مجلة حكمة
المتن الرشدي الشارح ابن رشد

التمثل الطبيعي للعالم ومكانته من تكوين المتن الفلسفي الشارح عند ابن رشد – العربي اشماعو


إن من أهم الدواعي التي حركتني إلى ضبط الخلفية الفلسفية التي وجهت الممارسة التأويلية الرشدية للمتن الأرسطي اقتناعي بضرورة إعادة الاعتبار للجوانب الطبيعية في فكر ابن رشد، وكذا للوظائف الإفهامية التي قامت عليها شروحاته للموسوعة الفلسفية القديمة، والتي كانت تؤسس لمنهج معين في النظر يتراوح بين إعادة إنتاج النص المفسر، والرغبة في تصحيحه تمهيدا لمجاوزته، بعد أن تنعقد الصلة المعرفية بينه وبين المتقبل في المحيط الثقافي الإسلامي.

 

لقد تحول الحديث عن مشروع فكري لابن رشد، وعن متن رشدي جاهز إلى نبرة سائدة في الفكر العربي، غير أنه آن الأوان لتجاوز هذا المستوى من الفهم، بأن نفكر في الكيفية التي تفاعلت بها الرشدية مع سيرورة تطور المفاهيم العلمية الفلسفية، وكذا في علاقتها بمختلف الشروط الثقافية الممهدة للنهوض الغربي الحديث، باعتبارها أحد الاتجاهات الأساسية التي كانت وراء الأزمة الثقافية والمؤسسية التي أسفرت معاركها وصراعاتها عن انبثاق المفهوم الحديث للإنسان. وبعيدا عن كل وهم بإمكانية استئناف القيم العقلانية الكلاسيكية في سعينا الحديث كعرب إلى العقلنة والتنوير، نرى أن التجربة الرشدية في نجاحاتها وإخفاقاتها من شأنها أن تكشف لنا عن مناطق شاسعة مما هو منسي ومكبوت في طبقات شخصيتنا القاعدية، فما لم يحتمل الشرط العربي الوسيطي قوله من خطاب ابن رشد، أصبح ابتداء من القرن الثالث عشر في الغرب الأوروبي قاعدة لتأمين رؤية جديدة عن العالم. ومن هنا يتوجب على الفكر العربي أن يخصص لحظة جديدة للقاء مع التراث الرشدي اللاتيني الضائع في أصله العربي، أعني أساسا الشرح الكبير لكتاب النفس، فهو يفجر قضايا كثيرة لا نجد نظيرا لها في المتن العربي، تجعلنا نشك في ما تداولناه عن ابن رشد من مسلمات، باعتبارها تؤسس لفهم جديد عن الإنسان، وعن شروط تحقيقه لكماله الأخير المقترن بترقي الجنس البشري وازدهاره وتقدمه في اتجاه لحظات معرفية وحضارية دالة على تحسنه المستمر(1).

من هذا المنطلق لا تكون الرشدية مجرد معطى تراثي حقق تراكمه المعرفي في متن ثابت متمحور حول إشكالات نمطية، بل سلسلة من الأسئلة والقضايا الملتهبة التي أزعجت المدن الضالة والجاهلة، بعد أن تحولت إلى خطاب اجتماعي وثقافي نقدي يهز الأطر النموذجية القديمة في الغرب الأوروبي، ويتحدى أنماط التفكير الإقطاعي، ذات الروح المراتبية الصارمة، بفكر تعددي متسامح.

لقد نجح هذا التنظيم الإقطاعي، بعقليته الرافضة للآخر، في طرد الجالية الأندلسية واقتلاع الشعب الأندلسي من موطنه الأصلي، مما أدى إلى تحلل ذلك النسيج الاجتماعي والثقافي الذي أسهم بتنوعه في تبلور التفكير الفلسفي، وذلك بسبب نزعته الإختزالية التي كانت ترى في العامل الحضاري والفكري الأندلسي تكوينا ثقافيا يتوجب استبعاده عن طريق الحرب الصليبية المعززة بحرب إيديولوجية أخرى تدعمها آليات التفكير السكولائي التي دشنها توما الأكويني و بونافانتور لمواجهة رياح الرشدية التي عصفت بأوروبا منذ أواسط القرن الثاني عشر(2).

إن مغامرة ابن رشد، هي في الحقيقة ثمرة وامتداد لذلك النموذج الثقافي الأندلسي الذي كان يستند إلى وعي بضرورة التسامح وهي التي شكلت أخطر سؤال وجه إلى المشروع الموحدي الذي بلغ في طور أزمته وتفككه ذروة التشدد بسبب نمو النزعة العقائدية المتصلبة التي بدأت تلقي مثيلات لها بظلالها الحالكة علينا، وعلى المشروع الحضاري الغربي نفسه، وذلك تحت تأثير نمو حساسيات الهوية، وما يرافقها من خطابات إيديولوجية مغلقة. فالظاهر أننا جميعا نكابد وضعا ثقافيا من جنس تلك الأوضاع التي جابهها فيلسوف قرطبة في محنته نتيجة لنمو روح التعصب والتشنج والقعود عن فتح باب النظر والاجتهاد.

ليس المشكل في نظري هو التفكير في استئناف عقلانية ابن رشد، بل التفكير في أزمة العقل وعوائقه، والحسم في مدى صلاحيته وحده كمرجعية إبستمولوجية وثقافية، فنحن جميعا عربا وغربا تتجاذبنا جوانب مختلفة من أزمة العقل هاته، إذ مما لاشك فيه أن متابعة المسار العقلاني ومواصلة استراتيجية النقد وتبديد الأوهام، التي كانت العقلانية الرشدية ووريثتها الأنوارية إحدى أوجهها، صارت تواجه بدعاوى تشكيكية باسم ممارسة لحظة السلب على العقل نفسه ومراجعة معاييره وممارساته المرتبطة بالعقلنة في زمن انتعاش صيغ وأنماط التفكير اللاعقلاني الوحيد البعد. أليست المنظومة الفكرية الغربية هي الأخرى تتخبط في ذيول أزمة شاملة تتراوح بين الرغبة في الذهاب بالمشروع الأنواري إلى نهايته، بشكل يذكرنا بطموحات ابن رشد وانتصاره للعقل والبرهان، وبين التنكب عن العقل والبحث عن شروط أخرى للممارسة الفلسفية في اتجاه التفكيك والهدم، اعتمادا على ثقافة لا عقلانية ذات أصول باطنية خبرها ابن رشد جيدا في حضرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي..؟

إن الحاجة إلى استلهام العبرة من تجربة ابن رشد هي حاجة تاريخية ملحة، إذ نواجه ظرفا زمنيا ارتفعت فيه تحديات الهيمنة التي تحدرت إلينا من الشمال المركزي بطابعه الهرمي ونفاقه الميتافيزيقي والأخلاقي، ذلك أن النموذج الغربي يوجد حاليا في الطرف المقابل للروح الرشدية القائمة على التعددية والاعتراف بالآخر على قاعدة المساواة، فهو يتقدم على أنه الخطاب الاجتماعي الوحيد الممكن. ومن غير الممكن التعايش مع هذا النموذج، فهو لا يسمح إلا بالخضوع، وأكثر من ذلك فإن تطلعات شعوب كشعوبنا إنما تقدم عادة على أنها بقايا تعصب أو تعصب جديد(3).

لقد قصدت إلى هذا التقديم لأبين كيف أننا لازلنا نواجه شيئا من مشروع ابن رشد الذي لازالت بعض جوانبه النقدية تحتفظ براهنيتها في أفق هذا العالم الذي تسعى النهضة العربية إلى تشكيله، ولا شك أن توسيع أطر العقلانية ومساحات النقد والسؤال لا بد له من إحياء جوانب من هذا الإرث المنسي والمكبوت كبتا تاريخيا في أعماق الذات الحضارية العربية. فلننظر إذن في طبيعة ومكونات هذا الإرث الفلسفي الرشدي، ولنفحص في كيفية تمثله لعالمه الذي عاشه وفكر انطلاقا منه… وكيف أثر كل ذلك على تكوين المتن الرشدي الشارح.

I – المتن الأرسطي بين قلق العبارة وجلاء القول الحكيم

إذا ما نحن اتجهنا إلى قياس المسافة المعرفية بين أرسطو وشارحه ابن رشد، فإننا سنقف حتما على سلسلة من المواقف التي حاولت كلها تقويم المتن الرشدي الشارح اعتمادا على معايير منهجية متباينة. فالبعض يحصر قيمة المجهود الرشدي في قدرة فيلسوف قرطبة على الإنصات لأرسطو دون غيره من المراجع الفكرية وعلى تمييز صوته ثم إعادة إنتاجه ضمن رؤية تؤكد على نزوعها اليقيني ونبرتها الأحادية المطلقة في حين نجد مواقف أخرى ترى في شروحات ابن رشد على أرسطو ما يثبت امتلاكها لمقومات الرؤية الفكرية المستقلة، بحيث يكون النشاط التأويلي الرشدي ليس مجرد إعادة بناء للنص المشروح في حدود نسيج لغوي وأسلوبي جديد، بل إنه يتموضع ضمن مجال إنتاج المفاهيم والتصورات والرؤى الفلسفية المتكاملة، لكن مثل هذه الطروحات لا تعفينا من مجابهة أسئلة كثيرة بهذا الصدد: فلماذا كان لهذه التجربة التأويلية الرشدية أن تدور في فلك السلطة المعرفية الأرسطية وترزح ضمن مجال جاذبيتها، هل يتعلق الأمر باقتناع رشدي باكتمال الحق مع أرسطو واستحالة التجديد الفكري، أم بضرورة تصحيح الأرسطية وتخليصها من عوائقها وأزماتها، أم أن الأمر يتعلق بشروط نظرية ومعرفية كانت تفعل فعلها اللاواعي في شروحات ابن رشد، مرغمة إياها على التزام طريقة محددة في التفكير؟ وأخيرا ما هي إرادة الحقيقة التي كانت تنسج خيوط اللعبة التأويلية الرشدية، وكيف يمكننا أن نشخص حضور ابن رشد في هذا الأفق التأويلي الذي ينتظم محاولته إنتاج معرفة جديدة بالأرسطية، أي في هذا النسق المعرفي الذي يستند إلى إشكالية التفسير والتأويل؟

من المؤكد أن تحديد العلاقة بين المتن الرشدي الشارح وبين المتن الأرسطي المشروح يقتضي وقفة لمتابعة ذلك التقليد الفلسفي الذي تواصل فيه إشعاع الثقافة الفلسفية على أيدي شراح المراحل اليونانية المتأخرة، وكذا الوسيطية، بتعدد قراءاتها وتنوع مقارباتها، حيث اقترنت صورة أرسطو بركام هائل من الشروحات والتعاليق والتفاسير التي فرضت نفسها كممارسة نموذجية.

لقد تحدد الهم المركزي للنزعة التأويلية التقليدية في تحويل فعل القراءة إلى سلاح معرفي مهمته إعادة صياغة المتن الأرسطي قصد تحويله إلى منظومة مذهبية متكاملة تستجيب لحاجات التبعية الفكرية التي كانت تربط هؤلاء الشراح بالأفلاطونية الجديدة، وبمختلف الهواجس والنزعات الروحية. كان المهم لدى الجميع هو الحفاظ على انسجام المذهب، في إطار تقليد مدرسي معين يستهدف مقاومة نسيان الأصل، ويضرب صفحا على الاهتمامات الطبيعية الأرسطية، بتحويل المعرفة الفلسفية إلى ذاكرة تسقط عليها منازع الشراح.

إن ما كان يعني شراح المتن الأرسطي، قبل أن يستقبله ابن رشد، هو التنسيق بين الآراء المتضاربة في نوع من التغافل عن تكوين فكر أرسطو نفسه، ونادرا ما كانت شروحاتهم تلامس نوازع أرسطو الحقيقية. كان المهم هو وضع وسائط نصية تكون أداة للتفاعل مع بعض دلالات المتن المقروء بغية خلق الانسجام والتكامل في نمط الحقيقة الفلسفية التي يدل عليها، تمهيدا للتوفيق بينها وبين ثيولوجيا الإرادة الخالقة. إن هذا الإيمان بالطابع التأسيسي للمتن الأرسطي، وبإمكانية تجلي معانيه في إطار حدود معرفية ثابتة قد أدى، في الواقع، إلى رهن مصير التفكير الفلسفي، وإلى حصره ضمن آليات الشرح والتفسير التي استغلت كسلاح إيديولوجي لمحو تعارضات مختلف النصوص المشكلة للمتن الأرسطي، تمهيدا للتقريب بين عالم أرسطو كما تمثله الشراح، وبين قدرهم الفكري الذي تهيمن عليه سلطة الأثر الديني.

إن المشكلة التي واجهها ابن رشد في هذا التراث التأويلي الإسكندراني والإسلامي هو غياب المرجعية الطبيعية والإنسانية في الكيفية التي تم بها استحضار فكر كان يتأسس على دعم الصلة بين الإنسان والعالم، مما أدى إلى تناسي طابعه الإشكالي، وهذا يعني أن ابن رشد لم يكن يواجه سلطة أرسطو فقط بقدر ما كان أمام نتاج تاريخي طويل من التفاسير والتعاليق التي كانت تشد لحمة المتن الأرسطي المتداول، بحيث تحولت إلى عائق معرفي يحول دون تبين كيفية انتظام دلالات الخطاب الفلسفي الأرسطي. وفي هذه الحالة، إن ما كان يحول بين ابن رشد وأرسطو هو ما يحول بيننا اليوم وبين فكر المعلم الأول: إنه المتن الأرسطي نفسه، أي ذلك النسيج المتداخل من النصوص التي كانت تسيج دائرة الفكر المشروح معتبرة إياه وحدة مضمونية متماسكة تتمتع بانسجام داخلي يجعل منها وحدة استدلالية متكاملة(4).

II – جاذبية السلطة المعرفية القديمة.

إن التساؤل عن مصير فلسفة أرسطو لدى كل هذه الاتجاهات التأويلية التي شكلت التقليد المشائي مسيحية كانت أم إسلامية، يفرض علينا القول أنه من باب الوهم أن نتابع بحثهم عن المشائية الصحيحة. ذلك أن تاريخ الفلسفة لا يعرض أمامنا أرسطية واحدة مكتملة ومتطابقة مع ذاتها، بقدر ما يفرز تراثا متنوعا من الاتجاهان والنزعات الأرسطية التي ملأت المسافة بين فكر أرسطو وبين أرسطو التاريخ مما يعني أن الأرسطية تشير إلى واقع متحرك المكونات والأبعاد. من الصعب الوقوف على ثوابته؛ إذ يحيل على أنسقة معرفية وسياقات مذهبية غلب عليها البعث الأفلاطوني الذي تواصل من أفلوطين إلى ابن سينا في إطار تصور معين للعلم هيمن على كل المنظور الوسيطي لفكر أرسطو.

وسواء تعلق الأمر بانتشار الأرسطية وتطورها في العصور الإسلامية أو الغربية، ابتداء من الفارابي وابن باجة، وانتهاء بألبير الكبير والأكويني، فإننا نقف لديهم دائما على زعم بضرورة إلغاء الصلة الزمنية والثقافية بين المتن الأرسطي ومتلقيه. إن هذا الأمر صار يستدعي إنجاز مشاريع بحثية تقلب في طبقات المتن الأرسطي الشارح وتفحص في مشاكله وتناقضاته، بالموازاة مع مشروع أساسي آخر يقيم حفريات جديدة عن فكر أرسطو وآثاره النظرية، يسائله عن مشاكل النشأة والتكوين، وعن الثغرات وأشكال الصمت، وكل المآزق والشكوك التي احتضنها على الخصوص كتاب الميتافيزيقا وكتاب النفس. ذلك أن فكر المعلم الأول لم يعرف ولادة مكتملة، بل كان عنوانا على مشروع فكري يتلمس طريقه إلى التحقق عبر التخلص التدريجي من ثقل الموروث الأفلاطوني عليه، ولهذا أستطيع أن أدعي أن عصرنا لم يقدم فهما لأرسطو يكسر حدود الدائرة التأويلية القديمة، إذ أن كل مشاريع الدراسة والمسح للموسوعة الأرسطية، إنما تمت من ثقافة منهجية معينة، والأمثلة على ذلك كثيرة ابتداء من المنهجية التكوينية لدى ورنر ييجر W. Yeager(5) الذي قدم لنا صورة لأرسطو تغالب النشأة الأفلاطونية، وصولا إلى الاتجاهات الطوماوية الجديدة مع د. روس D. Ross التي انشغلت بوحدة النسق المعرفي الأرسطي(6).

لقد أصبح من الضروري تشخيص الدواعي التي جعلت وعي الشراح الفلسفي وعيا مستسلما لسلطة الموروث الفلسفي الأرسطي ومثقلا بتقوى سلطان أرسطو على عقولهم، والحالي أن العودة إلى الأسباب المنتجة لهذا الاعتقاد المعرفي في تاريخ الفلسفة تدل على أن الأمر لم يكن متعلقا مطلقا برغبة في مواصلة تقليد فلسفي تعمل الشروح على إعادة إنتاجه، بل يرجع في بعض جوانبه لطموح أرسطو إلى بناء نظرية فلسفية شمولية ذات طابع كوني، تجمع في مستوياتها المتعددة الفلسفة بالعلم، أليس أرسطو هو واضع أسس الحبكة المنهجية في نظرية البرهان، وهو صاحب الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى جانب نظريته في العقل الإنساني وتكون شروط المعقولية..؟ وعموما فقد استدعت هذه الطبيعة العامة والتعميمية لبرهانية أرسطو أن يقوم الشارح بالوصل بين المنهاج والمضمون، وبالتوفيق بين كلية اللحظة الإبستمولوجية ونسقيتها التي لا تضاهى، وبين الأبحاث والأسئلة الفلسفية العلمية التي تتعلق بظواهر ومعارف مخصوصة ذات مرجعية شبه مستقلة(7).

بهذا المعنى لا ينفصل التاريخ الفلسفي المشائي عن القوى والسلطات التي كانت تنظم وتحدد قواعد اللعبة التأويلية، سواء تعلق الأمر بسلطة الأمر المقدس، بتعابيره الدينية الكتابية، وبمختلف القوى الثقافية التي تصوغ أشكال الوعي المرتبطة به، أو بتلك الشخصيات الفلسفية التي أثرت بكيفية حاسمة على المظهر العقلي والروحي الوسيطي، وليس فقط على عصر ابن رشد. غير أن الحنين الذي أظهره فيلسوف قرطبة لأرسطو وللارسطية كزمان معرفي منقضي، كان يتأسس، في الحقيقة، على وعي بضرورة اكتشاف “أنظمة أخرى للعقل” خارج الدائرة الحضارية الإسلامية، في محاولة لاستيعاب عناصر رؤيتها للعالم، وإدخال نوع من الحوارية والتعدد الفكري داخل المتن الأرسطي، واستثمار السلطة الأرسطية نفسها للتفكير داخلها، بنفس أدواتها المفاهيمية وأساليبها التعبيرية، وتلوينها بإشكاليات ومقامات فكرية جديدة تخرق إطار المعرفة القديمة، ولهذا السبب بالذات سرعان ما غطت سلطة ابن رشد على السلطة المعرفية الأرسطية في الغرب اللاتيني منذ أواسط القرن الثاني عشر إلى نهايات القرن السادس عشر، فأصبح تأثير الرشدية سواء كممارسة شارحة، أو كفضاء فكري، حاسما إلى حد بعيد، على كل من الأكويني وسيجردو برابت ودانطي، إضافة إلى قائمة طويلة من الرشديين سنعود إليهم لاحقا(8).

وإذا نحن عقدنا مقارنة بين التأثيرات الإيديولوجية للسلطة المعرفية القديمة على كل من طموحات ابن رشد الفلسفية وآفات التفكير الفلسفي في أوروبا الوسطية وعصر النهضة نجد أنفسنا مضطرين إلى ضرورة التنبيه على أن كلا منهما كان له عالمه الفريد الذي يتصل بظروف مخصوصة، ففي عصر ابن رشد كانت السلطة الرمزية للفلسفة تنافس السلطة الدينية للفقهاء، وبالتحديد سلطة أجيال من المثقفين الذين ظل من ظل منهم على المالكية، ومنهم من انقلب إلى نوع من الظاهرية السياسية موالاة منه للموحدين، والغريب أن كلتا السلطتين آلتا إلى ابن رشد وتنازعتا بعد ذلك الأمر في مشروعية وضعه كفيلسوف(9).

من هذا المنظور القائم على تعدد النماذج والسلطات المعرفية المتصارعة، تنوعت أشكال الرؤية الفكرية تنوعا كبيرا. فإذا كان الخطاب العقائدي في عصر الموحدين خطابا يجمع مثل غيره بين الزمن المقدس والزمن الدنيوي، ويتجسد بالأثر الظاهر لمقاومة تقدم الفكر الباطني وكل العقائديات الإسماعيلية والتصوفية التي هددت السياسة الموحدية، فإن للفلسفة وظيفتها المعرفية والإيديولوجية التي دفعتها إلى إنتاج أسئلتها المتحررة من الأنساق العقلية والنقلية، خاصة منها علم الكلام. لقد كان هدف هذا المنحى العقلي هو تحقيق الكمال الإنساني، لكي يصير الإنسان وعيا كاملا مشتملا على هيئة الكل، ولكي تصير الفلسفة كذلك وعيا كونيا طبيعيا يرهن مصير الإنسان بالعالم الأرضي، ويصف شروط تحرره ضمن أخلاقية ترى أن واجبه الأول هو خوض غمار تلك الممارسة المعرفية المنفتحة على كونية العقل، وعلى زمن ثقافي لا يحيل على الأخرويات، بل على الوصل بين العقل الإسلامي وثقافة آباء الكنيسة الأوائل وشروحاتهم، وعلى كل العصور الفكرية والتراكمات المعرفية التي شكلت التقليد الفلسفي المشائي، الذي كان تقبله والإفادة منه شرطا أساسيا لا غنى عنه لكل كمال معرفي يرومه الإنسان.

إن هذا البعد التاريخي الذي انفتحت عليه الفلسفة المشائية في الغرب الإسلامي، كان عليه أن يتكيف معرفيا وسياسيا مع بناء القوة وحاجات أولى الأمر، لهذا خضعت سلطة العقل الفلسفي لسلطة أخرى التقت فيها الاعتبارات العقائدية بالاعتبارات السياسية، فتم رهن حدود التنوير الفلسفي بإرادة الحاكم وبحاجات الإيديولوجية للتحكم بالصراعات السياسية، بحسب ما تدل عليه أوامر الموحدين لابن رشد بعرض معاني أرسطو، تمثلا واقتداء بالتجربة المأمونية في مقاومة الحكمة التأويلية الباطنية بالأرسطية، التي كانت ترفع الصراع عند حدود المنطق الجامدة.

خلافا لكل ذلك يكشف التاريخ الغربي الوسيطي عن سلطات معرفية أخرى وعن بناءات مغايرة للقوة، كانت مسؤولة عن استمرارية الفلسفة وتحولها في عصر النهضة إلى علم بعد أن تم وأدها في موطنها الأندلسي نظرا لتبعيتها لمزاج الحكام تعصبهم، فإذا كان من الصحيح أن نصف تاريخ الحقيقة في المجال الغربي بأنه لا ينفصل عن إرادة السلطة وأن لكل مجتمع نظامه المخصوص لإنتاج الحقيقة وسياسة شؤون المعرفة، فمن الواجب القول إن إنتاج الحقيقة هاهنا قد خضع لسلطة المعرفة المستقلة عن ضرورات السياسة. فالصراع الذي عرفه التاريخ الغربي الوسيطي، هو صراع بين أجهزة ومؤسسات لإنتاج الحقيقة وتداولها اجتماعيا. إنه صراع حول الحقيقة، وحول القواعد المعرفية الفاصلة بينها وبين الخطأ.

لقد ارتبطت السلطة المعرفية المنتجة للحقيقة في هذا المجال، بذلك الجهاز المؤسسي الوحيد الذي كان يدعى امتلاك آلية شرح وتفهيم معاني أرسطو، أعني الكنيسة(10)، التي لم تكن جاهلة ثقافيا، كما يدعى، بل كان لها فلاسفتها ومثقفوها ونظامها الخاص للحقيقة الذي كانت تدعم من خلاله عملية الوصل بين المدينة الإلهية وعالم البشر، وتعمل على استمراريته بتعزيزه ببرامج التعليم الثيولوجي المنمط على أساس التوفيق بين المدينتين أو العالمين(11).

كان من الحتمي أن ينفجر الصراع من أجل الحقيقة في الغرب الوسيطي كصراع حول قيمة السلطة المعرفية القديمة، وحول معايير التأويل وآلياته المعرفية، فقد وضعت الكنيسة معاييرها المستقلة للتحكم بالمتن الأرسطي متحصنة بالسينوية، في حين احتفظت سلطة ابن رشد الفيلسوف والشارح بمكانتها داخل الجامعات الأوروبية كمرجعية للحقيقة المتجاوبة مع تطور السيرورة المجتمعة والتاريخية الغربية، وصاغت وعي أجيال من الطلاب والمثقفين إذ شددت على أمية الجانب الإنساني والأخلاقي في الإرث المشائي، مقاومة بذلك المنظور السكولائي(12).

والواقع أن هذا الصراع الذي عرفه أفق الاستيعاب الغربي للرشدية، حول سنن قراءة الفكر المشائي، لم يكن فقط مجرد صراع حول شروط إبانة المعنى، أو كيفية تمثله، كما أنه، من خلال أدلجته لفكر ابن رشد، لم يكن يقيم اعتبارا لسلطة آمرة ناهية لها حق التصرف في الأجساد والعقول كما هو حال الرشدية في أفق تلقيها واستيعابها في المجال العربي الإسلامي. إنه في عمقه صراع بين قوى واتجاهات مجتمعية اتخذت من الطابع الجدالي حول الحقيقة الفلسفية مجالا للتعبير عن مشاريعها الفكرية، فقد كان لهذا الصراع حول قيمة الشروح الرشدية أن يلتقي بتأويل جديد لها، ومن ثم كان صراعا مرتبطا بلحظة إنتاج التاريخ الغربي، وبأزماته وتحولاته المتساوقة مع تحول عميق في الرؤى الكونية، وهو أمر أوجد للرشدية أرضية معرفية وسوسيولوجية حامية لها لم تتوفر لها من قبل في ظروف الثيوقراطية الموحدية.

إن تحول الفكر الفلسفي في الغرب الوسيطي إلى تقليد جامعي مؤسسي جعل من الممارسة النظرية أداة وصل بين العقل وبين التجربة الاجتماعية، إذ كان عمل أهل الفكر ذا بعد وظيفي يتداخل مع قسمة العمل الاجتماعي، وعلى هذا الأساس كان تأسيس الفلاسفة لقاعدتهم الاجتماعية المستغلة(13). إذ لم يكن من شرط وجود المثقفين من أساتذة كلية الفنون الباريسية الاستجابة لسلطان الكنيسة، بل فقط لمتطلبات “المتعة الفكرية” ولحاجات العقل. ومن المعلوم أن ارتباط الحياة الثقافية، وكذا صورة المثقف في أوروبا القرن الثالث عشر، بالتدريس الجامعي إنما كان في بعده العميق دفاعا عن حرية الفكر واستقلالية المثقف في مواجهة التقليد الكنسي وكلياته اللاهوتية، إذ أن هذه الثقافة العالمة التي أخذت في التشكل في رحم الحياة المدنية الغربية، وبعيدا عن أجواء المجتمع السياسي، كانت تنتج خطابها العقلانيالمتماسك معتمدة على تنظيم دقيق في مناهج وطرق التعليم، وعلى ما توفر لأساتذة الفنون الحرة من استقلال في النظر. نعم! لقد كان لهؤلاء سلطات رمزية من طبيعة مخالفة توجههم، متمثلة في ارتباطهم الوثيق بنسق المعرفة القديمة في نوع من النزوع إلى التكرار والتجريد، غير أن القوى الثقافية المعلمنة استطاعت أن تتلمس بدايات أولى لمفهوم التقدم المعرفي المعتمد على العقل وحده، ومن هنا نشأ مع الرشديين اللاتين فهم جديد للحقيقة تسوده روح نسبية قائمة على التفاؤل والانفتاح، فلم يكن لسلطة الموروث أن تعرقل تطور الفكر الفلسفي في المجال الغربي الوسيط(14).

III – دور المنظومة الطبيعية في تكوين المتن الرشدي الشارح.

تكمن الخصوصية الكبرى للرشدية التي جعلت منها ملتقى لإشكال النقد المعرفي والسياسي، في كونها تشدد على لغة معينة، وعلى منهج للنظر لا يلغي فاعلية العقل النظري ولا يتجاهل الخاصية الطبيعية للتنظيمات الفيزيائية والطبيعية والكونية. ذلك أن تحليل الرؤية الفكرية الموجهة لرؤية العالم الرشدية ينتهي بنا إلى رصد الكيفية التي سعى بها ابن رشد إلى تجميع المستويات المتعددة للمعرفة القديمة في مركز واحد يستمد دلالته العلمية من تذكير فيلسوف قرطبة بأقاويل العلم الطبيعي وبراهينه.

ومن وجهة نظر تاريخية، يمكن اعتبار ابن رشد استثناء في هذا المجال مقارنة ببناء الفكر الفلسفي الإسلامي السابق عليه، فقد كان ابن سينا يبدي فصلا قاطعا بين طريقة الطبيعيين وطريقة الإلهيين(15)، وطالما اعترض على المناهج المشائية القائمة على تحليل الدينامية الحركية للعالم المفضية إلى إثبات علة أولى ومحرك لا يتحرك، مفضلا طريقة الإلهيين” القريبة من الكلام الأشعري، حيث يتأسس مفهوم الطبيعة أنطولوجيا وإبستمولوجيا على المفارقة المطلقة، فمن رأي الشيخ الرئيس أن العلم الطبيعي لا يعلل ولا يبرهن عليه انطلاقا من أوائل هذا العلم، لأن الطبيعة ليست بينة الوجود بنفسها، إذ على الطبيعي أن يتسلم برهانها من صاحب الفلسفة الأولى(16). غير أن ابن رشد يرفض استثمار معطيات الخطاب الكلامي القائم على أولية العلم الإلهي في مجال البرهان، إذ يقترح علاقة جديدة للصلة الأنطولوجية والإبستمولوجية بين الحدود الطبيعية وأنحاء ما بعد الطبيعة، تعتبر الطبيعة معطى أوليا ثابتا بأسبابها الأربعة التي ينتظم بها كيان العالم، إذ أن بيان الموضوعات الميتافيزيقية إنما يتأسس على ما تم في العلم الطبيعي(17)، رغم ما يوجد من تداخل بين مبادئ الجوهر المتحرك الفاسد ومبادئ الجوهر الأزلي. وآيت ذلك “أن البرهان على وجود مبادئ للجوهر الطبيعي ليس للفلسفة الأولى، بل إن صاحب العلم الطبيعي هو الذي يعطي أسباب الجوهر المتحرك المادي والمحرك(18).

ينهض توظيف ابن رشد لأشكال القول البرهاني على استثمار منطق البرهان والالتزام به في متابعته للإيقاعات المختلفة لكفر أرسطو. إن هذا الالتزام الرشدي بالطريقة البرهانية في التفكير، ودفاعه عن السببية على الخصوص، كانا نضالا من أجل تنصيب العقل في كل من العقليات والشرعيات(19)، ونحن إذا ما حاولنا تحديد خلفيات هذا الموقف ندرك كيف كانت مبادئ البرهان تؤخذ مما يقرره العلم الطبيعي، الذي تنطلق براهينه من مبادئ وأصول، بعضها يرجع إلى نسق العقل، وبعضها يستفاد مما تدل عليه الخبرة العلمية بالعالم من نظام وترتيب من أطر سببية تضمن لنظامه جريانه واتصاله الذي هو عليه.

غير أن من الملاحظ أن إبستمولوجيا القول البرهاني حين تتعلق بالعلم الطبيعي تبقى متأرجحة بين قطبين معرفيين متباعدين نسبيا، فهذه الإبستمولوجيا تتأسس في هذا المستوى على المطابقة بين المعرفة وبين حوادث الطبيعة، كما أنها تؤول في نهاية الأمر إلى معرفة استنباطية تتابع تكون الكليات والمفاهيم العامة، فهي أداة لعرض المعرفة وأداة لإنتاجها، في نفس الوقت، ونظمها في أقيسة البراهين، إذ على البرهان في مفهومه الرشدي أن يكون منطق اكتشاف وتدليل ومنطق تحليل ومقايسة. إنه منطق للخبرة عليه أن يكشف عما هو طبيعي وضروري، ثم إنه نسق عقلي يحلل ذاته بذاته، وكأنه مثال للتفسير العلمي الذي ينبغي للصناعات العلمية بمختلف مستوياتها أن تحذو حذوه، سواء تعلق الأمر بالجوهر المحسوس أو بالمعاني الكلية!!.. فكيف إذن تأتى لمنطق البرهان في فهمه الرشدي أن يكون رصدا إبستمولوجيا للجزئي وللكلي في الوقت عينه؟

لا شك أن البرهان في مجال الطبيعيات هو كغيره من أشكال البراهين ينشد اليقين العلمي في ما يكونه من معرفة بعلل الأشياء ومبادئها وذلك بتعقبه جزئيات الموجودات الطبيعية وصولا إلى ماهياتها. إذ عليه أن يشق طريقه من المتغير إلى ما هو ثابت، لذا فهو ككل برهان يحيل بكيفية مزدوجة على نظام العقل وعلى طبائع الموجودات، ولعل هذا هو السبب الذي دعا ابن رشد إلى رفع القول البرهاني بإطلاق إلى مستوى نظرية العلم مع التزام بالحفاظ عليه كمنهاج لكل ممارسة علمية مخصوصة، مما سيؤدي إلى تشعب طرائق البرهان وتعدد أساليبه المنطقية. وبهذا المعنى فالبرهان إما برهان سبب أو برهان وجود أو برهان مطلق. وأمام هذا التعدد المنهجي تتمايز خصوصية العلم الطبيعي القائم على مبدإ المطابقة، حين يعن لفيلسوف قرطبة أن قضاياه تثبت بواسطة برهان الوجود فقط، فلا تعرف إلا بدلائل تسير من المتأخر إلى المتقدم، ومن الأعرف لنا إلى الأعرف بالنسبة للطبيعة، فيتدرج بالتالي من الأشياء الأظهر للناظر إلى الأشياء الأشد ظهورا، وهي التي تكون بالطبع أظهر وأعرف بذواتها. فما هو ممكن للعلم الطبيعي هو أن يغذ السير “من المتأخرات إلى المتقدمات، وهي التي تسمى بالدلائل”(20)

هاجس آخر يشوش على القرارات المنهجية الرشدية في مجال العلم الطبيعي، ويعيد إحياء مشكلة اليقين التي لازمت، بشكل من الأشكال، شروحات ابن رشد، إذ يمكننا إحياء جوانب من السؤال عن مدى تطابق الخطاب العلمي عن العالم مع حقيقة الموجودات الحاضرة فيه؛ فهذا العلم الطبيعي الذي ينظر في الجوهر المحسوس ويتكفل بتكوين براهينه اعتمادا على أساس استقرائي، كيف تأتى له أن ينتج برهانيته الخاصة به، علما أن مقدمات البراهين لا بد لها أن تكون كلية ويقينية لا تتغير تغير الأمور، الطبيعية، كما اقتضت ذلك شرائط البرهان..؟

لننصت هاهنا إلى ما يشبه أن يكون جوابا شافيا من أحد زعماء الاتجاه الإسمي في أوروبا القرن الرابع عشر، أعني غليوم الأوكامي وذلك في معرض حديثه عن هذا الإشكال داخل الرشدية يقول: “إن الشارح يقصد إلى أن الكليات أجزاء للجوهر، ولا مدخل لها في ماهيات هذا الجوهر، ولا حتى في الماهية المفردة لجوهر مخصوص. فهي قاصرة على تمكيننا من الوقوف على جواهر الأشياء، في هيئة شبيهة بالهيئة التي تمكننا فيها الدلائل من معرفة مدلولاتها، ثم إنها لا تكون بإطلاق مدلولات في ذواتها، مادام هنالك! مكان للتمييز بين الدال والمدلول”(21).

معنى أن مشكلة الكليات التي كانت موضع خصومات وجدل صاخب بين تيارات الفكر الوسيطي في الغرب لها صلة معلومة بالموقف الرشدي وليس فقط بكليات إيساغوحي فورفوريوس الصوري. والواضح أن الكليات عند ابن رشد لا تعتبر جواهر ولا الأنواع والأجناس، إذ مما لاشك فيه أن أوكام قد وقف على قول ابن رشد في تفسيره لمقالة الزاي: “الجواهر المركبة بين من أمرها أن لها حدودا، وأن لها أسماء مساوية لحدودها، وأنها تحمل على أشخاص الجوهر من طريق ما هو”(22).

بهذا البعد الواقعي في الرشدية تؤول الصيغ المتصلة بتعدد مستويات الفعل الفلسفي وتتمازج بناء على هذه الصلة التي يتسلسل عبرها التأثير الطبيعي إلى حركة ما بعد الطبيعة، والتأويل بهذا المعنى هو إعادة إنتاج لكل الأقاويل المتواطئة والمشككة في ضوء نسق استنباطي صارم له أصوله ومسلماته الإجرائية المستمدة من الأرسطية، ومن لحظة وعيها بالطبيعة على وجه التحديد، هذا النسق الذي يقوم على نوع من التعدد اللغوي والمفاهيمي إذ يتأسس على بديهيات أولية لها مرجعيتها في نظام العقل المتماثل مع علامات الوجود الطبيعي.

وخلافا لابن سينا يتموضع مفهوم الطبيعة الرشدي في فضاء أنطولوجي وابتسمولوجي مغاير تماما لسابقه، فإذا كانت المعرفة لدى ابن رشد تعرفا عقليا على الهوية السببية للواقع وعلى سلاسل العلل الطبيعية المنظمة لمنطقة الذاتي، فإن الطبيعة هي موضوع هذه المعرفة وملتقى حركة العقل الاستقرائية والاستنباطية، دون أن يكون في جدل هذه العلاقة بين العقل ومداه الوجودي ميل للسكون أو الثبات. وعلة ذلك أن الطبيعة من حيث هي صيرورة حركية تقال على كل أصناف التغيرات وعلى مبادئها الحتمية المحركة لها، كما تقابل حركة الطبيعة بنية القول الدال عليها فإن “فعل الطبيعي يقابل فعل النطقي”(23) لما نشهده في عالم الطبيعة من جدل دائم بين طرفي القوة والفعل، وكذا بين الكون والفساد الذي تحكم جملة تفاعلات صيرورة الكون. وهكذا لا تشير معاني الطبيعة فقط إلى نسق الحوادث الواقعية والمشخصة في المجال الكوني فحسب، بل هي كذلك وصف لما ستؤول إليه الأشياء، ولتلك الغائية التي تشدها كل البنيات الفيزيائية والبيولوجية والسيكولوجية على حد سواء.

لم تكن إعادة النظر هذه في مفهوم الطبيعة إلا محاولة من ابن رشد لضبط الخلفية الذهنية التي كانت تحكم منهج القراءات السابقة للمتن الأرسطي، قصد وضع ترتيب جديد للعلاقة بين العلم الطبيعي والإلهي في المنظومة المعرفية الإسلامية، فبخلخلة ركائز التأويل السينوي لأرسطو ستتولد مواجهة جديدة مع المتن المشائي المقروء، اقتضت سبك معانيه من جديد، وإدماجه في البنية الإدراكية للمتلقي إدماجا يصهره في مقومات الشرط المجتمعي والثقافي للمدينة الإسلامية في القرن السادس الهجري من أجل مشاكلة الخطاب لمراتب الجمهور. ومن هنا يفقد المعنى التقني للممارسات الدلالية المرتبطة بالشرح والتأويل لدى ابن رشد مشروعيته كمجرد استعادة حرفية للنص المقروء، ما دام الشرح جدلا وحوارا مع إشكالات فلسفية يفرزها المتن الأرسطي، يستدعي توظيف التراكم الثقافي والرمزي الذي يسمح بتدخل الذات المؤولة، وتموضعها داخل مجال القراءة، بل وإعادة بناء هذه الذات من خلال تنزيل القول المشروح في السياق الذي يعطي للرشدية هويتها المعرفية والتاريخية المشروطة بمقتضيات نظامها اللسني، خاصة إذا ما اعتبرنا أن الجهاز اللغوي المتابع للمتن الأرسطي المترجم هو الآلية المسؤولة عن تحديد الأفق التأويلي، الرشدي، لما هنالك من تلازم وثيق بين الدلالة اللغوية، وبين محتوياتها الثقافية والرمزية.

لقد كان ابن رشد صاحب مقاربة دقيقة لمعضلات المتن المفسر، استطاعت في شموليتها أن تحيط بمكوناته وأن تقف على مشاكله وثغراته وبؤره الشائكة. ولعل هذا ما يبرر حماسة كل من لمسوا هذه الظاهرة النقدية في الشروح الرشدية، فقد ذهب م.كروث إرننديث إلى الإقرار بأن فيلسوف قرطبة كان قد أنجز في قراءته للمتن الأرسطي التي تمت في حدود القرن الثاني عشر الميلادي، نقدا نصيا سيكون مطمحا تطلع إليه كثير من الباحثين والمؤرخين المعتدين بأنفسهم من المحدثين، بعد أن تداوله شراح العصور الوسطى بتفاسيرهم وتعاليقهم الخاصة(24).

يريد الخطاب الرشدي الشارح أن يقطع مع كل الأنساق التخيلية القائمة على توظيف المجاز والصور الاستعارية المتشابهة المعنى، فللمتن المقروء عند ابن رشد لغته الفكرية البرهانية التي تعطيه شكله النسقي الثابت غير أن المفارقة الكبرى التي تتحدى هذه المغامرة الرشدية هي كيفية تخليص البرهان من أشكاله البيانية القائمة على منطق خاص في استثمار معطيات اللغة الطبيعية المتداولة. فمن الواضح أن نظام الفكر لا يتحقق إلا من خلال قواعد وقوانين الإبلاغ، التي تنتج منه منظومة رمزية مفهومة، ما دامت اللغة التداولية هي الحامل الرئيسي للفكر. بيد أن انحصار الفعالية الذهنية في حدود دائرة التواصل البياني، بعيدا عن اعتبار البنية المنطقية التي تؤطر شروطه الاستدلالية من شأنه أن يهدد تكامل المعنى بإغراقه في سلسلة لا متناهية من الأفعال التأويلية، ويفتح القول، بالتالي، على سديمية اللامحدود. ومعلوم أيضا أن اللغة الطبيعية تبقى في كل أشكالها التعبيرية أسيرة أخطائها وثغراتها، وليس لها أن تكون دليلا على الحركة الإبداعية للمفاهيم، فهي تقاوم ظهور فضاء عقلي منتظم ومتجانس لجهلها بالشروط التي تحكم عملية اجتراح المعنى. هل يمكن إذن أن نفهم من هذا أن النشاط التأويلي الرشدي هو إعلان عن ضرورة ارتحال الفكر من المقامات التي تلغي آلية النقد والمساءلة إلى البنيات، ومن الفوضى و العماء إلى النظام؟

يتصل الجواب الممكن عن هذا السؤال برفض ابن رشد إعادة إنتاج اللغات والممارسات الفكرية السائدة في المنظومة المعرفية الإسلامية، كلامية كانت أم مشائية زائفة، كالسينوية. فهدف التجربة التأويلية الرشدية هو منعها من التسرب إلى الجسم المعرفي الأرسطي كما تمثله ابن رشد في سماته الموضوعية المستندة إلى قوة العقل التماثلية والمؤسسة على ضرورة مطابقة الخطاب لموضوعه. وهذا ما يحيلها على طبيعة النظام الدلالي الذي كان التفسير الرشدي ينتج خطابه عن موضوعاته انطلاقا منه، أي من تلك المنزلة النظرية التي يتمفصل فيها المادي بالرمزي، إذ أن مهمته الأساسية تقوم على استقراء أشكال التطابق بين نظام العقل ونظام الوجود، مما يجعله في حركة مستمرة تقابل بين الدلالة ومرجعياتها. ومن هنا تكون اللغة المنطقية البرهانية الرشدية تعبيرا عن هذه الحركة الواصلة بين القبلي والبعدي في سيرورة المعرفة، ولهذا السبب كانت سلطة المفسر تستمد سلطتها المعرفية من سلطة أشمل منها وهي سلطة الحقيقة التي تجد كثافتها التعبيرية في النص النظري الذي تضيق المسافة الإبستمولوجية بينه وبين السياقات الواقعية.

لكي نفهم جيدا مدلول الفعل التأويلي الرشدي، من حيث هو نتاج لكيفية تمثله الطبيعي للعالم، علينا أن نستحضر كيف كانت البنيات الذهنية الموجهة له تسوي تسوية مطلقة بين نظام الإشارات الطبيعية وبين نظام الإشارات الثقافية، وكيف كانت تسمح بارتداد البعض منها على الآخر(25) في نوع من الدمج بين العقلانية وتمظهراتها الرمزية المتعددة. لقد هيمن هذا النمط من العقلانية على التأملات الطبيعية التي واكبت دخول المتن المشائي الأرسطي الرشدي إلى الغرب، مقدمة الطبيعة في هيئة كون رمزي تفعل فيه الحتمية فعلها، في وقت لم يحن فيه النظر إلى الطبيعة من منظورها العلائقي الحديث(26). ضمن هذا المفهوم كان الشرح يعني انقلاب الطبيعة إلى نص دال ناطق بالمعاني، بحيث يصير النص طبيعة ثانية تثبت هذه المعاني في قرارة المتن الشارح. لقد كان الجسم الطبيعي يعامل في هذا المستوى معاملة النص الفلسفي، بالمعنى الذي تكون فيه الفلسفة الطبيعية عبارة عن أنشطة تأويلية تفك شفرة “العبارات الجسمية”، فالحركات والعناصر والأحداث هي بنيات دالة يمكن للعقل إعرابها، لأن قوانين هذه البنيات قائمة في العقل الذي يملك قدرة طبيعية على تفسير أشياء العالم، فهو يفسر النصوص بالقدرة اللغوية والمنطقية، وهو يفسر الطبيعة بالقدرة الطبيعية التي يمتلكها في نوع من الإيمان بالدلالة التواطئية للحقيقة(27).

لقد أدرك ابن رشد أن الآثار الأرسطية المشروعة تكابد سطوة عوائقها المعرفية الذاتية، وإنها سجينة نصوص أخرى تغزوها من الداخل، فأعلن عن ضرورة تخليصها من أخلاطها الغريبة عنها، وميز تمييزا حاسما بين العلم واللاعلم في قلب المتن الأرسطي نفسه، أي بين الأقاويل البرهانية وغيرها من الأقاويل. ففي تلاخيصه يحدد فيلسلوف قرطبة أهداف مشروعه النظري كالتالي: “إن قصدنا من هذا القول أن نعمد إلى كتب أرسطو فنجرد منها الأقاويل العلمية التي تقتضي مذهبه، أعني أوثقها، ونحذف ما فيها من مبادئ القدماء، إذ كانت قليلة الإقناع، وغير نافعة في معرفة مذهبه”(28). ولا شك أن لغة النص ومحتواه غنيان عن التعليق، فالمسألة تتعلق بالتمييز بين الجدل والبرهان عن طريق تحريك آلية تعالق النصوص، التي لا تحكم فقط شروط إنتاج وتوليد دلالات المتن الأرسطي، بل وكل ممارسة تفسيرية تريد أن تفكك شفراته اللغوية والمفاهيمية، إذ لم يكن هدف ابن رشد هو تصنع البحث عن تماسك المتن المشروح، دون أن يأخذ بعين الاعتبار عفويته وبعده عن التعقيد، كما هو الحال في شروحات الأكويني اللاحقة على ابن رشد، بل كان الهدف هو تجريد الأقاويل العلمية من نفس المادة النصية التي يقدمها المتن، والبحث في سلسلة معانيه المتجددة، وصولا، بالتالي، إلى المعنى الذي يختاره القول الرشدي الشارح، طبقا لمعيار واحد، هو معيار معقولية بنائها المنطقي واحترامها لأوائل البرهان. وهذا هو بعينه الهدف الذي اختاره في شروحه لمقالات ما بعد الطبيعة، ففي ديباجة الجوامع، يعرف ابن رشد بهدفه المعرفي كالتالي: “قصدنا في هذا القول أن نلتقط الأقاويل العلمية من مقالات أرسطو الموضوعة في علم ما بعد الطبيعة على نحو ما جرت به عادتنا في الكتب المتقدمة”(29).

من هنا كان إيمان فيلسوف قرطبة بأن الفعالية الشارحة للمتن الأرسطي لا بد لها أن تراعي البنية المفاهيمية التي تؤطره، ولا مندوحة لها من التنبه إلى جملة المعايير والافتراضات المؤسسة له، خاصة منها تلك المتعلقة بأوليات النظام المنطقي ومبادئ القول الطبيعي، دون أن يعني ذلك ارتفاعا بالأرسطية إلى حد الكمال الذي هو مفتوح لم يستكمل جهازه المفهومي بعد، ولا زال يقتضي النظر التأويلي فيه كقول من خلال نظمه في متن شارح وتقسيم نصوصه تقسيما منطقيا في غير انشغال بوجود خطة أصلية لمؤلفه، إذ المهم هو تصنيفه إلى قضايا وموضوعات تنسجم مع الطبيعة الإشكالية للتفكير الفلسفي. يقول ابن رشد جامعا بين قوة الدلالة الشارحة وبين رهانات المتن المشروح: “ونحن نقول في ذلك بحسب قوتنا واستطاعتنا، وبحسب المقدمات والأصول التي تقررت لدينا من مذهب هذا الرجل…”(30)

من هنا كان المتن الأرسطي في تصور ابن رشد حركة جدلية تراوح بين الحضور والغياب. فالمتن هو حضور للمعنى حينما يتمثل الذهن التأويلي منطق بنيته، ويكون كسوفه وغيابه المطلق بتنازع الإرادات التأويلية حول معناه، وفي حقل صراع التأويلات هذا لا يغدو المتن الأرسطي موحد الهوية، بل نصا متفجرا تحت ضغط مؤثرات متعددة، يقف كل منها عند طبقة “رسوبية” من طبقات المتن، ويقرأ بدلالتها المشروع الأرسطي كله. ولهذا السبب تتحدث مقالة اللام مما بعد الطبيعة في شروحها الرشدية عن إمكانية إنتاج أكثر من تأويل لكل مقطع من مقاطعها، فتورد إمكانية إنتاج تأويل أول، وثان، وثالث، ورابع، بل وتشير إلى احتمالات متعددة ينفتح عليها القول الأرسطي، على جهة الترجيح والمفاضلة بين معاني متعددة، تحوم كلها حول مركز نصي موحد(31)

وهكذا يكون المتن الأرسطي في عرف فيلسوف قرطبة مؤلفا من أصول ومتغيرات، أما الأصول، فهي قواعد يجري عليها القول المستنبط من معطيات علمية برهانية، هي أساس كل معقولية تشد البنية المنطقية لكل قول معرفي يقيني، مع الإشارة إلى أن هذه الأصول لا تكون حاضرة بالضرورة كبديهيات متجسدة على سطح النصوص المشروحة، بل يتم إنتاجها وتوليدها بفعل عقل تكويني يتأول معناها من مجمل المتن، وينتخب دلالاتها انتخابا على أساس معياري، بعد فرض الانسجام على متغيراته، وبعد طرد أصواته المتعددة التي تخترقه من الداخل. وهنا لا تكون المسألة معالجة نص مضطرب غير مفهوم وتحويله إلى نص متماسك، بل إن الأمر أبعد حدا من هذا، إذ يبدو التفسير الرشدي معنيا بمساءلة واستنطاق إشكالية معينة في الطرح، تحول دون التبلور النهائي للقول العلمي الأرسطي، وتقاوم انتقال ما هو كامن فيه بالقوة إلى حيز الفعل، من هنا لا يطالب ابن رشد فقط بإقصاء التأويلات الإسكندرانية والسينوية للمتن الأرسطي، بل ويلزم المعلم الأول أن يكون أرسطيا بالفعل، على نمط الأرسطية التي حدد مقاييسها وعي ابن رشد الفلسفي وعالمه الإيديولوجي. فحيث تترسخ صورة أرسطو، العالم الطبيعي، والفيلسوف المنطقي العقلاني، لا تبقى هناك حاجة للكثير من الزوائد والإضافات التي شوهت التقليد المشائي في أعين ابن رشد.

أما عن متغيرات المتن، فهي كل المقاطع النصية التي تشير إلى قضايا خلافية، أو مشتركة العبارة لم يحسم فيها أرسطو، بل اكتفى بجعلها مادة للعرض الجدلي في إطار استراتيجية التأويل البرهاني. وقد تشير إلى موضوعات مزدوجة المعنى، كالحال في ازدواجية موضوع ما بعد الطبيعة، وتدرج مقاصده، من الأنظار الطبيعية والأنطولوجية، إلى التحليلات الثيولوجية التي تنصب على الجوهر الإلهي.

 

 

خاتمة:

هكذا إذن جاءت شروحات ابن رشد جامعة بين مقومات الرؤية الشمولية والأداة المنهجية العقلانية المستندة إلى نظرية منطقية صارمة في التحليل، وإلى بداهات العقل الكوني التي تحكم الطبيعيات المشائية برمتها. لقد كان فيلسوف قرطبة يربط في تمثله الطبيعي عن العالم بين نسق العقل وبين نسق الحتمية الكونية، باحثا عن حل موضوعي لإشكالية التأويل عبر تحويل الفلسفة إلى جهاز معرفي شارح يقصد إلى عقلنة مسار توليد المعنى، وإيجاد قانون ضابط لإنتاجه وتداوله. إلا أن مفارقته الكبرى في نظرنا تكمن في رغبته في الجمع بين الطموح العقلاني القائم على التجاوز والتخطي عبر لحظة السلب والنقد، وبين تشغيل آليات التأويل والتفسير التي تفترض خضوع العقل الفلسفي لسلطة الذاكرة ومتون علوم الأوائل … فهل كان ابن رشد الشارح والمفسر على وعي بخطورة هذا التوتر النظري؟ من الصعب الحسم الآن بجواب شاف، وربما سعى ابن رشد إلى التخفيف من حدته عن طريق تأسيس أخلاق تواصلية في فصل المقال ومناهج الأدلة تسلم مقاليد كل من العقلنة والتأويل، كحدين متقابلين، إلى سلطات العقل العملي الذي بإمكانه تحويل التعارض إلى تواصل يعتمد على جهود النخبة المتفلسفة القادرة على ممارسة النقد العقلاني المنور كلما اتسعت فسحة اللقاء مع أرسطو في سلسلة الشرح الكبرى، والاقتصار على احتواء ضغوط ومقاومات المتخيل بإبطال استيهامه اللاواعية عن طريق تقرير الحد الفاصل بين الفلسفة وما ليس فلسفة، وتأويل الخطابات المقاومة لها، وهذا هو مرمى أعماله النقدية في الفصل ونقد مناهج الأدلة والتهافت ·

مجلة الجابري – العدد الثامن


 الهوامش:

1 – يؤسس ابن رشد “لوعيه التاريخي” بإمكانية الترقي الدائم لجنس البشري، واكتمال الحركة الجدلية للوعي بالذات عبر الفلسفة، اعتمادا على تصوراته الكوسمولوجية عن الحتمية الكونية للجرم السماوي؛ ذلك أن الصنائع والفلسفات لن يكون لها توقف، ولن يعدم لها وجود مادامت الأجرام السماوية تتناوب على تحريك النسق الكوني أزلا وأبدا في إطار حركة متصلة للوقائع الطبيعية، غير أنها تتخذ منحى غائيا على مستوى التاريخ طلبا لاكتمال الجنس البشري وترقيه:

2 – Averroès Cordudiensis commentarium magnum. In Aristotelis de anima libros, ed. F Stuart

crawford, cambridge (Mass), 1953, chap III, comm 5, pp.408, 613, 619.

Alain de Libera: Thomas d’Aquin contre Averroès G.F, Flammarion, 1994, pp. 9-11.

3 – أنطونيو أبارث سولين، المكنون الإسلامي للأندلس أيام الثقافة الإسبانية في دمشق، ترجمة رفعت عطفت، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1993، ص 150.

4 – Lorite, Maria JoséPourquoi l Metaphysique? La voie de la sagesse selon Aristote, ed. Tequi Paris 1976, pp.1-2.

5 – انظر بهذا الصدد:

Warner yeagerAristotle, Fundamentals of the history of his development, Trans. R. Robenson Oxford, u P, 1962.

6 – لامتلاك نظرة شاملة عن مشروع دافيد روص ومدى وفائهب للمخطط المفاهيمي الطوماوي، راجع مقدمات نشراته لأجزاء الموسوعة الأرسطية مترجمة إلى الإنجليزية، ففيها اسهاب واف ببيان رؤيته النسقية للمتن الأرسطي.

7 – Stefan Swiezanlski: Histoire de la philosophie européenne au Xvème siècleTraduit du Polonais par Henri et Mariusz Prokopowics, Ed. Beauchesne, Paris 1990, pp.4-10.

8 – عن تأثير الرشدية في البيئة الفكرية اللاتينية الوسيطية انظر:

Maurice Ruben Hayoun et Alain de LiberaAverroes et l’Averroisme PUF, coll que sais-je, Paris 1991, pp 74-120.

9 – تعكس ازدواجية الموقف النظري الرشدي الجامع بين الممارسة الفقهية والفلسفة ظاهرة فريدة لا سابقة لها في التقليد الفلسفي الإسلامي، على أنها تجد تفيسيرها الموضوعي في خصوصية الوضع السوسيولوجي للأجيال التقليدية من علماء المالكية الذين تجاوزا المأزق السياسي الموحدي الثائر على التقليد المالكي، واستجابوا للتحولات السياسية الحادثة باعتناق الظاهرية، مذهب الموحدين، بل وأوغلوا في امتلاك المهارة الفلسفية العلمية والطبية كرأسمال رمزي يشفع لهم في قصور الخلفاء الموحدين، بحيث أظهرت الأجيال المتأخرة منهم إعجابا قويا بعلوم الأوائل ليكونوا تحت الطلب، وأحيل بهذا الصدد إلى:

Dominique UrvoryLe monde des Ulemas andalous du Vième siècle, pp. 137-209 – Librairie Droz, Genève 1978.

10 – The Medieval interpretation of Aristotle: in the cambridge history of Later Medieval Philosophy, pp.80-83 – Cmabridge University Press, 1992.

11 – M.M Davy: Initiation Medievale, la Philosophie au douzième siècle, Albin Michel, 1980, p.93.

12 – CF. P, Sambelli: I Problemi del nicromante Agosto NifoMedioevo, I, 1975, pp. 167-168.

ولتبين كيفية تفاعل الأرسطية الرشدية مع إنسية عصر النهضة، أشير إلى عمل كلاسيكي في هذا المجال لأحد أتباع مدرسة وارنر ييجر.

Charles B. Schmitt: Aristotle and the renaissance cambridge (Mass) 1983.

13 – Alain de Libera; Penser au Moye, âge. Seuil, 1991p.144.

14 – Jacques Verger: Condition de l’intellectuel au XIIIème siècles, in philosophes Medievaux, coll. 10/18, 1986, pp.40-47.

15 – انظر بهذا الصدد رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، كلية الآداب، الرباط. عنوانها: مقالة اللام بين ابن سينا وابن رشد، بإشراف من د.محمد عابد الجابري، السنة الجامعية 1994.

16 – بلور الشيخ الرئيس موقفه هذا في ديباجة شرحه على السماع الطبيعي.

17 – ابن رشد، تفسير ما بعد، الطبيعة، اللام ، ص1421-1424 – المطبعة الكاتوليكية، 1988 بيروت.

18 – المرجع السابق، ص 1433.

19 – د.محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص 202-204، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991.

20 – ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، مقالة اللام ص 1423.

21 – Guillaume d’Occam: Expositions in libros artis logicae proemium et exposition in librum Porphyrii de praedicabilibus, pp.14-15, Ed. E.A Moody in opera Philosophica II, the Franciscan Institute ST. Bonaventure (N.U), 1978.

22 – ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، مقالة الزاي، ص 791.

23 – ابن رشد، جوامع ما بعد الطبيعة، ص 85، مدريد 1918.

24 – Miguel Gur Hernandez; el sentido de las tres lecturas de Aristoteles par AverroèsEnsayos sobre la filosofia en AC – Andalus, Andres Maretinez Lorca ( Coord), Barcelona 1990.

Vease Tambien:los limites del Aristotelismo de Ibn RusdMultiple Averroèspp. 148-150 les belles Lettres. 1976.

25 – انظر مقالة ميشال فوكو: نيتشه، فرويد، ماركس، تعريب سهيل القش، ضمن الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، المؤسسة الجامعية بيروت، 1983، ص 10.

26 – Tullio Gregory: L’idea di natura Prima in: la filosofia della natura nem Medioevo Milano, 1966, pp.34-35.

27 – الدكتور أحمد العلوي: الطبيعة والتمثال: الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، ص173.

28 – رسائل ابن رشد، ص3، حيدر آباد الدكن، الهند 1947.

29 – جوامع ما بعد الطبيعة، ص 51.

30 – تفسير ما بعد الطبيعة، اللام 1474.

31 – المرجع السابق، ص 1468-1472.