مجلة حكمة
منهج ابن عربي الفلسفي

منهج ابن عربي الفكري في الفلسفة واللاهوت – وليام تشيتيك


  • منهج ابن عربي

يرى القونوي أنّ منهج ابن عربي الفكريَّ يختلفُ عن الفلسفة واللاهوتِ المدرسيِّ (علم الكلام)، وأطلقَ اسمَ (مَشْرَب التَّحْقِيق) على الاتِّجَاه المنهجيِّ الَّذي تَبَنَّاه ابن عـربي. يمثِّل التحقيقُ حَجَرَ الزَّاوية في البِناء الفكريِّ الضَّخم لـ ابن عربي؛ لذا فمن المهم جدا مقاربة معناه. تشتركُ مادَّةُ التَّحْقِيق مع كَلِمَتَي حقّ وحقيقة في الجذر اللغوي ذاتِه، وتعدُّ هذه الاشتقاقاتُ ذاتَ استعمال في العلوم. وكلمة الحقِّ من معانيها: الحقيقة، ما هو ثابت، أو ما هو خليق وجدير، واستخدامها المعاصر يُغاير هذه المعاني؛ لأنَّها تُستعمل في سياقِ الحَدِيثِ عن حُقوقِ الإنسان. إنَّ القرآن قد استخدم كلمةَ حق بمعنى يقابلُ مفهومَ البَاطل (الخطأ، العبث، غيرُ الثَّابت، ما ليس بجدير)؛ لذا لم تكن كلمةُ حقّ منحصرةً في اسم الله (الحقّ)، ولكن تعدَّدَتْ معانيها. وتستخدَمُ كذلك عند التعبير عن مَضَامِين الوَحي الإلهيِّ كالقُرآن والنُّصوصِ المقدسَّة الأُولى. والحقيقةُ ليستْ مصطلحا قرآنيا وإن استُخدِمَتْ في التُّراث الحَديثي، ولها حضور خَاصٌّ في الاستعمال الفلسفيّ. والتحقيق معناه قولُ الصدق، وإحقاقُ الحقِّ، وممارسة الحقيقة؛ الصواب، اليقين، الاستقامة، ما هو جدير.

ودَورُ التَّحقيق كما وجده ابن عربي يكمنُ في أنْ ينغمسَ الإنسانُ بكلِّه في الحديثِ القائلِ أنَّ لكل شيء حقا؛ فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. وبتعبير آخر نقول: ما مِنْ موجود في هذا الكون، المجتمع، الروح إلا وله حقٌّ، ودورُ الإنسان ينحصِرُ في الاستجابة المُثلى لتلك الحقوق. ومعنى أنَّ لكلِّ شيء حقًّا: أنَّ مسؤوليَّة إحقاق الحقوق تقع على عَوَاتِق النَّاس؛ لذا عليهم مراقبة حضورها فيهم.

ولنَأْتِ إلى حديث آخر يُوَضِّح الحقَّ الرئيسَ الذي تَنْبَنِي عليه سائرُ الحقوق، كلمة (لا إله إلا اللّه) تعني أنْ لا حقَّ إلا الحقَّ وحده، وأنْ لا صادقَ إلا هو بانفراد، والتوحيدُ فَهْمُ لا إله إلا الله، أو هو الإقرار بوحدانيَّة اللهِ كما نجد في علم الكلام، ويُعَدُّ الأصلَ الأوَّلَ من أصولِ الإيمان الثَّلاثة، بل إنَّنا نجدُ مقالاتِ الفلاسفة تتدَثَّر بفكرة التَّوحيد، وإن كان حضورُها ضعيفا عند بعضهم. وحقُّ الله على الناس -كما يخبرنا هذا الحديث- هو الإقرارُ بوحدانيِّته، وإنْ تَحَقَّقَ العبادُ بهذه الوحدانيَّة؛ فإنَّ حقَّهم على الله أنْ يُحَقِّقَهم بالسَّعادة السَّرْمَدِيَّة، وقد آثَرَ الفلاسفةُ استخدامَ هذه اللفظة في ترجمة كلمة Eudaimonia، والتي تعني حرفيَّا: (Eu-الخير) – (daimonia-الروح).

أدركَ الفلاسفةُ المسلمون منذ العصور المبكِّرة أنَّ إدراكَّ الحَقِّ -الحقيقة، الصواب، الثابت- شيءٌ أساسيٌّ للتَّحَقُّقِ بالحِكمةِ وسعادةِ الرُّوح. كتب الكنديُّ في بدايةِ كتابِه الشَّهير (في الفلسفة الأولى) أنَّ غاية الفيلسوف هي امتلاكُ الحقِّ وإحقاقُه. ويستخدمُ العلماءُ كلمةَ “truth” في ترجمة “الحق” في هذا السياق وفي سياقاتِها الأُخرى المُشَابِهَة. وقد كانوا يرَوْنَ أنَّ القضيةَ هنا قضيَّةٌ منطقية وإبستمولوجيّة، في حين أنها -في الحقيقة- أونطولوجيَّةٌ ووجوديَّةٌ؛ فالغاية من مسألةِ التحقُّقِ بالحكمة لم تكنْ تعني عند الفلاسفة غير التحوُّلَ الرُّوحيَّ، ولا يمكن لهذا أن يتحقَّقَ ببساطةٍ عن طريق المنطق والحِجَاج. في الحقيقة، تُعَدُّ جملةُ الكنديّ تعريفًا مبكِّرا للتَّحقيق، وقد أصبح المصطلحُ مُشْتَهِرًا في النُّصوص الفلسفيَّة وإن لم تكنْ له الأهمّيّةُ ذاتُها كما نجد في أعمال ابن عربي . فالتَّحْقِيق عنده هو الأصل الهادي لكلِّ معرفةٍ وتَوَجُّهٍ، وهو الهَدَفُ الأسْمَى الذي يمكن للنَّفْس الإنسانيَّة أن تَتُوقَ إليه. وهو أن تعرفَ الصِّدقَ والحقَّ في الكون والرُّوح وكلِّ شَأْنٍ إنسانيٍّ على أساسٍ مُسْتَمَدٍّ من الحقِّ الأعلى، والحقُّ أنْ تعرف أعلاه درجةَ أن تَتَكَشَّفَ عينُه لكَ في أعيانِ حقائقِ كلِّ شيء، وأنْ تَسَلُك تُجاهه مَسْلكا لائقا في كلِّ وقت ومُناسبة. باختصار نقول: إنَّ أهلَ التحقيق هم الذين تحقَّقُوا كُلِّيَّا بمواهب الرُّوح الروحانيَّة والكونيَّة والإلهيَّة (تشيتيك Chittick  2005، الفصل الخامس).

وقد تُفْهَمُ دلالاتُ التحقيق إذا ما قُورِنَ بالمقابلِ المفْهوميِّ له؛ أعني التَّقليد، والتقليدُ هو أن تُتَابَعَ سلطةٌ ما وأن يُقتَدَى بها. يمكن تقسيم العِلْمِ إلى قسمين: العلم النقليُّ والعلم العقليُّ، أو العلم الحصوليُّ والعلم الحضوريُّ. والنقليُّ هو كلُّ ما يمكن تعلُّمه إذا تابعنا الغيرَ فيه، مثل اللغة، والثقافة، والنُّصوص المقدَّسة، والتاريخ، والقانون، والعلم الطبيعيّ. أمَّا العقليُّ فهو ما يُمكن إدراكُه عن طريق العلمِ بالحقِّ داخلَ كلٍّ منَّا، مثل الرياضيات، والميتافيزيقا، وحتى تلك المعارف التي عُرِفت بالتقليد معرفةً أوَّليَّةً. ويُسَمَّى العلمُ العقليُّ عند مُلا صدرا بالعلم غير الآليِّ؛ لأنَّ الرُّوحَ لا تَكْتَسِبُ هذا العلمَ بشكلٍ أداتيٍّ، من خلال الإدراك الحسِّيِّ مثلا، أو الخيال، أو الحِجَاج العقليِّ، وإنَّما يَتِمُّ الكَسْبُ حالةَ انسجام الرُّوح مع العَقْل، والتي لا تكون شيئا غير بريقٍ من نورِ الحقِّ وقتَ امتلائها بالحقيقة. باختصار نقول: يتَّفق ابن عربي مع كثير من الفلاسفة الإسلاميين على أنَّ تقليد الآخرين لا يؤدِّي إلى امتلاك الحقيقة، بل لا بدَّ للإنسان أن يكتشفها عن طريق الإدراك، والإدراكُ يعني تحقيقَ المواهبِ الروحيَّةِ. يختلف ابن عربي عن كثيرٍ من الفلاسفة غيره في قوله أنَّ تحقيقَ الإدراك لا يكْتَمِلُ إلا عن طريقِ تحسُّسِ خطى النَّبيِّين.

  • الكلام الإلهيّ

يصعب علينا تقدير أهمِّيَّة النصِّ القرآنيِّ كمصدر إلهام لـ ابن عربي (تشودكوفيتشChodkiewicz  1993). كان ابن عربي أكثر الفلاسفة واللاهوتيين بذلا للإلحاح والجهد في مقاربة الكلام الإلهيِّ، وفي محاولة أنْ يَفْنَى فيه وأنْ يُحتلَّ به، بل إننا نجد أنَّ نصوصَه تمتلِئ بالمفرداتِ والمصطلحات القرآنيَّة. يعترِي التشابهُ والغموضُ القرآنَ لأنَّه كلام إلهيٌّ، رغم وضوحه وجلائه من جهةِ التدوينِ والتِّلاوة. إنَّ الكلام الإلهيَّ لا يتجلَّى في النصِّ فحسب، ولكن في العالم والرُّوح أيضا. ولنا أنْ نُلاحظ التَّجانُسَ بين الكون والرُّوح والنَّصِّ بسهولة من خلال الرَّمْزِ القُرآنيِّ. إنَّ القرآنَ يتحدث في أكثر من آية عن تصرُّف الله الإبداعيِّ في صورة فعلِ الأمرِ (كُنْ)، ويشير إلى مخلوقاته الفرديّة على أنَّها كلماتُه. إنَّ هُويَّةَ الكلام والإبداع الإلهيِّ يُمكن ملاحظتها في الاستخدام القرآني المُتَتَابِع لمُصطلح (آية)؛ إشارةً إلى الظَّاهِرة الكونيَّة، والأحداث الداخليَّة للرُّوح، وإلى الجُمَلِ القرآنيَّةِ نفسِها. إنّ الله عندما يتكلَّم -وهو يتكلَّم؛ لأنَّ الحقَّ المُطْلَقَ لا بُدَّ أن يُظْهِرَ خصائصَه ونُعُوته- فإنّه في الحقيقةِ يُعْلِنُ عن كُتُب ثلاثة؛ كل كتابٍ يتألَّف من آيات، وكما يقول ابن عربي نفسُه:

“فالوجود كلُّه حروف وكلمات وسور وآيات؛ فهو القرآن الكبير” (ابن عربي ، الفتوحات المكيَّة، طبعة 1911، 4:167.22).

يرى ابن عربي -في واحدة من أفضل تفسيراته لطبائع الأشياء- أنَّ الإبداعَ الإلهيَّ يماثل الكلام الإنسانيَّ؛ فكما نخلق الكلماتِ والجملَ من قِوامِ النَّفَس، كذلك يخلق اللهُ العالَمَ عن طريق التَّلَفُّظِ بالكلماتِ في نَفَسِ الرَّحمن، مِمَّا يعني انبساطَ الوُجود؛ والوجود في حقيقتِه مرادِفُ الرَّحْمة. ومن بين العديد من تصوُّرات ابن عربي الكونيَّة يأتي هذا التصوُّر المُعَقَّد الذي يرسم فيه المراتبَ الرئيسةَ لهذا الانبساط الوجوديِّ في شكلٍ يوافقُ فيه كلُّ حرفٍ من الأحرفِ العربيَّةِ الثمانية والعشرين شكلا من أشكال الوُجود المنطوق. (بوركهارتBurckhardt  1977، تشيتيكChittick  1998). وتأتي أهميّة القرآن المقروء المحوريَّة في حقيقة أنَّه يكشِفُ عن الأسماء والآيات الإلهيَّة بلُغة الإنسان، وبالتَّالي يمكننا حيازة المفتاح الذي به تُفْتَحُ مغاليقُ الكتابين الآخرين. إنَّنا حين نُفسِّرُ القرآن؛ فإنَّنَا نُفسِّرُ الكون وأنفسنا معه أيضا. يبدأ ابن عربي -عادة- أيَّ نقاش بآية أو آيتين، ثمَّ يتوسَّلُ استنباط كل معنى يتَّصِل بالآية مهما يكن السياق. ويصِرُّ ابن عربي على أنَّ التأويل لا بدّ أن يتماشى مع اللغة العربية كما يتحدَّث بها القومُ الذين نزل فيهم الكتابُ، ورغم ذلك، فإنَّه في أحايينَ كثيرةٍ يُقَدِّم لنا تفسيرات مُفاجِئَة وغاية في الابتكار. ولكن، عند إمعان النظر فيها نجد أنها لا تخالف قوانين اللغة، حتى وإنْ كانتْ تُعارضُ الذَّوْقَ العام. إنَّ قدرتَه على التمسُّك بالمصادرِ النقليَّة والإتيان بمعانٍ جديدةٍ -عند الوهلة الأولى قد تعتقِدُ أنَّها تعتمد على دليلٍ ذاتيٍّ- أقنعتْ التقاليدَ المتأخِّرةَ ببراعتِه الاستثنائيَّة. يخبرنا ابن عربي أنَّ مُؤَلِّف القرآن يريد كلَّ معنى ينجلي للقارئ، ويذكِّرُنا أيضا أنَّ مؤلِّفي البشر لا يملكون تلك النِّيَّة أو الإرادة، بل لو أنَّ أحدا أعادَ قِرَاءَةَ آيةٍ من القرآن ثمَّ فهم المعنى نفسَه الذي فهمه في المرَّةِ الأُولى، فإنَّ قراءتَه تكونُ زائفةً، ويكون قد أضاع حقَّ الكلم الإلهي؛ لأنَّ المعاني التي تتكشَّف في الكتب الثلاثة يستحيل عليها التَّكْرار.

وكلام الله سريع التبدُّد، مثل كلامنا نحن البشر؛ لذا فالأنفاسُ الإلهيَّةُ تُجَدِّدُه على الدَّوام. ومعنى هذا أنَّ كلَّ شيء خلا الله (الكون كلّه بتعريفِه المعهود) يتجدَّد خلْقُه في كلِّ آن، وكلَّ شيء خاضعٌ للصَّيرورة. تُعَدُّ فِكرَة أنْ لا تَكرار في التَّجَلِّي مبدأ أساسا في منهج ابن عربي الفكري ما دام يراها تحقيقا صريحا للتوحيد. وعن طريق الإقرار بوَحدة الحقِّ نستطيع أن نقارب الواحديَّة والتفرُّد في كلِّ فِعل؛ ممَّا يعني أنَّ كلَّ مخلوق، بل كلَّ لحظة من كلِّ شيء متفرِّدَة ذاتُ أصالة؛ فلا شيء يتكرَّر أبدا مثلما كان من قبل بسبب تمايُز الأشياء وطلاقَةِ الألوهة.

  • التَّأَلُّه في منهج ابن عربي

إنَّ الفكرة الرئيسة التي تسيطر على منهج ابن عربي الفكري كلّه هو تحديد إمكانات الإنسان؛ وضرورة التَّمييز بين الحقِّ والباطل -الصِّدق والكذب، الصَّواب والخطأ- وتوجيه قُرَّائه نحوَ الكمال عن طريق التَّحَقُّق بالحَقِّ على قدر الطَّاقة البشريَّة، بالتعبير الَّذي يُفَضِّله الفلاسفة. و يتطَلَّب هذا بدوره التَّحَقُّقَ بأسماء الله، وقد ناقش الغزاليُّ هذا الأمر من بين كثيرين، وأسماه ابنُ سينا باسم التَّأَلُّه؛ أنْ تكون على صورة الله. خلقَ اللهُ الإنسانَ على صورة اسمِ الله ذاته، المعروف بالاسم الجامِع؛ لأنَّ كلَّ الأسماء الإلهيَّة الأخرى تعودُ إليه. والإدراكُ يعني العمل على التحقُّق بمعرفة الكتب الثلاثة، وتزكيةِ النفس من خلال التَّنَاغُم مع الحقِّ. ويظهر هذا الوِئام في التغَيُّر الخُلُقِيِّ، وتَجَلِّي الفضيلة. لا يُعالج علمُ الأخلاق مسألةَ تهذيب السُّلوك الإنسانيِّ فحسب، ولكنَّه يهدف إلى فهم أصول الرُّوح في الأسماء الإلهيَّة، وبيان الطريق نحو التَّخَلُّق بها. يرى القرآنُ محمدًا أُنْموذجا كاملا لهذا الأمر؛ فيقول: “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ” (68:4). وهذا التَّخَلُّقُ لا يصدُق إلا عن طريق التَّحَقُّقِ التَّامِّ بالكلام الإلهيِّ؛ ولهذا قالتْ عنه زوجُه عائشة: “كان خُلُقُه القرآنَ” كما يرى ابن عربي .

  • الأسماء والنِّسَب

يتحدَّث القرآنُ كثيرا عن أسماء الله، وذكر قَدْرا لا بأس به منها لا يوافق العدَدَ التقليديَّ؛ التسعة والتسعين. ويتراوح عددُ هذه الأسماء بين السبعين وضعفِها إذا ما تابعنا الشروط الموضوعة لِحَصْرِها. وتشَكِّل الأسماءُ التي تُعرَف -عادة- بالصفات نقاطًا مرجعيَّة لعلم الكلام. في منهج ابن عربي في اللاهوت، يُفَرِّق بين أسماءِ الأسماء التي تظهر في لغة الإنسان، وبين الأسماء في ذاتها، والتي هي حقائق الألوهة. كتب اللاهوتيُّون عددا كبيرا من الكتب في تعداد هذه الأسماء وبيان أهمِّيَّتِها الإلهيّة والكونية والرُّوحيَّة. وقد كرَّسَ ابن عربي بابا طويلا من الفتوحات لهذه الأسماء خصِّيصا، وقام بتصنيف كتاب مُسْتَقِلٍّ يُلَخِّصُ فيه أدوارَها في الصَّيْرُورة الإنسانيَّة (ابن عربي ، كتاب كشف المعنى).

والأسماء ضرورة في طَلَبِ التَّأَلُّه؛ فالحقُّ في ذاته معروف لذاته؛ وآياتُ الغَيْرِ مُدَوَّنَةٌ في كتبه الثَّلاثة، وهم يعرفون الذَّاتَ بقدر ما يكشف عن نفسه لهم. وبتعبير آخر: إنَّ صفحةَ الوجود رغم أنَّها هي وجهُ الله، “فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ” (القرآن 2:115)، فإنَّه حتى نتَعَرَّف على الوجوه التي يظهر عليها كُلِّيُّ الوجود فعلينا أن نعرفَ أسماءَها وأنْ نتحقَّق بحقائقِها.

واستُخدِمَتْ كلمةُ (ذات) للدلالة على الحقِّ، وتعني (صاحب)، وهي في أصلها اختصار لتعبير (ذات الأسماء)؛ لذا كان المصطلح المرادفُ هو  (المُسَمَّى). يشير القرآنُ إلى الذَّاتِ عن طريق الضمير (هو)، والَّذي لا يَلْفِت انتباهنا إلا إلى حقيقة أنَّ ثَمَّة شيئا هناك. وكلمة الذَّات يمكن ترجمتُها إلى اللغة الإنجليزية بكلمة (it)؛ لأنَّ الذَّات تعلو فوق التَّذكير والتَّأنيث، وقواعد العربية تُقَسِّم كلَّ الأسماء والضمائر إلى قسمين اثنين؛ مذكرة ومؤنَّثة. (ومن المؤكَّد أنَّ ابن عربي وآخرين -أثناء الحديث عن الذَّات- استخدموا الضمير (هي)؛ لأنَّ الذات مؤنَّثة، بل أحيانا يناقشون السبب وراءَ كونِ التأنيث أكثر رجحانا من التذكير. مُرْتا Murata  1992، 196-99). إنَّ كلَّ ما نعرفه من أسمائه أنَّه/أنَّها رحيم، عالم، حيّ، وغير ذلك، وتبقى الذاتُ غيرَ معروفة في ذاتها بعد ذلك. يَدُلُّ كلُّ اسم على صفة مُحَدَّدة تتجلَّى في الظهور في تلك اللحظة التي يتحدَّث فيها الحقُّ والخَلْق. ومن أجل ذلك يقول ابن عربي أنَّ الأسماء الإلهيَّة يمكن أن تُسَمَّى بالنِّسَب.

تأتي هذه الخصائص الفريدة للإنسان من قدرته على تسمية الأشياء، التي نتجتْ عن حقيقةِ أنَّه وَحْدَهُ المخلوق على صورة الاسم الجامع. ودليل ذلك قوله: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (القرآن 2:30). ولا ينطبق هذا الأمرُ على أسماء الجُزْئِيَّات فحسب -آيات الله في الكتب الثلاث- وإنَّما تدخل فيه الأسماء الكلِّيَّة أيضا، والتي يدعوها القرآن باسم (الأسماء الحسنى). يملك الإنسانُ موهبةَ معرفةِ الأسماء كلِّها على أيِّ حال، لكنَّه لا يستطيعُ معرفةَ الجوهر الذي تَتَضَمَّنُه هذه الأسماء. نعم، يمكن للواحد منا أنْ يعرفَ الشَّيءَ في ذاته فقط؛ أعني حقيقةَ وُجودِه، لكنَّنا لا نستطيع أنْ نعرفَ أيَّ شيء هو، أو أن ندرك ماهيَّتَه. وبقدر ما تتطابق الأسماءُ مع الذَّات، بقدر ما تَتَحَجَّب معانيها، وعِنْدَئِذ تُصبِحُ مَعْلَما من مَعالم التَّعَالِي والتَّزيه. وكلَّما كانتْ تشيرُ إلى صفة مثل الرحمة، والعلم، والحياة، والغفران، والانتقام، كلَّما أشارتْ إلى المحايثة والتشبيه. باختصار نقول: إنَّ رؤيةَ ابن عربي اللاهوتيَّة تجمعُ بين مُقَارَبَتَي نفي الصِّفات وإثباتها.

منهج ابن عربي الفكري في الفلسفة – وليام تشيتيك