مجلة حكمة
كيف نقرأ الفلسفة

كيف نقرأ الفلسفة؟

الكاتبتشارلي هوينيمان
ترجمة رُبى الخليل
تحريرعبد المنعم أديب

أساسيات وجب معرفتها

عندما نهمّ بالتبحر في عالم الفلسفة قد يطغى علينا شعور بالرهبة وإحساس بنظرات عمالقة الفكر المتعجرفة -كأمثال هيغل وأفلاطون وماركس ونيتشه وكيركغارد– تحوم حولنا لاستشراف مدى أهليتنا في الولوج داخل هذا العالم. قد يعترينا شعور بالقلق حيال العجز عن استيعاب فحوى كلامهم، حتى إنْ أدركناه يبقى هاجس سوء تقديرنا لما نقرأ مُتَّقدًا في الذهن.

تتجلى هنا أحد أسس الشروع بـ قراءة الفلسفة؛ والمتمثل بتقويض حجم هؤلاء العمالقة ليحاكي حجم الإنسان الطبيعي، ففي نهاية المطاف جميعهم كانوا عرضة لارتكاب العثرات والخربشة على الأوراق؛ ألا يتجشأ جميعهم بعد الطعام، ويظهر الحمق في سلوك بعضهم!

ألم ينعت الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور مواطنه الفيلسوف جورج فيلهلم فريدريش هيغل بالقول: “هو شخص أخرق وتافه ومقزز؛ فضلًا عن كونه دجَّالًا وأميًّا بلغ ذروة جسارته في الخربشة على الورق ليتمخض عنها هراءٌ مبهمٌ لا يضاهيه في جنونه شيء آخر”. في الحقيقة لست على يقين إن كان هذا الوصف يعلي درجة شوبنهاور أم هيغل في الحماقة!

النقطة التي نسعى لإضاءتها تتجلى في أن كل عملاق من هؤلاء العمالقة هو بالنهاية إنسان يسعى للولوج في غياهب الحياة من خلال القراءة والتفكير والمراقبة والكتابة، على غرار ما تفعله أنت. فلا تدَعْ كلماتهم المعقدة تبثُّ في نفسك الرهبة؛ فإما أن تبدو منطقية لنا -على الأقل تثري أفكارنا- أو ينتهي بها الحال في صناديق حفظ الكتب. على ذلك الأحرى بهم أن يثبتوا لنا قيمة نتاجهم.

إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا يتمحور حول ماهية تلك القيمة، وما الحاجة إلى قراءة الفلسفة في الأساس؟ الغاية الأسمى تتبلور في سُمُوِّ الرُّوح والنأي بالنفس عن التبحر في هذه المعرفة لأجل التباهي بالذكاء أو ترهيب الآخرين أو اقتناء الكتب على الرفّ. الأحرى بالمرء أن تكون رغبته نابعة من إثراء العقل والارتقاء بالروح والحياة أو على الأقل لأجل فهم أعمق تجاه العجز عن تحقيق أيّ من السابق أو حتى إدراك مدى هشاشتها. فالفلسفة قد طرقت أبواب كافة الاحتمالات. وجلّ ما نأمله أن يضيء هؤلاء العمالقة درب إبحارنا هذا سواء ببعض الإرشادات أو من خلال رفقتهم لنا خلال سير الرحلة.

طرح بيرتراند راسل في نهاية كتابه “مُعضلات الفلسفة”[1] (1912) أكثر الأسباب جدلية، حين قال: “التبحُّر في الفلسفة لا يرمي إلى بلورة إجابات نهائية عما في جعبتها من أسئلة، فالقاعدة العامة تشير إلى عدم إمكانية استقصاء صحة الإجابات النهائية؛ بل الغاية تكمن في الأسئلة نفسها التي من شأنها أن توسّع آفاقنا حيال الممكن، وتثري خيالنا العقلي، وتقوّض الجمود الدوغمائي الكفيل بإغلاق أبواب العقل بوجه التكنهات. والأهمُّ قدرةُ الأسئلة على الارتقاء بعظمة العقل المستمدة من عظمة الكون الذي هو محور التأملات الفلسفية، وصولًا إلى القدرة على الاتحاد معه وبلوغ الخير الأسمى.

إن قراءة الفلسفة ترقى بآرائنا وتلج بنا إلى أغوار العجائب، وتكون لنا عونًا في مقارعة أعظم الأسئلة التي قد تجول في ذهن الإنسان. إنها دعوة مُلحَّة للعمل لا تُلبى إلا بالغوص في ثنايا الأعمال الفلسفية نفسها. على ذلك يبقى السؤال: كيف تُقرأ الفلسفة؟

التأمل في أغوار الفلسفة

إعادة النظر بتوقعاتك عن الفلسفة

لا تزال متاجر بيع الكتب تواظب على تخصيص أقسام عُرفت بأقسام “الفلسفة”، تضم كتبًا مثل “الأسرار السبعة لحياة أكثر سعادة”، أو “استجمع قواك”، أو “الحياة بقلب أرحب” التي تساعد جميعها على تطوير الذات[2]، وبعضها في الحقيقة ثبتت فاعليته في رفدك بمنظور أفضل للتغلب على المصاعب التي تعترض مسارك، أو حتى كيفية التعايش معها؛ ربما في خطوات ترتبط بترتيب سريرك كل صباح، أو ارتياد دروس في الطبخ أو النظر إلى إنسان بوصفه ذاتًا حقيقية أخرى. إنها كتب رائعة، فالجميع بحاجة إلى دفعة للأمام من وقت لآخر، وعلى الأرجح كانت عونًا لشخص ما في مكان ما.

بمعزل عن فائدة هذه الكتب في إطار التطوير الذاتي، بيد أنها لا تندرج في عالم الفلسفة التي تنأى عادة على مقاربة المشكلات الذاتية؛ سواء تلك التي تناقش حقيقة الزمن أم تلك المتعلقة بقدرة الإنسان على النأي عن قوانين الطبيعة أم تلك المتمحورة حول ما إذا كان الإنسان صنيعة عقله فقط أم أسئلة تحوم حول مدى ارتباطنا بالتزامات أخلاقية تجاه الآخرين. فالفلسفة في حدها لا تنحصر في السعي لإيجاد الإجابات، بقدر وُلُوجها في سبر الأسباب الكامنة وراء أفضلية بعض الإجابات والتعمق في غياهب الإجابات الخاطئة.

نعم، الإجابات الخاطئة! فالفلسفة تملك الجسارة للإفصاح عنها.

تتطرق كتب التطوير الذاتي بالعموم إلى مساعدتك في مواجهة المشكلات التي ينبغي ألا تقع بها، بينما تعينك الفلسفة في مُقارعة المشكلات التي عليك مجابهتُها. (من دون شك ثَمَّةَ بعض التداخل؛ حيث تعينك بعض الكتب الفلسفية في الواقع على مجابهة مشكلاتٍ ما كان عليك اعتبارها كذلك، في الوقت الذي تلفت بعض كتب التطوير الذاتي انتباهك إلى أمور في الحياة ينبغي أن تراها على أنها مشكلات). في الإطار العام لا بد أن تترافق المعضلات الفلسفية مع الوعي والقدرة على التفكير؛ ومن هنا يتجلى سبب وجود الفلسفة.

في قراءة هيدغر لأرسطو ألمح إلى أن جلَّ ما يبغاه من وقائع السردية الذاتية يكمن في أنه إنسان وُلد وعمل ومن ثم فارق الحياة، أما بقية الأحداث فهي عرضية. على المرء ألا يترقب من الكتاب الفلسفي بلورة مشورة أو نصيحة لا تسري على قدر من الجودة على كل من عاش على هذه الأرض.

لكن كيف تكون البداية؟ وما هي الكتب التي يجب أن ترافق بداية مشوارنا؟ الفلسفة تختلف عن علم الرياضيات؛ حيث يجمع الناس فيه على نقطة البداية والخطوات المتتالية بحيث ترتكز الواحدة على الأخرى باطراد. الأمر أشبه برواق يستضيف محادثات عدة، قد يستفيد المبتدئ عند الخوض فيه من مقدمة عامة ليستشرف بعدها خريطة الرواق، إن جاز التعبير.

تعرض الروابط وقسم الكتب أدناه بعض التوصيات للاستفادة منها في هذا المضمار بَيْدَ أن النقطة الأهم تتجلى في عدم وجود طريقة مثلى أو طريقة بعينها للانطلاق. ابدأ حيثما شئت وليكن اهتمامك أينما كان دليلك.

الفلسفة تتطلب قراءة نشطة وصدامية

ينبغي لمن يراقبك خلال قراءة الكتب -ككلابك مثلًا- أن يعتقد أنك دخلت في حالة غيبوبة تامة، تلازمك حالة من الجمود، باستثناء حركة العيون التي تتجول بين الكلمات يمنةً ويسرةً، وتقليب الصفحات بالأصابع، وانسياب الكلمات إلى دماغك، وتحولها إلى أفكار. في الواقع، يُعزى ذلك إلى مقاربةٍ ما، بين جودة الكتابة وقدرتها على ثبات حركتنا إلى أقصى حد؛ بالمقابل إن تجهمت خلال القراءة أو عدت أدراجك لصفحة ما أو رفعت حاجبيك أو حدقت في السقف مُشتَّتَ الذهن؛ فهي أعراض تعكس مدى رداءة الكتابة.

بالاستناد إلى هذا المقياس، غالبًا ما تُوصَم الفلسفة بالكتابة بالغة الرداءة؛ حيث ترافقها الأنشطة نفسها، ناهيك عن صعوبة تحويل الكلمات المسطرة في أي كتاب فلسفي إلى أفكار؛ وأنت عاكف على تتبع الاصطلاحات غير التقليدية والفوارق الدقيقة والأمثلة المحورية والمبادئ العامة. بل عليك التقاط قلم إذا كنت بالفعل على الدرب الصحيح لتحديد المقاطع الهامة أو المُبهَمة أو العبارات الهامة، أو وضع علامات الاستفهام بجانب عبارات غامضة لا يمكن أن تصدر عن الفلاسفة. (وهنا لن يساور كلبك عند مراقبته لك أيّ شك أنك تخوض عراكًا بعيدًا كل البعد عن أعراض الغيبوبة). 

ينبغي معاودة قراءة الكتب الفلسفية مرات عديدة. يمكن أن تبدأ بقراءة سريعة للكتاب؛ حيث تلتقط فكرته الضبابية. وتعاود قراءته مجددًا، مع إيلاء عناية بالتفاصيل وفي هذه المرحلة عليك التقاط قلم وترك علامة عند الأجزاء العصية على الفهم، أو تدوين ملاحظات ليتسنَّى لك استشراف ما يُقال وسبر أغواره. مع العلم أنه في هذه المرحلة من سير قراءة بعض الكتب قد تستشعر الاستسلام في هضم الأفكار أو فقدان للاهتمام بها. وهناك كتب أخرى تستلزم تكرار القراءة السريعة، ومن ثَمَّ معاودة القراءة على قدر من التأني، وهكذا دواليك.

يُشاع أنَّ لكل حجة فلسفية استجابتين اثنتين: استجابة استعراض وتصوُّر للكلام، واستجابة فحص وتدقيق واستقصاء. هذا كلام صحيح إذ ينبغي أن ترافق هاتانِ الاستجابتانِ قراءتَك لأيّ نص فلسفي؛ بحيث يُقدح ذهنك بأمثلة مضادة للحجج العامة أو استشرافِ تفسيرات محتملة أخرى، أو حتى التساؤل ما اذا كان الفيلسوف يواظب على طرح حجج مشابهة. كما من الضروري أن تتساءل عن احتمال أن تتمخض عن هذه الحجج عواقب مهمة، ومدى تأثيرها على تغيير حياتك في حال اتفاقك معها، بل ينبغي التشديد على تقديم الفيلسوف حجة دامغة تشدّ اهتمامك.

هذا يستدعي تبني موقف الخصم لدى قراءة النصوص الفلسفية، ولعب دور قاضٍ متشدد ينظر إلى المحامي أمامه -أثناء عرض قضية جدلية- بعين الريبة. لكن لا ننسى أنه من الضروري أن يشوب الموقف المتشدد القدرة على التعاطي مع تفسيرات متنوعة؛ فالفيلسوف الذي تقرأ له ليس غبيًّا. ففي حال قراءتك لنص يطرح من خلاله الفيلسوف حججًا سخيفة؛ فالمشكلة هنا قد تتعلق بقراءتك أنت. لهذا فلتعمد إلى تفسير الحجج والسجالات على قدر من الجودة، وإن استمرت الإشكاليات فلتشرع في نقدها.

وهنا يتجلى بوضوح اختلاف هذه الطريقة في القراءة عن غيرها؛ حيث من غير المعقول اتباع هذه الطريقة خلال قراءة رواية، كذا عديد الكتب غير الخياليَّة لا تسعى إلى إقناعك بأمر ما بقدر ما تمدك بالفكرة الرئيسة عن الحقيقة أثناء إضاءة التاريخ أو العلوم أو السياسة وغيرها. من دون شك تطفو بعض الرغبات في بعض الأحيان بتبني إحدى الاستجابتين في الريبة تجاه حجج مشكوك بأمرها مدرجة في تلك الكتب.

لكن من الضروري أن تقترن قراءة الكتب الفلسفية بهاتين الاستجابتين والتسلح بموقف نشط وصدامي حتى يتسنى لك هضم أفكارها. فلن يقوى عُودُك بمجرد مراقبة تدريبات الآخرين في الصالة الرياضية دون أن تبادر إلى رفع بعض الأثقال؛ على غرار قراءة الكتب النشطة التي تمدك بمخزون ما قرأت، بينما تغرق الكتب التي لم تحظَ بهذا الجهد في غياهب النسيان.

الفلسفة بوصفها حوارًا

بعض الكتب الفلسفية هي بالفعل حوارات بين شخصياتها؛ حيث تُقرأ بوصفها مسرحية، بَيْدَ أني أوصيكم بالانكفاء في منازلكم في حال أقدمت مدرستكم الثانوية على إنتاج مُحاورة “ثياتيوس” لأفلاطون[3] المبنية على حوار مطول عن طبيعة المعرفة والحكم.

أما الكتب الأخرى نُظمت بوصفها أطروحات مباشرة، حول عناوين بشكل حديث منفرد (مونولوج) مستفيض؛ إنما تزخر بالجدلية أسوة بكل المونولوجات الفلسفية ما بين شخص يطرح حجة وآخر يعترض عليها أو يُمطرها بأسئلة ملحة فائقة العمق.

في الواقع، قد تضم بعض الكتب الفلسفية سجالات بالغة التعقيد لتعدد أصحاب الآراء الحاضرة في نص المؤلف، وزادها تعقيدًا انضمامُك بالقراءة للحدث الجدلي والسجال مع الآراء الأخرى، إضافةً لآرائك الخاصة.

وثَمَّةَ كتب فلسفية أخرى ضمت خلاصة سجالات الفلاسفة مع ذواتهم. على سبيل المثال، كان الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في كتابه “التأملات”[4] (1641) يجادل نفسه في كل فقرة من كتابه: “سأحاول استشراف ذاتي بشكل وثيق ومتأنٍ لأتساءل: ألست جاهلًا بما يستلزم بلوغي مرحلة اليقين تجاه كل شيء؟ علمًا أنه سبق أن اعتقدت عديد الأمور بيقينٍ ووضوحٍ تام لأجد لاحقًا بذور الشك فيها. لكن ماذا عن تقديري لأمر ما بكونه بسيطًا للغاية؟

ديكارت هنا يتبنى استجابة الشك والريبة. رغم أن ما يسعى إليه يبدو بطريقة ما حيلة بلاغية في استدراج حتمي للإنسان ذي العقل الراجح الصادق مع نفسه إلى الدائرة الآسرة للتأملات الميتافيزيقية الديكارتية؛ التي لا تخلو من تأملات جدلية غاية في الجودة، تُحيله مستسلمًا لهذا الانجراف والخوض في الاعتراضات التي يفصح عنها ديكارت وسعيه للرد عليها.

لكن قد تعتري القارئ الذكي، مثلك أنت، بعضُ الأسئلة التي لم يتطرق إليها ديكارت أو قد تستنبط إجاباتٍ بديلة تاهت عن ذهنه، عندها تخلق لك دورًا في الحوار نفسه. باشر بتدوين الملحوظات لتتبَّع الحوارَ كاملًا.

ومن هنا تتبلور أهمية هذا الحوار في الفلسفة -وربما في كافة سُبُل التفكير-؛ من خلال طرح الأفكار والأسئلة، وتفنيد المشكلات، وتعديل تلك الأفكار أو التوسع فيها ومُقارعة تحديات جديدة، واقتراح أفكار جديدة، ومواظبة لعبة تراشق الأسئلة والأجوبة في ملعب الذهن حتى ينفد من كل جديد.

والفلسفة تحيا على هذا الرد والصد المُتبادَل النشط، واستنباط الاحتمالات الغائبة، وطرح أسئلة جديدة، أو العودة لإقحام بعض الفوارق قبيل التوصل إلى نتائج كارثية. ذلك هو الأسلوب الفلسفي المتمثل بالمحافظة على إطالة عمر المحادثة وتغيير مسارها والارتقاء بها.

من منظوري الخاص، الفلسفة تعني التنازع في مُعتَرَك الأفكار على مشارف الوضوح. وغداة استيضاح الأسئلة وسهولة اقتفاء خطاها؛ تنبثق علوم جديدة مثل الفيزياء أو الأحياء أو النفس. لكن الفلسفة تعني مواصلة الصراعات والصد والرد حيال ما يبدو حقيقيًّا وما يبدو مستحيلًا في أمور لا يمكننا رؤيتها بدقة متناهية. ولا سبيل في المضي فيها إلا باتباع منهج جدلي دائم الحركة للأمام تارة وتارة للخلف. 

عند قراءة الفلسفة ينبغي الحرص على هضم الحوار. ولأجل ذلك التقطْ قلمًا وورقة لتسطر عليها أفكار الكتاب بمنظورك، ورأيك فيها، وما تود طرحه من أسئلة على المؤلف، وما تود إخباره به -وإن كان جارحًا-. في هذه اللحظة تستشرف ما في ذهنك من أفكار نكون غافلين عنها حتى تتضح معالمُها على الورق لدى قراءتنا لها. وهنا تتضح أهمية تدوين الملحوظات لدى قراءة الحوار الفلسفي كأداة لاستخراج ما يسري في ذهنك واكتشاف تجربتك الخاصة. وتكون بذلك القراءة الثالثة والرابعة للحوار قراءة جديدة زاخرة بأسئلة وآفاق جديدة.

وثَمَّةَ قول شائع: إنه لا يمكن الانتهاء من قراءة كتاب عظيم؛ لأنك تؤول شخصًا مختلفًا مع كل قراءة له. قد يكون هذا ضربًا من المبالغة، لكنه لا يخلو من الحقيقة. وهناك قول آخر: أنت تقرأ الكتاب والكتاب يقرؤك، ومدى مساهمة أفكار الكتاب في تجديد فهمك لحياتك وذاتك. وبهذه النتيجة الحتمية لأي حوار تبلغ الفلسفة ذروتها.

الفلسفة تتمحور حولك

لا تتطرق الفلسفة بوجه خاص للخوض في مشاكلك في العمل، أو تقويم قائمة التواصل على هاتفك، والنأي عن وسائط التواصل الاجتماعي؛ بل تخوض في حياتك كإنسان علمًا أنها قد تتطرق لهذه الأمور في سياقها.

تخيل أنك وقعت في دوامة زمنية، ألقت بك عند أشخاص من عصور غابرة. وكنت قادرًا على إيجاد لغة مشتركة معهم؛ هل ثمَّةَ احتمال بأن تتحولوا إلى أصدقاء تشاركهم شواغلك وآمالك وأفكارك ومعتقداتك؟ يمكنك ذلك قطعًا شريطة أن يكون الحوار بين إنسان لآخر، مع النأي تمامًا عن كونه بين تكنوقراطيّ متعلم ينحدر من عالم ما بعد الصناعة ورجل كهف. صداقتكما ترتكز حصرًا على إنسانيتك المتبادلة. وقد تتنامى أواصرها للحد الأمثل عند التخلي عن تلك التوافه التي تعرقل السير في حوار متعمق.

ركزت العديد من كتب تطوير الذات على أهمية البحث عن الذات خلافًا للذات التي تصورها الآخرون. يمكن تحقيق ذلك عبر التغلغل في أعماق النفس أو تبني أسلوب حياة جديد. لكن الفلسفة تحثك على ولوج طريق مغاير يرتكز على معرفة الذات من خلال الآخرين. ولفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وچيترود إليزابيث مارچريت أنسكوم وكارل ماركس وفريدريك نيتشه وناجارجونا ولاو تسي و كواسي ويردو تأملات في هذا السياق.

إن طرق تشكيل الذات يستدعي بعض التعريفات المستمدة من مكان ما. والفلسفة هنا تفيض بفرصة استكشاف تعريفات متنوعة، ومساعدتك على العثور على ذاتك داخلها؛ ومن هنا يتبلور النشاط المتبادل لجميع القراءات الفلسفية.

الاستفادة من مصادر ثانوية

إننا نعيش حقيقة في الزمن الأمثل لمعرفة الفلسفة؛ فمواقع اليوتيوب تزخر بمقاطع مصورة عن فلاسفة وشرح لأفكارهم. رغم الشكوك التي تكتنف بعضها؛ إلا أنها تعمل كمنصة، يمكننا من خلالها الولوج إلى عوالمهم. ومنصة Philosophy Tube -على سبيل المثال- تقدم شروحات تحفيزية للأسئلة الفلسفية، إلى جانب العديد من البُثوث الصوتية ذات التوجهات الناجعة التي تسهم في تقديم مداخل إلى عالم الفلسفة. مثل: ” The Partially Examined Life, Very Bad Wizards, Philosophy Bites إلى جانب موقع بيتر آدامسون الجريء والمذهل “تاريخ الفلسفة دون ثغرات” (History of Philosophy Without Any Gaps ).

لننأَ بأنفسنا عن الاكتفاء بالكتب؛ فالفلسفة الحقيقية بمنظور أفلاطون تتجسد في المحاورات. والنص المكتوب ما هو إلا أفضل وسائل التقليد للأصل، وقد خطّ هذا الرأي في إحدى نصوصه.

يتوفر عالم رحب من المصادر الرديفة المُساعدة على هضم عَظَمَة النصوص الفلسفية المعقدة: لا تتردد بالاستعانة بها. فالجميل في عُرف الفلسفة أن الكتب التعليمية لا تتقادم بفعل الزمن؛ على العكس في غالب الأحيان قد يفيض كتاب تمهيدي قديم من عام 1970 بمراجعة عامة على قدر من الجودة لمجموعة من الأسئلة المتشابكة. على ذلك فالقراءة المتواترة تنير الطريق أمامك صوب استشراف قصور في مواد ثانوية أقدم. وهو ما يتوجب عليك النظر إليه بوصفه انتصارًا؛ لأنه ساهم في ارتقاء منظورك الفلسفي.

في النهاية، لا تبخس قطُّ قيمة الأصدقاء في هذا المسار؛ بوصفهم مصادر رديفة، بل ربما أساسية. نظِّم مجموعات قراءة بحيث يتمُّ سبر أغوار كتب عظيمة قرأتموها. هذا الأسلوب كفيل بتعليمك كيفية تفسير فحواها والاعتراض ومناقشة أفكارها وتغيير عقليتك. وهي بمجملها أدوات جوهرية لأي فيلسوف، ولأي إنسان أيضًا.

أسباب أهميتها

من دواعي أسفي أن أخبرك أنك إنسان فانٍ. حقيقةٌ وجب أن تحفزك على الأكل الصحي والتمارين الرياضية المنتظمة وتكوين أصدقاء وتقديم العون للغرباء قبل أن تحين ساعتك؛ وأن تنكبّ على التأمل بأسئلة تتمحور حول معنى الوجود، وماهية الحقيقة ووجود الله، والهدف من حياة البشرية. الأجوبة عن هذه الأسئلة غير مضمونة، لكن خوض غمار المحاولة لاستشرافها قد يدفعك للشعور بأنك لم تغفل عن فرصة فهم طبيعة الأمور.

وقراءة الفلسفة هي السبيل الأنجع لسبر أغوار هذه الأسئلة الكبرى، ولو أنه من غير المؤكد أن تشرق عليك شمس الجواب، وربما تعصف بك أجوبة كثيرة. لكن المؤكد أن محاورة فلاسفة عظماء من شأنه أن ينير لك طبيعة ما يربطك بهذه الأسئلة الكبرى. جلّ ما تحتاجه هو الوقت، وبعض الفضول، وبطاقة ارتياد المكتبة.   

يقول أفلاطون: الدهشة أصل الفلسفة. لكن الدهشة تجاه ماذا؟ ربما تكون الدهشة تتعلق بوعيك الذاتي أو ما إذا كان ستُكتب النجاة لأي جزء منك بعد موت جسدك، وحيال طبيعة الحب والجمال، وما إذا كانت عادة البشر إساءة معاملة بعضهم البعض، وإزاء المعرفة العلمية، وإمكانية فهم كل شيء. التجربة الإنسانية زاخرة بكمّ من الأحداث التي تدعو للدهشة.

في غالب الأحيان تُكبل الحياة اليومية الدهشة بشُبهةِ بُعدِها عن العملية؛ فيُحكم عليها بالكبت. قد يراودنا خاطر بانعدام الأجوبة لهذه الأسئلة أو أنَّ كلًا منها مجرد تكهنات جوفاء. فهل لنا بعد هذا أن نندهش؟ أم نكتفي بالادعاء بخلوّ هذه الأسئلة من الأهمية لا لشيء إلا لفرادة قيمتها؟ أم نقنص الفرصة في لحظة من لحظات السير في درب  المهد حتى اللحد لنندهش حيال أعمق الأسئلة التي تجول في ذهننا؟

الروابط والكتب

– تتنوع الدوافع لقراءة الفلسفة، مَن يفضل الألغاز السريعة والمثيرة مثل معضلة العربة الشهيرة وأسئلة حول الناقلين؛ يُمكنه قراءة كتاب ديفيد تشالمرز الأخير بعنوان ” Reality +  ” (الحقيقة بلاس) ((2022  الذي يفيض بمجموعة رائعة من الألغاز بنكهة مماثلة ويزخر بأسئلة ورؤى مثيرة حول حقيقة الواقع الافتراضي.

– مَن يتلمس الاستنارة لبعض الأفكار المبهمة يقدم كتاب ويل ديورانت “قصة الفلسفة” (The Story of Philosophy) (1926)  نظرةً شاملة لحياة وآراء أعاظم رجال الفلسفة في العالم. وأوصي بهذا الكتاب لمن شرع بقراءة الفلسفة ويبحث عن خارطة طريق.

– يقدم بريان ماغي تحديثًا لافتًا لديورانت في كتابه قصة الفلسفة: مقدمة موجزة لأعاظم المفكرين في العالم وأفكارهم (الطبعة الثانية، 2016) “The Story of Philosophy: A Concise Introduction to the World’s Greatest Thinkers and Their Ideas (2nd ed, 2016).”. يمكن التنقل اليسير من العرض الشامل الذي قدمه كل من ديورانت وماغي إلى الأعمال الكلاسيكية نفسها  مثل مختارات ستيفن إم كاهن “كلاسيكيات الفلسفة الغربية (الطبعة الثامنة ، 2011) Classics of Western Philosophy (8th ed, 2011).)

– في حال الاهتمام بما يجول به أذهان الفلاسفة المعاصرين، يمكن الاطلاع على موقع ريتشارد مارشال 3:16 الذي يطرح فيه عشرات المقابلات المباشرة.

– أما محبو القراءة الأعمّ والأشمل يمكنهم الاطلاع على دليل التعليمات الكلاسيكي للقراءة النشطة “كيف تقرأ كتابًا” (How to Read a Book ) (1940) لمورتيمر أدلر وتشارلز فان دورين. وهو يتبع للمدرسة القديمة من حيث الأسلوب والنكهة؛ إلا أن قراءة مثل هذه النصوص الواضحة والمفيدة تفيض ببهجة الحنين إلى الماضي إلى جانب قراءة كتب الفلسفة.

– يمكن الإطلاع على التوصيات بالتفصيل حول فلسفة القراءة في مدونة الطلاب – جامعة إدنبرة student blog. أما من يفضل مشاهدة مقاطع فيديو يمكن مشاهدة فيديو على اليوتيوب “كيف تقرأ الفلسفة في ستة خطوات؟”‘How to Read Philosophy in 6 Steps’ (2016)  للمخرج كريستوفر أناديل.

– أخيرًا -وليس آخرًا-، كتاب جاستن إي إتش سميث “الفيلسوف: تاريخ في ستة أنواع” ( The Philosopher: A History in Six Types ) (2016) الكتاب الكفيل بتوسيع أفق تعريفك للفلسفة والتبحر فيما يمكن أن يلقى اهتمامنا عند قراءة الفلسفة. إنه وسيلة تقويم ناجعة لكل من يواظب على السعي وراء الحكمة.


[1] تُرجم إلى العربية تحت عنوان “مُشكلات الفلسفة”، في أكثر من طبعة وترجمة.

[2] الكاتب هنا يسخر لا يُمجِّد. ويستخدم أسلوبًا عُرف في البلاغة العربية بالذمّ بما يشبه المدح. وهو يتناول ظاهرة توجد في عالمنا العربي وفي الغرب؛ وهي وضع معارف خرافية تحت تصنيف الفلسفة.

[3] صدرت بالعربية بترجمة وتقديم د/ أميرة حلمي مطر. (المُحرِّر)

[4] تُرجم إلى العربية في أكثر من طبعة تحت عناوين متفاوتة. أشهرها التأملات في الفلسفة الأُولى ترجمة د/ عثمان أمين، وتأملات ميتافيزيقيَّة في الفلسفة الأولى. (المُحرِّر)