مجلة حكمة
ايزايا برلين موسوعة ستانفورد

ايزايا برلين

الكاتبجوشوا شيرنيس، هنري هاردي
ترجمةتوفيق السيف
تحميلنسخة PDF

مدخل شامل عن الفيلسوف ايزيا برلين وتحولاته الفكرية، وفلسفته، وفكره السياسي؛ نص من (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


 

ايزايا برلين أحد أبرز المفكرين البريطانيين في القرن العشرين. ويذكر عادة بثقافته الواسعة والمتنوعة ، وكفاءته العالية في النقاش ، فضلا عن أسلوب كتابته الذي يجمع بين اللغة الجميلة والإيجاز وعمق الفكرة في أن واحد. وقد تركت أعماله تأثيرا واضحا في الفلسفة السياسية المعاصرة وتاريخ المعرفة.  أن مقالته المسماة “Two Concepts of Liberty” (مفهومان للحرية) لا تزال من أكثر النصوص تأثيرا في الدراسات الخاصة بموضوع الحرية ، رغم مرور ما يزيد عن ستة عقود على ظهورها. ويتفق المعجبون به ونقاده على أن تمييزه البارع بين الحرية الإيجابية والسلبية ، يشكل نقطة انطلاق رئيسية للمناقشات النظرية حول معنى وقيمة الحرية السياسية[2].

يوم توفي في 1997 قالت الصحافة البريطانية ، بأن برلين كان أحد أفضل المتحدثين غزارة في المعلومات ، وقدرة على ربط الأفكار والتحليل الفلسفي للمشكلات ، وكان الناس يصطفّون بالدور للحصول على مقعد في محاضراته العامة[3].

في محاضرة ألقاها سنة 1988، قدم ايزايا برلين رؤية  يقول بأنها تشكل الخيط الذي يجمع بين تأملاته لما يزيد عن ستين عاما، بدءا من قراءته الأولى لرواية ليو تولستوي المشهورة “الحرب والسلم”[4]. تتعلق هذه الرؤية بالدوافع الكامنة في أعماق النفس الإنسانية ، والتي تجعل البشر يرتكبون اعظم الآثام ، ثم يكررونها مرات عديدة. لكنهم في نهاية المطاف يتمردون على ميلهم الغريزي للإثم والعدوان ، كما يتمردون على نوازع اليأس والإحباط والسخط ، ليتجهوا – من ثمّ– إلى طريق الصلاح والإصلاح. المسألة في رأيه هي اكتشاف أنك لا تستطيع الحصول على الخيرات كلها ، كما لا تستطيع تقديم حل شامل ونهائي لكافة المشكلات. هناك دائما حاجة ماسة لاختيار ما تحتاجه (أو ما تريده) أكثر من غيره ، وهذا سيكلفك – بطبيعة الحال – التخلي عن الشيء الآخر الذي يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة من حاجاتك.

يقول ايزايا برلين، كنت مقتنعا في وقت ما بالفرضية القديمة ، التي تقرّ باستحالة التضارب بين الغايات الحقيقية ، وبين الأجوبة الصحيحة للإشكاليات المركزية في الحياة.  كانت هذه الفرضية مبنية على حقيقة فلسفية وبدت معقولة جدًا ، لكنها تناثرت كالزجاج بعدما قرأت مكيافيلي[5].

 


 

1. حياة ايزايا برلين

ولد ايزايا برلين في 1909 بمدينة ريغا ، عاصمة لاتفيا ، وهي ميناء على بحر البلطيق ، يخترقها نهر دوجافا ، قبل أن يصب في البحر.  تعرضت عائلته للاضطهاد بعد الثورة الروسية (1917) ، ربما لأصولها إليهودية ، أو لكونها من الطبقة الثرية ، فهاجرت إلى بريطانيا في 1921. ويقول برلين بأن العنف الشديد الذي شهده خلال الثورة الروسية ، شكل جانبا هاما من هواجسه المستقبلية ، ولا سيما نفوره التام من العنف السياسي ، والسلطات غير المقيدة والنظم الشمولية “لقد زرعت مشاهد القسوة في ذهني رعبا من العنف سيرافقني طوال حياتي”[6].

يظهر تنوع الميول الثقافية لـ ايزايا برلين ، في تعدد اللغات التي أتقنها ، من الروسية إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، فضلا عن إلمامه ببعض العبرية واللاتينية واليونانية القديمة.[7] أما حياته الأكاديمية ، فقد ارتبطت بجامعة أكسفورد التي درس فيها الفلسفة والتاريخ واللغات الكلاسيكية ، ثم عمل محاضرا وأستاذا للفلسفة.

خلال الحرب العالمية الثانية ، عمل برلين في خدمة المعلومات البريطانية BIS في نيويورك ، وهي هيئة أسستها الحكومة لتثبيط دعوات الحياد في الحرب في الولايات المتحدة. ثم عمل في السفارة البريطانية في واشنطن. وبعد نهاية الحرب ، زار الاتحاد السوفيتي ، واتصل بالأدباء المعارضين للحكم الشيوعي ، وبينهم خصوصا الشاعرة المعروفة آنا اخماتوفا (1889-1966) والروائي بوريس باسترناك (1890 – 1960). ويقال بأن هذه اللقاءات قد عمقت معارضة برلين للشيوعية ، كما ساهمت في تشكيل همومه الفكرية المستقبلية.

خلال فترة الحرب وبعيدها ، واصل ايزايا برلين إلقاء المحاضرات والتدريس ، لكن بشكل متقطع. ثم عاد إلى اوكسفورد في مطلع الخمسينات ، كي يكرس حياته من جديد للعمل الفكري. وفي هذه الفترة تحول اهتمامه عن الفلسفة إلى تاريخ الأفكار ، وعلى وجه الخصوص تاريخ الفكر الروسي ، تاريخ الماركسية والنظريات الاشتراكية ، إضافة إلى التنوير وناقديه. في هذا الوقت أيضًا ، بدأ في نشر مقالات تناولت التحولات السياسية ، الايديولوجيا الحاكمة ، والحياة الثقافية في الاتحاد السوفيتي. وقد حظيت هذه المقالات بشهرة عريضة.  ويبدو أنها منحته احتراما في المجتمع الاكاديمي ، وأهلته للحصول على منحة للتفرغ العلمي ، كي يتعمق اكثر في مجال اهتمامه الجديد ، أي تاريخ الأفكار ، حيث سيذهب بعيدا عن التيار العام للدرس الفلسفي المتعارف في أكسفورد.

في 1957 اختير ايزيا برلين أستاذ “كرسي شيشل Chichele Professorship ” للنظرية السياسية والاجتماعية بجامعة أكسفورد. وكانت محاضرته الافتتاحية هي”مفهومان للحرية” التي أشرنا إليها آنفا. وقد واصل برلين هذا العمل طيلة العقد التالي ، حيث أصبح بعدها الرئيس المؤسس لكلية ولفسون – أكسفورد ، حتى تقاعده في 1975. وخلال هذه السنوات عمل أيضًا كأستاذ زائر بجامعة مدينة نيويورك. وفي 1974 تولى رئاسة الاكاديمية البريطانية حتى 1978.

تم تكريم ايزايا برلين من جانب الحكومة في وقت مبكر ، فحصل على وسام الفارس في 1957 ، كما حصل على وسام الاستحقاق في 1971. وفي الجانب العلمي ، حصل على جوائز انجيلي ، ايرسموس ، وليبينكوت ، لعمله في ناريخ الأفكار ، كما حصل على جائزة اورشليم لدفاعه المتواصل عن الحريات المدنية.

كتب ايزايا برلين العديد من المقالات ، ويرجع الفضل إلى هنري هاردي واخرين في جمعها وطباعتها معا ، ويوجد الآن 14 مجلدا من مقالات وكتب برلين ، إضافة إلى طبعات جديدة من كتابين ، سبق أن نشرهما برلين نفسه[8].

1.1 تحولات ايزايا برلين الفكرية

تأثر برلين بالفيلسوف الألماني المعروف إيمانويل كانط (1724 – 1804) وخلفائه. وفي بواكير حياته الاكاديمية ، تأثر بتيار  “المثالية البريطانية = British Idealism” ولا سيما شروحات توماس هيل غرين وبرنارد بوسانكويت  ، إضافة إلى فرانسيس برادلي. وكان الاتجاه العام للحركة اقرب إلى رد فعل على تيار الفلسفة التجريبية والنفعية. في وقت لاحق تحول ايزايا برلين إلى المدرسة الواقعية ل جون كوك ويلسون وجورج ادوارد مور. ومع شروعه في تدريس الفلسفة ، انضم إلى جيل جديد من التجريبيين المتمردين ، الذين تبنى بعضهم نظريات الوضعية المنطقية لحلقة فينا والكتابات المبكرة ل فيغنشتاين. بين هؤلاء نذكر بالخصوص الفرد اير

كان ايزايا برلين متشككا في الوضعية المنطقية ، لكن ارتيابها في الدعاوى الميتافيزيقية أثر عليه ، كما جذبه أيضًا اهتمامها الشديد بالطبيعة وسلطة المعرفة ، وهي قضايا شكلت محور انشغالاته الفكرية. تلك الشكوك والانشغالات ، إضافة إلى ميله لمعرفة التاريخ ، شكلت دافعا قويا عند برلين لدراسة أعمال الفلاسفة التجريبيين في بريطانيا ، ولاسيما الأسقف جورج بيركلي وديفيد هيوم ، اللذان شكلت أعمالهما موضوعا لمحاضرات عديدة ، ألقاها برلين خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين.

ويذكر في العادة رجلان ، تركا أثرا عميقا في حياة ايزايا برلين وانشغالاته الفكرية. أولهما معلمه وصديق عائلته سولومون راشميليفيتش (1892-1953) ، وهو يهودي غامض هاجر من روسيا ودرس الفلسفة في جامعات ألمانيا. وعلى يديه تعرف برلين على تاريخ الفلسفة الألمانية  ، كما تعرف على أبرز الصراعات الايديولوجية في التاريخ الروسي.  وحسب تقدير احد الكتاب فإن توجيهات راشميليفتش هي التي شكلت “الجانب الروسي” في شخصية برلين الفكرية ، كما غذت ميوله الأخلاقية ، تمرده على الدين ، التقاليد ، التعصب ، فضلا عن إيمانه العميق بقوة الأفكار وتاثيرها في حياة البشر. نستطيع القول أن هذا المعلم قد ساعد برلين في توليف شخصية تنطوي في داخلها على أبعاد متعارضة: أي الرؤية المتشككة ، وإلى حد ما المحافظة لفيلسوف بريطاني ، من جهة ، والرؤية الشديدة الحماس لمثقف روسي راديكالي ، من جهة ثانية.[9] 

أما الرجل الثاني الذي ترك أثرا عميقا على التوجهات الفكرية لـ ايزايا برلين ، فهو روبن جورج كولينجوود ، وهو فيلسوف ومؤرخ وعالم آثار بريطاني مهتم بالفلسفة التحليلية ، وهي مدرسة كانت لاتزال في طور التكوين يومذاك ، وتدعو للتخلص من الافتراضات التجريبية ، والتحول المنطقي والمعرفي للميتافيزيقا ، من دراسة الوجود (الانطولوجيا) إلى دراسة ما أسماه بالفرضيات المطلقة ، أو المبادئ الإرشادية الناظمة للبحث العلمي بكافة أشكاله.[10]

حضر ايزايا برلين دروس كولينجوود في فلسفة التاريخ بجامعة أكسفورد سنة 1931. ويعتقد أنه صاحب الاثر الحاسم ، في توجه برلين إلى دراسة تاريخ الأفكار ، التي شكلت جوهر انشغالاته العلمية ، كما ساهم في تعزيز قناعة برلين ، بأهمية المفاهيم والتصنيفات الأولية ، التي يستعملها الناس في تقديم وتحليل تجاربهم.

في 1939 صدر الكتاب الأول لـ ايزايا برلين ، وكان عنوانه “كارل ماركس حياته وبيئته“. وخلال عمله في الكتاب ، في منتصف الثلاثينات ، تعرف برلين على اثنين من المفكرين الروس ، سيتركان أثرا عميقا في تفكيره ، هما  الكساندر هيرزن (1812-1870) وجورجي بليخانوف (1856-1918). كان هيرزن كاتبا وداعية سياسيا ، وتزعم تيار الفلاحين الشعبوي. وقد نسب برلين إليه العديد من معتقداته حول التاريخ والسياسة والأخلاق. أما بليخانوف فهو مفكر وكاتب معروف. ويقال أنه افضل من قدم الفكر الماركسي لعامة القراء. ورغم معارضة برلين للماركسية الا أنه اعجب بهذا الرجل كإنسان وكمؤرخ للأفكار. وقد ساعدت كتابات بليخانوف في تعريف برلين على مفكري التنوير  الماديين ، الطبيعيين والتجريبيين. كما عرفته على نقادهم المثاليين والتاريخانيين. إضافة لهذا ،  كانت كتابات بليخانوف المصدر المبكر لمعرفة ايزايا برلين ، بالنقاشات السياسية التي كانت تدور في روسيا ، بين التيار الليبرالي ونظيره الراديكالي ، خلال السنوات الاخيرة من القرن التاسع عشر ، حتى أوائل القرن العشرين. أن تعرف برلين على هذه النقاشات الواسعة والمتنوعة ، كانت على الارجح عاملا مهما في انجذابه إلى ، ومن ثم استغراقه في الحقل الخاص بفلسفة التاريخ ، إضافة إلى أخلاقيات العمل السياسي.

خلال الحرب العالمية الثانية ، تراجع اهتمام ايزايا برلين بالفلسفة ، وانتقل إلى تاريخ الأفكار. هناك بطبيعة الحال عوامل متعددة ساهمت في تراجع شغفه بالفلسفة ، لعل ابرزها انشغاله بالعمل السياسي في الحكومة ، وقد اسلفنا الاشارة إلى أنه قضى جانبا مهما من سنوات الحرب في نيويورك وواشنطن ، الأمر الذي أبعده عن زملاء الفلسفة في أكسفورد. لكن العامل الحاسم كما قيل ، هو لقاؤه مع هنري شيفر ( 1882-1964) أستاذ المنطق في جامعة هارفارد ، الذي  أقنعه فيما يبدو بأن حقل الفلسفة الصرفة مشبع ، بما يجعل من العسير جدا بروز نظريات جديدة تتمتع بالاصالة ، وهي في الوقت نفسه غير مسبوقة. بخلاف الحقول العلمية التي تشكل جسرا بين الفلسفة وغيرها من العلوم ، مثل المنطق وعلم النفس ، وهي حقول لازالت في حاجة إلى المزيد من المعالجة والتنظير ، أو أن الأصالة والتفرد ليست شرطا لبروز النظريات الجديدة في إطارها.

الحقيقة أن هذا اللقاء مع شيفر ، عزز شكوك ايزيا برلين في قدرته الشخصية على أن يقدم شيئا يستحق الجهد في حياته الاكاديمية. ولعله أيضًا قد اكتشف أنه لم يكن شغوفا جدا بالفلسفة ، أو أنه لم يكن مؤمنا حقا برغبته في مواصلة هذا الطريق. خلص برلين إلى أن رغبته في أن يقدم شيئا جديدا للعالم ، وان يتعلم شيئا مختلفا عما كان يعرف يوم بدأ حياته الاكاديمية ، رهن بالتحول النهائي إلى حقل علمي جديد. وهكذا اتجه للتركيز على تاريخ الأفكار ، وهو حقل مختلف نوعا ما عن عالم الفلسفة ، لكن برلين سيحمل معه إلى حقله الجديد تلك المعرفة العميقة ، التي استقاها من حلقات الفلسفة ، فضلا عن معتقداته السياسية ، وكلاهما سيكون ذا أثر واضح على مقارباته لتاريخ الأفكار ومعالجاته لقضاياه.

مع أوائل الخمسينات ، كانت المتبنيات المركزية لـ ايزايا برلين قد اخذت شكلها الأولي ، متاثرة بالتجاذب بين انشغالاته الفلسفية المبكرة ، وبحوثه التاريخية ، إضافة إلى التزاماته وهمومه السياسية والأخلاقية. ويمكن القول أن بعض رؤاه الاساسية كانت – في هذا الوقت – قد اكتملت ، وبقي غيرها في حالة تطور وتكامل. أن البحوث التي نشرها اواخر الخمسينات ، مثل “مفهومان للحرية” مثلت مناسبة لجمع وتعزيز مقولاته الفكرية. فيما يأتي من سنين سيكون مساره الرئيس قد تحدد ، ولذا سينصرف إلى تصفية وتوضيح أفكاره. لكن غالبيتها سيبقى كما هو ، ولن تتعرض لأي تغيير جوهري نتيجة التطورات الفكرية التالية.

مما سبق يظهر أن حقبة الحرب التي غيرت أشياء كثيرة في العالم ، تركت أثرها أيضًا على انشغالات ايزايا برلين الفكرية. وامتد هذا التأثير إلى معتقداته ومواقفه السياسية ، سيما بعد رحلاته إلى الاتحاد السوفيتي ، ولقاءاته مع المفكرين المقموعين هناك. الواقع أن برلين كان على الدوام ليبراليا. لكن منذ منتصف القرن العشرين ، بات شديد الاهتمام بالدفاع عن الليبرالية في عمله الفكري. هذا الموقف مرتبط كل الارتباط بقناعات برلين الأخلاقية ، فضلا عن انشغاله الذهني بمسائل مثل طبيعة ودور القيم في حياة البشر. في هذا السياق تخفف برلين من هموم السياسة ، وركز اهتمامه على تطوير رؤيته المتعلقة بتعددية القيم ، واختبار طبيعة العلوم الإنسانية وتاريخ الأفكار  ، التي شكلت – منذ منتصف الستينات – محور أعماله الفكرية ، واستاثرت بمعظم ما كتب من مقالات ، ولاسيما نقد الرومانسيين والمحافظين/ الرجعيين للتنوير. 

2. فلسفة ايزايا برلين في المعرفة والعلوم الإنسانية

1.2 مفهوم الفلسفة

تعرف ايزايا برلين في بدايات اهتمامه بالفلسفة على المثالية (مدرسة إيمانويل كانط[11]) والوضعية المنطقية (مدرسة ديفيد هيوم[12]). ويبدو أن كلا منهما قد أثار اهتمامه ، لكنه انتهى برفض مقولاته[13]. من خلال المدرسة المثالية ، تعرف برلين على الرؤية التي تعطي مكانا رفيعا للفلسفة بين بقية المعارف ، أي كونها قادرة على استنباط حقائق مجردة ، مطلقة ، أصلية وضرورية ، واعتبارها – بالتالي – أم العلوم جميعا   the queen of the sciences كما يقال. وفي مقابل هذه الرؤية ، تعرف – من خلال الوضعية المنطقية – على الرؤية الاختزالية ، التي تنكر محورية الفلسفة ، أو قدرتها على توليد حقائق مطلقة. فاتباع هذا المذهب يضعونها في مستوى أدنى من العلوم الطبيعية. وربما اعتبروها – في أحسن الأحوال – خادمة لعلوم الطبيعة. بل أن بعضهم أخذ الأمر إلى مستوى أدنى ، فاعتبر الاهتمام بالفلسفة علامة على السذاجة وعدم الثبات ، أو عدم النضج الفكري.

بموازاة هذين الموقفين المتطرفين نسبيا ، تبنى ايزيا برلين موقفا دفاعيا عن الفلسفة ، يجمع طرفا من كل من المدرستين. تبنى برلين الرؤية القائلة بالتمايز الأصلي بين العلوم الطبيعية ونظيرتها الإنسانية ، وهي الرؤية التي تبناها رواد “الكانتية الجديدة” مثل فيلهلم فيندلباند وهنريش ريكارت ، إضافة إلى فيكو وفيلهلم ديلتاي.  وقد صنف برلين الفلسفة ضمن العلوم الإنسانية. لكنه – ضمن هذا الموقع – اعطاها مكانة فريدة.

يرجع السر في هذا إلى اختلاف الوظيفة التي تؤديها الفلسفة في خدمة المعرفة. يهدف الباحثون في حقول العلم الأخرى إلى اكتشاف طرق فعالة لنيل المعرفة بالاشياء التي كرسوا انفسهم لمعرفتها. أما الفلسفة ، فهي تدور – كما يقول برلين – حول الأسئلة التي لا نملك جوابها في الوقت الحاضر ، بل ولا نعرف أيضًا الطريق الذي يوصلنا إلى الجواب أو الأجوبة المحتملة[14].

في حالة الأسئلة التي تقع خارج نطاق اشتغال الفلسفة ، أسئلة الرياضيات أو العلوم الطبيعية مثلا ، فإننا قد لا نعرف الجواب ، لكننا نعرف الطريق الذي يقودنا إلى اكتشافه ، أو الطريق المقبول من جانب غالبية الناس. من ذلك مثلا الأسئلة المتعلقة بحقائق تجريبية ، فجوابها قابل للكشف بواسطة الملاحظة. الأسئلة الأخرى يمكن أن يجاب عليها عن طريق الاستنباط ، والرجوع إلى القواعد العامة المثبتة سلفا. هذا هو الحال مثلا في الرياضيات والنحو والمنطق الصوري. حين نواجه مسألة عسيرة في الرياضيات مثلا ، فإننا نبحث عن القواعد والتكنيكات التي نعلم سلفا بأنها يمكن أن تقودنا إلى حل المسألة. أي أننا لا نعرف الجواب ، لكننا نعرف الوسيلة التي تمكننا من كشفه. 

رأى ايزيا برلين أن الفلسفة اختارت لنفسها أسئلة من نوع خاص ومتميز. هذه الأسئلة ليست فقط مجهولة الحل ، بل أننا لا نعرف أيضًا الطريقة أو التكنيكات التي ينبغي أن نسلكها في البحث عن الجواب ، كما أننا لا نعرف أي معيار نرجع إليه في التحقق من صحة الحل أو الحلول ، التي يمكن أن نتوصل إليها. هنا بعض الأمثلة على الفارق بين الأسئلة الفلسفية وغيرها[15]:

سؤال غير فلسفي:  ما هو مقدار الزمن اللازم لقطع المسافة الفاصلة بين النقطة أ والنقطة ب ؟

  • سؤال فلسفي: ما هو الزمن ، وما هو معناه؟
  • سؤال غير فلسفي: ما هو الجذر التربيعي للرقم 729؟
  • سؤال فلسفي: ما هو الرقم ولماذا نستعمله كمؤشر على القيمة؟
  • سؤال غير فلسفي: هل تعتقد هذه الجماعة أو تلك بأن كلا منا أخ للآخر؟
  • سؤال فلسفي: هل كل الناس إخوة

يربط ايزيا برلين هذه الرؤية ، مع التمييز الذي قرره كانط بين “الحقائق في ذاتها matters of fact” وبين تلك البنى المفاهيمية والتصنيفات الذهنية ، التي تشكل ما يشبه إطارا ينظم الحقائق الواقعية ، فيحولها من عناصر منفردة إلى أجزاء  في مركب ، فتمسي مفهومة وذات معنى[16]. كون الفلسفة مشغولة اساسا في الأسئلة التي تبرز من خلال محاولاتنا لإضفاء معنى على تجاربنا ، يعني أنها – أي الفلسفة – تقيم اعتبارا للمفاهيم والتصنيفات التي نستعملها لجعل تجربتنا قابلة للاستيعاب ، أي واضحة ، مبررة ، ومنظمة.

كان كانط قد اعتبر التصنيفات المفاهيمية التي تنظم خبراتنا وتجاربنا ، ثابتة وكونية. أما ايزيا برلين فرآها  انتقالية ، أو مرنة ، أنها تتفاوت فيما بينها في خصوص هذه السمات ، لكن على المستوى النظري – يقول برلين – فإن كل التصنيفات التي نؤلفها خاضعة لعوامل التغيير ، من دون فرق بين واحدة والأخرى [17]. ليس ثمة تصنيف ، سابق للتجربة أو مستقل عنها بشكل تام. نقول هذا مع العلم بأننا نتعامل مع بعضها براغماتيا ، فنجعلها ثابتة على المستوى الذهني أو على مستوى الواقع أو على المستويين معا.

يكمن السبب الذي دعا ايزيا برلين إلى معارضة رأي كانط في ملاحظته للتأثير المتبادل بين التجربة الإنسانية ، وبين الرؤى والمفاهيم التي تقودها. رأى برلين إذن أن المفاهيم والتصنيفات التي نستعملها في فهم العالم من حولنا ، مشدودة برباط وثيق إلى تجاربنا ، فهي تتفاعل مع التجربة ، تشارك في صياغتها ، كما تنفعل بتحولاتها ونتائجها. ومثلما تتنوع التجارب وتختلف بين زمن وآخر ، وبين مكان وآخر ، فكذلك المفاهيم الأولية/التصنيفات ، التي تتأثر بعوامل التحول في الواقع ، فتتغير بالتوازي مع ما يجري من تحولات على مسرح الحياة[18]. أن استيعاب هذه التصنيفات الاساسية للتجربة الإنسانية ، مختلف عن تحصيل المعلومات التجريبية ، كما أنه مختلف عن الاستدلال الاستنباطي deductive reasoning ، لأن التصنيف (أو الرؤية الإطارية) فرضية أولية ، وهو سابق – منطقيا – على كل منهما.

موضوع البحث الفلسفي إذن هو دراسة “العدسات الفكرية” ، أي المنظار أو النظارة التي نرى العالم من خلالها. ولأن هذه المناظير ، والتي أسميناها أيضًا التصنيفات ،  بعضها على الأقل ، لا يبقى على حاله ، بل يتغير كلما مر الزمن ، فإن آثار هذا التغير ينعكس على العلم الذي يدرسها أي الفلسفة ، فيتغير بالتوازي معها. ومن هنا فإن الفلسفة ،  بعضها على الأقل ، تأريخية بالضرورة ، ولا يمكن أن تبقى ثابتة وصلبة رغم مرور الزمن وتغير العالم.

من نافل القول أن تلك التصنيفات مهمة جدا ، في كل مقطع من تجربتنا الحياتية. وتبعا لها فإن البحث الفلسفي نشاط في غاية الأهمية ، حتى لو قيل أنه يتسم بالتجريد والغموض ، الذي يجعل الاشتغال به حكرا على أقلية من اهل الفكر. تلبي الفلسفة حاجة إنسانية حيوية لا يمكن الخلاص منها ، حاجة لتعريف وتفسير العالم ، الذي تشكل الحياة في إطاره تجربة إنسانية متواصلة.

في سياق دفاعه عن الفلسفة ، يؤكد ايزايا برلين على فوائدها الاجتماعية ، حتى لو كانت غير مباشرة وغير ملحوظة جدا.  تتمتع الفلسفة بقابلية لتقييم النماذج والتصورات والفرضيات المسبقة ، المتجذرة في اعماق الذهن الإنساني ، والتي تؤثر على تفكير الإنسان وتسهم في تشكيل قناعاته الجديدة ، من دون أن يعي ذلك ، في غالب الاحيان. تسهم الفلسفة في فحص واختبار صلاحية هذه المخزونات ، تستكشف اخطاءها ، وتحدد الالتباسات التي يمكن أن تقود إلى افهام خاطئة أو ربما تعثر في التجارب.

تتسم الفلسفة بكون التمرد على المألوف والمتعارف ، جزء من طبيعتها. حين ينشط التفكير الفلسفي ، فإن كل فرضية سائدة تصبح في دائرة السؤال. أنها معارضة لكل التقاليد الصلبة ومثيرة للجدل. لكن هذا جزء لا يتجزأ من حقيقة كون الفلسفة أداة لتحرير الأفكار والنفوس ، ولهذا فهي ذات قيمة ، بل ضرورة لا يستغنى عنها.

يخلص ايزايا برلين اخيرا ، إلى تحديد غرض الفلسفة في “مساعدة البشر كي يفهموا انفسهم ، ومن ثم يديرون دنياهم بعيون مفتوحة وبصيرة واعية ، وليس كمن يضرب في الظلماء من دون بصيرة”[19].

2.2 القضايا الأساسية: المعرفة، والميتافيزيقا، والمنطق

قدم ايزايا برلين العديد من الاعمال التي تتمتع بقيمة استثنائية. بعضها مهم في ذاته ، وبعضها مهم بالقياس إلى أعماله الأخرى ، أو تحولاته الفكرية على وجه الخصوص. وبين النوع الثاني ، نشير إلى  ما يمكن اعتباره العمل الاكثر أهمية بين أعماله  التي تصنف في اطار”الفلسفة الصرفة” ، اعني به “التحول المنطقي logical translation” ففي مقاله الذي حمل الاسم ذاته[20] انتقد برلين الفرضية القائلة بأن كافة المقولات/الاستنتاجات ، لا تكون اصيلة وذات معنى أو تدعي الحقانية ، الا اذا كانت قابلة للترجمة إلى نمط واحد من القضايا الصادقة[21]. وشدد على أن النموذج القائل بصنف احادي للقضايا الصادقة ، وهم خادع.

شخص ايزيا برلين مقاربتين متعارضتين ، بناء على هذه الفرضية الخاطئة: المقاربة الأولى انكماشية deflationary تستهدف اختزال كافة القضايا إلى قضية واحدة صادقة. وتبعا لهذا فإن التحليل في الرؤية الظاهراتية يسعى لاختزال كل المقولات (عن الأجسام الفيزيائية مثلا) إلى مقولات حول البيانات الحسية التي تدرك في لحظتها.

اما المقاربة الثانية ، فهي ، على عكس الأولى ، تميل للتضخم والانبساط inflationary. وهي تفترض وجود عناصر أو تكوينات تناظر كل المقولات ، ومن ثم فهي تخلق أشياء أو تؤكد على وجود أشياء ، يعتقد ايزيا برلين أنها غير موجودة على الاطلاق. أن الخطأ في كلا المقاربتين ، يكمن في المطالبة بالاستيعاب القسري لكافة القضايا في نوع واحد أو قضية واحدة.

قال ايزايا برلين أن هذه المطالبة ليست مبنية على ادراك سليم للواقع ، قدر ما  هي انعكاس لحاجة نفسية إلى اليقين ، إضافة إلى تاثير ما اسماه ب “المغالطة الايونية = Ionian Fallacy”[22] أي الفرضية القائلة بأن كل شيء مؤلف من ، أو قابل لان يختزل إلى ، أو يفهم في اطار نوع واحد أو قضية واحدة.

يؤكد ايزيا برلين على أنه ليس ثمة معيار وحيد ، لاكتساب المعنى أو اكتشاف المعنى في الاشياء. كما لا يوجد صنف من المعرفة يستحيل العبور منه وتجاوزه. أن محاولة الوصول إلى اليقين ليس سوى هزيمة للذات: لو قرر أحد ما أن لا يقول شيئا ، الا بعد التحقق من صحته ، وزوال أي شك في احتمال خطئه ، فإن قرارا كهذا يعادل حكم الإنسان على نفسه بالصمت التام ، وعدم قول أي شيء على الاطلاق. أن أي قول ، عن أي شيء في العالم ، يتطلب استدعاء شيء آخر غير التجربة الفورية. يقول برلين في هذا الصدد:

غالب الامور اليقينية التي تقوم عليها حياتنا ... الاعم الاغلب من انماط الاستدلال التي نبني عليها معتقداتنا ، أو التي ينبغي أن نستعملها في تبرير تلك المعتقدات ... غير قابلة للاختزال إلى مخطط مفاهيمي استقرائي أو استنباطي ، ولا توليفا من الاثنين ... ثمة شبكة شديدة التعقيد ، عناصرها كثيرة جدا ، وليس من السهل عزلها عن بعض وفحصها واحدة واحدة... نحن نتقبل النسيج بكليته ، مركبا - كما هو دائما – من عدد لا يحصى من الخيوط ، من دون أن نتوقف لحظة عند حقيقة أنه لا يمكن – ولو من حيث المبدأ - فحصه واختباره في كليته. لان النسيج الكلي هو ما نبدأ معه وهو ما ننتهي معه. ليس ثمة "نقطة ارخميدية Archimedean point" خارج هذا النسيج ، يمكن أن نقف عندها كي نقوم بفحص عام لذلك الكلي وتحليله... الاحساس بالنسيج العام للتجربة .. هو ذاته غير منفتح على الاستدلال الاستنباطي أو الاستقرائي ، كي نستعمل ايا منهما في تحليله: ذلك أن كلا المنهجين يعتمد عليه[23] (1978b, 149–50).

في قلب فلسفة ايزيا برلين ، كان ثمة وعي بالتعقيد والتنوع الكبير للواقع ، الذي ليس بوسعنا الادعاء باكثر من اننا نحاول البدء بفهمه. الخيوط المتنوعة التي تؤلف تجربة الإنسان ، كثيرة جدا ، دقيقة جدا ،  قصيرة العمر وغامضة جدا عند اطرافها ، بحيث يصعب ادماجها ضمن صورة كلية للتجربة. تلك الخطوط تتقاطع مع بعضها ويخترق واحدها الآخر في ذات الوقت ، في مستويات متعددة. ولهذه الاسباب جميعا ، فانه سيكون من غير العملي محاولة تمييز أي من تلك الخطوط عن البقية ، أو تصنيفها أو تثبيت حركتها وفصلها إلى حجيرات مختلفة.[24]

لدينا اذن قضيتان / مقولتان تتصل كل منهما بالأخرى على نحو وثيق. اولاهما أن اليقين المطلق أمثولة مستحيلة. (كتب برلين يوما أنه اذا كان عمله قد اظهر أي “ميل منفرد” فسيكون هو  الريبة في مزاعم امتلاك المعرفة النهائية بقضايا الحقيقة أو المبدأ ، في أي مجال من مجالات السلوك الإنساني)[25].

اما المقولة الثانية فهي أنه ليس كل شيء يمكن أو ينبغي أن يختزل أو يربط إلى امثولة منفردة أو نموذج أو نظرية أو معيار. تشكل هذه المقولة وسابقتها  جوهر فلسفة ايزايا برلين. كلاهما يحتل مكانة المركز في رؤيته للغة والمعرفة. وهما يحملان ذات القدر من الأهمية بالنسبة لرؤيته في الأخلاق وفلسفة الإنسانيات.

3.2 التمييز بين العلوم والعلوم الإنسانية

آمن برلين بالفردانية ، وتأثر بالكانتية الجديدة ، وعارض التنميط القسري لانماط الحياة والسلوك الإنساني ، وهو ما اسماه احد الباحثين “ضد-البروكروستية = anti-Procrusteanism [26]. كما قاوم المحاولات الايديولوجية والسياسية ، لحشر البشر في نماذج تفسيرية أو سلوكية محددة ، أو فرض معايير قسرية عليهم. هذه القناعات ساهمت في تشكيل رؤيته لما بات يدعى عادة ب “الإنسانيات” أو “العلوم الإنسانية” ، وعلاقتها بالعلوم الطبيعية.

اختار برلين مسمى “الإنسانيات” كعنوان صنف تحته كافة حقول البحث المتعلقة بسلوك الإنسان وتجربته. فهي تضم كثيرا مما يطلق عليه “العلوم الاجتماعية” ، إضافة إلى ما كان في العادة يصنف ضمن حقل الإنسانيات.

انتقد برلين الرؤية الوضعية التي تصنف العلوم كأشكال نسقية/باراديمية من المعرفة ، وان “الإنسانيات” يجب أن تتبع ذات المعيار وتكيف نفسها وفقا لمتطلباته. ويماثل موقف برلين هذا رؤية الفيلسوفين جيامباتيستا فيكو (1668 –1744) وفيلهلم ديلتاي (1833-1911) ، وفحواها أن الإنسانيات تختلف جذريا عن العلوم الأخرى ، في طبيعتها وفي نوعية المعرفة التي تحاول التوصل إليها (وهذا الاخير راي هنريش ريكرت). وبسبب هذا الاختلاف ، فإن البحث في الإنسانيات يعتمد مناهجا ومعاييرا مختلفة عن تلك المتعارفة في العلوم الأخرى.

من الواضح أن كلا من نوعي العلم يدرس مجالا مختلفا عن الآخر. موضوع البحث في الإنسانيات هو العالم الذي أنشأه البشر لانفسهم ومعيشتهم. بينما تركز العلوم الطبيعية والتجريبية على الطبيعة والعالم المادي المتصل بها.

** لكن لماذا يتسبب هذا في اختلاف طريقة البحث هنا وهناك؟.

احد الاجوبة هو أن العالمين مختلفان جذريا عن بعضهما البعض. لكن ايزايا برلين فضل الحجة القائلة بأن عالمي الإنسان والطبيعة ، يجب أن يدرسا على نحو مختلف ، بسبب الاختلاف في علاقة المراقب أو الدارس بموضوع الدراسة.  

بيان ذلك: اننا ندرس الطبيعة من خارجها ، بينما ندرس الثقافة من داخلها. حين نتحدث عن الإنسانيات ، فإن طرق التفكير التي يتبناها الباحث ، ونسيج حياته الشخصية ، إضافة إلى الوجوه العديدة لتجربته الحياتية ، تشكل كلها جزء من موضوع البحث. بينما الامر مختلف في العلوم الطبيعية. فالبحث هنا يستهدف فهم الطبيعة بشكل موضوعي ، ومن دون انفعالات أو مشاعر خاصة تجاه موضوع البحث. هنا أيضًا يجب على الباحث أن ياخذ بالادلة القاطعة قدر الامكان ، وليس المسلمات أو التوافقات العامة ، اذا كانت دلالة كل منهما مختلفة عن الأخرى.

اما في الإنسانيات فلا يمكن للباحث أن يتصرف على هذا النحو الخالي من المشاعر. أن دراسة حياة البشر تبدأ بالضرورة من فهمنا للبشر الاخرين ، أي فهم الدوافع التي تحركهم والمشاعر التي يعبرون عنها. نحن نقيم هذا الفهم على اساس تجربتنا الخاصة ، التي تنطوي – بالضرورة – على مسلمات عامة common-sense assumptions أو فرضيات يعمل الناس بموجبها ، باعتبارها صحيحة أو مقبولة. في العموم نحن نستعمل هذه المسلمات ، لتاطير تجربتنا في نماذج تجعلها متماسكة ومفهومة. قد تكون هذه النماذج غاية في الدقة ، وقد لا تكون كذلك ، لكننا في كل الاحوال نستطيع الحكم على دقتها ، بمراقبة مدى استيعابها للتجربة التي نعرفها.  لكننا في كل الاحوال لا نستطيع فصل انفسنا تماما ، عن الفرضيات التي تشكل ارضيتها. (بطبيعة الحال فإن عالم الإنسان يمكن أيضًا أن يكون موضوعا للدراسة العملية البحتة – خارج اطار الإنسانيات – لكنه سيكون بحثا غير مكتمل).

ثمة وجه آخر للاختلاف بين الإنسانيات والعلوم ، كما لاحظ برلين ، هو أن الأولى تركز اهتمامها على فهم خصوصيات الحياة البشرية بحد ذاتها. في المقابل تركز العلوم على وضع قوانين عامة تفسر جانبا كاملا من الظواهر. ثم أن العلوم تهتم بالانماط ، بينما تهتم الإنسانيات بالافراد. ويركز علماء الطبيعة على الاشباه ، ويبحثون عن خطوط التوافق التي يمكن أن تشير إلى قاعدة. أما دارسو الإنسانيات ، بعضهم على الأقل ، ولاسيما المؤرخين ، فانهم يركزون على الاختلافات.

كي تكون مؤرخا جيدا ، فانت بحاجة للتركيز على اشخاص معينين أو على احداث أو حالات بما هي ، وليس كأمثلة أو عينات تستمد منها قاعدة عامة[27]. لا ينبغي للإنسانيات أن تحاكي العلوم في البحث عن قوانين تفسر افعال الإنسان أو  تتنبأ بأمثالها. بل عليها أن تركز اهتمامها على فهم كل ظاهرة إنسانية بعينها ، في اطارها الخاص وتفردها. حين نعمل في العلوم الطبيعية مثلا ، فسوف نعتقد أنه من العقلاني أن نضع ثقتنا في القوانين العامة بدل الظواهر المحددة. لكن حين ندرس الإنسانيات فسوف نأخذ بالخيار المعاكس تماما. لو ادعى احد أنه شهد ظاهرة تعارض القوانين المثبتة للعلم ، فسوف نبحث عن تفسير يساعدنا على التوفيق بين ذلك الفهم وبين العلم ، أن لم نجد أي طريق للتوفيق بين المتعارضين ، فقد نخلص إلى أن ذلك الشاهد ربما كان مخدوعا.

الحس التاريخي

هذا شيء لا نفعله حينما ندرس التاريخ. فحين يحصل تعارض بين قاعدة مثبتة وبين مشاهدة جديدة ، فاننا ننظر في ظواهر محددة ونبحث عن تفسير لها في ذاتها[28]. هناك اكثر من طريق لتحدي الواقع ، يقول برلين ، ليس من الصحيح علميا أن نتحدى أن لم يكن لدينا مبرر قوي ، منطقي أو تجريبي.  لكن من ناحية أخرى ، فانه ليس من الصحيح في دراسة التاريخ أن نغفل أو نحرف رؤيتنا إلى احداث بعينها أو اشخاص أو أزمات ، بحجة قوانين أو نظريات أو مباديء مستمدة من حقول أخرى ، منطقية أو أخلاقية أو ميتافيزيقية أو علمية[29]. من المهم – يقول برلين – أن يتحلى الباحث بما أسماه “الحس التاريخي”.

 يمكن تعريف هذا المفهوم بانه فهم التناسب بين عناصر الواقعة التاريخية. كي يكتسب المؤرخ هذا الحس ، فانه يحتاج لاستيعاب حقيقة أن تيار التاريخ يسير في اتجاه احادي[30]. ذلك الاحساس بالواقعة التاريخية ، يمكن الدارس من فهم الحقائق والحوادث التي يدرسها ضمن صورة اوسع ، قد لا تكون مكتملة أو ظاهرة لحظة الدراسة. من يملك الحس التاريخي سوف لن يقع مثلا في خطأ غير منطقي ، بل سخيف ، كالقول مثلا بأن مسرحية “هاملت” كتبت في ديوان جنكيز خان. من يملك حسا بالتاريخ ، لن يقول كلاما كهذا.

لا يتضمن الحس التاريخي معرفة الاحداث ، فهذه يمكن الحصول عليها بالادوات التجريبية ، بل الاحساس – عند دراسة الفعل الإنساني – بما هو معقول وممكن وما هو غير معقول أو ممكن ، ما هو متين ومتماسك وما هو هزيل وغير متلائم. ليس هناك تمهيد مختصر لمثل هذه المعرفة. التفكير التاريخي يشبه إلى حد كبير تشغيل العرف common sense بحيث يتضمن تنسيج مزيج متنوع من المفاهيم والقضايا propositions  المنفصلة واستخدامها معا في تقويم حالة بعينها ، أو في التعامل معها على احسن ما نستطيع. واضح أن هذا يختلف عن تطبيق القوانين والصيغ الجاهزة. أن القدرة على القيام بهذا موهبة تجريبية ، قد نسميها البداهة أو ملكة الحكم أو ملامسة الواقع[31].

يعتمد فهم التاريخ على معرفة الإنسانية ، معرفة مستمدة من التجربة المباشرة ، التي لا تقتصر على التأمل في احوال الذات ، بل – بشكل رئيسي – على التفاعل مع الآخرين. هذا هو الاساس لمعرفة دواخل الحياة العميقة وتخيل مساراتها التي لا تظهر للناظر السطحي ، أنها بعبارة أخرى ، الطريقة التي تمكن الباحث من استيعاب الاجزاء المنفردة في سلوك البشر ، باعتبارها أجزاء   في منظومة ، وعلامات تشير إلى نسق من الحراك الذي ينبغي فحصه ومتابعته… ثم شرحه في صيغة قوانين عامة. قد لا تكون هذه القوانين واضحة جدا، وقد لا تكون مرتبة في منظومة دقيقة ، لكنها مع ذلك ضرورية كمدخل لفهم واقعي للمسار الاعتيادي لحياة البشر ، الشخصية أو الاجتماعية[32]. أن تحدي التاريخ يكمن في حاجة الافراد لفهم تجاربهم الخاصة ، ثم العبور منها ومحاولة رؤيتها كمثال على الظواهر الاوسع نطاقا ، أي باعتبارها منطلقا يبدأ منه في محاولته لاستيعاب وفهم السلوك البشري.

فهم التاريخ يستدعي اعادة بناء الماضي ، اعادة تشكيل الاحداث التي ندرسها ، ليس وفقا لمفاهيمنا وتصنيفاتنا الخاصة ، بل وفقا لما ينبغي أن يكون قد حدث فعلا ، في نظر اولئك الذين شاركوا في تلك الاحداث. تحتاج دراسة التاريخ اذن معرفة الكيفية التي كان يبدو عليها الوعي عند اشخاص اخرين ، في ظروف واحوال غير ظروفنا. هذا قد يتطلب أن نضع انفسنا في محلهم ، ثم نركز خيالنا على تصور كيف كان العالم المحيط سيبدو لهم ، وكيف كانوا سيرون الحوادث ويتفاعلوا معها. نحن نحاول العودة إلى الماضي – ولو تخيليا – من اجل أن نتحرر من تاثيرات مفاهيمنا وتصنيفاتنا الخاصة ، أي اننا نبدأ بها ، لكننا نحاول استخدامها في فهم التجارب الأخرى ، وهذا يتطلب طبعا العبور منها إلى ما وراءها ، بعد أن نستخلص ما نستطيع من العبر من فحصها.

من دون القدرة على تقمص الادوار وتخيل العالم الذي ندرسه ، العالم الذي زالت معالمه وتفصيلاته ، لا يمكن لنا الحصول على رؤية واضحة عن الماضي أو الحاضر ، عن انفسنا أو عن الاخرين[33]. اعادة بناء التاريخ والتفسيرات تنطوي على “دخول في” الدوافع ، المباديء ، الأفكار والمشاعر التي حملها الاشخاص المرتبطون بالحدث التاريخي موضع الفحص.

** هل ياترى يستطيع الباحث أن يفعل هذا؟.

** الجواب: أنه ممكن شرط توفر القدرة على معرفة كاملة وعميقة ، مثلما تعرف شكل فلان أو وجهه.[34]

4.2 بين جبر التاريخ وإرادة الإنسان

اراد ايزايا برلين صياغة وعي بالتاريخ ، متصل بتحليل أخلاقي وجمالي. في هذا التصور لا يظهر البشر كمخلوقات منفردة ، تهيم في الفضاء ، بل ككائنات نشطة تعي وتسعى لغايات ، وتعمل على تشكيل حياتها وحياة الآخرين ، كائنات ذات مشاعر وعواطف ، تتأمل وتتخيل وتبدع الأشياء ، في تفاعل وتواصل لا ينقطع مع بقية  الكائنات. أنها – بكلمات موجزة – منخرطة في تجارب من كل الأشكال التي نعرفها لاننا نشارك فيها ، مثلما يشاركون ، فهم – مثلنا – جزء من التجربة الحياتية ، وليسو ا مجرد مراقبين من الخارج[35]. بناء على رؤية برلين فإن فلسفة التاريخ لا تتصل فقط بالابستمولوجيا ، فثمة أيضًا رابط وثيق يشدها إلى الأخلاق.

وقد أثارت كتابات ايزايا برلين في هذا المجال ، وفي العلاقة بين التاريخ والعلوم ، مجادلات كثيرة ، لكن اكثر ما  أثار للجدل هو مناقشاته حول مسألة الجبر وحرية الارادة ، التي اتخذت – على يديه – مضمونا أخلاقيا لا يحتمل الشك. في كتابه “الحتمية التاريخية Historical Inevitability[36] قدم برلين مجادلة شديدة ضد “مبدأ الجبر Determinism” أي الرؤية القائلة بأن الإنسان لا يختار  أسلوب حياته ، ولا يملك الارادة الحرة التي تخوله فعل ما يشاء. أن افعال الإنسان – وفق هذه الرؤية – بل وحتى أفكاره ، مقررة سلفا ومفروضة عليه ، من جانب قوى مهيمنة عليه وعلى عالمه. 

كما جادل بنفس الشدة ضد الحتمية التاريخية. وهي الرؤية التي فحواها أن كل ما يجري من أحداث في سياق الحركة التاريخية ، هو  تمظهر لقضاء سابق. هذه احداث وقعت لانها مقررة ، وقد كانت ستحدث على أي حال. التاريخ يجري في مسار محدد سلفا ولا يمكن تغييره. الممكن فقط – وفقا لهذه الرؤية – هو اكتشاف المسار المحدد للتاريخ وفهمه وشرحه ، في اطار قوانين التطور التاريخي. عارض ايزايا برلين هذه التصورات بشدة ، كما ركز على نقد الاعتقاد القائل بأن التاريخ يخضع لسيطرة قوى خارقة أو غير مرئية ، تتجاوز قدرة البشر على المقاومة ، فضلا عن تحييدها أو التحكم فيها.

لم يقل ايزايا برلين – بضرس قاطع – أن الرؤية الجبرية determinism  باطلة. بدلا من ذلك قرر أن قبولها ، يستدعي تحولا جوهريا في اللغة والمفاهيم التي نستعملها حين نفكر في حياة البشر ، وعلينا بالخصوص أن نرفض مبدأ المسؤولية الأخلاقية للفرد. أن امتداح شخص أو لومه ، أو اعتباره مسؤولا عن شيء ما ، يعني بالضرورة افتراض أنه يملك قدرا من السيطرة على افعاله ، وانه – تبعا لهذا – يستطيع اختيار هذا الطريق أو عكسه. 

اما حين يكون الفرد مسيرا بالكامل ، مسيطرا عليه من جانب قوى خارقة ، فلن يكون ثمة معنى لامتداحه أن احسن أو لومه أن اساء. أن معاتبة فرد مسير غير مختار ، يشبه تماما لوم الشخص اذا اعتلت صحته ، أو امتداحه  أن أطاع قانون الجاذبية الأرضية. فضلا عن ذلك ، قرر برلين أن قبول الرؤية الجبرية ، أي التخلي التام عن مفهوم الارادة الإنسانية الحرة ، سوف يؤدي إلى أنهيار تام لكل نشاط عقلاني ذي معنى ، مما عرفناه وعرفه غيرنا من البشر.

تشكل هذه الفكرة خطا يربط فكر ايزايا برلين ، إلى شروحات إيمانويل كانط في المعرفة الإنسانية ، والتي اسماها “الثورة الكوبرنيكية”[37]. ترجع أهمية هذا التفسير إلى إقرار كانط ، الكلي والأول من نوعه ، بالمساهمة الضرورية لعقولنا في ادراك العالم غير الإنساني. وهي الحركة التي كررها برلين حين أكد اننا لا نستطيع ، في أي وقت بعينه ، بل في أي وقت على الاطلاق ، لا نستطيع الا أن نفكر وان نحاول فهم النوع الإنساني من خلال سلوكه وتجربته. نحن لا نفسهم البشر خارج اطار التصنيف المفهومي الذي يساعدنا في تشخيص ما نريد معرفته فيهم.

حين نفكر في شخص مثلا ، فاننا نختار اولا عددا من التصنيفات (التي يقابل كل منها مفهوم محدد) ثم نضع الشخص أو الجماعة التي نريد فهمها في هذا الصنف ، أو نقارنها بالمحتوى المفترض لهذا الصنف. تضم هذه الاصناف على سبيل المثال: المجتمع ، الحرية ، الاحساس بالوقت والتغيير ، المعاناة ، السعادة ، الانتاجية ، الحسن والقبيح ، الصواب والخطأ ، الاختيار ، الجهد ، التوهم .. الخ. هذه المفاهيم ليست موضوعات  للاستقراء والافتراض. بل هي – بطريقة ما- مدخل لفهم الإنسان. حين تفكر في شخص ما باعتباره إنسانا ، فسوف تجلب – بالضرورة - كل الأفكار السابقة الذكر ، إلى واجهة الذهن كي تشارك في تشكيل صورة هذا الإنسان. ومن هنا ، فسوف يكون من الغريب أن تصف شخصا ما بانه إنسان ، لكنك تقول في الوقت نفسه أن فكرة الاختيار أو فكرة الحقيقة ، لا تعني له شيئا أو لا صلة لها بوصفه كإنسان. سيكون هذا التعبير متناقضا ، لأنه لا يمكن أن يكون إنسانا من دون أن تكون تلك الأفكار ذات مدخلية تامة ، في تكوين صورته وحقيقته كإنسان. حين أذكر صفة الإنسان فاني لا أعنى التعبير اللفظي الفارغ ، بل التعبير الذي يشير مباشرة إلى الصورة التي في ذهني ونفسي ، عن هذا الكائن الذي هو انا أو الذي يشبهني. هذا امر لا يمكن قوله دون التفكير فيه[38] (CC2 217).

الحرية هنا تعني المفهوم الذي يحظى بأهمية مركزية ، اعني به “الارادة الحرة”. لا يمكن لنا أن نفكر في السلوك البشري ولا نعتبره تجربة جديرة بالتأمل ، الا اذا تصورناه كفعل مسبب ومقصود ، أي ثمرة اختيار حر لفاعله. كوننا نتمتع بالارادة الحرة ليس فرضية علمية ، بل هي شرط مسبق كي نجرب إنسانيتنا ، وحين نتخلى عن الاعتقاد بها أو نحرم منها ، فسوف نكون قد دمرنا رؤيتنا للعالم وصلتنا به.

يعتقد ايزايا برلين أن الإيمان بالحتمية التاريخية ، متأثر بحاجات سيكولوجية ، وليس نتيجة تأمل عقلاني أو انعكاسا لحقائق معروفة. وهو يرى أن هذا الإيمان ربما يقود إلى منزلقات خطرة أخلاقيا وسياسيا. فهو يبرر المعاناة ويقوض الاحترام اللازم للخاسرين في مسار التاريخ. وقد راينا في تاريخ البشرية ، كيف استعمل هذا الاعتقاد كحجة للتهرب من المسؤولية عن ارتكاب فضائع ، تحت عنوان الضرورة أو الايجاب العقلي. لقد وفر الاعتقاد في الحتمية التاريخية مبررا للافعال الشائنة ، كما وفر مبررا لعدم فعل أي شيء على الاطلاق ، يوم كان الحال يقتضي الفعل والمبادرة[39].

أصر ايزايا برلين بكل قوة على أهمية  مبدأ “الارادة الحرة” ، وعلى التعارض العميق والجوهري ، بين فكرة الجبر والحتمية التاريخية من جهة ، وبين إحساسنا الأساسي بأنفسنا وخبرتنا كبشر من جهة أخرى. وهو اصرار يتصل بحبل وثيق مع إيمانه بالليبرالية والتعددية ، ولا سيما تركيزهما على أهمية الاختيار الفردي وضرورته وجلالة قدره. ونعلم أن هذا الاصرار قد أخذه إلى جدالات واسعة مع بعض الفلاسفة والمؤرخين ، خلال الخمسينات وأوائل الستينات. وهي جدالات أثمرت عن موجة من الكتابات حول فلسفة التاريخ في العالم الناطق باللغة الانكليزية. والمرجح أن تلك الاثارات قد اعادت احياء الموضوع وتنشيطه في المحافل العلمية ، بعدما اوشك أن يلفه النسيان.

وفقا لرؤية ايزايا برلين حول التاريخ ، فإن على المؤرخ أن لا يغفل المضمون الأخلاقي لروايته. ما يحفظه للناس يجب أن لا يكون سلبيا أو محايدا. من واجب المؤرخ أن يخبر الناس عن الاخطاء الفادحة ، التي ارتكبها طغاة التاريخ مثل شارلمان ، نابليون ، ستالين وامثالهم. وقد اثارت هذه الرؤية جدلا واسعا ، سيما لكونها جاءت في وقت يشهد تاكيدا مستجدا ، على الحاجة للفصل بين المعرفة والحكم الأخلاقي عليها. وكان من أبرز الذين انتقدوا هذه الرؤية ، المؤرخ الانكليزي ادوارد كار (1892-1982)[40]. على أنه من الضروري الاشارة إلى أن برلين لم يكن يقصد “اضافة” حكم أخلاقي على الواقعة التاريخية ، كما فهم ناقدوه.

يتلخص موقف برلين في نقطتين:

الأولى: أن طريقتنا المعتادة في اعتبار الكائن الإنساني فاعلا يتمتع بالارادة والاختيار ، ينطوي بالضرورة على تقييم أخلاقي. أن ازالة التقييم الأخلاقي بشكل تام من تفكيرنا ، يعني أن نبدل بشكل جوهري الطريقة التي نستعملها في رؤية العالم المحيط بنا.

الثانية: حتى لو استطعنا بطريقة أو بأخرى أن نغير رؤيتنا للعالم ، فإن هذا لن يكون محايدا تماما أو خاليا من أي تقييم أخلاقي ، لسبب بسيط ، وهو أن المحاولات الشاقة الضرورية لضمان الحياد الأخلاقي ، هي ذاتها مدفوعة بالتزام أخلاقي تجاه فكرة الحياد. اضف إلى هذا ، واخذا بعين الاعتبار مكانة التقييم الأخلاقي في فكر البشر العاديين وكلامهم ، فإن أي تقرير يوضع في صيغة محايدة أخلاقيا ، سوف يفشل في كشف روح التجربة ، أو الادراك الذاتي للفاعلين التاريخيين الذي نروي سيرتهم.

هذه الحجة لها أهمية خاصة عند ايزايا برلين ، الذي رأى أن الكتابة التاريخية ينبغي أن تعكس وتوضح كيفية فهم الفاعلين الذين نسجل تاريخهم ، لواقعهم وظرفهم الخاص ، وبالتالي فهم السبب الذي جعلهم يفكرون على نحو خاص ، أو يقوموا باعمال محددة دون غيرها. من هنا يصر برلين على مطالبة المؤرخ بالالتفات إلى الدعاوى والادراكات الأخلاقية ، التي تشكل ارضية للحوادث التاريخية ، لأنها جزء من صورة الحدث ، حتى لو لم تكن ظاهرة.

3. تاريخ الأفكار

اشرنا في صفحات سابقة إلى اهتمام ايزايا برلين بالدور التنويري الذي تلعبه الفلسفة ، وكونها في طبعها الأولي مناهضة للتفكير القديم ومزعزعة للتقاليد. انطلاقا من هذه الرؤية ، ركز برلين على ما اعتبره لحظات مفصلية ، شهدت تحولات اساسية في تاريخ الأفكار. وفي هذا الاطار ، اهتم بمن اعتبرهم مفكرين اصيلين ، كما اهتم بالمفكرين الهامشيين. وقد قاده تركيزه على التبعات العملية للأفكار ، إلى التركيز على التحولات والتحديات التي  ادت ، في تقديره ، إلى انعكاسات عميقة وحاسمة على وعي الناس ، السياسي والأخلاقي وعلى سلوكهم. اخيرا فإن اهتمامه بالصراعات التي حدثت في أيامه ، قاده إلى التركيز خصوصا على التاريخ الفكري الحديث ، وتتبع ولادة أفكار بعينها ، رأى أن لها – لاسباب جيدة أو سيئة – أهمية خاصة في العالم المعاصر[41].

العديد مما كتبه ايزايا برلين في تاريخ الأفكار ، له صلة باعماله الفلسفية الاقدم. لكن يبدو أن الكتابات المتأخرة ، كانت في الغالب امتدادات لاعمال سابقة في نفس الموضوع ، ولا سيما في معالجة إشكاليات أثارتها نقاشاته ضمن نفس الحقل. وفي هذا الاطار كتب عن العلاقة بين حقلي الإنسانيات والعلوم ، وفلسفة التاريخ ، واصول القومية والاشتراكية ، والاعتراض على ما يعرف ب “العلموية Scientism” بصورة خاصة و”الاحادية monism ” بصورة عامة ، إضافة إلى تحولات الأفكار وتقلباتها.

طور برلين سردية لتاريخ الأفكار وصقلها خلال مسيرته العملية ، وهي تبدأ من التنوير وتركز على التمرد الأولي ضد ما اعتبره الفرضيات المهيمنة في تلك الحقبة[42].

وفقا لتحليل برلين ، فإن مفكري عصر التنوير آمنوا بأن الإنسان بطبعه خير أو مرن. هذا الاعتقاد أدى إلى أزمة في فكر التنوير ، بين رؤيتين: الرؤية القائلة بأن الطبيعة تملي على الإنسان غاياته ، والرؤية الأخرى القائلة بأن الطبيعة ، توفر مادة محايدة نوعا ما ، يمكن تشكيلها وصوغها على نحو عقلاني وخير ،  بواسطة التدخل البشري الواعي ، الذي يشمل التعليم ، التشريع ، العقاب والثواب ، ومجموع النظام الاجتماعي.[43]

اضافة إلى ما سبق فقد نسب برلين إلى عصر التنوير ، الاعتقاد بأن كافة مشكلات البشر ، معرفية كانت أو أخلاقية ، قابلة للعلاج من خلال اكتشاف وتطبيق الطرق المناسبة (العقل عموما ، بالمفهوم القائم على المنهج العلمي ولا سيما فيزياء نيوتن) ، وان حاجات الإنسان الجوهرية ومصالحه متوافقة تماما. ومن هنا فإن النزاعات والشرور ، كانت ثمرة للجهل أو سوء الفهم أو الخداع والظلم ، الذي مارسته سلطات فاسدة (لاسيما الكنيسة).[44] 

قبيل الثورة الفرنسية ، ظهرت مدارس فكرية عديدة ، توسعت اثناء الثورة وبعدها ، وكانت – حسب اعتقاد برلين – عميقة العداء لحركة التنوير. وكان برلين قد ركز اهتمامه على الرومانتيكية الألمانية ، لكنه اهتم أيضًا بالجماعات الفرعية التي تشترك في توجه اوسع نطاقا ، أسماه “التنوير المضاد Counter-Enlightenment”[45]. في بعض الاحيان بدا أن اهتمام برلين مركز على القوميين ، الذين اتخذوا موقفا يعادي المضمون الليبرالي المتفائل في التنوير. في احيان أخرى بدا أنه ركز على نقد الرؤية الداعية لكونية الأخلاق والثقافة.

يمكن القول بشكل إجمالي ، أن موقف ايزايا برلين من التنوير كان موضع خلاف. ثمة من اعتبره نصيرا للتنوير ، لكنه في الوقت ذاته معجب جدا بناقدي التنوير. هذا الموقف المزدوج يثير بالطبع مشاعر متضاربة: الاستحسان في بعض الاحيان والاستغراب في أحيان أخرى. هناك أيضًا من صنف برلين كناقد للتنوير ، بل ربما اعتبره معارضا لا يتردد في اظهار انبهاره باعداء التنوير.

ثمة شيء من الحقيقة في كلا الرأيين ، مع أن كليهما لم يكن منصفا أيضًا ، تجاه الطبيعة المركبة لتفكير ايزايا برلين وآرائه. لقد اظهر برلين اعجابه بالعديد من مفكري التنوير ، وصنف نفسه علنا “الى جانبهم”[46]  ، كما رأى أن الكثير مما أنجزوه كان طيبا. وانطلاقا من موقفه كتجريبي Empiricist فقد أقر بانتمائهم إلى ذات التيار الفلسفي الذي ينتمي إليه.

وقال في هذا السياق ، أن ناقدي التنوير لم يكونوا محقين في معظم الاحيان ، فقد ارتكبوا اخطاء فادحة  وأحيانا خطرة ، من نواح عديدة. وقد هاجم معتقداتهم الميتافيزيقية أو انكرها ، سيما فلسفة التاريخ عند هيجل وخلفائه . كان برلين قلقا أيضًا من المقاربة الجمالية للسياسة ، التي تبناها وبشر بها رومانسيون كثيرون. ومع أنه اعجب ببعض عناصر المفهوم الرومانسي للحرية ، الا أنه راى في تاثير الرومانسية سببا جديا لانحراف في تطور فكرة الحرية.

لكن اعجاب ايزايا برلين بحركة التنوير ومفكريها ، لم يمنعه من توجيه النقد إلى ما اعتبره اخطاء في تناول بعض أهم القضايا العامة ، أي قضايا السياسة والأخلاق. وقد اعتبر برلين منظورهم التاريخي والسيكولوجي سطحيا ، مفرطا في احاديته ، وساذجا. كما وجد برلين في حركة التنوير ، الجذر الاعمق للرؤية التكنوقراطية لطبيعة الإنسان ومشكلات السياسة  (الرؤية التي تدعو لوضع الحكومة بيد التكنوقراط) وهي رؤية عارضها أشد المعارضة ، واعتبرها واحدة من أسوأ الأخطار التي يواجهها العالم.

ويعتقد ايزايا برلين أن أعداء التنوير لهم فضل على الحركة ، فقد ساهم نقدهم في كشف عيوبها ، وبالتالي اصلاحها. وهو يرى أنهم قد كشفوا العديد من الحقائق الهامة ، التي اهملها أو انكرها مفكرو التنوير. من بين هذه ، ثمة ما يصنف كحقائق سلبية (مثل التاثير القوي للامعقول ، ولاسيما العواطف المظلمة في الشؤون الإنسانية) أو ايجابية (مثل القيمة الراسخة للتنوع والفضائل الشخصية ، كالنزاهة والاخلاص ، ومحورية القدرة على الاختيار في الطبيعة الإنسانية ، والكرامة). لقد تمردت الرومانتيكية خصوصا على ما اعتبر مبالغة من جانب حركة التنوير ، في منح العقل دورا مطلقا في حياة الإنسان ، يتجاوز أي مصدر آخر للمعرفة والعواطف. لكنها احتفت بالمكانة التي منحتها للارادة الحرة والاختيار. وقد اظهر برلين تعاطفا جليا مع هذا الموقف ، مع أنه اعتقد أيضًا أن الرومانتيكية قد ذهبت اكثر مما ينبغي في كلا الموقفين: المعارض والاحتفائي.

اهتمام ايزايا برلين بناقدي التنوير يشير إلى ناحيتين: فهو يكشف من ناحية عن فضوله تجاه اولئك الذين يعارضهم في غالب الاحيان. ويشير من ناحية أخرى إلى رغبته في التعلم ، من اشد التحديات التي يواجهها الموقف الليبرالي العقلاني والتقدمي.[47]  هذا يفترض أن يعين على تقدير النواقص ونقاط الضعف والعمل على اصلاحها. لقد عمل برلين من خلال توضيحه لليبرالية والتعددية ، على ايجاد توليفة ، تدمج الاراء الناقدة للتنوير ، خصوصا تلك التي تتميز بالعمق ، مع دفاعه الخاص عن تراث التنوير.  أن هذا الموقف المركب هو ما يسمح باعتبار برلين ملتزما بهدفه في فهم العلم ، على النحو الذي يمكنه من “التصرف بعقلانية فيه وعليه”[48]  ، بغض النظر عن أي ميل شخصي أو ايديولوجي.   

4. الفكر الأخلاقي وتعددية القيم

كتب ايزايا ايزايا برلين مقالات عديدة والقى محاضرات كثيرة ، لكن معظمها بقي غير معروف الا متأخرا. يرجع الفضل في التعريف باعمال برلين إلى هنري هاردي ، الكاتب والمحرر البريطاني ، الذي بدأ في 1969 بنشر مجموعات تضم مقالات برلين منسقة وفق موضوعاتها. كان اول هذه الاعمال هو “اربع مقالات عن الحرية Four Essays on Liberty  ” ثم فيكو وهيردر Vico and Herder  في 1976. واستمر هاردي في نشر أعمال ايزايا برلين وتوثيق ما كتب عنه حتى الآن

اعادة نشر هذه المقالات ، اثمرت عن لفت الانظار إلى القيمة الرفيعة لاعمال ايزايا برلين. وقد ركزت الضوء بصورة خاصة ، على دفاعه العميق عن مبدأ تعدد القيم. ومنذ العقد التاسع من القرن العشرين ، اخذ الباحثون في التعامل مع رؤية برلين الخاصة بتعددية القيم ، باعتبارها “الفكرة المحورية” في مشواره الفكري ، وباتت الموضوع الاكثر جدلا والاكثر اثارة للاعجاب.   

والحق أن مبدأ تعدد القيم هو مركز التفكير الأخلاقي لـ ايزايا برلين ، مع أن هذا الفكر يضرب في مساحات اوسع كثيرا من المبدأ المذكور. عرف برلين الفكر الأخلاقي بالفحص المنتظم للعلائق التي تربط البشر إلى بعضهم ، ولادراكاتهم (اي كيف فهموا أو استوعبوا) والمصالح والمثل التي تشكلت على ضوئها أساليب العيش والتعامل فيما بين الناس ، وانظمة القيم التي حددت أهداف حياتهم… منظومات القيم هذه عبارة عن اعتقادات حول الكيفية التي ينبغي للحياة أن تعاش ، كيف ينبغي للرجال والنساء أن يكونوا ، وماذا ينبغي لهم أن يفعلوا[49]. ومثلما أسس برلين فهمه للفلسفة ودورها ، على أرضية اعتقاده في أهمية المفاهيم والتصنيفات في حياة الناس ، فانه – وعلى نفس النسق – أقام فهمه للأخلاق ، على اساس اعتقاد مواز في الأهمية القصوى للمفاهيم والتصنيفات المعيارية والأخلاقية ، ولا سيما القيم .[50]

لم يضع ايزايا برلين نظرية منظمة ومضبوطة حول طبيعة القيم. ومن هنا فانه يتوجب استخلاص رؤيته فيها من كتاباته الكثيرة في تاريخ الأفكار. في نفس السياق ، ينبغي الاشارة إلى أن ملاحظات برلين حول مكانة القيم واصولها ، تبدو غامضة أو ملتبسة نوعا ما ، مع أن الانصاف يقتضي القول أن التوفيق بينها ليس عسيرا أو ممتنعا. لكن في العموم نستطيع القول أنه يوافق على الرؤية الرومانتيكية القائلة ، بأن القيم لم تكن موجودة بشكل طبيعي في نظام الكون ، وان الإنسان لم يكتشفها مثلما اكتشف عناصر الطبيعة الأخرى ، بل هو الذي اخترعها وطورها.  ولأن القيم منتج بشري ، فإن سلطتها نسبية وليست مطلقة أو جبرية. ويرجع برلين هذه الرؤية إلى إيمانويل كانط ، مع أنه نسبها أحيانا إلى ديفيد هيوم.

على هذه القاعدة قامت نظرية في الأخلاق ، ترفع الإنسان إلى المرتبة العليا من سلم القيم. وتبعا لها فإن المثل والافعال تقاس ويحكم عليها ، بالنظر لعلاقتها بالمعاني والتاثيرات التي تخلفها على الافراد ، لمصلحتهم أو خلافا لها. هذه الرؤية تشكل أرضية لقناعة ايزايا برلين العاطفية ، بخطأ التعويل على النظريات عوضا عن الحقائق الإنسانية ، وقبح التضحية بحياة الإنسان من اجل أفكار مجردة (وهو أمر شدد عليه هرزن ايضا). تتصل هذه الرؤية أيضًا بنظرية برلين في الحرية ، وإيمانه بالأهمية الخاصة لتحرر الإنسان.

في محاولته لوضع تحليل حول الكيفية التي وجدت فيها القيم ، سيما تلك المعروفة منذ أزمان سحيقة ، بدا كما لو أن ايزايا برلين ينسج نظرية تجريبية على منوال “القانون الطبيعي” ، بحيث تقتصر على الحد الأدنى من المفهوم محل النقاش. قال برلين في هذا الصدد أن تجربة البشر خلال تاريخهم الطويل ، اثمرت عن تشكيل سمات ثابتة ارتبطت بهم. هذه السمات جعلت بعض القيم مهمة وبعضها الاخر ضروريا لحياتهم. وتبعا لهذا التحليل فانه يمكن تعريف القيم باعتبارها معتقدات حول معنى أن تكون جيدا ، ومعنى الفعل الجيد الذي ينبغي أن تقوم به ، نوعية الحياة الصالحة والسيئة ، الصفات الشخصية ، نوعية الوجود والعيش الذي يستحق أن يتطلع الإنسان إليه.

استخدم ايزايا برلين رؤيته المتعلقة باصل القيم في دفاعه عن قيمة الحرية ، حين قال أن حرية التفكير والبحث والتخيل ، وفوق الكل حرية الاختيار دون خوف أو قيد ، كلها ضرورية وعالية ، لأن الإنسان بحاجة إلى حرية الذهن. من هنا فإن انكار الحاجة لحرية الذهن وما هو ضروري له (كالحريات المذكورة) يعادل انكار طبيعة الإنسان ، ويلقي على كتفه عبئا لا يحتمل ، وفي اسوأ الحالات سوف يسلبه جوهر إنسانيته كليا.

لدينا الآن اذن رؤيتان: الرؤية القائلة بأن القيم الاساسية لحياة البشر ، كانت جزء من نظام الكون واكتشفها الإنسان مثلما اكتشف بقية عناصر الكون ، ونظيرتها التي يقترحها ايزايا برلين. لو أردنا التوفيق بين الاثنتين فلعلنا نقول ، أن رؤية ايزايا برلين تذهب إلى اعتبار القيم التي صنعها الإنسان ، متجذرة في طبيعة الكائن الذي سعى إليها. لكن هذا يبدو مثل دفع السؤال خطوة إلى الوراء ، لأنه سيثير سؤالا جديدا حول تلك الطبيعة البشرية ، هل هي جزء من تكوينه  ونهائية ، ام هي مكتسبة وتتعرض للتغيير مع الزمن ، من خلال الفعل الإنساني الواعي والعفوي؟.

قدم برلين جوابا على هذا السؤال يقع في جزئين:

من ناحية يرفض ايزايا برلين القول بأن طبيعة البشر ناجزة ونهائية ، وينظر بريبة للقول بالماهية الطبيعية[51]. لكنه من ناحية ثانية يعتقد بأن الطبيعة البشرية التي نعرفها ، لها حدود boundaries ، كما أن لها متطلبات. (سوف نغض النظر هنا عن كون هذا الاعتقاد ادنى من مستوى التنظير الملائم وأنه غير منهجي).هذه الطبيعة المتماثلة عند جميع البشر قد لا تكون قابلة للتحديد الدقيق ، بمعنى أنه قد لا يكون ممكنا أن نستخرج منها قائمة للسمات الثابتة عند كافة البشر ، قابلة للتحديد الدقيق.

ان بعض الخصائص قد تكون متفاوتة بين شخص وآخر ، أو بين ثقافة وأخرى. مع ذلك ، فثمة حدود للتفاوت والاختلاف ، رغم بقاء الاصل الإنساني واحدا ، تماما مثلما يختلف وجه هذا الشخص عن ذاك في العديد من سماته ، لكن سيبقى كل من الشخصين معرفا كإنسان. في الوقت نفسه من الممكن التمييز بين وجه لإنسان ووجه الحيوان مثلا ، حتى لو لم نستطع اختزال الفرق بينهما بما يمكننا من وضع صيغة محددة. 

الواقع أن الجوهر العميق لتفكير ايزايا برلين ، هو اصراره على أهمية الإنسانية وتميز الإنسان. وهو ينظر إلى هذه المسألة كحقيقة أخلاقية ، لاحاجة لاختزالها إلى ماهية ثابتة ، كي تحظى بقوة وصفية ومعيارية. أنها – بصورة من الصور – قيمة موضوعية وليست مجرد اعتبار شخصي ، قابل لأن يتفاوت بين شخص وآخر.

تثير هذه النقطة التباسا محوره رأي ايزايا برلين في القيم لجهة كونها موضوعية objective  أو شخصية subjective. قول برلين أن القيم صنيعة الإنسان ، قد يشير إلى أنه يعتبرها شخصية.  لكنه – في مواضع أخرى – اكد أن يقف في الجانب الآخر تماما ، فهو يعتبر القيم موضوعية. بل أنه ذهب ابعد من ذلك فأسمى موقفه “التعددية الموضوعية”[52]. لكن مع ذلك فثمة شيء من الالتباس. ليس من الواضح تماما ماذا يعني بهذا ، وكيف يتصل هذا الاعتقاد برؤيته القائلة بأن القيم صنيعة البشر.

ثمة روايتان على الأقل يمكن القول أنهما تشرحان رؤية ايزايا برلين لموضوعية القيم: الرواية الأولى أن صفة الموضوعية ناتجة من كون هذه القيم حقائق حول من يحملها ، أي أنها ليست مجرد فكرة مجردة وانطباعية ، بل جزء من حياته. الحرية على سبيل المثال قيمة ’موضوعية‘ لانني اقدرها تقديرا عاليا ، وسوف اشعر بالبؤس والاحباط أن لم يبق عندي حتى نسبة بسيطة منها.

الرواية الثانية فحواها أن الاعتقاد في قيم بعينها – الحرية على سبيل المثال – أو الكفاح من اجلها ، ناتج عن وقائع موضوعية متصلة بطبيعة الإنسان ، تجعل هذه القيمة موضوعية ، لان حقائق معينة حول طبيعة الإنسان تجعلها جيدة ومرغوبة للإنسان. هذه الاراء ليست متعارضة مع بعضها البعض ، لكنها متمايزة ، وتقدم الاخيرة ارضية اكثر صلابة للمبدأ الذي تبناه برلين عن الحد الادنى للكونية الأخلاقية.

أخيرا فإن ايزايا برلين اصر على أن كل قيمة لديها قدرة الزام للبشر ، هذه القدرة مستمدة من ذاتها وبشروطها الخاصة أيضًا ، بغض النظر عن الالزامات والشروط الخاصة باي قيمة أو غاية أخرى. كما أن الزاميتها في وقت معين غير مقيدة بشروطها ذاتها في الاوقات الأخرى.

هذه الرؤية تمثل واحدة من اركان مبدأ التعددية الذي جادل دونه ايزايا برلين.

1.4 “التعددية القيمية” وفقا لـ ايزايا برلين

في التمهيد لعرض رؤيته الخاصة عن مبدأ تعددية القيم ، قدم ايزايا برلين شرحا وافيا عن المفهوم المضاد ، الذي يشير إليه أحيانا باسم “الاحادية monism” ويسميه في احيان أخرى “المغالطة الايونية  the Ionian fallacy”  أو “المثال الافلاطوني the Platonic Ideal”. ويتلخص شرح برلين للاحادية في العناصر الثلاثة التالية:[53

  1. كل سؤال حقيقي (صحيح) يجب أن يكون له جواب حقيقي ، واحد فقط. كل الاجوبة الأخرى تعتبر خاطئة.
  2. لا بد أن الجواب الصحيح (الوحيد) متوفر في مكان ما. وهو قابل للكشف ، حتى لو لم يكن معروفا في الوقت الحاضر. وبناء عليه فلا بد أن يكون ثمة طريق يعتمد عليه لاكتشاف هذا الجواب.
  3. حين نعثر على الاجوبة الصحيحة ، فسوف نجدها متوافقة مع بعضها ، على نحو يؤلف كلا واحدا. لأن الحقيقة لا يمكن أن تتعارض مع حقيقة أخرى. (هذه مبنية على فرضية فحواها أن الكون كل واحد ، مؤلف من عناصر متناغمة ومنسجمة فيما بينها).

نعرف أن ايزايا برلين رفض الفرضيات الثلاث وانكر صحتها. وفي اطار رؤيته للتعددية الأخلاقية ، دفع بهذا الموقف الرافض خطوة إلى الامام ، مشددا على انكار صحة الفرضية الثالثة بشكل أخص. أن القيم الاصلية عديدة ، وقد يتعارض بعضها مع البعض الآخر ، بل غالبا ما يحصل هذا التعارض. هذا لا يعني أن احداهما باطلة أو اننا لم نفهمها ، كما أنه ليس من البديهي القول بالترتيب ، أي تقدم احدى القيم على الأخرى في الأهمية أو المكانة. 

من الممكن أن نرى تعارضا بين الحرية والمساواة ، أو بين الحرية والنظام العام ، وقد نراه بين الرحمة والعدالة ، بين الحب والانصاف أو عدم الانحياز ، المعرفة والسعادة ، العفوية والروحانية الحرة مع المسؤولية والاعتمادية ، وقد يتعارض الالتزام الاجتماعي والأخلاقي مع الكفاح النزيه من اجل الحقيقة أو الجمال (حتى هاتين القيمتين ، قد تكونان متعارضتين أيضًا ، خلافا لمقولة جون كيتس الشهيرة[54]).

تعارض القيم عنصر عميق في الحياة البشرية ، يستحيل استئصاله. فكرة التحقق الكامل لمعنى الإنسانية (من خلال توحد القيم) مجرد وهم. أن العالم الذي تزول فيه كافة التعارضات ، ليس العالم الذي نعرفه ولا العالم الذي نفهمه[55].

ذهب ايزايا برلين خطوة ابعد ، حين قرر أن الامر لا يتوقف عند كون القيم قابلة للتعارض الواحدة مع الأخرى ، فهي أيضًا متفردة ، أي لا تقبل المقارنة / المقايسة incommensurable. وقد ثار جدل واسع حول المعنى المحتمل لهذا الرأي ، وما اذا كان مفهوم التفرد الذي يتبناه برلين ، صحيحا ومحكما ، ام هو مجرد تساهل في الوصف. والذي يظهر من حديث برلين في هذا الصدد ، هو  أنه لا يوجد معيار واحد قابل للتطبيق بنفس المستوى ، على أي قيمتين ، بحيث يخبرنا بدقة عن وزن هذه قياسا إلى تلك ، مثلما تخبرنا العملة النقدية مثلا عن سعر كل من السلعتين ، فنقيس هذه إلى تلك أو نقارن هذه بتلك ونعرف موضع كل منهما نسبة إلى الأخرى.

انطلاقا من انكار وجود “عملة مشتركة” للمقارنة ، أو مبدأ معياري حاكم (نظير مبدأ المنفعة الناتجة عن كل طرف) فإن هذه الرؤية ، أي التفرد و عدم القابلية للمقارنة والقياس ، تستدعي أيضًا القول بانه لا يوجد منهج عام أو طريقة معيارية ، للتوصل إلى حلول للتعارضات المحتملة بين القيم.  ليس لدينا – على سبيل المثال – قاعدة مرجعية تساعدنا في وضع مراتب للقيم ،  أو تخبرنا عن القيمة التي لها في كل الاوقات اولوية على الأخرى المتعارضة معها.

أقام ايزايا برلين موقفه هذا على أرضية تجريبية: نحن نقوم بهذه التجربة كل يوم من ايام حياتنا العادية ، حيث نسعى لغايات تتساوى من حيث الأهمية ، ودعاوى تتساوى في كونها مطلقة. ونعلم أن الحصول على بعضها سيكون قطعا على حساب الآخر ، فنضطر دائما للاختيار ، أي التضحية بواحد كي نحصل على الثاني[56]. لكن على رغم المضمون التجريبي للتحليل ، فإن برلين لم ينظر إلى الاختيار بين القيم باعتباره عملية تجريب أو ممارسة مؤقتة ، بل نظر إلى المسألة ككل ، وقرر أنها انعكاس لحقائق منطقية وضرورية في الحياة الأخلاقية للناس ، وما تنطوي عليه من قيم.

ان فكرة الكل الكامل أو الحل النهائي ، غير موجودة في الحياة الواقعية ، بل هي هدف مستحيل التحقق على المستوى العملي ، بل لا نبالغ لو قلنا أنها فكرة غير متماسكة من الناحية المفهومية. اذا اردنا تفادي التعارضات بين القيم أو العبور منها بشكل نهائي ، يلزمنا أن نفكر في التحول الذي ربما يصل إلى مستوى التخلي التام عن تلك القيم ذاتها.

تبنى ايزايا برلين مبدأ التعددية  مشروطا ومعدلا بمعتقدات والتزامات أخرى. احدى هذه المعتقدات هي الليبرالية ، والثانية هي الإنسانوية ، أي الرؤية القائلة بأن بني آدم يتمتعون بالمرتبة الأولى من حيث الأهمية ، بين كل الاشياء الأخرى في العالم ، وان تجنب ايقاع الاذى ببني الإنسان ، هو الأولوية الأخلاقية الكبرى.

انطلاقا من هذه العقيدة ، قرر ايزايا برلين أنه متى ما وجدنا انفسنا امام مجموعة قيم متعارضة  ، وكان علينا أن نختار ، فإن “الواجب العمومي الأول هو تفادي المعاناة القصوى extremes of suffering” [57]. ويصر برلين على أن التعارضات الأخلاقية، ينبغي تفاديها، فإن لم يمكن تفادي الصدام ، وجب ايجاد تعادل بين الدعاوى والمطالب ، ومحاولة المساومة والتسوية بين الطرفين. يجب أن يكون الهدف هو المحافظة على توازن مرن ، يساعد قدر الامكان على تفادي الانزلاق إلى حالات احباط أو خيارات يائسة.

** هل يمكن للفلسفة أن تخبرنا كيف نقوم بهذه المهمة؟.

** لا. لكن لعلها تساعدنا على كشف الطريق. فهي تسلط الضوء على مشكلة التعارض الأخلاقي ، وكل ما يترتب عليه من انعكاسات وآثار. كما أنها تساعدنا على كشف واجتثاث الحلول الزائفة ، التي قد لا تكون ظاهرة للعيان. ماهو مهم في التعامل مع القيم المتعارضة ، هو الاستيعاب السليم لمنطق الامور ومتطلبات الظرف. الذين يتخذون القرار يتعاملون مع تعقيدات ، هي امتداد لتعقيد الكائن الإنساني وحاجاته وانطباعاته وتوقعاته. لكن في نهاية المطاف ، يتوجب عليهم أن يقرروا. وإذا فعلوا ، فهم سيضحون من دون شك ببعض القيم لصالح قيم أخرى.

يكشف شرح ايزايا برلين لمبدأ التعددية عن نقاط قوة ، تتمثل خصوصا في تشديده على الاختيار العقلاني والأخلاقي بين القيم المتعارضة. بيان ذلك: أن الناس لا يجدون – في معظم الأحيان – جوابا واحدا صحيحا ، لكل مسألة تواجههم. وقد استعمل برلين هذه الحجة في مجادلته لاثبات الأهمية الكبرى للحرية ، أو – لنقل على وجه التحديد – مجادلته ضد الدعوى القائلة بامكانية تقييد الحرية ، لصالح فرض الحلول الصحيحة بالقوة. أن المجادلة المفصلة التي قدمها برلين دفاعا عن التعددية والاختيار وقابلية الإنسان ، جعلت فكرة الاختيار علامة بارزة في فكره.

ان أردنا الذهاب مع التعددية ، فانها – بطبعها – تنطوي على جدالات داخلية وتعارضات. ويتشكل قوامها من عملية اختيار متواصلة ، بين القيم والدوافع المتعارضة. ليس فقط اختيار الفرد للقيم المتعلقة بحياته ، بل ربما بدرجة اكثر تأثيرا ، الاختيار بين سبل العيش التي يتأثر بنتائجها عدد كبير من الناس. في تقريره لهذا الجانب لا يغفل ايزايا برلين عن حقيقة أن لدى الأفراد سمات متجذرة ، تشكل ما يمكن وصفه بطبيعة الفرد أو شخصيته المتفردة ، التي لا يمكن طمسها أو تبديلها بالكامل. من هنا فقد الح على أن من حق هؤلاء الأفراد ، أن يتخذوا القرار الذي يجسد خياراتهم ويؤثر على حياتهم ، الخيار الذي يحدد كيف سيكونون وماذا سيفعلون. هذا يوضح أن عملية الاختيار تنطوي على جانبين ، فهي – من جهة – تعبير عن شخصية فردية ، وهي – من جهة ثانية – جزء من عملية توليف وتكوين لتلك الشخصية ، ولهذا نستطيع القول أن الاختيار الحر ليس مجرد حاجة ، بل هو ضرورة للذات الإنسانية.

2.4 التعددية القيمية قبل ايزايا برلين

نعلم أن مبدأ التعددية كان معروفا في الفلسفة منذ زمن قديم. لكنه لم يكن محكما ومنضبطا ، فكان ينصرف إلى اكثر من مفهوم. ومع هيمنة المثال الافلاطوني الذي ذكرناه آنفا ، فإن المبدأ نادرا ما فسر في معنى تعددية القيم ، أي المفهوم الذي جادل دونه ايزايا برلين. (لتفاصيل مقارنة بين ما طرحه برلين وما طرحه مفكرون آخرون ، راجع صفحة Pluralism على مكتبة برلين الافتراضية[58](.

أراد برلين تقديم نسب تاريخي للمفهوم الذي يتبناه ، فذكر نيقولا مكيافيلي[59]  كأول متمرد على الأحادية ، كما ذكر جامباتيستا فيكو ويوهان هيردر[60]. لكنه يقر بأن مكيافيلي لم يتبن – واقعا – مبدأ التعددية ، بل كان ثنويا dualist. كما عارض بعص الباحثين اشارة برلين إلى فيكو وهيردر ، على خلفية أن الرجلين اعلنا اعتقادهما في وحدانية غيبية أو روحانية عليا ، هي مرجع التنوع.

عدا عن الذين ذكرهم ايزايا برلين ، أشار باحثون إلى فلاسفة آخرين اعتبروهم من رواد التعددية ، لعل ابرزهم ارسطو. كما أن جيمس ف. ستيفن (1873) طور رؤية عن مبدأ التعددية تشبه إلى حد كبير الرؤية التي قدمها برلين[61] ، مع أنه وضعها في إطار النقد الذي وجهه المحافظون إلى ليبرالية ستيورات ميل.

اضافة إلى هؤلاء ، قدم الفيلسوف الألماني فيلهلم ديلتاي (1911-1833)  رؤية قريبة جدا لمبدأ التعددية. أما مواطنه عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر (1864-1920) فقد عرض تصويرا دراماتيكيا وشديد الاقناع للتعارض المأساوي بين قيم ، معتقدات ، وانماط معيشة ، لا يمكن المقارنة فيما بينها[62].

طرحت فكرة “التعددية الأخلاقية” ، بهذا الاسم خصوصا ، في امريكا ، كاستيحاء من الرؤية التعددية للكون ، التي اقترحها المفكر الامريكي ويليام جيمس ، إضافة إلى اشاراته المتكررة ، في مناسبات عدة لفكرة تعدد القيم[63].  في وقت لاحق ، اشاد كل من جون ديوي ، عالم النفس الامريكي (1859-1952)[64] وهاستينغز راشدال ، اللاهوتي البريطاني[65] ، بفكرة التعددية. لكن يبدو أن المرة الأولى التي ظهرت فيها فكرة التعدية تحت هذا الاسم نفسه ، وفي اطار نظرية أخلاقية محددة ، وبلغة قريبة جدا من لغة ايزايا برلين ، كانت في مقالتين نشرتا في 1920 و 1921 بقلم سترلينع لامبرخت [66]، وهو فيلسوف طبيعي ومتخصص في أعمال توماس هوبز وجون لوك. وفي وقت لاحق ، ظهر شيء مشابه على يد ألبرت. ب . بورقان (1931).

ان التشابه الصارخ بين ايزايا برلين ولامبرخت في الأفكار ، وحتى اللغة وطريقة التعبير ، تجعل من العسير القول أن برلين لم يطلع على أعمال لامبرخت ولم يتاثر بها. مع هذا فاننا لا نملك أي دليل مستقل ، على أن برلين قد اطلع على أعمال لامبرخت أو عرفها. ومما يعزز رأينا ، أن برلين كان قد اعتاد على نسبة أفكاره إلى الاخرين اكثر من نسبة ارائهم لنفسه ، الامر الذي يجعل من الصعب علينا تخيل أن يتبنى فكرة لامبرخت ، دون أن يشير إليه مجرد اشارة في أي مكان.

يذكر أيضًا أن بعض معاصري ايزايا برلين قد تبنوا الفكرة ، مع تعديلات قليلة أو كثيرة. من بين هؤلاء مثلا ريموند ارون ، ستيوارت هامبشير ، رينولد نيبوهر ، ومايكل اوكيشوت (رغم أن الاخير ينسب التعارض بين القيم إلى مقاربة انعكاسية خاطئة للقضايا الأخلاقية. ويقترح أن بالامكان معالجة هذا الخطأ ، بالاعتماد على نهج أخلاقي اعتيادي أقل التفاتا للذات[67].

3.4 ظهور تعددية القيم في أعمال ايزايا برلين

فكرة التعددية القيمية لم تظهر فجأة في أعمال ازايا برلين أو فكره. في 1930 وكان يومها طالبا في جامعة أكسفورد ، نشر برلين مقالا ينسج على منوال أرسطو ، ويؤكد الحاجة للتعددية المعرفية والمنهجية[68]. ركز هذا المقال على النقد الثقافي والأدب وليس الفلسفة ، وجادل ضد الاعتماد على منهج وحيد أو نظرية منفردة ، أو البحث فيهما انطلاقا من فرضية أن أيا منهما هو المفتاح الوحيد لفهم كافة التجارب.

في ذلك المقال ، كما في كل كتاباته اللاحقة ، أصر ايزايا برلين على أن تعدد المعايير والقيم ومناهج البحث ، قد يكون أكثر ملاءمة للنشاطات المختلفة ، وحقول المعرفة وأنماط الحياة المتنوعة.

يكشف هذا النقاش عن بذور اهتمامه لاحقا بالمقارنة والتمييز بين العلوم والإنسانيات ، ونقده المتكرر للمناهج التفسيرية الأحادية البعد ، فضلا عن قناعته بتعددية القيم من حيث المبدأ. لكن هذه العناصر كانت – في ذلك الوقت – مجرد اطلالات ، وكانت لاتزال بحاجة إلى تنظير واستدلال ، فضلا عن مطالعة تطبيقاتها الممكنة. 

والذي يظهر أن اطلاع ايزايا برلين على كتابات الكاهن والفيلسوف الفرنسي نيكولاس ماليبرانش (1638-1715) قد عزز قناعاته الأولية ، كما اثار فضوله بدرجة كبيرة ، سيما رأيه القائل بعدم التوافق بين قيمة البساطة وقيمة الخير ، خلافا لاعتقاد واسع النطاق بين الفلاسفة ورجال الدين في زمنه. ومن هنا فقد كانت هذه الرؤية صادمة له في ذلك الوقت ، وعبر عن شعوره هذا بالقول أنها “رؤية غريبة وملفتة”. ويبدو أنها قد تحولت لاحقا إلى محور لتفكيره[69].

طور ايزايا برلين مفهومه الخاص للتعددية بالتدريج. في كتابه عن سيرة كارل ماركس (1939) وضع رؤيته لما اصبح يطلق عليه لاحقا “الأحادية” أي نقيض التعددية. لكنه تجنب توجيه نقد مباشر له ، كما تجنب وضع بديل تعددي ، لما اعتبره ايديولوجيا أحادية تبناها كارل ماركس. لكن محاضرته حول “النفعية  Utilitarianism”[70] تضمنت مجادلة تمهد للرؤية التي شرحها لاحقا حول تفرد القيم ، أي كونها غير قابلة للمقارنة رجوعا إلى معيار واحد incommensurable.

قدم برلين ما يمكن اعتباره جوهر مفهومه للتعددية ، وكيفية اتصاله بالليبرالية ، ضمن محاضرة ألقاها في 1949 وعنوانها “الديمقراطية والشيوعية والفرد Democracy, Communism and the Individual’ “. وقد كتب برلين تلك الأفكار بصورة موجزة جدا ، في الملاحظات الاعدادية للمحاضرة. وفي السنوات التالية امست الفكرة محورا هاما في العديد من كتابات برلين ومحاضراته. وجدنا ذلك مثلا في مقالته عن “الحتمية التاريخية”[71]. وفي 1955 تحدث عن التعددية والاحادية كمسلكين متعارضين في الحياة[72] . لكن المناسبة الأولى التي شهدت ظهور مفهوم تعددية القيم ، على النحو الذي تبناه برلين وكرسه كمبدأ أساسي يدعو إليه ، هي محاضرته الشهيرة “مفهومان للحرية Two Concepts of Liberty” في العام 1958. مع أن الانصاف يقتضي القول أن مفهوم برلين الخاص للتعددية ، استمر في التطور بعد ذلك ، بحيث يصعب القول أن الفكرة التي عرضها في تلك المحاضرة ، هي تلك التي واصل الحديث عنها في السنوات الاربعين التالية.

في كتابات ايزايا برلين التالية حول الرومانتيكية ، ظهرت تصورات وتعبيرات متعددة عن التعددية. وفي آواخر عمره ، أخذ في تقييم أعماله السابقة ، وتحديد ما يعتبره أبرز القضايا التي بحث فيها ، تمهيدا للتعريف بما يمكن اعتباره زبدة ابتكاراته الفكرية. في هذه المرحلة ، كرس برلين وقته واهتمامه لتصفية مفهومه الخاص للتعددية ، وايضاح مقدماتها وجوانبها وأشكالاتها ، وصولا إلى طرحها كنظرية أخلاقية مستقلة. في هذا السياق ، نشير إلى رسالة كتبها في 1968 تحدث فيها عن “التعارض الذي لا يمكن تلافيه بين الغايات والمقاصد” واشار إليها باعتبارها أبرز كشوفاته الفكرية[73].  وفي هذا السياق قدم واحدة من أبلغ محاضراته ، وهي المحاضرة المعنونة “السعي وراء المثال The Pursuit of the Ideal”[74] لمناسبة تكريمه بجائزة انجيلي Agnelli Prize في 1988. في هذه المحاضرة شرح برلين ما يعنيه بالتعددية ، وقد وصفت بانها التلخيص الأكثر تركيزا وبلاغة لهذا المفهوم.

 إضافة إلى هذا ، ناقش ايزيا برلين مفهوم التعددية في حوارات ومناقشات مطبوعة مع علماء آخرين ، خلال العقد السابع من القرن العشرين وما تلاه. وكان برلين يريد ايضاح المفهوم الذي يقترحه وحل الأشكالات التي أثارها ، لكن يبدو أن محاولاته لم تنجح في إرضاء غالبية الناقدين.

4.4 تعددية القيم بعد ايزايا برلين: بعض الجدالات

منذ التسعينات ، اصبح مفهوم ايزيا برلين للتعددية موضوعا لنقاش واسع وساخن ، بل استأثر بمعظم النقاشات المتعلقة بأفكاره. هذا يرجع جزئيا إلى اعادة نشر أعماله ، أو إلى أعمال فلاسفة تبنوا أفكاره ودافعوا عنها ، إضافة إلى هؤلاء الذين اكتشفوا برلين وقاموا بابحاث في أعماله ، من دون التزام كامل بالاراء التي دعا إليها. لكن – وكما اسلفنا القول – فبالقدر الذي استقطبه مفهوم برلين التعددية من اهتمام ، فانه اثار أيضًا الكثير من النقد. بل يمكن القول أن معظم النقد الذي تناول أعمال ايزايا برلين ، اتجه إلى هذا المفهوم ، وبصورة خاصة إلى ما اعتبره بعض الناقدين خلطا بين مفهومي التعددية والنسبية.[75]

مما يقال أيضًا أن اخفاق ايزيا برلين في وضع صيغة قطعية للمصطلحات محل النقاش ، قد ادى إلى افساد النقاش حول أفكاره. لقد شرح برلين مصطلح التعددية وتعددية القيم بصورة مكررة. لكن ينبغي القول أن التكرار ليس وسيلة مؤكدة للتوضيح ، بل لعل كثرة الكلام في فكرة واحدة تزيدها غموضا. أما  مفهوم النسبية فلم يحظ بتوضيح كاف. ولعل السبب في هذا التقصير هو أن أنه لم يكن موضوعا لعمل برلين. ولذا فلا لوم لو أشرنا إلى أنه ربما كان من الافضل أن يبذل برلين جهدا في توضيح مفهومه للنسبية ، والخط الفاصل بينها وبين التعددية. ذلك أن التمييز بين المفهومين يعتمد إلى حد كبير على كيفية تعريف النسبية ، وكذلك على كيفية التعامل مع بعض المكونات الغامضة أو المثيرة للجدل في مفهوم التعددية.

تعريف النسبية

ثمة طرق عديدة لتعريف النسبية. أولها  التعريف الذي اختاره ايزيا برلين ، وفحواه أنها شكل من أشكال الاعتبار الشخصي subjectivism  أو اللاعقلانية الأخلاقية moral irrationalism  (بمعنى الاعتبار الأخلاقي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار المضمون المادي للربح والخسارة). قدم برلين هذا التعريف كرد على النقد الموجه لمفهوم التعددية ، وللتأكيد على اختلاف الاطار الموضوعي لهذا المفهوم عن ذاك. وفقا لبرلين فإن التعبير النسبي النموذجي سيتخذ الشكل التالي: انا احب أن تكون قهوتي بيضاء ، وانت تفضل القهوة السوداء. هذا هو ببساطة واقع الحال ، وليس ثمة طريقة كي نحدد الافضل بين هذا وذاك. اضف إلى ذلك انك لا تستطيع أن تفهم لماذا اخترت قهوتي بيضاء ، كما انني لا افهم لماذا اخترت قهوتك سوداء. نحن ببساطة لا نستطيع الاتفاق على معيار واحد للمفاضلة بين خياري وخيارك.

لو اردنا تطبيق نفس المسلك النسبي الذي يوضحه المثال السابق ، على مجال الأخلاق ، فسوف يكون معبرا عنه على النحو التالي (على سبيل المثال): انا احب التضحية بالبشر ، وانت لا تحبها ، لأن أذواقنا وتقاليدنا مختلفة. هذا ما سيحصل لو طبقنا الرؤية النسبية. أما لو اخذنا بمبدأ التعددية  – وفق تعريف  ايزيا برلين – فانه يقول بأن فهم وتفهم الرؤى الأخلاقية ممكن لجميع الناس (يستثنى من هذا بطبيعة الحال الافراد الذين لا يحملون أي شعور أو اعتقاد إنساني طبيعي ، بحيث يصدق على احدهم الوصف بانه غريب أو حتى مجنون). بعبارة أخرى فإن الموقف تجاه مسألة مثل التضحية بالبشر ، لن يكون موضوع ذوق أو تقليد ، فاي شخص عاقل أو طبيعي سيؤسس موقفا بهذه الأهمية ، على نفس العوامل والمبررات المشتركة بين جميع البشر ، ومن بينها خصوصا الإيمان بالقيمة الرفيعة لحياة الإنسان ، وكونها فوق الاختلافات الثقافية أو الشخصية.

النسبية – وفقا لتعريف ايزيا برلين – سوف تجعل هذا التفهم والتفاهم العام مستحيلا. بعكس التعددية التي تفسر امكانية التواصل الأخلاقي بين البشر. الامر الذي يسمح لنا بالقول بأن قبول التعددية ، سوف يوفر التمهيد اللازم لاقامة هذا التواصل.

ثمة طريقة ثانية للتمييز بين النسبية والتعددية ، استعملها ايزايا برلين وآخرون ، فحواها أن التعددية تعتمد ما يمكن وصفه ب “نواة اساسية” للقيم الإنسانية الرئيسية التي يشترك فيها جميع البشر. مجموعة القيم الرئيسية هذه إضافة إلى القيم الأخرى التي يتبناها الناس في ظروف بعينها ، تقع جميعا ضمن “افق إنساني مشترك” يضع حدودا لما هو مرغوب وما هو مسموح به أخلاقيا. وهي التي تمكنهم من التواصل والاتفاق على مسلك مشترك ، أو – على أقل التقادير – بعض القضايا أو المعايير الأخلاقية المشتركة. 

تستند هذه الرؤية على اعتقاد بوجود طبع اساسي كوني ، هو الجذر المشترك لجميع انماط الحياة التي عرفها البشر ، على امتداد الازمان والاماكن. ربما نسميها الفطرة الإنسانية أو الطبيعة الإنسانية التي توجد في كافة الناس ، في جميع الاماكن والازمان. تلك الرؤية ربما تتضمن أيضًا اعتقادا بوجود “شعور أخلاقي” محدد ، متجذر في النفس البشرية.  يبدو أن ايزايا برلين قد آمن بهذه الملكة النفسية وربطها بالتقمص الوجداني. لكن هذا التفسير بقي وجهة نظر موجزة ، ولم يعمل على تطويرها كفكرة قائمة بذاتها. 

هنا طريقة ثالثة في شرح النسبية وبيان تمايزها عن التعددية. وخلاصتها أن النسبية تعني أن الاشياء ليس لها قيمة بذاتها وفي ذاتها. قيمة الاشياء مشروطة بموقعها في منظومة ما ، حالة أو رؤية معينة. أن مصدر القيمة يقع في خارج الشيء وليس في ذاته. وفقا لهذا المعنى فليس ثمة شيء هو خير بذاته ، وبغض النظر عن موقعه أو علاقته بأي شيء آخر. بعبارة أخرى ، وان كانت مختلفة قليلا ، فإن هذه الفكرة يمكن أن تنصرف إلى القول بأنه لا يوجد شيء اسمه “قيم عليا” أي قيم صالحة مطلقا وفي كل وقت. كل القيم – حسب هذه الرؤية – صالحة على درجات مختلفة ، تبعا لاختلاف الظروف. فقد تكون كذلك في هذا الظرف ، لكنها في ظرف ثان غير صالحة اصلا. وفي ظرف ثالث قد تكون صالحة كليا ، وهكذا. كمثال على هذا: الحرية تحظى بالأولوية القصوى في مكان وزمان بعينه. لكنها ليست كذلك في ظرف آخر ، حيث تبرز قيمة أخرى كأولوية (العدالة الاجتماعية أو النظام أو السلامة العامة أو المساواة مثلا). المهم – وفق لهذا التفسير للنسبية – أن القيم ليست وصفا مطلقا ولا هي قائمة بذاتها مستقلة عن العوامل الأخرى الخارجية. 

هنا أيضًا ، يبدو مفهوم ايزايا برلين للتعددية متعارضا مع مفهومه للنسبية. لأن التعددية تقول بأن بعض القيم على الأقل ،  خير مطلق وضرورة لبني آدم ، أنها قيم عالية في الجوهر ، وهي أقرب إلى الغايات (هي جوهر الخير)، وليست مجرد أدوات لفعل الخير. ثم أن بعض القيم على الأقل صحيحة وسارية المفعول على المستوى الكوني ، حتى لو لم يكن الجميع كذلك وحتى لو لم يتفق الجميع على كونيتها. ويقر برلين بأن الحرية على سبيل المثال ، لم تكن محل اتفاق جميع الناس. تكشف التجربة التاريخية أن أقلية من البشر قد تبنوها كقيمة عليا مستقلة ، لكنه – رغم هذا الاقرار – يصر على أن الحرية قيمة كونية مستقلة وهي قيمة اصيلة لكافة الناس في كل مكان.

في سياق مماثل يقترح ستيفن لوكس أن النسبية تسعى لتفادي أو الغاء التعارض الأخلاقي. فحوى رؤية لوكس أن اختلاف سريان القيم ، راجع إلى اختلاف الناس الذين يتبنونها ويتبعونها ، وحسب تعبيره فإن الليبرالية قيمة رفيعة بالنسبة لليبراليين ، كما أن أكل لحوم البشر قيمة صالحة عند أكلة لحوم البشر[76]. فحوى هذه الرؤية أن انكار هذه النسبة وما يتبعها من تقسيم ، يعنى أن القيم المتعارضة ، ربما تكون ملزمة ، بل هي حقا ملزمة لكافة الناس.

على الجانب الآخر فإن التعددية تتقبل حقيقة أن التعارض بين القيم ، يقع ضمن ثقافة واحدة أو بين قيم تنتمي لثقافة ونظائرها في الثقافات الأخرى. وفقا لهذه الرؤية أيضًا (على الأقل في الصيغة التي وضعها لوكس) فإن التقاليد أو منظومات العقائد أو انماط الحياة التي تتبناها مجتمعات بعينها ، لا تصلح كنقطة مرجعية نعود إليها حين نحتاج للتغلب على تعارضات القيم[77]. هذا ليس الموقف الذي تبناه برلين على نحو صريح ، لكن كتاباته اللاحقة تشير إلى نوع من الميل إليه.

يبدو أن موقف ايزايا برلين يقع في منتصف المسافة بين هذا التصور للنسبية وبين اقتراح لوكس. فهو يقر بأن الثقافات ليست متجانسة أو عقلانية بالمعنى الأخلاقي. أن تعارضات القيم مشكلة مزمنة في كل ثقافة. ومن هنا فهو – مثل لوكس – لا يرى فائدة من العودة للتقاليد أو الاعراف الخاصة بثقافة معينة ، كمرجع معياري للحكم في التعارض بين القيم ، على النحو الذي اقترحه مايكل اوكشوت ، حين اشار إلى ما اسماه “استلهام التقاليد/التراث السياسي=  intimation of a political tradition”  في ترجيح طريقة للفصل في التعارضات الظاهرة ، والتي تنتج عادة عن محاولة الالتزام بمقتضيات الفعل العقلاني[78].

كان ايزايا برلين مقتنعا بأن معظم الأفراد – وهذا أمر يجري تجريبه دائما في الحياة الواقعية – يعمدون إلى اتخاذ قرارات حول كيفية الموازنة أو الاختيار أو التوفيق بين القيم المتعارضة ، على ضوء الالتزامات الحياتية والاعراف العامة السائدة في مجتمعاتهم ، والتي تشكلت (في الغالب على الأقل أن لم يكن بشكل كامل) على ضوء الاطار المعرفي والتقاليد الثقافية الخاصة بهذه المجتمعات. الحرية كمثال قد تكون خيرا اصيلا وجوهريا ومهما للجنس البشري في العموم. هذا على المستوى النظري. أما على المستوى العملي فإن كيفية قيام البشر بتطبيقها وانجاز مقتضياتها ، ولا سيما الفصل بينها وبين شبكة كاملة من القيم  المجاورة ، وربما المزاحمة ، سوف تختلف بحسب اختلاف المجتمعات ، واختلاف تجاربها الثقافية والتاريخية.

على رغم هذه المحاولات الجادة لايضاح الفارق بين التعددية والنسبية ، لابد من القول أنه ليس من السهل دحض الاتهام القائل بانهما مترادفان ، سيما بالنظر إلى الضبابية التي تحيط بتحليل برلين ومناقشاته لبعض عناصر المسألة. ويتركز الجدل خصوصا على ثلاثة عناصر ، هي طبيعة القيم واصلها ، دور الاعراف والمعايير الثقافية المحلية ، ومعنى تفرد القيم أي عد م قابليتها للمقارنة والقياس incommensurability.

دعوى موضوعية القيم

اسلفنا القول أن ابزايا برلين اعتبر القيم منتجات بشرية ، لكنه في الوقت نفسه اعتبرها “موضوعية”. وليس واضحا الاساس الذي أقام عليه برلين دعوى موضوعية القيم. أما الدعوى نفسها فخلاصتها أن القيم مؤسسة على وقائع محددة في الطبيعة البشرية ، وهي محدودة بها أيضًا ، أو أنها تعبيرات عن تلك القيم. تخدم هذه الرؤية تأسيسا مسبقا فحواه أن للبشر طبيعة مشتركة ، تستدعي قيما مشتركة أيضًا ، أي كونية وليست نسبية ، وهذي من اهم نقاط الدفع ضد دعاوى النسبية.

رد النسبيين على الحجة السابقة: الحجة المذكورة اعلاه ، والتي فحواها أن القيم موضوعية لمجرد أنها متبناة من قبل بني آدم ، قد  تسمح بقدر أو بآخر بالنسبية أيضا. فاذا كانت موضوعية القيم رهنا بتبنيها من قبل البشر فحسب ، فانه يمكن للبشر أن يتبنوا أي قيمة ، حيث ستصبح – لهذا السبب – موضوعية ، (ويترتب عليه طبعا أن أي ممارسة يجري تبنيها كتمهيد أو وسيلة لتطبيق مقتضيات القيم ، يمكن أن توصف بانها موضوعية) [79]

لكن القبول بهذه الرؤية على اطلاقها مشكل جدا ، لانه يبتذل مفهوم الموضوعية على نحو يجعلها تافهة وعبثية. ولذا فقد يكون من الضروري إضافة اعتبارين آخرين لتلافي هذا المصير: الاعتبار الأول: مدى انتشار القيمة محل النقاش ، أي مقدار تبنيها بين البشر ، هل يشكلون نسبة معتبرة من المجموع ام لا. والاعتبار الثاني هو امكانية تبرير القيمة محل النقاش ، بكونها تحقق خيرا قطعيا لبني آدم ، والمقصود طبعا الخير الذي يتقبله العقلاء أو يمكن تبريره على ارضية عقلائية. 

دعوى تفرد القيم

قول ايزايا برلين بأن القيم متفردة ، بمعنى أنها غير قابلة للقياس والمقارنة incommensurable يعتبر واحدا من اعقد المشكلات في مفهوم التعددية الذي يدعو إليه. فقد قاد هذا المفهوم إلى تفسيرات متفاوتة. لتوضيح ابعاد المسألة ، يمكن لنا أن نعرض تمييزا ثلاثي الابعاد ، بين التفرد الضعيف والتفرد المعتدل والتفرد الشديد. أما الضعيف فيظهر في القول بأن القيم لا يمكن وضعها في ترتيب كمي (اعلى/ادنى) لكن يمكن أن توضع في ترتيب هرمي بناء على التفاضل النوعي/الكيفي ، وان هذا الترتيب قابل للتطبيق بصورة مضطردة في كل الحالات.

ذهب ايزايا برلين مسافة أبعد من هذه. لكن لم يتضح لنا ما الذي يتبناه على وجه التحديد ، بين نسخ التفرد المعتدل والمتشدد. النسخة المعتدلة على سبيل المثال ، فحواها أنه لا يوجد معيار مطلق وحيد ، يمكن اعتماده في المفاضلة بين القيم. ليس ثمة “مسطرة أخلاقية” ولا وحدة قياس أخرى ، متفق عليها بين العقلاء ، تعيننا على المقارنة بين هذه القيمة وتلك[80]. هذه الرؤية هي بالتأكيد الأكثر تعبيرا عما كتبه برلين منذ ثلاثينات القرن العشرين فصاعدا. أنها تقول ببساطة بعدم امكانية القياس المقارن على نحو مطلق ، لكنها – في الوقت نفسه – لا تنفي امكانية المفاضلة بين القيم ، والحكم بتقديم واحدة وتأخير غيرها بحسب الحالات والظروف ، وما تنطوي عليه من خصوصيات. بعبارة أخرى فاننا قد لا نتمكن من وضع مقياس عام ودائم ، يرتب القيم حسب افضليتها ، لكننا في الوقت نفسه نستطيع وضع اولويات بحسب الظرف والحاجة ، فنقدم قيمة ونؤخر الأخرى أو نتركها ، وهذا ما يفعله العقلاء دائما في حياتهم اليومية.

القراءة السابقة توحي إذن بأن ايزايا برلين يتبنى النسخة المعتدلة من فرادة القيم. لكن بعض كتاباته تقدم قراءة دراماتيكية للمفهوم ، على نحو يوحي بتبنيه النسخة المتشددة من التفرد. في هذه القراءة يظهر مفهوم التفرد مشابها ، بدرجة أو بأخرى ، لمفهوم عدم القابلية للمقارنة incomparability. حين نقول بأن لدينا شيئين لا يقبلان المقارنة ، فاننا نعني أنه لا توجد أي عناصر تماثل بينهما ، كما لا يمكن الحكم عليهما رجوعا إلى معيار واحد مشترك ، وان كلا من الشيئين ذو طبيعة أو وظيفة مختلفة تماما عن الآخر ، بحيث لا يوجد موضوع أو مبرر للمقارنة بينهما.  لهذا السبب فإن الاختيار بين القيمتين (او بين مجموع القيم) لن يأتي كنتيجة لمقارنات تعتمد التقييم الموضوعي ، بل ستكون مبنية فقط وفقط على ارضية التفضيلات الشخصية أو ربما الاختيار التعسفي البحت ، الذي اسماه برلين في بعض الاحيان plumping أو الذهاب مع الغريزة واتخاذ قرار غير مبني بالضرورة على معيار موضوعي أو تحقيق علمي.[81]  نعلم بطبيعة الحال أن قرارا كهذا ، وان وصفناه بالتعسفي ، لن يكون اعتباطيا أو جاهلا ، فهو قد يستمد من تجربة ثقافية أو اجتماعية عميقة ، أو من تفضيلات أخلاقية ذات طابع محلي.

5.4 كيف تختار بين القيم إذن؟

القول بتفرد القيم يثير سؤالا ضروريا ، حول دور العقل في النقاشات المتعلقة بالقيم والأخلاق:

**  اذا كانت القيم متفردة وغير قابلة للقياس والمقارنة ، فهل سيكون الاختيار بين القيم المتعارضة ، شخصيا أو لا عقلانيا؟.

** واذا كان الجواب نعم ، فما هو وجه الاختلاف بين التعددية وبين الذاتية subjectivism والنسبية المتطرفة radical relativism؟.

** واذا كان الجواب لا ، فكيف يجري التدليل الأخلاقي أو العقلنة في المجال القيمي؟ ، أي كيف يمكن لنا أن نتخذ خيارات عقلانية بين القيم ، بينما نفتقر إلى أي نظام أو وحدة قياس ، يمكن استعمالها في هذا النوع من المداولات والمقارنات؟.

احد الاجوبة الممكنة للسؤال الأخير هو الفكرة التي عرضناها آنفا ، وخلاصتها أن نستعمل نوعا من التدليل العملاني الظرفي ، الذي ليس كميا ولا هو قائم على قاعدة واحدة أو مسطرة متفق عليها ، بل هو متصل بالاحساس الأخلاقي والقيمي المتجذر في تجربة المجتمع الثقافية والتاريخية. هذا ما يقترحه ايزايا برلين . لكنه لم يقدم تفسيرا نظاميا يبرر – علميا – هذا التدليل غير النظامي[82].

التعددية والليبرالية

 حين نتحدث عن التعددية في مجال الفلسفة السياسية ، فسوف نرى أن اكثر ما يثير الخلاف  هو صلتها بالليبرالية. هذا الخلاف يتطابق مع نظيره الخاص بالمسافة بين التعددية والنسبية. مبعث ذلك الخلاف هو الاعتقاد بأن الليبرالية قائمة على منظومة محددة من القيم وحقوق الإنسان الاساسية ، التي تتسم جميعا بانها كونية. ونعلم أن النسبية لا تقر باعتقاد كهذا. لكن مع هذا ، ثمة من يسعى لعرض اطروحة معتدلة ، فيقول أن التعددية متمايزة عن النسبية ، بل ومفضلة عليها ، الا أنها – في الوقت نفسه – متطرفة جدا. ولهذا السبب ربما ، أمست التعددية موضع نزاع ، وهي غير مستقرة على النحو الذي يسمح بالاتكاء عليها في تبرير الليبرالية (او – ربما بالعكس – أن الليبرالية مفهوم كوني جدا بل مطلق إلى حد لا يسمح باعتبارها متصلة بالتعددية).

ان جون غراي هو الداعم الرئيس لهذه الرؤية ، وهو الوحيد بين سائر المفكرين ، الذي تحمل مسؤولية اطلاق هذا النقاش وتطويره. يؤكد غراي أن التعددية حقيقية ، وانها تقوض الليبرالية ، وانه – بناء على هذا – ينبغي التخلي عن الليبرالية ، على الأقل فيما يخص دورها التقليدي ، الذي تدعي الفلسفة السياسية أنه كوني.[83]  

أثارت مناقشات غراي رغبة واسعة في مراجعة العلاقة بين التعددية والليبرالية ، وصدر العديد من الابحاث حول المسألة في العموم ، وحول منظور برلين ومفهومه للمسألة. وقد اتفق بعض الباحثين مع رؤية غراي ، بينما حاول آخرون التدليل على امكانية التسوية بين الليبرالية والتعددية ، مع أنهم – في نهاية المطاف – اقروا بأن التسوية تتطلب تعديلات في كلا الجانبين ، التعددية والليبرالية ، تعديلات مبررة على أي حال ، بل لا نبالغ لو قلنا أنها مرغوبة. ولعل اوسع النقاشات التي نشرت حتى وقت كتابة هذه المقالة ، هي تلك التي أعدها جورج كراودر وويليام غلاستون.[84]

كرس ايزايا برلين نفسه لكل من التعددية والليبرالية. مع أنه لم ير استدلالا منطقيا يمكن أن يربط بينهما (الواقع أنه اقترب احيانا من افتراض امكانية هذا التدليل. انظر مثلا برلين: الحرية 285 ). لكنه مع ذلك يعتقد أن المبدأين متواصلان  ومتناغمان. كانت نسخة التعددية التي طورها برلين ، ليبرالية قطعا ، في فرضياتها واهدافها ومستخلصاتها ، تماما مثل نسخته من الليبرالية التي كانت تعددية قطعا. وكما لاحظ مايكل والزر فإن السمات البارزة في تعددية برلين هي “الانفتاح/التقبل والكرم والتشكك” التي أن لم نعتبرها قيما ليبرالية ، فهي اذن سمات للذهن تهيئه لتقبل القيم الليبرالية[85].

5. الفكر السياسي عند ايزايا برلين

1.5 مفهوم الحرية

مقالة ايزايا برلين في التمييز بين الحرية السلبية والايجابية ، هي اسهامه الاكثر شهرة في النظرية السياسية. وقد تم شرح هذا التمييز وتلخيص الادبيات الواسعة التي نشرت حوله ، في مكان آخر من الموسوعة الفلسفية[86]. ولذا سيقتصر عرضنا هنا على المحاججة الاصلية لبرلين ، والتي غالبا ما اسيء فهمها ، لأسباب من بينها غموض برلين نفسه. للتوضيح يجب التشديد ابتداء على أن اطروحة برلين التي نتحدث عنها تهتم أساسا بالحرية السياسية ، وليس بما أسماه في أواخر حياته “الحرية الاساسية” التي تعني “حرية الاختيار” أو الارادة الحرة ، التي من دونها سيكون أي نوع من الحرية مستحيلا. حقا الحرية التي “لا يمكن للإنسان أن يبقى إنسانا اذا فقدها”.

في هذه الرسالة “مفهومان للحرية Two Concepts of Liberty ” سعى برلين إلى إيضاح الخط المائز بين طريقتين للتفكير في الحرية السياسية ، قال أنهما منتشرتان في ارجاء الفكر الحديث ، وهما في قلب الصراعات الايديولوجية المعاصرة.  اطلق برلين على هذين المفهومين اسم الحرية السلبية والحرية الايجابية [87].

لم يعالج ايزايا برلين المفهومين على نحو متساو. لقد عرض الحرية السلبية بشكل واضح وبسيط إلى حد كبير. لكنه في المقابل اعطى تعريفين اساسيين للحرية الايجابية ، الامر الذي فتح الباب للمزيد من التفريع على كلا التعريفين. الحرية السلبية وفقا لتعريف برلين الأولي هي “تحرر من” أي غياب العوائق التي يفرضها الآخرون عليك. وعرف الحرية الايجابية بانها “الحرية في” أي الامكانية ، وليس فقط الفرصة ، امكانية أن تسعى وتحصل على الاهداف التي تريدها ، إضافة إلى الاستقلال الذاتي ، أي ما يقابل الاتكال على الغير.

ثمة تعقيدات اكثر في تحليل برلين لمفهومات الحرية ، سببها امتزاج التحليل المفهومي بالتاريخ ، فقد ربط بين الحرية السلبية وبين التراث الليبرالي ، كما ظهر وتطور في بريطانيا وفرنسا منذ القرن السابع عشر ، حتى أوائل القرن التاسع عشر. وقد اعرب لاحقا عن أسفه حين أغفل حقيقة أن مفهوم الحرية السلبية ، قد استعمل في العديد من الأمور الشريرة ، مثل استغلال البشر تحت مظلة الرأسمالية laissez-faire capitalism.

على أي حال فإن أطروحة ايزايا برلين تعرض الحرية السلبية في صورة جميلة ، لكنها مختصرة ، فقد انصب تركيزه على المفهوم الآخر أي الحرية الايجابية ، لانه وجد مفهومها ملتبسا – كما قال  – ولانها تعرضت خلال تاريخها للعديد من التحولات العميقة والانحرافات التي تستدعي التوضيح والتصحيح.

وفقا لـ ايزايا برلين فإن جذر المفهوم الايجابي للحرية ، منغرس في النظريات التي تركز على الاستقلال الذاتي للإنسان وقابليته لتقرير مصيره[88]. بين تلك النظريات ، وجد برلين أن نظرية روسو في الحرية تنطوي على خطورة. السبب في هذا – وفقا لبرلين – يعود إلى مساواة روسو بين الحرية مع حكم الذات/الاستقلال self-rule من جهة ، وبين حكم الذات مع طاعة ما اسماه بالارادة العامة general will‎ من جهة ثانية. يزعم برلين أن روسو اراد في الاساس المصلحة المشتركة أو العامة ، أي ما يعتبر الافضل لكافة المواطنين ، من حيث كونهم مواطنين. وفقا لرؤية روسو فإن الارادة العامة مستقلة تماما عن الارادة الشخصية للافراد ، التي تتسم بالأنانية ، بل ومخالفة لها ، ذلك أن الفرد غالبا ما يتعرض للخداع في تصور مصلحته الحقيقية. 

تتعارض رؤية روسو مع رؤية ايزايا برلين السياسية والأخلاقية في جهتين:

  • الأولى أنها تفترض وجود مصلحة عامة فريدة ‘حقيقية’ ، أي منظومة واحدة من الترتيبات التي تعتبر الافضل لكافة المواطنين ، ومن هنا فهي تتعارض مع الخط العام لمبدأ التعددية.
  • الثانية: أن رؤية روسو استندت إلى تحويل مخادع لمفهوم الذات. في نظريته حول الارادة العامة ، تحرك روسو ،  من الرؤية المتعارفة ، الصحيحة كما يؤكد برلين ، التي تتعامل مع الذات كفرد ، إلى رؤية تتعامل مع الذات كمواطن ، الذي يعني عند روسو: الفرد باعتباره عضوا في جماعة أكبر ، فرد هويته ومصلحه ورفاهيته مطابقة تماما لتلك الفائدة المقررة في الجماعة الاكبر. بعبارة أخرى فإن روسو حول مفهوم الارادة الخاصة بالذات ، من توليفتها الأولى الممثلة في ما يرغبه الفرد واقعيا وبحسب التجربة ، إلى مايجب أن يرغبه الفرد من موقعه كمواطن ، أي ما يعبر عن مصلحته الحقيقية المثلى ، سواء كان قادرا على تحديدها وانجازها ام لم يكن.

لاحظ ايزايا برلين أن هذا التحول ، اتخذ مسارا أكثر سوءا على يد تلاميد إيمانويل كانط في ألمانيا. أما إيمانويل كانط نفسه فكان قد ربط بين الحرية “الايجابية” وبين قابلية الشخصية العقلانية للاستقلال وتقرير المصير. ومقصوده بالشخصية العقلانية: الذات المتحررة من كل ما يجعلها مفككة ، غير متوازنة ، أو غير عاقلة. في وقت لاحق ذهب الفلاسفة الألمان المتأثرون بكانط ، خطوات ابعد في الربط بين الذات التي تتولد حريتها من قابليتها لتقرير مصيرها ، وبين حالات عارضة. فانصرف مفهوم الحرية إلى النجاح في تجاوز الذات الفقيرة ، المفككة والزائفة ، إلى نفس ارفع واغنى ، أي بلوغ حقيقة الإنسانية وما يريد الفرد أن يكون عليه ، ذاته الحقيقية ، الجوهرية. قد يمكن لهذه النفس أن تجد مكانها مع المصالح الحقيقية الامثل للفرد ، باعتباره فردا مستقلا أو باعتباره عضوا في جماعة أو منظومة اكبر.

وفي هذا السياق ، نلاحظ أن تلميذ كانط البارز يوهان فيخته ، أخذ المسألة إلى مدى أبعد حين ساوى بين الحرية وبين “حكم الذات الحقيقية” التي تفهم باعتبارها الامة أو الشعب. من المفيد الاشارة إلى أن فيخته كان في أول أمره ليبراليا فردانيا متطرفا ، ثم تحول إلى قومي شديد التعصب ، بل عرابا فكريا للفاشية وحتى النازية. فيما يخص رؤيته السابقة الذكر ، فإن الفرد لا ينجز حريته الا اذا تنكر لرغباته وميوله ، بل ومعتقداته الشخصية (المرتبطة به كفرد مستقل) وتخلى عنها كي يذوب تماما في الجماعة الكبرى.

ثمة تعريف آخر للذات “الحقيقية” يماهيها مع سبب ، أو فكرة ، أو املاءات العقلانية ، كما في تعريف هيجل للحرية ، الذي يساويها مع الاقرار بقوانين التاريخ التي يكشف عنها العقل ، ثم طاعتها. يعتقد برلين أن هذه القفزات التنظيرية ، قد مهدت الارض لهيمنة الايديولوجيات الشمولية ، ومن ثم الحركات السياسية التي حملتها خلال القرن العشرين ، كما في حال الحركة النازية ، الفاشية والشيوعية التي زعمت أنها تحرر الناس باخضاعهم – بل والتضحية بهم في غالب الاحيان – من أجل الجماعات الأكبر أو من أجل المباديء. 

هذا فعل يماثل أسوأ شرور السياسة. واذا فعلته أو دافعت عنه باسم الحرية ، المبدأ الذي خصه ايزايا برلين بحفاوة استثنائية ، فسوف يكون صدمة موجعة لبرلين الذي سيراه بمثابة “تراجع غريب” أو “انتحال بشع” يسيء إلى قيمة من أرفع القيم الإنسانية[89]. في مقابل ذلك التراجع والانتحال البشع ، تبنى برلين المفهوم السلبي للحرية ، إضافة إلى رؤية تجريبية للذات ، معتبرا اياها أجلى تعبير عن الحقيقة وأصدق تمثيل لجوهر الإنسان.

رؤية برلين هذه واجهت اعتراضات واسعة وعميقة ، على ارضية تاريخية ومفهومية. لكن وراء النقاش العريض حول سلامة تلك الرؤية من حيث المفهوم ، أو مصداقيتها رجوعا إلى التاريخ ، فانه من المهم الاشارة إلى وجود سوء فهم واسع النطاق ، يتناول تعامل برلين مع المفاهيم التي يناقشها ، والاغراض التي يرمي إليها في محاضراته. من أجلى مصاديق سوء الفهم على سبيل المثال ، أن اهتمامه الخاص بالحرية السلبية ، ونقده للقائلين بالمفهوم الايجابي ، قد جرى تفسيره كموقف مضاد للحرية الايجابية ، بل وصف برلين بأنه عدوها اللدود. هذا الوصف زائف بالتأكيد ، لأنه يخلط بين موقفين متناقضين: معارضة الآراء التي تشوه الحرية الايجابية ، ومعارضة الحرية الايجابية ذاتها.

بالنسبة لـ ايزايا برلين فإن كلا المفهومين (الحرية السلبية والحرية الايجابية) يرتكزان على دعوى صادقة ، بشأن ما هو حسن وما هو ضروري لبني آدم. إضافة إلى هذا فهو يرى أن كلا من المفهومين قيمة أصيلة وصحيحة ، مع أنهما قد يقعان في مواقف متعارضة أحيانا. لكنهما يجتمعان في حالات أخرى ، بل ربما يكونا متعاضدين متساندين. والحق أن ايضاحات برلين المبكرة لما يتبناه من قيم سياسية ، تضمنت عناصر من الحرية الايجابية في موازاة الحرية السلبية[90]. أما الشيء الذي كان موضوعا لانتقادات برلين ، فهو الكيفية التي جرى فيها أو بواسطتها استغلال المفهوم الايجابي للحرية ، من اجل تبرير الاستبداد ، وانكار أو خيانة أو التخلي عن الحرية في مفهومها السلبي ، فضلا عن استخدام مفهوم مشوه للحرية الايجابية في اغراض معاكسة لجوهر الحرية.

زبدة القول أن ايزايا برلين لم يكن بصدد انتقاد الحرية الايجابية بذاتها ، بل صب اهتمامه على الفرضيات الميتافيزيقية أو السيكولوجية ، التي تعاضدت مع المفهوم الايجابي للحرية ، فقادت إلى انحراف هذا المفهوم ، وتحوله إلى مبرر للأحادية والفهم الميتافيزيقي أو الجمعي للذات. من هنا ينبغي التأكيد على أن اطروحة برلين “مفهومان للحرية” ومذهبه الليبرالي في العموم ، لم يكونا قائمين على تبني مفهوم الحرية السلبي كمقابل لمفهومها الايجابي ، بل كان محور تلك الاطروحة هو الدفاع عن الفردانية ، التجريبية والتعددية ، في مقابل الجماعية ، الشمولية ، الاحادية ، والعقلانية الميتافيزيقية.

2.5 الحرية والتعددية

الرابط الرئيس بين الحرية والتعددية في تحليل ايزايا برلين ، هو المكانة المركزية للاختيار في كلا المبدأين. تتلخص حجة برلين في التالي: تحفل الحياة اليومية بأشكال عديدة من تعارضات القيم وانماط العيش. وهذه التعارضات تشكل الموضوع الذي تتجلى فيه قدرة البشر ، أو رغبتهم في انتخاب خيارات واتخاذ قرارات تحدد ما الذي سيفعلون.  هذه الخيارات في غاية الأهمية ، لانها تنطوي على السؤال الأساسي الاكثر أهمية في حياة الإنسان ، سؤال: أي شخص تريد أن تكون وماذا ستفعل. هؤلاء الذين يتوجب عليهم أن يتخذوا قرارا كهذا ، سوف يرون حاجة للاهتمام بتلك التعارضات وما يترتب على كل منها ، وسيهتمون خصوصا بأن يكونوا في موقع من يختار ويتخذ القرار الذي يؤثر على حياته. أضف على هذا ، حريتك في أن تختار من ستكون وكيف ، وقدرتك على الاختيار بين قيم متعارضة وانماط حياة متعددة ، هو جوهر هوية الإنسان بوصفه فاعلا أخلاقيا. (ينبغي الانتباه إلى أن هذه الدرجة من المحاججة ، لا ترتبط على نحو دقيق بالتعددية في مفهومها الأولي الخام ، لكنها فرضية مركزية في مفهوم برلين للفردانية الأخلاقية ، وهو مفهوم ادمجه برلين في رؤيته الخاصة حول تعددية القيم).

احد الأسئلة البديهية هنا: لماذا يريد احد الناس ، حرمان الآخر من فرصة الاختيار واتخاذ القرار المتعلق بطريقة عيشه؟.

هذا سؤال قد يبدو غريبا ، لكنه واقعي. الانظمة الشمولية تفرض قيما وانماط عيش محددة وتمنع غيرها. وهي بهذا تحرم الناس جميعا من حقهم في أن يختاروا لانفسهم. لو سألت اصحاب هذه الانظمة عن المبرر الذي يعتمدون عليه ، فسوف تسمع جوابا (من بين اجوبة أخرى محتملة) فحواه أن الافراد قد يختارون الخيار الخطأ. ولذا فمن الضروري أن تجبرهم أو تحدد خياراتهم ، كي لا يأخذوا غير الخيارات الصائبة. هذا مخالف لمبدأ التعددية بطبيعة الحال. هذا المبدأ يقول أنه حيثما  وجدنا تعارضا بين القيم الحقيقية ، فلن يكون ثمة خيار وحيد صائب. بل سيكون هناك اكثر من خيار ، ربما تكون متساوية من حيث قابليتها لتحقيق مصالح الإنسان وخدمة قيمه الحقيقية ، حتى لو كان الاخذ ببعض هذه القيم سوف يؤدي (وهذا ما يحدث عادة) إلى تهميش القيم أو المصالح الأخرى التي تشكل بدائل عن سابقاتها ، أو حتى التضحية بتلك  القيم والمصالح. لا بد من التنبيه هنا إلى أن اختيار مصالح أو قيم بعينها وترك الأخرى ، هو اختيار بين بدائل متساوية ، ولا يدل على أن ايا من هذه التي اختيرت أو التي تركت ، اكثر أهمية أو اعلى مرتبة من الأخرى أو العكس.

على نفس المنوال ، فليس ثمة حياة واحدة مثالية ، وليس ثمة نموذج وحيد للتفكير أو السلوك ، ينبغي للناس أن يسعوا للتعرف عليه أو الاقتداء به ، أو تكييف حياتهم بما يتوافق مع مقتضياته. الحقيقة أن هناك خيارات عديدة لحيوات متباينة ، بعضها يتجاوز حدود ما هو مألوف من وجهة نظر إنسانية اعتيادية ، ولذا فلن يلاموا لو تركوها. لكن على أي حال ينبغي تلافي الخلط بين ما نعتبره اطارا إنسانيا عاما ، وبين ماهو اطار لمنظور خاص ، يشكل احتمالا مقابلا لاحتمالات أخرى ، تقع جميعا ضمن ما نستطيع تصنيفه تحت عنوان “الافق الإنساني”.   

هذا يكشف إذن أن مبدأ التعددية التي يتبناه ايزايا برلين ، يقوض واحدا من أبرز المبررات المستعملة في  انتهاك حرية الاختيار. كما أنه – من ناحية  أخرى – يؤكد على الأهمية الكبرى والقيمة الرفيعة ، لقدرة الإنسان على انتخاب خياراته بحرية [91].

كان بعض الباحثين قد جادل بأن القيمة الرفيعة التي اضفاها ايزايا برلين على حرية الاختيار ، تستند – جزئيا – على مفهومه للتعددية. لكنها تتطلب أيضًا إضافة مباديء أخلاقية ومثل ideals ومسلمات خارجة عن التعددية ذاتها.  وبالنسبة لبعض هؤلاء فإن الحاجة المذكورة قد تعني أن تعددية برلين غير متوافقة مع الليبرالية ، بل تؤدي إلى تقويضها. آخرون مثل جورج كراودر ، جادلوا بأن مفهوم التعددية عند برلين يكفي بمفرده لانتاج الليبرالية. أن ليبرالية برلين مستمدة في الحقيقة من إيمانه بالتعددية[92]. لكن يبدو أن كراودر عدل عن رؤيته لاحقا ، فهو يقول الآن أنه يمكن للتعددية أن تبرر الليبرالية ، في ظل الشروط التاريخية للحداثة فحسب ، وليس بشكل مطلق.

بات واضحا أن التعددية مكون اساسي في احتجاجات ايزايا برلين ودفاعه عن الحرية. لكنها – من زاوية أخرى – أدت إلى تعديل وتخفيف ليبراليته ، وحمته من التأثر بتيار الليبرتاريين أو الليبرالية الكلاسيكية المطلقة ، الاقرب إلى الدوغمائية ، وهو التحول الذي انتهى إليه العديد من المدافعين عن المفهوم السلبي للحرية. إيمان برلين بتعددية القيم ، قاده إلى الاحتجاج دائما بأن الحرية السلبية مثل نظيرتها الايجابية ، قيمة اصيلة وحقيقية ، ينبغي أن تؤخذ على نحو متوازن ، وان الحرية السياسية ، ايا كان نوعها ، تفهم باعتبارها جزءا من نمط قيمي وحياتي ، يضم قيما أخرى بالضرورة ، وان هذه القيم قد تكون في صورتها الأولية متعارضة ، الامر الذي يستدعي وضع سلم اولويات أو تهميش بعضها لصالح أخرى ، وهو ترتيب تقتضيه ضرورات الحياة اليومية ، لكنه لا ينبغي أن يؤخذ كدليل على تفاضل عام بين تلك القيم.

لقد كان ايزيا برلين اكثر حساسية من كثير من الليبراليين الكلاسيكيين أو المفكرين الليبرتاريين ، ازاء حقيقة أن الحرية في جوهرها ، قد تتعارض مع المساواة الكاملة والجوهرية ، كما تتعارض مع العدالة التامة ، ومع النظام العام أو الامن أو الكفاءة أو السعادة ، في معانيها الكاملة والاصيلة. لكن الإنسان ليس مضطرا للاخذ باحداها دائما وترك الأخرى دائما. الواقعي والعقلاني هو ايجاد نوع من الموازنة بينها ، وربما التضحية ببعضها لصالح أخرى.

تنطوي ليبرالية ايزايا برلين إذن على توجهين: اهتمام شديد بالحفاظ على الموازنة بين القيم المختلفة ، وهو توجه ذو خلفية محافظة أو براغماتية ، يقابله توجه ذو خلفية ديمقراطية- اجتماعية يؤكد على الحاجة لتقييد الحرية في حالات خاصة لصالح اقرار العدالة والمساواة ، ومن اجل حماية الضعفاء كي لا يضحى بهم لصالح الاقوياء[93]. لكن في كل الاحوال يبقى برلين ليبراليا ، فهو يؤكد أنه رغم كل المزاحمات المحتملة من جانب قيم معارضة للحرية ، فانه يجب المحافظة على حد ادنى من الحريات الفردية ، لا يمكن النزول عنه ، وان هذا من الأولويات السياسية الثابتة.

ويبرر ايزايا برلين هذه الرؤية ، بالرجوع إلى نسخة واقعية/تجريبية من حجة “القانون الطبيعي”. كتب برلين في هذا الصدد عن وجود “حقوق طبيعية” متولدة عن الطريقة التي تشكل بها الوجود الإنساني ، في جانبه المادي والذهني ، وان أي محاولة لتبديل أو تحديد الحياة الإنسانية على نحو بعينه ، ستؤدي بالضرورة إلى حجب غرائز الإنسان وميوله واهدافه وطموحاته ، التي يشكل مجموعها جزء من جوهر الإنسانية التي نعرفها.

ان حرمان البشر من حقوق اساسية معينة ، يرقى في سوئه إلى حد تجريدهم من إنسانيتهم. أن الحرية ليست الخير الوحيد الذي يحتاجه المجتمع الإنساني ، وليس من الصائب هدر القيم الأخرى في سبيل اقرارها.  مع ذلك فإن التعددية الأخلاقية تضفي عليها أهمية عليا: يجب أن يكون الناس احرارا كي يتفهموا كافة القيم الاصيلة والحقيقية ، ويعترفوا بها ويسعوا من اجلها. أنها – بعبارة أخرى – تمهيد ضروري لبقية القيم. من هنا ينبغي على المجتمع أن يعطي الأولوية ، لتوفير الحرية الضرورية كي يمضي الناس في تجربة الحياة الجديدة المتنوعة – وفقا لتصوير جون ستيوارت ميل – ومن اجل صيانة هذا التنوع على المستوى الشخصي والاجتماعي[94].

3.5 القومية

في القسم السادس من رسالته “مفهومان للحرية” قدم ايزايا برلين مناقشة مرتبكة نوعا ما ، لمثال الحكم الذاتي الوطني و”التحرر الوطني”. وفقا لراي برلين فانه لا ينبغي – أن شئنا التدقيق – ربط هذين المثالين بمفهوم الحرية ، مع أنهما يعكسان حاجة متجذرة في نفس كل إنسان ، حاجة لأن يكون عضوا في جماعة معترف لها بالحق في ادارة أمورها بنفسها[95]. استعمل برلين لفظ “وطني/قومي” على نحو ملتبس نوعا ما ، في الاشارة إلى ظاهرتين متمايزتين ومختلفتين عن بعضهما من الناحية القيمية: الظاهرة الأولى هي ما اسماها برلين أيضًا “الوعي القومي” أي شعور الافراد بالانتماء لهوية مشتركة ، وهو ما كتب عنه هيردر. أما الظاهرة الثانية فهي الشكل الملتهب لهذا الشعور ، الذي يتغذى على الاحباط وسوء المعاملة والاذلال ،  فيتحول إلى شعور عنيف “مرضي”. وقد كان برلين متعاطفا مع الظاهرة الأولى ، ناقدا للثانية ، مع أنه اعترف بوجود صلة بين الظاهرتين ، وكان – تبعا لهذا – واعيا بالقوة والجاذبية التي ينطوي عليها الشعور القومي.

كان ايزيا برلين قد نسب إلى هيردر رؤيته القائلة بأن الانتماء إلى هوية جمعية مشتركة ، والشعور بالذات المتولد عن هذا الانتماء ، هي حاجات إنسانية أساسية ، الا أنه من المستبعد أن يكون قد تعلم هذا الدرس من هيردر. لعل الارجح أن  قناعته الخاصة بفكرة الانتماء وكونه حاجة إنسانية ، هي التي – في المقام الأول – جذبته إلى هيردر. لقد كان واعيا جدا بألم الاذلال والتبعية ، كان قوي الشعور بكراهية الحكم الابوي وما يسببه من ألم. فردانيته وتشديده على الحرية ، لم تكن فقط ثمرة لوعيه بكوننا كائنات اجتماعية ، تتحددهويتا – إلى حد بعيد – بنظرة الاخرين لنا وتعاملهم معنا[96] ، بل أيضًا بفهمه (اي برلين) للحاجة الإنسانية للشعور بالانتماء إلى جماعة ، وهو وعي شحذه – أن لم يكن قد ولده في الاساس – تجربته الخاص في المنفى ، فضلا عن تاثير انتماء والدته العاطفي إلى الحركة الصهيونية[97].

4.5 القيادة واتخاذ القرار

عدا عن كتاباته المشهورة في الحرية والتعددية ، تركز فكر ايزايا برلين السياسي حول موضوعين مترابطين: طبيعة القرار السياسي political judgement ، وأخلاقيات الفعل السياسي. درس برلين الموضوع الأول بشكل مباشر وغير مباشر من خلال كتاباته حول الشخصيات السياسية ، وعرض فيها امثلة نموذجية عن أحكام سياسية ناجحة. [98]

عارض ايزايا برلين الفكرة القائلة ، بأن القرار السياسي يشكل تجسيدا للمعرفة ، التي يمكن تكثيفها في قواعد وأحكام. فهو يعتقد أن الفعل السياسي يجب أن ينطلق من “الاحساس بالواقع” وان يقوم على التجربة ، فهم وتفهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم ، الحساسية تجاه البيئة الاجتماعية والسياسية ، والقدرة الشخصية على تمييز ما هو حقيقي وما هو زائف أو مخادع ، مهم أو تافه ، قابل للتبديل والتعويض ام لا ، مؤثر أو  غير ذي تأثير .. الخ. مثل هذه القابلية للحكم ، تنطوي بالضرورة على صفات غريزية وذكاء فطري ، يمكن صاحبه من اتخاذ القرار السليم حتى لو لم تتوفر مقدماته العلمية. ينبغي القول أنه حين نتحدث عن عالم الفعل السياسي ،  فإن المهارات الشخصية هي الميزة الاهم ، بل هي كل ما هو ضروري ، أما قواعد العمل والقوانين ، فليس لها سوى القليل من الأهمية[99].

صناعة القرار السياسي تشبه من بعض الوجوه دراسة التاريخ. صناعة القرار السياسي تنطوي على تحليل لمختلف العوامل ، التي تسهم في تشكيل شخصية فرد بعينه ، أو ظرف سياسي واجتماعي أو حدث[100]. هذا يتطلب قابلية لاستيعاب وادماج طائفة كبيرة من المعلومات المتعددة الالوان ، سريعة التغير ، التي تتداخل اجزاؤها على نحو يصعب فرزه. كما يتطلب اتصالا حسيا ومباشرا  ، يمكن رجل السياسة من وضع كل شيء في نصابه ، ومعرفة مسارات الحوادث وسلاسل التاثير والتأثر التي تربط بينها. بالنظر لكون هذه القابليات نوعية أكثر مما هي كمية ، فانها ينبغي أن تبنى على خبرة سابقة ، وليست معرفة نظرية مجردة. 

القابليات التي يتمتع بها رجال السياسة الناجحون ليست هدية من الغيب ، بل هي تجريبية اعتيادية وشبه جمالية[101]. هذا الاحساس السياسي متمايز عن أي نوع من المشاعر الأخلاقية ، ونيله ممكن لمختلف السياسيين ، الاشرار والاخيار على حد سواء ، كما يمكن لاي منهما أن يفتقر إليه. استيعاب أهمية الاحساس بالواقع السياسي ، لا ينبغي أن يثبط روحية البحث العلمي ، كما لا يصح أن يتخذ مبررا للانزلاق نحو الظلامية. بل ينبغي أن يثبط المحاولات الرامية لتحويل الفعل السياسي إلى تطبيق للمباديء العلمية أو تحويل الحكومة إلى ادارة تكنوقراطية. .[102]

اراد ايزايا برلين من وراء كتاباته حول القرار السياسي ، تحذير المنظرين في علم السياسة بأن لا يبالغوا في تقدير عملهم ، على نحو يتجاوز المجال الخاص للعلم. يمكن للنظرية السياسية أن تأتي بخير كثير ، لو ساعدتنا في جعل السياسة ذات معنى. لكن الفعل السياسي موضوع عملي ، لا ينبغي ولا يمكن أن يفرض أو يبنى على مباديء عامة ، تم اثباتها من خلال تنظير مجرد.  

كتابات ايزايا برلين عن القرار السياسي ، العمل السياسي والقيادة ، تشكل جزء من مشروعه المعرفي الاكبر: تسليط الضوء على التزاحم بين النظرية المجردة والمسلمات المسبقة ، وبين الاستيعاب المباشر للواقع ، والتحذير من المخاطر التي ربما تترتب على هيمنة الأولى أو اغفال الثاني. وبينما اقر برلين بانه من المستحيل أن نفكر من دون استعمال المقارنات والرموز ، فإن ذلك التفكير يتضمن بالضرورة تعميمات ومقارنات ، لا ينبغي أن تحجب عنا الحقائق القائمة في ميدان العمل ، وما تنطوي عليه من سمات فريدة ، قد لا تنسجم تماما مع المقدمات النظرية. اراد برلين التحذير من أنه من المهم أن نكون حذرين ، واعين وناقدين حين نستعمل الموديلات العامة والمقارنات[103].

تعيد هذه الكتابات أيضًا تأكيد رسالة ايزايا برلين في شبابه “Some Procrustations’ 1930” والتي فحواها أنه لا يصح تطبيق نفس القواعد ، على مختلف الاوجه في الحياة الإنسانية ، من دون تبصر أو ملاحظة للفروق بين حالة وأخرى. لا تتحقق العقلانية بتطبيق تكنيك واحد أو مجموعة قواعد ، بل بتطبيق المناهج التي برهنت على فاعليتها في كل حقل أو حالة بعينها. تتصل هذه الرؤية للقرار السياسي أيضًا ، بمحاولة برلين اظهار أهمية الملكات والمؤهلات الشخصية لرجل السياسة ، وفي الحقل السياسي بشكل عام. يعتقد برلين أن الحكمة في القرار السياسي تعبر عن كفاءة شخصية  ، كما أن النشاط السياسي المؤثر ، وكذا القرار والفعل السياسي ، تأتي في الغالب كنتاج لتقدير شخصي ، اكثر مما هي انعكاس للادارة غير الشخصية أو المؤسسية. أو أن الأولى – على أقل التقادير – اكثر أهمية وتاثيرا من الاخيرة.

5.5 الأخلاق السياسية: العنف، والغايات، والوسائل

في مناقشاته لقضايا وموضوعات النظرية السياسية ، وجه ايزايا برلين اهتماما خاصا لعواقب الفعل السياسي والغايات المرادة من ورائه: ما إذا كانت متلائمة مع المعايير الأخلاقية ام لا. كما اقر بأهمية النقاشات الخاصة بالادوات ، ومدى تلاؤمها مع الغايات التي يدعى استهدافها والسعي من أجلها. لم يكن سؤال الأخلاق السياسية محوريا في ابحاث برلين ، فهو لم يتعامل معه بشكل مباشر ، كما لم يقدم أي جواب بسيط ومتين على الأسئلة المزمنة ، المتعلقة بأخلاقيات الفعل السياسي. لكنه – مع ذلك – قدم اطروحات حول هذا الفرع من الأخلاق ، اطروحات نابعة من اعماق قلبه. 

عبر ايزيا برلين عن قناعاته في هذا الصدد ، من خلال كلمات الناشر الراديكالي الروسي الكساندر هيرزن[104] التي اعادها مرارا وتكرارا ، كي تعبر عما يعتلج في نفسه من قناعات أخلاقية. بين أبرز الكلمات التي تكررت على لسان برلين ، تلك التي تدين التضحية بالبشر على مذبح النظريات المجردة ، وتلك التي تجعل حقائق الحياة الراهنة وما فيها من سعادة أو شقاء ، رهنا لأحلام المستقبل الخيالية [105]. المبدأ الأول لأخلاقيات السياسة عند برلين ، هو معارضة اخضاع الحاضر لاحلام المستقبل ، وقد اعتبر هذا المسلك دافعا رئيسا للتعصب ، بل وصفة  للتوحش المروع.

مثل هيرزن ، آمن ايزيا برلين أن “الغاية من الحياة هي الحياة نفسها”[106]  وان أي حياة واي عصر ، ينبغي التعامل معه باعتباره غاية قائمة بذاتها ،  تستحق الاهتمام لذاتها ، وانها ليست وسيلة لأي غرض مستقبلي. اضاف برلين إلى هذه الرؤية ، تحذيرا حول عدم قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل ، وهو تحذير مثير يذكرنا برؤية هيرزن وماكس فيبر على السواء. كان برلين مؤمنا بالقوة والفاعلية التي ينطوي عليها الإنسان. لكنه في الوقت عينه كان واعيا لحقيقة أن لكل شيء حد ، وان مسارات الحوادث يمكن أن تذهب في اتجاهات غير متوقعة ، أو حتى معاكسة لما كان مرادا في الأصل. وهذا ما دفعه للتشديد عل الحاجة للاعتدال والحذر ، ومن جهة أخرى الاصرار على أن عدم اليقين هو امر لا يمكن تفاديه ، وانه مهما بالغنا في اتخاذ الاحتياطات التي نراها ضرورية للسلامة ، فإن كل فعل ينطوي غالبا على احتمالات الخطأ أو حتى الكارثة ، وفي أحسن الحالات العواقب المزعجة أو غير المتوقعة. نتيجة لهذا التحليل المتشائم نوعا ما ، تبنى برلين ما يمكن وصفه بأخلاقيات التواضع السياسي the ethics of political humility ، على غرار أخلاقيات المسؤولية التي تنسب إلى ماكس فيبر ، مع أنها تفتقر إلى جرسها المتين وما يوحي به من فخامة مدرسية.   

كان ايزايا برلين أحد المفكرين الذين التفتوا إلى مخاطر التفكير اليوتوبي ، والح في المقابل على الحاجة إلى قدر من البراغماتية السياسية. من هنا فقد يبدو متأثرا جدا بتقاليد الواقعية السياسية ، التي تنسب في العادة إلى مفكرين مثل ماكيافيلي (او ثيوسيديدس) حتى المفكرين والسياسيين المعاصرين من امثال ادوارد كار ، جورج كينان ، أو هنري كيسنجر.[107] لكن لا ينبغي الاخذ بهذا التصور على علاته. الواقع أن برلين كان يسعى للتحذير من مخاطر المثالية ، من أجل أن ينقذها من نفسها ، وكي يحميها من التحول إلى عباءة للنفاق السياسي. لكنه حين كتب حول “الواقعية في السياسة” ميز بين فهم صحيح للواقع ، فهم متحرر من غبش الانفعالات ، وبين فهم مائل للشر ، يتبناه أناس يدعون كونهم واقعيين من اجل التغطية على اتخاذهم لقرارات قاسية أو حتى وحشية.

في هذا المعنى اقترن مفهوم “الواقعية” بالقسوة بل ربما اللاإنسانية ، واقعية لا تعبأ كثيرا حين تنحرف عن القيم السامية ، كما لا تلين أو تتأثر بالمشاعر الطيبة والعواطف والاعتبارات الأخلاقية. رأى ايزايا برلين هذه الواقعية في الربط بين ما هو حسن وناجح ، وبالميل للاحتفاء بالقوة واستعراضاتها ، الكتائب العسكرية الضخمة وهي تجوب الميادين والشوارع الواسعة ، تعرض على الجماهير الوعود التي لازالت في رحم الغيب ، والشهداء والحالمين واحلامهم ، التي جرى محوها والقضاء عليها.[108]  أصر برلين على أهمية “الشعور بالواقع”. لكنه في الوقت عينه كان ناقدا صريحا للشكل الثاني من “الواقعية السياسية” التي لم تكترث بنداء الضمير ، كما تجاهلت المثل الأخلاقية ، واتبعت ماتيسر لها من وسائل لتحقيق غاياتها ، بغض النظر عن ملاءمتها للفضيلة أو الأخلاق. لعل السر وراء قلق برلين من الواقعية السياسية في هذا المفهوم المنافق والمتوحش ، هو شعوره بانها تمثل قوة قاهرة وفعالة جدا في حياة العالم السياسية.

كانت “الواقعية” قد فهمت كتبرير للنفاق والقسوة في العمل السياسي. وفي هذ المفهوم اعتبرها ايزايا برلين بغيضة وفوق ذلك غير واقعية ، بمعنى أنها ليست متصلة بالواقع ، طالما استندت إلى فرضيات من قبيل اعتبار الغايات مبررا للوسائل ، ايا كانت قبيحة.

بعكس هذا ، رأى ايزايا برلين أن “الوسائل الشريرة تهدم الغايات الخيرة”[109]. أن اردت الوصول إلى غايات طيبة فعليك التوسل بوسائل طيبة. هذه الفكرة ، أي جدلية العلاقة بين الوسائل والغايات ، شكلت مضمونا دائم التكرار في كتابات برلين. لقد كان من أبرز اهتمامات برلين ، التحذير من كلا الاتجاهين: الاصرار على النقاء السياسي من جهة ، والاغفال التام لأخلاقية الوسائل السياسية ، من جهة أخرى. وقد رأى أنه عندما تتعارض القيم ، وتكون العواقب غير متوقعة في الغالب ، فإن النقاء يصبح امثولة مستحيلة. أما اغفال الجانب الأخلاقي في الوسائل فانه ليس فقط قبيحا بذاته ، بل هو احمق أيضًا ، لأن الغايات الطيبة غالبا ما تفسد وتنهدم بسبب الوسائل السيئة واللاأخلاقية.

علاوة على هذا ، فإن التهاون في استعمال الوسائل السيئة ، قد يؤدي إلى خسارة كلية. في غالب الاحيان ، لا يستطيع السياسيون التنبؤ بما تؤول إليه قراراتهم ، وما تؤدي إليه افعالهم من عواقب. أن معظمهم لا يحقق الغايات التي سعى إليها ، أو أنه – على أقل التقادير – لا ينالها على النحو الذي رغب فيه بالتمام والكمال. ولهذا فقد يكون من الافضل التحفظ في تقديم الاضحيات في طريق الاغراض السياسية ، لأن أحدا لا يستطيع الجزم بتحقيقها في الوقت الملائم. ثمة محاججة يذكرها عادة “الواقعيون” وفحواها أنه لكي تصنع عجة البيض ، سوف تحتاج لكسر البيض اولا”. رد برلين على هذه الحجة قائلا أن الشيء الوحيد الذي نحن واثقون منه ربما ، هو واقعية التضحية ، الموت والميت. أما المثال الذي يفترض أنهم ماتوا من اجله ، فهو يبقى غير مؤكد. لقد كسر البيض ، وسوف يتحول كسر البيض إلى عادة تنمو وتتفاقم ، لكننا لن نرى عجة البيض أبدا[110].

كان ايزايا برلين مناهضا للاستبداد بشكل كلي. لكنه – إلى جانب موقفه العام – اصر على أنه ثمة افعال ستبقى غير مقبولة ، الا في الحالات الاشد قسوة. في مقدمة هذه الافعال الهيمنة على الافراد واذلالهم ، إلى حد أن يمسي هؤلاء الذين حطت بهم اقدارهم في يد من هو اقوى منهم ، محرومين من إنسانيتهم[111].

حذر ايزيا برلين أيضًا وبشكل خاص من استعمال العنف. ومع اقراره بأن استعمال القوة قد يكون ضروريا ومبررا في بعض الاحيان ، الا أنه لم يغفل تذكير قرائه بأن العنف يؤدي إلى منزلقات متفجرة وغير متوقعة ، وتميل الامور في ظل العنف للخروج عن السيطرة العقلائية ، مما يؤدي إلى دمار وفوضى ، وتعويق أو تعطيل أي مسعى لبلوغ الاهداف الخيرة. لم ينس برلين التحذير أيضًا من الاخطار التي تنطوي عليها مساعي الاصلاح والتقدم ، التي تنطلق من منطلقات ابوية ، أو تنطوي على اذلال أو اضغاف لبعض الشرائح. مثل هذه المساعي سوف تشعل نيران الكراهية وستواجه مقاومة ، ربما تحمل نفس القدر من العنف والقسوة. 

دعنا اذن نلخص رؤية ايزايا برلين للأخلاق السياسية بكلماته نفسها:

دعونا نتحلى بما يكفي من الشجاعة كي نقر بجهلنا ، وبما يعترينا من ريبة وانعدام اليقين. نستطيع على الأقل أن نحاول اكتشاف ما يطلبه الاخرون ، بأن نجعل من السهل على انفسنا أن تعرف الناس كما هم في الواقع ، من خلال الاصغاء إليهم بعناية وتعاطف ، وفهمهم وفهم حياتهم وحاجاتهم ، واحدا واحدا ، فردا فردا. دعنا على الأقل نحاول تزويدهم بما يطلبونه منا ، ثم نتركهم احرارا بقدر ما نستطيع.[112]

6. الخلاصة

لازالت حياة ايزيا برلين وآراؤه محل اهتمام واسع عند الباحثين ، ومحل اختلاف أيضا. لعل تعدد القضايا التي عالجها ، وعلى الخصوص اهتمامه بالاحداث الجارية ، من الاسباب البارزة التي جعلت العديد من النقاد غير راضين عن آرائه ، سيما وانه تبنى مواقف معارضة لما كان محل اجماع في بعض الأوقات ، وهو أمر أثار أحيانا ردود فعل شخصية قوية. بعض قرائه عبر عن اعجاب بدفاعه الثابت عن الحريات الفردية ، إلى حد اعتباره واحدا من قديسي الليبرالية.[113] كما واجه في المقابل نقدا يصل إلى درجة العداوة ، من جانب اطراف في اليمين واليسار على السواء. سوف تجد في هذا الاطار من وصم برلين بالنفاق ، والرضا عن الذات ، جبنا عن مواجهة المواقف الصعبة ، وتسامحا يتجاوز المألوف.[114] دعنا نقول أن هذه المشاعر متوقعة ، رغم تباين مصادرها واسبابها. السر يكمن في معارضة برلين الشديدة للشيوعية ، في موازاة رفضه الاصطفاف مع اعداء الشيوعية الراديكاليين ، فضلا عن مواقفه المتحفظة (وتلك التي تبدو متناقضة في بعض الاحيان) تجاه العديد من قضايا السياسة التي اثارت خلافات كثيرة ، فلم يتخذ تجاهها مواقف فاصلة كما توقع معاصروه.

مع انتهاء الحرب البارة بين الشرق والغرب ، تلاشى جانب كبير من مبررات المعارك الايديولوجية ، وباتت جزء من الماضي ، ليس بالتمام والكمال ، لكن بقدر يسمح لنا بادعاء أن الوضع الآن ، مختلف عما كان عليه في معظم النصف الثاني من القرن العشرين. رغم هذا ، فإن ايزيا برلين مازال موضوعا لاجتهادات وتقييمات شتى متباينة. قد يبدو هذا الامر غريبا ، بالنسبة لمفكر عبر عن آرائه بعبارات صريحة واضحة. غريب ، لكنه ليس مفاجئا ، اذا وضعنا في اعتبارنا التعقيد النسبي الذي اتسمت به رؤية برلين ، نفوره من عرض أفكاره وتنظيراته بالطريقة المنهجية المعتادة ، الوجوه المتعددة لعمله الفكري ، وفرادة موقعه ضمن المشهد العام للفكر والثقافة في زمنه. هذه السمات تجعل من تقييم برلين مهمة شاقة ، لا يقل عنها مشقة المهمة الأخرى أي تحديد موقعه ضمن تاريخ الأفكار ، أي الحقل الذي برز فيه هو نفسه. قد يراه البعض نموذجا لما كان عليه الحال في زمنه ، الذي اتسم بالتعدد وسيولة المناهج ، وقد يراه آخرون منفصلا عن مسارات عصره ، أو حتى سابقا له ، بينما يراه غيرهم محاربا كلاسيكيا من ازمنة قديمة ، وجد نفسه فجأة في أواخر القرن العشرين.

خلال شبابه المبكر ، كان الاتجاه الفكري الذي تبعه ايزيا برلين ، هو ذلك المتأثر بالتيارات الفلسفية الاكثر شهرة بين الناطقين باللغة الانكليزية. لكنه انزلق في وقت لاحق بعيدا عن الفلسفة التحليلية ، التي مال في أول أمره إلى التعمق في قضاياها ومقولاتها. ويتضح من كتاباته اللاحقة ، إلى أي حد ذهب برلين بعيدا عن غالب التيارات الفلسفية الشائعة ، في السياق الانجلو-امريكي في تلك الاوقات. من ناحية ثانية ، ينبغي القول أن برلين ، رغم المدى الواسع لاشاراته التاريخية والثقافية ، ورغم اهتمامه بالأسئلة الأخلاقية والجمالية ، ورغم تأثره الواضح بفلسفة كانط وخلفائه ، فانه يبدو بعيدا نسبيا عن عالم الفلسفة الاوروبية.

 لن يكون من الصواب بطبيعة الحال لو قبلنا برأي ايزيا برلين نفسه ، حين قال أنه خرج كليا من عالم الفلسفة. السبب في عدم القبول بهذا الرأي ، هو الآراء التي كونها خلال اشتغاله كفيلسوف محترف ، أي قبل أن ينقل اهتمامه إلى “تاريخ الأفكار” ، إضافة إلى ميله للربط بين قضايا السياسة والتاريخ والثقافة ، وبين الأسئلة الأخلاقية والمعرفية الاكثر عمقا. هذا وذاك وضع أعمال برلين في مكان منفصل عن بقية المؤرخين و”المفكرين الشعبيين” في زمنه.

قضى ايزايا برلين معظم حياته الفكرية منعزلا ، يتابع تاريخ الأفكار في بيئة اكاديمية قليلة الاكتراث بهذا الحقل. دافع عن ليبرالية معتدلة ، في عصر سمته الرئيسية هي هيمنة النزعات الايديولوجية المتطرفة ، رغم أن خياره هذا لم يخفق تماما ، فقد شاركه في الدعوة للاعتدال والدفاع عن الليبرالية ، عدد معتبر من المفكرين وغيرهم[115]. قد يكون من الصدف الطيبة أن اهتمام برلين بالفلسفة السياسية ، ولا سيما دفاعه عن الليبرالية ، قد تقاطع مع عمل جون راولز (الذي تأثر بآراء برلين حين قضى شطرا من حياته الاكاديمية في جامعة أكسفورد) لكن بروز أهمية النظرية السياسية المعيارية بعد انتشار أعمال راولز ، تصادف مع فترة من التراجع في شهرة ايزايا برلين.

بدأ اهتمام ايزيا برلين بقضايا الهوية والانتماء ، قبل وقت طويل نسبيا من انفجار صراعات الهوية في وسط آسيا وشرق أوربا وغيرها ، لا سيما في أوائل العقد الاخير من القرن العشرين. منذ البداية عبر برلين عن تعاطفه مع الاحاسيس والحاجات ، التي شكلت محركا للشعور القومي في بقاع شتى من العالم. وقد ميزه هذا الموقف عن كثير من المنظرين الليبرالين المعاصرين له. ويمكن القول أن هذا كان بشارة أولى بنهوض ما يوصف احيانا ب “القومية الليبرالية” في أعمال مفكرين شبان ، نظير مايكل والزر ، ديفيد ميلر ، يائيل تامير ، ومايكل ايغناتييف.  

كان ايزيا برلين قد هاجم الاحادية ، كما هاجم السعي لليقين ومشروع المعرفة المنهجية ، وقوبل هذا الموقف باحتفاء عدد من نقاد التاسيسية   foundationalism مثل ريتشارد رورتي وجون غراي. مع ذلك يبقى من الصعوبة بمكان ، استيعاب أعمال برلين في اطار حركات فكرية ، أو مشروعات من قبيل ما بعد الحداثة أو التعددية الثقافية. عدم القدرة على تصنيف تلك الاعمال ضمن تيار فكري بعينه ، جعلها تبدو غامضة ومثيرة للشك عند بعض الباحثين ، سيما في السنوات الاخيرة من حياته.

ليس من السهل تأطير ايزايا برلين ضمن المواقف الفكرية التي كان قد دافع عنها بصراحة ، سيما التعددية والليبرالية. مع أنه يبدو مرجعا نموذجيا عظيم الأهمية لليبرالية ، جنبا إلى جنب مع جون راولز ، المنظر الليبرالي الاكثر أهمية في القرن العشرين ، الا أن أفكار برلين ربما تبدو في نهاية المطاف ، وكانها تعوق ، أو على الأقل تتحدى النسخة المتعارفة (غالبا الاحادية) لليبرالية. هذا السؤال سيطر على اذهان كثير من قراء برلين ، وهيمن على النقاشات المتعلقة بتراثه ، إلى الحد الذي ربما يهدد بالغض من قيمة الابعاد الأخرى لفكره.

يثير الجدل المتعلق بالليبرالية والتعددية مسائل مفهومية عالية الأهمية ، مع أنه قد يصبح مضللا نوعا ما ، مضلل في حد ذاته ، ومضلل اذا اعتبرناه دليلا إلى فكر ايزايا برلين ، ولا سيما اذا تعاملنا مع كل من الليبرالية والتعددية كمذهب شامل ، أو اذا تم اعادة تشكيلهما في كيانات مستقلة قائمة فعليا. واقع الامر أن الليبرالية والتعددية كمصطلحات عامة ، تعبر عن تجريد يمكن أن يساعدنا على جمع وتحليل ومقارنة المواقف التي يتخذها مختلف المفكرين ، أو كي نميز الوجوه المختلفة لفكر احدهم. مع أن هذا لا يساعدنا – على أي حال – على الامساك بموقف فردي بكماله وتمامه ، كما أنه لا يساعد أيضًا في تلخيص فكر برلين ولا الاحاطة به.

كان ايزايا برلين قد الح على أن النظريات السياسية والأخلاقية ، ثمرة لفهم المفكر للطبيعة البشرية. وهذه – بدورها – مؤسسة على رؤية فلسفية واسعة ، فهم لطبيعة الكون ، فهم للواقع وللمعرفة ، الخ. الرؤية التي تقوم عليها نظرية برلين السياسية والأخلاقية ، ليست منظمة منهجيا ، مع أنها قد تكون متماسكة ومتينة (هذا بدوره محل جدل). لكن لا بد من تكرار القول بانه لا يمكن تصنيفها ببساطة كنظرية تعددية أو ليبرالية. لكن على أي حال فإن التعددية يمكن أن تستعمل في مفهوم اضيق ، لوصف نظرية برلين الخاصة بالقيم. 

ربما نستعمل نظرية ايزايا برلين على نطاق اوسع ، لالتقاط شيء من رؤيته للواقع والكون والطبيعة البشرية ، أي الرؤية التي فحواها أن كلا من هذه الأشياء ، توليف معقد من أجزاء   متمايزة ومتعارضة: أن الذات لا تبقى على حال واحدة ، فهي دائمة التحول ومفتوحة النهايات ، أن الكون ليس تكوينا صلبا أحاديا ، وان الواقع الذي نراه امامنا ينطوي على العديد من الجوانب المنفصلة ، والتي يمكن أن يُنظر إليها ، بل ينبغي أن ينظر إليها كلا من زاوية مختلفة ، كي نراها كما هي على حقيقتها.

لكن التعددية ، وفقا للتعريف الصريح الذي قدمه ايزايا برلين وآخرون ، لا تتسع لميول برلين التجريبية ، ولا التاريخانية ولا قناعته بنقصان المعرفة البشرية ، ولا إيمانه بالأولوية المطلقة للفرد في مقابل التعميمات والتجريدات ، كما لا تتسع لتشديده على أهمية الاختيار الحر  ، الذي حاول أن يقيم بنيانه على الأرضية المفهومية للتعددية ، لكنه يبدو مستقلا عنها ، ولو بنحو جزئي.

فضلا عن هذا فإن التعددية ، التي تشدد على أنه ثمة في حياة البشر مكان للصراعات المأساوية وحتى الخسارة الكلية ، لا تتسع لحماسة برلين الدائمة للحياة وابتهاجه بالكائن الإنساني ، والذي يظهر كعنصر ثابت في شخصيته وفي حياته الفكرية. لقد تشكل فكر برلين ، مثل كتابته من شبكات الوان متباينة في حدتها ، ثم تدرجا للالوان يتفاوت بين الاكثر حدة إلى الاكثر نعومة ، كما لو أنه ينتقل بين النور والظلمة. هكذا كان عمل برلين ، الذي اعتاد على مقاومة التحليلات المبسطة واستنتاجاتها الساذجة ، ووضع في اعتباره دائما ابقاء الأفكار مفتوحة النهايات ، كي يعود هو أو غيره من الباحثين إلى مراجعتها مرة بعد مرة. الفكرة عنده متحولة ، لا تستقر على حال كما لا يبقى اللون على حاله بينما يمر الزمن فيلقي باثره على كل شيء.


 

المراجع

Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

معلومات إضافية عن ايزايا برلين على الانترنت

كتب ايزايا برلين المترجمة إلى العربية

ايزايا برلين: الحرية ، خمس مقالات عن الحرية ، تحرير هنري هاردي ، ترجمة معين الامام ، دار الكتاب (مسقط 2015)

وصدرت الكتاب بترجمة أخرى قام بها يزن الحاج ، ونشرها المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار التنوير  (بيروت 2015)

ازيا برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، فصول في تاريخ الأفكار، تحرير هنري هاردي ، ترجمة محمد زاهي المغيربي ونجيب الحصادي ، المركز القومي للترجمة ، (القاهرة 2013)

وصدرت ترجمة أخرى بعنوان “نسيج الإنسان الفاسد” قامت بها سمية فلو عبود ، دار الساقي للطباعة والنشر (بيروت 2016)

إيزايا برلين: جذور الرومانتيكية ، ترجمة سعود السويدا ، جداول (بيروت 2012)

ايزايا برلين: المساواة ، أشكالات المفهوم واحتمالاته ، وهو فصل من كتاب Concepts and Categories ترجمة توفيق السيف ، مجلة حكمة  (فبراير 2020) https://go.shr.lc/3c4AvYP

كتب ايزايا برلين

A complete list of Berlin’s works is available in Isaiah Berlin Online and in the Isaiah Berlin Virtual Library.

  • 1930, ‘Some Procrustations’, Oxford Outlook 10 (52): 491–502.
  • 1937a, ‘Induction and Hypothesis’, Proceedings of the Aristotelian Society, supplementary vol. 16: 63–102.
  • 1937b, ‘Utilitarianism’, online (PDF).
  • 1939, Karl Marx: His Life and Environment, London: Thornton Butterworth, Toronto: Nelson, 5th ed., Karl Marx, ed. Henry Hardy, Princeton and Oxford: Princeton University Press, 2013.
  • 1949, ‘Democracy, Communism and the Individual’, online and in Berlin 2000a.
  • 1951, ‘Synthetic A Priori Propositions’, American Philosophical Association, December 1951.
  • 1953, The Hedgehog and the Fox: An Essay on Tolstoy’s View of History, London: Weidenfeld and Nicolson, New York: Simon and Schuster. Expanded version of ‘Lev Tolstoy’s Historical Scepticism’, Oxford Slavonic Papers, 2, 1951, pp. 17–54. Reprinted in Berlin 1978a; 2nd edition, ed. Henry Hardy, Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 1954, Historical Inevitability, London: Oxford University Press. Reprinted in Berlin 2002b.
  • 1955 (with Stuart Hampshire, Iris Murdoch and Anthony Quinton), ‘Philosophy and Beliefs’, Twentieth Century, 157: 495–521.
  • 1956, (ed.), The Age of Enlightenment: The Eighteenth-Century Philosophers, Boston: Houghton Mifflin, New York: New American Library; 2nd ed., ed. Henry Hardy, online, Oxford: The Isaiah Berlin Literary Trust, 2017 (PDF).
  • 1958, ‘Two Concepts of Liberty’, Oxford: Clarendon Press; reprinted in Berlin 2002b.
  • 1972, ‘The Originality of Machiavelli’, in Studies on Machiavelli, M. Gilmore (ed.), Florence: Sansoni. Reprinted in Berlin 1979.
  • 1978a, Russian Thinkers, Henry Hardy and Aileen Kelly (eds), London: Hogarth Press; New York, 1979: Viking; 2nd ed., revised by Henry Hardy, London etc.: Penguin Classics, 2008.
  • 1978b, Concepts and Categories: Philosophical Essays, Henry Hardy (ed.), London: Hogarth Press; New York, 1979: Viking; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 1979, Against the Current: Essays in the History of Ideas, Henry Hardy (ed.), London: Hogarth Press; New York, 1980: Viking; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 1980, Personal Impressions, Henry Hardy (ed.), London: Hogarth Press; New York, 1981: Viking; 3rd (expanded) ed., Princeton: Princeton University Press, 2014.
  • 1990, The Crooked Timber of Humanity: Chapters in the History of Ideas, Henry Hardy (ed.), London: John Murray; New York, 1991: Knopf; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 1996, The Sense of Reality: Studies in Ideas and their History, Henry Hardy (ed.), London: Chatto and Windus; New York: Farrar, Straus and Giroux, 1997; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2019.
  • 1997a, The Proper Study of Mankind: An Anthology of Essays, Henry Hardy and Roger Hausheer (eds), London: Chatto and Windus; New York, 1998: Farrar, Straus and Giroux; 2nd ed., London: Vintage, 2013.
  • 1997b, ‘Israel and the Palestinians’, in 2015 (568) and online.
  • 1999a, The First and the Last, New York: New York Review Books; London: Granta.
  • 1999b, The Roots of Romanticism (1965), Henry Hardy (ed.), London: Chatto and Windus; Princeton: Princeton University Press; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 2000a, The Power of Ideas, Henry Hardy (ed.), London: Chatto and Windus; Princeton: Princeton University Press; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 2000b, Three Critics of the Enlightenment: Vico, Hamann, Herder (1960–5), Henry Hardy (ed.), London: Pimlico; Princeton: Princeton University Press; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2013.
  • 2002a, Freedom and its Betrayal: Six Enemies of Human Liberty (1952), Henry Hardy (ed.), London: Chatto and Windus; Princeton: Princeton University Press; 2nd ed., Princeton: Princeton University Press, 2014.
  • 2002b, Liberty, Henry Hardy (ed.), Oxford and New York: Oxford University Press.
  • 2004a, Flourishing: Letters 1928–1946, Henry Hardy (ed.), London: Chatto and Windus; published in the USA as Letters 1928–1946, New York: Cambridge University Press; paperback with UK title, London: Pimlico; Chicago: Trafalgar Square Publishing, 2005; supplement online (PDF); special supplement, ‘Correspondence with H. G. Nicholas 1942–1945’, also online (PDF).
  • 2004b, The Soviet Mind: Russian Culture under Communism, Henry Hardy (ed.), Washington: Brookings Institution Press; 2nd ed. (with added material), Washington: Brookings Classics, Brookings Institution Press.
  • 2006, Political Ideas in the Romantic Age: Their Rise and Influence on Modern Thought, Henry Hardy (ed.), London: Chatto and Windus; 2nd. ed., Princeton: Princeton University Press, 2014.
  • 2006a (with Beata Polanowska-Sygulska), Unfinished Dialogue, New York: Prometheus Books.
  • 2009, Enlightening: Letters 1946–1960, Henry Hardy and Jennifer Holmes (eds), London: Chatto and Windus; supplement online (PDF).
  • 2013, Building: Letters 1960–1975, Henry Hardy and Mark Pottle (eds), London: Chatto and Windus; supplement online (PDF).
  • 2015, Affirming: Letters 1975–1997, Henry Hardy and Mark Pottle (eds), London: Chatto and Windus; supplement online (PDF); special supplement, ‘More Explaining: Isaiah Berlin on His Own Ideas’, also online (PDF).
  • 2018 [1969], ‘The Lessons of History’, in Cherniss and Smith 2018.
  1. Books about Berlin
  • Aarsbergen-Ligtvoet, Connie, 2006, Isaiah Berlin: A Value Pluralist and Humanist View of Human Nature and the Meaning of Life, Amsterdam/New York: Rodopi.
  • Baum, Bruce and Robert Nichols, 2013, (eds), Isaiah Berlin and the Politics of Freedom: ‘Two Concepts of Liberty’ 50 Years Later, New York and London: Routledge.
  • Brockliss, Laurence, and Ritchie Robertson (eds), 2016, Isaiah Berlin and the Enlightenment, Oxford: Oxford University Press.
  • Caute, David, 2013, Isaac and Isaiah: The Covert Punishment of a Cold War Heretic, New Haven and London: Yale University Press.
  • Cherniss, Joshua L., 2013, A Mind and Its Time: The Development of Isaiah Berlin’s Political Thought, Oxford: Oxford University Press.
  • ––– and Steven B. Smith (eds), 2018, The Cambridge Companion to Isaiah Berlin, Cambridge etc.: Cambridge University Press.
  • Crowder, George, 2004, Isaiah Berlin: Liberty and Pluralism, Cambridge: Polity.
  • –––, 2019, The Problem of Value Pluralism: Isaiah Berlin and Beyond, New York: Routledge.
  • ––– and Henry Hardy (eds), 2007, The One and the Many: Reading Isaiah Berlin, Amherst, NY: Prometheus.
  • Dubnov, Arie M., 2012, Isaiah Berlin: The Journey of a Jewish Liberal, London: Palgrave Macmillan.
  • Espada, João Carlos, Plattner, Marc F., and Wolfson, Adam (eds), 2001, Pluralism without Relativism: Remembering Isaiah Berlin, Lanham, MD: Lexington Books.
  • Galipeau, Claude J., 1994, Isaiah Berlin’s Liberalism, Oxford: Clarendon Press.
  • Gray, John, 1995, Isaiah Berlin, London: HarperCollins; Princeton, 1996: Princeton University Press; retitled Berlin for the Modern Masters paperback edition, London, 1995: Fontana.
  • –––, 2013, Isaiah Berlin: An Interpretation of His Thought, Princeton: Princeton University Press [2nd. ed. of Gray 1995].
  • Hardy, Henry, 2018, In Search of Isaiah Berlin: A Literary Adventure, London: I.B.Tauris; London, Tauris Parke, 2019.
  • ––– (ed.), 2009, The Book of Isaiah: Personal Impressions of Isaiah Berlin, Woodbridge: The Boydell Press in association with Wolfson College, Oxford.
  • –––, Kei Hiruta and Jennifer Holmes (eds), 2009, Isaiah Berlin and Wolfson College, Oxford: Wolfson College.
  • Ignatieff, Michael, 1998, Isaiah Berlin: A Life, London: Chatto and Windus; New York: Metropolitan.
  • Jahanbegloo, Ramin, 1992 (first published in French in 1991), Conversations with Isaiah Berlin, London: Peter Halban.
  • Kocis, Robert, 1989, A Critical Appraisal of Sir Isaiah Berlin’s Political Philosophy, Lewiston, NY, etc.: Edwin Mellen Press.
  • Lilla, Mark, Ronald Dworkin and Robert B. Silvers (eds), 2001, The Legacy of Isaiah Berlin, New York: New York Review Books; London: Granta.
  • Lyons, Johnny, 2020, The Philosophy of Isaiah Berlin, London: Bloomsbury.
  • Mali, Joseph, and Robert Wokler (eds), 2003, Isaiah Berlin’s Counter-Enlightenment [Transactions of the American Philosophical Society, 93(3)], Philadelphia: American Philosophical Society.
  • Margalit, Edna and Avishai, (eds), 1991, Isaiah Berlin: A Celebration, London: Hogarth Press; Chicago: University of Chicago Press.
  • Ryan, Alan (ed.), 1979, The Idea of Freedom: Essays in Honour of Isaiah Berlin, Oxford: Oxford University Press.
  • Walicki, Andrzej, 2011, Encounters with Isaiah Berlin: Story of an Intellectual Friendship, Frankfurt am Main: Peter Lang.

مؤلفات عن ايزايا برلين

  • Allen, Jonathan, 1998, review of Berlin 1996, South African Journal of Philosophy, 17/2: 173–7.
  • Annan, Noel, 1980, introduction to Berlin 1980 (renamed ‘afterword’ in 3rd ed.).
  • –––, 1990, Our Age: Portrait of a Generation, London: Weidenfeld and Nicolson; New York: Random House.
  • –––, 1999, ‘The Don as Magus: Isaiah Berlin’, in his The Dons: Mentors, Eccentrics and Geniuses, London: HarperCollins.
  • Baghramian, Maria, and Attracta Ingram (eds), 2000, Pluralism: The Philosophy and Politics of Diversity, London and New York: Routledge.
  • Barry, Brian, 2001, Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism. Cambridge, Mass.: Harvard University Press.
  • Bew, John (2015), Realpolitik: A History, Oxford: Oxford University Press.
  • Blokland, Hans, 1999, ‘Berlin on Pluralism and Liberalism: A Defence’, European Legacy, 4/4: 1–23.
  • Brogan, A. P., 1931, ‘Objective Pluralism in the Theory of Value’, International Journal of Ethics, 41/3: 287–95.
  • Carr, E. H., 1961, What is History?, London: Macmillan.
  • Chang, Ruth (ed.), 1997, Incommensurability, Incomparability, and Practical Reason, Cambridge, Mass., and London: Harvard University Press.
  • Cherniss, Joshua L., 2018, ‘Isaiah Berlin’, in Robert Schuett and Miles Hollingworth (eds), The Edinburgh Companion to Political Realism, Edinburgh: Edinburgh University Press, 380–92.
  • ––– and Henry Hardy, 2018, ‘The Life and Opinions of Isaiah Berlin’, in Cherniss and Smith 2018, 13–30.
  • Connolly, William E., 2005, Pluralism, Durham, NC: Duke University Press.
  • Craiutu, Aurelian, 2017, Faces of Moderation: The Art of Balance in an Age of Extremes, Philadelphia: University of Pennsylvania Press.
  • Crowder, George, 1994, ‘Pluralism and Liberalism’, Political Studies 42: 293–305.
  • –––, 2002, Liberalism and Value Pluralism, London and New York: Continuum.
  • –––, 2016, ‘After Berlin: The Literature since 2002’, online (PDF).
  • Dewey, John, 1908, ‘The Virtues’, chapter 19 of John Dewey and James H. Tufts, Ethics, New York: Holt.
  • Dzur, Albert W., 1998, ‘Value Pluralism versus Political Liberalism?’, Social Theory and Practice, 24/3: 375–92.
  • Evans, J. D. G., 1996, ‘Cultural Realism: The Ancient Philosophical Background’, in Philosophy and Pluralism, D. Archard (ed.), Cambridge: Cambridge University Press.
  • Ferrell, Jason, 2009, ‘Isaiah Berlin: Liberalism and Pluralism in Theory and Practice’, Contemporary Political Theory, 8: 295–316.
  • Friedman, Jeffrey, 1997, ‘Pluralism or Relativism?’, Critical Review, 11/4: 469–80.
  • Galston, William, 2002, Liberal Pluralism: The Implications of Value Pluralism for Political Theory and Practice, Cambridge etc.: Cambridge University Press.
  • –––, 2004, Liberal Purposes: Goods, Virtues and Diversity in the Liberal State, Cambridge and New York: Cambridge University Press.
  • –––, 2010, ‘Realism in Political Theory’, European Journal of Political Theory, 9/4: 385–411.
  • Gertsen, A. I. [i.e. Herzen], 1842, Sobranie sochinenii v tridtsati tomakh, Moscow: Academy of Sciences of the USSR, 1954–66; vol. 2, diary entry for 28 June.
  • Gray, John, 1993, Post-Liberalism: Studies in Political Thought, New York and London: Routledge.
  • –––, 1998, ‘Where Liberals and Pluralists Part Company’, International Journal of Moral and Political Studies, 6/1: 17–36.
  • –––, 2002, Two Faces of Liberalism, Cambridge: Polity.
  • Gustavsson, Gina, ‘Berlin’s Romantics and their Ambiguous Legacy’, in Cherniss and Smith 2018, 149–66.
  • Gutmann, Amy, 1999, ‘Liberty and Pluralism in Pursuit of the Non-Ideal’, in Mack 1999.
  • Hanley, Ryan P., 2004, ‘Political Science and Political Understanding: Isaiah Berlin on the Nature of Political Inquiry’, American Political Science Review, 98/2: 327–39
  • Harris, Ian, ‘Berlin and his Critics’, in Berlin 2002b.
  • Hausheer, Roger, 1979, introduction to Berlin 1979.
  • –––, 2004, ‘Enlightening the Enlightenment’, in Mali and Wokler 2003.
  • Herzen, Alexander: see Gertsen, A. I.
  • Hitchens, Christopher, 1998, ‘Moderation or Death’, London Review of Books, 23 November, 3–11.
  • Hollis, Martin, 1999, ‘Is Universalism Ethnocentric?’, in Christian Joppke and Steven Lukes (eds), Multicultural Questions, Oxford: Oxford University Press.
  • James, William, 1891, ‘The Moral Philosopher and the Moral Life‘, International Journal of Ethics 1: 330–54.
  • Katznelson, Ira, 1994, ‘A Properly Defended Liberalism: On John Gray and the Filling of Political Life’, Social Research, 61: 611–30.
  • Kekes, John, 1993, The Morality of Pluralism, Princeton: Princeton University Press.
  • –––, 1997, Against Liberalism, Ithaca: Cornell University Press.
  • Lamprecht, Sterling, 1920, ‘The Need for a Pluralistic Emphasis in Ethics’, Journal of Philosophy, Psychology and Scientific Methods, 17: 561–72.
  • –––, 1921, ‘Some Political Implications of Ethical Pluralism’, Journal of Philosophy, 18: 225–44.
  • Larmore, Charles, 1994, ‘Pluralism and Reasonable Disagreement’, Social Philosophy and Policy, 11/1, 61–79 .
  • Lukes, Steven, 1989, ‘Making Sense of Moral Conflict’, in Liberalism and the Moral Life, N. Rosenblum (ed.), Cambridge, Mass.: Harvard University Press.
  • –––, 1994, ‘The Singular and the Plural: On the Distinctive Liberalism of Isaiah Berlin’, Social Research, 61: 687–718.
  • –––, 1995, ‘Pluralism is not Enough’, The Times Literary Supplement, 10 February, 4–5.
  • –––, 1998, ‘Berlin’s Dilemma’, The Times Literary Supplement, 27 March, 8–10.
  • –––, 2001, ‘An Unfashionable Fox’, in Lilla et al. 2001.
  • MacCallum, Gerald C., 1967a, ‘Berlin on the Compatibility of Values, Ideals, and ‘Ends’ ’, Ethics, 77: 139–45.
  • –––, 1967b, ‘Negative and Positive Freedom’, Philosophical Review, 76: 312–34.
  • Mack, Arien (ed.), 1999, Liberty and Pluralism (Social Research 66/4).
  • McQueen, Alison, 2017, ‘Political Realism and the Realist “Tradition” ’, Critical Review of Social and Political Philosophy, 20/3: 296–313.
  • Malebranche, Nicolas, 1680, Treatise on Nature and Grace, 1680, trans. and ed. Patrick Riley, Oxford: Clarendon Press, 1992.
  • Mehta, Pratap B., 1997, review of Gray 1995, American Political Science Review, 91/3: 722–4.
  • Meinecke, Friedrich, 1957 [1924], Machiavellism: The Doctrine of Raison d’État and Its Place in Modern History, trans. Douglas Scott, New Haven: Yale University Press.
  • Momigliano, Arnaldo, 1976, ‘On the Pioneer Trail’, New York Review of Books, 11 November, 33–8.
  • Moore, Matthew, 2009, ‘Pluralism, Relativism, and Liberalism’, Political Research Quarterly, 62: 244–56.
  • Müller, Jan-Werner (ed.), 2019, Isaiah Berlin’s Cold War Liberalism, London: Palgrave Pivot.
  • Myers, Ella, 2010, ’From Pluralism to Liberalism: Rereading Isaiah Berlin’, Review of Politics, 72: 599–625.
  • Nussbaum, Martha, 1986, The Fragility of Goodness, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Oakeshott, Michael, 1962, Rationalism in Politics and Other Essays, London: Methuen.
  • –––, 1965, ‘Rationalism in Politics: A Reply to Professor Raphael’, Political Studies 13: 89–92.
  • Rashdall, Hastings, 1907, ‘The Commensurability of All Values’, chapter 2 of his The Theory of Good and Evil, vol. 2, London: Oxford University Press.
  • Riley, Jonathan, ‘Interpreting Berlin’s Liberalism’, American Political Science Review, 95: 283–95.
  • –––, 2002, ‘Defending Cultural Pluralism within Liberal Limits’, Political Theory, 30/1: 68–97.
  • Sabl, Andrew, and Rahul Sagar (eds.), 2017, ‘Realism’, Critical Review of International Social and Political Philosophy, 20(3): 269–402.
  • Scruton, Roger, 1989, ‘Freedom’s Cautious Defender’, The Times, 3 June, 10.
  • Smith, Steven, 2018, ‘Isaiah Berlin on the Enlightenment and Counter-Enlightenment’, in Cherniss and Smith 2018: 132–148.
  • Stephen, James Fitzjames, 1873, Liberty, Equality, Fraternity, London: Smith, Elder & Co.
  • Strauss, Leo, 1961, ‘Relativism’, in Relativism and the Study of Man, H. Schoeck and J. Wiggins (eds), Princeton: Van Nostrand.
  • Talisse, Robert B., 2010, ‘Does Value Pluralism Entail Liberalism?’ Journal of Moral Philosophy, 7: 303–20.
  • –––, 2012, Pluralism and Liberal Politics, New York and London: Routledge.
  • Walzer, Michael, 1995, ‘Are There Limits to Liberalism?’, New York Review of Books, 19 October, 28–31.
  • Weber, Max, 1904, ‘The Meaning of “Ethical Neutrality” in Sociology and Economics’, in Max Weber, The Methodology of the Social Sciences, E. Shils and H. Finch (trans. and eds), New York/Glencoe, Illinois, 1949: Free Press.
  • –––, 1918, ‘Politics as a Vocation’ and ‘Science as a Vocation’, in From Max Weber: Essays in Sociology, H. Gerth and C. Wright Mills (eds), London, 1946: Routledge and Kegan Paul.
  • Weinstock, Daniel, 1997, ‘The Graying of Berlin’, Critical Review, 11/4: 481–501.
  • Zakaras, Alex, 2013, ‘A Liberal Pluralism: Isaiah Berlin and John Stuart Mill’, Review of Politics, 75: 69–96.

أدوات أكاديمية

 

How to cite this entry.

 

Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.

 

Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

 

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

Selected Online Articles on Berlin

(Other articles are listed in The Isaiah Berlin Virtual Library.)

مداخل ذات صلة

Ayer, Alfred Jules | Berkeley, George | Bosanquet, Bernard | Bradley, Francis Herbert | Carnap, Rudolf | categories | causation: the metaphysics of | Collingwood, Robin George | determinism: causal | Dilthey, Wilhelm | Enlightenment | equality | Fichte, Johann Gottlieb | free will | Green, Thomas Hill | Hamann, Johann Georg | Hegel, Georg Wilhelm Friedrich | Herder, Johann Gottfried von | history, philosophy of | Hume, David | idealism | Kant, Immanuel | liberalism | libertarianism | liberty: positive and negative | logical positivism | Machiavelli, Niccolò | Marx, Karl | Mill, John Stuart | Montesquieu, Charles-Louis de Secondat, Baron de | Moore, George Edward | nationalism | neo-Kantianism | nominalism: in metaphysics | ordinary language | Rickert, Heinrich | universals: the medieval problem of | value: pluralism | Vico, Giambattista | Vienna Circle | Weber, Max | Williams, Bernard | Windelband, Wilhelm | Wittgenstein, Ludwig

Acknowledgments

The authors would like to thank George Crowder, Johnny Lyons, Beata Polanowska-Sygulska and I. Alp Yilmaz, who read drafts of this entry, and whose comments were most helpful.


[1] Cherniss, Joshua and Henry Hardy, “Isaiah Berlin”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2020 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2020/entries/berlin/>.

 

[2] للاطلاع على النص العربي لهذه المقالة ، انظر  ايزايا برلين: الحرية ، تحرير هنري هاردي ، ترجمة معين الامام ، دار الكتاب (مسقط 2015)  صص  227-287. وتتوفر ترجمة اخرى بعنوان “الحرية ، خمس مقالات عن الحرية” قام بها يزن الحاج ، ونشرها المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار التنوير  (بيروت 2015) والاحالات الواردة في هذه المقالة ، ترجع جميعها إلى الأولى.

[3] ‘Philosopher and political thinker Sir Isaiah Berlin dies’, BBC Nov., 8, 1997 http://news.bbc.co.uk/2/hi/uk_news/24540.stm

[4]  ليو تولستوى من أهم الاسماء في تاريخ الرواية العالمية ، ونشرت الرواية للمرة الأولى في 1869 وترجمت إلى معظم اللغات الحية ، بينها العربية ، انظر ويكيبديا (13  أغسطس 2020) https://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=&oldid=49774412 . تتوفر نسخة رقمية لرواية “الحرب والسلم” ترجمة سامي الدروبي ، نشر وزارة الثقافة –(دمشق 1976) على الرابط: https://archive.org/details/draymanahmed1985_gmail_1_201608/

[5]  ايزايا برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، فصول في تاريخ الأفكار، تحرير هنري هاردي ، ترجمة محمد زاهي المغيربي ونجيب الحصادي ، المركز القومي للترجمة ، (القاهرة 2013) ص 35.  وصدرت ترجمة اخرى بعنوان “نسيج الإنسان الفاسد” قامت بها سمية فلو عبود ، دار الساقي للطباعة والنشر (بيروت 2016) والاحالات الواردة هنا ترجع جميعا إلى الترجمة الأولى.

[6] Jonathan Bergwerk,  Audacious Jewish Lives, Vol. 4, P. 195  (lulu.com) 2020

[7] Bergwerk:  Ibid. 196

[8]  للاطلاع على قائمة كاملة باعمال برلين ، انظر

مكتبة برلين الافتراضية The Isaiah Berlin Virtual Library  http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/index.html

[9] Joshua L. Cherniss, A Mind and its Time: The Development of Isaiah Berlin’s Political Thought, (Oxford U. Press 2013), p.32.   Some of Rachmilevich’s letters to Berlin are found here (seen 11-Sep-2020): http://berlin.wolf.ox.ac.uk/texts/letters/rachmilevich.pdf

[10] Giuseppina D’Oro: ‘Robin George Collingwood’, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015), https://plato.stanford.edu/archives/sum2015/entries/collingwood/

See also: Peter Skagestad: ‘Collingwood and Berlin: A Comparison’, Journal of the History of Ideas, Vol. 66, No. 1 (January 2005), pp. 99-112

[11] حول  إيمانويل كانط وفلسفته ، انظر عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيرت 1984) 2/ 269

[12] حول ديفيد هيوم وفلسفته ، انظر بدوي: المصدر السابق 611

[13] التمييز بين العلوم الإنسانية أو الثقافية (كما اسماها برلين احيانا) والتي تضم التاريخ ، الفلسفة ، القانون ، وكذا علم الاجتماع ، الاقتصاد ، الانثروبولوجيا .. الخ ، اجتذب اهتماما كبيرا في الفلسفة الألمانية خلال القرن التاسع عشر. وقد استمر  الاهتمام بهذا الموضوع في بواكير القرن العشرين ، كما اجتذب اهتماما كبيرا أيضًا في البلدان الناطقة باللغة الانكليزية ، نتيجة – فيما يبدو – لتأثير “حلقة فيينا” الفلسفية إضافة إلى بروز العلوم الاجتماعية كحقل دراسي مستقل بذاته ويحظى بالاحترام. أما عمل ايزايا برلين فقد حاول استلهام شخصيات مبكرة مثل مثل جيامباتيستا فيكو (1668-1744) وجوهان ج. هيردر  (1744-1803). لكنه جاء متاثرا بدرجة كبيرة بمحاولات لمفكرين مثل هنريش ريكرت ، فيلهلم ديلتاي ، وماكس فيبر ، بل جاء مماثلا لهذه المحاولات التي ارادت تفسير  طبيعة ال ‘Geisteswissenschaften’ وهو التعبير الألماني المعادل للإنسانيات أو العلوم الإنسانية.  والمناظر لهذا هو  Naturwissenschaften’ أو العلوم الطبيعية.

كان الدافع وراء استعمال برلين لمصطلح “الإنسانيات” أو “الدراسات الإنسانية” هو اصراره على أن اهدافها ومناهجها تختلف اختلافا جذريا ، الامر الذي يستوجب “اعلان الطلاق” بين الحقلين (Isaiah Berlin: Against the Current, Chapter 3, p.101). التعبير المستعمل هنا ، أي  “الإنسانيات” هو الاثير عند برلين ، الا اذا كان الحديث في الاطار التاريخي الذي يجعل مصطلح “العلوم الإنسانية” طبيعيا اكثر (وهي نفس الطريقة التي اتبعها برلين). انظر أيضًا الحاشية 27

[14] For more on this topic, see Isaiah Berlin: Concepts and Categories: Philosophical Essays, ed: Henry Hardy, Viking (New York 1979), Chapter One : The Purpose of Philosophy, pp 1-11.

[15] Berlin: Concept and Categories, p. 2

[16] ميز كانط عنصرين في المعرفة ، احدهما يأتي من الاشياء التي في الواقع ، هو “مادة” المعرفة ، والثاني ياتي من العقل وهو سابق على التجربة ، هو “صورة” المادة ، أو المظهر الذي تتجلى فيه الاشياء في عقولنا. وفحوى كلام كانط اننا لا نستطيع معرفة الاشياء كما هي في ذاتها بالحواس. هذا ليس انكارا لحقيقة موضوعات التجربة ، فهي موجودة ، لكنا لا نعرف منها غير الظواهر التي تتبدى عليها.  للمزيد ، انظر عبد الرحمن بدوي: مدخل جديد إلى الفلسفة ، وكالة المطبوعات (الكويت 1975) صص 124-125

[17]   ايزايا برلين: الحرية ، مصدر سابق ، ص 202

[18]  لم يقدم برلين رؤية قطعية عن اصل وطبيعة هذه المفاهيم والاصناف. لكن يستفاد من رؤيته الاجمالية والتلميحات المتفرقة في كتاباته ، انها تأتي في الغالب من الثقافة والتعليم ، ومايكسبه الفرد من خبرات في حياته اليومية ، كما قد يستفيدها من الاعراف والتطبيقات الاجتماعية الشائعة ، إضافة إلى النظريات الفلسفية. بعض المفاهيم قد يكون فطريا ، بقدر ما هو تعبير عن حاجات اساسية أو ميول غريزية في بني آدم ، أو ربما تكون (نظير أمثلة كانط عن الزمان والمكان) ضرورية لاضفاء معنى على العالم والوجود الإنساني ، كي نتمكن من ادراكها بعقولنا ، اذا كانت مما يمكن لعقل البشر استيعابه.

لكن برلين ذهب إلى أن القليل فقط من المفاهيم والاصناف التي نستعملها ، تماثل هذه. أما البقية – وهي الاكثر – فهي مصنوعات ثقافية أو نظرية ، ولهذا فهي تخضع لعمليات تغيير وتبديل مقصودة ومستمرة ، في سياق تفاعلها مع التجارب. ومن الامثلة على المفاهيم الاساسية التي اتسمت بالتحول ، نذكر الفهم الغائي للطبيعة ، أي الرؤية القائلة بأن كل شيء يوجد في الطبيعة ، وجد كي يخدم غاية  ، وهو يعرف بسعيه إلى هذه الغاية. وكذا المفهوم القائل بأن الإنسان مختلف تماما عن الحيوان ، والتي تعاكس الرؤية الاخرى القائلة بأن البشر نوع من الحيوان (لكنه اكثر تطورا).

فيما يخص الاختلاف بين المفاهيم والاصناف ، فان الشرح الذي قدمه برلين (برلين: الحرية ، ترجمة معين الامام ، ص 202 الحاشية 1) يوضح المائز بين هذين العنصرين الذين يحتلان مكانة مركزية في بنية تفكيرنا ، حيث تظهر “الاصناف” على نحو اكثر رحابة وانها غير محددة ، وانها اكثر تجريدية من “المفاهيم” (المثال الذي ضربه برلين عن “الاصناف” هنا هو الابعاد الثلاثة ، والمدى اللامتناهي لادراكنا العادي للفضاء ، وعدم قابلية عكس العمليات الزمنية وتنوع الاشياء المادية وقابليتها للعد).

مع ذلك ، تبقى الحدود مفتوحة ومتداخلة بين الاثنين (المفاهيم والاصناف). ليس واضحا متى نبقى داخل الحد ومتى نعبره إلى الطرف الآخر. يضرب برلين امثلة عديدة تتحدد باستمرار وتتنوع ايضا: من الالوان إلى الأشكال والاذواق ، القواعد المتشابهة للعلوم ، اصناف القيم ، المعايير الأخلاقية ، قواعد الاتيكيت ، والميول الشخصية المتعلقة بالذوق. من هنا يمكن القول أن صلة المفاهيم بالاصناف ، ربما تمثل صلة الفرد species إلى النوع/الجنس genus ، مع أن برلين لم يستعمل هذه المصطلحات على هذا النحو ، كما انه لا دليل لدينا على انه اتخذ موقفا في هذا الصدد ، يتسم بالثبات والوضوح.

لم يقدم برلين نظرية محددة أو شرحا واضحا حول المفاهيم والاصناف ، ليس فقط لأن القيام بهذا يقتضي العودة إلى البحث الفلسفي الذي كان برلين قد تخلى عنه ، بل أيضًا لانه اعتقد أن المفاهيم والاصناف المختلفة ، تختلف أيضًا في اصولها ، في وظائفها ، ضرورتها ، ومرونتها.. بالنسبة لبرلين فان هذه الاصناف والمفاهيم كانت ببساطة الطريقة التي نفكر بها ، والتي كانت مهمة على الصعيد الفلسفي ، لكن الافضل أن  تعالج من مدخل تاريخي أو سيكولوجي ، بدلا من الاطار الكانطي المتسامي (اي الرؤية القائلة بسبق الأفكار للتجارب ، وكونها شرطا ضروريا لاي نوع من المعرفة). 

[19] Berlin, Concepts and Categories, p.11

[20] Isaiah Berlin, ‘Logical Translation’. Proceedings of the Aristotelian Society, New Series, 50 (1949): pp.157-188. www.jstor.org/stable/4544470.

[21] القضية proposition  في المنطق هي “المركب التام” أو الجملة الخبرية التامة التي يمكن أن نقول انها “قول” صادق أو “قول” كاذب.  وبالتالي فانها ليست من نوع الفرضيات الابتدائية وليست من الاحكام. بل يمكن وصفها بالفرضية المتقدمة التي قد تاتي بعد الملاحظة الحسية الأولية ، ويتلوها اثبات أو دحض أو حكم.  انظر عبد الهادي الفضلي: خلاصة المنطق ، ط 3مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي (قم 2007) ص 131 https://bit.ly/2PlLJOl

[22] المغالطة الايونية نسبة إلى مدرسة ايونيا الفلسفية ، والتي ينسب إليها مؤسسو الفلسفة الغربية ، مثل طاليس. قدم اعضاء المدرسة نظريات مختلفة حول تشكل الكون ، بين ابرزها المحاول الرامية إلى اكتشاف عنصر أولي تبدأ منه كل الاشياء وتتشكل.

[23] Berlin: Concepts and Categories, pp 114-115.

[24] Berlin: Concepts and Categories, p 119

[25] Isaiah Berlin: Russian Thinkers, ed. H. Hardy & A. Kelly,  Penguin 2003, (The Author preface) p. viii

[26] See Jonathan Allen, ‘Isaiah Berlin’s Anti-Procrustean Liberalism’, Presented at the annual meeting of the American Political Science Association (August 28- 31, 2003, Philadelphia, PA) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/onib/allen2003.pdf

[27] Berlin: Concepts and Categories, p. 138

[28] يقر ايزايا برلين بان بعض العلوم الإنسانية قد حاولت محاكاة العلوم الطبيعية في اغراضها ، من خلال محاولة اكتشاف نماذج من السلوك الإنساني ، يمكن البرهنة على كونها نمطية ومتكررة ، وتنقيحها ثم اعتمادها كأساس لقواعد تفسيرية قابلة للتعميم. كان برلين متشككا جدا في هذه التوجهات ، التي تضم حقولا علمية مثل الاجتماع ، الاقتصاد ، علم النفس وغيرها. لكنه – رغم ارتيابه – اقر بان مثل هذه الدراسات العلمية في السلوك البشري لا تخلو من قيمة. لكنه مع ذلك بقي مصرا على استثناء التاريخ الذي يبقى بحسب تصوره  ، مختلفا جذريا عن العلوم الطبيعية في اهدافه وتقنياته.

 ثمة مناهج في الدراسات الإنسانية ، ربما تسعى لبناء نماذج مثالية مفيدة تفيدنا في فهم سلوكيات البشر ، وذلك بتجريد عدد ضخم من المتشابهات والمتكررات الثابتة ، في العديد من الحالات المختلفة ، واعتمادها من ثم كمادة بحث للنماذج المذكورة. لكن التاريخ حالة مختلفة تماما إلى حد يستحيل تقريبه إلى هذا التوجه. ذلك لان غرضه هو استكشاف وفهم الحالات الفردية بمفردها ، أي باعتبارها حالات فريدة وغير متكررة. لهذا السبب فان علم التاريخ اغنى في الوصف ، ولكنه اقل عمقا ودقة في التفسيرات. العلوم الإنسانية الاخرى تميل بطبعها للتجريد: قوتها الوصفية واسعة وليست مكثفة. من ناحية اخرى فان موضوع البحث في التاريخ ، ينطوي على نسيج متين من الخيوط المتقاطعة التي تتغير باستمرار ، وتذوب في طياتها المعتقدات والفرضيات الواعية واللاواعية (Berlin: Concepts and Categories, p.139  )

يتشكل التاريخ من مزيج ضخم من مكونات متوالفة أو متباينة ، مثل النهر الذي يحمل خلال جريانه الطويل عشرات من المواد ، التي ربما تبدأ مسيرتها على صورة ، لكنها تنتهى على صورة مختلفة تماما. في سعينا للحصول على رواية تاريخية مرضية ، نتطلع عادة إلى “شيء ممتليء يما يكفي ومتين بما يكفي للتلاؤم مع فهمنا الخاص للحياة العامة … التي ننظر إليها من زوايا عديدة ومستويات عديدة ، وهذا يتضمن اكبر عدد ممكن من المكونات ،  والقدر الاوسع من الابعاد والاعمق من المعرفة والقوة التحليلية ، والتخيل العميق…. التفسير التاريخي يتضمن ترتيبا للحقائق المكتشفة في انماط patterns ترضينا ، لانها تتلاءم مع التنوع الذي يتسم به النشاط الحيوي والتجربة الإنسانية ، أي الحياة كما نعرفها وكما نستطيع تخيلها (المصدر السابق 131). أن غرض المؤرخ هو رسم صورة (بورتريه) يحاول من خلالها وضع يده على الانماط الفريدة والسمات الخاصة للموضوع  الذي يبحثه “انه لا ياخذ صورة للخطوط الاساسية ، نظير التصوير باشعة اكس مثلا ، بل يرسم لوحة ملونة بتفاصيلها. (المصدر نفسه 125).

[29] Berlin: Concepts and categories, p. 142

[30] Berlin: Concepts and Categories, p. 110

[31] Berlin: Concepts and categories p. 116

[32] Berlin: Concepts and Categories, p. 128

[33] Berlin: Concepts and Categories, p. 136

[34] Berlin: Concepts and Categories, p. 137

[35] Berlin: Concepts and Categories, p. 137

[36] Isaiah Berlin: Historical Inevitability, Oxford U. Press, (London 1954) 79 pages

اعيد نشره باسم “الحتمية التاريخية” ضمن كتاب برلين: الحرية ، صص  145-224

[37] مما يذكر في تاريخ المعرفة أن كوبرنيكوس قلب الفيزياء راسا على عقب ، حين برهن على أن الارض ليست مركز الكون ، وفق الاعتقاد الذي كان سائدا ، بل هي تدور حول الشمس. ومنذ ذلك الحين بات الكون يفهم على نحو مختلف تماما عما سبقه. أما كانط فقد قلب التفكير السائد حول علاقة العقل بالواقع. كان الاعتقاد السائد حتى زمنه ، أن العقل يتعلم من خلال تعرفه على الحقائق القائمة في الخارج. لكن كانط برهن أن العقل هو الذي يبنيها اعتمادا على مخزونه السابق. بناء عليه فلم يعد العقل يتأمل الحقيقة كما توجد جاهزة في الخارج ، ولم يعد العقل صفحة بيضاء تتلقى المعرفة الجاهزة ، بل اصبح فعالا ، يصنع المعرفة ويساعد في تعريفها وتحديد معناها ، وبالتالي اصبح العقل مركز العملية المعرفية.  للمزيد انظر  المختار شعالي: نظرية المعرفة عند كانط ، هسبرس ، 01 أبريل 2017  www.hespress.com/writers/344820.html

[38] Berlin: Concepts and Categories, p. 166

[39]  ليس من المستبعد أن هذا الموقف الحاد نسبيا ، متاثر بتجربة برلين المريرة مع الشيوعية السوفيتية. والواضح انها هي الهدف الرئيسي لهجومه. لكن نقده هذا قابل للتطبيق على النازية أيضًا ، وكل نظام سياسي شديد التعصب وشمولي. بل وقد ينطبق حتى على السياسات “التكنوقراطية” و”الإدارية” القليلة الاكتراث بمعاناة الإنسان ، التي تطبق في الديمقراطيات الغربية. راجع برلين:  الحرية صص 142-144.

[40] See Edward Carr, What is History,  Vintage, (New York 1961), p. 120

[41] لم يوجه برلين كبير اهتمام إلى العصور القديمة في دراساته عن تاريخ الأفكار. لعل الدراسة الوحيدة التي تلفت النظر في هذا الجانب ، هي مقالته في 1962 عن الفردانية في اليونان القديمة  (اعيد طبعها ضمن كتابه “الحرية” صص 369-412). فيما يخص العصور الوسطى ، فانه على الرغم من كونها تحوي ميزات قد تتجاوز الازمنة التالية في جوانب معينة ، الا انه اعتبرها في العموم حقبة فقيرة على المستوى الفكري ، والسبب في هذا يرجع إلى الوضع الشديد الاستقرار ، وهيمنة الاتجاه المحافظ على الحياة الفكرية اثناء تلك الحقبة. في مقابل هذا ، وجه برلين اهتماما كبيرا نسبيا للفكر في عصر النهضة الاوروبية ، مع أن اهتمامه هذا اسفر عن مقال واحد فقط ، لكنه يقدم دراسة اصيلة ومؤثرة عن مكيافيلي (انظر

Isaiah Berlin, ‘The Originality of Machiavelli’, in M. P. Gilmore (ed.), Studies on Machiavelli, Firenze (1972) pp.149-206.

[42] يمكن تصنيف دراسات برلين عن تاريخ الأفكار بطرق مختلفة ، من بينها التصنيف الجغرافي ، الذي يسمح بوضع مجموعة أولى تخص تاريخ روسيا الفكري والثقافي ، خصوصا في القرن 19. وتحوي هذه المجموعة مقالاته عن الكسندر هيرزن ، دراستيه عن ليو تولستوى ، مقالاته عن ايفان تورجينيف ، فيساريون بيلينسكي ، وجورجي بليخانوف ، إضافة إلى ما كتبه عن الشعبوية الروسية ، والالتزام الفني الذي كل طابعا ملحوظا في الفكر الروسي. ومعظم هذه المواد نشر ضمن كتابه (مفكرون روس):

 Isaiah Berlin: Russian Thinkers, ed: Henry Hardy and Aileen Kelly, penguin 2003.

تضم المجموعة الثانية كتابات برلين حول تاريخ الأفكار في اوربا الغربية ، وتأتي ألمانيا في المقدمة ثم فرنسا وايطاليا ، ومن بعدها انجلترا وسويسرا. لدينا مجموعة ثالثة تضم مقالات برلين حول المفكرين العلمانيين إليهود في العصر الحديث.  أما كتاباته التاريخية ، فهي فئتان: تركز الأولى على افراد لعبوا ادوارا  استثنائية ، وتضم هذه الفئة ، إضافة لمن ذكر اعلاه ،  كلا من يوهان فيخته ، يوهان غوتفرايد هيردر ،  جورج سوريل ، فريدريك هيجل ، كارل ماركس ، جون ستيوارت ميل ، جيامباتيستا فيكو ، جوزيبي فيردي ، هنري دي سان سيمون ، جان جاك روسو ، فريدريك ماينيك،  إيمانويل كانط ، موشيه هز ، يوهان جورج هامن ، جوزف دي ميستر  ، واخرين. أما الفئة الثانية فتركز على الحقب والحركات الفكرية الكبرى والاتجاهات العامة في الفكر. ومن أبرز ما اجتذب اهتمام برلين في هذا الصدد ،  تيارات التنوير والمعادين لها ، الحركة الرومانتيكية ، إضافة إلى اشتراكية القرن التاسع عشر.

[43]  استمد برلين هذا التفسير لحركة التنوير وما تنطوي عليه من تعارضات ، في الغالب ، من أعمال المفكر الروسي بليخانوف حول تاريخ المادية.

[44] في دراسته لعصر التنوير حاول برلين تشخيص العناصر التي تتبنى توجها راديكاليا ، ماديا ، طبيعيا ، ونفعيا بين فلاسفة هذا التيار ، مثل كلود هلفتيوس ، بارون دي هيلباخ ، وجوليان دو لاميتري ، والاكثر اعتدالا مثل المركيز دو كوندرسيه. كما  حاول ضم شخصيات أخرى للحركة  ، مثل مونتسكيو ، جان جاك روسو ، فولتير ، إيمانويل كانط ، وديفيد هيوم. ويعتبر الاخيران من أوائل نقاد التنوير  ، مع انهما لم يقصدا القيام بهذا الدور.

[45] بين الذين يشملهم هذا الوصف جوزف دي ميستر (الذي وصف بانه رجعي كاثوليكي متطرف ، وأنه من آباء الفاشية الذي كتب رؤية للحياة شديدة الاقناع ، لكنها مظلمة ، وحشية ، مشحونة بطبعها بالشرور والعنف والرعب) ، وكذلك الفيلسوف الايطالي جامباتيستا فيكو ، الذي وصف بانه ناقد للعلموية ، إضافة لعدد من الفلاسفة الالمان السابقين للرومانتيكية ، الذين عارضو ا دعوى عقلانية التنوير وكونيته ، مثل يوهان هامن و يوهان هيردر. 

[46] Ramin Jahanbegloo, Conversations with Isaiah Berlin, Halban (London 1992), p. 70

[47] Jahanbegloo, ibid.

‎جدير بالذكر أن برلين استخدم مصطلح “العقلانية” و “العقلاني” في معاني متعددة ، ليست دائما متسقة أو متمايزة. الغموض الناتج عن هذا ‏الخلط لم يكن كبوة عرضية ، فهو يبدو عنصرا متكررا في رواية برلين لتاريخ  الأفكار. من ذلك مثلا انه يقرن “التنوير” ب ‏‏”العقلانية” ، من دون الاشارة إلى الميول التجريبية للعديد من مفكري التنوير  ، وتبعا لهذا رفضهم المبدأ الذي يشكل ركنا من ‏اركان “العقلانية” ، المبدأ القائل بان الفهم الصحيح للعالم ممكن فقط بواسطة العقل المحض. لقد استعمل برلين مصطلح العقلانية ‏في هذا المعنى (انظر مثلا برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، 30 ، أيضًا برلين: الحرية ، 249) لكنه في ‏احيان اخرى استعمل المصطلح مقترنا مع ما يمكن أن نسميه بالمادية ‏materialism‏ وبناء على هذا يمكن أن نعتبر ‏الكثير من العقلانيين تجريبيين ايضا.‎‏.‏‎ ‎

لو نظرنا لمفهوم “العقلانية” من زاوية أوسع ، فقد نراها عند برلين قرينة للرؤية الميتافيزيقية القائلة بان الواقع لايمكن ‏معرفته الا من خلال العقل الخالص. لأن الواقع يتطابق تماما مع املاءات العقل . ‏نضيف إلى هذا الرؤية الأخلاقية التي تقرن الحرية أو الخير أو الازدهار مع تقبل ما هو عقلاني والالتزام بمقتضياته. ‏ونعني بهذا القوانين العقلائية أو المباديء التي تحكم الواقع (برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، 29). نشير إلى أن برلين لم يميز بين الابعاد المعرفية ، الميتافيزيقة ، ‏والأخلاقية للعقلانية ، بل تعامل معها كمترادفات. وبناء عليه فان ما نعرفه هنا كعقلانية “أخلاقية” ، يعرفه برلين باعتباره ‏‏”القلب الميتافيزيقي للعقلانية”.‏‎ Isaiah Berlin: Liberty, ed. Henry Hardy, Oxford U. Press (London 2002), p. 190)ولم يرد هذا التعبير في النسخة العربية ، قارن السابق مع ص 255 من ترجمة معين الامام).

ياخذ برلين المسالة مسافة ابعد حين يقرب هذه العقلانية إلى الاحادية ، التي تكمن في “قلب جانب كبير من العقلانية الميتافيزيقية” (Isaiah Berlin: The Proper Study Of Mankind: An Anthology of Essays, Pimilco (London 1998), p. 117‎

اضافة إلى ما سبق ، استخدم برلين مصطلح “العقلانية” في الاشارة إلى نظرية سيكولوجية (سبق أن ‏اعتبرها سطحية ومبالغة في التفاؤل على نحو غير واقعي) نظرية فحواها أن الكائن الإنساني مدفوع اساسا ‏باعتبارات عقلائية ‏‎ (see e.g. The Lessons of History, 274–5‎‏ أو باعتبارات اسميناها هنا “علموية” ، ونقصد بها الاعتقاد ‏بان كل التجارب يمكن أن تجرى اعتمادا على مناهج العلوم الطبيعية. ويتصل بهذا أن كل المشكلات يمكن أن تجد ‏حلا بالرجوع إلى المعرفة أو الخبرات العلمية ‏‎( Isaiah Berlin: Freedom and Its Betrayal: Six Enemies of Human Liberty, Henry Hardy (ed.), Princeton U. Press, (New Jersey 2002), p. 128).‎

رفض برلين كل هذه الأشكال من العقلانية. لكنه كان – في الوقت ذاته – حريصا على ابعاد نفسه عما اسماه “مناهضة ‏العقلانية ‏anti-rationalism‏”. وفي هذا السياق يبدو كما لو كان يشير إلى الرؤية التي ترفض جذريا أي محاولة لفهم ‏منطقي للعالم ، وبالتالي جعل التجربة منطقية ، متسقة ، ويمكن التنبؤ بنهاياتها.‏‎(نظر مثلا برلين: الحرية ، 68). ربما صنف برلين نفسه بين هؤلاء الذين وصفهم بالعقلانيين المضطربين.‎‏ وقد بقي متعاطفا مع ‏التيار الاوسع “العقلانية النقدية” برغم شكوكه فيه. وهذا التيار كان متفائلا نوعا ما ازاء المستقبل الفكري ‏والأخلاقي للجنس البشري  (برلين: الحرية 137).

كما علق أمله في المستقبل الافضل على إيمان بقابلية الذكاء الإنساني ، وقدرته على انجاز فهم اعمق ‏للذات وتخفيف المشكلات المادية والاجتماعية التي تعترض حياة البشر. لقد كانت هجماته على الأشكال ‏المختلفة للعقلانية مدفوعة بالرغبة في فهم العالم ، كتمهيد لجعل الإنسان قادرا على التصرف العقلاني ، وهذا ‏الموقف يحتل مكانه ضمن تراث العقلانية بمفهومها الواسع والاقل تدقيقا في المسميات ، التيار الجامع للروافد ‏المجاورة والفرعية ، وفق ما كتب برلين اكثر من مرة.‏

ان استخدام برلين الملتبس لهذا المصطلح الرئيسي يمثل درسا واقعيا عن مخاطر الوقوع في نمط راسخ من الاستعمالات ‏الاصطلاحية غير المعيارية ، وهو درس كان برلين قد اشار إليه حين تحدث عن استغلال اعداء الحرية لاحد تمثيلاته ، حين ‏استغلوا غموض مفهوم الحرية في “انتحال بشع” لهذا المبدأ من اجل نقيضه.  (برلين: الحرية ، 244)

[48] إزيا برلن: ضلع الإنسانية الأعوج ، فصول في تاريخ الأفكار ، المركز القومي للترجمة (القاهرة 2013) ، ص. 30

[49] ازيا برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، صص 27-28

[50] استعمل برلين مصطلحات مثل “القيم” ، “المثل”، “الغايات” ، “المباديء” ، “الخير” ، “المطالب” ، و “الاهداف” على نحو تبادلي نوعا ما ، بحيث يمكن لبعضها أن يحل محل الآخر.

[51]  برلين: ضلع الإنسانية ، ص 47

[52] Isaiah Berlin: Three Critics of the Enlightenment: Vico, Hamann, Herder, Henry Hardy (ed.), Pimlico; (London, 2000) p.245, note. 1

[53]  برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، ص 247

[54] يشير  برلين هنا إلى الشاعر الانكليزي جون كيتس (1795-1821) من شعراء الحركة الرومانتيكية ، والكلمة المشار إليها هنا هي البيت الاخير من قصيدة له ” “Beauty is truth, truth beauty, —that is all / Ye know on earth, and all ye need to knowومعناها الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال هذا ما تعرف وهو كل ما تحتاج لمعرفته. والفقرة الأولى هي المشار إليها في حديث برلين ، عن كون الحقيقة والجمال شيئا واحدا  ، أو على الاقل انهما قيمتان متوافقتان. حول الشاعر انظر ويكيبيديا  (2020-08-08) https://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=&oldid=49601325 – حول القصيدة ، انظر  https://www.faena.com/aleph/articles/beauty-is-truth-truth-beauty-revelations-from-john-keats/

[55] برلين: الحرية ، 282

[56] برلين: الحرية ، 282

[57] مفهوم “المعاناة القصوى” يشير إلى المعاناة الإنسانية التي لا يمكن التعويض عنها  بأي لذة مناظرة. ويذكر مثلا الهولوكوست أو القصف النووي على هيروشيما. وأمثال هذه المآسي ، التي لا يمكن – أخلاقيا – أن تكون موضع مفاضلة أو اختيار  ، مهما كان البديل المطروح في الجهة المقابلة. وقد تطورت الفكرة من خلال نقاشات الفلسفة النفعية ، ولاسيما المفاضلة بين درجات الألم واللذة أو السعادة ، التي توصف احيانا بالمنفعة السلبية مقابل الايجابية. لبعض التفاصيل حول الفكرة ، انظر : Wikipedia: ‘Negative utilitarianism’, https://wikipedia.org/w/index.php?title=Negative_utilitarianism

[58] Henry Hardy (editor): ‘Pluralism’, The Isaiah Berlin Virtual Library (IBVL),  http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/pluralism/index.html

[59] برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، ص 35

[60] Isaiah Berlin: The power of ideas, ed: Henry Hardy, Princeton U. Press (Princeton 2000), pp 7-11

[61] James F. Stephen: Liberty, Equality, Fraternity, Smith, Elder & Co (London 1873).

[62] See Max Weber: ‘The Meaning of Ethical Neutrality in Sociology and Economics’, in M. Weber: The Methodology of the Social Sciences, E. Shils and H. Finch (trans. and eds), Free Press, (Glencoe 1949), esp. pp. 17-18

[63] See for instance, William  James: ‘The Moral Philosopher and the Moral Life‘, International Journal of Ethics, Vol.1 April 1891, pp. 330–354. https://archive.org/details/jstor-2375309/page/n1/mode/2up

[64] John Dewey: ‘The Virtues’, in J. Dewy & J. Tufts: Ethics, Holt. (New York 1908), pp 399-424

[65] Hastings Rashdall: The Theory of Good and Evil, vol. 2, London: Oxford U. Press (London 1907). Chapter 2, pp 37-60.

[66] Sterling P. Lamprecht: ‘The Need for a Pluralistic Emphasis in Ethics’ The Journal of Philosophy, Psychology and Scientific Methods, Vol. 17, No. 21 (Oct. 7, 1920), pp. 561-572

[67] Michael Oakeshott: Rationalism in Politics and Other Essays, chapter 1, pp. 1-36

[68] Isaiah Berlin: ‘Some Procrustations’, Oxford Outlook 10 no. 52 (May 1930), 491–502

 http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/singles/bib3.pdf

[69] في رسالة بتاريخ 30 نوفمبر 1933 ، كتب برلين “انا اقرأ الفيلسوف ماليبرانش ، الذي يقول انه قد يمكن ايجاد عالم افضل من عالمنا. لكنه سيكون معقدا جدا بالقياس إلى عالمنا القائم. كون الله خيرا ، وانه في الوقت ذاته راغب في منحنا هذا العالم المعقد ، أوجب هذه المساومة بين البساطة والخير ، وهو – ماليبرانش – يعتقد انهما غير متوافقين (وهذه رؤية غريبة وملفتة). نتاج تلك المساومة  هو عالمنا البائس. ولو قلنا أن عالمنا هو الافضل بين كل العوالم المحتملة ، فكيف سيكون حالها اذن” .  “Isaiah Berlin: Letters, 1928-1946, edited by Henry Hardy, (Cambridge Uni. Press, 2004)  v.1, p. 72”

نشير إلى أن الفكرة التي نسبها برلين إلى ماليبرانش ، وردت في كتاب “الطبيعة والنعمة – 1680” وترجم إلى الانكليزية بنفس الاسم “Nicolas Malebranche, Treatise on Nature and Grace, Translated by Patrick Riley (Oxford Uni. Press 1992)

ويبدو أن الفكرة التي يعرضها برلين هنا تتجاوز الحدود التي يشير إليها ماليبرانش في الكتاب المذكور. لذا فمن المحتمل انه نقل الفكرة من نص آخر لم نصل إليه.

[70] Isaiah Berlin: ‘Utilitarianism’, (around 1973), The Isaiah Berlin Literary Trust (May 2002), pp 1-27, http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/nachlass/utilitarianism.pdf

[71]  ايزايا برلين: “الحتمية التاريخية” ، في ايزايا برلين: الحرية ، مرجع سابق ، صص 145-225

[72] Isaiah Berlin, Conversation with Stuart Hampshire, Iris Murdoch and Anthony Quinton, ‘Philosophy and Beliefs’, p.12, The Isaiah Berlin Virtual Library, (Accessed Sep. 17, 2020) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/singles/PhilosophyandBeliefs.pdf 

[73] Michael Ignatieff: Isaiah Berlin: A Life, Chatto and Windus (London 1998), p. 246

[74] المحاضرة منشورة في كتاب برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، صص 27-46

[75] تجنب برلين الرد العلني على هجوم ليو شتراوس القوي والمباشر ، لكنه قدم جوابه في رسالة إلى هاري جافا في 1992  

 (see: More explaining: Isaiah Berlin on His Own Ideas, p 47, (accessed 17, Sep., 2020) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/a/more-explaining.pdf).

كما أجاب على انتقادات ارنالدو  موميجليانو  (انظر برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، صص 97-118). كان موميجليانو  قد فسر قراءة برلين لفيكو وهيردر ، على انها مساواة بين النسبية والتعددية. وكان برلين حريصا على رسم خط واضح بين المبدأين. لكن الجدل لم يتوقف ، وقد واصل معارضوه تكرار التهمة ، كما واصل مؤيدوه نفيها.

[76] Martin Hollis: ‘Is Universalism Ethnocentric?’ in C. Joppke & S. Lukes (eds), Multicultural Questions, Oxford U. Press.( Oxford 1999).

[77] Steven Lukes: ‘Making Sense of Moral Conflict’, in Liberalism and the Moral Life, N. Rosenblum (ed.), Harvard U. Press (Cambridge, MA 1991) pp. 127-142

[78]Michael Oakeshott: Rationalism in Politics and Other Essays, Basic Books (New York 1962), p. 125

[79]  “النسبية الثقافية” واحدة من أشهر أشكال النسبية. وفحواها أن كافة القيم ولدت على ارضيات ثقافية / حضارية خاصة ، وهي – بالضرورة – مشروطة بشروطها ، وصالحة ضمن اطارها ومن أجله ، وليس – بالضرورة – لأي ثقافة أو حضارة اخرى. في بعض الاحيان كان برلين يبدو وكانه يقول بهذا الرأي.

ثمة فرضية تمثل ارضية لمعظم الاراء القائلة بالنسبية الثقافية ، خلاصتها أن الثقافة شاملة ، بمعنى انها تشكل المضمون أو المحرك لمعظم جوانب الحياة في المجتمعات (لاسيما المجتمعات غير الصناعية) ويظهر تأثيرها في القيم والعلاقات والدين والشعور القومي والسياسة .. الخ. حين تقرأ برلين تشعر انه يدعم هذه الفرضية ، بينما ينكرها في احيان اخرى.

وفقا لهذه الفرضية فان الثقافة تمثل كونا موحدا ومستقلا بذاته ، انه اقرب إلى شبكة تربط بين معتقدات الجماعة ، وتشكل نوعا من المحيط الذي يمنع اعضاء الجماعة من التمييز بين معتقد وغيره أو  الاختيار فيما بينها ، أو نقدها أو الحكم عليها. ليس بالوسع الجزم بما اذا كان برلين يدعم هذه الرؤية ، أو إلى أي حد ، وباي طريقة. لكن ثمة رأي شائع ، يتبناه عدد من المفكرين ، لعل ابرزهم ستيفن لوكس ، فحواه أن السبيل لانقاذ التعددية من منزلق الاختلاط بالنسبية ، هو انكار فرضية الثقافة الشمولية  أو المهيمنة ، والذي يؤكد لوكس انه مفهوم خاطيء من الاساس.

See, Steven Lukes: ‘The Singular and the Plural: On the Distinctive Liberalism of Isaiah Berlin‘, Social Research, Vol. 61, No. 3, (FALL 1994), pp. 687-717

إن نقد لوكس لفرضية الشمولية الثقافية ، وفصله للتعددية عنها ، أمران مقبولان. لكن ليس من الضروري أن يترتب عليه القول بقيم أو معايير كونية تتجاوز جميع الثقافات. خاصة مع الاخذ بعين الاعتبار أن القول بالتعددية ، يتضمن في ذاته القول بامكانية التعارض بين تلك القيم. من المفهوم طبعا أن انكار الشمولية الثقافية ، يزيح عقبة اساسية تعترض القول بامكانية وجود قيم معينة فوق الاختلافات الثقافية ، أي كونية عابرة للثقافات. هذا سيكون سهل المنال اذا اقررنا بفرضية أن الثقافات الوطنية ليست مكتفية بذاتها ، وليست بالضرورة منغلقة على اطارها الاجتماعي وتجربتها التاريخية. من البديهي أن الثقافات قد تتعارض. لكن ثمة معتقدات وقيم تحصل على نفس القدر من الاحترام في غالب الثقافات ، كما أن لها نفس الدور والانعكاسات بدون فرق جوهري بين ثقافة واخرى. أن العقائد والقيم التي تدعم بشكل مباشر مصلحة الإنسان ورفاهيته ، تشكل مورد اجماع واحترام عبر المجتمعات الإنسانية. ومن بينها على سبيل المثال الاعتقاد بان الطبيعة الإنسانية كونية ، أي أن كل ثقافات العالم تتفق على أن الإنسانية شيء واحد ، وانه لا فرق بين إنسان وإنسان في طبيعته ، وأمثالها من العقائد والقيم العالية والكلية.

[80]  برلين: الحرية ، ص 286

  [81] حول استعمال ايزايا برلين لتعبير plumping ودلالته ، في سياق شرحه لمفهوم تفرد القيم ، انظر  The Isaiah Berlin Virtual Library. راجعته في 30-8-2020   http://berlin.wolf.ox.ac.uk/information/a-z.html#plumping

[82] For a detailed account on the topic, see Nien-hê Hsieh: ‘Incommensurable Values’, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Jan-2016), https://plato.stanford.edu/entries/value-incommensurable/

[83] يمكن – مع شيء من التبسيط – تلخيص نقد غراي لليبرالية في ثلاث حجج رئيسية: الأولى أن الليبرالية مذهب ذو منطلق أحادي ويدعي كونه مطلقا. ذلك لانه قائم على أرضية تعطي أولوية سياسية/أخلاقية للحرية باعتبارها قيمة سياسية عليا. (ينبغي التذكير هنا بأن ايزايا برلين رفض بصراحة هذا الزعم). اذا كانت القيم متفردة حقا ، فان تلك الفرضية غير ممكنة. الحجة الثانية أن الليبرلية تمثل نظاما قيميا أو طريقة حياة محددة ، بين العديد من النظم وطرق الحياة المناظرة. فاذا اخذنا بعين الاعتبار القول بان مفهوم التعددية ينصرف إلى معنى انماط حياة ، انظمة قيم ، ثقافات.. الخ ، أي اننا لم نصرفها حصرا لى معنى تعددية القيم المفردة ، عندئذ فان الليبرالية سوف تكون مجرد نظام واحد ، بين أنظمة متعددة ، صالحة لكنها متعارضة ، من دون أن يكون لأحدها فوقية أو اولوية على الاخريات.

بناء على هذا ، فإن المؤمنين بالليبرالية وهم يعيشون في مجتمعات ليبرالية ، أحرار في تبني هذا المذهب والالتزام بقيمه. لكنهم لا يملكون الحق في الزام الآخرين بذلك المذهب أو هذه القيم ، ولا في اعتبار انفسهم متفوقين ، أو أن طريقتهم في ادارة حياتهم هي الأفضل. أخيرا يدعي جراي أن تاريخ الليبرالية يظهر انها تعاملت مع نفسها كمذهب كوني ، وادعت بالفعل أنها متفوقة على كل انماط العيش الاخرى في كل مكان وزمان. من هنا فان قبول الليبراليين للتعددية ،  سوف يعني بالضرورة قبولا بكون الليبرالية ، مجرد طريقة من طرق حياة عديدة متساوية في القيمة. وعندئذ فانه يجب التخلي عن احد الاهداف المركزية لليبرالية الكلاسيكية ، وهو تحولها إلى نظام متبع في كافة ارجاء المعمورة. ونشير اخيرا إلى أن جميع هذه الحجج قابلة للتفنيد اعتمادا على مناقشات برلين.

[84] جادل جالستون بأن التعددية والليبرالية متوافقان ، أن لم نتعامل مع أي منهما باعتباره مذهبا شاملا تماما. وهو يعتقد أن بالوسع وضع صيغة لنظام سياسي ، يجمع بين الليبرالية والتعددية في أن واحد. من ناحية اخرى قال كراودر ، في مناقشة هي الأكثر منهجية ودقة للموضوع حتى الآن ، أن تفسير جراي لتعددية القيم ، ينطوي على افتراضات واستنتاجات تجعله اقرب إلى النسبية منه إلى تعددية القيم. ذلك أن التعددية الحقيقية تتقبل الإيمان بوجود حد أدنى من القيم الإنسانية ، يتصف بانه كوني وعابر للثقافات وانماط الحياة.

اقترح كراودر كذلك أن الليبرالية وتعددية القيم يدعمان بعضهما البعض ، بقدر ما يتطلب التفكير الأخلاقي الفعال – في ظل ظروف تعددية – ممارسة بعض الفضائل (مثل الكرم واتساع الأفق والمرونة والاعتدال والاهتمام بالقيم والمواقف والأشخاص). ويرى كراودر أن هذه الفضائل ليبرالية أو انها محل تبجيل من جانب الليبرالية. إضافة إلى أن الإيمان بتعددية القيم ، تعطينا سببًا آخر لتفضيل النظم الاجتماعية التي تتيح تنوعا أوسع  للقيم ، وفرصة أكبر للأفراد للاختيار من بين تلك القيم. ونعلم أن مجتمعات تحمل هذه الصفة ، هي – في الحقيقة – مجتمعات ليبرالية.

[85] Michael Walzer, ‘Are There Limits to Liberalism?’, New York Review of Books, 19 Oct. 1995, pp.28–31. Cited in William Galston: Liberal Pluralism: The Implications of Value Pluralism for Political Theory and Practice, Cambridge U. Press, (Cambridge 2002), p 61.

[86] See Ian Carter, “Positive and Negative Liberty”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2019), https://plato.stanford.edu/entries/liberty-positive-negative/

[87] يرجع التمييز بين المفهوم الايجابي والسلبي للحرية إلى إيمانويل كانط على اقل التقادير. وقد ظهر بهذه الصورة أو شيئا قريبا منها في أعمال توماس غرين، برنارد ‏بوسانكويت ، وبوريس شيشرين. واستعمله في زمن اقرب غويدو دي روجيرو ، روبين كولينجووود ، جون بتروف بلاميناز ، دوروثي فوسديك ، واخرون. وقد أقر برلين ‏بانه تأثر بعمق بحديث بنيامين كونستانت عن “حرية القدماء كمناظر لحرية المحدثين” بل اعتبره المؤثر الرئيسي على تفكيره. يمكن – علاوة على هذا – نسبة جانب من ‏من الفضل إلى تمييز جان جاك روسو بين “حرية الإنسان” و “حرية المواطن” ، فضلا عن تمييز روسو نفسه ومفكرين معاصرين له أو سابقين ، بين الحرية الطبيعية ‏والحرية الأخلاقية.‏

[88] في شرحه لفكرة الاستقلال أو القابلية للسيطرة على الذات ، يستشهد برلين بالموعظة الرواقية الداعية لضبط النفس والزهد ، كوسيلة لمقاومة الاغراء المادي ، وصون النفس من الوقوع في شرك الفساد الذي تمده السلطات الأرضية المهيمنة. كما يستشهد باصرار جان جاك روسو على أن المجتمع لا يبقى عادلا ، الا اذا حافظ الناس على حرياتهم ، من خلال تحويل الحق الفردي في حكم الذات (وهو السائد في مجتمع الحالة الطبيعية) إلى الهيئة التي تمثل جميع الناس ، حيث يصبح الجميع محكوما وشريكا في الحكم ، في الوقت ذاته. وحينئذ تصبح طاعة الدولة المدنية مقاربة نوعا ما لطاعة الذات. فالطاعة هنا ليست خضوعا بقدر ما هي صورة اخرى للحرية في اطار القانون ونظام المدينة. استشهد برلين إضافة إلى هذا  بفلسفة الاستقلال الأخلاقي عند كانط ، والتي فحواها أن الحرية والكرامة التي لا يمكن نزعها من الفرد ، تكمن في حقيقة أن الفرد ملتزم في سلوكه بقانون أخلاقي قائم بذاته (أخلاق الواجب). ومن هنا يعترف به ككائن لا يتكل على احد ، بل مستقل بنفسه وقادر على الاختيار الحر.

كان برلين متعاطفا إلى حد بعين مع رؤية كانط السابقة ، رغم اعتقاده انها تسببت في اخطاء جوهرية. ويقر برلين أن النموذج الرواقي المذكور اعلاه اكثر إثارة للاعجاب ، لكنه وجده قائما على نوع من التلاعب بالالفاظ. بيان ذلك: أن المرء قد يكون اقل حاجة إلى الاخرين ، اذا ما نبذ الميول الغريزية والشهوات والاغراءات ، وبالتالي اكثر قدرة على التحكم في حياته ، وعدم الاتكال على الغير في أي شيء. وربما كان من المفيد للإنسان أن يفعل هذا الشيء في ظروف معينة. لكن ثمة حقيقة مغفلة هنا ، وهي أن الإنسان قد يفعل كل تلك الامور فيمسي أقل حرية مما كان ، أو انه على الاقل لا يزداد حرية ، لأن الزهد والتحكم في الذات لا يزيل القيود (سيما القيود خارج الذات) التي تمنع الإنسان من التصرف بحرية حقيقية.

[89]  ايزايا برلين: الحرية ، ص 244

[90] انظر : رسالته إلى جورج كنان (1951) ، في  برلين: الحرية ، صص 429-438

[91]  ثمة انطباع فحواه أن حجة برلين الأولى أقوى من الأخيرة. لأنه قد يقال أن احد المعاني المحتملة لتعارض القيم ، هو  أن اتخاذ القرار امر لا مفر منه ، بل هو يمثل جانبا كبيرا من حياة البشر. لكن هذا ليس مبررا كافيا ، لجعل اتخاذ القرار شيئا قيما جدا ، بل ومركزيا لكرامة الإنسان وتحقيق ذاته. اذا كان اتخاذ القرار ينطوي على خسائر فادحة (وهو ما تحدث عنه برلين اكثر مرة) فان الإنسان قد يميل إلى التهرب من مواجهة العسر والألم المقارن للاختيار واتخاذ القرار ، بدل الفخر بالاقدام عليه. يقول برلين: أن العالم الذي نعيشه يضعنا كل يوم ، امام تجربة الاختيار بين غايات كبرى متساوية في القيمة والاهمية…. حالة كهذه تجعل من غير الممكن اخذ احداها دون التضحية بالاخرى. الحقيقة أن هذا العسر هو الذي جعل البشر يضفون قيمة استثنائية على حرية الاختيار. لانه لو كان لدى الإنسان  يقين بانه ، في حالة  ما من حالات الكمال ، لن يكون ثمة تعارض بين الغايات التي يسعى إليها الإنسان ، فان ضرورة الاختيار وما يترتب عليه من عسر والم سوف تختفي من الوجود ، وستختفي معها أيضًا الاهمية المحورية لحرية الاختيار.  (برلين : الحرية ، 282)

ربما لم يطرح هنا شرح مسهب للعوامل التي بموجبها اعتبرت “حرية الاختيار” عالية القيمة.  لكن ليس من الصعب أن نقرأ هذا بين السطور. اننا نسعى وراء الغايات الكبرى لأنها ذات أثر بالغ الاهمية في تحقيق الرفاهية في حياتنا. من هنا فان الاختيار بين القيم القائم على ارضية التعددية ، يعد وسيلة لتحقيق الذات. لا يمكن تفويضه إلى الخبراء ، لان العلاقة الوثيقة بين الاختيار وتحقيق الذات توجب أن يتولى الاختيار الشخص المعني وصاحب المصلحة مباشرة ، لأنه الوحيد الذي يستطيع الاحاطة بالاطار العام الذي تجري فيه المفاضلة ، بين الغايات والثمن الذي سيدفع مقابل كل منها ، وصولا إلى تحقيق غاياته الاكثر تمثيلا لحقيقة ذاته.

[92] See George Crowder: ‘Pluralism, Relativism and Liberalism in Isaiah Berlin’, The Berlin Virtual Library, (2003) berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/onib/crowder/IBVPREL2003.pdf

[93] برلين: الحرية ، صص 270-271

[94] انظر الفصل الخاص عن جون ستيوارت ميل ، في ايزايا برلين: الحرية ، مرجع سابق ، صص 289-328

[95] برلين : الحرية ، 270

[96] برلين : الحرية ، 270

[97]  كان موقف ايزايا برلين من الحركة الصهيونية موضع جدل. وقال ناقدوه أن تعاطفه مع الحركة ، قاده إلى غض الطرف عن الظلم والتأييد الضمني للشوفينية الاسرائيلية.  لم يكن الامر على هذه الصورة في الواقع. كان تعاطف برلين يتعلق بالجانب الإنساني ، كما استند إلى قناعاته الليبرالية. فمن جهة آمن بضرورة الوطن إليهودي وعدالة هذا المطلب ، ومن جهة اخرى عارض العنف والعدوان والشوفينية القومية اينما ظهرت. وادى نفوره من الراديكالية السياسية إلى دعم حاييم وايزمان ، السياسي الاسرائيلي المعتدل والموالي لبريطانيا ، في مواجهة القادة الاكثر تطرفا مثل ديفيد بن غوريون ، حتى بعدما ظهر أن استراتيجية بن غوريون كانت اكثر فعالية في  تحقيق هدف اقامة الدولة إليهودية. في وقت لاحق اتخذ برلين موقفا ناقدا بهدوء ولكن بحزم ، وفي بعض الاحيان بعنف ، لكتلة الليكود والسياسة الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة ، ودعم “حركة السلام الان” ، كما دعم حل الدولتين. (1997) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/information/israelandthepalestinians.html

[98] See for example, Isaiah Berlin: Personal Impressions, ed: Henry Hardy, Hogarth Press (London 1980)

[99] Isaiah Berlin: The sense of Reality, Pimlico 1997, p. 43

[100] ibid., 56

[101] ibid., 57

[102] كان برلين يشعر بالقلق من أن تؤول السلطة إلى البيروقراطيين والتكنوقراط ، الذين يجمعون بين الاستبداد بالرأي وعدم الاحساس بالواقع ، هؤلاء الذي كان ستالين قد اطلق عليهم اسم “مهندسي النفوس البشرية” . انظر مثلا برلين: الحرية ، ص 131 ، الحاشية 1.

[103] Isaiah Berlin: Concepts and Categories, Viking, (New York 1979), pp 164-165

[104] الذي جذب برلين إلى هيرزن هو حسه الساخر وعاطفته الأخلاقية الجياشة. لكن كان من الغريب أن ان الأكاديمي البريطاني وجد نفسه متماهيا مع أرستقراطي روسي تحول إلى ثوري متجول. اشترك الرجلان في الشغف بالحرية ، والشك في السلطة ، ومعارضة الظلم. لكن الذي جذب برلين بقوة إلى هيرزن كان معارضة الأخير الشديدة لعقيدة الحتمية التاريخية ، وما يرتبط بهذا الموقف من أخلاق سياسية.

[105] ايزايا برلين: ضلع الإنسانية الاعوج ، ص 42

[106] Berlin: Russian Thinkers, (2003) p. 194

[107] يمكن الاشارة إلى اتجاهين في دراسة ما يعرف ب “الواقعية السياسية”.يركز الاتجاه الأول على مفهوم “الواقعية” في اطار العلاقات الدولية. وفقا لهذا الاتجاه ، فان (1) كل دولة في النظام الدولي مدفوعة أساسا بالسعي لتوسيع نفوذها وضمان امنها منتهديد الدول الاخرى. هذا المسعى قد يضعها في منافسة مع دول اخرى تسعى في الاتجاه نفسه.

 (2) ينبغي لحكام الدول أن يضعوا مصلحة دولتهم ورفاهيتها (اي قوة الدولة وأمنها) كهدف رئيس لسياساتهم. (3) ستسعى الحكومة لضمان سيطرتها على الأراضي الواقعة ضمن سيادتها ومن يسكنها من الرعايا ، وإخضاع أي منافس أو حتى القضاء عليه. و (4) تملك الحكومات الحق في القيام بالمهمات السابقة الذكر. وفقا لوجهة النظر هذه ، فان السياسات العامة والنشاطات المرتبطة بها تستهدف تأمين وتوسيع سلطة الدولة ؛ الدولة هي الوحدة السياسية الاساسية وهي تتمتع بقيمة عليا. وبناء على هذا فان التفكير في السياسة يمنح الدولة أولوية على المستوى التحليلي والمعياري. عالم السياسة عالم منافسة (عنيفة في بعض الأحيان) والحصول على السلطة هو الهدف المركزي للفعل السياسي.

اما الاتجاه الثاني في دراسة “الواقعية السياسية” فيبدأ من تصور  للطبيعة البشرية والديناميات الاجتماعية فحواه انهما محكومان بالتنافسية والغرور والخوف والعدوان والأنانية والعقلانية المنتقصة. بناء على هذا فان هذا الاتجاه يتعامل مع السياسة كحقل للصراع ، وينظر للسلطة والنظام السياسي باعتبارهما قائمين على مزيج من القوة والخوف والاعتقادات الزائفة ، وليس على القناعات الأخلاقية أو الرضا العام. حول تاريخ الواقعية ، وتعددية معانيها ، انظر Meinecke 1957 ؛ بيو 2015 ؛ McQueen 2017. حول “الواقعية” في النظرية السياسية الحديثة انظر.

William Galston: ‘Realism in Political Theory’, European Journal of Political Theory, (Oct. 2010): pp. 385–411

https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/1474885110374001

[108] برلين: الحرية ، 223

[109] Berlin: Russian Thinkers, (2003), p. 299

[110]   ازيا برلن: ضلع الإنسانية الاعوج ، 43

[111]  برلين: الحرية ، 431

[112] Isaiah Berlin: Russian Thinkers, Henry Hardy and Aileen Kelly (eds), Penguin, 2003, p. 258

[113] See for example, Roger Hausheer: ‘introduction’ to I. Berlin: Against the Current: Essays in the History of Ideas, Henry Hardy (ed.), 2nd ed., Princeton U. Press, (Princeton 2001), pp. xiii-Liii

[114] See for instance, Christopher Hitchens: ‘Moderation or Death’, London Review of Books, Vol. 20 No. 23, (26-Nov- 1998), https://www.lrb.co.uk/the-paper/v20/n23/christopher-hitchens/moderation-or-death

[115] من بين المفكرين البارزين الذي اتخذو ا موقفا مماثلا لموقف برلين  ، نذكر ريموند ارون ، دانييل بل ، نوربرتو بوبيو ، مايكل اوكيشوت ، كارل بوبر ، وارثر شليسنجر  جونيور .