع في القلب، هو المركز الذي يتحكم في أجزاء النفس الأخرى، وكذلك يتحكم في الجسد، والذي يتلقى ويعالج المعلومات التي توفرها الأجزاء التابعة. إن عقول الحيوانات، والبشر غير البالغين، لها قدرات تنحصر في الانطباع والدافع. إن البلوغ، بالنسبة للبشر، ينطوي على اكتساب قدرات الموافقة والعقل. إن العقل (على ما يبدو) يجعل الموافقة على الانطباعات، أو الإمساك عن ذلك، ممكنا، ويحوِّل الانطباعات الخالصة، والدوافع الخالصة، كتلك التي تعاينها الحيوانات الأخرى، إلى انطباعات ودوافع عقلانية. إن عقلنة الانطباع (على سبيل المثال: عقلنة الشجرة التي يراها المرء أمامه) تتمثل في أنه يُعبَّر عنها باعتبارها تصورات، حائزة لما هو أساسي في امتلاك عقل، تتمثل عقلنة الدافع في حقيقة أنه يتم إنشاؤه أو تأسيسه، بواسطة فعل طوعي، من تصديق العقل على انطباع عملي مناسب (“اندفاعي”). إن الانطباع، على سبيل المثال، بأن شيئا ما في المشهد، سيكون لذيذا إن تم أكله. ومن ثم، اعتمادا على نوع الانطباع الذي تم التصديق عليه، فإن هذا التصديق يولِّد أو يشكِّل اعتقادا (أو معرفة) فيما يتعلق ببعض الأمور الواقعية، أو الدافع للتصرف بطريقة ما أو بأخرى.

من المهم للغاية عدم إساءة فهم أن هذه القدرات المختلفة، كأجزاء أو جوانب للعقل، هي عناصر تعمل بدرجة معينة من الاستقلالية عن بعضها البعض، وبالتالي يمكن أن ينشأ بينها تضارب. إن قدرات العقل، في النظرية الرواقية، ببساطة، أشياء يمكن للعقل أن يقوم بها. علاوة على ذلك، ما يعتبر جزء مركزيا في النظرية التي تقول، في حالة الإنسان الراشد، إنه لا يوجد ذلك الشيء كدافع، دون فعل التصديق العقلي على الانطباع العملي المناظر. في الموضوع العقلاني، تعتمد قوة الدافع على قوة التصديق، والتي، مثل كل قدرات مثل هذا الموضوع، هي قوة عقلانية. لا تترك هذه النظرية أي مجال للتصور الأفلاطوني، الذي مفاده أن نفوس البشر البالغين تحتوي على أجزاء غير عقلانية، يمكنها، وتفعل في كثير من الأحيان، أن تولِّد الدافع والسلوك بشكل مستقل عن، بل حتى قد يتعارض مع، تصاميم وأغراض العقل. كما أنها، لا تترك مجالا لوجهة النظر الأفلاطونية والأرسطية المشتركة، التي مفادها أن الرغبة، حتى في حالة البشر البالغين، تأتي في ثلاثة أشكال، اثنان منها، لا تنشأ عن، أو تعتمد على، أنشطة العقل. إن للنظرية الرواقية نتيجة جذابة، مفادها أن كل شخص بالغ هو مسؤول، من خلال موافقته العقلية، بشكل لا لبس فيه، وبنحو متساوي، عن مجمل سلوكه التطوعي: لا توجد أجزاء أفلاطونية غير عقلانية، أو رغبات أفلاطونية أرسطية غير عقلانية، يمكن أن تنتج أفعالا ضد احتجاجات العقل العاجزة. ومع ذلك، كانت النظرية بحاجة للدفاع عنها ضد النظريات الفلسفية المنافسة، وضد الحدوس ما قبل النظرية، التي تناضل لصالح هذه النظريات. أحد هذه الحدوس هو أنه يمكن للعاطفة أن تتعارض، وكثيرا ما يحدث، مع العقل. للحكم، من تقرير بلوتارخ، يبدو أن الرواقيين كانوا قادرين على تفسير هذا الحدس الخاص، وكذلك دحض حجة التقسيم الثلاثي للنفس في محاورة الجمهورية 4، والتي تعتمد على تزامن الرغبة في، والنفور من نفس الشيء. وفقا لبلوتارخ (L&S 65G1)ـ:

يقول بعض الناس [الرواقيون] إن العاطفة لا تختلف عن العقل، وأنه لا يوجد تعارض وتضارب بينهما، بل تحول للعقل الواحد في كلا الاتجاهين، وهو ما لا نلاحظه بسبب حدة وسرعة التغيير.

إن طرح فكرة التذبذب غير الملحوظ لعقل واحد، لا منقسم، هو أمر بارع للغاية، ويجب أن يكون فعالا على نحو جدلي، على الأقل، إلى حد ما. ومع ذلك، فإن نظرية النفس التي نجدها في الرواقية الكلاسيكية، تبدو ملتزمة بوجهة النظر القائلة بأنه في حالة البشر البالغين، لا توجد، ببساطة، عوامل تحفيزية لا تعتمد على العقل، ويمكنها أن تؤثر بشكل كبير، غالبا إلى الأسوأ، في الكيفية التي يتصرف بها الشخص، وفي كيفية سير حياته. لابد أنه كان من الصعب الدفاع عن هذا الرأي، ضد الموقف الأفلاطوني الأرسطي. ولذا، فليس من المستغرب، في بيئة يتزايد فيها الاهتمام بكتابات أفلاطون وأرسطو، مرة أخرى، أن يتخلى فيلسوف رواقي بارز واحد، على الأقل، هو بوسيدونيوس (القرن الأول قبل الميلاد)، عن جزء من النظرية الرواقية الكلاسيكية. إن الأدلة التي لدينا لا يسهل تفسيرها، ولكن يبدو أن بوسيدونيوس قد أدخل، في الإطار النفسي الرواقي الأساسي، الفكرة القائلة بأنه حتى عقول البشر البالغين تتضمن، لوضع الأشياء بحذر، قوى ذات صلة تحفيزية (من نوعين) لا تعتمد على الموافقة، أو العقل على الإطلاق، والتي لا تخضع أبدا للعقل. (للاطلاع على مناقشة مفصلة، راجع Cooper 1998, 77-111)

 

  1. الخلاصة

لم تنته الفلسفة القديمة، بالتأكيد، بالرواقية الكلاسيكية، أو بالفترة الهلنستية، ولا التنظير القديم عن النفس. لقد شمل إحياء الاهتمام بأعمال كل من أفلاطون وأرسطو، ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد، بشكل بارز، الاهتمام المتجدد بالتصورات الأفلاطونية والأرسطية للنفس، مما أدى إلى إثارة تطورات نظرية جديدة، على سبيل المثال، مثل حجة أفلوطين (الموجهة بشكل خاص ضد الرواقيين) بأن النفس لا يمكن أن تمتد مكانيا، حيث لا يمكن لأي عنصر متسع مكانيا. أن يكون مسؤولا عن وحدة موضوع الإدراك الحسي (انظر: Emilsson 1991). كان الكتاب المسيحيون، مثل كليمنت السكندري وجريجوريوس النيصي، مدينين بشدة للنظريات الفلسفية عن النفس، وخاصة النظريات الأفلاطونية، لكن كان لهم أيضا انشغالات واهتمامات جديدة خاصة بهم. ومع ذلك، فإن تلك التطورات وغيرها، في مرحلة ما بعد الكلاسيكية، تحتاج إلى تفسيرها ضمن الإطار والسياق الذي توفره النظريات الكلاسيكية، التي قمنا بدراستها بقدر من التفصيل.

 

 


قائمة المراجع

  • نصوص قديمة
  • Kirk, G. S., J. E. Raven & M. Schofield, (eds.), 1983, The Presocratic Philosophers, Cambridge: Cambridge University Press. [=KR&S]
  • Cooper, J. M. & D. S. Hutchinson, (eds.), 1997, Plato: Complete Works, Indianapolis: Hackett.
  • Barnes, J., (ed.), 1984, The Complete Works of Aristotle, Princeton: Princeton University Press.
  • Long, A. A. & D. N. Sedley, (eds.), 1987, The Hellenistic Philosophers, Cambridge: Cambridge University Press. [=L&S]
  • Smith, M. F., 1993, Diogenes of Oenoanda: The Epicurean InscriptionLa Scuola di Epicuro, Suppl. 1, Naples: Bibliopolis.
  • النظريات القديمة في النفس (عامة)
  • Algra, K., J. Barnes, J. Mansfeld & M. Schofield, (eds.), 1999, The Cambridge History of Hellenistic Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Annas, J. E., 1992, Hellenistic Philosophy of Mind, Berkeley: University of California Press.
  • Cooper, J. M., 1999, Reason and Emotion, Princeton: Princeton University Press.
  • Everson, S., (ed.), 1991, Companions to Ancient Thought 2: Psychology, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Lorenz, H., 2006, The Brute Within, Oxford: Oxford University Press.
  • Price, A. W., 1995, Mental Conflict, London: Routledge.
  • الفكرة اليونانية عن النفس
  • Bremmer, J., 1983, The Early Greek Concept of the Soul, Princeton: Princeton University Press.
  • Burnet, J., 1916, “The Socratic doctrine of the soul”, Proceedings of the British Academy, 7: 235–59.
  • Claus, D., 1981, Toward the Soul, New Haven and London: Yale University Press.
  • Dodds, E. R., 1951, The Greeks and the Irrational, Berkeley: University of California Press.
  • Furley, D., 1956, “The early history of the concept of soul”, Bulletin of the Institute of Classical Studies, University of London, No. 3: 1–18.
  • Snell, B., 1975, Die Entdeckung des Geistes, Göttingen: Vandenhoeck und Ruprecht; translated as The Discovery of the Mind: The Greek Origins of European Thought, Oxford: Blackwell.
  • Solmsen, F., 1955, “Antecedents of Aristotle’s Psychology and the Scale of Beings”, American Journal of Philology, 76: 148–64.
  • Sullivan, S. D., 1988, Psychological Activity in Homer, Ottawa: Carleton University Press.
  • النفس في فكر ما قبل سقراط
  • Barnes, J., 1982, The Presocratic Philosophers, London: Routledge.
  • Huffman, C. A., 1999, “The Pythagorean Tradition”, in Long 1999: 66–87.
  • –––, forthcoming, “The Pythagorean Conception of the Soul from Pythagoras to Philoloaus”, in Body and Soul in Ancient Philosophy, D. Frede and B. Reis (eds.), Berlin: Walter de Gruyter.
  • Hussey, E., “Heraclitus”, in Long 1999: 88–112.
  • Kahn, C. H., 1979, The Art and Thought of Heraclitus, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Laks, A., 1999, “Soul, sensation, and thought”, in Long 1999: 250–70.
  • Long, A. A., (ed.), 1999, The Cambridge Companion to Early Greek Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Schofield, M., 1991, “Heraclitus’ theory of soul and its antecedents”, in Everson 1991 (Bibliography/Section B): 13–34.
  • Skemp, J. B., 1947, “Plants in Plato’s Timaeus”, Classical Quarterly, 41: 53–60.
  • نظريات النفس عند أفلاطون
  • Bobonich, C., 2002, Plato’s Utopia Recast: His Later Ethics and Politics, Oxford: Clarendon Press.
  • Bostock, D., 1986, Plato’s Phaedo, Oxford: Clarendon Press.
  • Cooper, J. M., 1984, “Plato’s Theory of Human Motivation”, History of Philosophy Quarterly, 1: 3–21, also in Cooper 1999 (Bibliography/Section B): 118–37.
  • Gill, C., 1985, “Plato and the Education of Character”, Archiv für Geschichte der Philosophie, 67: 1–26.
  • Irwin, T. H., 1995, Plato’s Ethics, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1999, “Republic 2: Questions about Justice” in Plato 2, G. Fine (ed.), Oxford: Oxford University Press.
  • Lorenz, H., 2008, “Plato on the Soul”, in The Oxford Handbook of Plato, G. Fine (ed.), Oxford: Oxford University Press.
  • Lovibond, S., 1991, “Plato’s theory of mind”, in Everson 1991 (Bibliography/Section B): 35–55.
  • Robinson, T. M., 1995, Plato’s Psychology, Toronto: University of Toronto Press.
  • Woods, M., 1987, “Plato’s Division of the Soul”, Proceedings of the British Academy, 73: 23–47.
  • نظريات النفس عند أرسطو

(cf. bibliography included in Christopher Shields’s article on Aristotle’s psychology)

  • Frede, M., 1992, “On Aristotle’s Conception of the Soul”, in Nussbaum & Rorty 1992: 93–107.
  • Nussbaum, M. C. & A. O. Rorty, (eds.), 1992, Essays on Aristotle’s De Anima, Oxford: Clarendon Press.
  • نظرية النفس عند أبيقور
  • Allen, J., 2001, Inference from Signs, Oxford: Clarendon Press.
  • Annas, J., 1991, “Epicurus’ philosophy of mind”, in Everson 1991 (Bibliography/Section B): 84–101.
  • –––, 1992, “The Epicureans”, in Annas 1992 (Bibliography/Section B): 123–99.
  • Asmis, E., 1999, “Epicurean Epistemology”, in Algra, Barnes, Mansfeld & Schofield 1999 (Bibliography/Section B): 260–94.
  • Everson, S., 1999, “Epicurus’ psychology”, in Algra, Barnes, Mansfeld & Schofield 1999 (Bibliography/Section B): 542–59.
  • Kerferd, G., 1971, “Epicurus’ doctrine of the soul”, Phronesis, 16: 80–96.
  • Konstan, D., 1973, Some Aspects of Epicurean Psychology, Leiden: Brill.
  • Sedley, D. N., 1998, Lucretius and the Transformation of Greek Wisdom, Cambridge: Cambridge University Press.
  • نظرية النفس عند الرواقية
  • Annas, J., 1992, “The Stoics”, in Annas 1992 (Bibliography/Section B): 37–120.
  • Cooper, J. M., 1998, “Posidonius on Emotions”, in The Emotions in Hellenistic Philosophy, Engberg-Pedersen, T. & J. Sihvola, (eds.), Dordrecht: Kluwer, also in Cooper 1999 (Bibliography/Section B): 449–84.
  • Long, A. A., 1999, “Stoic Psychology”, in K. Algra, J. Barnes, J. Mansfeld & M. Schofield 1999 (Bibliography/Section B) Cambridge: 560–84.
  • نظريات قديمة أخرى في النفس

(cf. bibliography included in Lloyd Gerson’s article on Plotinus)

  • Armstrong, A. H., (ed.), 1967, The Cambridge History of Later Greek and Early Medieval Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Emilsson, E. K., 1991, “Plotinus and soul-body dualism”, in Everson 1991 (Bibliography/Section 7.2): 148–65.
  • –––, 2007, Plotinus on Intellect, Oxford: Oxford University Press.

أدوات أكاديمية

 

How to cite this entry.

 

Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.

 

Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

 

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

[Please contact the author with suggestions.]

مدخلات ذات صلة

Aristotle, General Topics: psychology | Plato: ethics | Plato: ethics and politics in The Republic | Plotinus | Stoicism


[1] Lorenz, Hendrik, “Ancient Theories of Soul”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2009 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2009/entries/ancient-soul/>.