مجلة حكمة
فلسفة بدوي

منزلة الوجدان في فلسفة عبد الرحمن بدوي

الكاتبطريف بن عيد السليطي

تسعى هذه الورقة إلى تبيان مفهوم “الوجدان” في فلسفة عبد الرحمن بدوي، وتبحث في مميزات هذا المفهوم بالمقارنة مع غيرهِ من المفاهيم الفلسفية التي تبناها الفيلسُوف المصري الكبير. يأتي التطرق لهذا المفهوم المُميز في فلسفته من خلال النظر في توجهه الوجودي بصورة عامَة، لا سيما في كتابه الأساسي) الزمان الوجودي) الذي بسَط فيه أفكاره الخاصة والمختلفة في معناها ومبناها عن سائر كتبه الأخرى والكثيرة، إذ توزع نتاجه الضخم كماً وكيفاً بين الترجمة والتحقيق وتأليف الدراسات والموسوعات في الفلسفة والأدب والتاريخ وحتى السياسة والاستشراق والتصوف.

” إن مزاجية الوجدان، إنما تُشكل، من الناحية الوجودانية، مفتوحية الدازاين على العالم”

مارتن هيدجر (الكينونة والزمان) 

جاء كتاب عبد الرحمن بدوي (الزمان الوجودي) تأسيسياً فيما يخص فلسفته الوجودية. حاول فيلسوفنا من خلاله أن يبتكر مذهبه الوجودي الخاص على غرار المذاهب الوجودية الأوروبية الأخرى كما هو شأن سيرن كيركجورد ومارتن هيدجر وجان بول سارتر وجابرييل مارسيل وغيرهم ممن تطرق إليهم في كتابه (دراسات في الفلسفة الوجودية) حيث صرح بأستاذية هيدجر ونيتشه الفكرية له. وعلى الرغم من عدم استكماله لبناء مذهبه كما وعد بذلك (1) إلا إننا نجد في كتابه مادة غزيرة من البحث الوجودي، انتهت خلاصتها إلى الإعلاء من منزلة الوجدان بشقيه: الإرادي والعاطفي، على حساب العقل المنطقي التقليدي.

 

وهي خطوة فلسفية وإن بدت شديدة الصلة والشبه بما تبناه هيدجر في الكينونة والزمان) 2) إلا إنها مع ذلك حملت نسقها الخاص، الأصيل والمُبتكر، وتضمنت سرداً فلسفيا ميزه عن سواه من فلاسفة الوجودية، استثمر بدوي في هذا السرد أدواته المعرفية والفلسفية المتقدمة.

ونأمل أن نوفق في إيفاء فيلسوفنا العربي حقه من الدرس والاستقراء، وأن نعيد إحياء فلسفته الوجودية المؤسسة على الحرية الوجدانية والقرار والعُمق الروحي، وهي مزايا صرنا نفتقر إليها في عصر الشموليات المتعددة بين البشري والآلي والرقمي والاقتصادي، ولا يمنعنا ذلك من الوقوف عند ما نراه نقائص أو هنّات في هذه الفلسفة، على الأقل على ضوء ما يفصلنا عنه من مسافة تاريخية تبعد زهاء خمسةٍ وسبعين عاما من النص الأساسي، وهي مدة كافية للتحليل الحضاري والفلسفي عطفا على مُستجدات هذين الحقلين اللذين شغلا فيلسوفنا الكبير.

مفهوم الوجود

قبل أن يتناول الوجدان بالتحليل والتنظير الفلسفي، يتخذ عبد الرحمن بدوي من توصيف الوجود مدخلاً لكتابه وتمهيداً للنظر في أحوال الوجدان ومنطق العواطف. يكتب بدوي عن الوجود بوجهه العام، نقلاً عن أبي البركات البغدادي: ” الوجود أظهر من كل ظاهر، وأخفى من كل خفي، بجهةٍ وجهة. أما ظهوره فلأن من يشعر بذاته يشعر بوجوده، وكل من شعر بفعله شعر معه بذاته الفاعلة ووجودها ووجود ما يوجد عنها ويصدر من الفعل “(3). ويعلق بدوي:

"ثمة من الأشياء ما هو معروف الآنية، غير معروف الماهية، والوجود والزمان تصوران من هذا النوع، بل هما نموذجه الأعلى. ونقصد من الآنية هنا ظُهورُ الوجود دون اتضاح الماهية"(4).

ينطبق على هذا النص القول الشائع، أن إيضاح الواضحات من أصعب المُشكلات. فالوجود لشدة وضوحه وبداهته عصي على التعريف والتحديد، ولهذا فنحن نلحظ ظواهر الوجود وتجلياته وتبدّياته، دون أن نعرفه -أي الوجود – معرفة يقينيةً جازمة، فلا نظفر إلا بالآنية وهي لمحة الوجود.

ومن أبرز من أولى مشكلة الوجود حقها من الدرس، هيجل، الذي يرى تصور الوجود أعم التصورات وأكثرها إطلاقية؛ فهو أول المقولات ولا يتوسطه شيء. ويلخّص بدوي فكرة هيجل عن الوجود بأنه ” الهوية الخالصة والسوية المطلقة “(5). ما يعني أنه تجريد تام لكل المتعينات. ويكتب والتر ستيس عن الوجود بأنه أيضا ” حقيقي، لكنه بلا زمان ولا مكان” .. ” الوجود شيء كلي، وهو ما تشترك به الأشياء جميعها لأن الأشياء كلها موجودة “(6).

لكن الوجود في تجريده الأعلى -غير المتعين وبسبب تجويفه من الصورة -يرتد إلى اللاوجود: ” إذا حاولنا الوصول إلى الوجود المُطلق لم نصل إلا إلى اللاوجود؛ وإذا أردنا الوصول إلى اللاوجود لم نصل إلا إلى الوجود ” (7). لكن عبد الرحمن بدوي يطمح للتأسيس الأنطولوجي جريا على عادة الوُجوديين لأجل الغايات الفردية خصوصاً؛ فإن الوجود الإنساني ليس أنثروبولوجيا، ولا سيسيولوجيا، ولا سيكلوجيا، إنه أكثرتعييناً من الجواب العلمي المألوف، فالهدف من السؤال عن الوجود هو معرفة الموجود، وبالأخص الوجود العيني المُفرد والمشخّص.

وهذا ما يجعل حاصل الصيرورة بين الوجود واللاوجود هو الوجود المتعين. فالتعيين -كيفما كان أمره -يتطلب الحد، والحد تناهٍ وسلب، وهنا يأتي دور اسبينوزا، الذي ربط التعريف بالسلب، فكل تعريف أو محاولة للتحديد الإيجابي لهذا المعنى أو ذاك، تتطلب بدورها سلبا لما لا ينضاف من محمولات أو صفات. فكوني زيد يعني أنني لست عمرو، ولست شجرة ولا حجرا، وبذلك يتخذ زيد صفة الوجود العيني غير المطلق. هذا السلب الاسبينوزي -بالرغم من سياقه المنطقي والمعرفي- يتخذ عند عبدالرحمن بدوي صيغة وجودية: فوجود التعيين يقتضي السلب لما عداه من متعينات، والتعيين –أيضاً – يوضح حقيقة الشيء الموجود “ما دام الشيء الموجود لا يوجد متعينا إلا إذا كان له حد ” . والمحدود متناه؛ فبخلاف الوجود المطلق الخالي من الصورة والخارج عن الزمان والمكان، فإن الوجود العيني بدوره ينساب في الزمان ويتموضع في المكان، بل إنه لا يمكن تصور التعيين بمعزل عن مقولتي الزمان والمكان وهما أساس كل تعيين.

ولكن فلسفة هيجل تنحو صوب المطلق، فالغرض من الديالكتيك بين الوجود واللاوجود يأتي في سياق توكيد الروح المطلقة، فبعد أن يرتفع الوجود واللاوجود وتحصل الصيرورة داخل المتعين، سيكون الهدف من التعيين أن ينعكس الكلي في الجزئي، وتعود من خلاله الجزئيات إلى الروح الكلية عبر التجريد؛ فكل ما هنالك من موجودات عينية هي في محصلة الأمر ” محسوسات ” أو ” فرديات ” جزئية ترتفع تناقضاتها الذاتية لتذوب في الروح المطلقة عند هيجل، وهي بطبيعة الحال روح كلية ومثالية لا مكان للشخص فيها إلا بكونه حاملاً للتصورات الكلية.

من هنا كان نقد الوجوديين في محله؛ بالنظر لمجرى أفكارهم الفردية، أو بالأصح نظرتهم للفكر عموماً، فالفكر فردي وعيني ومرتبط بالإرادة والوجدان، والفكر يتبلور من خلال الفعل والإرادة والشعور، لا من خلال الاستدلالات المنطقية الصرفة أو الاستدلال أو التفكير المجرد الجاف. الفكر أداةً للحياة، وليست الحياة والوجود والكيان الإنساني ” أدوات ” للفكر، وهذا ما دفع فيلسوفا كبيرا من وزن كيركجورد لنقد فلسفة هيجل. يقول كيركجورد: ” إن الفرد هو المقولة التي نعبر من خلالها إلى حياتنا الدينية، إلى عصرنا، وجنسنا، وتاريخه ” (8).

وهذا ما يطبع القول الفلسفي للوجودية، عند مؤسسها الأول كيركجورد، بطابع الاتجاه، أو النمط mode في التفلسف، أكثر من كونه مذهبا محكم الرؤية، نظرا لما للمذهب من نسقية ومنظومية وشمول، وهي خصائص يجد فيها أبو الوجودية ما يتعارض مع صفات الفرد النبيل الذي يدعو له.

لهذا عارض كيركجورد فكرة التركيب synthesis الهيجلية بين الوجود واللاوجود، لأنها تؤدي لضرب من التسوية العقلية، ترمي في نهاية المطاف لضم المشاعر والعواطف والانفعالات الوجدانية في مركبات عقلية يذوب فيها الفرد، فلا صلاحية للفردية عند هيجل إلا في كونها وسيلة نحو الكُلية، ولا قيمة لها خارج هذا الفكر الكلي المجرد الشامل. الوجود عند كيركجورد ” ليس هو الوجود الخالص أو المجرد، الذي يبدأ به هيجل، بل هو الوجود العيني الذي يتضمّن الفردية والصيرورة ومن ثم يتضمن المستقبل لأنه الوجود الذاتي المتزامن بالزمان والذي لا يقبل الاندماج في مذهب ” (9). هذا ما أدى بكيركجورد لرفض الديالكتيك الهيجلي لكونه حركة تتم داخل نطاق الفكر، بينما الوجود في تعيّنه، وإرادته، وفعله، يتوجب عليه أن يحافظ على طابعه المُمزق والعَيني.

يخلص بدوي، عبر نقد كيركجورد لجدلية هيجل ” العقلية ” التي تريغ إلى الحل والتسوية، إلى ديالكتيك الوجود الحي والمتوتر، الذي يجد نفسه وسط تمزقات الواقع المباشر والعيني دونما تسوية من أي نوع. هذا الطابع المتوتر هو جوهر الوجود، وعوضا عن ديالكتيك هيجل العقلي سنكون بإزاء ديالكتيك بدوي الوجودي القائم على نبذ السكون العقلي (نهاية كل تركيب هيجلي) وتبني الحركة والطفرة والوثوب من كيف لآخر، من حالة وجدانية إلى نقيضها باستمرار، ودونما انقطاع.

يسمي بدوي الذات الفاعلة والمتوترة وجوديا ب” الذات الماهوية ” (10) وهذه الذات الماهوية تستوجب بعض الشرح، لأهميتها في فلسفة بدوي. فإذا كان الوجود هو الماهية عند هيدجر كما ذكر في الكينونة والزمان (11) والوجود يسبق الماهية عند سارتر(12) فإن الوجود الماهوي عند بدوي ” هو الوجود الذاتي على صورة إمكانيات ذاتية لم تتحقق كلها بعد، أو لم يتحقق منها شيء، وهو وجود يمتاز خصوصا بالحرية المطلقة، الحرية التي تريد اللامتناهي على نحو لانهائي، على حد تعبير كيركجورد الجميل ” (13). والوجود الماهوي يتخذ من أشياء العالم أدوات له، أي بالضبط كما أشار لذلك هيدجر. فوجود الأدوات والأشياء يكون بالنسبة لمن يستخدمها ويستعملها ويحقق من خلالها ممكناته، ووجود الآخرين (أو الميتدازاين بتعبير هيدجر) هو مشاركة لنفس الفعل وإن اختلفت الغاية بين وجود ماهوي وآخر.

مفهوم الزمان

بما أن الوجود الماهوي وجود ذاتي حر، فعلينا فهم الحرية ” الفلسفية ” و ” الميتافيزيقية ” التي يقعّد لها عبد الرحمن بدوي. يكتب بدوي في (دراسات في الفلسفة الوجودية) في موجز لكتابه العمدة، الزمان الوجودي: ” أما الذات فهي الأنا المُريد. والشعور بالذات إنما يتم في هذا القول: أنا أريد. ولكي يجد المرء ذاته، فعليه أن ينشدها في فعل الإرادة، لا في الفكر كفكر، أي كحالة لا كعملية ” (14).

ولكن، ألا يجب أن نتسائل عن الهدف من الإرادة الحاكمة للفكر؟ فالمعروف أن الفكر هو محتوى العقل، والفكرة قد تنصب في قضية منطقية مبدأها التصورات ومنتهاها الأحكام، وهذا كله لأهداف معرفية. بيد أن بدوي -ومثله سائر فلاسفة الوجودية- يأنفون من حصر الأفكار في قالبها المعرفي ويعودون بالأفكار – شأنهم شأن فيلسوف الإرادة شوبنهاور – إلى ما قبل الفكر وما قبل المعرفة (والماقبلية هنا أنطولوجية وليست إبستمولوجية) فالأنا أفكر يرتد إلى الأنا موجود، فيقود الحصان عربة الفلسفة وتصبح العبارة ” أنا موجود إذن أنا أفكر “. والهدف من الفكر والوجود كما يقول بدوي أن تكون ” غاية الموجود أن يجد ذاته وسط الوجود ” (15) فكيف السبيل لذلك؟

لكي نجيب على الأسئلة أعلاه، فإن قيود الحرية مشروطة بالإمكان، والوجود اقتناص ممكنات أو باللغة العادية “فرص” يُحقق من خلالها الموجود وجوده، ولأن غاية الموجود اقتناص الوجود، فإن هذا التحقق والتبلور يتم وسط ” الزمان ” فالزمان هو المسرح، أو المجال، الذي من خلاله يستعرض الإمكان نفسه ويتراءى للموجود: ” والوضع الصحيح عندنا أن نفهم الوجود على أنه زماني في جوهره وبطبيعته ” .. “وليس معنى الزمانية مجرد الوجود في الزمان، وكأن الزمان إطار يجول فيه الوجود ” .. ” وصفة الزمانية إذن تطبع كل موجود وتشيع فيه، كروحه الحقيقية، وهي المقوّم الجوهري لماهية الوجود، والعامل والفاعل في تحديد معناه ” (16).

هذا الزمان الوجودي يضاد الزمان الفيزيائي التقليدي، لعدة أسباب، منها ما ذكره هيدجر في الكينونة والزمان من أن بُنية الموجود لذاته، أو الدازاين، هي بنية زمنية صميمة (17) وفي نقده للفهم العامّي للزمان حتى عند هيجل، يؤسس هيدجر لتعالق الكينونة والزمان، ونجد الأمر نفسه عند عبد الرحمن بدوي الذي أقام تمييزاً واضحا بين الزمان الفيزيائي المعهود، والزمان الوجود محل تحقق المُمكنات، وبالتالي، مسرح أفعال الوجود الماهوي.

وسبب نقد هيدجر وبدوي للزمان الفيزيائي التقليدي، أنه يختلط مع معنى المكان، بل إن المكان وفق تصور بدوي ما هو إلا زمان متحجر. يكتب بدوي شارحا ومؤيداً أيضا لأوزفلد شبنجلر ” الزمان تغير مطلق، لأنه مدة مستمرة، وهذا التغير ليس معناه أن شيئا أو أشياء تتغير، بل معناه أن الزمان هو تغيُّر لأن التغيُّر لا يحتاج إلى شيء يكون موضوع التغيُّر، والحركة لا تقتضي وجود متحرك، لأن الحركة هي ذاتها تتحرك إن صح هذا التعبير.

ولكن التغيُّر معناه خلق شيء جديد باستمرار وإيجاد شيء لم يكن موجوداً من قبل ولم يكن وجوده منتظًراً، فالزمان في تغيره أي في جوهره خلق باستمرار، أما المكان فعدم حركة ولا خلق فيه ولا تجديد، لأنه إذا كان المكان متجانسا دائما فلا يمكن أن يكون فيه تغيُّر، لأن التغيير يقتضي عدم التجانس ” (18). ويختزل بدوي نفس فكرة شبنجلر من جديد، في الزمان الوجودي ” يقول شبنجلر إن المكان قطعة من الزمن المُتحجر؛ المكان كائنٌ أي ليس صائراً سيالاً كالزمان، كائنٌ لأنه يقف خارج الزمان، مسلوبا من الزمان، وبالتالي من الحياة ” (19).

والنقد الذي يوجهه هيدجر وبرجسون ومعهما بدوي، ضد هيجل وكانط والفهم العلمي للزمان، هو التشديد على عدم الخلط بين الزمان بسيولته والمكان بثباته، والأصح بنظر الوجوديين أن ينظر للزمان ضمن مميزاته الوجودية وليست الفيزيائية فحسب، وهي مُميزات يُجملها بدوي في ختام تبويبه عن الزمان كالآتي:

  • أن الزمان الفيزيائي الموضوعي يختلف عن الزمان الوجودي الذاتي.
  • أن الزمان مقوّم جوهري للوجود.
  • أن الوجود وجودان، وجود الذات ووجود الموضوع. الوجود الأول هو الوجود الأصيل ويتحقق بالزمان. والوجود الثاني ” خارجي ” وله طابع الإحالة.
  • الزمان الوجودي شرط لتحقق الحرية في الوجود الذاتي والماهوي، وهي الحُرية التي تشاق وتجاهد في سبيل تعيين المُمكن.
  • أن العقل ليس هو الملكة الوحيدة القادرة على إدراك حقيقة الوجود الحي؛ إنما الوجدان، فعبر الوجدان ُمكن الخروج من حيز المكان وعالم الظواهر الذي حبسنا فيه كانط، والولوج إلى عالم الأشياء في ذاتها بغية الوقوف على الينبوع الصافي للوجود (20).

مفهوم الوجدان

للوجدان مسمياته المختلفة في التاريخ الفلسفي، فنجد بليز باسكال قد أولى المعرفة القَلبية مكانة سامية تفوق مكانة العقل. ففي كتابها عن باسكال، كتبت راوية عبد المنعم: ” ولما كان الروتين العقلي ونظام الأفكار يفرض على الحياة برنامجا معينا يسأم الفرد من مسايرته، ويمل من متابعته، فقد كانت الحركة والفعل لازمين لحياته حتى تستقيم ويهنأ بها، وهنا يصبح من الضروري أن ينطوي قلب المرء على عواطف قوية جياشة، ومشاعر رقيقة تنبع من وجدانه الحي حتى لا يتسرب الملل إلى حياته فيفسدها ” (21). والعقل في تصور باسكال يتزامن مع القلب ويعمل على إنعاشه وتقويته ” إن وضوح العقل يساعد في وضوح العاطفة لأن العقل الناضج الواضح يحب بشغف ويرى موضوع حبه بوضوح ” (22) ومع ذلك، فإن دور العقل بصورة عامة لا يتعدى الإيضاح والتمهيد لتجليات القلب، فالقلب هنا هو تاج الكينونة الإنسانية، وله براهين خاصة لا يبلغها العقل.

وفي التراث الإسلامي كانت التيارات الصوفية على اختلاف رموزها تعلي من شأن المعرفة القلبية على حساب المعرفة العقلية. فتبدأ هذه المعرفة القلبية بالمعاناة، عبر البحث عن اللامتناهي واللامحدود في الوجود المحدود، مختزنةً بداخلها ركام الآلام والشعور بمحدودية القدرة البشرية إزاء كون شاسع لا يدرك سرّه عقلاً ولا بالحسابات المألوفة، وتنتهي هذه المعاناة إلى إشراقات جوانية ووجدانية يطغى عليها عنصر الانفعال لا الفعل، وطابع التأثر والاستسلام لا طابع المقاومة (23) وهو أمر شبيه بما حدث مع رابعة العدوية وأبي يزيد البسطامي وحتى الإمام الغزالي حجة الإسلام (مع التشديد على الاختلافات في المسار الصوفي نفسه) لكن طابع الانفعال الوجداني بقي مشتركا بين الصوفية. إذ ذكرَ الغزالي في (المُنقذ من الضلال) وبعد معاناته الفكرية الشهيرة، أنه وجد حل الأحجية الوجودية في القلب لا العقل:

"ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحرّرة. فقد ضيّق رحمة الله تعالى الواسعة" 

ويستشهد حجة الإسلام بحديث الرسول عليه السلام: “إن الله خلقَ الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره ” رواه الترمذي. وكتب الغزالي معلقا في المنقذ: “فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك النور ينبجس من النور الإلهي في بعض الأحايين، ويجب الترصد له، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتتعرضوا لها ” رواه الطبراني.

ولم يكتفِ الغزالي بإيلاء المعرفة القلبية (أو الوجدانية) أهمية كبرى في نسقه الفلسفي والديني، ولكن نظّر لها من داخل الحقل الديني في كتابه العُمدة إحياء علوم الدين، وخصص لها كتاب (عجائب القلب) في موسوعة الإحياء، وتطرق للمعرفة القلبية في شتى رسائله وكتبه المركزية في الدين والفلسفة والتربية. ويسميه أحياناً بعلم (المكاشفة) وهو غاية العلوم وأجلّها. فالقلب:” هو العالم بالله. وهو المُتقرب إلى الله؛ وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو المُكاشِف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة (24).

وبجانب باسكال والغزالي، نجد أن نقد العقل عند إيمانويل كانط خصوصا في الفلسفة الغربية؛ قد أدى إلى ظهور تيارات الإرادة في القرن التاسع عشر عند شوبنهاور ومين دي بيران ونيتشه، وهي في جملتها تيارات ما بعد عقلية، ثم فلسفة الحياة عند برجسون ودلتاي وشبنجلر.

فالإرادة عند شوبنهاور هي الأساس للوجود البشري، وليس العقل. وقد أوضح ذلك في تحفته الخالدة (العالم إرادة وتمثلاً) ووطّد دعائم الإرادة في الكتاب الرابع من العالم الإرادة وتمثلاً بعنوان (العالَم إرادة) وجعل فيه الإرادة هي كل شيء بالمطلق: “في ضوء مجمل رؤيتنا، يمكننا القول بأن الإرادة ليست حرة فحسب، بل إنها قادرة على كل شيء؛ فهي ليست منبع السلوك الذي يصدر عنها فحسب، وإنما أيضا منبع العالم، فكيفما تكون الإرادة يكون مسلكها وعالمها ” .. ” فالإرادة تحدد ذاتها، وبذلك فإنها تحدد مسلكها وعالمها معاً، ولا يوجد شيء آخر خارج الإرادة؛ فهذا المسلك وذلك العالم هما الإرادة ذاتها ” (25).

صحيح أن شوبنهاور انتهى بعدئذ إلى وضع خطته الخاصة في تدمير الإرادة واللوذ بعيدا عن العالم المنظور، لكن ما يهمنا في هذا السياق تتبع السرد التاريخي للفكرة الفلسفة عن الوجدان والاستقلال عن العقل بمعناه الفلسفي. ومثل شوبنهاور فإن نيتشه يتبنى الإرادة، وإن دون تنظيم فلسفي متين كما فعل شوبنهاور، وانتهى إلى تمجيد الإرادة والذهاب بها، لا إلى عالم الزهد والرهبنة كما هو شأن شوبنهاور، لكن إلى عالم الاجتياح والقوة والسيادة. وبهذه المقاطع من كتابه الخالد (هكذا تكلم زرادشت) يخاطب نيتشه البشرية بلسان زرادشت قائلاً:

"إنني أعلمكم الإنسان الأعلى. الإنسان شيء لا بد من تجاوزه. فما الذي فعلتم كي تتجاوزوه؟ "
" الإنسان الأعلى كنه الأرض. فلتعلن إرادتكم: ليكن الإنسان الأعلى هو معنى الأرض! "
" ساعةً تقولون: ما أهمية عقلي! هل يتلهّف للمعرفة كما الأسد يتلهف لغذائه؟ إنه فاقة وقذارة وطمأنينةُ بائسة "!
" انظروا، ها أنني أعلمكم الإنسان الأعلى: إنه تلك الصاعقة، إنه ذلك الجنون! " (26).

هذه العبارات الإرادية والوجدانية اللاهبة، تتمخض عن هدف ” تاريخي ” يسعى له نيتشه، ويوضحه في كتاب ماوراء الخير والشر تحت عنوان (ما النبيل؟): ” إن الثلة النبيلة كانت في البدء ودائما ثلة من البرابرة: يكمن تفوقها لا في القوة الجسدية بالدرجة الأولى بل في القوة النفسية، كانوا البشر الأكمل، مما يعني أنهم الوحوش الأكمل في كل شيء ” (27). وهنا يشير نيتشه للتوجه الوجداني العنيف الذي يختلف عما وجدناه عند الغزالي (النزعة الصوفية) أو النزعة الأخلاقية الكاثوليكية عند باسكال، فاتجاه نيتشه أرستقراطي يرسخ التفاوت بين البشر لا على أساس العرق، لكن على أساس من الامتيازات النفسية، اتجاهٌ قرأه شبنجلر وعمل على ترسيخه في فلسفة التاريخ، ثم عمل عبدالرحمن بدوي – كما سيتضح في نهاية هذه الورقة – على توطيده فلسفيا في فلسفته الوجودية وتتويجه للوجدان سيداً للإنسان.

وفي معرض شرحه لفلسفة شبنجلر، يًشدد عبد الرحمن بدوي على أولوية الشعور الوجداني على حساب الإدراك العقلي ” فمَلَكة المعرفة في الفلسفة هي الوجدان، بينما هي في العلم العقل. أما العقل فلا يدرك غير التجاور والانفصال والكم والعدد وما هو قابل للوزن والقياس وما هو متجانس؛ أي المادة. وعلى العكس من هذا لا يدرك الوجدان غير التتابع والاستمرار والكيف والاتصال وغير المتجانس، أي الروح ” (28) وهذا التوجه الوجداني نحو إدراك الحياة يشمل برجسون وشبنجلر معاً، فبرجسون استعان بالحدس intuition لإدراك كلية الديمومة Duration فالحدس وليس العقل هو ما يدرك وحدة الزمان والمكان، وبالتالي يفهم التجربة الحية مباشرة وفوراً، بخلاف العقل الذي يستند على التصورات والتمثلات representations التي تعمل وسيطا يحول دون معرفة الحياة في عمقها وأصالتها وتلقائيتها.

ومثل برجسون عمل شبنجلر على توظيف فلسفة الحياة في مجال فلسفة التاريخ وفصله عن التأريخ بمعناه المألوف. فالتأريخ، بالهمزة على الألف، سرد وتوثيق وتحقق للأحداث وفصلها عن بعضها البعض، أما التاريخ فصيرورة هذه الأحداث، فيما فلسفة التاريخ هي وضع الأحداث في قالب فكري معمَّق يعطي للتاريخ غايته ومعناه ولا يعترف به ميدانا للأحداث العشوائية المُفرغة من المعنى.

وعن منزلة الوجدان في فلسفته كتب بدوي:

"إن الإدراك يتم بملَكة أسمى من العقل وهي الوجدان. فإذا كانت هذه الملكة ممكنة، خرجنا عن النطاق النسبي الضيق الذي اعتقلنا به كانط، نطاق عالم الظواهر، إلى نطاق أوسع هو نطاق عالم الأشياء في ذاتها، أو الروح بما تشتمل عليه في جوهرها وحاقّها، وستكون المعرفة إذن غير مقصورة على الظواهر، بل ستتعداها إلى المُطلق الروحي، إلى الينبوع الأصلي للوجود، فندركه كما هو في ذاته " (29).

والوجدان سيد على العقل، وليس العكس. فالعقل يدرس الوجود بعد تحنيطه، وتسكينه، وتجريده، وهو أقرب إلى اللاوجود، وقائم على أساس ” الهوية ” وانسجام التصور وعدم تناقضه. أما الوجدان فهو منطق الوجود الحَي، ويسود فيه التوتر لا الانسجام، وتطغى فيه تقلبات الأحوال النفسية والوجدانية والشعورية، ولا يتبنى الهوية دائما، وينغمس في التناقض والاستقطاب وما يتولد منهما من حدّة وتوتر ونزوع إرادي وعاطفي مستمرين.

مقولات الوجدان

على غرار ما قام به أرسطو في الأورغانون، من تقعيد للمقولات العشرة المشهورة للمنطق، ومثله فعل كانط مع مقولاته العقلية الأربعة (التي تتفرع إلى اثنتي عشرة مقولة) فإن عبد الرحمن بدوي يقوم بمهمة مختلفة كل الاختلاف عما فعله أرسطو وكانط، ويجازف بجعل الوجدان، المتوثب والحي والمتوتر بطبيعته، ضمن مقولات منطقية صارمة لا يخرج عنها، في مُحاولة فلسفية جريئة لإقامة منطق (الوجدان) على أسس عقلية راسخة. فلئن كان هدف مقولات أرسطو هو تصنيف المنطق، وهدف كانط تصنيف العقل، فإن المهمة التي يتصدى لها عبد الرحمن بدوي هي (تصنيف الوجدان) عقليا دون المساس بحيويته وطابع التناقضات الذي يغشاه، في وسط ما يسميه الوحدة المتوترة للوجدان، هذه الوحدة الوجدانية تنقسم بدورها إلى مقولات عاطفية وإرادية هي بنظرنا ملخص ما جاء به فلاسفة القلب والإرادة الذين تطرقنا لهم وأفاد منهم عبد الرحمن بدوي وأفرد لهم المؤلفات والدراسات.

فالوجدان عند بدوي مثل يانوس ذي الوجهين: الوجه الأول عاطفة، والوجه الثاني إرادة.

الوجه العاطفي ينقسم إلى: تألم، حب، قلق. ويضاد هذه المقولات: سرور، كراهية، طمأنينة.

والوجه الثاني (وهو الإرادي) ينقسم إلى: خطر، طفرة، تعالي. ويضادها أمان، مواصلة، تهابط.

شكل (1) المقولات الوجدانية

والوجدان في مجراه الوجودي يتوتر في وحدة شاملة، فهذه المقولات تتداخل فيما بينها زمنيا ولا تتناقض كما هو الحال مع المنطق العقلي السكوني، إذ تنسجم معا في تناقضاتها وتوتراتها كما هو شأن الوجدان دوما؛ً فالألم يمتزج مع السرور، والحب لا يخالف الكراهية، والقلق لا يرفع الاطمئنان.

تمتاز هذه المقولات بالتضاد (مثل الألم ضد السرور) لكنها تتزاوج شعورياً وينتج عنها توتر بَيني؛ أي التألم السار، وهذا الاستقطاب بين شعور وآخر يشكل عماد الوجدان كما يتصوره عبد الرحمن بدوي. والملاحَظ أن التوتر يحتفظ بطابع التناقض والتمزق الذي أشار إليه كيركجورد ولا يرتفع ضمن مركب جدلي جديد كما هو شأن المنطق الجدلي الهيجلي ” فكل حل وسط هو قطعا فاسد خير منه ألف مرة أي حل متطرف ” (30). والتسوية هي حل عقلي، أما التوتر والاستقطاب والتقلب النوعي من حال إلى حال، فسمات المنطق الوجداني، المنطق الذي ينفر من المعقول (= المُجرد واللاموجود بمعنى انقطاع الوجود) صوب اللامعقول (= المتعين والموجود والممتلئ) وهو الذي يعُم حياة الوجدان.

وفيما يلي شرح مختصر للمقولات الوجدانية بحسب ما أورده عبد الرحمن بدوي في (الزمان الوجودي). 

مقولات الوجدان

أولاً: العاطفة

التألم: وفيه تلقى الذات المشقة في سبيل تحقيق ممكناتها العينية، وسط عالم قذفت فيه ولم تختره ابتداءً، وأثناء اصطدامها بالعوائق والحدود تشعر الذات بالألم الذي يحاصرها من كل جهة، فتضطر الذات للتضحية والاصطبار.

السرور: لا يتناقض السرور مع الألم إلا ضمن المنطق العقلي، لكن في المنطق الوجداني ينتج عن التضحية (مع ما تتضمنه من ألم ممض) بهجةً عالية، وضرب بدوي مثلاً بـ سقراط شهيد الفلسفة الأول؛ حيث جاء ألمه وسروره ليحققان ذروة ممكناته الوجودية.

الحب: ” والحب بالمعنى الوجودي إذن هو امتصاص الذات للغير وإفناؤه لها بداخلها ” وهكذا جاءت عبارة بدوي حاسمة بشأن الحب، فهو يرى المحب متجها للاستيلاء والاستحواذ على الطرف الآخر! وهذا لا يشمل الحب الإنساني وحده، بل الحب في التصوف والإلهيات. فغاية المحب أن يستحوذ على محبوبه فيتملكه لأجل إثراء ذاته الوجودية.

الكراهية: ويستشهد بدوي بنيتشه “فنيتشه يتحدث عن الحب الأعمق، والذي لا يعرف لنفسه اسماً، ويتسائل: أوليسَ أسمى كراهية؟” فالكراهية هنا هي حب مقلوب، أو مكبوت، وتفسير ذلك في منطق بدوي الوجداني واضح؛ فمع عجز المحب أن يسيطر على محبوبه، ويفنيه فيه، فإنه ينقلب شعوراً كارهاً، فالدخول في الحوزة هو هدف الحب. وتتوتر العلاقة بعدئذ إلى (الحُب الكاره).

القلق: وينقل بدوي عن كيركجورد قوله ” إن القلق نفورٌ عاطف وعطف نافر ” فالقلق قوة جاثمة على نفوس لأفراد، ويختلف عن الخوف بأن القلق ليس ذا موضوع، بعكس الخوف الذي يكون من شيء محدد. القلق هنا هو إشارة وجودية ونفسية نحو العدم، لأن القلق ناتج عن انعدام ممكنات وسقوطها، وعدم تحققها، فهو قلق ناشئ عن العدم وتسربه للوجود.

الطمأنينة: وتكون بسبب ” حب المصير ” وفق تعبير نيتشه، فالقلق الذي ينشأ عن فقدان الممكنات، ينجم عنه بنفس اللحظة شعور بالطمأنينة، فلولا أن العدم ماثل لنا (ولا نقول موجوداً !) ولولا أن القلق يخبرنا عنه، لما كان ثمة وجود؛ ولما تعيّنت ممكنات وفقِدت أُخَر، وهو ما يجعل المرء يشعر ببعض الرضا والاطمئنان، لكنه الرضا المشوب بالقلق، وليس طمأنينة مطلقة. 

ثانيا:ً الإرادة

الخطر: ويحدث في فعل واحد، لا ينقسم إلى أجزاء ووحدات، ويحدث ” الآن ” ويستشعر معه طابع الحضور الزماني والسرمدي معا. ولهذا فالكثير من القادة والساسة يخاطرون بجسامة وينتج عن أفعالهم ما يقرر مصير الأمم لسنوات طويلة، فالمخاطرة تتم ” الآن ” لكن يتقوى الشعور بالسرمدية مع علو درجة المخاطرة.

الأمان: وهو وليد الثبات، ومصدره اليقين. ويفسّر وجودياً بأنه شعور الإرادة بالتصميم، وهو ما يكمّل ويتمّم الخطر؛ فالخطر لوحده غير كاف دون الشعور بالإرادة وهي آمنة، فالأمان هو الثقة بأن خطرا ما قد تم اجتراحه وانتظار عوائده، إذ لا يوجد خطر تام وأمان تام، وينتج عن المقولتين توتر الخطر الآمن.

الطفرة: وهي عكس الاتصال، وسببها يعود لحالة الوجود الماهوي، فهو يسعى لتحقيق نفسه عبر ” قفزات ” و ” مُخاطرات ” تفقد الاتصال الكمي، وتريغ إلى اللامعقول الأكبر، أي الانتقال من العدم للوجود وتحقيق الماهية. فإذا كان الوجود مكونا من ذوات منفصلة ومُستقلة عن بعضها، فالوجود الذاتي ” طافر ” باستمرار، مُهاجم، ومُحقق لإرادته.

المُواصلة: وهي أشبه ما تكون بالتوقف المؤقت عن الطفرة، فضرورة الطفرة تقتضي ضروة المواصلة، والمواصلة هي نوع من التوقف تقوم به الذات في طفراتها لأنها عاجزة عن الطفرة الدائمة، فالمواصلة بهذا المعنى هي توقف مؤقت وتراجع للتهيؤ نحو طفرة قادمة. لكن الوجود الحي لا يخلد دوما إلى الاستكانة، فهو ظافر ومندفع على الدوام طالما أن ممكناته تلوح أمامه.

التعالي: بعد أن يصف عبد الرحمن بدوي فلسفة هيدجر بأنها ” مستسلمة ” وتميل للاستاتيكية والثبات، وتفتقر لديناميكية العاطفة والإرادة كما تصورهما عبد الرحمن بدوي. فالتعالي عند هيدجر باهت، والوجود قد سلّم لنفسه. فيعترض بدوي وينظّر للتعالي الخلاق الذي يهدف لإثراء الوجود، وفيه تعلو الذات على نفسها، وتغزو مواضيع جديدة على الدوام لتكتنز بالفعل والثراء، تعالٍ له طابع الكيفية والوثوب والانتقال من وضع لوضع أرفع منه.

التهابط: وهو على نحوين؛ سلبي وإيجابي. فأما السلبي هو تقهقرٌ لا بد منه، وانحلال في بعض المواضيع، لا سيما بعد الفراغ من التحقق والانقطاع عن الفعل. وأما الإيجابي فهو القضاء على الصورة السابقة والتمهيد للصورة الجديدة، وهو ضروريٌّ للبدء في تعال جديد يروم أهدافه (31).

خاتمة: نظرة عامة لـ فلسفة عبد الرحمن بدوي

ما تمتاز به فلسفة عبد الرحمن بدوي أنها فلسفة روحية ووجدانية بالمقام الأول. صحيح أنها تقطع مع الفلسفة المثالية من ناحية رد التصورات والأفكار إلى الوجود، وأن الوجود هو المُنطلق الأساسي للوعي بكافة أشكاله، لكنها أيضا ترفض المادية منهجا ومضموناً. منهجا لأن الاستقراء والرصد البياني والتجربة الحسية ليست هي المحدد الأساسي للتفلسف في نظر الوجوديين كافة وعبد الرحمن بدوي خاصةَ. ومضمونا لأن الموضوع الرئيسي الذي تعالجه الوجودية هو الوجود، ممثلاً بالإنسان الذي تظهر فيه مقومات الوجود بصورته العليا، وليست المادة ولا الكون ولا العقل ولا الطبيعة الخارجية، بل إن هذه الموضوعات لا معنى لها خارج الإنسان، وذلك من دون الوقوع في ” أنا وحدية ” مثالية على غرار ما كتبه بيركلي، ومن دون ضم الإنسان إلى الطبيعة المادية والخارجية كما هو شأن التجريبية والماركسية والوضعية وغيرها من الفلسفات المادية.

وإن كان عبد الرحمن بدوي أقرب لتيار هيدجر وسارتر في الوجودية، التيار الذي ركز خصوصا على علاقة الموجود بالوجود دون الإحالة إلى أي نوع من التعالي اللاهوتي والإيماني، بل جعل طابع التعالي مربوطاً بالموجود وسط الوجود ومن تلقاء نفسه، بخلاف كيركجورد ويسبرز وهما من ربط التعالي باللاهوت والمعاناة الإيمانية. إننا نجد أن بدوي اختلف عن هيدجر وسارتر في الدفع بهذا الاتجاه الوجودي إلى غايته القصوى: فليس الهدف من فلسفته توصيف بنية الكينونة مثلما هو شأن هيدجر في (الكينونة والزمان) وليس هدفه، أيضا، تبيان موقع العدم وتسربه إلى الوجود وظهور الوعي من هذا ” السلب ” للكينونة، وهو شأن سارتر في (الكينونة والعدم).

يذهب بدوي بعيداً عن قطبي الوجودية في القرن العشرين (هيدجر وسارتر) ويؤسس لفلسفة فعل تاريخي إيجابية، ولا يكتفي بعرض بُنية الوُجود أو توصيفها ظاهراتيا وفلسفيا، فيُصرّح علانية بأن هدف فلسفته المباشر هو توكيد الوجود، وهدفها اللامُباشر هو الدور الحضاري العربي والفلسفة الواجب على المصريين والعرب بعامة اتخاذها لأجل النهوض ونفض غبار الكبوة. فجاءت فلسفته في بُنيتها مشابهة لفلسفتي هيدجر وسارتر، لكنها مع ذلك كانت مُستقلة عنهما من حيث الغاية والهدف، أمر دفع الناقد علي زيعور إلى القول:” أعتبر بدوي ليس مجرد وكيل أو تابع أو منبهر، وأنه جدد وأجاد، أي أنه مُحافظ على شخصية خاصة ذات مذهب مُستقل داخل الوجودانية ” (32) ونصح بأن يُنظر لفلسفته بأنها ” عمارة قائمة بذاتها، وأنها بُنية عامة، وكلٌّ عُضوي خصوصي” (33).

هذا ما يجعل فلسفة عبد الرحمن بدوي ذات هدفين استراتيجيّين إن جاز لنا استخدام مثل هذا التوصيف: هدف فلسفي نخبوي ” نظري ” يعمل في تأطير المشكلة الوجودية نظريا وتهيئة الأرضية الفكرية المُناسبة لها، وهدف حضاري تاريخي عمل على استقاءه من أوزفلد شبنجلر، الذي يرى وحدة الحضارة العربية تاريخيا وتأثر به بدوي أشد التأثر، وعمل على نشر فلسفته الحضارية القائمة على النبالة والشجاعة الروحية والأرستقراطية وهي مضامين لم تخل فلسفة عبدالرحمن بدوي منها، للحد الذي قال عنها محمود أمين العالم أنها لا تلبث أن تكشف عن موقفٍ ” لا يختلف في شيء عن قيم أخلاق السادة عند نيتشه، مثل الغزو والانتصار والتعالي ” (34).

وهذه السمات النخبوية والروحية تتعارض مع طابع المرحلة التاريخية التي عاشها بدوي على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية. حيث كتب بدوي في تصدير دراسته عن شيلنج، مُبرراً تأليفه عن المثالية بقوله:

"في هذا الزمن الذي طغى فيه الاقتصاد على الفكر، والإنسان الاقتصادي على الإنسان العاقل، والقيم المادية على القيم العقلية، وصار كل شيء يقوّم بالكم دون الكيف والإنتاج العملي لا النشاط النظري، حتى صارت البطون هي الغايات والعقول والقلوب وسائل لغايات. في مثل هذا الزمن لا شيء أنجع في رد الإنسان إلى مكانه الحقيقي، أعني ردّه إنسانا أولاً يتميز عن سائر الكائنات بالفكر، ويسعى إلى الغايات العُليا التي استهدفتها الإنسانية مُمثلةَ في الصفوة من كبار مُفكريها على مر العصور، نقول لا شيء أنجع من الفلسفة المثالية، والمثالية الألمانية بخاصة مُمثلة في أقطابها الكبار الثلاثة: فتشه وهيجل وشيلنج " (35).

لعل هذا التصدير الذي كتبه بدوي مُبرراً دراسته لشيلنج، وذكر تاريخه في القاهرة سنة 1964 أي بعد انهيار التيارات النخبوية الفاشية والنازية في أوروبا، يختصر الكثير مما يمكن قوله عن توجهات بدوي التاريخية والحضارية، فنجد مرارة التذمر من سيادة المادية فكراً وعملاً على حياة الإنسانية جمعاء، كيف لا والمادية هي أساس التفكير بين المعسكرين الكبيرين أثناء الحرب الباردة، أي الاشتراكية السوفييتية والرأسمالية الأمريكية وأوروبا القابعة بينهما، والمهزومة منهما؟

وليس هذا موضع الضعف تحديداً في المذهب الوجودي في الخط الذي انتهجه بدوي، فالمشكلة أيضا في الفكر المادي أنه يعمل على تفتيت الإنسان “فرداً وجماعة ” ويحيله إلى مجرد ملحق للسوق (=الرأسمالية) أو الطبقة العاملة (= الاشتراكية) ومن ثم للوجودية ما يبررها في هذا السياق، وهي فلسفة تدفع بوجدان الفرد للنمو ضد تقييد الظروف الخارجية له ولإمكاناته. وهذه الإشكاليات تعملقت بعد مرحلة عبد الرحمن بدوي والوجوديين جميعهم، فلم تعد تشمل سحق الإنسان الفرد على يد بشر آخرين، وإنما تتجه لقولبة الإنسان في معادلات رقمية وحاسوبية وآلية، بعد أن نجحت في قولبته ماديا وماليا واقتصادياً.

أين تكمن إذن مشكلة الطرح في فلسفة بدوي؟ تبرز المشكلة في طرحه الوجودي الفردي، والمُغالي في فرديته، للدرجة التي لا نجد فيها أثراً للجماعة، ولا نقصد هنا جماعة مخصوصة بعينها أو تشكيل تاريخي من أي نوع، فالمقصود هنا هو الجماعة بمعناها الاجتماعي والسيسيولوجي على الأقل، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ومهما كان العمق في تجربته الوجودية فإنها تظل تجربة ” ذريّة ” وسط كتلة هائلة من الذراري البشرية، ومهما كان علم النفس الذي يتبناه بدوي وسارتر وهيدجر، يروم الخروج من التجريبية إلى الوجدانية، فإنه محاط بسياج الجماعة أيا كانت هذه الجماعة، إنها جماعة بالمعنى الميتافيزيقي الثابت واللازم لتبلور الأفراد.

ومن هنا كان الطريق الأيسر في الفلسفة بحث الإنسان في علاقة الفرد بالمجموع، أو علم النفس الاجتماعي، أي التركة التي يرثها الفرد من الجماعة وكيف يرتقي بها أو يتعامل معها ويسلك من خلالها، لا أن يُعيد التاسيس بمنظور فردي خالص ووجداني عائم يفتقر للتمأسس الموضوعي المتجسد بالمؤسسات الفاعلة والوساطات الناجعة بين الفرد والآخر، والعمل في تعميق الوجدان لا لجهة الفرد وحده، وإنما وجدان الأمة، والشعب، والمجتمع، والثقافات الإنسانية جمعاء.

في الختام ثممة أسئلة مهمة ومقلقة بصدد فلسفة عبد الرحمن بدوي الوجودية، وكل فلسفة عربية ترمي إلى التبلور والنضج والنمو.

  • كيـــــف نفهم علاقة الإنسان بالمجموع، في طموح يسعى للارتقاء بالإنسان جماعيا لا فرديا فحسب، إذ لا يكفي التعالي الفردي في ظل تدهور جماعي؟
  • كيف يتحقق التوازن بين الوجدان والجسد، والفرد والمجتمع، ضمن صيغة عامة وأولية على الأقل؟
  • وكيــــف يمكن ” وجدنة ” العلم والعقل، و ” تعقيل ” الوجدان، تحقيقا للطموح الأزلي الذي يسعى له الإنسان في بعث التوازنات بين النقائض؟
  • وكيف يمكن للبشر النجاة، أفراداً وجماعات، في مرحلة تاريخية قاتمة تحتلها أولويات غير إنسانية، أولويات للسوق والمال والدعاية والإعلام؟

هذه الأسئلة جاءت من واقع القراءة الفلسفية المُمتدة لسنوات طويلة، ومن ضمنها القراءة لعبد الرحمن بدوي، الفيلسوف والمفكر والباحث العظيم، الذي كانت أفكاره مصدراً خصبا للتفكير الناقد والفلسفي العميق، وبدورها تدفع للمساءلة في أطروحاته نفسها، من شاكلة مسائلة أرسطو لأفلاطون، فالدرس الفلسفي الأصيل هو بالنهاية درسٌ في تعلم وجاهة السؤال والاحتفاء بمكانته في المعرفة الإنسانية.

حلقة الرياض الفلسفية. الثلاثاء 2019/23/4


هوامش

  • 1 -انظر: عبد الرحمن بدوي. دراسات في الفلسفة الوجودية. دار الثقافة، بيروت. ط 1973 ص 263 حيث كتب بدوي في ذيل التلخيص: ” تلك هي الخطوط العامة لمذهبٍ في الوجود جديد سنجعل مهمتنا في الحياة تفصيل أجزائه حتى نستطيع أن نحقق للإنسان هذه الغاية التي قُلنا إنها غاية للوجود “.
  • 2 -عن علاقة الوجدان بالكينونة عند هيدجر، انظر: الكينونة والزمان. مارتن هيدجر. ترجمة فتحي المسكيني. دار الكتاب الجديد. ط 2012 ص 264 – 279.
  • 3 -عبد الرحمن بدوي. الزمان الوجودي. مكتبة النهضة المصرية. ط 1945 ص 4. قارن مع نص هيدجر ” الكينونة هي التصور الأكثر كُلية، فإن ذلك لا يمكن أن يعني أنه الأوضح وأنه غير محتاج لأي تبيين آخر. فإن تصور الكينونة لهو على الأرجح التصور الأشد إبهاما”ً الكينونة والزمان. مصدر سابق. ص 51. وبالنسبة لسارتر، فقد حدد الكينونة بثلاثة صفات: الكينونة كائنة / الكينونة هي ذاتها / الكينونة هي ماهي عليه؛ وكأنه بهذا السرد لا يخرج عن وضوح الكينونة وفجاجتها. انظر: جان بول سارتر. الكينونة والعدم. ترجمة نقولا متيني. المنظمة العربية للترجمة. ط 2009 ص 46.
  • 4 -الزمان الوجودي. نفس الصفحة.
  • 5 -المصدر نفسه. ص 7.
  • 6 -والتر ستيس. فلسفة هيجل. المنطق وفلسفة الطبيعة. ترجمة إمام عبد الفتاح. دار التنوير. ط 2007 ص 65
  • 7 -الزمان الوجودي. ص 8.
  • 8 -فريال حسن خليفة. نقد فلسفة هيجل. دار التنوير. ط 2006 ص 51.
  • 9 -المصدر نفسه. ص 58
  •  10-الزمان الوجودي. ص 35.
  • 11-” إن ماهية الدازاين تكمن في وجوده ” مارتن هيدجر. الكينونة والزمان. مصدر سابق ص 112.
  • 12-” الحرية الإنسانية تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة، إن ماهية الكائن الإنساني هي في وضع مُعلق بحريته “.. ” ليس ثمة فرق بين كينونة الإنسان وكونه حراً ” جان بول سارتر. الكينونة والعدم. مصدر سابق. ص 74 .
  • 13 -الزمان الوجودي. مصدر سابق. ص  35.
  • 14 -دراسات في الفلسفة الوجودية. مصدر سابق. ص  238 .
  • 15 -الزمان الوجودي. كلمة التصدير.
  • 16 -الزمان الوجودي. ص 41.
  • 17-” الزمان، وهذا ينبغي أن يحمل إلى النور وبخاصة أن يُتصور باعتباره أفق كل فهم للكينونة وكل تفسير للكينونة “. مارتن هيدجر. الكينونة والزمان. مصدر سابق. ص 72
  • 18 -عبد الرحمن بدوي. اشبنجلر. دار المطبوعات. ط 1982 ص 33.
  • 19 -الزمان الوجودي. مصدر سابق. ص 111.
  •  20 -المصدر نفسه. ص 131.
  • 21 – راوية عبد المنعم عباس. بليز باسكال وفلسفة الإنسان. دار النهضة العربية. ط 1996 ص 52.
  • 22 المصدر نفسه. ص 56 .
  • 23 انظر: عبد الرحمن بدوي. شطحات الصوفية ج 1 (أبو يزيد البسطامي). وكالة المطبوعات. ط 1978 (ص 9-10)
  • 24-أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين. عالم الكتب. ط 2006 ص 695.
  • 25 -آرثر شوبنهاور. العالم إرادة وتمثلاً. ترجمة سعيد توفيق. المجلد الأول. ط 2017 ص 153
  • 26 -فريدريك نيتشه. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة علي مصباح. منشورات الجمل. ط 2007 ص 44
  • 27 -فريدريك نيتشه. ماوراء الخير والشر. ترجمة جيزيلا فالور حجار. ط – 2003 ص 244
  • 28 -عبد الرحمن بدوي. اشبنجلر. ص 35.
  • 29 -الزمان الوجودي. ص 108.
  • 30 -المصدر نفسه. ص 139.
  • 31 – يمتد الشرح التفصيلي للمقولات الوجدانية في (الزمان الوجودي) من صفحة 138 إلى 181 وما قمنا به هنا لا يتجاوز الاختصار السريع لجملة المقولات وما تمثله في عُموم معناها.
  • 32 علي زيعور. قطاع الفلسفة الراهن في الذات العربية. عز الدين للطباعة والنشر. ط 1994 ص 218
  • 33 – المصدر نفسه.
  • 34 – عبد الرحمن بدوي نجم في سماء الفلسفة. مجموعة مؤلفين. الهيئة العامة لقصور الثقافة. ط – 2002 ص 195
  • 35 – عبد الرحمن بدوي. شيلنج. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط 1981. كلمة التصدير