مجلة حكمة
التراث الرشدي

إعادة نشر وتحقيق المتن الفلسفي الرشدي – كمال عبد اللطيف


يشكل التراث الرشدي في تاريخ الفلسفة حلقة هامة ضمن مشروع تطور النظر الفلسفي في التاريخ. وهو يكتسي أهمية خاصة. في دائرة الفلسفة الإسلامية، كما يتبوأ موقعا له دلالاته المتعددة، في مجالات الوصل الحاصلة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأوروبية في عصر النهضة.

ورغم الجهود التي بذلت ومازالت تبذل لقراءة وإعادة قراءة التراث الرشدي . فإن أعمال الرجل ما تزال في حاجة إلى الدراسة والتأويل، لمعرفة الأبعاد التي اتخذتها ضمن صيرورة تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام.

ولم يكن أمرا مستغربا أن يتبنى مركز دراسات الوحدة العربية، مشروع إعادة نشر أعمال ابن رشد بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاته. فقد عمل هذا المركز وما زال يعمل على تدعيم كل ما يساهم في بلورة الروح القومية ومن منظور عقلاني.

يتعاون مع المركز في الإنجاز الباحث الدكتور محمد عابد الجابري، وذلك بإشرافه على الجوانب العلمية للمشروع، يساعده في ذلك فريق من الباحثين. وكما جاء في تقديم المشروع، فإن الاحتفاء بالذكرى المذكورة، يتمثل في إعادة نشر المؤلفات الرشدية الآتية:

فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال

الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة

تهافت التهافت

الكليات في الطب

– جوامع سياسة أفلاطون وهو كتاب ضائع، وتجري عملية ترجمة نصه العبري إلى اللغة العربية.

مع احتمال إصدار مصنفه الفقهي “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”.

قد يتساءل البعض ما جدوى إعادة نشر المؤلفات الرشدية؟ يجيب المشرف على المشروع مبررا الجدوى من إعادة النشر، في افتقار الطبعات المتداولة لشروط النشر المقبول. إضافة إلى كون هذه الطبعات تعاني مما أطلق عليه “أزمة الفهم” على مستوى العبارة ومستوى قصد المؤلف (ص 7).

لهذا السبب يتجه مشروع النشر الجديد إلى تدارك مختلف أشكال القصور، الحاصلة في المؤلفات الرشدية المطبوعة.

نحن إذن أمام مشروع كبير، مشروع يستحق أن يكون قدوة ونموذجا يعمم على جبهات متعددة في التراث ويشمل أعلاما من مختلف قطاعاته المعرفية. وذلك بالصورة التي تحقق تجديدا وتطويرا في مجالي إعادة نشر، وإعادة قراءة التراث العربي الإسلامي.

وقد صدر في نهاية سنة 97 المؤلف الأول ضمن سلسلة المؤلفات التي ذكرنا، نقصد بذلك فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة، والحكمة من الاتصال، وبصدوره انتقل المشروع من عتبة المأمول المخطط له والمبرمج الصدور، إلى مستوى الإنجاز الفعلي. وقد أتاح لنا صدوره معرفة طبيعة المشروع في مستوى التنفيذ والإنجاز.

لا يتعلق الأمر في هذا العمل بإعادة نشر تكتفي بطباعة المؤلف مع تقديم يعرف بمحتواه في حدود ما هو معهود في تقديم الكتب التراثية، عند إعادة نشرها. ففي العمل الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، نتعرف على أسلوب جديد في العناية بـ التراث الرشدي .

فقد ضم الكتاب مدخلا عاما ومقدمة تحليلية، ونصا يتوخى تجاوز نواقص الطبعات السائدة والمعروفة، مع عمل في التحقيق يتجه لإضاءة مختلف جوانبه اللغوية، الفكرية، وشروح تتابع سياقات النص المختلفة، وتهتم بتجلية كثير من أبعادها، بل أكثر من ذلك، يقدم النص من خلال عمليات تقطيع، تساعد على إدراك محتواه، وإدراك مستويات تدرجه، في معالجة القضايا التي يتجه للإحاطة بها.

ودون الدخول في تقديم مفصل لمحتوى المدخل العام والمقدمة التحليلية للنص، وكذا مقدمة عضو فريق العمل الأستاذ محمد عبد الواحد العسري، نشير إلى أننا أمام عمل يتسم بالجدية، وهو عمل سيقدم خدمة كبيرة للمشتغلين بقارة التراث العربي الإسلامي، متى استمر على نفس الشاكلة، وبنفس قوة وعمق الإصدار الأول، الذي نحن الآن بصدد التعريف به، والتعريف بالمشروع من خلاله.

وإذا كان كتاب فصل المقال، يبحث في موضوع العلاقة بين الدين والفلسفة، فإن المدخل التحليلي للمشروع قد اتجه لتوضيح الأسئلة والإجابات الرشدية، من خلال قراءة تعتمد تصوره لطبيعة التراث الرشدي ، وذلك استنادا إلى جهوده الفكرية السابقة في قراءة الفلسفة الإسلامية، وفي نقد العقل العربي. وهو الأمر الذي يحول مداخل صاحب المشروع، إلى مناسبة لتوضيح وتطوير وإعادة بناء تصوره لإشكالات الفلسفة الإسلامية، مع الامتياز الذي تمنحه مسألة الاعتماد على النصوص مباشرة، بل الاعتماد على مؤلفات بعينها.

أما المقدمة التحليلية، فقد جاءت في صورة إعادة إنشاء لمحتوى النص، وهي إعادة يمارسها باحث متشبع بالنص الفلسفي في التراث الرشدي . وقد جاءت هذه المقدمة في حجم يفوق حجم النص المقدم، واشتملت على عناوين فرعية مدققة في محتواه، بصورة تعتمد آلية الاستماع إلى النص، وآلية استنطاقه في ضوء أسئلة الباحث، المتجه لإعادة بناء القضايا الرشدية في علاقاتها المتعددة بزمانها، وعلاقاتها المتعددة بالأزمنة التي تلتها بما في ذلك أسئلته هو، أي موجهات فهمه النظرية التاريخية العامة.

من أبرز النتائج التي يقف عليها الباحث ويشير إلى موضوعها في غلاف الكتاب مسألة علاقة الدين بالمجتمع، وهو يوضحها كما يلي:

“واضح أن القضية الجوهرية المطروحة وراء كل ذلك، هي مسألة العلاقة بين الدين والمجتمع. إن “التأويل” لا يكون بدون دافع ولا بدون هدف: التأويل عندما يفشى للجمهور لا يكون الغرض منه في العادة إرشاد الناس إلى الحقيقة الدينية، بل هو نشر لفكر معين ودعوة للناس إلى اعتناقه ضدا على تأويل آخر سائد أو جديد، والدافع لكل ذلك كسب الأتباع والأشياع، بهدف الحصول على النفوذ والسلطة.

بكلمة واحدة: التأويل عملية سياسية، أو قل: ممارسة للسياسة بواسطة الدين، لغته وأحكامه، فإن “التأويل” للنصوص الدينية، أعني فرض نوع معين من الفهم لها، كان هو الوسيلة الاجتماعية التي تمارس بها السياسة فكريا وأيديولوجيا، ضدا على الخصم السياسي، دولة كان أو معارضة” (ص 75-76).

نحن إذن أمام عمل نوعي في بابه، ولعل مبادرة المركز غير مسبوقة، خاصة وأنها تؤسس مشروعها على مبدأ في العمل الجماعي، نتمنى أن يتواصل بأشكال مختلفة، ليباشر إعادة قراءة المنتوج التراثي بما يساهم في تفكيك محتوياته والتفكير فيه بصورة نقدية.

ما يؤسس قوة هذا المشروع في نظرنا، هو اعتماده على دارس متخصص في المجال التراثي، دارس تدرج أبحاثه التراثية ضمن إشكالات الراهن العربي، لتحقق نوع من التجاوب، يتضمن كثيرا من الجهد في الفهم والمقاربة، إضافة إلى مسعاه التحديثي الرامي إلى توظيف التراث في معارك الحاضر، حتى لا تظل مقاربات “تراثية” بعينها هي السائدة والمهيمنة.

تتضمن إعادة النشر بطريقة غير مباشرة، ميثاقا بين المشرف العلمي على المشروع ومركز دراسات الوحدة العربية، ومعناه أن المركز يعلن تبنيه لجهود الجابري في مقاربة الظاهرة التراثية وإشكالاتها، وهذه المسألة جديدة في فضاء الفكر العربي المعاصر. فأن تقوم مؤسسة بحثية برعاية واحتضان برنامج في القراءة الرشدية ضمن سلسلة التراث الفلسفي العربي، وفي سياق المتغيرات الجارية في الأيديولوجيا العربية المعاصرة، فإن ذلك يعني تضافر الجهود المعرفية والمؤسسية لتعميم محتوى فكري بعينه، ونشره بصورة جدية، وعلى أوسع نطاق.

نتأكد من هذا الأمر، في طريقة العمل التي أنجز بها نص فصل المقال، ذلك أنه إضافة إلى كل ما ذكرنا من مزايا الكتاب، يحضر هاجس آخر في النص المنشور، وهو يرتبط بالمستوى البيداغوجي، فماذا نقصد بالهاجس البيداغوجي؟

لقد جاءت مساهمة الجابري في التقديم والتحليل والتأويل في صورة تعليمية، إنها موجهة فعلا للمختصين، وذلك بإعادة نشرها للنص محققا ومرفوقا بتقديم، لكنها موجهة في الآن نفسه لعموم القراء، وذلك بحكم أنها تتوخى في كثير من جوانبها تبسيط القضايا وعرضها بطريقة واضحة.

وقد استعمل المشرف على المشروع تجربته الطويلة في قراءة المتن التراثي من أجل بلورة جهد لا يخلو من طابع تعليمي مقصود، وذلك بهدف تبليغ مراميه المعلنة إلى قطاع واسع من القراء، وخاصة وأن المعركة التراثية في الحاضر العربي تتداخل فيها لغات وأصوات ومواقف تدعو إلى كثير من القلق والحيرة. وقد تساهم جهود المشروع عند اكتمالها في تقليص درجات القلق الحاصلة في جبهة التراث، في فضاء الأيديولوجيا العربية المعاصرة. كما قد تعمل على صياغة أسئلة جديدة تدعو إلى مزيد من التفكير في هذه الأسئلة في علاقاتها بالواقع العربي.

ونظرا لأن المشروع في بدايته، فإننا سنعمل على متابعة خطواته خطوة خطوة، كما ننتظر المصنف الكبير حول فلسفة ابن رشد الذي وعد بنشره المشرف على المشروع عند الانتهاء من نشر التراث الرشدي ، لنتمكن بعد ذلك من إنجاز مقالة عامة في استخلاص أبرز نتائجه ومناقشتها في أبعادها المختلفة.


(*) كلمة على هامش صدور كتاب ابن رشد “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، مدخل وتقديم الدكتور عابد الجابري، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1997.