مجلة حكمة
الجريمة والعقاب

الجريمة والعقاب: محاضرات حول دوستويفسكي

الكاتبجوزيف فرانك
ترجمةاليازي

قدم جوزيف فرانك الناقد والأستاذ الفخري في الأدب السلافي والمقارن في جامعة ستانفورد محاضرات حول “دوستويفسكي وزمانه” ناقش فيها عدداً من أعماله المهمة كالفقراء والمثل وذكريات من منزل الأموات وفي قبوي والجريمة والعقاب والأبله والأخوة كارامازوف. أعدت هذه المحاضرات زوجته بمساعدة أحد طلابه للنشر حديثاً. أثناء الترجمة وجدت بأنه من الأفضل إضافة عناوين فرعية للنص الأصلي لأغراض فنية.

المحاضرة الأولى

حين نعيش الفكرة

الجريمة والعقاب هي العمل الروائي الأول الذي تجلت به الموهبة الناضجة لدوستويفسكي، كما أنها كتابه الأول الذي استهل به سلسلة من أعمال روائية تتسم بالنضج ذاته الذي عُرف به بين قرائه. وعلى الرغم أنه تعد روايته” في قبوي” كذلك أحد أعماله الأولية الناضجة، فلم يكتب دوستويفسكي عملاً يماثله ويضاهيهِ تعقيداً إيديولوجياً مكتوباً في نصٍ لمونولوج داخلي، لكنها لم تزد على أن تكون محض تسلية. اتسمت قلة من أعماله القصصية اللاحقة بطابع مماثل رغم بساطة محتواها، لكنها لم تكن إلا شكلاً غير مكتمل لموهبته، كما أنها لم تشكل جزءاً أساسياً من تطوره الفني الرئيسي، وإن كانوا روائع على طريقتهم الخاصة.

اتضح التطور الفني الذي ظهر على أدب دوستويفسكي بشكل أساسي في أعماله الروائية الكبرى والتي تعد الجريمة والعقاب أُولاها، فقد ارتكز محور عمله فيها على النسق المعقد الذي سبق ولوحظ في روايته “في قبوي” والذي تتبنى به الشخصية الرئيسية إحدى إيديولوجيات النخبة الثقافية الراديكالية وتطبق معضلاتها على أرض الواقع بينما يوضع هذا التصور الدرامي للإيديولوجية في بنية روائية أكثر تعقيداً واتساعاً. تشابه كلا العملين فيما نهت إليه شخصياتها من تدميرٍ ذاتي حين طبقت وجربت الإيديولوجية في إطار ظروفها الإنسانية الحتمية، لكن لم يجعل دوستويفسكي شخصياته وحدها تعيش صراعاتها بين الفكرة المجردة والواقع المرير فحسب بل أسقطه على نطاق أوسع ليشمل كلاً من الحياة والمجتمع الروسي. 

تتبع أثر

قد تظهر النقلة الفنية بين عملٍ ك “في قبوي” ونظيره “الجريمة والعقاب” أمراً غير قابلاً للتصديق للوهلة الأولى، لكن عند إعادة النظر في بضعة نصوص كتابية خطها دوستويفسكي في بداية مسيرته يمكننا بسهولة تقصي علامات النضوج الروائي في بواكير أعماله. فقد سلط كلا العملين الذين نشرا قبل “ذكريات من منزل الأموات” (“صديق العائلة” و “حلم العم”) الضوء على الأوساط المجتمعية في روسيا بشكل كبير. وعلى الرغم بأنهما لا يشكلان أهمية لما نحن بصدد مناقشته، إلا أن الإسهاب في العقدة الدرامية يظهر جلياً في كلا العملين إذا ما قورنت بأعماله السابقة، ناهيك عن اعتمادها الكلي في الحدث الروائي على تقنية التمويه والكشف المفاجئ.

ونجد هذه التقنيات التي كتبت بها هذه النصوص الأدبية في “الجريمة والعقاب” كذلك. وينطبق الأمر عينه على رواية “مذلون مهانون” التي نشرت في عام ١٨٦٢ جنباً إلى جنب مع “ذكريات من منزل الأموات”، والتي أشاد بها الجمهور القارئ آنذاك وشهد لها بالنجاح دوستويفسكي بنفسه.

محاضرات حول دستويفسكي

ويمكن أن نرى الأثر الذي شكلته الرواية على أعماله اللاحقة خاصة تلك التي كتبت في أربعينيات القرن التاسع عشر، وذلك إذا ما نظرنا فقط إلى عنوانها بصفتيه اللتين لطالما وُسِمت بهما شخصياته. تأثر دوستويفسكي في عمله هذا (مذلون مهانون) بالروايات الاجتماعية الفرنسية التي راجت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن والتي أطلق عليها حينذاك “الأدب التسلسلي” لكونها تنشر مجزئةً بشكل يومي في الجرائد والمجلات. فقد حاكى دوستويفسكي فنياً أعمال كلٍ من أندريه دي بلزاك وتشارلز ديكنز وتبع أسلوبهما الأدبي لتقديره الكبير لهما.

شخصيات هيستيرية وليست مرضية

 بدأ الأدب التسلسلي كأدب شعبي يقرأ للتسلية وتزجية الوقت إلا أنه وبلا شك كان له أثرٌ عظيم على التطور الذي حظيت به البنية التكوينية للأعمال الأدبية الروائية. فقد تميزت حبكة هذه الروايات حينذاك بالغموض والمغامرة وبالعقدة الدرامية ذات التحولات غير المتوقعة والتقلبات المفاجئة. إضافةً إلى اتخاذها للمدن الكبرى والبلدات الصغرى كوسط حضري تدور فيه أحداثها.

ولم يكن اختياراً كهذا عشوائياً على الإطلاق بل كان مقصوداً ومدروساً. فقد كانت البيئة المتحضرة في تلك الروايات على وجه الخصوص جزءاً لا يتجزأ من التركيب الموضوعي للحدث وتؤثر بأشكال شتى على مشاعر وأفعال الشخوص المهمشة التي تعيش في قعر السلم المجتمعي منخرطة في أسلوب حياتي بعيد كل البعد عن العرف الاجتماعي ومتورطون في أحداث غير اعتيادية تدفعهم دفعاً نحو أقصى درجات التوتر والاهتياج، مما يجعل أفعالهم تصنف حتماً تحت بنود الهيستريا والميلودراما بل إنها تكون أكثر ما تكون مفتقرةً للاتزان.

ويمكن لوصف كهذا أن يبرر التهمة التي تدعي بمرضية شخوص دوستويفسكي بلا استثناء. إلا أن اتهاماً كهذا لا يأخذ بعين الاعتبار مرامي دوستويفسكي الموضوعية أو يتبين بأن أعماله الأدبية كتبت بأسلوب روائي تقليدي يختلف في أسسه عن نظرائه الروائيين الروس في عصره. 

دوستويفسكي والمغامرة

أشار الناقد الروسي لينود غروسمان إلى وجوب النظر إلى كتابات دوستويفسكي في السياق التقليدي لرواية المغامرة الأوروبية، والتي تعد نتاج وثمرة الرواية الإنجليزية القوطية الرائجة في أواخر القرن الثامن عشر والتي أحبها دوستويفسكي بشدة في صباه حين عبر عن اعجابه الشديد بأحد أهم كتّابها، آن راديكليف. شكل التحديث الذي خضعت له الرواية القوطية على يد روائيّ القرن التاسع عشر أمثال بلزاك وديكنز اللبنة الأساسية لعوالم دوستويفسكي في رواياته الأخيرة اللواتي احتفظن بسمات تميزت بها أعماله الأولية. فاختيار مدينة مثل بطرسبرج على سبيل المثال قد استخدم بشكل أساسي كرمز ليصور حافة الكارثة المرتقبة التي يعزى لها الوضع الاجتماعي الذي تعيش تحت رحمته شخصياته.

مع ذلك، لم تشتمل الحبكات في رواياته وقصصه الأولى على أي حس بالمغامرة باستثناء عمله الأول “الفقراء” والتي كتبت بهذا النمط لأغراض تهكمية. فلم ينحى دوستويفسكي في بواكير أعماله إلا على نحو طفيف إلى دفع شخوصه إلى حافة الانهيار مقارنةً برواياته اللاحقة.

وعلى الرغم من أن كلاً من (دييفوشكن وغوليادكين) لهما من الأفكار الثورية ما لهم إلا أن ما من جرائم ارتكبت كما حدث في الجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف على سبيل المثال، اللواتي تولى فيهم وقوع الجريمة أهمية كبرى للمعضلة الأخلاقية الاجتماعية التي وقعت في شباكها شخصياتهم. ومن الجدير بالذكر كذلك أن نشير إلى مشكلات شخوصه التي نشأت في بداية مسيرته جراء تمردهم على قوانين طبقتهم الاجتماعية، بينما في أعماله اللاحقة فإن شخصياته تثور لا على ما يملى عليهم من مجتمع بعينه بل على المقتضيات الراسخة في ضميرهم الأخلاقي المسيحي الموروث. 

راسكولنيكوف والدافع النابليوني

حرر غروسمان مقالة شديدة الأهمية عن كلٍ من بلزاك ودوستويفسكي ناقش بها أوجه الشبه بين رواية “الأب غوريو” و “الجريمة والعقاب” وقدم ملاحظات قيمة ذات نفعٍ إذا ما شرعنا بتحليل هذا العمل الروائي آخذين بعين الاعتبار إشارة دوستويفسكي إلى رواية بلزاك الأثيرة عنده في مواضعٍ عدة وارتباط إحدى مشاهدها براسكولنيكوف. يمكننا ملاحظة وجه الترابط عندما نرى أن الشخصية الرئيسية في “الأب غوريو” راستينياك يدرك في إحدى مشاهده بأن باستطاعته أن يرث ثروة هو بأمس الحاجة إليها إذا ما أعطى موافقته الضمنية بقتل أحدهم على يد شخص آخر.

وعند استشارته لأحد أصدقائه وسؤاله تمويهاً عما إذا ما كان سيوافق على قتل رجل طاعنٍ في السن في أقاصي الصين فقد بمجرد موافقته على الفكرة وسيرث ثروة من جرائها، جاء صديقه على ذكر كلٍ من الإسكندر الأكبر ونابليون أثناء حديثهما إذ أجاب بأنه لا يعد نفسه “انساناً عظيماً” كماهما ليثقل عاتقه بمسؤولية كهذه. أثارت هذه المحادثة التساؤل الذي أحيا في نفس راسكولنيكوف الفكرة الفارقة في الجريمة والعقاب: “هل التفويض بالقتل هو أمر مقبول إذا ما كان المفوض “انساناً عظيماً وذو شأن”؟”.

يجدر بنا الإشارة كذلك إلى جانب العديد من التشابهات بين العملين إلى الصياغة التي كتبت بها رسالة والدة راسكولنيكوف التي بعثت بها إليه تشكو العوز والفاقة وتصف بها ما آلت إليه أخته من يأس ومحنة، فمحتواها يتشابه إلى حد كبير مع الرسالة التي استقبلها راستينياك من أخواته. ويظهر أن كلا الرسالتين شكلتا دافعاً قوياً للبطلين وتبريراً لإيثارهما وتضحيتهما بنفسيهما في سبيل عائلتيهما عند ارتكابهما للجرم (لم يقتل بطل بلزاك أحداً إلا أنه قام باستغلال الآخرين للقيام بالأمر). وقد اكتسبت بذلك “إرادة القوة” (أو يمكن أن يطلق عليها كذلك الدافع النابليوني) بعداً أخلاقياً عزز من العقدة الدرامية في الروايتين، فلم تعد رغبتهما بارتكاب الجريمة رغبةً شخصية وأنانيةً خالصة فحسب.

لكن بالنظر ملياً في هذه العقدة نلاحظ اختلافاً جوهرياً بين “الجريمة والعقاب” وأعمال بلزاك وستاندل اللواتي يحتوين كذلك على التصور النابليوني ذاته المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإرادة القوة الشخصية. فقد حرص دوستويفسكي خلاف بلزاك على جعل الحافز الإيثاري هذا بارزاً ليضفي معناً دينياً أخلاقياً شمولياً بينما اكتفى الروائي الفرنسي بالبعد الشخصي في عمله. فرستينياك شمل مساعدة إخوته في دافعه، بينما في المقابل ارتأى راسكولنيكوف بأن رغبته المستميتة وطموحه ليمد للإنسانية جمعاء يد العون أمراً لا يقل أهمية عن مساعدته لعائلته.

من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن نهر التشابه بين بلزاك ودوستويفسكي لا يعدو أن يكون إلا غديراً من غُدُرٍ أخرى تجري في روايته، فقد قرأ دوستويفسكي في حياته أعمالاً شتى للكتّاب الأوروبيين، لكن هذا لا يعني بأن ثقافته الروسية لم تحمل أثراً في عمله هذا، فلا يستطيع القارئ إلا أن يتبين محاولة دوستويفسكي إظهار أفكار راسكولنيكوف كأفكار واسعة الانتشار ألِفها المجتمع الروسي آنذاك. إذ يظهر راسكولنيكوف في إحدى المشاهد مسترقاً السمع ف إحدى الحانات لحديث عن طريق الصدفة بين طالب وضابط شاب بعد احتسائهم للقهوة ولعبهم للبيليارد يتحاوران حول فكرة قتل المرابية لصالح الخير الإنساني وهي الفكرة ذاتها التي تشغل باله (الجزء الأول، الفصل السادس).

تعمد دوستويفسكي إعداد هذا المشهد الحواري في مكانٍ يرتاده عامة الناس ليرينا بأن أفكاراً كهذه تداولت حينذاك بين أفراد المجتمع بجميع طبقاتهم واختلافاتهم وليست أمراً اختلقه راسكولنيكوف لشخصيةٍ مرضية قد تنسب له. ولم يترك الراوي مجالاً لفطنة القارئ ليدرك هذا فقد أشار له مؤكداً: “إن الأحاديث التي سمعها لم تكن إلا أحاديث عادية كثيراً ما سمع الشباب يتبادلونها في صور مختلفة بعض الاختلاف بصدد موضوعات شتى”. أيّ أن أفكاراً كهذه تناقلها المتعلمون الشباب الروس فيما بينهم وتفكروا بها طويلاً. 

الراديكالية الروسية

كانت الراديكالية الروسية في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر التي سلط دوستويفسكي الضوء عليها في روايته خليطاً عجيباً من مجموعة إيديولوجيات أخرى كالنفعية الإنجليزية واليوتوبيا الاشتراكية الفرنسية ومبدأ الفلسفة المادية الميكانيكية. وقد سبق وناقشها دوستويفسكي في روايته “في قبوي”، إلا أن موجة جديدة من الأفكار الراديكالية قد ظهرت في “الجريمة والعقاب” اختلفت عن سابقتها. ولم يكن المعترك السياسي آنذاك مهتماً بها لكنها شغلت بشكل حصري رهطاً من الوسط الأدبي والاجتماعي الثقافي في روسيا وقد انقسموا لفرقتين بين مؤيد ومعارض.

كان أفراد إحدى الفرقتين تُبعاً للاشتراكي تشيرنيشيفسكي. بينما شكل شبان في مقتبل العمر الفرقة الأخرى والتي رغم تشابه مبادئها بشكل أساسي مع الفرقة الأولى، إلا أن أفرادها غدوا أشد راديكالية من تشيرنيشيفسكي نفسه، إذ كانوا على أهبة الاستعداد لجعل أفكارهم واقعاً لا يردعهم عن ذلك حجم تطرفها.

كان حامي ومنظر هذه المجموعة الشابة هو ديمتري بيسيلف. كان فرداً من أفراد الطبقة الأرستقراطية متعلماً وذو مزاج عصبي نزق ولا تزال قراءة مقالاته مصدراً للمتعة إلى يومنا هذا. اشتهر بيسيلف في روسيا بسبب كتابته لسلسلة مقالات يهجي بها بوشكين الشاعر الروسي ويشدد على الأفكار النفعية المتطرفة بقوله بأن الفن مضيعة للوقت في بلدٍ يعاني هذا الكم من القضايا الاجتماعية.  ونادى بأنه يتعين على الجميع الالتفات إلى قضايا أكثر إلحاحاً كالفقر على سبيل المثال وإيلائها الاهتمام التام وذلك للحد منها وأن لا يهدروا أوقاتهم في سفاسف الأمور كالفن. وفي أحد مقالاته، حث بيسيلف الشبيبة للسعي نحو تدمير كل شيء وذلك في إطار نظريته بأن ما سيقاوم التدمير فقط هو ما يستحق البقاء. 

صِدام

وعندما أصدر تورغينيف روايته “الآباء والبنون” في مطلع ستينيات القرن، نشب صراع بين كلا الفرقتين من النخبة الثقافية الروسية في عام ١٨٦٢. وذلك لأن بازاروف، بطل تورغينيف، الذي كان محل تعظيم بالنسبة إلى راديكاليّ مطلع ستينات القرن من الشبيبة، أثار حفيظة الراديكاليين أتباع تشيرنيشيفسكي فهاجموه ونددوا به مدعين بأنه لا يمثلهم ولا يعبر عن حقيقتهم بل هو افتراء وتشويه صريح لسمعتهم. لقد انتقدوا مشاعر بازاروف المتعالية وغطرسته اتجاه الآخرين وازدرائه للجميع إلا نفسه. وعلى الرغم بأنه يشاركهم ضغينتهم للطبقة الغنية ويؤمن بالعلم والقيم النفعية ويرغب خالصاً بمساعدة الآخرين ولا يجد نفسه منتمياً للطبقة الأرستقراطية ويرى بأنه لا يزيد عن العموم في شيء رافضاً الامتثال لعادات الطبقة الراقية، لكنه مع ذلك لا يملك العاطفة التي تربطه بالآخرين ولا يظهرها بل يعد نفسه فردانيٌ سامٍ.

وبسبب ذلك عدوه محض أناني غير قادر على عقلنة الأمور ليحقق منفعته الشخصية بمساعدته للآخرين. وما أدهش الراديكاليون أكثر ما أدهشهم هو قول بازاروف عندما كان يتجول بإحدى القرى برفقة صديقه آركادي وهو أحد الملاك الليبراليين الشبان، إذ مرا بجانب كوخ أحد الفلاحيين الذي يظهر بأنه يبلي بلاءً حسناً فأردف آركادي يقول بأنه يأمل ذات يوم بأن ينعم الفلاحون جميعاً بمعيشة مريحة كهذه. فأعقب بازاروف يجيبه بمرارة بأنه حين سيتحقق ذلك ستكون الحشائش قد نمت على قبره بالفعل. وقد أظهره هذا كراديكاليّ غير قادر على تخيل الحلم اليوتوبي للمستقبل الذي استحضره آركادي في صورة واحدة مع مصيره الشخصي وموته المحتم. 

بالمقابل، أثار بازاروف إعجاب بيسيلف إذ نشر مقالاً ذاع صيته مشيداً بتورغنيف لتصويره الراديكالي الجديد ومبدياً تقبله التام لصفات بازاروف التي رفضها الراديكاليين الآخرين أو غفلوا عنها إذ رأى بأنها دقيقة وتستحق الثناء. كما أطرى على فردانية بازاروف وغطرسته وعدميته (وهو ما يطلقه بطل تورغينيف على نفسه) واتخذ شخصيته كنموذج للراديكالي الجديد الذي ولد من رماد الإيديولوجية القديمة. وليظهر بيسيلف مدى عظمة وبطولة بازاروف وفوقيته على تقاليد الحياة الاجتماعية فقد أعرب عن جاهزية مثله الأعلى لاقتراف جريمة قتل إذا ما رغب بذلك، وإذا ما أعرض عنها فذلك ليس لاعتراضه على الجريمة بحد ذاتها بل لأنها لا تتناسب وذوقه. فهو مستعد تماماً للسرقة والسطو إذا ما اتسق وتيسر له ذلك وفي أي وقت يشاء.

الجريمة كإنجاز

 شكلت مقالة بيسيلف حول تورغينيف وبطله بازاروف مستهلاً للخلاف الذي نشب بين الفرق الراديكالية. ويتفق كافة مؤرخيّ الثقافة الروسية بأن الجماعة التي يطلق على أفرادها أنصار العدمية الحقيقيون هم من كانت لهم الغلبة في المناظرة في السنوات التي تلت وامتدت حتى نشر “الجريمة والعقاب”. وقد دعم انتصارهم العديد من العوامل الخارجية أهمها هو الانتفاضة البولندية ضد الحكم الروسي في ١٨٦٣ والتي ساندها الغالبية العظمى من الراديكاليين الروس. بينما على النقيض، لم تحيّ هذه الثورة في نفوس الشعب الروسي إلا حماسة وطنية لإخمادها (وهي حماسة شارك بها دوستويفسكي).

لكن الأهم من ذلك كله هي خيبة الأمل التي شعر بها الراديكاليون حين أدركوا بأن القوة الثورية والتقدمية التي آمنوا بوجودها في الشعب الروسي قد توارت إلى غير رجعة. فهذه الحماسة الوطنية ضد البولنديين التي سرت في الروس غيرت آرائهم في الشعب تغيراً تاماً.

لكن بيسيلف توقع الخيبة هذه في مقالته وجعلها سبباً إضافياً للمضيّ قدماً في سعيهم، وذلك حين عدَّ بازاروف كفردٍ عظيم الشأن ليس بسبب تفوقه وخروجه عن القانون فحسب بل باختلافه كذلك عن الجماهير الغفيرة الجاهلة وغير الواعية التي تساق سوقاً إلى مصيرها بكل خضوع. فهذه الجموع كما أعرب بيسيلف لا تساهم في أي اختراعات واكتشافات علمية كما أنها لا ترتكب الجرائم.

وهذه العلاقة على وجه الخصوص بين الإنجازات الفكرية العظيمة والجرائم هي ما نجده بالتحديد في مقالة راسكولنيكوف. ويتابع بيسيلف بأنه وبالنيابة عن هؤلاء الجماهير فإن على النخبة المثقفة أن تفكر وتكابد وتسعى وتجد وتقاتل وتضل الطريق. ولن تنهى عن العمل لصالحهم ولتطوير وتوفير أسباب الرفاه في حياتهم وإن وجدت نفسها مغتربة عن هؤلاء الجموع محتقرةً إياهم. وبعد أربع سنوات من اندلاع الثورة، سيمثل راسكولنيكوف هذا المزيج من الصفات بشخصيته التي تنظر بدونية وحطة للجموع الجاهلة لكنها تسعى لخدمتهم والإحسان إليهم غير آبه بخلاصها الحتمي إذا ما فعلت ذلك.

أصل الجريمة والعقاب

لم يلتفت الكثيرون إلى هذه العلاقة بين أصل “الجريمة والعقاب” ومقالة بيسيلف أو الحركة الثقافية الروسية التي لعب بيسيلف دوراً كبيراً بها، فقد التمس النقاد مصادراً من القاصي والداني ليستنبطو منها أفكار راسكولنيكوف وانتهوا بآراء متباينة حول العوامل المؤثرة ليخلصوا في نهاية المطاف إلى أعمال بلزاك ونظرية هيجل حول “الرجل العظيم” وشخصية هرمان في أقصوصة بوشكين “ملكة البستوني”.

وبغض الطرف عن الدور الذي لعبته شخصيات بلزاك وبوشكين في تشكيل فكرة دوستويفسكي ومساعدته على بلورتها، فإن شخصياتهم افتقرت إلى الجانب الإيثاري، كما أنهم بلا شك ليسوا المرجع الذي اتخذت منه شخصية راسكولنيكوف بصراعاتها الداخلية المتزعزعة بين نزعة التمركز حول الذات التي تعزز لديه شعوره بالتعالي على جميع الحدود الأخلاقية والاجتماعية وبين مشاعر حبه الصادقة العميقة وعاطفته النبيلة اتجاه إخوته في الإنسانية وقدرته على الاستجابة لهم كلما شعر بنفسه مدفوعاً دفعاً باتجاه مصائرهم. ومهما كان المرجع الذي تعود إليه أفكار راسكولنيكوف، فإن جل ما أراد دوستويفسكي أن يبديه لقرائه هو أن اندماج كلٌ من الأفكار التقدمية الغربية وإيديولوجية المثقفين الراديكاليون الروس من الممكن له أن يقود إلى معضلة مُعاشة كما مثلها راسكولنيكوف. فبيسيلف على سبيل المثال كان مسانداً لرسملة وتصنيع روسيا بأي ثمن كان وذلك ليقينه بأنها ستسرع من حركة التنوير في البلاد.

وقد تأثرت قناعاته بالنفعية الإنجليزية التي بدأها تشيرنيشيفسكي والتي طالت المجتمع الروسي آنذاك. ويفسر هذا تمكن دوستويفسكي من الموازاة وبشكل دقيق بين أفكار السادي المستبد الدنيء لوجين وبين أفكار راسكولنيكوف (الجزء الثاني، الفصل الخامس)، وذلك لاستناد كليهما في قناعاته على المنطق النفعي. فإن مقتضى الأمر بالنسبة إلى لوجين هو افتراضه بأن الاهتمام بالمصالح الشخصية يمكن له أن يساهم في مساعدة الآخرين، بينما يؤمن راسكولنيكوف بأن المسألة تكمن في اكتساب المرء الحق بسفك دماء روح واحدة إن كان في ذلك مصلحة الخير العام.

وعند المواظبة على تطبيق أفكار لوجين على أرض الواقع فإنه لمن الأرجح أن ينتهي بك المطاف منجرفاً إلى ما خلصَ إليه راسكولنيكوف. وفي كلا الحالتين فستجد نفسك معنيٌّ بالأفكار الأخلاقية التقليدية. مع ذلك يكمن الاختلاف بين هذين الرجلين في ادعاء لوجين بأنه مهتم بنفع الآخرين بينما هو وبكل وضوح ليس إلا معتوه منافق إلى جانب كونه سادي مستبد. بينما في المقابل فراسكولنيكوف البائس يرجو خالصاً أن يساعد الآخرين ولهذا فقد انتهى به المطاف في حالة انهيار.

دوستويفسكي والداروينية

لم تقتصر رواية “الجريمة والعقاب” على تصوير أفكار الراديكالية والنفعية فقط بل سلطت الضوء كذلك على التأثير التدريجي للداروينية الاجتماعية في روسيا والتقبل العام لنظريات مشابهة. خدمت الداروينية الاجتماعية ليس في روسيا فحسب بل في الغرب أجمع كدليل علمي لتبرير الاضطهاد. فالأكثر نجاحاً عدوا أنفسهم الأقوى في مسار التطور وتسلحوا بحقهم في السيطرة على الناجين الأضعف. وهذه النظرية قد حظيت في العموم بالقبول كإحدى منابع العنصرية واتخذت كمسلمة وكلمة أخيرة للعلم في القرن التاسع عشر. صور دوستويفسكي الداروينية الاجتماعية في روايته حين كان يراقب راسكولنيكوف رجلاً نبيلاً فاسقاً يلاحق امرأة شابة مترنحة سكراً في إحدى الشوارع وتظهر بمظهر من تعرض للاعتداء بالفعل.

شعر راسكولنيكوف بالأسى اتجاهها وأسرع يتدخل إلا أن بعد بعض الوقت تراجع قانعاً نفسه بالآتي: “يقال إن هنالك نسبة مئوية لا بد أن يضحى بها كل عام … للشيطان في أغلب الظن… وذلك في سبيل ضمانة راحة الأخريات” (الجزء الأول، الفصل الرابع). فإذا كان على نسبة معينة من النساء أن تغرق في العهر لنفع المجتمع، فليس هنالك ما يدعو للتدخل في سير قوانين الطبيعة. ويمكن للقارئ ملاحظة الانحراف المفاجئ في مشاعر راسكولنيكوف في مشهدٍ مؤثر كهذا.

إنه لمن المثير للاهتمام أن نذكر أن مجلة دوستويفسكي كانت إحدى المجلات الرائدة في روسيا التي أشارت إلى الآثار الأخلاقية المترتبة غير الإنسانية لتطبيق الداروينية وذلك لاستنادها على مراقبة الظواهر الحيوانية والطبيعية في تنظيرها الاجتماعي، وقد ذكر ذلك في مقال نشر بالفرنسية عن نظرية أصل الأنواع لداروين في مجلته التي عُدّت من النزر اليسير اللذين استمروا في متابعة الجدل في هذا الشأن.

راسكول

أطلق دوستويفسكي على إحدى مقالاته التي عُنيت بمناقشة الانفصال بين الفرقتين الراديكاليتين “انفصال بين أنصار العدمية” (راسكول هي كلمة روسية تعني الانفصال أو الانشقاق) ومن المرجح أن اسم راسكولنيكوف قد اشتق من هذا المصدر. وعلاوة على ذلك، فإن دوستويفسكي في السنوات التي سبقت نشره لروايته قد بعث برسالة إلى تورغينيف حول عمله “الآباء والبنون” معبراً عن اعجابه به. ورداً أعقب تورغينيف بأن دوستويفسكي هو ثان اثنين ممن استطاعوا فهم عمله حق الفهم. وبهذا يمكننا أن نرى بأن انغماس دوستويفسكي في هذا العمل وبطله بازاروف يجعلنا نخلص إلى حقيقة مفادها بأن راسكولنيكوف هو نسخة بازاروف بجميع صفاته التي ظن بيسيلف أنها تمثله. 

المحاضرة الثانية

تطرقنا في المحاضرة السابقة إلى الخلفية الإيديولوجية التي تستند إليها رواية الجريمة والعقاب والتي تشكل بلا شك أهمية بالغة في حال رغبنا بفهمها حق الفهم. مع ذلك لا يتمحور هذا العمل حولها فحسب، فلم يكتب دوستويفسكي روايته ليناقش فيها ما شغل الناس في ستينات القرن التاسع عشر من مسائلٍ اجتماعية وسياسية، كما أنه لم يعمد على تبيان وشرح أفكار القرن المختلفة رغمَ تخصيصه محادثاتٍ ليحاكي بعضها ساخراً وذلك في شخصية كليبزياتنكوف وبعض خطب رازيموخين.

تتمثل عظمة دوستويفسكي كروائيّ في عدم اكتفائه بما تداوله العامة من نقاشات اعتيادية في زمانه بل في استخدامه إياهم كمنبع لإلهامه. فهو ينحى عند شروعه في الكتابة إلى استهلال عمله بأفكار بعينها ثم يمعن فيها ملياً متنبئاً بتداعياتها واضعاً في الاعتبار ما يترتب عليها من أحكام أخلاقيةٍ نفسية. ويمكنه خياله الخصب استناداً إلى ذلك تصور ما قد يحدث. والفضل يعود في ذلك إلى أن دوستويفسكي مطلعٌ بشكل دائم على المحاجات والمجادلات الاجتماعية الثقافية في عصره. 

السياق الاجتماعي الثقافي في روايات دوستويفسكي 

لطالما تعرض نهجي في دراسة أعمال دوستويفسكي للانتقاد وذلك لما أوليه من اهتمام كبير للسياق الاجتماعي الثقافي والذي ينظر له النقاد كحصر يبخس أعماله حقها بجعلهم محض انعكاس للقضايا والمسائل المحدودة في عصره.

ويتساءلون  عن الجدوى والفائدة التي تهم العالم أجمع والتي يرجوها القارئ من قراءة عمل كالجريمة والعقاب إذا كان سيتعين عليه البحث حول الأفكار والمناوشات الإيديولوجية التي عاف عليها الزمان؟ ورداً على وجهة النظر هذه، فإنه لا يمكننا إنكار بأن التركيز على سياق بعينه في كثير من الأحيان (سواء كان ذلك السياق سياقاً تاريخياً للوسط الاجتماعي والثقافي كالذي نتباحث فيه هنا أو سياقات أخرى تعتمد على منظور جنساني أو عرقي) يغيب عن أذهاننا وينسينا السبب الذي من أجله تدارسنا أعمال كاتب/ة بعينه/ها في بادئ الأمر ألا وهو قدرته/ها على جعل هذا السياق منطبقاً على كافة البشر باختلاف زمانهم ومكانهم. فأي عمل عظيم دائماً ما يتفوق على شروط نشأته ويحمل في طياته معانٍ تختلف باختلاف الزمان والمكان الذي يقرأ فيه.

ومن هذا المنطلق فإنني أتفق وهؤلاء النقاد، لكنه يتعذر على قبول إدانة دراساتي بهذه المغالطة الجوهرية. ولكوني على دراية بهذه المسألة فإنني أبذل جهدي لتجنب ارتكاب خطأ فادحٍ كهذا، وفي الوقت عينه أحرص ألا أقع في خطأ آخر أكثر شيوعاً بين دراسيّ أعمال دوستويفسكي ألا وهو تأويل أعماله وبشكل حصري وفقاً للتصنيفات النفسية والفلسفية المتعارف عليها وذلك دون محاولة النظر إلى ما عنته هذه التصنيفات في عصره على وجه التحديد.

فعلى سبيل المثال لا يعيب الدارس بأن يقول -دون أن يكون على خطأ- بأن الموضوع الحقيقي الذي تعالجه “الجريمة والعقاب” هو الصراع الأبدي بين الحب والعدالة في الثقافة الغربية ويمكنه تحليل العمل وفق هذه الأفكار الأخلاقية العامة، ولكنني أرى بأنه لا يمكن البدء بدراسة أدبٍ كأدب دوستويفسكي على هذا النحو وذلك لجهل الدارس لما تعنيه هذه المصطلحات في السياق الزمني والمكاني الذي كتبت به الرواية وكيف جسدت أبعادها المعنوية شخصيات العمل الروائي. فدون معرفة هذا الأمر حق المعرفة، فإننا نميل إلى إساءة فهم ما عنته هذه المصطلحات والأفكار لدوستويفسكي نفسه.  ولهذا السبب فإنه يفضل أن يبدأ الدارس بحثه بالاطلاع أولاً على الأسس التي بنى عليها دوستويفسكي عمله ليتبين الطريق الذي رسمه لنا لتتبعه كقراء. 

التضحية 

أسفرت الراديكالية الروسية في ستينات القرن التاسع عشر عن تعظيم متصل ومستمر للفردانية. فقد غدا بازاروف وهو النموذج المثالي للراديكاليين الشبان بطلاً خارقاً نتشوياً (نسبة إلى نيتشه) غير خاضعٍ لقوانين الخير والشر. ولكن يجدر التنبيه بأنه من الأفضل ألا تؤخذ هذه المقارنة كما هي وذلك لكون بازاروف كما تصوره بيسيلف (وهو تصور غدا ذو أهمية بمكان أكثر مما هي عليه شخصيته الحقيقة في العمل الروائي) في علاقة حب وكراهية مع البشرية جمعاء تحده رغبة عارمة في أن يكون المحسن إليها ومخلصها. وجلَّ ما أراد أن يبينه دوستويفسكي هو استحالة الجمع بين ذينك الموقفين في الحياة الواقعية كما سبق وأوضح ذلك في رواية “في قبوي” حين صوَّر “رجل القبو” يتنازعه جسدياً التزامه بإتباع أفكاره المنطقية التي كانت في صدام على الدوام مع مشاعره كإنسان.

وأعاد دوستويفسكي في عمله “الجريمة والعقاب” مناقشة الموضوع ذاته باختلاف وحيد وهو أن هذه الأفكار المسيطرة قادت بطله إلى ارتكاب جرم لم يقوى ضميره الأخلاقي على تحمل ثقله. فتصوير الفوضى النفسية الأخلاقية التي يسببها صراعٌ داخليٌ كهذا هي أحد مرامي هذا العمل الروائي. وذلك بالإضافة إلى تسليطها الضوء على جذور الإيثار الحقيقي أو حب البشرية التي يجدها المرء في الروح المسيحية عند تضحيته بنفسه مؤكداً بأن لن يجدها في فكرة الاستغلال المتعقل للعدالة الاجتماعية التي تسمح بارتكاب الجريمة باسم خير اجتماعي أسمى.

ليس محض أديب  

  ساد اعتقاد في وقتٍ من الأوقات بأن دوستويفسكي لم يكن محض فنان وأديب. وجاء ذلك مكملاً للرأي الذي ارتأه كعبقري مُلهَم لا يملك زمام السيطرة على أعماله فضلاً عن حياته. وتصورٌ كهذا حثَّ عليه التأثير القوي لمقالة فرويد والتي مال فيها العالم النفساني إلى قرن شخصية دوستويفسكي بجميع الرذائل التي صورها في شخصياته الروائية. اتضح منذ صدور كراسات دوستويفسكي التي لم ترى النور سوى في أعقاب العقد الثاني من القرن العشرين بأن الروائي شديد الصرامة على نفسه، فهو يفكر ملياً في التركيب والتنظيم الروائي لأعماله.

وكان لا ينفك يشكو من الظروف (حاجته الدائمة للمال) التي تحده للكتابة للدوريات الشهرية التي تحدد له مواعيداً نهائية لا يتسنى له بسببها تشذيب أعماله كما يفعل الروائيون الآخرون أمثال تورغينيف وتولستوي. ولكن في حقيقة الأمر وعوضاً عن افتقار أعماله لأي جوانب فنية فإنه يشهد لدوستويفسكي وفي الوقت الحاضر توظيفه في أعماله لتقنيات قصصية سبقت زمانه. فقد تنبئ بتطورات هامة قد ظهرت لاحقاً في الرواية الحديثة ومنها انصهار الراوي في الحدث الروائي كأحد شخوصها (تدعى تقنية النص الحر غير المباشر) بالإضافة إلى عرض الشخصية بانحيازية واضحة وتمويه التسلسل الزمني. وعند قراءتك للجريمة والعقاب تظهر لك هذه الاختراعات القصصية كافة. 

الدوافع

كتبت العديد من الشروحات حول فنية دوستويفسكي كروائي. حيث وصف الناقد الفذ ماتشلوسكي الجريمة والعقاب بأنها “مسرحية تراجيدية خماسية الفصول بمقدمة وخاتمة”، وما من ضير يمنعنا من قراءة هذا العمل على هذا النحو ولكنني أجده منظوراً قاصراً يغفل عن بعض الجوانب التي هي في اعتقادي ذات أهمية. فالتركيب الروائي الأكثر أهمية بالنسبة لي يكمن في الطريقة التي بنيَّ بها الحدث الروائي عامةً بحيث يظهر لراسكولنيكوف حقيقة نفسه ويمكنه من فك الغموض الذي تكتنفه شخصيته. فما تصفه الرواية فعلياً هو الإدراك التدريجي لبطلها راسكولنيكوف لأفعاله وحقيقة مقاصد ما قام بارتكابه مقارنةً بمقصده الأولي الذي ظن بأن أفعاله ترميّ إليه.

لهذا نجد راسكولنيكوف يقدم تفسيرات شتى لجريمته وقد ناقش النقاد اللايقين هذا في دافعه وذلك إلى جانب تدارسهم للطبيعة الإشكالية للشخصية المعاصرة. ولكن بغض الطرف عما يظنه الآخرون في الشخصية المعاصرة، ما شغل دوستويفسكي هي الشخصية المعاصرة لراسكولنيكوف على وجه التحديد وقد كان على وعيّ تام بما كان يكتبه. 

عرضت الرواية ثلاثة دوافع للجريمة التي ارتكبها راسكولنيكوف، ذكرت أولاها في مشهد الحانة السابق الذكر ويمكن أن يطلق عليه الدافع النفعي الإنساني. بينما يظهر الدافع الثاني وهو الدافع النابليوني (راجع المحاضرة الأولى) في حوار راسكولنيكوف مع المحقق بوفيري بيتروفيتش. وقد أعتبر الدافع الثاني في كثير من الأحيان مناقضاً في أصل فكرته للدافع الأول لكنه في الحقيقة وبالتفكر ملياً نجده محض تكرار للفكرة عينها لكنها وضعت في إطار تاريخي أكثر سمواً. وأخيراً يظهر الدافع الثالث في مشهد اعترافه لصونيا وهنا صرح راسكولنيكوف أخيراً بأنه رغب في القتل فقط ليعرف على وجه اليقين أهو مخلوقٌ مرتعشٌ و”قملة” أو إذا ما كان يملك الجرأة والحق في تخطي الحاجز الأخلاقي كما يفعل “الإنسان العظيم”. وقد استبعد راسكولنيكوف بصفة خاصة الدافع النفعي سواء كان ذلك النفع عائد عليه شخصياً كانسان أو على دوره كمحسن مستقبلي للبشرية. 

تتابع ظهور الدوافع الواحدة بعد الأخرى على نحو تدريجي في الرواية وصولاً إلى دافع راسكولنيكوف الحقيقي أخيراً أو إدراكه بأنه مهما صدق مسعاه الإنساني الذي قصده في بادئ الأمر فإن هذا لن يغير من حقيقة كونه مجرد خداعٍ صريحٍ للنفس. فالسبل التي اختيرت للوصول للغاية ما كان لها أن توضع موضع التنفيذ لولا أن الدافع الثالث هذا قد تملك زمام السيطرة الكاملة على كيان المرء وشخصيته. وبهذا نرى بأن المرء منا يجد أنانية صارخة حين يتحسس جذور مبادئ النفعية الإنسانية التي يتبناها الراديكاليون. وقد أشار دوستويفسكي ساخراً لهذه المسألة عينها في عمله “في قبوي” حين ذكر التناقصات التي تظهر في أحلام المحسنين.

البراعة الفنية

يهمل الكثيرون الحذق الذي كُتِب به الجزء الأول من الرواية، فهو يشكل دليلاً هاماً على براعة دوستويفسكي في توظيف تقنية كالاسترجاع الفني (فلاش باك) والتلاعب الزمني في تسلسل الأحداث. ينقسم الجزء الأول إلى سلسلتين من الأحداث، تبدأ إحداها عند زيارة راسكولنيكوف للمرابية وتتصاعد من هذه النقطة وصولاً إلى ارتكاب الجريمة. يتكون هذا التسلسل ظاهرياً من الزيارة التجريبية إلى منزل المرابية واللقاء بين راسكولنيكوف ومارميلادوف وحوارها، وكذلك مصادفته للفتاة الثملة في البوليفارد.

إلا أن هذا التسلسل يتخلله تسلسل آخر ومجموعة من المسترجعات الفنية التي تعيد الزمن إلى الوراء وتحيّ بعضاً من ذكريات الماضي، وذلك ابتداءً من رسالة أمه، تليها ذكريات طفولته حول الحصان الذي انكال عليه أحدهم بالسوط حتى الموت ثم الحوار الذي سمعه في الحانة والذي أشار فيه الضابط والطالب إلى نظرية الجريمة الإنسانية التي كانت تقض مضجعه، وقد كان هذا هو البيان الأولي لدافع راسكولنيكوف الذي اشتمل على العنصر “المنطقي” النفعي وكذلك العاطفة الإيثارية والتي يمكن أن توصف بالمسيحية (نظراً إلى أن الغاية التي تنشد مساعدة المستضعفين من البشر هي غاية مدفوعة بالحس اليهودي المسيحي الذي يشكل نسيج الثقافة الغربية). فالجريمة مبررة ومنطقية إذا كان مقدار الخير الذي سينتج من جراء ارتكابها يفوق مقدار الألم والمعاناة التي يمكن تحدثه في الضحية. ولكن تكمن المعضلة في أنه وحتى يتعين للمرء ارتكاب الجريمة فإن عليه أن يتغلب على جميع القوى العاطفية والأخلاقية المتأصلة في شخصيته والتي يُفترض بأنها المحرك الذي يدفع بالمجرم لارتكاب جريمته لصالح الإنسانية. وسيلعب هذا التناقض الداخلي دوراً هاماً في مصير راسكولنيكوف. 

لابد من “انسان العظيم”

على الرغم من أن العديد من النقاد قد أشاروا إلى التباين الذي يظهر بين الدافعين الأول والثاني (النابليوني) إلا أنهم كما يتبين غفلوا عن معرفة ما يشترك به كلا الدافعين بنظر دوستويفسكي. فالمحادثة التي جرت بين الضابط والطالب أظهرت اعتراض الضابط على محدثه من احتمالية وقوع الجريمة من الأساس وذلك لأن ما من أحد سيقدم على فعلة كهذه وإن كانت المرابية تستحق الموت، معللاً ذلك بأن هذا هو “نظام الطبيعة”. حينها أردف الطالب بدوره يجبيه بأن نظاماً كهذا يجب تقويمه وتوجيهيه “فإنه بدون ذلك لا يكون ثمة إنسان عظيم واحد”. ويتضح لنا هنا ومنذ البدء بأنه لإتمام جريمة من النوع النفعي الإيثاري حتى فإن الأمر سيتطلب “إنسان عظيم الشأن” لارتكابها.

انشقاق

ظهرت هذه النظرية ذات الحدين بصورتها الكاملة للقراء قبيل ارتكاب الجريمة مباشرةً، على الرغم أنه أثمر التطرق إليها في ذلك الجزء من الكتاب عن انقلاب كليّ في تسلسل الأحداث الزمني. فعند ترتيب زمن وقوع الأحداث كلاً على حدا نرى بأن حوار الحانة قد حدث في مستهلها مفضياً على نحو تدريجي إلى وقوع الجريمة. ولن يغيب عن القارئ المتأنٍ ملاحظة بأن الحوار الذي سمعه بطلها وبحسب التسلسل الزمني قد حدث قبل أن يتم تقديم راسكولنيكوف لنا في الصفحات الافتتاحية حتى. فقد كانت “الفكرة” تقض مضجعه منذ البداية لكن دوستويفسكي لم يفصل حوار الحانة عن مشهد وقوع الجريمة سوى صفحات قليلة.

يجعلنا ذلك نتساءل: لماذا قام دوستويفسكي بترتيب الأحداث على هذا النحو؟ يعزى ذلك كما يبدو إلى رغبته في أن يتمكن القارئ من استحضار الحوار هذا بسهولة عند ارتكاب الجريمة، كما أراد أيضاً أن يقدم خلاصة التعليلات التي قدمها راسكولنيكوف في الصفحات التي تليها. التحليلات الأخلاقية لراسكولنيكوف أقنعته بأن جريمته لن تثير الاضطراب في نفسه وترهق ضميره كغيره من المجرمين العاديين. لكن كما يلاحظ القارئ فإنه وعلى النقيض لم يحافظ راسكولنيكوف على هدوءه واتزانه عندما حدث ما حدث بل وقع ضحية جنون هيستيري بدى به كما لو أنه تحت تأثير نشوة منومة.

لقد أراد دوستويفسكي بذلك أن يقوض نظرية الجريمة التي آمن بها راسكولنيكوف ويحث القارئ على التساؤل: ما هي الغاية الحقيقية التي من أجلها تم ارتكاب الجريمة؟ فقد اتضح له بأن السبب الذي أدلى به راسكولنيكوف لنفسه غير صحيح. سؤالٌ كهذا أجيب عنه سلفاً في سلسلتيّ الأحداث التي سبق ذكرها. فقد تجلت في هذه الأحداث النفس الخيرة لراسكولنيكوف الذي لم يطق تحمل ما تكابده عائلته من محن ويبغض القسوة والظلم اللذين يراهما أينما التفت. فراسكولنيكوف الطيب هو الذي أخذته الشفقة بعائلة مارميلادوف معطياً لهم ماله وهو الذي أسرع بعفوية قاصداً نجدة الفتاة التي تعرضت للاعتداء من رجل يلاحقها. راسكولنيكوف اللاعقلاني والمندفع والمتسرع والذي تقوده غريزته أحب البشرية جمعاء وأمل من عميق فؤاده أن يخلصها من عذاباتها وقد ظن بأنه سيتمكن من القيام بذلك إذا ما ارتكب هذه الجريمة.

مع ذلك فإننا نرى وفي كل مرة نفسه الإيثارية بالفطرة تتشوه وتحيد عن الطريق القويم كلما شرع بحساباته النفعية أو وزنَّ الأمور وفقاً لما يمكننا أن نطلق عليه بالمنطق العلمي. لقد مسخ انخراط راسكولنيكوف في هذه النسق من الأفكار على صورة مناقضة لما كان يرجوه. فعلى سبيل المثال عندما خرج بطلنا مباشرة من منزل مارميلادوف أعقب ساخراً بأنهم ليسوا بحاجة لأمواله الحقيرة بينما هم يقتاتون على ما تقدمه لهم صونيا (الجزء الأول، الفصل الثاني)، كما أنه تراجع أخيراً عن محاولة إنقاذ الفتاة الثملة في الشارع قانعاً بأنها لا تزيد على أن تكون عدداً في “نسبة مئوية” مجرداً إياها من فردانيتها الإنسانية.

وقد أظهرته هذه التعقيبات كوحش قاس قلب يكره ويبغض الجنس البشري أكثر منه متعاطفاً ومتفهماً لمعاناتهم. لكن في هذا المرحلة لم يكن راسكولنيكوف واعياً بالانشقاق الذي حدث بين ما ظن بأنه يفعله وبين ما يحدث لشخصيته التي تخضع لتأثير الأفكار العقلانية هذه. لقد أراد دوستويفسكي أن يكون القارئ على إطلاع بوجود هذا الانشقاق فقد حرص على إظهاره في أحداث متفرقة في عمله معداً القارئ لأحداث لاحقة متمثلةً بمقالته الشهيرة واعترافه الأخير لصونيا.

لم تقتصر الكيفية التي تسيِّرُ بها الأفكار شخصية المرء على راسكولنيكوف وحده وإنما ظهرت في مشاهد أخرى في الجزء الأول كذلك. ففي مشاهد الحانة حين أخبر مارميلادوف راسكولنيكوف عن الحادثة المُذلة التي أعرب بها عن حاجته للاستدانة من أحدهم مع علمه بأن سؤاله سيرفض، حينها استنكر مارميلادوف فعله بنفسه قائلاً: ما الذي سيدفع أي شخص لإقراضه مالاً لا يستطيع رده؟ أبدافع الشفقة والتعاطف؟ لكنه يعلم كذلك بأن “التعاطف هذه الأيام يحرمه العلم” (الجزء الأول، الفصل الثاني) وذلك لأن الاقتصاد السياسي هو علم يستند حصراً على المنطق النفعي وليس للعاطفة فيه مكان.

ناقض دوستويفسكي ذينك الحدثين بتفصيل هام في مشهد وقع على عتبات الدرج لاحقاً في الرواية وذلك حين همَّ راسكولنيكوف بمغادرة منزل مارميلادوف بعد مساعدته له عندما دهسه الحصان. فقد قابل في طريقه شرطياً أتى ليستعلم عن الحادثة فألمح لراسكولنيكوف بأنه “ملطخ” (الجزء الثاني، الفصل السابع) في إشارة إلى لطخات الدم على ملابسه من حمله مارميلادوف. حينها أجابه راسكولنيكوف إجابةً شديدة الغرابة: “أنا كلي ملطخ بالدم” ثم ارتسمت على قسماته ابتسامة. لقد أرعبته الدماء التي لطخت ملابسه عند قتله للمرابية بينما ملأته الدماء التي نتجت عن صنيعه الخيِّر بالبهجة وبأمل جديد. ويعد هذا مثالاً من عدة أمثلة أخرى تبين دقة دوستويفسكي الفنية واهتمامه الجليّ بأدق التفاصيل. 

في هذا الجزء من الكتاب نرى بأن راسكولنيكوف قد قسم نظريته الأولية إلى جزئيين فقد فيهما الإيثار والأنانية في نفسه أي أساس يربطهما معاً. فعاطفته الإيثارية الآن موجهة إلى آل مارميلادوف ومرتبطة خصيصاً بعلاقته بصونيا، بينما تقف أنانيته وحيدة تدعم صراعه مع المحقق بوفيري بروتفيتش الذي يشتبه به. وحين يتضح للقارئ هذا الانفصال الصارخ بين تينك العاطفتين يذكر لنا دوستويفسكي حينها مقالة راسكولنيكوف “حول الجريمة”. فيتضح للقارئ عندها الصورة الكاملة لأنانيته وأصل القوة التي تدفعها وتؤثر على نظرته للعالم والتي سبق ولوحظت في تصرفاته. من المهم أن لا نغفل بأن كتابة المقالة قد سبقت حدث الحانة وزيارة راسكولنيكوف لمنزل المرابية، فبذلك يتضح لنا أن المقالة هي أصل الجريمة وإن لم نستدل إلى ذلك سوى بظهورها الزمني في الأحداث. فقد قدمها دوستويفسكي للقارئ ليعده للاعتراف الأخير (الجزء الثالث، الفصل السادس). (ألمحت المقالة للفكرة التي تشعب وشرحها راسكولنيكوف هنا)

لقد دمر لقاء راسكولنيكوف بلوجين دافعه الأول للارتكاب الجريمة النفعية الإيثارية. بينما كان الحوار الداخلي الذي خاضه راسكولنيكوف مع ذاته بعدما تعرض له أحدهم على جادة الطريق ونعته بالمجرم (الجزء الثالث، الفصل السادس) المتسبب في القضاء على دافعه النابليوني الثاني والذي مازال يحمل في طياته معانٍ إيثارية وإن كان الجانب المتعلق ب “الانسان العظيم” يخفي مظللاً هذه المعان. فعندها فقط أدرك راسكولنيكوف استحالة أن يجمع بين كونه انساناً عظيماً ومحسناً للنوع البشري في آن واحد.

فلم يخلق البشر العظام ليكونوا محسنين البتة فهم لا يتوانون عن القتل في سبيل الوصول إلى غاياتهم كما أنهم لا يكترثون لكم الحيوات التي يسحقونها في طريقهم. وهكذا نرى بأن راسكولنيكوف قد خذلته نظريته في تحقيق عملٍ لم يملك القوى الكافية ليتماسك من بعده فهو لم يكن أحد هؤلاء البشر العظام لأنه لم يستطع أن يخرس بشكل كليّ ضميره الأخلاقي كما فعلوا. وقد دفعه دوستويفسكي أن يجرب قتل المرابية التعسة في كوابيسه لكنه لم يفلح في القيام بذلك.

صونيا

ظهر كل من صونيا وسفدريجايلوف على ساحة الأحداث ليدفعوا بالقصة قدماً نحو نهايتها وذلك فقط حينما تبين للقارئ الانشقاق في النظرية الأولية لراسكولنيكوف. وعلى الرغم من أن كلاهما قد سبق ذكرهما في مستهل الرواية إلا أن دورهما لم يغدو جوهرياً إلى أن شكلا لراسكولنيكوف ثنائياً متناقضاً ونموذجاً للنتيجة النهائية التي يمكن أن تخلص إليه نظريته الأولى. فمبادئه الإيثارية متجذرة بعمق في الحب المسيحي الشمولي الذي تؤمن به صونيا والذي يدفع بالمرء للتضحية بالنفس إلى أقصى الحدود.

استلهمت شخصية صونيا من شخصيات المومسات اللواتي ظهرن في الرواية الاجتماعية الفرنسية التي راجت في ثلاثينات القرن التاسع عشر ويمكنك بسهولة أن تجد نموذجاً يمثلها في عمل كالبؤساء للروائي الفرنسي فيكتور هوغو. وقد تعرض دوستويفسكي للسخرية من أدباء آخرين أمثال نابكوف لاستخدامه شخصية مومس لتكون المتحدث الرسمي باسم القيم المسيحية العليا. كما تعرضت فكرته للنقد الشديد من محرري الدورية التي نشرت بها السلسلة الروائية وهو نقد دفع بدستويفسكي لإعادة كتابة الفصل الذي قرأ فيه راسكولنيكوف وصونيا من إنجيل القديس يوحنا حول قيام لعازار (الجزء الرابع، الفصل الرابع). لكن ومع ذلك لم ينثني دوستويفسكي عن إعلاء شأن صونيا، التي قد يعدها البعض شخصية مبتذلة، ورفعها درجات في الطهارة والنقاء الفريدين.

وقد تمكن من فعل ذلك بإصراره الشديد على تسليط الضوء على جانب التضحية بالنفس في شخصيتها. فقد كان دوستويفسكي على أهبة الاستعداد أن يعرض هذه الفكرة متجاهلاً لاعقلانيتها متبعاً بذلك الحس المسيحي الأصيل، غير آبه بشيء سوى بالأثر المباشر الذي يحدثه فعل التضحية ليخفف من حدة المعاناة البشرية وجل ما عنيَّ به دوستويفسكي هو إظهار كيف تستجيب النفس للعذابات البشرية في كل لحظة. وقد عدَّ اللاهوتيون هذا ضمن الأخلاقيات المرحلية التي يؤمنون بكونها الروح الأصيلة للمسيحية.

وقد عبر دوستويفسكي عنها في حدث في الفصل الرابع من الجزء الرابع حينما أظهرت صونيا للمرة الأولى والأخيرة معالم شعورها بالعار من أي شيء. لا. لم يكن العهر هو ما شعرت به يجلجلها بالعار، فقد كان هذا هو شكل التضحية بالنفس الذي تقدمه في سبيل الآخرين، بل لقد شعرت صونيا بالخجل من نفسها فقط لأنها رفضت أن تهب للمسكينة والمحتضرة كاترينا إيفانوفا الياقات والأكمام التي رغبت بها. حيث أجابتها “فيما تنفعك هذه الياقات يا كاترينا ايفانوفا؟”. وقد كانت صونيا محقة بلا شك بأن لا نفع لكاترينا ايفانوفا بها إذا ما نظرنا للأمر بعقلانية. ولكن كما يقول باسكال “للقلب أسبابه التي لا يمكن للعقل وحده أن يفقه كنهها”.

وقد تسلحت صونيا بأسباب القلب هذه حين قاومت بشكل محموم حجج راسكولنيكوف التي نعلم حق العلم بأنه لا يمكن دحضها على هذا النحو، ولكن إن جاز التعبير، فقد دحضت حججه نفسها بنفسها فهي حجج تخيم خلفها فظائع المجرمين الذين نرى انعكاسهم جلياً في عينيّ الروح المعذبة لراسكولنيكوف. لم تملك صونيا حججاً تجادل بها راسكولنيكوف لكن إيمانها بمآثر التضحية بالنفس تمدها بالقوى الروحية التي تزيدها يقيناً بينما عقلانيته أغرقته هو في اهتياج معذب أخلاقي.

عرفت المشاهد بين صونيا و راسكولنيكوف بقوتها وهي شهرة مستحقة٬ لكن ينبغي لنا كذلك ألا نغفل عن بعض الخفايا التي تكتنفها حواراتهم. إحداها هي محاولة راسكولنيكوف إقناع صونيا بتشابههما وذلك عند اشارته إلى كونهما غارقين في خطايا انتهكت القوانين الأخلاقية. لقد أراد راسكولنيكوف أن يعرف نفسه بصونيا ليخفف من حدة إحساسه بالذنب والخسارة. ولكن بفعله هذا فإنه (أو دوستويفسكي) قد أظهر حجم ومدى الاختلاف العظيم بينهما. فقد قال لصونيا :”أنتِ أيضاً دمرت حياةً…هي حياتك أنت… ولكن ما الفرق؟”(الجزء الرابع، الفصل الرابع). هذه العبارة هي من العظمة بمكان لتدفعنا للتفكير، إذ هي تطمس كل الاختلافات بين التضحية المسيحية بالنفس وتلك التي يقدم عليها الآخرون في سبيل النوع البشري. فالنوع الأخير يعتمد على عقلنة أخلاقيات المنفعة بينما النوع الأول يستند على عفوية الاستجابة الإيثارية للعذابات الانسانية.

أثناء ما أدلى راسكولنيكوف باعترافاته لصونيا كان على وعيّ تام بأن انتشاءه بالقوة يتنافى والحب. فالعظماء أمثال نابليون كما قلنا سابقاً لا يثير قريحتهم سحقهم للبشر فعظمة مساعيهم (كما يعتقدون) تطغى على كل عداها من اعتبارات. لكن هذا لم ينطبق مع حالة راسكولنيكوف الذي أدرك الآن بأن ارتكابه للجريمة هو محض اختبار للنفس٬ أراد أن يثبت به بأنه أيضاً “انسانٌ عظيم” وأن يقيم كذلك إذا ما كان قادراً على تجاوز الأخلاقيات التي تكبح جماح وعيه الذي لا ينفك يذكره بنتائج منطقه. لقد كان عليه لينجح في ذلك أن يحطم قيود ضميره الذي تشكله القيم المسيحية لكنه أدرك أخيراً فشله.

لطالما قيل بأن مشهد الاعتراف لم يقدم أي سبب واضح لجريمة راسكولنيكوف ولكنني أرى بأن العديد قد أساؤوا فهم هذا المشهد. فقد خاض راسكولنيكوف في كافة المحاجات التي حجبت عنه سابقاً جذور الأنانية في تصرفاته لتصل به في نهاية المطاف إلى اعترافه الأخير. فالقوة التي كانت تحركه منذ البدء اتضحت لنا فقط عندما أدرك بأنه يعمد على غرس المتاعب في طريقه ويفاقم بغضه لنفسه وللنوع البشري محولاً ذلك البغض إلى جموحٍ متعالٍ. وعندما صرح راسكولنيكوف أخيراً بنظريته التي مفادها أن القوة تصنع الحق (“جرأة المرء تخلق الحق في عيون الآخرين”) نرى تدخل دوستويفسكي بيناً وهو يتخذ صوت الراوي ليفند لنا بأن هذا الاستنتاج الذي خلص إليه راسكولنيكوف يختلف والاستنتاجات الأخرى وذلك بقوله: “لقد أدركت صونيا بأن معتقده القاتم قد غدا إيمانه وشريعته”. وكما نعلم فإن ضمير الروائي ووعيه يجسده ضمير صونيا ووعيها.

ولكن ومع استيعاب راسكولنيكوف لحقيقة الدوافع التي قادته لجريمته إلا أنه لم يعترف لنفسه بخطيئته. فهو يعلم بأن وجدانه لم يقوى على تكبد ثقل الجريمة لكنه في الوقت ذاته يؤمن بأنه لا ثمة أي محاجة عقلية قادرة على إقناعه بفداحة الخطأ في نظرية “الانسان العظيم”. فقد رأى بأن فشله قد تسببت فيه نفسه وحدها ولا يعيب النظرية ذلك في شيء. ولم ينفك يعتقد بأن الانسان العظيم يستمد عظمته من عدم اكتراثه الكلي بشؤون الآخرين. ولحل هذه المعضلة اتخذ دوستويفسكي طريقتين لإقناع راسكولنيكوف بوجهة نظر مختلفة، إحداها مسته شخصياً بينما كانت الأخرى عامة أكثر.

سفدريجايلوف

لقد جاءت شخصية سفدريجايلوف لتكشف لراسكولنيكوف الأثر الذي تخلفه نظرية “الانسان العظيم” على الحياة الخاصة والشخصية للإنسان بإقرارها أن ليس هنالك ما هو أعظم من إرضاء المرء لرغباته كلها، متضمناً الجنسية والحسية منها. ويمكننا أن نعد سفدريجايلوف نسخة متطورة من لوجين ويختلف عنه إذا ما اختلف في رفضه إخفاء شهواته خلف ستار من النفاق. كما أنه يعد النظير الفكري لراسكولنيكوف وحكايته مع دونيا توازي الحكاية التي يعيشها راسكولنيكوف مع صونيا. ولكن إلى هنا تقف أوجه التشابه بينهما، حيث سنرى سفدريجايلوف يقود نفسه إلى حتفها بينما يقاد راسكولنيكوف إلى حياة جديدة.

والشيء بالشيء يذكر، فإن المحقق بوفيري بتروفيتش هو نظير فكري آخر لراسكولنيكوف. ويؤسفني أننا لا نملك الوقت الكافي لنتباحث في شأنه أكثر. لكن يمكن للمرء أن يتصور بوفيري وهو يتحدث إلى راسكولنيكوف كما لو أنه دوستويفسكي وقد عركته الحياة يتحدث إلى نفسه الشابة التي وقعت فريسة لوهم الأفكار الهدامة. ويمكن لهذه الفكرة أن تفسر الحزن الذي ارتسم على جنبات بوفري ولاحظه راسكولنيكوف في لقائهم الثالث.

وبالعودة إلى سفدريجايلوف، فإننا نتعرف من خلاله على شخصية استثنائية فاسقة متصيدة للنساء وعلى أعلى درجات من الخسة والدناءة. شخصية نرى تحولها التدريجي إلى أمثولة تخلف انطباعاً قوياً يطاردها الموت وهي تقود حياة لا روح فيها. فمنذ ظهور سفدريجايلوف لأول مرة على ساحة الأحداث فإننا نرقب عدم قدرته على حمل ثقل الحياة الدنيا (والآخرة كذلك) إلا على نحو منفر ومنحط وقذر. ويظهر دوستويفسكي هذا لنا ذلك في كابوسه الأخير قبيل انتحاره حين تتراءى له الطفلة الصغيرة (رمز البراءة) التي أنقذها وهي تتحول إلى عاهرة.

وبانتحاره يتبين لنا بأن سفدريجايلوف لم يستطع أن يخلص نفسه من حلقة الرعب المفرغة التي تحوم حولها نفسه بسبب انغماسه وغرقه في ذاته. لقد استعان دوستويفسكي بشخصيته لحل بعض المشاكل العملية في النص والتي يمكن لها أن تثير بعض التساؤلات. لكن أمكن لدوستويفسكي إقناع قارئه بإمكانية حدوثها بجعل سفدريجايلوف يقمع في نفسه التوق لفعل الخير وهي رغبة ساخرة للهرب من نفسه الشاذة ومن دوره الذي يلعبه في تحريك الأحداث وهو ما جعل تصرفاته تتمتع بالصدق.

الكشف الأخير في الفصول الأخيرة قد أسرفت عنه الكثير من الاعتراضات النقدية. إلا أنه وبالنسبة لي فإن الحلم الأخير لراسكولنيكوف قد لعب دوراً في غاية الأهمية. فإن لم تستطع أي محاجة عقلية نقض نظرية راسكولنيكوف حول “الانسان العظيم” فقد تولت المهمة محاجة تصورية انبثقت من لا وعيه. حيث أظهر له حلمه الأخير ما سيستحيل إليه العالم إذا ما أصابت نظرية “الانسان العظيم” كافة البشر كطاعون. ويرينا دوستويفسكي ما ستخلص إليه بتصور حرب عالمية يقاتل فيها جميع البشر أنفسهم في عالم بدد العقل والمنطق فيه كل الروابط الأخلاقية والعاطفية التي يعجز المرء عن تفسيرها والتي تربط البشر بعضهم ببعض. وقد تمكنت هذه الفوضى الناتجة عن الدمار الذي خلفته النظرية من بعثه مؤمناً بالعقيدة الدينية التي هي اللب العواطف التي دفعته للاعتراف.