-
مقدمة
تزخر الفلسفة الهيجليلة بالثنائيات الديالكتيكية بين الفكرة ونقيضها، معتبرةً ما هو عقلي واقعي ، وما هو واقعي عقلي ، وعندما نحاول أن نشرح هذه المقولة ؛ فإننا نصوغ هيجل كمفهومٍ معلل ، والمفاهيم هي أيضًا كائنات فكرية تحتاج إلى بيئة تنمو فيها وتخضع لمقولة الزمن؛ فالنص ، أو الشخص لا يفهمان خارج السياق التاريخي ، وقد يكون الشخص نصًا أو فكرةً أو رمزًا لشيء ما.
إن الله وحده الذي لا يفهم بالزمان ، ولا بالمكان ؛ لأنه هو من خلق الزمان والمكان ، وما عدا ذلك فإنه محدد بأدلوجة زمانية أو مكانية ، وعندما نحاول أن نتلمس ملامح الدولة عند هيجل تبدو لنا كتَمَظْهراتٍ للروح بمراتبها الثلاث إلى أن تتوحد في لحظة معينة ؛ لتفسح للحظةٍ مثاليةٍ عاليةٍ لا تخضع إلا لنفسها ؛ حتى تتموضع كما هي . إنها النمطُ الذي يتم بحسبه الانتقال داخل الفكرة الواحدة المنشطرة على ذاتها إلى لحظات ، ولو أردنا أن نصف هيجل بكلمة ضابطة لفلسفته لقلنا بأريحية تامة ؛ إنه فيلسوف التناقضات لا التماثلات والمركز لا الهامش كما هو حال روسو وبقية التنويريين.
-
هيجل والدولة: بين يدي هيجل
يذهب برتراند رسل إلى أن هيجل من أكثر الفلاسفة غموضًا ، وتعقيدًا ، وعسرًا على الفهم ([1])، ويحدد باطاي هيجل على أنه الحقيقة مكتملة ([2])؛ أما فوكو فيعرف الفلسفة المعاصرة ؛ بأنها محاولة مستمرة للإفلات من قبضة النسق الهيجلي ، ويتساءل عن إمكانية التفلسف في غيابه. ([3])
إلا أنه قد أخذ على هيجل أنه كان موغلًا في جرمانيته عند حديثه عن الصيرورة التاريخية ، وانتهائها إلى العالم الجرماني باتجاه الروح المطلقة ممثّلةً في دولة بروسيا ؛ دولة العقلانية ، والأخلاق ؛ والنظام ، محدِّدًا بصراحةٍ ؛ أن وظيفة الدولة هي في عملية خلق التوافق الاجتماعي بين الطبقات المتنازعة ، وأن غاية التاريخ هي الدولة وغاية الدولة الحرية ، ولا حرية بدون دولة.
مع ملاحظة أن (الفلسفة التطورية) هي خلاصة فلسفة هيجل في منحى جدليٍّ تصاعديّ ؛ فالروح تتطور من الحس إلى العقل إلى المعرفة المطلقة ، والقانون يتطور من القانون الأخلاقي إلى القانون المدني إلى القانون السياسي.
واعتبر البعض نظريته عن عقل الدولة انحرافًا سيئًا عن نظرية القانون الطبيعي إلى الاستبداد المطلق ، وهو كهوبز طابق بين القانون الطبيعي ، والقانون الوضعي ، وقد تابع نظريته في وحدة الدولة والقانون الفقهاءُ القانونيون الألمان : (رودولف فون إيرينغ)، و(بول لاباند) ، و (جورج لينيك) ،\ و (فريدريش جيركه) وجميعهم يشتركون في مقولة أن القانون وضع من أجل الدولة ، وليست الدولة من وضعت من أجل القانون . ([4])
فهيجل يقرر بوضوحٍ تامٍّ أن النمط النبيل للوعي الذاتي يحصل في ارتباطه بسلطة الدولة ( الجوهر الكلي للوجود العقلي ) وأن أسمى واجب أن يكون الفرد عضوًا في الدولة ،في حال كونه على علم بمضمونها المطلق متماهيًا معها في حالة اتحادٍ مع انفصامه عن مضمونه الخاص ؛ وهو أي هيجل يجعل من هذا العمل في حد ذاته بطولةً حقيقيةً عندما تتلاشى الفرديات الأنانية ؛ التي هي سبب كل فوضى وفساد واضطراب ؛ من أجل الإفساح لوجود هذا الكلي الأعلى الذي هو فوق الجميع ، ويكون كل شيءٍ مسخر له ، وهي أي الدولة (لها إرادة جوهرية تتجلى وتظهر وتعرف وتفكر في ذاتها وتنجز ما تعرف بمقدار ما تعرف ) وعندما تأتي السلطة من فوق ؛ فإن التنظيم المحكم يعم المجتمع ، وهذا لا يعني الاستبداد ؛ لأن الاستبداد يعني أي حالة يختفي فيها النظام ، وتكون الإرادة في حد ذاتها سواء أكانت إرادة الملك أو إرادة جماعة من الغوغاء قانونًا حاكَمًا يرجع إليه. ([5])
كما ألمح إلى صعوبة فهم فكرة الملك؛ لأنه شيء لا يستنبط بل ينشأ بذاته كما هو على نحو خالص؛ لأنه ممثل الطبيعة وفيه خرجت الفكرة الشاملة المطلقة إلى الوجود وصاحب الجلالة هو صاحب الكلمة الأخيرة في اتخاذ القرار. واللحظة الكلية لها جانب موضوعي ( الدستور القانوني ) ولها جانب ذاتي ( ضمير الحاكم) فالدولة هي الروح وقد تموضعت في شخص الملك وهذا الذي لم يعقله البعض أدى إلى تمزق الدولة .
فهل ما زال هيجل بعد هذا غامضًا كما يرى راسل ويحتمل كلامه التأويل وهل ستظل (المسافة كبيرة بين ما تظهره الرموز، وما تحجبه ما تومي إليه، وما تستره إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة، وتلك المسافة، وما تتطلبه من عنت، وجهد، وشك، وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فنا من الفنون) ([6])كما يقول فوكو ، ولو حاولت أن أحلل خطاب هيجل الفلسفي السابق ؛ فإنه سيكون على عدة مستويات:
-
الأول: الملك، وعدم خضوعه للاستنباط التحليلي؛ وكأنه جهة فوق العقل؛ لأنه يفهم كما هو كمسألة الآلهة، وهذا ما يجعله مسلمة لا تقبل التغيير، ولا أن تطاله الثورة.
-
الثاني: أن الملك ممثل الطبيعة، وهنا يعود لأذهاننا مجتمع الطبيعة في العصور الوسطى المحكوم بنظرية الحق الإلهي؛ كما نجده عند القديس أوغسطين، وتوما الأكويني، ولكن في شكل حداثي على نحو ما.
-
الثالث: في الملك خرجت الفكرة المطلقة، أو العقل (الروح) المطلق إلى الوجود (وحدة الوجود) كما هو معروف عن هيجل.
-
الرابع: مستوى أدنى من التنظيم جزئي (المجالس التشريعية التنفيذية والجزئية)، وهي القوانين والأنظمة، وهذا الجانب الموضوعي.
-
الخامس: مستوى أعلى من التنظيم (ذاتي) وهو الحاكم، وهو صاحب الكلمة لأخيرة في كل ما يعرض من شؤون الدولة، وهيجل لاحقا يبين أن هذه الصلاحية ليست مستبدة بل منضبطة بالمصلحة.
-
السادس: إطلالة على الدولة ووصفها بأنها الروح ، وقد تموضعت مع أن هيجل عند كلامه عن حركة الروح في كتبه الأخرى يتكلم عن صيرورة دائمة تنتقل من الذاتية الواعية لنفسها ( الأفراد الذين يتخلصون من أطماعهم ويعون ذواتهم) ؛ حتى نصل للروح الموضوعي ، وهو (التنظيمات والمؤسسات ) إلى أن نصل للروح المطلق وهو (الملك) ؛ فقمة السعادة والخير هو هذه الوحدة الروحية بدرجاتها المختلفة ، ويوضح ذلك بأن الدولة توجد بنحو مباشر ( العرف/ القانون) ، وهي المرحلة الثانية من مراحل الروح وبنحو غير مباشر ( الوعي الذاتي للفرد ) ، وهي المرحلة الأولى وغايتها الوحدة بمراتب الروح الثلاث فالدولة عنده وروح وفكرة وهذه الفكرة هي الوجود الأزلي على نحو مطلق وضروري ، والتزامي أنا لما هو جوهري تجسيدًا في الوقت ذاته لحريتي الجزئية. والدولة هي توحد (الكلي، الجزئي، الفردي)، وهي المراتب المذكورة معا في وقت واحد ليشكلوا حقيقةً وفكرة روحيةً مطلقةً.
انتقد هيجل جان جاك روسو ؛ لأنه نظر إلى الإرادة بوصفها إرادة فردية وهذا ينتج عنه جعل اتحاد الأفراد قائمًا على آرائهم العرضية وإرادتهم التعسفية ([7])؛ فالأطروحة المركزية في النموذج التنويري هي في فصل الفكر اللاهوتي/ الديني عن الفكر الإنساني / العقلي أما هيجل فهو تنويري بمعنى آخر (متقادم) و( حداثي) معًا؛ فهو يدمج الفكر اللاهوتي في الفكر الإنساني حيث يأخذ الفكرة القديمة يعلمنها ويجسدها ، ولا يفصلها ، أو يستبدلها وعوضًا عن الإله المتجاوز أصبحنا نتحدث عن الحلول المتجسد ، ولا يخفى أن هيجل يتسيد مشهد الفلسفة الحلولية بامتياز عندما يدفع الإله داخل العالم ([8])تاركًا للدولة والقانون أن يتشكلا من خلال الحلول وهو ما يمكن أن نسميه بعلمنة اللاهوت مع الاحتفاظ بأصله قائما .
-
هيجل والدولة: الحرية كما يراها هيجل
يرى هيجل الحرية خارج الدولة ضربا من الوهم ، ومفهوم الحرية عنده غير محدد تمامًا وغامض بشكل مكثف لا يمكن أن نمسك به ؛ لكنه يؤكد على أن الحرية الطبيعية أو الحق الطبيعي يتحقق فقط في الدولة ويكون خارجها شيئا فارغا لا معنى له ؛ فليس هناك حرية طبيعية في ذاتها كهبة للطبيعة ؛ لأن الدولة هي التحقيق الأولي لها ، وأن الحرية التي تنبع من ضمير الفرد ، أو ما يسميه كانط بالعقل العملي ، ستكون مجردة للغاية ؛ فنحن في الواقع أحرار ليس كأفرادٍ ، ولكن كأجزاء من كل يضمنا ، وهو الدولة ؛ فالحرية إذًا في الدولة ومن أجلها ؛ فبدلاً من التحرر من الدولة نتحرر بها ومعها .
هذا هو السبب في موافقة هيجل على تمييز روسو بين الإرادة العامة وإرادة الجميع ( general will and the will of all) وإرادة الجميع ( الكل) هي إرادة الأفراد مجتمعةً وهي أصل عند روسو في مفهومه للدولة ومع موافقة هيجل له على التمييز بينهما ؛ إلا أنه يخالفه في التأسيس. ([9])
وفقا لـ أشعيا برلين ([10]) هناك حريتان حرية إيجابية وحرية سلبية حيث تقتصر الحرية السلبية على انتفاء القيود ومن ثم فليس هناك حريةً في الواقع ولا شيء إيجابي يتمحض من الإرادة الخالصة ؛ فأنت عندما تعمل ما يحلو لك ؛ فإنك بالفعلة هذه لا تكون ناضجًا فكريًا ولا حرًا ؛ لأن تصرفك لا يتضمن أيَّ إشارة إلى الإرادة الحرة ، أو الحق ، والحياة الأخلاقية وأنه لا يعدو اختيارًا في ظل ظرف قسري ؛ فهو في الحقيقة اختيار غير حر وعلى حد تعبيره ؛ فإنّ الدولة قائمة على الحرية وليس على القسر.
ربما نوسع الظروف القسرية؛ بحيث لا تقتصر على الظروف الاقتصادية إلى الظروف السياسية التي ولدت فيها الثورات العربية ونتساءل هل هي ناتجة عن ظروف اختيارية، أو قسرية.
ويتضح هذا بمسألة عند الاقتصاديين الليبراليين ؛ فهم يقيسون سلامة أي نظام اقتصادي من خلال تلبية تفضيلات الجمهور دون النظر لكيفية تشكلات هذه التفضيلات ولا للتداخلات المحددة لنمطها كالحال التي يتم فيها إقصاء القيم في عملية الاختيار ؛ فلو افترضنا أن هناك منتجًا ما وليكن (أ) مع أنه لا حاجة إليه إطلاقًا ولكن صاحب المنتج قدم حملة إعلانية ونجح في تغيير منحنى تفضيلات الناس ؛ فالليبراليون يرون أن عمل الاقتصاد بهذه الطريقة رائع ، ولكن الراديكاليين يرونه بعكس ذلك وأن الاقتصاد لابد أن يعبر عن الحاجات الواقعية ويكون صورة صادقة عن المجتمع بدون تدخل ، ويأتي رد هيجل مثل رد الاقتصاديين الراديكاليين ؛ أن المفهوم السلبي للحرية لا يستند بالفعل إلى قيمة تقوم على الاختيار الحقيقي ، ويعمد لغض الطرف عن الطريقة التي تم الوصول بها إليه ، ويرحب بأي ظروف تغير من طريقة الاختيار ؛ فهو في الحقيقي قسري وليس حرًا ؛ لذلك نجد هيجل يقول في أيام المجتمع الاستهلاكي :إن ما يطلق عليه الإنجليز «الراحة» هو شيء لامُتناهٍ وأن ما تعتبره راحة قد يكون مشقة في وقت ما والحاجة إلى مقدار أكبر من الراحة لا تنبع تحديدًا من داخلك مباشرةً، بل يُوحى إليك بها وكأنه يشير إلى آدم سميث وجيه بي ساي أصحاب النظرية الاقتصادية الليبرالية الكلاسيكية .
يذهب هيجل إلى أن حصر الدولة في قضية إشباع حاجات الناس يعني الانهيار التام وقيام المجتمع المدني على أساس اللامساواة الاقتصادية سبب قوي لزيادة عدد الفقراء نظرًا لتركز الثروة في يد الأقلية ، وهو أكبر خطايا الاقتصاد الرأسمالي مع قوله بدولة الرفاه والتقدم والازدهار وهو ما يرمي إليه هيجل، ولكن في نطاق القانون ؛ فالسوق في رأيه لا ينتج قانونا ولا عدالة ومن هنا نشأت الحاجة للسلطة ( الدولة ) التي تمثل المبدأ الأخلاقي العام وتناغمًا بين تضارب الأنانيات . ([11])
فالحرية الحقيقية إذًا هي أن تفعل الصواب داخل الدولة ، وهذا يعني إطاعة قوانين الدولة ، وفي العقد الاجتماعي لروسو ، كل من يرفض إطاعة الإرادة العامة يجب “إجباره” على فعل ذلك ، أي أنه مجبر على أن يكون حرًا ؛ ربما يعود مفهوم الحرية هذا إلى القديس أوغسطين الذي استمده من تجربته الشخصية ، فلم يكن يرى الحرية على أنها رخصة للعمل وفق رغباتي المطلقة، ولكن لفعل الشيء الصحيح ؛ فمن لا يستطيع أن يفعل الشيء الصحيح لا يمكن أن يقال عنه حرًا ، وعند تحليل كلام روسو نفهم أن مفهوما للحرية أو الإرادة قد تشكل من خلال الجميع خارج نطاق الدولة ، ومن ثم يؤخذ بالمجموع أو ما يسمى بالإرادة العامة ، ووفقا لروسو ؛ فالإرادة هي المجموع الكلي للاختلافات الصغيرة بين الأفراد التي تولد قرارًا جيدًا ؛ ويوضح برتراند راسل هذا النقطة باستخدام الجاذبية كمثال عندما يقوم جسيم ما بجذب جسيمٍ آخر في الكون لنفسه ؛ على سبيل المثال الهواء يجذبنا إلى الأعلى بينما تجذبنا الأرض إلى الأسفل لكن هذه التجاذبات المتباينة والأنانية ما هي إلا عوامل تشتيت للانتباه ، وفي الوقت المناسب تلغي نفسها تاركةً فقط جاذبية واحدة كبرى نحو مركز الأرض ، وشبه هذا الانجذاب الكبير بالإرادة العامة فهذا المجتمع الذي له هدف مشترك أو إرادة عامة هو ما يسميه هيجل المجتمع الذي يوجد فيه “نحن الذي هو أنا وأنا الذي هو نحن” حيث الكل يصبح ذاتيًا وفرديًا وأنانيًا ، وهو ما يعارض القانون الكلي ومفهوم الدولة عنده . ([12])
لذلك فروسو وفقا للإرادة لعامة يرى أن يجبر الأفراد لكي يكونوا أحرارًا ، وعليه فقد تكون قضية الحجاب في فرنسا الروسوية ؛ هي إجبار للأفراد على الحرية من منطلق الإرادة العامة .
فإذا سمعنا من يقول إن تعريف الحرية هو القدرة على فعل ما يحلو لنا ؛ فإنها لا أكثر من تعبير عن حالة من عدم النضوج الفكري ؛ لأنها لا تحتوي عن فكرة الإرادة الحرة المطلقة ، والحق ، والحياة الأخلاقية، ولو أخذنا على سبيل المثال حرية الصحافة فهل هي قول ما يجب على المرء أن يكتبه أي ما تقرره الإرادة العامة المتجسدة في الحكومة ، أو هي قول وكتابة ما نشاء حين نقصد بالحرية فعل ما يحلو لنا ؛ بالنسبة لكانط كل شيء في الطبيعة يعمل وفق القوانين ، والكائن العقلاني هو وحده من يتصرف وفقا لفكرة القانون ، ولكن من خلال إرادة ، وعقل الفرد وفق ما يمليه الضمير أما هيجل ؛ فإن الفعل الحر لا يكون إلا بما يتفق مع العقل الكلي المتجسد في الدولة.
-
قراءة أخرى لهيجل
وفقًا لـ سقراط في الجمهورية إذا لم يكن هناك تضارب في المصالح بين الطبقات فلن تكون هناك حاجة للحكومة لهذا قال أرسطو إن السياسة موجودة ليس من أجل غريزة البقاء لكن من أجل العمل النبيل الذي يعني عند هيجل الحرية التي يمكن للدولة فقط أن تضمنها.
وقد هاجم هيجل فكرتين الأولى: أن الدولة نشأت مع العقد الاجتماعي عندما يتعهد الأفراد بالولاء له طواعية لأن الدول لم تنشأ بموافقة الأفراد ؛ مثله مثل كارل شميث القائل بأن ( الأفراد صنعوا الدولة لمرة واحدة وأصبحت آلة تتحرك بمفردها دون الرجوع لأحد ويتم دمج المجتمع داخلها ) ويقول : ( الفردانية لا يمكنها أبدًا أن تنتج نظرية إيجابية حول الدولة / الحكومة / السياسة) ؛فهو كهيجل يرى أن الفرد غير مهيأ لرسم سياسة البلاد. ([13])
ومما يلاحظ في فلسفة هيجل أن قضية التحرر والخلاص اليسوعية كامنة في أعماقها حيث يتحرر الفرد تحررًا كاملًا في الدولة ويتخلى عن أغراضه الخاصة، وكل هذه معاني دينية استجلبها عند وضعه لفلسفته السياسية حسب منظوره الخاص.
ومع ذلك فهو عندما يسلب الأفراد أي حق عقلاني كلي ويجعلهم كأدوات لتحقيق غاية كبرى قاصرًا هذا العقل على الدولة فقط ؛ فهو أيضا يسلب المجتمعات البدائية – التي انعدمت فيها الحرية والمساواة – اسمَ الدولة ويجعلها شيئا خاصا بالعصور الحديثة ؛ لأنه من العبث أن نعتقد بأن البشر كانوا أحرارًا فيما يسمى “بحالة الطبيعة” التي يسود فيها منطق القوة وهذه النظرة الدونية للمجتمعات والثقافات الأخرى التي هي مجتمعات غير عاقلة عنده فالأفارقة على سبيل المثال غير قادرين على التفكير العقلاني لأن إفريقيا أرض متوحشة لم تصبح الروح فيها واعية بذاتها وربما أخذ هيغل معلوماته هذه من المبشرين المسيحيين الذين اعتقدوا أن الأفارقة ليسوا بشرًا لأنهم لم يسمعوا بالمسيح مطلقًا ؛ وهنا لا بد أن نعترف أن معرفة هيجل بالعالم الخارجي كانت محدودة للغاية ، وأن أي مجتمع لا يمكن أن يكوِّن حياةً دون معرفة ما هو صواب ، أو خطأ ، أو من غير نظام المكافأة، أو العقاب وربما تشارلز تايلور وهو من الهيجليين الجدد كانَ هيجليا أكثر من هيجل نفسه عندما قال نحن مدينون باحترام متساوٍ لجميع الثقافات ؛ ربما تلك المؤسسات في تلك المجتمعات غير المتحضرة بسيطة جدا ، وغير معقدة ، أو ساذجة ؛ لكنها مؤسسات موجودة فعلا ولذلك يمكن لنا أن نقول إن هيجل لم يوف بشروطه النظرية هنا. ([14])
ومع أن الحرية في تلك المجتمعات كانت معدومة حسب رأيه إلا أن الأبطال فيها وحدهم كانوا أحرارًا وأن وجودهم اقتصر على تلك العصور في ظل غياب الحضارة ، أما داخل الدولة الآن فلم يعد لهم مكان ، وأما فكرة “حق الأبطال” ؛ فيقررها هيجل تماما عندما يرى الذين أسسوا الدول أنهم كانوا أفرادًا عظماء فريدين بتجسيدهم لحظة خاصة بهم ، وقيامهم بإنتاج فكرة مطلقة كونية حتى أصبحوا “أدوات روح جوهرية” يتمتعون بمميزات لا يتمتع بها غيرهم كحقهم في استخدام العنف المبرر لحد القتل : مثل الإسكندر الأكبر ، وقيصر ، ونابليون الذي عده المظهر الأخير لسلسلة طويلة من الأبطال الذين بشروا بعصور جديدة من الحياة ، وهذا الاختيار الذي وقع عليهم هو من قبل روح ( عقل) التاريخ للانتقال لمرحلة أخرى أكثر حداثة وتطورًا ، ومن ثم فهم لا يخضعون للمعايير الأخلاقية السائدة ؛ لأنهم يؤدون الأهداف التي خلقوا من أجلها قبل زوالهم وهو دليل كافٍ عند هيجل على رسالتهم الإلهية. ([15])
ويعرّف هيجل الدولة على أنها “مسيرة الله في العالم ، وكأنها ضرب من القدر غير المفهوم ؛ فالدولة ليست مرحلة عابرة يتم تجاوزها في عملية التطور البشري ؛ بل هي الهدف النهائي وعند هيجل أن المسيحية تركز بشكل كبير على مملكة الله التي ليست من هذا العالم ؛ فالفلسفة هي استكشاف العقلاني ؛ ولذلك فهي تعنى بفهم الحاضر والفعلي ، وليس إقامة ما هو آتٍ والمفترض وجوده ، الله وحده يعرف أين ، أو بالأحرى الفلسفة تركز على ما هو موجود ولذلك أثر عنه كل ما هو واقعي حقيقي وكل ما هو حقيقي واقعي ، وغير ذلك فلسفة فارغة وطوباوية مغرقة.
وعليه ؛ فإن ما هو عقلاني ينبغي أن يكون جيدًا، وما هو جيد يجب أن يكون عقلانيًا ، وأي نظام خارج عن هذا مثل النظام الإنجليزي لا يمكن تسميته دولة لاعتماده على الطبقة البرجوازية كأجلى صورة للأنانية الفردانية التي أصبحت أكثر ثراءً وثراءً بينما سقطت الدولة أكثر فأكثر في الديون وانتهى بها المطاف إلى تسول تلك الطبقة ، ورهن قراراتها في يدها .
ويظل نظام (مثل بروسيا) قائما على العقلانية سواء بوعي أو بغير وعي ، وجيدًا في نظره مع أنه يدعو إلى التغيير والإصلاح فهو القائل مع الوعود البروسية بالإصلاحات الدستورية ( عشت معظم حياتي في تعب دائم ما بين الأمل والخوف أملت بزوال هذه المخاوف ، وقد جاء هذا اليوم في ظل الحكم العادل المستنير ) ([16]) مع أن ماركس في كتاباته المبكرة سلط نقده على كتاب هيجل فلسفة الحق وبالذات مسألة الحكم البروسية ومثالية هيجل عندما عدها تجسدًّا لله بذاته في العالم.
فهيجل لم يكن ميتافيزيقيا حرفيا ، وإنما نسخة محدثة منه لا يرى الإصلاح القسري من الخارج ؛ فهو لا يدعو إلى الثورة بل إلى التنمية والتطوير مؤكدًا على أن التغيير الحقيقي أو التقدم يجب أن يكون تلقائيًا بناءً على غريزة تعمل في الخفاء ( اليد الخفية) – مع أنه يناقض آدم سميث ويرى ( اليد الجلية) للدولة في السوق .
ويركز هيجل على النشاط الترابطي المحدد بالسببية متجاوزًا للفهم التأملي لإظهار الهويات الكامنة تحته ؛ فعند هيجل أن كثيرًا من الفلاسفة السياسيين ركزوا على الفهم كمنطلق موضوعي مع أن السبب الإبداعي الذي هو العقل اللاوعي غير المدرك لذاته هو المرتكز في كل حركة تطورية ؛ فالفن والدين والأسرة والمجتمع والدولة بُنيت جميعها بعقل إبداعي وتطوري أما العقل التأملي فهو عقل تحليلي وهو ما نسميه بالفلسفة وهي تظهر عندما يكمل العقل الإبداعي عمله التكويني في الواقع ؛ لذلك لا يمكن للفلسفة أن تحدد ما يجب أن يكون عليه العالم ؛ لأنها تأتي دائمًا متأخرة مثل فكرة العالم ومنشأه أتت بعد تكونه .
لكن مع كون هيجل يصر على العقل اللاوعي ؛ فلا يعني هذا أننا نقول أنَّ كل شيء حدث عرضيّا بل هناك شيء من القواعد العقلانية التي تحكم المسار التدرجي؛ فإذا كان عند داروين ما يسمى بالصدفة التي تحكم عملية التطور ؛ فمثلا لو كانت طيور معينة ذات ألوان داكنة ضمن ظرف معين يفضل بقاءها فستكون أكثر من الطيور ذات الألوان الزاهية التي يسارع لها الموت وهو بقاء لا يعتمد على الأفضل ؛ بل عن طريق الصدفة ؛ ففي إنجلترا عندما كانت المصانع تنفث دخانها واسودت الأشجار من جراء ذلك فقد تغيرت ألوان الفراشات إلى الألوان الداكنة واختفت الفرشات ذات الأولان الملونة وعندما فرضت قوانين حماية البيئة فيما بعد وقلت الأدخنة المتصاعدة عادت الفراشات الملونة مرة أخرى إلى الظهور ، وكل هذا كان عرضيا عن طريق الصدفة فالأكثر ملاءمة كان محظوظًا بالبقاء على قيد الحياة ؛ لكن بالنسبة لهيجل ، التطور ليس مجرد صدف عارضة بل يتبع قانونًا روحيًا ؛ ولكنه غير واعٍ بما يشبه الدوامة الديالكتيكية التي يدور في داخلها كل شيء.
الهوامش (هيجل والدولة):
([1]) (Bertrand Russel, A History of Western Philosophy) برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ج3، ص304
([2]) مجدي عز الدين حسن مآلات فلسفة لروح عند هيجل ” الاستغراب ” ، العدد 14 السنة الرابعة شتاء 2019/1440
([3]) ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 1984، ص 64
([4]) مدخل فلسفة القانون ( رسوكو باوند) ص 165 ، وانظر التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده الجزء الثالث ص 271 وما قبلها.
([5]) right, Morality, Ethical Life Studies in Hegel’s Philosophy of Right Studies by Jussi Kotkavirta ،p37 and THE HEGELIAN STATE AND THE RISE OF THE TYRANNY OF THE MINORITY: THE AFRICANPOLITICAL EXPERIMENT by Godwyns Ade’ AGBUDE، p118.
وأيضًا يراجع أيضا أصول فلسفة الحق لـ إمام عبد الفتاح إمام الطبعة الثالثة 2007 الناشر دار التنوير بيروت وبالتحديد ص 52 وما بعدها.
([6]) مرأى وشرفة: دراسات في النقد الروائي ، نادية هناوي، دار غيداء للنشر والتوزيع ، ص 58. وأصل النقل في المعرفة والسلطة لميشيل فوكو.
([7]) LECTURES ON HEGEL’S POLITICAL PHILOSOPHY by LEO STRAUSS p 238 and Hegel, Philosophy of History, 451-52.
([8]) Hegel’s Conception of God by J. A. Leighton Source Published by: Duke University Press on behalf of Philosophical Review Stable p 601.
([9]) THE INDIVIDUAL, THE STATE, AND POLITICAL FREEDOM IN HEGEL BY Uchenna Osigwe ، p1.
([10]) هيجل : مقدمة قصيرة جدًا ، بيتر سينجر ، ترجمة : محمد إبراهيم السيد ، الناشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، ص 41.
([11]) صالح السنوسي، إشكالية المجتمع المدني العربي، العصبية والسلطة والغرب، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2011 ص 26 27.
([12]) THE INDIVIDUAL, THE STATE, AND POLITICAL FREEDOM IN HEGEL BY Uchenna Osigwe ، p9-12 .
([13]) العدو في المرآة كارل شميث مسائلا الحداثة ، عبدالرحمن عادل ، منشورات مركز نماء للبحوث والدراسات ص7-10.
([14])THE INDIVIDUAL, THE STATE, AND POLITICAL FREEDOM IN HEGEL BY Uchenna Osigwe p 5.
([15]) Following Hegel’s Sovereign Beast: An Excursus on the Right of Heroes by Joshua Ben David Nichols p1-19
([16]) تحولاتت الهيجلية في ألمانيا 1831-1848 أمجد أحمد الزعبي مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية المجلد 46 العدد 3 ص 282.