مجلة حكمة
فلسفة سبينوزا الوجود بين الوحدة والاختلاف

الوجود بين الوحدة والاختلاف في فلسفة سبينوزا – أحمد العلمي

فلسفة الدين عند سبينوزا

مما لا شك فيه أن الفلسفة المعاصرة قد أضفت على مفهوم الوجود بعدًا أساسيًا منذ ظهور فلسفة سبينوزا. وأصبح الوجود بذلك هو المفهوم الرئيس في الفلسفة. وفعلا، فقد منحَ هايدجر، بربطه بين الوجود والزمن، بعدًا خلاَّقًا للأونطولوجيا، موقظًا بذلك الفلسفة من سباتها الميتافيزيقي العميق لكي تعود إلى حظيرة التفكير في الوجود. وعمل دولوز، من جهته، على ربط الوجود بالاختلاف وبالتكرار وبالصيرورة، فأصبح الوجود إبداعًا وخلقًا وبناءً للمفاهيم الجديدة، مفاهيم تفجر قوة الفكر وقوة الحياة. ويشكل هذا الرجوع لمفهوم الوجود دفعًا للفلسفة وللتفكير الفلسفي، مثلما أنه يمثل ربطًا لحاضر الفلسفة بماضيها الأونطولوجي. وكأن الفلسفة قد بدأت مع ماقبل السقراطيين، مع هيراقليطس وبارمنيدس، بالتفكير في الوجود لتعود ثانية، في الفلسفة المعاصرة، لتعطيَ الوجود حضورًا متميزًا.

غير أن أصل هذا العود لإشكالية الوجود ليس وليد الفلسفة المعاصرة، بل يرجع الفضل فيه، حسب المختصين1، إلى الفلسفة السبينوزية. فهي التي أعطت الوجود، في عمق فلسفة القرن السابع عشر، قوة ونفسًا جديدين كانا قد خفتا عندما انهممت الفلسفة بقضايا يعود أصلها إلى قوى متعالية. وبالفعل، فقد جسدت الفلسفة السبينوزية عودًا مظفرًا لمبحث الوجود.

فأهم ملامح أصالة كتاب “الإتيقا” تكمن بالأساس في إعطائه مشكل الوجود، مفهوم الوجود، دورًا أساسيًا في بنائه الفلسفي. وقد بينت دراسات دولوز أن كتاب “الإيتيقا” قد أسس أونطولوجيا أصيلة وخلاقة، أونطولوجيا تجاوزت التصورات اللاهوتية، بل تجاوزت كذلك التصورات الميتافيزيقية، كـ الفلسفة الديكارتية. ولن يكون بعيدًا عن الصواب الإقرار بأن التصور الأونطولوجي السبينوزي هو المؤسس الفعلي للحداثة الأونطولوجية الراهنة. حقيقة أن كتاب “الإيتيقا” يتحدث عن الجوهر الفرد الذي ينطوي على ما لا نهاية له من الصفات والأحوال، وحقيقة أن سبينوزا قد سمى كتابه الأول، في الله، غير أن ذلك كله لا يعني أنه قد ظل وفيًا للتقاليد القروسطية المعروفة. ف

مقصود سبينوزا عند حديثه عن الجوهر وعن الله هو الوجود. فالله، أو الوجود، أو الجوهر تعبيرات عن معبر عنه واحد، وتسميات لمسمى واحد. بل إن سبينوزا استعمل المفاهيم التقليدية، كمفهوم الجوهر ومفهوم الله ومفهوم الصفة، لضمنها بمعنى أونطولوجي لم تعهـده الفلسفة من قبل. والواقع أن تعامل سبينوزا مع مسألة الإبداع الفلسفي قد اتخذ مسارًا متميزًا، ويقوم بالخصوص على إفراغ المفاهيم المتداولة من أجل شحنها بمعنى جديد كل الجدة. فبعدما كان مفهوم الله ومفهوم الجوهر، وهما المفهومان الأكثر تداولا منذ أرسطو والفكر الديني، يحملان أبعادًا لا تَفِي بمطامح الأونطولوجيا وَمتطلباتها، أصبحت، مع سبينوزا، تعبر عن الطموح الأونطولوجي المحض.

أصبح مفهوم الجوهر، بل أصبح مفهوم الله، ينطوي على كل الصفات وعلى كل الأحوال، وأصبح علة محايثة للكل وعلة قريبة للكل. لقد أصبح مفهوم الجوهر أو مفهوم الله، بعدما كان عُربون التعالي المجسد للفكر الميتافيزيقي وللفكر اللاهوتي، شرطًا أساسيًا لتأسيس الأونطولوجيا. أصبح مفهوم الله محايثًا لكل الصفات المؤسِّسَة لماهيته. لذلك فالخصائص التي أسندها سبينوزا لمفهوم الجوهر أو لمفهوم الله هي خصائص تجعل كل واحد منهما هو التعبير الصريح عن الهدف الأونطولوجي، وعن الطموح الوجودي.

لذلك فافتتاح سبينوزا لكتابه بجزء عن الله هو في حقيقته افتتاح بمفهوم الوجود. مثلما أن إقراره بجوهر واحد لكل الصفات معناه أن الوجودَ فرد، مع أنه ينطوي على كل الصفات والأحوال. هكذا حقق سبينوزا قلبًا للتصوات اللاهوتية والميتافيزيقية باستعمال مفاهيمها ومصطلحاتها مؤسسًا بذلك أونطولوجيا تعطي لمفهوم الوجود البعد الذي يستحقه.

تهدف هذه المقالة إلى رسم معالم هذه الثورة الأونطولوجية التي أحدثها سبينوزا. غير أنه سيكون من الضروري، من أجل إدراك هذا الإسهام الكبير لكتاب “الإتيقا”، تقديم صورة عن البحث الأونطولوجي قبل الفلسفة السبينوزية، وعن المفاهيم التي كانت سائدة آنذاك.

الفلسفة ومفهوم الوجود بين الوحدة والاختلاف

الواقع أن الفلسفة قد بحثت منذ البداية في مفهوم الوجود. حقيقة أن هذا التفكير قد اتخذ وساطات متعددة ومتنوعة، غير أنها لم تكن إلا الوسيلة المفهومية الممكنة آنذاك للاقتراب من مفهوم الوجود. وبالفعل فقد عملت الفلسفة الطبيعية عند ماقبل السقراطية وسعها من أجل بناء تصور فلسفي أصيل قائم على وحدة العنصر الطبيعي أو على العناصر الطبيعية. فعندما قال طاليس “الماء أصل كل شيء”، فإنه كان يَرزَحُ تحت وطأة البحث عن الأصل الذي كان هو المحرك الأساسي للأسطورة وللدين، وحقيقة كذلك أنه أعطى العنصر الطبيعي، الذي هو الماء، قيمة أساسية تجعل منه ذروة التصور الوجودي.

لكن ذلك كله لا يمنع، ولن يمنع، من معاينة الثورة الأساسية والخلاقة التي قام بها هذا الفيلسوف الأَيُّونِي. لقد أقصى، بالفعل، التعالي الديني والأسطوري القائم على مفهوم الإله، أو الآلهة، وأسس مستوى من المحايثة تكون عناصرُه المؤسسةُ من أصل طبيعي. ومن جهة أخرى، نلحظ أن طاليس هو أول من شق الطريق نحو وحدة الوجود، حتى وإن عبر عن ذلك بشكل غير واضح. وكما قال نيتشه:”رأى طاليس وحدة الوجود؛  وعندما أراد أن يعبر عنها، تحدث عن الماء”2.

كانت تلك هي انطلاقة البحث الأونطولوجي. واستمر الأمر على ذلك المنوال عند الفلاسفة الطبيعيين ليصل البحث الوجودي إلى إحدى قممه مع هيراقليطس وبارمنيدس. لقد أصبح الوجود عند هؤلاء متصورًا، لا عَبْرَ وسائطَ طبيعية كما هو الشأن عند الفلاسفة الطبائعيين، بل مباشرة وبلا أي وساطة. (وذلك هو السبب الذي يجعل هايدجر يعتبر فلسفة بارمنيدس وهيرقليطس أعلى قمة في البحث الوجودي).

غير أن البحث الفلسفي لم يتابع هذا التوجه، ولم يسر على خطاه. إذ سرعان ما عادت الأمور تختلط وتتراكم فوق الوجود ليتوارى خلف وصاية وسائط عدة. ويمكن القول إن مفهوم الوجود قد عاش، لمدة طويلة، تحت وطأة خطرين أساسيين. يكمن الخطر الأول في الفكر الديني، الفكر الذي عاد مرة أخرى ليفرض تصوره المقابل للفلسفة. وبالفعل، يقوم الفكر الديني على مفهوم التعالي الذي يلغي الفلسفة ومفاهيمها الأساسية كمفهوم الوجود. لقد نصب الدين كائنًا خارج الوجود، ومتعاليًا عنه. وقد حاول رجال اللاهوت تدارك الموقف، بإقامة مفهوم اسمّي للوجـود، أي بإقامة وحدة اسمية للوجود.

هذا في حين أن المفهوم الحقيقي للوجود ينقسم إلى معان متعددة ومختلفة يستحيل ردها إلى مفهوم واحد. وهذه القسمة تفترض تعالي الكائن الكامل والمطلق. ونجد هذا التصور عند جميع الفلاسفة الدينيين الذين وهبوا أنفسهم للدفاع عن قسمة الوجود وتراتبه. غير أن هذه القسمة وهذا التراتب عصفا بمفهوم الوجود. فليست الوحدة الإسمية بشيء، ولا يمكنها أن تضمن للوجود قوة فعلية ومؤسسة لمبحث الوجود.

فإذا كان الوجود مختلفًا متعددًا بتعدد الوجودات، فما الذي يسوغ الحديث عن مفهوم واحد للوجود؟ ما الذي يضمن وحدة مفهوم الوجود؟ يهدف الدين والفكر الديني، في الحقيقة، إلى نفي البحث الأونطولوجي، وإلى نسف الفلسفة ومفاهيمها. هكذا تتعدد معاني الوجود بتعدد الموجودات، ويتوارى مفهوم الوجود. ذلك هو الخطر الأول النابع من الفكر الديني ومن الدين والهادف إلى محو مفهوم الوجود وتذويبه.

ويكمن الخطر الثاني، الذي يتهدد المبحث الوجودي، في التوجه الذي يضع الوجود بصفته مفهومًا واحدًا على جهة المناسبة والتناسب. وقد أخذ هذا التوجه الوجودي انطلاقته مع الفلسفة الأرسطية في صياغتها للمقولات العشر. لقد أعطى أرسطو للوجود البعد الأساسي الذي يستوجب على الفيلسوف القيام به، غير أنه قد وضعه تحت وسائط من شأنها الحد منه وتحجيم الدور الذي ينبغي عليه القيام به. فالمقولات العشر تقسم مفهوم الوجود وتعدد معانيه.

فالوجود الذي للجوهر يختلف عن الوجود الذي للعرض والكم والكيف، إلخ. غير أن هذه القِسمة تظل قسمةً تراتبيةً، إذ أن الوجود لا يُحْمل على الجوهر بالشكل الذي يُحْمل به على العرض. وأمام هذه القسمة التي تدور على مقولات عشر، استدرك أرسطو والأرسطية اللاحقة على وجه الخصوص الأمر بإقامة علاقات التناسب بين هذه المعاني. فالوجود متعدد مُنقسمٌ مُتَراتب، لكنه متناسب، إذ نسبة الوجود للجوهر هي نفس نسبته إلى العرض. فالاختلاف في المعنى والحكم، والاتفاق في النسبة. يحاول التناسب أن يقيم تصورًا لمبحث الوجود، أي الأونطولوجيا. لكن هل ينجح التناسب في ضمان الوحدة الوجودية التي تطالب بها الأونطلوجيا؟ هل يستطيع أن يُوَفِّرَ للوجود الشروط التي ينادي بها؟

يبدو أن هذا الموقف يؤدي هو نفسه إلى إضعاف مبحث الوجود. فالتراتبية التي تنخر الوجود وذلك بغية منح الجوهر مرتبة أعلى من الأعراض، تعيد إنتاج التعالي الديني. وبالفعل، فكون الوجود مُنْقسمًا بانقسام المقولات يفتح المجال لانتصاب المتعاليات. وهذا ما جعل الفلسفة الأرسطية تجد آذانًا صاغية في الفلسفة الدينية القروسطية. إذ ستصبح التراتبية المقولية، بين الجوهر والأعراض، قائمةً على تراتبية وجودية بين الوجود الإلهي والوجود الطبيعي.

وقد جسد كل من ابن رشد، في الفلسفة الإسلامية، والقديس طوما الإكويني، في الفلسفة المسيحية، هذا التوجه في تاريخ الفلسفة. واستطاع ابن رشد الادعاء بأن الفلسفة توافق الدين، إذ الحق لا يضاد الحق، بل يدعمه ويسانده. نعم، الحق لا يضاد الحق، لكن متى كان حق واستحقاق الأونطولوجيا، أي مبحثِ الوجودِ، هو التناسب؟ متى اكتفت الأونطولوجيا بوهم واستيهام التناسب؟ لا يقيم أصحاب هذا الموقف التوفيق بين الفلسفة والدين إلا بإفراغ محتوى الوجود من معناه الحقيقي القائم على التواطؤ، أي وحدة معنى الوجود. وعندما ينتفي التواطؤ، يصبح الوجود متراتبًا بتراتب الموجودات.

والوحدة التي يضمنها التناسب ليست سوى وحدة عابرة ووهمية. إنها لا تتحدد إلا في إطار اعترافها وقبولها بموجود متعال ينفلت من قبضة الفهم والإدراك. يوافق التناسب الفكر الديني، بل الدين نفسه، لكونه ينصب موجودًا متعاليًا. لم يكن التناسب ليفي بمتطلبات مبحث الوجود قط؛ كما أنه لم يخدم أهداف الفلسفة والأنطولوجيا قط. لقد كان التناسب هو الوسيلة التي استطاع بها الفكر الديني القائم على التعالي أن يخترق الفلسفة ليذَوِّب قُوَّتها ويُطَوِّعها لغاياته وأهدافه. تنحو الأونطولوجيا إلى التواري تحت وقع التناسب، كما تنمحي تحت وقع تعدد معاني الوجود. لا تتأسس الأونطولوجيا إلا عندما يكون مفهوم التواطؤ، أي وحدة الوجود، قائمًا، إلا عندما تتلاشى مفاهيم التعالي والتسامي3.

هكذا نرى أن الفلسفة قد ظلت لمدة طويلة ضحية تخوف كبير ودفين من مفهوم الوجود. وقد اتخذ هذا التخوف صورًا عدة، وأقنعة تنوعت بحسب الحقبة الفلسفية. لا يعني ذلك أن الفلسفة قد أقصت مفهوم الوجود، لأن ذلك سيقودها إلى العدم المحض والنفي الصرف، وإنما يعني بالأساس أنها عملت على تدجينه وإلجام قوته بوضعه تحت آليات الحِجْرِ الديني القائمة على التعالي، أو تحت وطأة وساطات تأخذ على عاتقها تطهيره من كل وحدة وتواطؤ.

الفلسفة ووحدة الوجود

غير أن للفلسفة كيفياتها في تخطي الحواجز التي تعترضها، والفخاخ التي تنصب لها. إذ انتصبت أصوات من داخل الفكر الديني نفسه معارضة تعدد معاني الوجود، وتناسب حكمه، مانحة بذلك للأونطولوجيا مشروعيةً وإمكانيةً. فلم يُحجم الدين قوى الفلسفة دون أن يطلق، على الرغم منه وباستقلال عن إرادته، قوى إبداعية خلاقة ستعيد للوجود، أو على الأقل ستحاول أن تعيد له، حقه واستحقاقه. وبالفعل، فلو نحن ألقينا نظرة على الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، لعايَنَّا كيف دافع علم الكلام عن وحدة معنى الوجود. وكتب المعتزلة تقدم لنا نصوصًا أصيلة حول وحدة حكم الوجود. يعبر عن ذلك المفكر المعتزلي ابن متوية قائلا:”فثبت أن هذه الصفة [الوجود] هي غير صفة الجنس.

ثم ترتب عليه القول بأنها صفة واحدة من حيث يظهر بها حكم صفة الجنس”4. يقول أيضا:”ثم ذكر [القاضي عبد الجبار، وهو من أتباع مدرسة أبي هاشم الجبائي] في الكتاب [“المحيط”] فصلاً يتضمن أن صفة الوجود صفة واحدة في الذوات الموجودة. ولعله ذكره ليبين أن حال القديم تعالى في كونه موجودًا لا تخالف سائر الموجودات لأجل وجودها”5؛ “فإذا صحت هذه الجملة [أي أن تماثل الحكم دال على تماثل الصفة] وكان حكم صفة الوجود ما ثبت من ظهور صفة الذات بها حتى يكون هو الذي يصح ذلك وقد عرفنا أن هذا غير مختلف في الذوات”6، “فاختلف المقتضى [أي صفة الذات] لا لاِختلاف الوجود في نفسه”7، “فوجب أن تكون الصفة واحدة وأن لا تختلف”8.

وقد شكل هذا التصور الاعتزالي توجهًا خلاقًا داخل الفكر الإسلامي، ومنح للأونطولوجيا حضورًا في حضن اللاهوت نفسه. غير أن هذا المنحى الخلاق للوجود الذي قطع مع الفكر الديني بخلفياته الذاهبة إلى نفي الوجود، قد كان تصورًا حمليًا فقط، إذ أنه يحمل على الجوهرية والعرضية9 والإلهية10، لكنه لا يؤسسهما تأسيسًا. ومن ثم اضطر أبو هاشم المعتزلي الشهير، من أجل الدفاع عن وحـدة الوجود، إلى القول بأن الوجود حال أو صفةٌ، أي أنه من حيث هو وجـود وحـال ليـس بواجـبٍ وليس بممكنٍ، ليس بقديمٍ وليس بمحدث11. فالوحدة الوجودية التي يتحدث عنها أبو هاشم هي وحدة حيادية، وليست وحدة إثباتية.

والأمر نفسه نجده في الفلسفة المسيحية. فقد بينت دراسات إيتيان جيلسون وجيل دولوز أن دان سكوت دافع بحرارة عن وحدة معنى الوجود. من المعروف والثابت تاريخيًا أن دان سكوت قد نهل من فلسفة الشيخ الرئيس، ابن سينا، لبناء تصوره الوجودي. فقد أخذ عن ابن سينا تصوره للماهية وحيادها عن كل المقولات المنطقية. والوجود حسب دان سكوت يتمحور على المستوى نفسه الذي تتمحور عليه الماهية عند الشيخ الرئيس.”لنفرض أن الوجود الذي يتحدث عنه دان سكوت قد كان متصورًا من طرفه على غرار إحدى الماهيات التي كان ابن سينا يقول عنها إنها، إن نُظِرَ إليها في نفسها، فإنها ليست سوى هي.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الوجود منظورا إليه بصفته وجودًا بالضبط، لن يكون جزئيًا ولا كليًا، لا متناهيًا ولا غير مُتَنَاه، ليس بأولٍ وليس بِثَانٍ، لا كاملاً ولا غير كامل.”12. يقول جيل دولوز، “لقد تَمَّ في كتاب  l’Opus oxoniense، وهو أكبر كتاب للأونطولوجيا الخالصة، تم التفكير في الوجود بصفته متواطئًا، لكن الوجود المتواطئ  تم التفكير فيه بصفته محايدًا، ولا مباليًا باللامتناهي وبالمتناهي، بالجزئي وبالكلي، بالمخلوق وباللاَّمخلوق. ويستحق دان سكوت أن يسمَّى “الدكتور اللطيف”، لأن نظره عزل الوجود قبل تقاطع الكلي والخصوصي”13·

هكذا نرى أن اللاهوت، أي الفكر الديني، قد وجد في حضن الدين وسائل الدفاع عن الفلسفة وعن الأونطلوجيا. وقد منح ذلك الفلسفةَ الوجوديةَ انتعاشًا ضروريًا جعلتها تنفلت من قبضة السلطة الدينية. غير أن هذه التصورات البارعة والجريئة، سواء عند أبي هاشم أو عند ابن سينا أو عند دان سكوت، لم تقترب من الوجود إلا من خلال مفهوم الحياد، ومفهوم اللامبالاة. في حين أن الأونطولوجيا لا تقنع بالحياد، ولا يمكنها أن تقنع بالحياد. إنها تطالب ببعد إثباتي للوجود.

حقيقة أنها تنادي بعزل الوجود عن كل مفهوم فزيائي وميتافيزيقي غريب عنه، غير أنها تعمل كذلك على التفكير في الوجود المؤسِّسِ لكل موجود. إنها تطالب بالوجود الذي يكون إثباتيًا، لا محايدًا. لذلك كان من اللازم أن تجد الفلسفة مخرجًا جديدًا لإعطاء الأونطولوجيا حقها واستحقاقها. وقد حصل ذلك في الفلسفة السبينوزية. إذ أصبح الوجود واحدًا، متواطئًا، وإثباتيًا. “فعوض التفكير في الوجود المتواطئ بصفته مـحايدًا أو لا مباليًا، فإن [سبينوزا] يتخذه موضوع إثبات خالص. فالوجود المتواطئ يختلط مع الجوهر الـفرد، الكـلي واللامتناهي: لقد وُضـِعَ بصفته صيغة تقول: الله أو الطبيعة “14·

لقد جسد سبينوزا الفلسفة الأونطولوجية في قُوَّتِهَا عندما رفض، في الوقت نفسه، مفهوم الاشتراك الاسميّ ومفهوم التناسب. فللجوهر، أي للوجود، معنى واحد سواء كان هذا الجوهر  صفات أو أحوالاً. فلم يعد للوجود معانٍ متعددة ومختلفة كما هو الشأن في الفلسفة الدينية، مثلما أنه لم يظل تحت وصاية التناسب الأرسطي ــ الرشدي ــ الطوماوي. لقد أصبح الوجود في النسق السبينوزي واحدًا فريدًا يحمل على الكـل دون تغـير أو تَبَعُّـضٍ. جوهر واحد لكل الصفات ولكل الأحوال، ذلك هو التعبير الأصيل للأونطولوجيا السبينوزية.وكتاب “الإيتيقا” كله نشيد صريح للوجود. إذ لم تصل الفلسفة من قبل إلى هذا الحد من التفاني من أجل الوجود، وإلى هذا العمل المضني لتخليصه، في آن واحد، من شوائب الميتافيزيقا والدين على حد سواء.

موقف سبينوزا وقيمته في تاريخ الفلسفة

إلا أن بعض الباحثين يصرون مع ذلك على الإقرار بأن سبينوزا مدين في تصوره الأونطولوجي لهذا الفيلسوف أو ذاك. بل هناك من يعتبر مفهوم وحدة الوجود الذي ورد في  “الإيتيقا” إنما هو مفهوم آت من تاريخ الفلسفة. لنحاول مناقشة هذه المواقف ولنبين مدى صحتها. من الأكيد أن سبينوزا قد نهل من التراث الفلسفي السابق عليه، وبالخصوص من التراث اليهودي والعربي. ونحن رأينا أن الفكر الديني سواء الإسلامي أو المسيحي قد أعطى مفهوم الوجود أبعادًا خلاقة. لكن هل هذا يكفي لجعل سبينوزا تلميذًا لهذه الفلسفة أو تلك؟ هل يمكن الادعاء أن سبينوزا لم يعمل سوى على استحضار الماضي الفلسفي؟ نعم هناك العديد من الباحثين الذين اعتقدوا أن فلسفة سبينوزا “مدينة لفلسفة ابن رشد في مبناها ومعناها”.

غير أن أطروحة من هذا الشكل تُغيِّب الفوارق الهائلة والعميقة التي تفصل بين الفلسفتين، ولا تتطرق لدراسة نصوص كل من الفيلسوفين. لقد رأينا أن فلسفة ابن رشد تدعو إلى تناسب مفهوم الوجود. في حين أن التصور السبينوزي يقوم في أساسه على رفض التناسب، وعلى القول والإقرار بالتواطؤ.  إن الوجود يتحلى بمعنى واحد على الرغم من تنوع محمولاته. غير أن تعارض الفلسفتين لا يقتصر على مستوى مبحث الوجود، بل إنه يتعداه إلى مستويات أخرى سنرى محتواها في الفصول اللاحقة.

ربما كانت مواقف سبينوزا أقرب إلى فلسفة الشيخ الرئيس، ابن سيـنا، منـه إلى فلسفة ابن رشد. لقد دافع سبينوزا عن مواقف الشيخ الرئيس في أكثر من مناسبة، حتى وإن لم يذكر اسمه بصريح العبارة 15. لقد تبنى سبينوزا في، “الرسالة القصيرة” و”الخواطر الميتافيزيقية”، وهما من أعمال مرحلة الشباب تقسيم ابن سينا للوجود إلى وجود واجب ووجود ممكن، بعد رفضه للتقسيم الأرسطي- الرشدي القائم على تقسيم الوجود إلى وجود في الأعيان وإلى وجود في الذهن. وسنرى أن سبينوزا يعتنق في كتاب “الإيتيقا” نفسه بعض إِبداعات الشيخ الرئيس في مجال الميتافيزيقا والأونطولوجيا.

لكن بقدر إقرارنا بالصلات بين الفلسفتين في مجالات أونطولوجية حاسمة، يكون إصرارنا على اختلاف المذهبين. فلم يتخلص الشيخ الرئيس، بالرغم من طموحاته وإبداعاته، من الإرث الأفلوطيني القائم على التراتب الوجودي؛ مثلما أنه لم ينفصل، بالرغم من تفوقه ونجاحه في ابتكار مفاهيم أصيلة وخلاقة، عن التصور التشكيكي للوجود، وهو التصور الذي يحجم الوجود في التراتب والتعالي. في مقابل ذلك أسس سبينوزا ركائز أونطولوجيا التواطؤ والمساواة. وتبنيه لمفاهيم سينوية كان الهدف منه هو الدفع بالتصور الأونطولوجي إلى الأمام بتخليصه من الأثر الأفلوطيني القائم على التراتب والتعالي.

فالتمييز السينوي الشهير بين الوجود والماهية، وهو تمييز أخذه في واقع الأمر من المعتزلة، يتخذ في فلسفة سبينوزا أبعادًا أصيلة. تصبح الماهية في النسق السبينوزي درجة من القوة وليس تجريدًا. ثم إنها تصبح في حاجة إلى قوانين ميكانيكية محضة في تحققها، قوانين تستند إلى العلم الميكانيكي والرياضي الذي أخذت تبرز وتهيمن في ساحة العلم الطبيعي مع مطالع القرن السابع عشر. مثلما أن الله يصبح، في التصور السبينوزي، من حيث كونه علةً، علةً قريبةً، مادام علة محايثة لمعلولاتها. تلك هي بعض الجوانب الأساسية التي تتميز بها فلسفة سبينوزا عن فلسفة الشيخ الرئيس. وهي جوانب تسمح بالإقرار بأصالة فلسفة سبينوزا وبخروجها عن التقاليد الميتافيزيقية السابقة لها.

غير أن انفصال سبينوزا عن الأثر الفلسفي العربي كان متبوعًا بانفصال آخر، هو الانفصال عن الأثر القادم من الفلسفة اليهودية. من الأكيد أن تكوين سبينوزا اللاهوتي كان يؤهله لأن يكون متشبعًا بالفلسفة اليهودية وباللاهوت اليهودي. فقد برع أكثر من فيلسوف في حظيرة اليهود طابعين بذلك الفكر الفلسفي بطابع خاص ومتميز. ولعل أسماء مثل موسى ابن ميمون، وكريسكاس وأريال داكوستا خير دليل على هذا النبوغ الفلسفي للثقافة اللاهوتية اليهودية. لقد كان سبينوزا مرتبطًا ارتباطًا قويًا بالثقافة اليهودية. كان ينتمي إلى الطبقة الغنية لأمستردام الـمساهمة مباشرة في السلطة.

وعائلة سبينوزا نفسها تنتمي إلى مقام عال. وقد درس سبينوزا في الـمدارس اليهودية، وشارك بدون شك في الحجاج الديني الذي شب فيها16. كل ذلك يؤهل سبينوزا لحمل مشعل الثقافة اليهودية واللاهوت اليهودي. بل إن النقاشات التي انفجرت داخل المعبد اليهودي في هولاندا والتي كان كُلٌّ من أوريال داكوستا وجوان دو برادو من أبطالها، كان سبينوزا على علم بها. غير أن ذلك كله لا يكفي للإقرار بكون سبينوزا ابنًا بارًا للفكر اليهودي أو أنه سار على خطاه.

“لقد انفصل تصور الوجود عند سبينوزا، منذ البداية، عن صورتين تقليديتين بلورتهما التقاليد اليهودية:الغائية اللاهوتية، التي وجدت تعبيرًا لها في المحايثة وفي الصورة الأفلوطينية، كي يصل على العكس من ذلك إلى تصور واقعي وإنتاجي للوجود. وهي واقعية إنتاجية لا يمكن فهم معناها دون قطع السبيل الذي يحمل من الاتجاه الإنساني الأول إلى الصورة العلمية، والذي ينفصل بشكل نهائي، خلال هذا المسار، عن أساس لاهوتي. فالتصور القائم على محايثة الوجود الإلهي للوجود قد كان حاضرًا في مجموع التراث الميتافيزيقي اليهودي، ويجد في موسى بن ميمون فلسفته السامية؛ مثلما أن التراث القبَّالي، من جهته، والذي يبرز بقوة في فكر كريسكاس، يحمل معه في داخل الاتجاه الإنساني فكرة الخلق-التقهقر ذات الأصل الأفلوطيني: كان سبينوزا على علم بهذين النوعين الميتافيزيقين للتراث اليهودي، لكنه كان يعلم ذلك من أجل التحرر منه”17.

هكذا نرى أن ربط الفلسفة السبينوزية بالثرات اليهودي كما هي عادة بعض الباحثين هو أمر لا يستند على قرائن فلسفية ومفهومية ثابتة· فاطلاع سبينوزا على مجمل هذا التراث ومعرفته الجيدة بفحوى مواقف موسى بن ميمون لا يقوم دليلاً على تأثره بهذا التراث. إن إثبات التأثير أو نفيه يقوم على تحليل المفاهيم والمقارنة بين الأنساق الفلسفية. فالتوجه الأونطولوجي للسبينوزية الذي يقيم الوجود على مفاهيم المحايثة والتواطؤ والإنتاج المباشر والتلقائي هي التي جعلت فلسفة سبينوزا فلسفة أصيلة وخلاقة.

لقد أرجع بعض الباحثين جذور الفلسفة السبينوزية في تعبيرها عن وحدة الوجود إلى جيوردانو برينو18. نعم لقد قال جيوردانو برينو بوحدة الوجود، وقال بلاتناهي الكون مؤسِّسًا بذلك خروجًا عن التصور التقليدي الذي كان سائدًا في الكنيسة وفي الفكر اللاهوتي للقرون الوسطى. غير أن ذلك كله لا يجعله سلفًا لفلسفة سبينوزا. ففضلاً عن كون سبينوزا مدفوعًا، في صراعه ضد المعبد اليهودي، بشكل طبيعي إلى البحث عن عناصر القوة والسند، لا في فلسفة عصر النهضة وإنما في الفلسفة المعاصرة له، وبالخصوص في العلم الحديث الذي أخذ يتأسس مع مطالع القرن السابع عشر.

فضلا عن هذا كله، فإنه قد بنى تصورًا يختلف اختلافًا جذريًا عن وحدة الوجود التي قال بها جيوردانو برينو:”إن انتاجية الوجود التي يحددها جيوردانو برينو لا تتحرر أبدًا من التشابه مع إنتاجية صناعية أو الخلق الصناعي، وبالتالي تسقط ثانية فوق حقل النـظرية الإحيائية الكونـية. هذا في حـين أن التصور الوجودي السبينوزي هـو عـلى العكـس مـن ذلك تصور فائض- التحديد، يصـوغ نفسه بعيدًا عـن كل تناسـب أو استعارة: إنه التصور الذي يتأسس بصدد وجود قوي، وجود لا يعرف التراتب، ولا يعرف سوى قوته التأسيسية”19·

سبينوزا وديكارت

هكذا نرى أن فلسفة سبينوزا قد أحدثت، من خلال كتاب “الإتيقا”، قطيعة مع التصورات اللاهوتية التي توالت على مبحث الوجود من أجل الحد من قوته. لقد شكلت، عند قولها بوحدة معنى الوجود، نتوءًا متميزًا في حضن القرن السابع عشر، بل وفي حضن تاريخ الفلسفة نفسه، وتأسيسًا فعالاً للحداثة الفلسفية. وهذا التصور الذي أحدثه سبينوزا هو الذي يفصله عن الفلسفة الديكارتية، وهو الذي يجعله فيلسوفًا مضادًا للديكارتية التي ظلت، على الرغم من إبداعاتها في مجالات عديدة، رهينة الخلفيات الميتافيزيقية التقليدية.

نعم، مما لا شك فيه أن ديكارت قد أحدث ثورة في الفكر الفلسفي، ومما لا شك فيه كذلك أن الفلسفة الديكارتية كانت ومازالت محطةً أساسيةً في تاريخ الفلسفة الحديثة. إذ أنها تنطعت عن الفكر المدرسي المثقل بالخلفيات الدينية المعادية للتفكير الفلسفي، وحاولت ربط الصلة بين الفلسفة والفيزياء المعاصرة التي أخذت تتأسس في بداية القرن السابع عشر.

وقد قادها هذا إلى الانفصال عن الفيزياء الأرسطية، بل عن الميتافيزيقا الأرسطية برمتها، عندما رفضت تأسيس الطبيعة، لا وفق مقولتي الجنس والنوع، أي لا حسب المفاهيم الكلية المتعالية، وإنما حسب الخاصية اللازمة للشيء، أي وفق الصفة الأساسية للشيء. فأصبح الحدس هو سبيل العقل نحو معرفة الواقع الفعلي. الأمر الذي مَكَّنَ الفلسفة من بناء معرفة محايثة وواقعية للمواضيع الفيزيائية. كل ذلك شكل إسهامًا للفلسفة الديكارتية في تاريخ الفلسفة، وتحولاً أساسيًا في الفكر الفلسفي الحديث.

غير أن الديكارتية ظلت رهينة بقايا لاهوتية حاسمة بالرغم من هذا الطموح الفلسفي الفعلي وبالرغم من هذه الرغبة الجامحة في تفعيل اكتشافات العلم في مجال الفلسفة. ونحن نعرف أن ديكارت لم يعتقد قط أن على الفلسفة إقلاق الدين، أو النيل من القيم الأخلاقية القائمة، بل إنه دعا باستمرار، في المحافل الرسمية وفي نصوص شهيرة كذلك، إلى سلوك طريق معتدل يحترم فيه الفيلسوف الوضع القائم والاعتقاد السائد. وفي كتاب ”مقال في المنهج”، صرح ديكارت في الجزء الثالث أنه قد بنى لنفسه أخلاقًا تقوم على ثلاثة أو أربعة حِكَمٍ يجب اتباعها. الأولى هي الخضوع لقوانين وطني ولطقوسه، والحفاظ باستمرار على الدين، وتعتمد من جهة أخرى على عدم الغلو في الأفكار والمواقف واتباع طريق معتدل يمكنه من التعايش مع الآخرين20. ولذلك لم يُشكل ديكارت القطيعة التي تنادي بها الفلسفة وتطالب بها مع الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي. ولم تستطع فلسفته النجاح والتوفق في التعبير الكامل والوفي عن الثورة الفكرية التي حققها الفكر العِلْمِي آنذاك.

مجلة مدارات فلسفية