مجلة حكمة
أعمال ابن ميمون الكاملة

أعمال ابن ميمون ونشأته الفلسفية – كينيث سيسكين

  • أهم أعمال ابن ميمون
    غلاف كتاب (دلالة الحائرين) أهم أعمال ابن ميمون

    مقدمة

موسى بن ميمون، هو أعظم فيلسوف يهودي في العصور الوسطى، (يعرف للناطقين بالإنجليزية باسم ميمونايدس (Maimonides)، ولمتحدثي العبرية باسم رمبم/ ولد عام 1138 وتوفي عام 1204)، وما يزال حتى يومنا هذا يُقرأ على نطاق واسع. وضعه عمله (مشناه التوراة- The Mishneh Torah)، وهو عبارة عن أربعة عشر مجلدا في الشريعة اليهودية، كأبرز سلطة حاخامية في زمانه، أو ربما في على مر الزمان. أما تحفته الرائعة (دلالة الحائرين-The Guide of the Perplexed) فتعدّ علاجا ثابتا للفكر اليهودي والممارسة التي تسعى إلى حلّ الصراع بين علوم الدين والعلوم العلمانية. بالرغم من تأثره الشديد بالأرسطية الأفلاطونية الجديدة التي كان لها جذور في الأوساط الدينية، إلا أنه انحرف عن النسق السائد للفكر الأرسطي، عبر التأكيد على حدود المعرفة البشرية والأسس المريبة للأجزاء العلمية لعلم الفلك والميتافيزيقا. اكتسب ابن ميمون شهرة أخرى أيضا، لكونه طبيبا، فقد كتب مقالات طبية في مجموعة من الأمراض وعلاجها. علّقت أجيال من الفلاسفة التابعين له على أعمال ابن ميمون التي أثرت على المفكرين بشتى أنواعهم، أكويناس، سبينوزا، لينيز، ونيوتن.

  • حياة وأعمال ابن ميمون

وُلد ابن ميمون لأسرة بارزة في قرطبة “إسبانيا” عام 1138 [1]. كانت مدينة قرطبة في تلك الفترة تحت الحكم الإسلامي، واُعتبرت كواحدة من أعظم المراكز الفكرية في العالم. تلك المدينة كانت مسقط رأس ابن رشد، إلى جانب ابن ميمون . لكن الأمور اتخذت مجرىً سيئا بعدما غزاها الموحّدون عام 1148، وعرضوا عليهم بعد ذلك خيار ترك دينهم، نفيهم من البلاد، أو الموت. أُجبرت عائلة ابن ميمون على الرحيل من قرطبة وسافرت عبر الجنوب الإسباني لتصل إلى مدينة فاس “المغرب” عام 1160. أول أعمال ابن ميمون الملحوظة كانت (مقالة في فن المنطق- Treatise on the Art of Logic). بدأ في ذلك الوقت بالعمل على أول تحفة دينية له (شرح المشناه- Commentary on the Meshnah)، والتي أنهاها عام 1168. لُوحظ في هذه التحفة أن ابن ميمون قد ركز على التوراة الشفوية، والتي عنى بها التفاصيل، المميزات، والتفسيرات المستمدة من التوراة المكتوبة، التي أُوحي بها إلى موسى في سيناء.

من الجدير ذكره أيضا، تعليق ابن ميمون على الفصل العاشر لمقالة مشناهية “السنهدرين”. بينما يناقش الادعاء القائل بأن لكل بني إسرائيل حصة قادمة في العالم، بيّن أيضا ثلاثة عشر مبدأ اعتبرها مبادئ مُلزمة لكل يهودي: وجود الإله، الوحدة المطلقة للإله، لا مادية الإله، خلود الإله، وحدة الإله ليكون معبودا، تواصل الإله مع الأنبياء، موسى أعظم الأنبياء، التوراة جاءت من الإله، وأنها غير قابلة للتبديل، هناك عقاب وجزاء إلهي، وأن المسيح بعث لإحياء الموتى من جديد. [2] تلك كانت أولى المحاولات لإدخال مقالات للدين اليهودي، لينطلق منها جدل واسع لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا (Kellner 1986, 1999).

وصل ابن ميمون إلى مصر عام 1966، واستقر أخيرا في الفسطاط، مدينة تعتبر جزءا من القاهرة. مع نشر (مشناه التوراة) كان قد وضع لنفسه اسما كمفكر لكافة العصور. لم يصنف هذا العمل كافة وصايا التوراة فقط، بل حاول أن يُظهر أن كل جزء من الشريعة اليهودية يخدم غرضا منطقيا، وأنه ليس هناك شيء يمنح لمجرد الطاعة.

من الكتب التي يجدر ذكرها، الكتاب الأول (كتاب المعرفة- The Book of Knowledge)، والذي يستعرض الأسس الفلسفية للمعتقد اليهودي، نظرية للسمات أو القواعد الأخلاقية، الحاجة لدراسة التوراة، الشرائع المتعلقة بالوثنية، وأهمية الندم والتوبة. ومما هو جدير بالذكر أيضا، الكتاب الرابع عشر (القضاة-Judges)، والذي يخلص إلى الزعم بقدوم المسيح، واستعادة السيادة لبني إسرائيل، وينشر السلام مع الشعوب الأخرى، ويقود العالم لدراسة العلم والفلسفة. وعلى العكس مما يقال، فالمسيح لن يجعل الناس أغنياء، أو يبدل في التوراة، أو يطلب منه إثبات المعجزات.

اكتمل كتاب (دلالة الحائرين) عام 1190، واحتوى على أكثر النقاشات الفلسفية شمولا لـ ابن ميمون . ظاهريا، كان الكتاب عبارة عن مقالة كُتبت من طالب متقدم في العلم، لم يستطع أن يقرر ما إذا كان يريد دراسة الفلسفة أو تعاليم دينه، لكنها أكثر من ذلك في الواقع، فيها شرح للمصطلحات التوراتية التي يظهر أنها تنسب صفاتا جسدية إلى الإله، وهي دفاع متصلب للاهوت السلبي، نقد موسع للكلام، وعلاج منهجي للخلق والتدبير، وهي نظرية في فلسفة التشريع.

وفقا لـ ابن ميمون ، فإن الشريعة اليهودية تهدف لأمرين: صلاح الجسد وصلاح الروح. الأول في كل حالة هو وسيلة للآخر. تصلح الروح باكتساب الآراء السليمة والعلم بكل ما يستطيع الإنسان الإلمام به. وكلما اكتسبت الروح مزيدا من المعرفة، كلما كانت أقدر على تحقيق الالتزام (سفر التثنية 6.5) وحب الإله. إن أكبر مُعيق لحب الإله هو الإيمان بأن الإخلاص للكتاب المقدس لا يكون إلا بتفسيره بشكل حرفي. بالتالي، ينتج عن هذا التفسير الحرفي مفهوم مادي للإله، والذي يعادل، من منظور ابن ميمون ، الوثنية.

لطالما اُعتبر (دلالة الحائرين) عملا جدليا، وحُظر في بعض الأوساط الحاخامية. فعند رفض التفسير الحرفي، سيثير تساؤلا ما إذا كانت قراءة ابن ميمون للتوراة تتطابق مع ما فهمه الأنبياء، أم أنها تقدم إعادة تشكيل فلسفي يعود لـ أرسطو والفارابي أكثر من كونه عائدا على النبي موسى. وتُثير تساؤلا آخر أيضا، حول ما إذا كان المعنى الحقيقي للتوراة معقدا للغاية لكي يدّرس لعامة العبّاد، ولذا يجب قصره على قلة من المتعلمين. بكل اختصار، هو تساؤل عن إثارة مسألة الباطنية.

آخر عملان لـ ابن ميمون كانا، (مقالات حول البعث- Treatise on Resurrection)، والذي نشر عام 1191، و (مقالة في علم التنجيم- Letter on Astrology)، نُشرت عام 1195. [3] كُتب الكتاب الأول ردّا على تهمة بأنه حينما آمن ببعث الجسد، لم يكن مؤمنا به في الحقيقة. لم تكن تهمة عبثية، إذا نظرنا إلى أن مفهوم الآخرة لدى ابن ميمون هو مفهوم فكري خالص، وأن طبيعته جعلته مشككا في أمر المعجزات. لقد دافع عن نفسه بقوله إن المسألة الأهم ليست في حدوث البعث أو عدمه، بل فيما إذا كان هناك إمكانية لحدوثه. الخلاصة، عندما يقبل الفرد الإيمان بالخلق، فإن الإيمان بالبعث يتبعه على الفور. أما بالنسبة للكتاب الآخر (مقالة في علم التنجيم) فقد كُتب في وقت آمن فيه العديد من الناس أن للأجرام السماوية تأثير على الحوادث البشرية. مع ذلك، زعم ابن ميمون أنه ما من أسس علمية لهذا الاعتقاد، وعلى هذا الأساس يجب تركه حتى لو وُجدت له دعائم في الكتب المقدسة.

من أجل الارتقاء لحجم المطالبات المتزايدة، جاهد ابن ميمون وأرهق نفسه في العمل حتى توفي في الفسطاط عام 1204. ومثلما قيل في الأثر، من موسى إلى موسى، لم يكن هنالك مثل موسى.