مجلة حكمة
حقوق الإنسان جاك رانسيير

من هو موضوع حقوق الإنسان؟ – جاك رانسيير / ترجمة: حسين قطان

جاك رانسيير حقوق الإنسان
جاك رانسيير، فيلسوف فرنسي، وله الكثير من البحوث حول حقوق الإنسان


السؤال المطروح من خلال العنوان حصل على شرعية جديدة خلال العقد الأخير من القرن العشرين . فقد جددت للتو الحركات المنشقة عن الاتحاد السوفيتي و أوروبا الشرقية حقوق الإنسان (*)، أو “حقوق الإنسان”، وبعد فترة قصيرة، في السبعينات و الثمانينات ، و بما أن تعميم هذه الحقوق قد كان أحد أول أهداف ماركس الشاب، فإن هذا التجديد قد حصل على أهمية مضافة. و في الوقت الذي انهارت فيه الإمبراطورية الروسية، بدا و كأن هذه الحقوق قد أتت لتحصل على انتقامها، و بدأت تظهر كعنصر أساسي لحركة لا يمكن قمعها مؤدية إلى عالم ما ـ بعد ـ تاريخي تسير فيه الديمقراطية العالمية يدا بيد مع السوق العالمية للاقتصاد الليبرالي.

   نعلم بأن الأمور لم تصبح بتلك الطريقة تماما. ففي السنين اللاحقة، فالمشهد الجديد للإنسانية، المحرر من التوليتاريا الطوباوية، تحول إلى حلبة مليئة بصراعات و مذابح عرقية جديدة، بأصولية دينية، و حركات عنصرية و معادية للأجانب. أثبتت أرضية الإنسانية ” ماـ بعد ـ التاريخية” بأنها تلك التي تحمل صورة جديدة للاإنساني. و اتضح بأن حقوق الإنسان هي حقوق من لا حقوق لهم، السكان المطاردين من ديارهم، الملاحقين حتى يخرجوا من أراضيهم، و المهددين بالتطهير العرقي. هذه الحقوق المزعومة، تقدم نفسها باستمرار على أنها حقوق الضحايا، حقوق من هم غير قادرين على ممارسة حقوقهم، أو حتى المطالبة بها باسمهم، و لهذا السبب بالنهاية، لابد من يقوم آخرون بتأييدها. ثمن فعل ذلك كان هو تحطيم صرح الحقوق الدولية، الذي تم القيام به باسم الحق الجديد ب “التدخل الإنسانوي” والذي ليس هو إلا الحق بالغزو.

   ظهر ارتياب جديد: ماذا  يكمن خلف هذا التحول من الإنسان إلى الإنساني، ومن الإنساني إلى الإنسانوي؟ الموضوع الحقيقي لـ حقوق الإنسان تحول إلى ذلك المتعلق بـ”حقوق الإنسان” . و لكن الادعاءات التي تمت باسم هذه الحقوق بدت على أنها منحازة و مشوهة. لم يعد من الممكن إحياء النقد الماركسي، و كما يتضح، فإن صورة أخرى من الارتياب قد تم إحياؤها في محلها: بالتحديد، بأن ” الإنسان ” في حقوق الإنسان كان مجرد تجريد ، و بأن الحقوق الفعلية تنتمي لـ”مواطنين” ، بأن الحقوق متصلة بمجتمع وطني.

   هذا التصريح الجدلي نفسه، قام له أولا إدموند بيرك ضدا للثورة الفرنسية، و تم إحياؤه بعد ذلك، و لعل أهم ما تم بذلك الصدد، كان عبر حنة أرندت في كتابها الذي يحمل عنوان” أصول التوليتارية” في الفصل المخصص عن “التشوش في حقوق الإنسان”، تساوي حنة بين “تجريد” حقوق الإنسان و الموقف الواقعي  للسكان اللاجئين في أنحاء أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. فهي ترى بأن هؤلاء السكان حرموا من حقوقهم لأنهم كانوا مكونين من  “ناس” فقط دون وجود أي مجتمع وطني لضمان تلك الحقوق. وجدت أرندت في هؤلاء “الناس” “الجسد الذي يطابق الطبيعة التجريدية ل”حقوق الإنسان”. وهي تعبر عن المفارقة كما يلي: حقوق الإنسان هي حقوق من هم ليسوا سوى “كائنات بشرية” ، و الملكية الوحيدة المتبقية لديهم تكمن في كونهم بشرا على تلك الصورة. بعبارة أخرى ، هي حقوق أولئك الذين لا يحملون أية حقوق، مجرد محاكاة ساخرة لكل الحقوق.

   إمكانية وجود هذه المعادلة يكمن في تعريف أرندت للمجال السياسي على أنه حقل محدد مفصول عن ذلك المرتبط بالحاجة.

ضمن هذا الإطار، الحياة المجردة يمكن أن تعني “الحياة المنزوعة” ، “حياة خاصة” محاصرة ب ” تفاهتها، مقارنة بحياة العمل العام، التعبير، و المظهر. في الحقيقة، فإن نقد هذه الحقوق “التجريدية” هو نقد للديمقراطية. فهو مبني على فكرة أن الديمقراطية الحديثة أفسدت منذ البداية بسبب شفقة الثوار على الضعفاء. بعبارة أخرى، بسبب الخلط بين بين نوعين من الحرية، الحرية السياسية، في مقابل الهيمنة، و الحرية الاجتماعية، في مقابل الحاجة. بالنسبة لها، فإن حقوق الإنسان لم تكن ، كما ادعى بيرك، التصور المثالي للثوار الحالمين، بل هي الحقوق المتناقضة للفرد الخاص، الفقير ، اللاسياسي.

   هذا التحليل المعبر عنه قبل خمسين سنة، يبدو مناسبا تماما ٥٠ سنة في ما بعد للتعامل مع “التشوش” المتعلقة بـ حقوق الإنسان على المسرح الإنسانوي. ولكن من المهم الانتباه لما يسمح بالتعمل مع هذا ” التشوش”، بالتحديد، تصور أرندت لحالة استثناء معينة.  في فقرة صادمة من فصل ” التشوش في حقوق الإنسان ” تكتب ما يلي عن عديمي الحقوق، ( أن مأزقهم ليس هو أنهم غير متساوين أمام القانون، و لكن بأنه لا يوجد قانون لهم ، ليس بأنهم مضطهدون، و لكن بأنه لا يوجد أحد يريد اضطهادهم) .

   إن نبرة الازدراء الواضحة في التعبير “لا أحد يريد اضطهادهم” هي بالفعل شديدة الغرابة. إنه و كأن هؤلاء الناس مذنبون لأنه لا يمكن اضطهادهم، كونهم لا يستحقون حتى الاضطهاد. الرأي القائل بوجود وضع و حالة ” ما بعد الاضطهاد”، أبعد من تصورها من خلال الصراع و الاضطهاد، أو القانون و العنف، يحمل مخاطرة يجب أن نكون منتبهين لها،. لحقيقة وجود أناس يريدون اضطهاد هذا الشعوب اللاجئة و قوانين لفعل ذلك. فكرة ” ما بعد الاضطهاد” ترتبط أقل بالواقع و أكثر بالتقابل الصارم لأرندت بين حقل السياسة و حقل الحياة الخاصة، و الذي تسميه بالفصل نفسه “الخلفية المعتمة للعطاء”. بعبارة أخرى، فأن هذه الفكرة تتناسب تماما مع السياسي ـ الرئيس (politics ـ archi) (و يعرفها رانسيير لاحقا على أنها محاولة الحفاظ على السياسي من التلوث بالخاص، الاجتماعي، أو الحياة السياسية). لكن لاحقا، هذا الموقف، و بصورة متناقضة ، قدم إطارا للوصف و حجة ستكون مفيدة للاتسيس مسائل القوة و القمع. إنها تسمح بوضع هذه المسائل في مجال استثنائي لم يعد بعد الآن سياسيا، و لكنه ذو قداسة أنثروبولوجية متموضعة خارج الاختلاف السياسي. إن هذا التحول النظري من السياسي ـ الرئيس إلى موقف اللاتسييس ، هو سمة أساسية للتفكير الذي ظهر نتيجة للتأملات المعاصرة عن حقوق الإنسان ، اللاإنساني ، و الجرائم ضد الإنسانية .

   هذا التحول يتبين بوضوح من خلال تنظير جورجيو أغامبين عن السياسة الحيوية، كما هو واضح في ال” هومو ساكر” . يحول أغامبين معادلة أرندت ـ أو التناقض ـ عبر عدد من الإبدالات التي تساويها أولا بنظرية فوكو عن القوة الحيوية، و ثانيا من خلال نظرية كارل شميدت عن دولة الاستثناء. في الخطوة الأولى تعتمد حجة أغامبين على أن الاختلاف، الذي تراه أرندت،  بين نوعين من الحياة، مبني أصلا على التفريق بين كلمتين يونانيتين، “زوي” و التي تعني الحياة الفسيولوجية المحضة، و “بيوس” التي تعني شكلا من الحياة، أو “بيوس بلوتيكوس” أي، حياة الأفعال العظيمة و الكلمات النبيلة.

من وجهة نظرهها، فإن حقوق الإنسان والديمقراطية الحديثة مبنية على خلط هذين النوعين من الحياة، و الذي أدى بالنهاية إلى اختزال ال”بيوس” لمجرد “زوي”. يربط أغامبين هذا النقد لأرندت مع مجادلة فوكو حول “التحرر الجنسي”. يرى فوكو في كتاب “إرادة المعرفة” و “يجب الدفاع عن المجتمع” بأن الرغبة في التحرر الجنسي و في التحدث عن الجنس، هي بالواقع آثار لجهاز قوة يحث الناس على الحديث عن الجنس. هذه الآثار لقوة من نوع جديد، قوة ليست بعد الآن الصورة القديمة للسيادة التي تحمل قوة الحياة و الموت للخاضعين لها، و لكنها قوة إيجابية للتحكم بالحياة البيولوجية. حسب فوكو، فإن التطهير العرقي، و الهولوكوست هما جزء أيضا من برنامج سياسي حيوي” أيجابي” أكثر من كونه إحياء للحق السيادي في القتل .

   يستعمل أغامبين هذا التصور للسياسة الحيوية لتحويل قانون الديمقراطية الحديثة كما عرفته أرندت إلى الصورة الإيجابية للقوة. السياسة الحيوية تصبح شريكة للديمقراطية، أي أنها جزء من الاهتمام الفرداني شامل بالحياة الفردية و تقنيات القوة التي تبسط سيطرتها على تلك الحياة. من هنا يستمر أغامبين في نظريته. فبينما قارن فوكو بين القوة الحيوية الحديثة و قوة السيادة القديمة، يقارب أغامبين بينهما من خلال مساواة مفهوم فوكو عن “التحكم بالحياة” مع مفهوم شميدت عن دولة الاستثناء. بالنسبة لشميدت، فإن السلطة السياسية، تجد أساسها في دولة الاستثناء، أي أن القوة السيادية هي القوة التي تسمح بالتقرير في دولة توقف فيها الوضع القانوني الطبيعي . ويعني ذلك باختصار بأن القانون يعتمد على قوة قرار هو خارج القانون. أغامبين ، بدوره، يعرف دولة الاستثناء على أنها من تمتلك قوة تقرير الحياة. ومن ثم يربط بين استثنائية القوة السيادية مع استثناء الحياة، تلك الحياة المحضة و العارية و التي، بالنسبة له ، تقع ضمن منطقة من عدم التبيين أو التمييز ، بين الـ”زوي”و الـ”بيوس”، بين الحياة الطبيعية و الإنسانية.

   تحولت القوة السيادية و القوة الحيوية بذلك من تعارض إلى هوية. والتعارض بين سيادة الدولة و حقوق الإنسان يختفي كذلك. حقوق الإنسان جعلت الأمر يبدو و كأن الحياة الطبيعية هي مصدر و حاملة كل الحقوق، و الولادة هي مصدر السيادة. كانت هذه الهوية، المدعاة، محمية لزمن طويل عبر التعرف الولادة ـ أو الأصالة ( بمعنى الانتماء الجغرافي) مع الجنسية (الانتماء لدولة) أو صورة المواطن . ولكن انزياح الأعداد الهائلة من اللاجئين في القرن العشرين ، كما يبدو، حطم هذه الهوية، و من خلال نزع غطاء الجنسية، تم الكشف عن عري الحياة المحضة كسر لـ حقوق الإنسان .

و كذلك فإن برامج التطهير العرقي و الإبادة كشفت عن نفسها على أنها محاولة راديكالية للحصول على نتائج هذا الانفصال. سر الديمقراطية، سر القوة الحديثة، يبدو بصورته التامة حينها. قوة الدولة، الآن، يكمن في اهتمامها بالحياة المحضة، التي لم تعد حياة خاضع تريد القوة قمعه، و ليست حياة عدو تريد قتله، و لكن ، حسب أغامبين، مهتمة بحياة مقدسة-ـ حياة يتم أخذها حالة من الاستثناء، حياة ، “ما بعد القمع”. الحياة المحضة هي حياة تقع بين الحياة و الموت، يمكن التعرف عليها من خلال حياة رجل مدان أو شخص ما في غيبوبة.

   في تحليله للهولوكوست، يشدد أغامبين على الاتصال بين شيئين: التجارب العلمية على “غير المستحقين للحياة” ـ و هم الـ”غير طبيعيين”، المعاقون ذهنيا أو الأشخاص المدانون ـ و اليهود المخطط لإبادتهم، الذين وضعوا كمجموعة تم اختزالها تجريبيا إلى ظروف الحياة المحضة. ولهذا يمكن فهم القوانين النازية التي أوقفت البنود الدستورية التي ضمنت حرية الانتماء و التعبير على أنها التعبير الصارخ عن دولة الاستثناء و السر الخفي للدولة الحديثة. بالوقت نفسه، بدأ الهولوكوست بالظهور على أنه الحقيقة الخفية لـ حقوق الإنسان ، أي حقوق الحياة العارية غير المتمايزة المرتبطة بالقوة الحيوية. و يمكن تصور “نوموس” (أصل القانون) الحداثة على أنه المعسكر، يندرج تحته معسكرات اللاجئين ، المناطق التي يوضع فيها اللاجئون غير الشرعيين من قبل السلطات الوطنية ، ومعسكرات الموت النازية.

   و هكذا فإن الصراع السياسي، فعليا، يتم استبداله بتناسب بين القوة السيادية و الحياة المحضة. يصبح المعسكر مساحة من “الاستحالة المطلقة للتقرير بين الواقع و القانون، القاعدة و التطبيق، الاستثناء و القاعدة “.إنها تصبح مساحة يبدو فيها الجلاد و الضحية، الجسد الألماني و الجسد اليهودي، كجزئين من الجسد ” السياسي الحيوي” نفسه. و لهذا فإن أي نوع من المطالبة بحقوق، أو أي صراع لتفعيل قوانين، محاصر منذ بدايته بقطبية الحياة المحضة و دولة الاستثناء، قطبية تبدو و كأنها مصير أنطولوجي: نحن جميعا ، كل واحد منا، موضوع في نفس موضع اللاجئ في المعسكر. الفروق بين التوليتارية و الديمقراطية تبدو خافتة و أي ممارسة سياسية تبدو و كأنها خاضعة أصلا للفخ السياسي الحيوي.

  وجهة نظر أغامبين عن المعسكر على أنه (“نوموس” الحداثة) يبدو بعيدا عن عن وجهة نظر أرندت عن الفعل السياسي. اقتراحي هنا رغم ذلك هو، بأن الأيقاف الجذري للسياسي في حالة الاستثناء للحياة العارية لهو بالواقع النتيجة النهائية لموقف أرندت السياسي ـ الرئيس ، أي المحاولة للحفاظ على السياسي من التلوث بالخاص، الاجتماعي أو حياة سياسية. هذه المحاولة تخلي الساحة  السياسية من ساكنيها عبر إزالة الفاعلين المجهولين دائما عنها، و بهذا دمج حالة الاستثناء السياسي بقوة الدولة، باعتباره ما يقف وجها لوجه مع الحياة العارية .

هذه المعارضة تتحول بعد ذلك إلى تكامل،  إن إرادة الحفاظ على الحقل السياسي المحض تجعل السياسي يختفي بالنهاية في العلاقة المحضة بين قوة الدولة و حياة الفرد. و بهذا تتساوى السياسة مع القوة، و القوة نفسها تفسر أكثر فأكثر على أنها مصير سياسي ـ انطولوجي قاهر، وحده إله ما يمكنه إنقاذنا منه.

   للهروب من هذا الفخ الأنطولوجي، فإن سؤال حقوق الإنسان، و بالتحديد السؤال حول موضوعها، و بالتالي موضوع السياسة، يجب إعادة بنائه ووضع السياسة في مكان مختلف تماما. إذا وضعنا هذا في اعتبارنا، لننظر مرة أخرى لحجة أرندت التي يؤيدها أغامبين مبدئيا ـ فيما يتعلق بـ حقوق الإنسان و المواطن. ترى أرندت بأن الأخير يقع في مأزق ، يمكن مواجهته كما يلي: أولا حقوق المواطن هي حقوق الإنسان، و لكن حقوق الإنسان هي حقوق الفرد غير المسيس أو حقوق من لا يملكون أي حقوق، و يعني ذلك بأنها (حقوق الإنسان) ليس لها أي قيمة. ثانيا، حقوق الإنسان هي حقوق المواطن، مرتبطة بحقيقة كونه مواطنا، له حالة أساسية ماـ مما يعني بأنها حقوق من يمتلكون حقوقا و بذك ننتهي بتكرار ما (قول شيئين يحملان نفس المعنى) .(tautology)

  إذا، إما أن تكون حقوق الإنسان حقوق من لا حقوق لهم، أو أنها حقوق من يمتلكون حقوقا. أما أن تكون فراغا أو تكرارا ، و هي في الحالتين، حيلة مضللة، و هذا هو القفل الذي تقوم أرندت ببنائه. و لكن القفل محكم فقط إذا دفعنا ثمن إغفال افتراض ثالث يهرب من هذا المأزق. و يمكن عرض الافتراض كالتالي: حقوق الإنسان هي حقوق من لا يملكون الحقوق التي يملكونها، و يملكون الحقوق التي لا يمتلكونها. لنحاول فهم هذه الجملة، من الواضح أن ما تعبر عنه المعادلة لا يمكن حله بايجاد متغير واحد. حقوق الإنسان ليست حقوق فرد (موضوع) واحد، و الذي يمكنه أن يكون  مصدر و حامل هذه الحقوق معا، و من يمكنه استعمال الحقوق التي يمتلكها فعلا. إذا كان الأمر كذلك، فمن السهل إثبات، كما تفعل أرندت، بأن هذا الفرد (الموضوع) لا وجود له. إن العلاقة بين الموضوع و الحقوق لا يمكن الاستغناء عنها بهذه السهولة. السبب هو أن العلاقة بين الموضوع و الحقوق علاقة تفعل من خلال إلغاء مزدوج، موضوع الحقوق هو الفرد ـ أو إذا كنا أدق، عملية أخضاع الفرد ـ الذي يصل بين صورتين من وجود هذه الحقوق. في الحالة الأولى ، فإن الحقوق نقوش، كتابة مجتمع حر و متساوي، و ليست مجرد حقوق مسندة لكائن غير موجود. الظروف الفعلية من عدم وجود حقوق يمكن أن تنفيها، و لكنها ليست مثلا أعلى تجريديا، موجود بعيدا عن ظرف معطى. و لكنها جزء من ترتيب معطى، و الذي لا يتكون فقط من ظرف من عدم المساواة، و لكنه يحتوي أيضا نقشا يعطي المساواة صورة مرئية.

  في الحالة الثانية، فإن حقوق الإنسان هي حقوق من يصنعون شيئا من تلك النقوش، مقررين ليس فقط “استخدام” هذه الحقوق، ولكن أيضا بناء حالات تبرر استخدام هذه النقوش.إن الموضوع هنا ليس ببساطة أن نتفحص إذا ما كانت هذه الحقوق مثبتة أو منفية من خلال الواقع، و لكن أن نسلط الضوء على ما يعنيه إثباتها أو نفيها. الإنسان، المواطن لا يدلان على مجموعة من الأفراد. الإنسان و المواطن موضوعان سياسيان و بهذا ليسوا مجموعات واضحة، و لكن أسماء مضافة تطرح سؤالا أو نزاعا (دعوى)عمن يتضمنه هذا العد. و بالتالي، فإن الحرية و العدالة ليسا إسنادا ينتمي لأفراد معينين. الإسنادات السياسية هي إسنادات مفتوحة: تبدأ نزاعا حول ما تتضمنه، من تعنيه،و في أي حالات.

   إعلان حقوق الإنسان ينص على أن كل الناس يولدون أحرارا و متساوين، و بهذا يطرح سؤالا حول مجال تطبيق هذه الإحالات. الإجابة، عند أرندت، بأن هذا المجال هو مجال المواطنة، لحياة سياسية مفصولة عن الحياة الخاصة، تحل المشكلة سلفا. المسألة هنا هي، أين نرسم الخط الذي يفصل حياة عن الأخرى. السياسة تتعلق بهذا الحد، نشاط يضعه باستمرار موضع تساؤل. خلال الثورة الفرنسية، امرأة ثورية، أوليمب ديغوغ، جعلت هذه النقطة شديدة الوضوح، من خلال كلامها المشهور عن أنه إذا كان يحق للنساء أن يذهبوا للسقالة (مقصلة الإعدام) ، عندها يحق لهم كذلك الذهاب لمجلس النواب.

   النقطة التي أرادت توضيحهها هي أن النساء، و اللاتي كما يبدو ولدن متساويات، لسن متساويات كمواطنات. لم يكن يمكنهن التصويت أو الترشح في الانتخابات. المنع، كالعادة ، تم تبريره على أساس أن النساء لم يناسبن نقاء الحياة السياسية، لأنهن كن ينتمين لحياة خاصة، منزلية.كان يجب إبقاء الصالح العام للمجتمع بعيدا عن نشاطات، و مصالح الحياة الخاصة. وضحت محاججة أوليمب ديغوغ بأنه لا يمكن رسم الخط الفاصل بين الحياة المحضة و الحياة السياسية بهذه السهولة.

على الأقل توجد نقطة واحدة تكون فيها “الحياة المحضة” “سياسية”: حين تم الحكم على النساء بالإعدام كأعداء للثورة. إذا كان يمكنهم أن يخسروا “حياتهم العارية” بسبب حكم شعبي محفز سياسيا، فهذا يعني بأن حياتهم المحضة ـ حياتهم من حيث إمكانية قتلها ـ كانت سياسية. إذا كن مساويات للرجل تحت المقصلة، فلهن إذا الحق بالمساواة كاملة، من ضمنها المشاركة المتساوية في الحياة السياسية.

   الاستنتاج لن يؤيده صانعوا القوانين، هم بالتأكيد لن يتمكنوا من سماعه. و لكن يمكن تفعيله من خلال عملية خطأ، من خلال بناء اختلاف (بمعنى عدم إجماع ). الاختلاف ليس تضارب مصالح،آراء، أو قيم؛ إنه انقسام في “الفهم الشائع” :خلاف حول ما هو معطى و الإطار الذي نرى فيه شيئا ما كمعطى.النساء كموضوعات سياسية، انطلقن لإعطاء تصريح من شقين. وضحن بأنهن محرومات من الحقوق التي يملكنها بسبب إعلان الحقوق، وكانت لديهن حقوق من خلال عملهن العام حرمهم منها الدستور، و بأنه يمكنهن تفعيل هذه الحقوق. لقد تصرفن كموضوعات لـ حقوق الإنسان بالطريقة نفسها التي ذكرتها. تصرفن كموضوعات ليس لديها الحقوق التي لديها، و لديها الحقوق التي ليست لديها. هذا ما أسميه الاختلاف: وضع عالمين في واحد. السؤال حول الموضوع السياسي لا يقع بين فراغ مصطلح إنسان و كثرة “المواطن” مع حقوقه الفعلية.الموضوع السياسي هو قدرة على تنظيم مشاهد اختلاف.

   لو وجد معنى أيجابي لهذا المصطلح ، فهو في رفض كل الفروقات بين الناس الذين “يعيشون” في مجالات وجود مختلفة، إنكار التصنيفات حول من هو مؤهل و من هو غير مؤهل للحياة السياسية. فإن هذا الفرق بين الإنسان و المواطن ليس علامة لانفصال، يثبت بأن الحقوق إما مجردة من المعنى أو تكرار. إنها بداية فترة من الإخضاع السياسي. الأسماء السياسية هي أسماء مدعاة، امتدادتها و فهمها غير مؤكدين، و لهذا السبب فهي تتيح المجال لامتحان أو تحقق، الموضوعات السياسية (الأفراد) يشكلون حالات من هذا التحقق.

فهم يخضعون الأسماء السياسية ـ و يعني ذلك، امتداداتها و فهمها ـ للامتحان. فهي لا تقوم فقط  باستحضار نقوشات الحقوق لمواجهة مواقف تكون فيها هذه الحقوق مرفوضة (أن تمنح)و لكنها تكون عالما تكون فيه هذه الحقوق صالحة، مع العالم الآخر الذي لا تكون فيه كذلك. هي تبني علاقة تضمين و علاقة إقصاء.

   الاسم العام لكل الموضوعات التي تبني حالات التحقق هذه هو ال”ديموس” أو الشعب. في نهاية “هوموساكر” يؤكد أغامبين على ما يسميه “الغموض المستمر” لمفهوم الشعب،الذي يكون في الوقت نفسه مسمى الجسد السياسي و مسمى الطبقات الدنيا. وهو يرى في هذا الغموض علامة للترابط بين الحياة العارية و السيادة، و لكن الشعب ـ أو الناس ـ لا يعني الطبقات الدنيا، ولا الحياة العارية. الديمقراطية ليست قوة الفقراء، و لكن قوة غير المؤهلين لممارسة القوة. في الكتاب الثالث ل” القوانين” ، يعدد أفلاطون كل المؤهلات التي تكون، أو تدعي بأن تكون، مصدرا لسلطة شرعية. من ضمنها سلطة الأسياد على العبيد، كبار السن على الشباب، المتعلم على الجاهل و هكذا . في نهاية القائمة ، رغم ذلك، هنالك شذوذ عن القاعدة، “مؤهل” للقوة يسميه ساخرا اختيار الإله، معناه الصدفة المحضة : السلطة المكتسبة عبر الاختيار بالقرعة، المسمى بالديمقراطية. الديمقراطية هي قوة من لا يملكون أي مؤهل للحكم، سوى كونهم لا يملكون أي مؤهل. و كما أفسرها، الشعب ـ من خلال كونه موضوعا سياسيا ـ يجب التعرف عليه عبر مجموع من لا يملكون “مؤهلا”. أسميه عد من لم يتم عدهم ـ أو الجزء الذي لا ينتمي لأي جزء. إنه لا يعني السكان الفقراء، إنه يشير إلى جزء تكميلي، جزء فارغ، يفصل المجتمع السياسي عن تعداد أجراء المجتمع فقط.

     حجة أغامبين هي جزء من التعارض الكلاسيكي بين وهم السيادة و محتواها الحقيقي. ولهذا السبب فهو يخطئ تماما في فهم منطق الموضعة السياسية (بناء موضوع سياسي، فرد خاضع).الموضوعات السياسية هم موضوعات إضافية تنص على عد من لم يتم عدهم كمكمل. السياسة ليست مجالا محددا من الحياة السياسية، مفصول عن المجالات الأخرى، بما أنه يعمل على فصل نفسه عن المجتمع ككل.

يمكن عد المجتمع بطريقتين متعارضتين. هنالك الطريقة البوليسية من خلال عده كمجموع أجزائه، أي المجموعات و المؤهلات التي تحملها كل منها؛ و هنالك الطريقة السياسية في عده و فيه يضاف المكمل للعدد، كالجزء للذين لا ينتمون لأي جزء، و يعمل ذلك على فصل المجتمع عن أجزائه، أماكنه، أعماله و مؤسساته. الطريقة البولسيية في العد مبنية على المجالات المحددة، و لكن السياسة عملية و ليست مجالا.

   حقوق الإنسان هي حقوق الشعب، و الذي هو الاسم العام للموضوعات السياسية، و هي موضوعات، في مواضع معينة من الاختلاف، تقوم بتفعيل المؤهل المتناقض لهذا المكمل. عندما تنسب هذه الحقوق للفرد نفسه، فإن هذه العملية تختفي كليا. ليس فقط إنه لا يوجد إنسان في حقوق الإنسان، لا حاجة لأن يكون هنالك واحد كذلك. تكمن قوة هذه الحقوق في الحركة المستمرة بين النقش الأساسي للحقوق و المسرح الاختلافي الذي يضعها تحت الاختبار. و لهذا السبب كان الأفراد الخاضعين للدستور السوفيتي قادرين على الإحالة لـ حقوق الإنسان معارضين للقوانين التي تنفي فعاليتها. و لهذا السبب أيضا يمكن التذرع بها من قبل مواطنين لدول يحكمها قانون ديني أو أمر حكومي، المهاجرين غير الشرعيين المحجوزين في مناطق العبور بالدول الغنية، أو السكان في معسكرات النازحين. عندما يمكن لهذه المجموعات -ـ و دائما يوجد أفراد منهم يفعلون ذلك ـ أن تستخدم هذه الحقوق لبناء اختلاف ضد حرمانهم من حقوقهم المسموح لهم بها، هم يحملون بالفعل هذه الحقوق.

   أنت مجبر على الزعم، كما فعلت أرندت، بأن الحقوق الفعلية هي بالواقع حقوق معطاة للمواطنين من قبل دولهم نتيجة لانتمائهم لها، و أن ضمان هذه الحقوق مرتبط بحمايتها من قبل الدولة، لو فرضت بأن هذه الحقوق تنتمي لمواضيع ثابتة أو دائمة. هذا الافتراض يجبرك  على إنكار حقيقة كل الصراعات الواقعة خارج إطار الدولة الوطنية الدستورية، و يجبرك على الزعم بأن الحقوق الوطنية هي حقوق “تجريدية” فقط، و تتضح هذه التجريدية في الظرف الذي يحرم فيه الإنسان “المحض” من هذه الحقوق.

   إن الاستناج، رغم ذلك، حلقة مفرغة، بما أنه يؤكد فقط ما كان مفترضا منذ البداية، بالتحديد بأنه هنالك انقسام بين من يستحق و من لا يستحق الاشتراك في السياسة. و لكن عملية التعرف على موضوع حقوق الإنسان من خلال الموضوع المحروم من حقوقه ليس فقط نظرية تدور في حلقة مفرغة، و لكنه أيضا، و دائما، إعادة تعريف للمجال السياسي، لعملية “لا تسييس” فعلية. اليوم تعرف هذه العملية باسم الاختلاف، الذي يتخطى معناه المحاولة البسيطة لحل النزاعات السياسية حلا عقلانيا و عمليا من خلال مظاهر من التفاوض و الاتفاق الذي تحصل من خلاله كل مجموعة على أكبر حصة ممكنة عند أخذ مصالح المجاميع الأخرى بعين الاعتبار. يتكون الاتفاق من محاولة رفض السياسية عبر طرد الموضوعات الإضافية و استبدالهم بشركاء حقيقيين، ، فئات اجتماعية و هووية و هكذا دواليك. النتيجة هي، أن تتحول الصراعات إلى مشاكل تحل بالخبرات المتعلمة و تنظيم المصالح المتفاوض عليها. الاتفاق يعني إغلاق مساحات الاختلاف عبر وضع فسحات و رقع أية فراغات ممكنة بين المظهر و الحقيقة، القانون و الواقع.

   بهذه الطريقة، فأن الحقوق “التجريدية” و المدعاة للأنسان و المواطن تتحول شرطيا إلى حقوق فعلية ـ تلك التي تملكها مجموعات فعلية تحمل هوية ثابتة و مكانة معترف بها بالمجتمع.

بهذه الطريقة، فإن الاختلاف السياسي حول المشاركة في المشترك العمومي يتم اختزاله إلى توزيع يحصل فيه كل جزء من الجسد الاجتماعي على حصته التي يستحقها. حسب هذا المنطق، فإنه يتم قولبة القوانين و الحقوق  بدقة متزايدة حتى تناسب تنوع الفئات الاجتماعية و لتماثل سرعة التغيرات في الحياة الاجتماعية، و طرق الحياة الفردية. هدف هذه الممارسة التوافقية هو إنتاج هوية بين القانون و الواقع ، بحيث يكون القانون متطابقا مع الحياة الطبيعية للمجتمع. بعبارة أخرى فإن التوافق يتكون من اختزال الديمقراطية إلى طريق حياة أو روح المجتمع (صفاته المميزة) ـ مكان و طريقة حياة مجموعة معينة.

   إن التوافق هو العملية المسببة للتقلص المستمر للمساحة السياسية في الوقت الحالي. فإن المساحة السياسية تظهر فقط في الهوة بين الحرفية التجريدية للحقوق و الجدل حول التحقق منها. هذا التقلص حدث لدرجة إن تظهر هذه الحقوق على أنها بالواقع فارغة، لا تحمل أي فائدة بالنسبة لنا. و عندما تكون تلك الحقوق بدون فائدة ، عندها و كما يفعل الأفراد الخيرون بملابسهم القديمة، فإنها تعطى للفقراء. عندما تبدو بدون فائدة، فإن هذه الحقوق تبعث خارجا مع الأدوية و الملابس لأناس محرومين من الأدوية، الملابس، و الحقوق. و نتيجة لهذه العملية، فإن حقوق الإنسان تصبح حقوق من لا يملكون حقوقا، حقوق الإنسان المحض الذي تعرض للقمع و ظروف الحياة غير الإنسانيتين.

حقوق الإنسان تصبح حقوق إنسانوية، أي أنها، حقوق من لا يستطيعون ممارستها، حقوق لضحايا محرومين تماما منها. مع ذلك، فإن هذه الحقوق ليست فارغة؛ الأسماء و الأماكن السياسية لا يمكن أن تصبح أبدا مجرد فراغ. فإن الفراغ يملأه دائما شخص أو شيء آخر؛ من خلال تحولها لحقوق من لا يستطيعون تفعيلها فإن حقوق الإنسان لا تصبح لاغية أو فارغة. لو لم تكن هذه الحقوق ” بالفعل” حقوق هؤلاء الضحايا، فإنها يمكن أن تصبح حقوقا لآخرين.

   تحت رعاية محاضرات جامعة أوكسفورد عن حقوق الإنسان، المنظمة من قبل منظمة العفو الدولية عام ١٩٩٣، أعطى ليوتار محاضرة بعنوان “حقوق الآخر”. موضوع المحاضرة “حقوق الآخر” يجب أن يفهم كإجابة عن سؤال، “ما الذي تعنيه حقوق الإنسان في سياق الموقف الإنسانوي؟” محاولة ليوتار كانت في إعادة التفكير بالحقوق من خلال إعادة التفكير في السؤال عن الخطأ. فبعد انهيار الامبراطورية الروسية و النتائج المحبطة لما كان يفترض بأنه الخطوة الأخيرة في طريق تحقيق الديمقراطية العالمية، فإن مسألة إعادة التفكير في “الخطأ ” أصبحت ملحة أكثر فأكثر. التفشي المتجدد للحقد و العنف العنصري و الديني ـ لجرائم جديدة ضد الإنسانية ـ و التي لا يمكن نسبها لأيديولوجيا معينة، يعني بأنه كان يجب أن يعاد التفكير بجرائم الإنظمة التوليتارية المنحلة . ظهر إدعاء جديد بأنها لم تكن التأثيرات المحددة للأيديولوجيات الفاشلة و” الأنظمة الخارجة عن القانون ” بقدر ما كانت تمظهرا لخطأ أبدي، خطأ لا يمكن تفسيره من حيث التعارض بين الديمقراطية وضد ـ الديمقراطية، الدولة الشرعية و الدولة غير القانونية ، و لكن ما ظهر على أنه شر مطلق ـ شر لا يمكن التفكير فيه أو التكفير عنه.

   إن تصور ليوتار عن اللاإنساني هو واحد من أهم الأمثلة للإطلاق (تحويل فكرة ما إلى شيء مطلق) ما فعله ليوتارد بالفعل هو فصل فكرة اللاإنساني لجزئين. فهو يرى بأن صور القمع و القسوة، أو حالات المحن ، و التي يمكن أن نصفها بغير الإنسانية، هي بالواقع خيانة للاإنساني آخر، هذه المرة لا إنساني “خير”. اللاإنساني “الخير” هو الآخرية، جزؤنا الذي لا يمكننا أن نتسيده (نسيطر عليه)،و الذي يمكن أن نسميه الولادة، الطفولة، اللاوعي، القانون، أو الإله. اللاإنساني هو آخرية لا يمكن اختزالها، جزء من الغير قابل للترويض الذي يكون الإنسان، كما يرى ليوتار، رهينة أو عبدا له. الشر المطلق يبدأ مع محاولة ترويض غير القابل للترويض مع محاولة إنكار حالة الرهينة هذه، و نفي اعتمادنا على قوة اللاإنساني لبناء عالم يمكننا أن نتسيده تماما.

   السيادة التامة، كما يرى ليوتار، كانت الحلم الفعلي لـحركات  للتنوير و التحرير الثوري، و هي حية في الأحلام الحديثة عن التواصل المثالي و الشفافية. و لكن الكشف و التحقق الفعلي للحلم ظهر فقط في الهولوكوست النازي؛ اي في إبادة الناس الذين كانت مهمتم هي الشهادة على حالة الرهينة، إتباع قانون الآخرية، قانون إله خفي ، إله لا يمكن تسميته. و يتبع ذلك إذا، أن الجرائم “ضد الإنسانية” هي في الواقع جرائم تنتج من التأكيد على حرية بشرية تنكر الاعتماد الأساسي على ما لا يمكن ترويضه. من وجهة نظر ليوتار، فإن ردنا على هو الموقف “الإنسانوي” من الحقوق المرفوضة هو تأييد حقوق الآخر، حقوق اللاإنساني. فهو يؤكد على أن الحق في التعبير يجب يتعرف عليه من خلال واجب “إعلان شيء جديد “. و لكن “الجديد” الذي سيتم الإعلان عنه ليس سوى القوة سحيقة القدم للآخرو عجزنا عن تنفيذ واجبنا في الإعلان عنه. طاعة حقوق الآخر تقصي التنوع في الاختلاف السياسي باسم تنوع أكثر راديكالية.

   و كما رأينا مع أغامبين، فإن هذا يعني تأبيد الخطأ و إبدال التعامل السياسي معه مع نوع من المصير الأنطولوجي الذي يسمح فقط “بالمقاومة”. و لكن على الرغم من ذلك فإن المقاومة ليست تجليا للحرية. المقاومة هنا تعني الإخلاص لقانون الآخرية، و بهذا استبعاد أية أحلام “بالتحرير الإنساني”. هذا هو الفهم الفلسفي لحقوق الآخر .و لكن يمكن فهمه أيضا بطريقة أقل تعقيدا و أكثر تبسيطا كما يلي : إذا كان من يعانون من القمع اللاإنساني لا يستطيعون ممارسة “حقوق الإنسان” التي هي ملجؤهم الأخير، فيجب على آخرين أن يرثوا هذه الحقوق و أن يمارسوها بدلا عنهم. وهو حق انتحلته بعض الدول، لأنها تدعي ـ و غالبا ضدا لآراء المنظمات الإنسانية نفسها ـ بأنها ستساعد السكان الذين تحولوا لضحايا. “الحق في التدخل الإنساني” إذا هو بمثابة إعادة الحقوق غير المستعملة المرسلة لمن لا يملكونها إلى من أرسلوها.و في عودتها، فإن هذه الحقوق تكتسب استخداما جديدا، استخدام يؤثر على المسرح العالمي تأثيرا مماثلا لما يحققه الاختلاف على المسرح الوطني: إلغاء للحدود بين القانون و الواقع، القانون و اللا قانونية. “حقوق الإنسان” المعادة هي حقوق الضحية المطلقة، و تسمى بذلك لأنها ضحية شر مطلق. الحقوق المعادة لمرسلها ـ المنتقم لها ـ شبيهة بقوة العدالة اللا نهائية ضدا لمحور الشر.

   تم رفض تعبير “العدالة المطلقة” من قبل الحكومة الأمريكية كلفض غير ملائم بعد بضعة أيام فقط من تقديمه، و لكنه قد بدا مناسبا بالنسبة لي، العدالة المطلقة ليست فقط نوعا من العدالة يرفض مبادئ القانون الدولي، التي تحرم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. إنها عدالة تمحي كل التمايزات التي عرفت مجال العدالة بشكل عام، و تلك هي ، التي بين القانون و الواقع، العقاب القضائي و الثأر الشخصي، العدالة/حفظ النظام و الحرب، كل تلك الفروقات تم اختزالها لصراع أخلاقي مطلق بين الخير و الشر.

   سؤال الأخلاق موجود في أجنداتنا أكثر من أي وقت مضى. يرى البعض هذه الظاهرة كعودة للروح المؤسسة للمجتمع التي تحافظ على القوانين الإيجابية و الحرية السياسية. أنا أراها بشكل مختلف تماما. بالنسبة لي، فإن الصعود الجديد للأخلاق متعلق بانحلال كل الفروقات القضائية و مساحات الاختلاف السياسي في الصراع الأبدي بين الخير و الشر. إن النزعة الأخلاقية في الواقع “دولة استثناء”، و التي، على العكس مما يراه أغامبين، لا تعني إدراك جوهر مفترض للسياسي. بل أنها الناتج من مسح السياسي من خلال تزاوج السياسة التوافقية مع الشرطة الإنسانوية (كمؤسسة رقابية قادرة على العقاب). نظرية دولة الاستثناء و نظرية حقوق الآخر تحولان هذه النتيجة (مسح السياسي) إلى مصير أنثروبولوجي أو أنطولوجي و تقفي أثره لمرحلة ما قبل نضج الحيوان الإنساني ـ التي لا يمكن الهروب منها . ما أعرضه ، رغم ذلك ، هو أن المصير الأنطولوجي للحيوان الإنساني هو قصة تعمل فقط لتغطية المهمة الحقيقية أمامنا: و هي فهم لمن هي حقوق الإنسان و إعادة التفكير في السياسة بالوقت الراهن، الذي ينبع من نقصانها.

هذه ترجمة للفصل الثالث من كتاب رانسيير  الاختلاف: في السياسة و الإستطيقا  


(*) سأشير لـ حقوق الإنسان كفكرة عامة دون استخدام علامات تنصيص، أما “حقوق الإنسان” فهي تعني التصور الليبرالي لحقوق الإنسان، أي حقوق الإنسان بمعناها الحديث.