مجلة حكمة
الفلسفة الحرب العالمية الثانية

الفلسفة فيما بعد الحرب العالمية الثانية

الكاتبفرانسوا دوس
ترجمةمحمد نجيب فرطميسي

اهتم الفلاسفة الفرنسيون، منذ 1945، بالتفكير في الانسان، انطلق البعض منهم من الضمير الإنساني وفضل آخرون البنيات ليتسنى لهم الكشف عن خبايا السلوك البشري.

كيف يمكن التفكير في الانسان بعد كل ضروب الإبادة الوحشية التي عرفتها معسكرات النازية؟ لقد أضحى من الضروري بفعل صدمة الحرب ابتكار مفاهيم جديدة. لا نملك، والحالة هذه، لا جرأة الاغريق ولا الدفاع عن تفاؤلية القرن التاسع عشر. شكل سارتر بالفعل علامة بارزة للانعتاق من قبضة النازية، كان علامة بارزة تجاوزت الى حد بعيد دائرة الفلاسفة. أنزل سارتر، بفضل الشهرة التي حظي بها، الفلسفة للشارع، والمقاهي، وملاهي الجاز الليلية، وإن كان لا يرتادها قط. اعترض في مؤلفه الضخم “الوجود والعدم”، على منهجية التحليل النفسي، واضعا بالمقابل مسألة سوء الطوية la mauvaise foi في صلب اهتمامه. أضحى مثال نادل المقهى كما رصد سارتر سلوكه مثالا مأثورا في الأدب الوجودي، “حركته حيوية وملحة مبالغ في دقتها وسرعتها، يقبل على الزبناء بخطوات حيوية جدا، ينحني بتعجل مبالغ فيه، يعبر صوتُه وعيناه عن اهتمام زائد عن اللزوم بطلب الزبون. يتساءل سارتر:” ترى في سبيل ماذا يلعب؟” إنه يلعب من أجل أن يكون نادل مقهى. ينفلت وجوده عن وضعيته، وقد دفعه هذا القصور ليتطابق مع وظيفته. سيحتل نادل المقهى بما هو صورة سوء الطوية، مركز الصدارة في فلسفة سارتر.

كانت الوجودية في زمانها، كما قالت سيمون دي بوفوار: ” موضوع الساعة”. فقد كاد أن يتسبب الإعلان، في أكتوبر 1945، عن محاضرة سارتر “الوجودية مذهب انساني” في أحداث الشغب، بحيث اعتقد سارتر، أن الأمر يتعلق بمظاهرة دعا لها الشيوعيون، المناهضون لتوجهاته الفلسفية، بدعوى أنها “برجوازية”. لكن الأمر ليس كذلك، إذ يتعلق فقط، بمعجبين، حضروا للاحتفاء بالوجه الجديد ل “الأزمنة الحديثة”، متعطشين لمعرفة ما الوجودية بوصفها نمط حياة؟ تناولت الصحافة هذا الحدث الثقافي، بنوع من التضخيم، معتبرة إياه حدثا فريدا، إذ لأول مرة تتسبب محاضرة بباريس في إغماءات بين صفوف المعجبين. خلد الكاتب بوريس فيان Boris Vian هذا الحدث في مسرحيته ” زبد الأيام”.

زخم الحرية الوجودية

تقوم الفلسفة الوجودية على مبدأ مفاده أن “الوجود سابق على الماهية”. إنه تأكيد على انعدام وجود طبيعة إنسانية ثابتة؛ ما يميز الانسان، خلاقا لكل ادعاء حتمي، هو عدم امتلاكه لهذه الماهية. الانسان، انطلاقا من هذه المسلمة، ” يخلق ذاته في كل لحظة”، ما دام “محكوم عليه بالحرية”. كان حماس المثقفين الفرنسيين، لهذه الأطروحة، قويا: تماهت فرنسا الخارجة للتو من همجية النزعة الكليانية، مع هذه الفلسفة التي تمجد الذات وتخلصها من الاكراهات الني تهددها.

هيمن على الفلسفة الفرنسية، في خمسينات القرن المنصرم، المشروع الفينومينولوجي للفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، مشروع عرّف به في فرنسا بعد الحرب موريس ميرلوبونتي وبول ريكور وإيمانويل لوفيناس. يتعلق الأمر ب “العودة للأشياء ذاتها” ولطبيعتها ولقصدية الوعي الموجه باستمرار نحو الأشياء. اكتست آنذاك الفينومينولوجيا في فرنسا، طابعا سارتريا يؤكد بالأساس على الوعي المتعالي في حد ذاته. استعاد ميرلوبونتي، الذي اشتغل الى جانب سارتر في مجلة “الأزمنة الحديثة”، مشروع هوسرل، لكنه وجهه وجهة ديالكتيك يتحدد بين المعنى المعطى وذاك الذي يتبدّى في الأشياء. سيؤدي به هذا التوجه لإقامة حوار وثيق مع علوم الانسان، وهي في أوج ازدهارها: يتعلق الأمر باللسانيات مع فرديناند دو سوسير، والأنثروبولوجيا البنيوية مع ليفي ـ ستروس، والتحليل النفسي مع لاكان. استعاد مرلوبونتي فكرة هوسرل الداعية لتخليص معطيات التجربة من كل العناصر الموروثة عن الفكر العلمي، من هنا عبارته المأثورة: ” الفينومينولوجيا، هي قبل كل شيء، إنكار للعلم”. لكن لا يتعلق الأمر بتنصل من العلم، بقدر ما هو إعادة تملكه في حقل الفكر الفلسفي. وهذا ما حققه ميرلوبونتي بالفعل في مؤلفه “فينومينولوجيا الادراك” الصادر سنة 1945.

نقد ميرلوبونتي

تعامل ميرلوبونتي بقدر كبير من التبصر مع الظاهرة الكليانية. وكان كتابه “النزعة الإنسانية والرعب” الذي نشره سنة 1947، بمثابة دعوة لإعادة التفكير في النزعة الكليانية.  سيجعل ميرلوبونتي في مؤلفه هذا من محاكمات موسكو لسنوات 1936ـ1938 وكتابات أرتير كوسلر A. Koestler ” الصفر واللانهائي” و” اليوجي والعميد” Le Yogi et le Commissaire منطلقا للتفكير في الماركسية وفي الرعب. إذ اعترض على المعضلة القائمة بين اليوجي ـ بوصفه تجسيدا للأخلاق ـ والعميد ـ بوصفه تجسيدا للنجاعة ـ كما قدمها كوسلر. الماركسية بالنسبة له حاملة لديالكتيك حي يعلي من شأن البروليتاريا بوصفها تحقيقا ممكنا للقيم الإنسانية. إنها دعوة للفهم من داخل الشيوعية مع الحفاظ على قدرتها في البحث الحر.

سيتجذر فعلا هذا الموقف النقدي في خمسينيات القرن المنصرم، بعد اكتشاف فضائح عالم المعتقلات السوفياتي الرهيب. أدان ميرلوبونتي إبان الحرب الباردة، في افتتاحية مجلة الأزمنة الحديثة الصادرة شهر يناير 1950، معسكرات الاعتقال هذه، قائلا: “إن كان المعتقلون بالملايين، بينما تفوق في الطرف الآخر من هرمية النظام السوفياتي، الأجور ومستوى العيش عشرين مرة ما يتقاضاه العمال والمهنيون … بهذا يكون النظام برمته قد انزاح عن دلالته وغايته.”  ستتسارع وثيرة هذا النقد وسيدخل ميرلوبونتي في خلاف مع سارتر، وصل في مؤلفه “مغامرات الديالكتيك” الصادر سنة 1955، الى مستوى الإدانة.

البنيوية المظفرة

لم تسع قط الأنثروبولوجيا، مع التقارب الذي أقامه ميرلوبونتي بين الفلسفة والعلوم الإنسانية، للتموقع مقارنة بالخطاب الفلسفي، بل على العكس من ذلك. لقد فتح ميرلوبونتي، بعمله هذا، آفاقا واعدة عندما أعلن أن ” المهمة إذن هي توسيع مجال عقلنا ليمتلك القدرة على فهم ما يوجد فينا وفي الآخرين، ما يسبق العقل ويتجاوزه”. هذا ما مكّن المساءلة الفلسفية من اكتساح مجال اللاعقلي، في صورة الأحمق والمتوحش، وبوأ الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي موقعا رائدا، سيحتلانه بالفعل في ستينيات القرن المنصرم.

سيغدو النجاح الباهر الذي حققته البنيوية، والمتمثل في إعطاء الأولوية لضروب المنطق المنفلتة من عقال وعي الانسان، بغية تحديد سلوكاته العادية، مدهشا ومثيرا لدرجة التماهي مع كل التاريخ الفكري الفرنسي منذ سنة 1945. لا وجود، إبان هذه السنوات، لخلاص خارج ما يُقدم نفسه بوصفه رؤية جديدة حول العالم والثقافة الإنسانية. وقد تجسد هذا التوجه في أعمال كلود ليفي ستروس.

أكد ليفي ـ ستروس، سنة 1948، في أطروحته “البنيات الأولية للقرابة” على الطابع الكوني لقانون زنا المحارم. وهي أول مرة يصيغ فيها علم من العلوم الإنسانية، يتعلق الأمر بالأنثروبولوجيا، قانونا يصدق على كل الحضارات. نشر ليفي ـ ستروس سنة 1955 ـ في عز الحركات المطالبة بالاستقلال، كتابه ” مداران حزينان”, سيصبح هذا المؤلَف الذي يعرض لنمط حياة هنود نامبيكوارا Nambikwara والبرورو Bororo ، الكتاب الأكثر مبيعا، إذ كان الغرب كان يبحث، خلف هذه الصور العجائبية، عن حقيقته في عوالم خارج سجلات الحداثة التكنولوجية.

التحق ليفي ـ ستروس سنة 1960 للتدريس بكوليج فرنسا، كما فتح مختبرا للأنثروبولوجيا الاجتماعية تابعا في نفس الآن للمعهد الوطني للبحث العلمي وكوليج فرنسا والمدرسة التطبيقية للدراسات العليا. أحاط ليفي ستروس نفسه بمجموعة من الباحثين، جيل جديد متعطش للعمل الميداني. سيشتغل ليفي ـ ستروس بعد ذلك على أساطير الهنود، عمل تُوج بصدور أربعة أجزاء، تحمل عنوان “ميتولوجيات” (1964 ـ 1971)، عمل اتخذ فيه مسافة من النظرية الرمزية السائدة آنذاك، والتي تفصل الأسطورة عن سياقها. ما ينبغي التركيز عليه في نظره، على طريقة اللغة، هو التجاور الداخلي للحكي الأسطوري للكشف عن بنياته.

كانت البنيوية بمثابة برنامج موحد لمجموع العلوم الإنسانية. هكذا شكلت البنيوية بالنسبة لميشيل فوكو “وعي المعرفة الحديثة اليقظ والقلق “، وكانت في نظر جاك ديريدا ” مغامرة النظرة” وبالنسبة لرولان بارث “سبيل المرور من الوعي الرمزي الى الوعي بالمفارقة”. يتعلق الأمر إذن بعلاقة جديدة بالعالم، بشبكة للقراءة، تعطي الأولوية للعلامات على حساب المعنى، للثقافة على حساب الطبيعة.

فكر متحرك

قدمت البنيوية نفسها، بفعل تألقها، بوصفها برنامجا لانعتاق العلوم الإنسانية من ربقة النزعة الإنسية الكلاسيكية، وخاصة الفلسفة. ما يوحد هذه العلوم الإنسانية هو تثمين اللاشعور بوصفه مكمن الحقيقة: يتعلق الأمر باللسانيات، عندما فصلت على يد دو سوسير اللسان عن الكلام، وعندما اهتمت الأنثروبولوجيا بشفرة الرسالة عوض الرسالة في حد ذاتها، واعتبر التحليل النفسي اللاشعور اثرا من آثار اللغة.

سعت البنيوية، بوصفها خطابا ثالثا، بين الأدب والعلوم الحقة، حمل لواءه ليفي ستروس وبارث وفوكو وألتوسير ولاكان وآخرون، لأن يعترف بها بعيدا وبمعزل عن جامعة السوربون المحافظة، وأفلحت في تسجيل حضورها في دور النشر والصحافة أو في مؤسسة موقرة شكلت ملاذا آمنا للبحث العلمي: يتعلق الأمر بكوليج فرنسا، حيث سيحضر ليفي ستروس (اختير سنة 1960) وفوكو (1969) وبارث (1977)، بكل إشعاعهم الفكري والفلسفي.

احتضنت المدرسة العليا للأساتذة جاك لاكان، بعدما تم استبعاده من الهيئات الرسمية للتحليل النفسي، حيث لقي الترحيب اللائق به من طرف الفيلسوف لويس ألتوسير. واصل لاكان إشعاعه ليعم باريس بأكملها، إذ تسارع مثقفوها للاستماع لأستاذ ـ مفكر يتمتع بجاذبية متفردة. سيتعرف جل الطلاب بالمدرسة العليا للأساتذة على ذواتهم في أطروحات ألتوسير ولاكان والتي ستنشر في “دفاتر من أجل التحليل”.

ومع ذلك ففي الفلسفة نعثر على تشكل برنامج شامل يتجاوز الطابع الوضعي للعلوم الإنسانية. سيقطع ألتوسير، عند إعادة قراءته لكارل ماركس، مع القراءة الرسمية التي تركز على الاستمرارية في مؤلفات ماركس، بما هي امتداد لأطروحات هيجل. ليس ماركس، كما يقدمه ألتوسير، ممثلا للنزعة الانسانية بل مدشنا، بدءا من 1845 سنة القطيعة، لمسعى علمي حقيقي، قطع فيه ماركس مع التصور القديم للاستيلاب وأحل محله نظرية في التاريخ تقوم على مفاهيم من قبيل نمط الإنتاج وقوى الإنتاج.. الخ. كلها دعائم لما سيصبح عليه مؤلفه الضخم “رأس المال”.

المحاولة الكبرى لتعميم البرنامج البنيوي هي تلك التي دشنها ميشيل فوكو عندما نشر سنة 1966كتابه “الكلمات والاشياء”، معلنا فيه موت الفلسفة وتعويضها بفضل المنطق واللسانيات، بفكر متحرك، فكر يعلي من شأن علمين اجتماعيين: التحليل النفسي والاثنولوجيا، بوصفهما علمين يسهمان في زعزعة التاريخ والذات في نفس الآن. النزعة الإنسية، بالنسبة لفوكو، هي “عصرنا الوسيط”، وصورة الانسان الآيل للزوال.

المفارقة السياسة حسب بول ريكور

دشنت، في ثمانينيات القرن المنصرم، الذات المقصية في المسعى البنيوي عودتها، ينضاف إليها الاهتمام بضروب المنطق المؤقت والتغييرات التي يحدثها. إنها مرحلة اتسمت بما دعاه مارسيل غوشي M. Gauchet سنة 1986 ” إعادة تأهيل الجانب الجلي والمفكر فيه للفعل”. لا يتعلق الأمر بعودة ذات سيدة نفسها وواعية بأفعالها وحضورها، بقدر ما يتمثل المسعى في انقاذ الظواهر والأفعال، وما يبدو دالا، لتفسير وعي الفاعلين.

هكذا اكتشف جيل جديد أهمية بول ريكور، فيلسوف يتموضع دائما بين بين، بين المعيش والمفهوم، وما سيغدو مصدرا أساسيا لتفادي كل ما هو مفقِر. يستحضر بول ريكور باستمرار المقولة التالية: “لتعزيز الفهم، علينا المزيد من الشرح”، ذلك أن الاستفاضة في الشرح تقود الى فهم أعمق. التأويل في حد ذاته مؤسِس للفعل. اضطلع فيلسوف مجلة إسبري Esprit، بمهمة التفكير على نحو جماعي في التراجيديا المجرية. استخلص من دراسته هاته أن السياسي ينبغي التفكير فيه انطلاقا من مصدرين فلسفيين اثنين: يرتكز الأول على العقلانية الوضعية، ساهم فيه ما هو سياسي: أرسطو، روسو وهيجل، أما المصدر الثاني فيشجب هيمنة الكذب والعنف في السياسة: أفلاطون وميكيافللي وماركس. لكن ينبغي، حسب ريكور، االانطلاق من تباين يعلي من شأن ” إرادة العيش المشترك” رغم مخاطر المغالاة. هكذا يقدم بول ريكور درسا مضادا للنزعة الشكية، درس قوامه الثقة فيما هو سياسي.

تم التخلي تماما، بعد سقوط حائط برلين سنة 1989، عن اليوتوبيا الشيوعية: أضحى الميل الى العيش في سلام أكثر جاذبية مما كان عليه سنة 1957: حافظ بول ريكور بعمله هذا على الأمل وذلك بإعادة الانطلاق من هذه المفارقة السياسية ومن ضرورة تشييد أفق الانتظار، شريطة أن يكون مشيدا من طرف فاعليه، ولا يقوم على بعض الأساطير الخطيرة.

مبتغى الحياة الطيبة

يحتل إيمانويل لوفيناس مكانة مركزية في أفق التفكير في القرن العشرين التراجديدي، لكنه عانى، شأنه شأن بول ريكور، من التهميش. يعود الفضل لبول ريكور في مساعدته على مغادرة جامعة بواتيي Poitiers والالتحاق سنة 1967 بجامعة نانتيرNanterre بباريس، وهو الوقت بالذات الذي بدأ فيه الاعتراف به. لكن فكر لوفيناس بقي مع ذلك مغمورا، وكان علينا، كما هو حال ريكور، انتظار ثمانينيات القرن الماضي لكي يكتسح فكره عالم الفكر. يعود أساسا الاعتراف مؤخرا بهاذين الفيلسوفين، لكونهما أدمجا في فكرهما، في مرحلة مبكرة، سؤال الشر.

ترتب على ذلك تخل مشترك عن الهيمنة المطلقة، بكل ما تنطوي عليه من شعور بالذنب وحرص على تعزيز منظور أفقي للعلاقات الإنسانية، والعيش المشترك. أضحى، منذئذ، البعد الإيتيقي، والرغبة في الحياة الطيبة في صلب التساؤلات الفلسفية، التي وجدت نفسها وجها لوجه أمام قرارات عصية أحيانا ينبغي اتخادها قياسا الى تسارع وتيرة الابتكارات التكنولوجية.

François Dosse : « La philosophie dans l’après-guerre »

Le Point. Hors-série. Numéro 17.”  Penser l’homme”

Les textes fondamentaux. Avril Mai 2008 p 7-13