الكاتب | ليزا داونينگ |
ترجمة | علي الحارس |
تحميل | نسخة PDF |
مدخل فلسفي شامل حول جورج باركلي؛ نص مترجم لد. ليزا داونينگ، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.
جورج باركلي، أسقف كلوين، من الفلاسفة العظماء في أوائل العصر الحديث. كان من أبرز نقّاد أسلافه، وخصوصًا: ديكارت، وماليبرانش، ولوك. وكان عالمًا ماهرًا في الميتافيزيقا اشتهر بالدفاع عن المثالية (القول بأنّ الواقع يتكوّن حصريًا من الأذهان وأفكارها). وعلى الرغم من أنّ الكثيرين ينصدمون بمنظومة باركلي لما يرون فيها من مناقضة للبديهة، فإنّ هذه المنظومة لها من القوّة والمرونة ما يجعلها قادرة على ردّ معظم الاعتراضات. وإنّ كتابيه الأكثر درسًا (رسالة في مبادئ المعرفة البشرية)، أو ما يُعرف اختصارًا بـ(المبادئ)، و(ثلاث محاورات بين هيلاس وفيلونوس)، أو ما يُعرف اختصارًا بـ(المحاورات)، هما نصّان كتبهما باركلي بلغة جميلة مكثّفة واحتويا على حجج تستهوي الفلاسفة المعاصرين.
ولقد كان باركلي إلى جانب ذلك من المفكّرين ذوي الاهتمامات المتنوّعة، ومنها: الدين (أدّى دورًا أساسيًا في تحفيزه على العمل بالفلسفة)، والأساس النفساني للإبصار، والرياضيات، والفيزياء، والأخلاق، والاقتصاد، والطب. وعلى الرغم من أنّ الكثير من أوائل الذين قرؤوا كتابات باركلي لم يستوعبوها، فلقد ألقى بأثره على كانت وهيوم كليهما، وهنالك الكثير ممّن يقرأ كتاباته (والقليل ممّن يتّبعها) في أيّامنا هذه.
جدول المحتويات
1. حياة باركلي وكتاباته الفلسفية
ولد باركلي في العام (1685) قرب كيليكيني في آيرلندا؛ وبعد سنوات من التعليم المدرسي في (كيلكيني كوليج) دخل (ترينيتي كوليج) وهو في الخامسة عشرة من عمره. وبعد تخرّجه بثلاثة أعوام أصبح زميلًا في (ترينيتي كوليج) في العام (1707)، ثمّ ما لبث أن جرى ترسيمه كرجل دين في الكنيسة الأنگليكانية. وفي (ترينيتي كوليج) كان المنهاج المتّبع حديثًا بشكل مُلاحظ، فواجه باركلي المنهاج الجديد في العلوم والفلسفة، وكان منهاجًا يتميّز بالعداء للأرسطية. ومن يطّلع على الدفاتر الفلسفية لباركلي (تسمّى أحيانًا بـ”التفاسير الفلسفية”)، والتي بدأ بكتاباتها في العام (1707)، يجد توثيقًا غنيًّا للمرحلة المبكّرة من التطور الفلسفي لباركلي، ممّا يمكّن القارئ من اقتفاء أثر ظهور فلسفته اللامادّية من ردوده النقدية على ديكارت ولوك وماليبرانش ونيوتن وهوبز وغيرهم.
ولقد كان أوّل ما نشر من كتبه المهمّة (مقالة نحو نظرية جديدة للإبصار [1709]) مساهمة مؤثّرة في التفسير النفساني للإبصار وقام فيه بتطوير مبادئ تتعلّق بمشروعه المثالي. وفي العشرينيات من عمره أصدر باركلي كتابيه الأكثر ديمومة: (رسالة في مبادئ المعرفة البشرية [1710])، و(ثلاث محاورات بين هيلاس وفيلونوس [1713])، وسنتناول مبادئهما الرئيسية في مواضع قادمة من هذا المدخل.
وفي العام (1720)، وأثناء رحلة في أوروبا استمرّت أربعة أعوام لتعليم أحد الفتيان، ألّف باركلي كتابه (حول الحركة)، وهو كتيّب حول الأسس الفلسفية للميكانيكا طوّر فيه رؤاه المتعلّقة بفلسفة العلوم وطرح فيه بوضوح مقاربة ذرائعية للديناميكا النيوتنية. وبعد رحلته المذكورة عاد باركلي إلى آيرلندا واستأنف القيام بمهامّ منصبه حتّى العام (1724)، وفيه جرى تعيينه عميدًا لكاتدرائية ديري. وفي هذا الوقت بدأ باركلي يطوّر مخطّطه لتأسيس كلّية في (برمودا). وكان حينها مقتنعًا بأنّ أوروبا تعاني الانحلال الروحي وبأنّ العالم الجديد يقدّم أملًا بعصر ذهبي جديد. وبعد أن ضمن قيام البرلمان البريطاني بتقديم مرسوم وتعهّد بتقديم التمويل اللازم، أبحر باركلي إلى أمريكا في العام (1728) تصحبه زوجته (آن فورستر) التي كان قد اقترن بها حديثًا.
وقضى الزوجان ثلاثة أعوام في نيوپورت التابعة لرودآيلاند بانتظار المال الموعود، لكنّ الدعم السياسي الذي اعتمد عليه باركلي انهار فاضطرّ للتخلّي عن مشروعه والعودة إلى بريطانيا في العام (1731). وفي أثناء وجوده في أمريكا ألّف باركلي كتابه (ألسيفرون)، وهو كتاب تبريري في الديانة المسيحية موجّه ضدّ “المفكّرين الأحرار” الذين كان يرى فيهم أعداء للمذهب الأنگليكاني الرسمي. وهذا الكتاب يعدّ أيضًا من الكتابات الفلسفية المهمّة وهو مرجع لا يستغني عنه من يريد الاطّلاع على رؤى باركلي في مجال اللغة.
وبعد مدّة قصيرة من عودته إلى لندن ألّف باركلي (نظرية الإبصار.. الدفاع عنها وشرحها)، وهو دفاع عن عمله السابق حول الإبصار، ثمّ أنبعه بكتاب (المحلّل)، وهو نقد حادّ ومؤثّر لأسس حساب التفاضل والتكامل عند نيوتن. وفي العام (1734) نُصِّب أسقفًا لكلوين، فعاد إلى آيرلندا، وفيها كتب آخر كتب الفلسفية، وأغربها، وأكثرها في عدد المبيعات (بالنسبة لمبيعات باقي كتبه أثناء حياته). وكان لكتابه هذا (سيريس [1744]) ثلاثة أهداف: إثبات منافع الماء القطراني (سائل يُحضَّر بنقع قطران الصنوبر في الماء) باعتباره دواءً لكلّ داء، وتقديم الأساس العلمي الذي يدعم كفاءة الماء القطراني، وإرشاد ذهن القارئ بخطوات تدريجية نحو التفكّر في الإله. وفي العام (1753) توفّي باركلي بعد مدّة قصيرة من انتقاله إلى أوكسفورد للإشراف على تعليم ابنه جورج (لباركلي سبعة أبناء لم يجتز مرحلة الطفولة منهم سوى ثلاثة).
2. نقد باركلي للمادّية في كتابيه (المبادئ) و(المحاورات)
يدافع باركلي في كتابيه المهمّين في الميتافيزيقا عن المثالية بمهاجمة البديل المادّي؛ فما هو بالضبط المعتقد الذي يهاجمه باركلي؟ يجب على القارئ أن يلاحظ أوّلًا بأنّ “المادّية” هنا تُستخدَم بمعنى “الاعتقاد بوجود الأشياء المادّية”، بالتناقض مع الاستخدام الآخر، الأكثر قياسية في النقاشات المعاصرة، والذي يُراد به الاعتقاد بوجود الأشياء المادّية (فقط). إذ يحاجج باركلي بـ(عدم) وجود الأشياء المادّية؛ فهو لا يقف عند حدّ المحاججة بوجود بعضها، ولهذا فهو يهاجم (الثنائية) لدى ديكارت ولوك، ولا يقتصر على رؤية هوبز الأقلّ شعبية بكثير، والتي تقول بوجود الأشياء المادّية فقط. وهنا يبرز السؤال: ما هو الشيء المادّي بالتحديد؟ ممّا يثير الاهتمام أنّ جزءًا من هجوم باركلي على المادّة هو للمحاججة بأنّ هذا السؤال لا يمكن للمادّيين أن يقدّموا جوابًا كافيًا عليه، أي: إنّهم يعجزون عن تحديد خصائص ما يزعمونه من أشياء مادّية.
وثمّة جواب يحدّد الأشياء المادّية بالضبط، لكنّ باركلي يرفضه، وهو: إنّ الأشياء المادّية هي أشياء (مستقلّة عن الذهن) أو جواهر. والشيء المستقلّ عن الذهن هو شيء ليس وجوده معتمدًا على أشياء تفكّر/تدرك حسّيًا، وبذلك فهي قد توجد سواء وجدت الأشياء المفكّرة (الأذهان) أو لم توجد. ويعتقد باركلي بأنّه لا يوجد ما يدعى بالأشياء المستقلّة عن الذهن، ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة [esse est percipi (aut percipere)]، أي: أن يوجد الشيء هو أن يدرَك حسّيًا (أو أن يدرِك حسّيًا).
ويتّهم باركلي المادّية بأنّها تدعو إلى الشكوكية والإلحاد: الشكوكية لما توحي به المادّية من أن حواسّنا تضلّلنا بشأن طبائع الأشياء المادّية (بل إنّ باركلي يعتقد بأنّها لا تحتاج إلى أن توجد أصلًا)؛ والإلحاد لأنّ العالم المادّي قد يُنتظَر منه أن يعمل دون حاجة للاستعانة بالإله. وهذه التهمة المزدوجة تقدّم (الحافز) الذي دفع باركلي لمساءلة المادّية (وهو حافز يعتقد باركلي بأنّه يجب أن يحفّز الآخرين أيضًا)، لكنّها لا تشكّل، بالطبع، محاججة فلسفية ضدّ المادّية؛ ومن حسن الحظّ أنّ كتابي (المبادئ) و(المحاورات) يفيضان بأمثال هذه المحاججات، وسنتفحّص فيما يلي بعض العناصر الرئيسية للحملة الحجاجية التي شنّها باركلي ضدّ المادّة.
1.2 الهجوم على المادّية التمثيلية
1.1.2 الحجّة المركزية
يبدأ باركلي هجومه على مادّية معاصريه من حجّة شديدة الإيجاز قدّمها في كتابه (المبادئ) (Principles 4)، وهي:
«ثمّة رأي لا شكّ في أنه يشيع بقوّة بين الناس، ومفاده أنّ المنازل والجبال والأنهار، وباختصار: كلّ الأشياء المحسوسة، لها وجود طبيعي أو حقيقي، متمايز عن وجودها الذي يُدرَك بالفهم. لكن مهما كان ما يتمتّع به هذا المبدأ من تأكيد وقبول في العالم، فإنّ من يشعر بالحاجة إلى مساءلة هذا المبدأ سيدرك، إن لم أكن مخطئًا، بأنّه ينطوي على تناقض واضح. فما الأشياء التي ذكرناها سوى أمور ندركها بالحواسّ، وهل هنالك ممّا ندركه سوى الأفكار والإحساسات الخاصّة بنا؟ أوليس من المنفّر حقًّا أن يكون أيٌّ منها، أو أيُّ مجموعة منها، موجودًا دون أن تدركه الحواسّ؟».
وبكلامه هذا يقدّم باركلي الحجّة التالية (راجع: Winkler 1989, 138):
- (1) إنّنا ندرك الأشياء العادية (المنازل، والجبال، …إلخ).
- (2) إنّنا لا ندرك سوى الأفكار.
- إذن: (3) الأشياء العادية أفكار.
وهي حجّة منطقية سليمة، ويبدو من الصعب إنكار المقدّمة (1)، فماذا عن المقدّمة (2)؟ يعتقد باركلي بأنّ هذه المقدّمة يقبلها كلّ الفلاسفة المحدثين؛ وفي كتابه (المبادئ) يعمل باركلي (ضمن) ما ساد في القرنين السابع عشر والثامن عشر من تقليد نظري حول الأفكار، وهو يعتقد، بالخصوص، بأنّ هنالك نسخة من المقدّمة (2) يتقبّلها المستهدفان الرئيسيان بكلامه، أي: الفيلسوفان المؤثّران ديكارت ولوك.
وعلى الرغم من ذلك، يلاحظ باركلي بأنّ هذين الفيلسوفين لديهما ردّ جاهز واضح لحجّته، وهذا الردّ يمنع باركلي من استنتاج القضية (3)، وذلك بالتمييز بين نوعين من الإدراكات: مباشر وغير مباشر. وعليه فإنّ المقدّمتين (1) و(2) يُستعاض عنهما بالادّعاء بأنّ:
- (1‘) إنّنا ندرك الأشياء العادية عبر وسيط. بينما…
- (2‘) لا ندرك بشكل مباشر سوى الأفكار.
ولا شكّ في أنّ الاعتماد على هذين الادّعاءين لا يمكن معه الخروج باستنتاج يتّفق مع المثالية. والردّ الديكارتي-اللوكي يعكس (نظرية تمثيلية للإدراك)، نقوم بموجبها بالإدراك غير المباشر (عبر وسيط) للأشياء المادّية من خلال الإدراك المباشر للأفكار، والأفكار هي أمر يعتمد على الذهن. إنّ الأفكار (تمثّل) أشياء مادية خارجية، ولذلك فهي تتيح لنا إدراكها.
وثمّة خلاف حول ما إذا كان ديكارت وماليبرانش ولوك (تمثيليين) من هذا النوع (راجع مثلًا: Yolton 1984, Chappell 1994)؛ لكنّ باركلي كان يملك بحقّ مبرّرات متينة لفهم أسلافه على هذا النحو، لأنّ فهمه هذا يعكس أوضح تفسير لرؤية لوك حول الإدراك، ويبدو أنّ كلّ العملية التي قدّمها ديكارت في كتابه (التأمّلات) تميل إلى اقتراح فهم باركلي، إذ يضع المتأمّل في وضع يتأمّل فيه أفكاره الخاصّة به، ويحاول تحديد ما إذا كان هنالك شيء خارجي يتماشى معها.
2.1.2. مبدأ الشبه
يكرّس باركلي القسم التالي من كتابه (المبادئ) لهدم الردّ التمثيلي الموجّه ضدّ حجّته الابتدائية، فيطرح السؤال: ما الذي يتيح لفكرة أن تمثّل شيئًا مادّيًا؟ إنّه يفترض، وبالاستناد إلى مبرّرات متينة أيضًا، بأنّ الردّ التمثيلي في طريقه إلى أن يتضمّن (الشبه): «ولكن قد يقول قائل بأنّه على الرغم من أنّ الأفكار نفسها لا توجد من دون الذهن، فقد يكون هنالك أشياء تشبهها فهي نسخ منها أو أشباه لها، وتلك الأشياء توجد خارج الذهن في جوهر غير مفكّر. وجوابي على ذلك: إنّ الفكرة لا يمكن لها أن تكون إلّا فكرة؛ واللون أو الهيأة لا يمكن لهما أن يشبها أي شيء إلّا إذا كان هذا الشيء لونًا آخر أو هيأة أخرى» (PHK 8). إنّ باركلي يحاجج بأنّ الشبه المفترض لا معنى له، فالفكرة لا يمكن لها أن تشبه إلّا فكرة أخرى.
لكن ما السبب؟ إنّ أقرب ما يصل إليه باركلي من الإجابة على هذا السؤال هو ما كتبه في دفاتره الفلسفية الأولى، حيث لاحظ بأنّه «لا يمكن القول عن شيئين بأنّهما متشابهان أو مختلفان ما لم تجرِ المقارنة بينهما» (PC 377). وعليه، فبما أنّ الذهن لا يمكنه مقارنة أي شيء سوى أفكاره الخاصّة به، وهي فرضًا الأشياء الوحيدة التي يمكن إدراكها بشكل مباشر، فإنّ أنصار التمثيلية لا يمكنهم الإصرار على الشبه بين الفكرة وبين الشيء المادّي غير المثالي المستقلّ عن الذهن. (لمناقشة أوسع يمكن الرجوع إلى: Winkler 1989, 145–9).
إذا سلّمنا بمبدأ الشبه عند باركلي، أي: الأطروحة القائلة بأنّ لفكرة لا يمكن لها أن تشبه سوى فكرة أخرى، فعندها ستواجه المادّية التمثيلية مشكلة كبيرة، فكيف يمكن بعدها تمييز الأشياء المادّية؟ إذا كان يُفترَض بالأشياء المادّية أن تكون ممتدّة أو صلبة أو ملوّنة فسيردّ باركلي بأنّ هذه الكيفيات الحسّية تتعلّق بالأفكار، وهي أفكار تُدرَك بشكل مباشر، وأنّ المادّيين لا يمكنهم الإصرار على أنّ الأشياء المادّية تشبه الأفكار في هذا المجال. وهذه النقطة يثبتها باركلي في كثير من المواضع ضمن كتابيه (المبادئ) و(المحاورات)، محاججًا بأنّ فكرة (المادّة) هي في أفضل حالاتها فكرة (فارغة) تمامًا، وهذا إن لم تكن فكرة غير مترابطة في الأساس.
3.1.2. اللاتجريدية
من السبل التي تظهر بها لاتجريدية باركلي وتفعل فعلها هي دفاعه المتين عن النقطة الآتية: إذ يحاجج باركلي في “مقدّمة” كتابه (المبادئ)[i] بأنّنا نعجز عن تشكيل أفكار عامّة على النحو الذي يبدو بأنّ لوك يقترحه، أي: بتجريد الكيفيات المميّزة من فكرة أمرٍ ما، وخلق فكرة جديدة (مجرّدة) عامّة في جوهرها.[ii] ثمّ ينتقل باركلي إلى الادّعاء بأنّ الأفكار التي قد يلجأ إليها المادّيون كمحاولة يائسة أخيرة لتمييز المادّة (مثلًا: الكينونة أو مجرّد الامتداد) هي مجرّدة على نحو مرفوض وهي غير متاحة للاستخدام.[iii]
4.1.2. ما الذي تشرحه الماديّة؟
إن باركلي يعي أنّ المادّي لا يتبقّى لديه سوى حجّة واحدة في جعبته، وهي: ألسنا بحاجة للأشياء المادّية كي (نفسّر) أفكارنا؟ ولا شكّ في أنّها حجّة تستحوذ على الانتباه: فعندما تتكوّن لديّ فكرة كرسي كلّما دخلت مكتبي، وعندما تتكون لدى زميلتي فكرة كرسي كلّما دخلت (هي) مكتبي، لا شكّ بأنّ التفسير الأفضل لذلك هو أنّ هنالك شيء شيء مادّي وحيد مستمرّ (يسبّب) كلّ هذه الأفكار المتنوّعة.
لكن يجب أن نكرّر القول هنا بأنّ باركلي يردّ، على الرغم من ذلك، من خلال الاستثمار الفعّال لنقاط الضعف في نظريات خصومه: «حتّى وإن سلّمنا للمادّيين بأجسامهم الخارجية، فإنّهم، وباعترافهم، لا يستطيعون أبدًا الاقتراب من فهم كيفية إنتاجنا للأفكار: لأنّهم أنفسهم عاجزون عن فهم النحو الذي يؤثّر فيه الجسد على النفس، أو كيف يمكن للجسد أن يطبع أيّ فكرة في الذهن. وبما أنّ من الواضح أنّ إنتاج الأفكار أو الإحساسات يتمّ في أذهاننا، فليس هنالك سبب يدعو للافتراض بوجود مادّة أو جواهر جسمانية، لأنّ هنالك إقرارًا بعدم إمكانية تفسير وجودها، سواء مع هذا الافتراض أو بدونه» (PHK 19).
ويبدأ باركلي محاججته بأنّ من يناصر الاتّجاه التمثيلي يجب أن يعترف بأنّ (من الممكن) أن تكون لنا أفكار دون أن يكون هنالك أشياء خارجية تسبّبها (PHK 18) (وهذه من الطرق التي ينظر بها باركلي إلى المادّية باعتبارها تؤدّي إلى الشكّ)؛ لكنّ الأكثر تدميرًا له هو أن يقرّ، على الرغم من ذلك، بأنّ وجود المادّة لا يساعد على تفسير حدوث أفكارنا. ومهما يكن من أمر، فلقد كان لوك نفسه شخّص هذه الصعوبة بقوله: «إنّ الجسم لا يمكنه، بأقصى ما تستطيعه أفهامنا، أن يصطدم أو يؤثّر إلّا بجسم آخر؛ والحركة لا يمكنها أن تنتج، وفقًا لأقصى ما تصل إليه (أفكارنا)، سوى الحركة؛ ولذلك فعندما نسمح لها بإنتاج اللذّة أو الألم، أو (فكرة) لون ما، أو صوت ما، فإنّنا نتخلّى عن العقل بشكل إراديّ، ونتعدّى (أفكارنا)، ونعزوها بأكملها إلى المشيئة الخيّرة لخالقنا» (Locke 1975, 541;Essay 4.3.6).
وعندما أصرّت إليزابيث على ديكارت ليفسّر لها كيفية التفاعل بين الذهن والجسد[iv] كانت محقّة في عدم شعورها بالرضى عن أجوبته. والمشكلة الرئيسية هنا تنشأ بسبب الثنائية: فكيف يمكن لجوهر أن يؤثّر سببيًا على جوهر آخر من (نوع) مختلف جذريًا؟ وتتفاقم الصعوبة بشدّة عندما تأخذ شكلها الديكارتي: فكيف يمكن لشيء يتّصف بالامتداد، ولا يؤثّر على أشياء ممتدّة أخرى إلّا بالتصادم الميكانيكي، أن يؤثّر على الذهن الذي يتّصف بأنّه لاامتدادي ولامكاني؟
وبهذا يتوضّح جيّدًا الغرض الذي أراده باركلي. وتجدر الإشارة إلى أنّ غرض باركلي، بالإضافة لهدمه محاولة المادّيين الاستدلال على التفسير الأفضل، هو الطعن أيضًا في أيّ محاولة لتفسير التمثيل والتوسّط في الإدراك من خلال السببية (العلّية). أي: إنّ المادّيين قد يحاولون الادّعاء بأنّ الأفكار تمثّل أشياء مادّية، لا عن طريق المشابهة، بل بفضل (تسبّب) الأشياء بها (وعلى الرغم من أنّ ديكارت ولوك لم يصرّح أيٌّ منهما بمثل هذا الكلام، فهنالك في نصوصهما ما يدعم عزو هذا الرأي لهما. حول ديكارت راجع: Wilson 1999, 73–76. وحول لوك راجع: Chappell 1994, 53). ومع ذلك فإنّ ما ورد في كتابه (المبادئ) (PHK 19) يوحي ضمنًا بأنّ المادّيين لا يملكون ما يجعلون به تفسيرهم للتمثيل مرضيًا من الناحية الفلسفية.
2.2 في مواجهة المادّية الواقعية المباشرة
لقد أكّدنا في ما سبق على أنّ حملة باركلي في مواجهة المادّة، كما يقدّمها هو في كتابه (المبادئ)، موجّهة ضدّ النزعة التمثيلية في المادّية، وهو يفترض هذه النزعة مسبقًا. وبالخصوص، يفترض باركلي مسبقًا أنّ كلّ ما يدركه المرء هو أفكار، سواء كان هذا الإدراك جرى بشكل مباشر أو بلا واسطة. ولنا أن نتساءل، نحن الفلاسفة المعاصرين، عن ما إذا كان باركلي يمتلك أيّ ردّ للمادّيين الذين ينكرون هذه المقدّمة التمثيلية ويشدّدون عوضًا عنها على أنّنا نقوم في العادة بإدراك الأشياء المادّية بشكل مباشر أو بلا واسطة؛ والجواب على هذا التساؤل هو: “نعم”.
1.2.2. الحجّة الأساسية
على الرغم ممّا سبق، فإنّ من المواضع التي يرجع إليها المرء بشكل طبيعي للعثور على أمثال هذه الحجّة لا يقدّم، في الحقيقة، ما يبدو أنّه يعد به في أوّل الأمر. ففي كلّ من كتابيه المبادئ (Principles 22–3) والمحاورات (Dialogues 200) يقدّم باركلي نسخة ممّا صار يدعى لاحقًا بـ”الحجّة الأساسية”[v] بسبب تأكيده القويّ الصريح في الدعوة إلى تبنّيها:
«إنّني مقتنع بوضع الأمر كلّه خلف هذه المسألة: إذا لم يكن بإمكانك سوى أن تفكّر بأنّه يمكن لجوهر ممتدّ قابل للحركة، أو بشكل أعمّ: لأيّة فكرة أو أيّ شيء يشبه الفكرة، أن لا يوجد إلّا في الذهن الذي يفكّر به، فسأتخلّى فورًا عن الخوض في هذا الأمر. […] أمّا إذا قلتَ: لا شكّ في أنّه ليس هنالك ما هو أسهل من تخيّل أشجار في حديقة مثلًا، أو كتب في خزانة، دون أن يوجد بقربها من يفكّر بها؛ فسأجيبك حينها بأنّه يمكنك تخيّل ذلك، ولا صعوبة في ذلك، لكنّني ألتمس منك الإجابة على سؤالي: أليس ما تفعله ما هو إلّا تشكيل أفكار محدّدة في ذهنك تدعوها "كتبًا" و"أشجارًا"، مع الامتناع، في الوقت نفسه، عن تشكيل فكرة بوجود أيّ أحد يفكّر فيها؟ أولست أنت نفسك تفكّر في هؤلاء طوال الوقت؟ إذن، فما فعلته لم يخدم غايتك، وكلّ ما فعلته هو أنّك بيّنت قدرتك على تخيّل الأفكار أو تشكيلها في ذهنك، ولم تبيّن إمكانية استيعاب وجود الأشياء المتواجدة في أفكارك من دون الذهن؛ فلتبيين ذلك يجب عليك أن تستوعب وجودها دون أن يستوعبها أو يفكّر بها أحد، وهو تناقض سافر. إنّنا عندما نبذل أقصى جهد لاستيعاب وجود الأجسام الخارجية فإنّنا لا نقوم أثناء ذلك سوى بالتأمّل في أفكارنا نفسها؛ لكنّ الذهن لا ينتبه لما يقوم به، ويتوهّم أنّه يستطيع أن يستوعب، بل أنّه يستوعب فعلًا، الأجسام دون التفكير بها أو دون أيّ دور للذهن، على الرغم من أنّها محتجزة أو موجودة فيه» (PHK 22–23).
يبدو أنّ حجّة باركلي يُراد منها إثبات أنّنا عاجزون في الحقيقة عن استيعاب أجسام مستقلّة عن الذهن، أي: أجسام توجد دون أن يدركها أو يفكّر بها أيّ أحد. لماذا؟ لا لشيء سوى أنّ استيعاب هذه الأشياء يستدعى قيامنا نحن باستيعابها (أي: التفكير بها). لكنّ پيچر (Pitcher 1977, 113) يقدّم ملاحظة جيّدة تقول بأنّ هذه الحجّة يبدو أنّها تخلط بين (التمثيل: ما نستخدمه للاستيعاب) وبين (الممثَّل: ما نستوعبه، أي: محتوى أفكارنا). وما إن نميّز بينهما حتّى نلاحظ أنّه على الرغم من أنّه يجب علينا أن نمتلك مفهومًا أو تمثيلًا ما كي نستوعب شيئًا ما، وأنّ ذلك (التمثيل) هو مفكَّر فيه على نحو ما، فلا يستلزم ذلك القول بأنّ ما نستوعبه يجب أن يكون جسمًا مفكَّرًا فيه (على العكس ممّا يراه باركلي). أي: عندما نتخيّل شجرة تقف لوحدها في غابة، فإنّنا نفترض (جدلًا) بأنّنا نستوعبها كجسم غير مفكَّر فيه، على الرغم من أنّه يجب علينا طبعًا أن نوظّف فكرةً ما في إنجاز هذه المهمّة.[vi] وعليه، فإنّ (هذه) الحجّة باطلة، كما يلاحظ الكثير من الشرّاح.
وثمّة قراءة ألطف لهذه الحجّة (Winkler 1989, 184–7; Lennon 1988) تثبت حجّة باركلي القائلة بالعجز عن تمثيل ما لا يمكن استيعابه لأنّنا لم نجرّبه ولا يمكن لنا أن نجرّبه.[vii] فبما أنّنا عاجزون عن تمثيل العجز عن الاستيعاب، فنحن عاجزون عن استيعاب الأجسام المستقلّة عن الذهن. وعلى الرغم من أنّ هذه الحجّة يتوقّع منها الإجادة أكثر في طرح المسألة، إلّا إن من الواضح أنّها تفترض التمثيلية مسبقًا، تمامًا كما فعل باركلي في حجّته التي عرضها في (المبادئ).[viii] ومع ذلك، فليس من الضروري أن يشكّل ما ورد خللًا في التفسير، فلقد رأينا في ما سبق كيف أنّ كتاب (المبادئ) موجّه ضدّ التمثيلية، ويضاف إليه أنّ الحجّة الأساسية في (المحاورات) لا تبرز إلّا بعد تحوّل هيلاس إلى التمثيلية (انظر ما يلي).[ix]
2.2.2. المحاورة الأولى والحجج النسبية
وبناءً عليه، فإذا كنّا نسعى للحصول على طعن يطال المادّية الواقعية المباشرة فيجب علينا الرجوع إلى (المحاورات الثلاث)، حيث تبدأ الشخصية المسمّاة هيلاس (التي كانت لتكون مادّية) من نوع من أنواع الواقعية الساذجة التي ترى بأنّنا ندرك الأشياء المادّية نفسها بشكل مباشر؛ ويقف في مواجهة موقف هيلاس الشخصية المسمّاة فيلونوس (محبّ الروح، الناطق عن لسان باركلي) ليحاول المحاججة بأنّ الكيفيات المحسوسة (أي: الكيفيات التي تدركها الحواسّ بلا واسطة) يجب أن تكون مثالية، وليست تنتمي إلى الأجسام المادّية (تجدر الإشارة هنا إلى أنّ التحليل القادم لهذه الحجج الأولى في المحاورات قد استفدناه من التحليل الذي قدّمته مارگريت ويلسون في دراستها “رأي باركلي في الألوان المعتمدة على الذهن” (Wilson 1999, 229–242).[x]
يبدأ فيلونوس حجّته الأولى بالمحاججة بأنّ الكيفيات الحسّية (كالحرارة) لا تتميّز عن اللذّة أو الألم اللذين أُجمِع على اعتبارهما من الأمور الذهنية وحسب، ولذلك يجب أن يصدق الاعتبار نفسه على الكيفيات الحسّية. وهذه الحجّة تعاني من صعوبات أخطرها: (1) السماح بالتسليم بالمقدّمة “لا تتميّز” في حالة الكيفيات الحسّية المحدّدة التي يلجأ إليها باركلي (أي: لماذا لا يمكن الافتراض بإمكانية التمييز بين الحرارة والألم؟)، و(2) إذا سلّمنا بتلك المقدّمة، فستبرز أمامنا عقبة السماح بالتعميم على كلّ الكيفيات الحسّية على النحو الذي يرغب به باركلي.
بعد ذلك ينتقل فيلونوس ثانيًا إلى اللجوء للحجج النسبية للاقتراح بأنّ نسبية الكيفيات الحسّية للمدرِك (مثلًا: الساخن في اليد اليمنى قد يكون باردًا في اليسرى؛ والطعم الحلو على لسان زيد قد يشعر به عمرو مرًّا) تجعلها خارجة عن نطاق الأجسام المادّية المستقلّة عن الذهن، لأنّ هذه الأجسام لا يمكنها أن تحمل كيفيات متناقضة.
إنّ باركلي يعي جيّدًا بأنّه قد يردّ أحدهم على هذا النوع من الحجج بالادّعاء بأنّه ليس بين الكيفيات المتضاربة سوى واحدة يمكن القول بأنّها كيفية حقيقية للجسم، وأنّ الكيفيات الظاهرية الأخرى تنتج من (سوء إدراك)؛ وهنا يردّ باركلي متسائلًا: إذا صحّ ذلك فكيف يمكن التعرّف على هذه الكيفيات “الحقيقية” وتمييزها من الكيفيات “الزائفة”؟ (3D 184). ويقترح باركلي بأنّ ملاحظة الاختلافات بين إدراك الحيوانات وإدراك الإنسان تجعل من الاعتباطي لأنصار مركزية الإنسان الادّعاء بأنّ الإنسان يستطيع الوصول إلى الكفيات الحقيقية للأجسام. وعلاوة على ذلك، يستخدم باركلي مثال المجهر لهدم الفكرة البديهية ظاهريًا القائلة بأنّ الكيفيات البصرية الحقيقية للأجسام تنكشف عبر التفحّص عن قرب. وهكذا يقدّم باركلي طعنًا قويًا ضدّ أيّة محاولة واقعية مباشرة لتحديد الظروف القياسية التي تقوم الحواسّ في ظلّها بالإدراك (المباشر) للكيفيات الحقيقية (المستقلّة عن الذهن) للأشياء.
وبسبب هذا الضغط الذي يمارسه فيلونوس، ينسحب هيلاس (على نحو قد يكون سريعًا) من الواقعية الساذجة إلى وضع أكثر “تفلسفًا”، فيحاول أوّلًا استخدام التمييز بين الكيفيات الأوّلية والثانوية، وهو تمييز يترافق مع الرؤية الميكانيكية، ويمكن العثور عليه، مرّة أخرى، في فكر ديكارت ولوك. وهكذا يسمح هيلاس للون والذوق وما شابه بأن تكون كيفيات (ثانوية) غير مستقلّة عن الذهن، لكنّه يحاجج بأنّ الشكل والصلابة والحركة وغيرها من (الكيفيات الأوّلية) توجد في أجسام مادّية مستقلّة عن الذهن. والصورة الميكانيكية التي تكمن خلف هذا المقترح مفادها أنّ الأجسام تتركّب من جسيمات ذات حجم وشكل وحركة/سكون، وربّما ذات صلابة، وأنّ أفكارنا الحسّية تنشأ من فعل تمارسه هذه الجسيمات على أعضاء الحسّ لدينا، وبالتالي: على أذهاننا.
ويعارض باركلي هذا النوع من الرؤية الميكانيكية على امتداد كتاباته، إذ يعتقد بأنّها تخلق الشكّ بما تمليه من أنّ الأجسام تختلف تمامًا عن تجربتنا الحسّية لها. وهنا يقدّم فيلونوس ردًّا ذا شعبتين: (1) إنّ حجج النسبية التي جرى الردّ بها على الكيفيات الثانوية يمكن أن يُرَدّ بها على الكيفيات الأوّلية؛ و(2) لا يمكن تجريد الكيفيات الأوّلية (الشكل، مثلًا) عن الكيفيات الثانوية (اللون، مثلًا)، ولذلك لا يمكننا إدراك الأجسام المادّية الميكانيكية الممتدّة لكنّها غير ملوّنة (بذاتها).[xi]
وفي نهاية المطاف يذعن هيلاس لرؤية فيلونوس القائلة بأنّ كلّ ما في الوجود غير مستقلّ عن الذهن، لكنّه يقوم بذلك وهو غير سعيد بذلك وبعد الكثير من التردّد. إنّ فيلونوس بحاجة لإقناعه (كما احتاج باركلي لإقناع قرّائه في كلا الكتابين) بأنّه يمكن بناء فلسفة معقولة على أساس لامادّي، وأنّه لا يمكن أن يشتاق إلى المادّة سوى المشكّك أو الملحد. وفي الواقع، يسجّل التاريخ أنّ باركلي أقنع ثلّة من معاصريه ممّن كانوا ينظرون إليه على أنّ معظم عمله ينصبّ على نشر التناقضات التشكيكية (Bracken 1965). ومع ذلك يمكننا، بل يجب علينا، أن نقدّر النهج الذي سار عليه باركلي في التعبير عن منظومة فلسفية مثالية يقينية، وهي منظومة إن لم تتّصف بالتوافق التامّ مع الفهم السليم، فهي تتفوّق على منافساتها في الكثير من المجالات.
3. البرنامج اليقيني عند باركلي .. المثالية والفهم السليم
1.3 أسس الأنطولوجيا عند باركلي
1.1.3. حالة الأجسام العادية
تتّضح أسس ميتافيزيقا باركلي من القسم الأوّل من المتن الرئيسي لكتابه (المبادئ)، حيث يقول:
«من الواضح لكلّ من يتصفّح الأشياء التي تضمّها المعرفة البشرية أنّها إما أفكار منطبعة في الحواسّ بشكل حقيقي، وإمّا مدرَكة من خلال تلبية انفعالات الذهن وعملياته، وإمّا هي أفكار شُكّلت بمساعدة الذاكرة والتخيّل، سواء كان ذلك بتركيب أو تفكيك، أو بمجرّد تمثيل، الأفكار المدرَكة عبر الطرق المذكورة في ما سبق. فبالبصر تكونُ لي أفكار عن الضوء والألوان باختلاف درجاتهما وأنواعهما؛ وباللمسِ أدرك حسّيًا، على سبيل المثال، الخشن والناعم، والحرارة والبرودة، والحركة والممانعة، وهذه كلّها تختلف زيادة ونقصانًا في الشدّة أو الدرجة؛ وحاسّة الشمّ تزوّدني بالروائح؛ وحاسّة الذوق تطلعني على الطعوم؛ وحاسّة السمع تنقل الأصوات إلى الذهن على اختلاف نغماتها وألحانها. ورغم أنّ من الملاحظ ترافُقَ عدد منها مع غيره، فإنّها تأتي مميّزة باسم واحد، وبالتالي تُعتَبر شيئًا واحدًا. ولهذا، على سبيل المثال، عندما يُلاحَظ بأنّ هنالك ترافقًا للونٍ بعينه وطعمٍ بعينه ورائحةٍ بعينها وشكلٍ بعينه وقوامٍ بعينه، تُعتبَر جميعها شيئًا متمايزًا واحدًا يشار إليه بالاسم (تفاّحة). وهنالك مجموعات أخرى من الأفكار تشكّل حجرًا، أو شجرةً، أو كتابًا، أو ما شابه من الأشياء المحسوسة؛ وهذه بدورها تستثير انفعالات الحبّ أو الكره أو البهجة أو الأسى وغيرها، وفقًا لما هي عليه: مرغوبة أم مبغوضة».
ويبيّن لنا هذا المقطع أنّ باركلي لا ينكر وجود الأجسام العادية كالأحجار والأشجار والكتب والتفّاح، إذ يعتقد، على العكس من ذلك، بأنّ التفسير اللامادّي لهذه الأجسام هو وحده من يستطيع أن يزيل الشكّ بوجودها وطبيعتها. فبحسب تفسيره، يتّضح في نهاية المطاف بأنّها حِزَم أو مجموعات من الأفكار؛ فالتفّاحة مجموعة مركّبة من أفكار بصرية (بما فيها: الكيفيات الحسّية للون والشكل البصري) ولمسية وذوقية وعطرية وغيرها.[xii] أمّا مسألة التحرّي عن عمليّة التركيب فهي مسألة فلسفية مهمّة لم يتناولها باركلي بالتفصيل، لكنّه أوضح أنّ هنالك جانبين لعملية تجميع الأفكار في أجسام: (1) الحدوث المتزامن، وهي حقيقة موضوعية تحدّد نوع الأفكار التي تميل إلى الترافق في تجربتنا؛ و(2) شيء نقوم به عندما نقرّر إفراد مجموعة من الأفكار متزامنة الحدوث والإشارة لها باسم محدّد (NTV 109).
وهكذا فعلى الرغم من أنّ باركلي لا يعتقد بوجود عالم مادّي، فإنّه يعتقد بوجود عالم فيزيائي، عالم يتكوّن من أشياء عادية؛ وهذا العالم غير مستقلّ عن الذهن لأنّه يتكوّن من أفكار، ويتكوّن وجوده من إدراكنا الحسّي له؛ فوجود الأفكار، وكذلك وجود العالم الفيزيائي، يعتمد على مقولة (أن توجد يعني أن تُدرَك).
2.1.3. الأرواح باعتبارها جواهر نشيطة
لا يمكن القول، على الرغم ممّا سبق، بأنّ المثالية تستنزف أنطولوجيا باركلي؛ فبالإضافة للمدرَكات (الأفكار)، يقترح أيضًا (المدرِكات)، أي: الأذهان، أو (الأرواح) كم سمّاها في الكثير من المواضع. وهو يؤكّد على أنّ الأرواح تختلف في النوع اختلافًا كلّيًا عن الأفكار، لأنّها فاعلة بينما الأفكار منفعلة. وهذا يوحي بأنّ باركلي قد استعاض عن نوع من أنواع الثنائية (الذهن والمادّة) بنوع آخر (الذهن والفكرة). ويجب أن نتكلّم هنا على هذه النقطة لأنّ باركلي كان يرفض التفصيل في العلاقة بين الأذهان الفاعلة والأفكار المنفعلة؛ ففي كتابه المبادئ (ص49) ثمّة عبارة شهيرة رفض فيها المراوغة بشأن (كيفية) ملازمة الأفكار للذهن (هل الأذهان ملوّنة وممتدّة عندما تكون أمثال هذه الكيفيات المحسوسة “موجودة فيها”؟) فأعلن أنّ «هذه الكيفيات لا توجد في الذهن إلّا بمقدار إدراكه لها، أي: لا بواسطة (وضعية) أو (صفة)، وإنّما بواسطة (الفكرة) وحسب» ومع هذا فإنّ ثنائية باركلي هي ثنائية (ضمن) نطاق الأمور غير المستقلّة عن الذهن.
3.1.3. وجود الإله
يعدّ الإله المكوّن الرئيسي الأخير في أنطولوجيا باركلي، وهو نفسه من الأرواح، لكنّه روح لامتناهية. ويعتقد باركلي بأنّه ما إن ينتهي من إثبات المثالية فسيكون لديه حجّة جديدة ومقنعة لوجود الإله باعتباره علّة الأفكار الحسّية. وهو يتّبع في محاججته طريقة الحذف، فيسأل: ما الذي يتسبّب بأفكاري الحسّية؟ والجواب: ثمّة أسباب يمكن ترشيحها، افتراضًا بأنّ باركلي قد انتهى فعلًا من إثبات عدم وجود المادّة، وهي: (1) أفكار أخرى، (2) أنا، (3) روح أخرى؛ ثم يحذف باركلي الخيار الأوّل وفقًا للمحاججة الآتية (PHK 25):
- (1) الأفكار منفعلة بوضوح، فلا إدراك لوجود قوّة أو فاعلية فيها.
- (2) لكن بالنظر لحالتها غير المستقلّة عن الذهن، لا يمكن للأفكار أن تتّصف بأيّة مميّزات لا يمكن إدراك اتّصافها بها.
- إذن: (3) الأفكار منفعلة، أي: إنّها لا تمتلك أيّة قوّة علّية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المقدّمة (2) قوية جدًّا، وميّزها فيليپ كومينز (Cummins 1990) باسم “فرضية الكيفيات الواضحة” وحاجج بأنّها تلزم باركلي باعتناق رؤية مفادها أنّ الأفكار تعتمد جذريًا وكلّيًّا على المدرِكات على النحو الذي يُنظَر فيه بشكل طبيعي إلى الإحساس باللذّة والألم.[xiii]
والخيار الثاني يُحذَف بملاحظة أنّه على الرغم من أنّني أستطيع التسبّب ببعض الأمور بإرادتي (أفكار التخيّل، مثلًا) فإنّ الأفكار الحسّية لاإرادية، فهي تعرض نفسها سواء شئتُ إدراكها أو أبيتُ، ولا يمكنني التحكّم بمحتواها. وهنا افتراض ضمني مفاده: إنّ أيّ تسبيب يقوم به الذهن لا بدّ أن يتمّ بالإرادة، وهذه الإرادة يجب أن تكون متاحة أمام الوعي. ولا ينفرد باركلي في الافتراض المسبق لهذا النمط الذهني؛ فديكارت، مثلًا، قدّم مجموعة مشابهة من الافتراضات.
بعد ذلك لا يبقى أمامنا سوى الخيار الثالث: إنّ أفكاري الحسّية لا بدّ أن تتسبّب بها روح أخرى. ويعتقد باركلي بأنّنا إذا أخذنا بالحسبان التعقيد المدهش والطابع المنظوماتي لأفكارنا الحسّية فلا بدّ أن نستنتج بأنّ الروح المعنيّة روح تتّصف بالحكمة والخير بلا نهاية، وأنّ هذه الروح، باختصار، هي: الإله.
2.3. ردود على الاعتراضات
إذا انتهينا من المكوّنات الرئيسية لأنطولوجيا باركلي يمكننا البدء بالتفكير في عمل منظومته عبر التعرّف على كيفية ردّه على عدد من الاعتراضات الجديرة بالاعتبار بديهيًا. ولقد لاحظ باركلي نفسه ضرورة هذه الردود وأجاد في التعامل معها، ولذلك جاء معظم متن (المبادئ) على شكل سلسلة من الاعتراضات والردود، وفي (المحاورات الثلاث) نجد أنّه عند انتهاء فيلونوس من تحويل هيلاس إلى مثالي متردّد تمّ تكريس ما بقي من الكتاب لإقناع هيلاس بأنّ هذه الفلسفة تنسجم بشكل جيّد مع الفهم السليم، وعلى الأقل: على نحو أفضل ممّا أمكن للمادّية أن تقدّمه على امتداد مسيرتها.
1.2.3. الأمور الواقعية قبالة الامور المتخيَّلة
إن الاعتراض الأوضح على المثالية ربّما يتمثّل بالقول بأنّها لا تفرّق بين الأمور الواقعية والأمور المتخيّلة، فكلاهما يبدوان كاختلاقات خاطفة من صنع أذهاننا، عوضًا عن ما تبدو عليه الأجسام المتينة وفقًا لرؤية المادّيين. ويردّ باركلي على هذا الاعتراض بالقول بأنّ التمييز بين الأمور الواقعية وبين الأمور المتخيّلة يحافظ على قوّته الكاملة ضمن رؤيته؛ ومن طرق التمييز تلك التي تقترحها حجّته في وجود الإله (ناقشناها فيما سبق): أنّ الأفكار التي تعتمد على إراداتنا البشرية المتناهية ليست مؤهّلة لمنزلة الأمور الواقعية؛ وبهذا تكون اللاإرادية شرطًا ضروريًا لاعتبار الشيء واقعيًا، لكن من الواضح أنّه شرط غير كافٍ لأنّ الهلوسات والأحلام لا تعتمد على إراداتنا لكنّها غير واقعية.
ويلاحظ باركلي هنا أنّ الأفكار التي تشكّل الأمور الواقعية تبدي ما لا تبديه الأمور المتخيّلة من الثبات والحيوية والتميّز؛ لكنّه يشير إلى أنّ الميزة الأكثر حسمًا في هذا المجال هي (النظام)، فالأفكار التي يطبعها خالق الطبيعة كجزء من (طبيعة الأشياء) تحدث بأنماط منتظمة تتبع قوانين الطبيعة، والتي يعرّفها بقوله:
«القواعد المحدّدة أو الأساليب الراسخة، والتي يتّبعها الذهن الذي نعتمد عليه لإطلاق أفكار الحسّ، تُدعى (قوانين الطبيعة)» (PHK 30).
ولذلك فهي منتظمة ومنسجمة، أي: تشكّل عالمًا واقعيًا منسجمًا.
2.2.3. البنى الخفيّة والآليات الداخلية
إنّ الملاحظات المعنية بالانتظام وبقوانين الطبيعة تتبوّأ موقعًا مركزيًا في الإمكانية العملية للمثالية عند باركلي؛ فهي تتيح له الردّ على الاعتراض التالي الذي ورد في (PHK 60):
«سنُطالَب ببيان الغاية التي تخدمها البنية المثيرة للفضول عند النباتات، والآلية الرائعة لأعضاء الحيوانات. ألن تنمو الخضراوات، حينها، وترسل أوراقها وبراعمها، وتؤدّي الحيوانات حركاتها، وكأنّها لا تحتاج كلّ هذا التنوّع في أعضائها الداخلية الذي صُمّم ورُتّب بكلّ هذه العناية، فتصبح أفكارًا ليس فيها عنصر قوي أو فاعل، ولا تمتلك أيّة صلة ضرورية بالتأثيرات التي تعزى لها؟ […] وكيف يمكن لنا أن نفسّر أنّه كلّما أصاب عطل ما ساعاتنا فلا بدّ أن يقابل ذلك اضطراب في انتظام حركاتها، فتتسلّمها يد ماهرة وتصلحها وتعيدها إلى ما كانت عليه؟ والكلام نفسه قد يقال على كلّ الحركة المنتظمة الدقيقة للطبيعة، والتي يتّصف جزء كبير منها بأنّه على قدر مدهش من الخفاء والدقّة يجعل من النادر اكتشافه حتّى لأفضل المجاهر. وباختصار، سيسأل سائل: كيف يمكن الاعتماد على المبادئ المذكورة في إعطاء أيّ تفسير مقبول، أو في عزو أيّة علّة غائية لعدد لا يحصى من الأجسام والآلات المجمّعة بأدقّ المهارات، والتي تعزو لها الفلسفة الشائعة استخدامات معاكسة جدًّا، وتُستخدَم لشرح الكثير من الظاهرات».
ويجيب باركلي على هذا السؤال، وهو يدين بالجواب لماليبرانش،[xiv] بأنّه على الرغم من أنّ الإله يستطيع أن يجعل الساعة تعمل (أي: يحدث فينا أفكارًا لساعة تعمل) من دون أن يكون للساعة أيّة آلية داخلية (أي: دون أن يكون من الصحيح أنّنا إذا فتحنا الساعة فستتكوّن لدينا أفكار حول آليّتها الداخلية)، فلا يمكنه أن يفعل ذلك إذا أراد أن يتصرّف وفقًا لقوانين الطبيعة، والتي وضعها لمنفعتنا، إذا أراد للعالم أن يكون منتظمًا وقابلًا للتنبّؤ. ولهذا فكلّما كانت لدينا أفكار حول ساعة تعمل فسنجد أنّنا إذا فتحناها[xv] سنرى (ستتكوّن لدينا أفكار حول) وجود آلية داخلية مناسبة. وبالمثل، عندما نمتلك أفكارًا حول زهرة توليپ حية، فسنجد أنّنا إذا شرّحناها فسنلاحظ فيها البنية الداخلية المعتادة لهذا النوع من النباتات، أي: الأنسجة الناقلة نفسها، وأعضاء التناسل نفسها، …إلخ.
3.2.3. التفسير العلمي
إن الجواب الذي قدّمه باركلي أعلاه ينطوي ضمنًا على تفسيره المتبصّر للتفسير العلمي وأهداف العلم. ونحتاج هنا إلى إيراد نبذة مختصرة عن خلفية الموضوع لكي يتبيّن السبب الذي جعله يشكّل تحدّيًا خاصًّا في وجه باركلي. إنّ من الطرق التقليدية لفهم العلم، وهي مستمدّة من أرسطو، ما يعتقد بأنّه يهدف إلى تحديد علل الأشياء؛ لكنّ الفلاسفة الطبيعيين المحدثين ضيّقوا نطاق العلم لينحصر بتحديد العلل (الفاعلية)، ولذلك كانوا يعتقدون بأنّه ينبغي على العلم أن يكشف العلل الفاعلية للأشياء والعمليات والأحداث الطبيعية.[xvi] وهذا ما اعتبره باركلي منبع الاعتراض في المبادئ (ص51):
«سابعًا، وفقًا لذلك سيكون هنالك من يطالب بالإجابة على سؤال حول ما إذا كان يبدو من العبث استبعاد العلل الطبيعية وعزو كلّ شيء إلى العمل المباشر للأرواح؟ فعلينا، وفقًا لهذه المبادئ، أن لا نقول بعدها بأنّ (النار تسخِّن) أو (الماء يبرِّد)، بل (الروح تسخِّن) وما شابه. أفلا يحقّ لمن يستمع لمثل هذه الأقوال أن يضحك ممّن يتكلّم على هذا النحو؟ وأنا أجيب: له أن يضحك؛ ففي بعض الأمور يجب على المرء أن (يفكّر مع المتعلّمين، ويتحدّث مع العوامّ)».
فوفقًا لتفسير باركلي: العلّة الحقيقية لأيّة ظاهرة هي روحٌ ما، وفي معظم الحالات هي روح واحدة، أي: الإله.
لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ من الممكن الاعتراض على ما قاله بأنّه لن تفصلنا حينها سوى خطوة واحدة عن هجر كلّ نظرياتنا العلمية والقول بكلّ بساطة بأنّ الإله يسبّب كلّ ما يحدث في العالم الطبيعي! وسيردّ باركلي قبل كلّ شيء بالقول: «يجب على المرء أن يفكّر مع المتعلّمين، ويتحدّث مع العوامّ»، وينصحنا بالاستمرار بالقول بأنّ (النار تسخّن) و(القلب يضخّ الدم) و…إلخ. وتستمدّ نصيحته هذه شرعيتها من أنّه سيتمكّن حينها من إعادة هيكلة مثل هذا الحديث على أنّه يتناول انتظامات في أفكارنا. إذ يعتقد باركلي بأنّ مغزى البحث العلمي هو الكشف عن هذه الانتظامات:
«ولذلك فإذا بحثنا عن الفرق بين الفلاسفة الطبيعيين وغيرهم من الناس، فيما يتعلّق بمعرفتهم بـ(الظاهرات)، فسنجد أنّه لا يكمن في أنّهم أدقّ معرفةً بالعلّة الفاعلية التي تنتجها، فهي لا تنتج إلّا عن (إرادة روح)، بل يكمن الفرق في أنّ الفلاسفة الطبيعيين يتمتّعون بقدر أكبر بكثير من الاستيعاب، وبهذا الاستيعاب يكتشفون في أعمال الطبيعة تناظرات وتناغمات وتوافقات، ويفسّرون التأثيرات الخاصّة باختزالها ضمن قواعد عامّة (راجع القسم 62). وهذه القواعد القائمة على التناظر والاطّراد الملاحظ في إنتاج التأثيرات الطبيعية تحظى بالتوافق الأكبر، ويسعى إليها الذهن؛ وذلك لأنّها توسّع مداركنا إلى ما هو أبعد من الأشياء الحاضرة المجاورة لنا، وتمكّننا من صياغة تخمينات مرجّحة جدًّا تلامس أشياء ربّما حدثت في أزمنة وأمكنة قصيّة، بالإضافة إلى تمكيننا من التنبّؤ بما سيحدث» (PHK 105).
لذلك فالفلاسفة الطبيعيون يهتمّون بالعلامات، لا بالعلل (PHK 108)، لكنّ نتائجهم تحقّق النفع ذاته تمامًا الذي كانت لتحقّقه في ظلّ منظومة مادّية؛ بل إن الانتظامات التي يكتشفونها تقدّم النوع المناسب للعلم من أنواع التفسير، وذلك بجعل الأحداث الخاصّة التي يصنّفونها في فئات أعمّ أحداثًا غير مفاجئة (PHK 104). إذن، فنوع التفسير الملائم للعلم ليس التفسير العلّي، بل الاختزال إلى انتظام.[xvii]
4.2.3. الأجسام غبر المدرَكة .. مقارنة بين ما ورد في (المبادئ) و(المحاورات)
إنّ الانتظام يقدّم أساسًا لأحد ردود باركلي على الاعتراض المختصر بالمقطوعة الشعرية التالية: «قال أحد الفتية: لا بدّ أن الإله يجد من الغريب جدًا أن تكون هنالك شجرة تستمرّ بالحياة على الرغم من عدم وجود أيّ أحد في البستان».[xviii] ومنشأ القلق هنا، بالطبع، هو أنّه إذا كان (أن توجَد هو أن تدرَك) حقًّا (في ما يتعلّق بما ليس بروح) فعندها لن يكون هنالك شجر في البستان عند الساعة الثالثة صباحًا حين لا يتواجد أحد هناك ليقوم بإدراكها، كما أنّه لا يوجد في مكتبي أيّ أثاث حين أغادر وأغلق الباب خلفي.
وممّا يثير الاهتمام أنّ باركلي يبدو أنّه غير قلق نسبيًا من هذا الاعتراض الطبيعي على المثالية، إذا يدّعي بأنّه لن تبرز أيّة مشكلة أمام «أيّ أحد يهتمّ بمعرفة معنى مصطلح (يوجد) عند تطبيقه على المحسوسات. فأنا أقول عن الطاولة التي أكتب عليها أنّها (توجد)، أي: إنّي أراها وأشعر بها؛ وإذا خرجت من مكتبي فسأقول بأنّها (وجدت)، وأعني بذلك أني لو كنت في مكتبي لأدركتها، أو أنّ هنالك روحًا أخرى تدركها فعلًا» (PHK 3).
وعليه، عندما أقول بأنّ مكتبي لا يزال موجودًا بعد مغادرتي للعمل، فربّما أعني أنّني كنت لأدركه لو كنت هناك، أو بعبارة أوسع: أنّ عقلًا متناهيًا كان ليدرك المكتب في الظروف المناسبة (أن يتواجد في مكان عملي، مع إشعال الأضواء، وفتح عينيه، …إلخ). وهذا يقدّم نوعًا من التحليل المعاكس للحقائق للوجود المستمرّ للأجسام غير المدرَكة. وتكمن صدقية القضايا المعاكسة للحقائق في الانتظام: فأنا كان ليكون لديّ فكرة عن المكتب لو كنت في مكان العمل لأنّ الإله يتّبع الأنماط الموضوعة في طريقة تسبّبه بالأفكار.
وممّا يؤسف له أنّ لهذا التحليل عواقب مناقضة للبديهة إذا قرنّاه بمعتقَد (أن يوجد يعني أن يدرَك) (McCracken 1979, 286)؛ فإذا صحّ هذا المعتقد الذي يصرّ عليه باركلي فإنّ المكتب الذي لا يدرَك لا يوجد، على الرغم من الحقيقة القائلة بأنّه (من شأنه) أن يدرَك، ولذلك فـ(من شأنه) أن يوجد إذا فتح أحدهم باب الغرفة. وبالتالي، فالمكتب، وفقًا لهذه الرؤية، لن يستمرّ على حاله دون انقطاع، بل سيدخل حيّز الوجود ويخرج منه فجأة، وإن كان يقوم بذلك على نحو قابل للتنبّؤ تمامًا.
ومن سبل الردّ على مصدر القلق هذا أن نشيح النظر عنه، فما الذي يهمّ في انقطاع المكتب عن الوجود حينما لا يدرَك ما دام يوجد أينما نحتاجه؟ وهنالك علامات تدلّ على أنّ باركلي يتبنّى هذا الموقف في كتابه (المبادئ) (Principles 45–46)، حيث يحاول المحاججة بأنّ خصومه المادّيين وأسلافه السكولائيين يحملون الرؤية نفسها تقريبًا.[xix] إنّ ردّ “من يهتمّ؟” المقدّم لمشكلة الوجود المستمرّ يتمتّع بما يكفي من الصدقية أينما مضى، لكن لا شكّ في أنّه يتضارب مع الفهم السليم، وعليه: فإذا أراد باركلي المضيّ في هذا الطريق فسيتوجّب عليه حينها أن يخفّف من ادّعاءاته بشأن قدرة منظومته على التكيّف مع أيّ شيء يرغب به رجل الشارع.
ومع ذلك، توجد استراتيجية أخرى يقترحها رجوع باركلي في (المبادئ) (PHK 3, 48) إلى “روح أخرى”، وهي استراتيجية تلخّصها المقطوعة الشعرية التالية:
«إنّ تعجّبك نفسه يثير العجب، فأنا في البستان دومًا، ولذلك تستمرّ الشجرة بالوجود، ما دمت أدركها أنا الإله».
فإذا كانت الروح الأخرى المعنية هي الإله، الكائن الحاضر في كلّ مكان، فربّما يمكن استخدام إدراك الإله لضمان وجود مستمرّ تمامًا لكلّ جسم فيزيائي. ونجد باركلي في كتابه المحاورات يلجأ إلى فكرة الإله كما وردت في هذا السياق؛ ومن المثير للانتباه أنّه بينما حاجج باركلي في (المبادئ)، كما رأينا، بأنّه لا بدّ من وجود الإله لـ(يسبّب) فينا أفكار الحسّ، فلقد حاجج في (المحاورات) (3d 212, 214–5)) بأنّ أفكارنا يجب أن (توجد) في الإله عندما لا ندركها.[xx] وإذا كانت أفكارنا توجد في الإله فمن المفترض حينها أن توجد بشكل مستمرّ، بل هي يجب أن توجد بشكل مستمرّ لأنّ العقيدة المسيحية المعيارية تنصّ على أنّ الإله لا يتغيّر.
وعلى الرغم من أنّ ما سبق يقدّم حلًا لإحدى مشكلات باركلي، فإنّه يخلق عدّة مشكلات إضافية؛ وأوّلها: إنّ التزامات باركلي الأخرى، الدينية والفلسفية، تنصّ على أنّ الإله لا يمكنه أن يمتلك أفكارنا قطعًا. فأفكارنا أفكار حسّية، والإله كائن «لا يمكنه أن يعاني من أيّ شيء، ولا أن يتأثّر بأيّ إحساس مؤلم، بل إنّه لا يتأثّر بأي إحساس على الإطلاق» (3D 206). ولا يمكن أيضًا لأفكارنا الحسّية أن تكون نسخًا من أفكار الإله اللاحسّية (McCracken 1979): «كيف يمكن أن يكون ما هو محسوس مشابهًا لما هو غير محسوس؟ هل يمكن لشيء حقيقي هو في نفسه (غير مرئي) أن يكون مشابهًا لأيّ (لون)؟ هل يمكن لشيء حقيقي هو في نفسه (غير مسموع) أن يكون مشابهًا لأيّ (صوت)؟» (3D 206).
وثمّة مشكلة ثانية مفادها: إنّ أفكار الإله أبدية، أمّا الأجسام الفيزيائية فمن طبيعتها أن يكون لها مدّة متناهية. والأسوأ من ذلك: إنّ للإله أفكارًا حول كلّ الأجسام الممكنة (Pitcher 1977, 171–2)، فلا تقتصر على مجرّد الأجسام التي نرغب بأن نقول، وفقًا للفهم السليم، بأنّها موجودة.
هنالك حلّ لهذه المشكلات ذات العلاقة (اقترحه ماكراكين)، ويتمثّل في ربط الوجود المستمرّ للأشياء العادية بإرادة الإله، وليس بفهمه. ويقترح ماكراكين أنّ الأجسام غير المدرَكة تستمر بالوجود ما دام الإله يشاء ذلك. إنّ هذا التفسير المتعلّق بالإرادة والمشيئة الإلهية يبدو أنّه تفسير واعد: فالشجرة لا تستمرّ بالوجود في حالة عدم إدراكها من أيّ أحد إلّا إذا كان لدى الإله إرادة أو نيّة ملائمة تتسبّب بفكرة شجرة لدى مدركين متناهين في ظروف مناسبة.
وعلاوة عليه، إنّ الحلّ المقترح يستند إلى دعم مهم من نصوص باركلي، إذ نجد في (المحاورات) أن هيلاس يتحدّى فيلونوس في تقديم تفسير للخليقة، مع الأخذ بالحسبان رؤية فيلونوس القائلة بأنّ الوجود بأكمله غير مستقلّ عن الذهن، لكنّ كلّ شيء لا بدّ أن يوجد في ذهن الإله بشكل أزلي؛ فيردّ فيلونوس كما يلي: «ألسنا نفهم الخليقة بأنّها تتعلّق بأكملها بالأرواح المتناهية؛ ووفقًا لذلك فلا بأس في القول، من ناحيتنا، بأنّ الأشياء تبدأ وجودها، أو تُخلَق، عندما يشاء الإله أنّها يجب أن تصبح قابلة للإدراك من المخلوقات العاقلة، وذلك وفقًا للنظام والنمط الذي أقامه هو وندعوه اليوم (قوانين الطبيعة)؟ يمكنك أن تدعو هذا الأمر وجودًا (نسبيًا) أو (افتراضيًا) كما تشاء» (3D 253) فهنا يربط باركلي الوجود الحقيقي للكائنات الفيزيائية المخلوقة بمشيئة الإله، أي: بإرادته.
لكنّ هذا التفسير يخفق أيضًا تحت ضغط مبدأ (أن يوجَد يعني أن يُدرَك)، كما هو الحال مع التحليل المنافي للواقع للوجود المستمرّ:
«هيلاس: نعم، فيلونوس؛ إنّني أقرّ بأنّ وجود أيّ شيء محسوس يتكوّن من كونه قابلًا للإدراك، وليس بأن يكون مدرَكًا فعلًا.
فيلونوس: أوليست قابلية الشيء للإدراك سوى فكرة؟ وهل يمكن للفكرة أن توجد دون أن تدرَك حقًّا؟ هاتان نقطتان اتّفقنا عليهما منذ أمد بعيد» (3D 234).
وهكذا، فإذا كان الأساس الوحيد للوجود المستمرّ هو (الإرادات) في ذهن الإله، لا الأشياء المدركة (الأفكار)، فإنّ الأشياء العادية لا توجد بشكل مستمرّ، بل تظهر في الوجود فجأة وتغيب فجأة على نحو مشروع.
ولحسن الحظّ أنّ كينيث وينكلر قدّم تفسيرًا بلغ مدىً بعيدًا في حلّ هذه الصعوبة. إذ يقترح، في الواقع، أنّ نعدّل تفسير “الإرادة” في وجود الأجسام بفرضية دعاها باركلي “إنكار الواسطة العمياء” (Winkler 1989, 207–224). وهذا المبدأ يمكن العثور عليه لدى الكثير من مؤلّفي تلك الحقبة (ومنهم: جون لوك)، وتنصّ على أنّ أيّ إرادة يجب أن تكون وراءها فكرة، أي: يجب أن يكون لها مكوّن إدراكي يوفّر المحتوى للإرادة، والتي لتكون من دونه فارغة أو “عمياء”. وعلى الرغم من أنّ باركلي لم يلجأ إلى هذا المبدأ أو يدافع عنه صراحةً، فإنّه في عدد من المواضع يشير فعلًا إلى الاعتماد المتبادل بين الإرادة والفهم.
ويقدّم وينكلر اقتراحًا معقولًا مفاده أنّ باركلي ربّما وجد بأنّ هذا المبدأ على درجة شديدة من الوضوح لا يحتاج معها إلى أيّة محاججة. وإذا سلّمنا بهذا المبدأ فسيضمن لنا أنّ كلّ ما تشاؤه الإرادة الإلهية يترافق أيضًا مع فكرة إلهية (مثلًا: أن يكون للمدرِكين المتناهين أفكار حول وجود أشجار تفّاح). وعلاوةً عليه، سيكون لدينا حينها تفسير متين لما أشرنا إليه في ما سبق من قفزة باركلي في كتابه (المحاورات)، إذ قفز من الادّعاء بأنّ الإله يجب أن يسبّب أفكارنا إلى الادّعاء بأنّ أفكارنا يجب أن توجد في الإله.
ولا شكّ في أنّه يبقى من الصواب الاعتقاد بأنّ الإله لا يمكن أن تكون له أفكار مشابهة لأفكارنا (بالمعنى الضيّق للعبارة)؛ وهذه مشكلة تتّصل بشكل وثيق بمشكلة أخرى تواجه باركلي: هل يمكن لشخصين أن يدركا الفكرة نفسها؟ إنّ الفهم السليم يقضي بأنّ زيد وعمرو يمكنهما أن يدركا شجرة التفاح نفسها، لكن يبدو أنّ ميتافيزيقا باركلي تقضي بأنّهما في الحقيقة لا يدركان مطلقًا الشيء نفسه، وذلك لأنّ لكلٍّ منهما أفكاره الخاصّة به المميّزة عدديًا. ومن السبل لحلّ هذه الصعوبة هو أن نتذكَر بأنّ الأجسام حزم من الأفكار، فعلى الرغم من أنّه لا يمكن لشخصين أن يدركا (أو تكون لهما) الفكرة نفسها عدديًا، فإنّهما يستطيعان إدراك الجسم نفسه، افتراضًا بأنّ إدراك عنصر من الحزمة يكفي لإدراك الحزمة.[xxi]
وهنالك مقترح آخر (Baxter 1991) يلجأ إلى ما يعتقده باركلي من أنّ “نفسه” لها معنيان في الوقت ذاته: فلسفي وشعبي (3D 247)، وذلك لكي يعلن بأنّ فكرة الشجرة لدى زيد وفكرة الشجرة لدى عمرو متمايزتان تمامًا لكنّهما متماثلتان بالمعنى الواسع للكلمة (الشعبي). ويمكن الاستعانة بأيٍّ من التفسيرين لإثبات: إما أنّ الإله وأنا قد ندرك الجسم نفسه بالمعنى الدقيق للكلمة، وإمّا أنّ الإله وأنا قد ندرك الجسم نفسه بالمعنى الواسع للكلمة.
ومن هذه المناقشة يمكننا أن نخرج بمعيار للوجود الفعلي للأجسام العادية، وهو معيار يلخّص الرؤى التي أخذها باركلي بالحسبان: «يوجد الشيء (س) في الزمان (ز) إذا وفقط إذا كان للإله فكرة تعكس إرادته بأنّه إذا كان هنالك عقل متناهٍ في الزمان (ز) يتمتّع بالظروف المناسبة (مثلًا: في مكان بعينه، أو ينظر بالجهة الصحيحة، أو ينظر من خلال منظار) فسيكون لديه فكرة يمكننا أن ندعوها إدراكًا لـ(س)». وهذا الاقتباس يحتوي الفكرة القائلة بأنّ الوجود يعتمد على إدراكات الإله، لكنّه يحصر هذه الإدراكات بالتي تعكس (أو تندرج في) إرادته المتعلّقة بما ينبغي علينا أن ندركه. ويحتوي هذا الاقتباس أيضًا على حقيقة مفادها أنّ تجميع الأفكار ضمن حزم لتشكّل الأجسام هو عملية نقوم بها نحن.[xxii]
5.2.3. إمكانية الخطأ
ثمّة أمر آخر يدعو للقلق في منظومة باركلي، وهو ينشأ من تفسير الأجسام على أنّها (حزم أفكار).[xxiii] فإذا لم يكن هنالك جسم مستقلّ عن الذهن تُقاس أفكاري على أساسه، بل كانت أفكاري هي من يساعد في تشكيل هذا الجسم، فكيف يمكن حينها لأفكاري أن تخفق بأيّ شكل من الأشكال، أي: كيف يمكن للخطأ أن يكون ممكنًا؟ وإليك طريقة أخرى أعبّر فيها عن مبعث القلق الذي أعنيه: لقد رأينا في ما سبق كيف يحاجج باركلي ضدّ واقعية الفهم السليم ضمن محاولته في (المحاورة الأولى) لهدم: (1) الادّعاءات بأنّ الحرارة والرائحة والمذاق قابلة للتمييز عن اللذة/الألم، و(2) الادّعاء القائل بأنّ للجسم لون حقيقي واحد، وشكل حقيقي واحد، ومذاق حقيقي واحد، …إلخ.
وإذا أخذنا بعدها بالحسبان ما يعنيه هذا ضمنيًّا في ما يخصّ الأجسام الباركلية، فلا بدّ أن نخلص إلى أنّ حبّة الكرز الباركلية تتّصف بأنّها حمراء، وأرجوانية، ورمادية، ولاذعة، وحلوة، وصغيرة، وكبيرة، ولذيذة، ومؤلمة! ويبدو أنّ رغبة باركلي بدحض التمثيلية الآلية التي تنصّ على أنّ الأجسام (لا تشبه) تمامًا تجربتنا لها قد أوصلته إلى الدفع بالمسألة (بعيدًا) عن الفهم السليم ليصل إلى رؤية مفادها أنّ الأجسام (تشبه بالضبط) تجربتنا لها.[xxiv] ولا يمكن أن ننكر أنّ باركلي يفترق هنا عن الفهم السليم، لكنّه يقدّم فعلًا تفسيره للخطأ، كما ورد في (المحاورات):
«هيلاس: ماذا تقول عن هذا؟ إنّك ترى بأنّ الإنسان يحكم على واقعية الأشياء بحواسّه، فكيف يمكن له أن يكون مخطئًا إذا اعتقد بأنّ القمر سطح مستوٍ صافٍ يبلغ قطره قدمًا واحدة تقريبًا، أو إذا اعتقد بأنّ أحد الأبراج المربّعة دائري بعد رؤيته له من بعيد، أو إذا اعتقد بأنّ المجذاف منكسر بعد رؤيته له وهو ينغمس في الماء؟
فيلونوس: إنّه ليس مخطئًا في ما يخصّ الأفكار التي يدركها حقًّا، لكنّه مخطئ في ما يستنتجه من إدراكاته الحسّية الحالية. وعليه، ففي حالة المجذاف يدرك بالرؤية فورًا أنّ المجذاف منكسر حتمًا، وهو مصيب إلى هذا الحدّ، لكنّه مخطئ إذا استنتج بأنّه حين يخرج المجذاف من الماء فسيبدي الانكسار ذاته، أو بأنّه سيلمس هذا الانكسار بيديه؟» (3D 238).
وجريًا على هذا الاستدلال، يمكننا أن نقول بأنّ فكرة (رمادية) لحبّة الكرز، والتي تكوّنت بسبب خفوت الإضاءة، ليست خطأً في ذاتها، وهي تشكّل جزءًا من الجسم-الحزمة تمامًا كما هو حال فكرة (حمراء) المتكوّنة في وضح النهار؛ لكنّني إذا حكمت على حبّة الكرز بأنّها ستبدو رمادية في وضح النهار فسأكون مخطئًا حينها. ويضاف إلى ذلك، اتّباعًا لتوجيه باركلي بالحديث (الشعبي)، أنّه ينبغي عليّ أن لا أقول (في الظروف العادية) بأنّ “حبّة الكرز رمادية” لأنّ هذه العبارة ستوحي حينها بأنّني أعني بأنّ حبّة الكرز تبدو رمادية في عين الإنسان في وضح النهار.
6.2.3. الأرواح والعلّية
لقد أمضينا بعض الوقت ونحن نبحث في الصعوبات التي يواجهها باركلي في قسم “الجسم الفكرة/العادي” الذي يشكّل نصف رؤيته الأنطولوجية؛ لكن يمكن المحاججة بأنّه يواجه في مجال (الأرواح) صعوبات أخرى أقل قابلية للتطويع. إذ يحاول باركلي قبل كلّ شيء أن يستبق المشكّكين المادّيين الذين يعارضونه قائلين بأنّنا لا نمتلك أيّة فكرة عن الروح، فيتولّى بنفسه طرح الحجج المدافعة عن الموقف الذي يعارضونه، فيقول:
«الروح كائن بسيط فاعل لا ينقسم؛ وهو يُدعى (الفهم) لأنّه يدرك الأفكار؛ ويُدعى (الإرادة) لأنّه ينتج الأفكار أو يتحكّم بها. ولذلك لا يمكن أن تتشكّل فكرة عن نفس أو روح، لأنّ كلّ الأفكار بأنواعها، بما أنّها منفعلة وخاملة (راجع القسم 25)، لا يمكنها أن تمثّل لنا من يفعل (بالصورة أو ما شابه). وبقليل من الانتباه يمكن لكلّ شخص أن يلاحظ بوضوح أنّ من المستحيل مطلقًا أن نمتلك فكرة تشبه ذلك المبدأ الفاعل الذي يحكم الحركة وتغيّر الأفكار. فطبيعة (الروح)، أو طبيعة الفاعل، أنّها لا يمكن أن تدرَك بذاتها، بل لا تدرَك إلّا بالتأثيرات التي تنتجها» (PHK 27).
ولا شكّ في أنّ الماديّين سيغريهم هنا اللجوء إلى الشكوى من أنّ الجواهر الروحية غير القابلة للإدراك عند باركلي، والتي تختبئ في الكواليس وتدعم ما يمكن إدراكه، تبدو كثيرة الشبه بالجواهر المادّية التي يشدّد باركلي على رفضها.
وثمة ردّان اثنان مختلفان جدًّا يمكن لباركلي الاستعانة بهما في هذا المجال، ويبدو أنّه استعان بكلٍّ منهما في مرحلة مختلفة من مسيرة تطوّره الفلسفي. والردّ الأوّل هو: رفض الجوهر الروحي على النحو نفسه تمامًا الذي رفض به الجوهر المادّي. وحينها ربّما يمكن فهم الأرواح بطريقة هيوم على أنّها حزم من الأفكار والمشيئات. ومن المدهش أن نرى رؤية مشابهة لهذه قد فكّر بها باركلي في دفاتره الفلسفية المبكّرة (راجع: PC 577ff). أمّا لماذا تخلّى عنها فهو سؤال صعب مثير للاهتمام؛[xxv] ويبدو أنّ ممّا كان يقلقه هو كيفية دمج الفهم والإرادة وجعلهما أمرًا واحدًا.
أمّا الردّ الآخر فهو: تفسير لماذا تكون الجواهر الروحية افتراضًا أفضل من الجواهر المادّية؛ ولهذه الغاية يؤكّد باركلي على أنّنا نمتلك معنًى للروح يتلخّص في القول بأنّنا نعرف ما تعنيه الكلمة، وهذا يتناقض، بزعمه، مع “المادّة” التي يعتقد بأنّها تخلو من أيّ محتوى محدّد. ولا شكّ في أنّ السؤال الحقيقي هو: كيف يمكن لمصطلح “الروح” أن يحمل أيّ محتوى ما دمنا لا نمتلك أيّة فكرة عنه؟ إنّ باركلي لا يعلن في (المبادئ) إلّا أنّنا نعلم الروح من خلال حالتنا، وأنّ المحتوى الذي نعزوه لـ”الروح” مستمدّ من المحتوى الذي يعزوه كلٌّ منّا لـ”أنا” (PHK 139–140). لكنّ باركلي يبدي في (المحاورات) تقديرًا أفضل لقوّة المشكلة التي تواجهه فيقول:
«[هيلاس:] إنّك تقول بأنّ نفسك الخاصّة بك تزوّدك بنوع من الأفكار أو الصور حول الإله؛ لكنّك تعترف في الوقت نفسه بأنّك لا تمتلك، في الحقيقة، أيّة فكرة حول نفسك الخاصّة بك؛ بل إنّك تشدّد على أنّ الأرواح نوع من الكائنات يختلف كلّيًا عن الأفكار؛ وبالتالي فليس هنالك فكرة يمكنها أن تشبه الروح؛ ونستنتج من هذا أنّه ليس هنالك أيّة فكرة حول الروح. لكنّك تعترف على الرغم من ذلك بأنّ هنالك جوهرًا روحيًا، مع أنّك لا تمتلك فكرة حوله؛ وذلك بينما تنكر إمكانية أن يكون هنالك جوهر مادّي لأنّك لا تمتلك أيّ معنى أو فكرة حوله. أوهذا من الإنصاف؟ إنّ التعامل المنسجم يوجب عليك إما أن تعترف بالمادّة وإمّا أن تنكر الروح» (3D 232).
ويردّ فيلونوس على النقطة الرئيسية لهجوم هيلاس بالقول بأنّ كلًّا منّا يمتلك، في حالته الخاصّة به، معرفة بديهية مباشرة حول نفسه، أي: إنّ كلًّا منّا يعلم ذهنه الخاصّ به من خلال التفكّر (3D 231–233). ولا شكّ في أنّ موقف باركلي هذا، أي: القول بأنّنا نطّلع على أنفسنا باعتبارنا أشياء مفكّرة من خلال الإدراك الواعي، هو موقف ناتج عن معرفة بديهية؛ ومع ذلك، فمن المحبط أن نجده يمتنع مطلقًا عن إبداء أيّ ردّ صريح على الطعن الهيومي الذي ناقشه في دفاتره:
«+ الذهن كومة من الإدراكات الحسّية. وإذا أزلتَ الإدراكات الحسّية فستزيل الذهن، وإذا أبقيتَ الإدراكات الحسّية فستبقي الذهن» (PC 580).
وثمّة مشكلة ذات علاقة وثيقة تواجه باركلي، وهي: كيف يمكن فهم القوى العلّية التي يعزوها للأرواح. وفي هذه المشكلة أيضًا نجد دفاتره الفلسفية تقترح رؤية هيومية مفاجئة:
«+ المشكلة البسيطة المدعوّة (قوّة) تبدو باهتة أو معدومة تمامًا، لكنّها ليست كذلك في ما يخصّ العلاقة بين العلّة والأثر. فعندما أسأل: هل يمكن لـ(أ) أن يحرّك (ب)؟ يكون الجواب: إذا كان (أ) شيئًا عاقلًا فالسؤال لا يتعلّق إلّا بما إذا كانت مشيئة (أ) بأن يتحرّك (ب) تتحقّق بحركة (ب)؛ أمّا إذا كان (أ) غير عاقل فالسؤال يتعلّق بما إذا كان اندفاع (أ) باتّجاه (ب) يليه حركة لـ(ب)» (PC 461).[xxvi]
«(S) ماذا تعني العلّة عند تمييزها عن المناسبة؟ إنّها ليست سوى كائن يشاء أن يلي الإرادة أثر. أمّا الأشياء التي تحدث من خارجنا فلسنا علّة لها، ولذلك يجب أن تكون لها علّة أخرى، أي: إنّ هنالك كائن يشاء هذه الإدراكات الحسّية فينا» (PC 499).
«(S) ثمّة فرق بين القوّة والمشيئة: فقد تكون هنالك مشيئة بلا قوّة، لكن لا يمكن أن تكون هنالك قوّة بلا مشيئة. إنّ القوّة توحي بوجود المشيئة، وهي في الوقت نفسه توحي أيضًا بوجود آثار تلي المشيئة» (PC 699).
إنّ المدخل (PC 461) يقترح الرؤية الهيومية القائلة بأنّ العلّة هي كلّ ما يليه أثر (بانتظام).[xxvii] والمدخلان (PC 499) و(PC 699) يعدّلان هذا الاعتقاد بالاشتراط بأنّ العلّة يجب أن لا تسبق الأثر (بانتظام) وحسب بل عليها أيضًا أن تكون مشيئة. وكلام باركلي عن المناسبة هنا يكشف عن تأثّره المباشر بماليبرانش؛ إذ كان ماليبرانش يعتقد بأنّ العلّة الحقيقية الوحيدة هي الإله، وأنّ العلل المتناهية الظاهرة ليست سوى “عللًا مناسباتية”، أي: إنّها توفّر مناسبات يعمل فيها الإله وفقًا لسياسته المشيئية العامّة؛ وعليه، فـ”العلل” المناسباتية تسبق بانتظام “آثارها” لكنّها ليست مسؤولة حقًّا عن إنتاج هذه الآثار. ومع ذلك، يبدو لنا من خلال مداخل الدفاتر الفلسفية أنّ باركلي يقترح أنّ العلّية ليست سوى ذلك التتالي المنتظم، وأوّل حلقة في سلسلة التتالي هذه هي المشيئة؛ وهذا التفسير يجعل، خلافًا لما يراه ماليبرانش، مشيئتي ومشيئة الإله علّتين بالمعنى الضيّق نفسه للكلمة.
ويفترض بعض الشرّاح، وفي مقدّمتهم وينكلر، أنّ باركلي يحافظ على رؤيته هذه في العلّية ضمن مؤلّفاته المنشورة. وتكمن الصعوبة الرئيسية ضمن هذا التفسير في أنّ باركلي يزعم أكثر من مرّة بأنّه يتحرّى فكرتنا حول الجسم، وما تكتنفه من كيفيات حسّية، ويستنتج من هذا التحرّي أنّ الأجسام منفعلة (DM 22, PHK 25). وهذه العملية يمكنها أن تكون معقولة شيئًا ما لو كانت الأجسام، وفقًا لباركلي، تخفق في أن تكون عللًا بالتعريف، لا لشيء إلّا لأنّها ليست أذهانًا لها إرادات.[xxviii] وما نحتاجه هنا هو تفسير لما (يعنيه) باركلي بالفاعلية، والتي يعمد بشكل واضح إلى مساواتها بالقوّة العلّية. ويقدّم لنا وينكلر تفسيرًا مماثلًا (Winkler 1989, 130–1)، والفاعلية وفقًا لهذا التفسير تعني الاتّجاه نحو غاية ما. لكنّ هذا يعني تعريف العلّية الكافية بالعلّية الغائية، وهي نقلة خلافية في أحسن حالاتها، ومن المحتمل أنّ باركلي كان ليقدم على ذلك دون تعليق أو محاججة.
والبديل عن ذلك قد يكون في الافتراض، كما يوحي أحد نصوص باركلي (De Motu 33)، بأنّه يعتقد بأنّنا نكتسب فكرة عن الفاعلية، بالترافق مع فكرة عن الروح باعتبارها جوهرًا، من خلال الوعي التفكّري/الوعي الداخلي:
«إنّنا نشعر بالذهن باعتباره ملكة لتغيير كلّ من حالتنا الخاصّة بنا وحالة الأشياء الأخرى، وهذا ما يُدعى صوابًا بـ(الحيوي)، وهو يضع فرقًا واسعًا بين النفس والأشياء» (DM 33).
وعلى أساس هذا التفسير ربّما يمكن القول بأنّ باركلي قد أقدم مرّة أخرى على التخلّي عن الموقف الهيومي الجذري الذي تعامل معه في دفاتره، على نحو يماثل بوضوح ما فعله في مسألة طبيعة الروح. ولا يمكن للمرء إلّا أن يلجأ للتخمين في البتّ بالأسباب التي دعته لذلك: هل هي في الأساس ذات طابع فلسفي أم لاهوتي أم عملي؟ لكنّ كتابات باركلي لا تتميّز عمومًا بتبجيل المرجعيات، بل على العكس من ذلك،[xxix] ونعلم ذلك ممّا أعلنه بنفسه قائلًا:
«ثمّة ذنب أعلم بأنّني لم أقترفه. إنّني لا أعلّق إيماني على ما يقوله أيٌّ من العظماء. إنّني لا أتصرّف بناءً على الأحكام والافتراضات المسبقة. إنّني لا أتمسك بأيّ رأي لأنّه رأي قديم، أو مأخوذ به، أو راج في عصر ما، أو لأنّني أنفقت الكثير من وقتي في دراسته وتمحيصه» (PC 465).
المراجع
مؤلفات باركلي
الطبعة المعيارة لمؤلفات باركلي
- Berkeley, G. (1948–1957). The Works of George Berkeley, Bishop of Cloyne. A.A. Luce and T.E. Jessop (eds.). London: Thomas Nelson and Sons. 9 vols.
الاختصارات الآتية تُستخدَم في الإشارة إلى مؤلّفات باركلي
PC | “Philosophical Commentaries” | Works 1:9–104 |
NTV | An Essay Towards a New Theory of Vision | Works 1:171–239 |
PHK | Of the Principles of Human Knowledge: Part 1 | Works 2:41–113 |
3D | Three Dialogues between Hylas and Philonous | Works 2:163–263 |
DM | De Motu, or The Principle and Nature of Motion and the Cause of the Communication of Motions, trans. A.A. Luce | Works 4:31–52 |
الإحالات إلى المؤلّفات السابقة تستخدم أرقام الأقسام (أو أرقام المداخل في حالة PC)، إلّا في حالة (3D)، حيث يدلّ الرقم على الصفحة.
وهنالك بالإضافة إلى الطبعة السابقة طبعات مفيدات أخرى، ومنها:
- Berkeley, G. (1944). Philosophical commentaries, generally called the Commonplace book [of] George Berkeley, bishop of Cloyne. A.A. Luce (ed.). London: Thomas Nelson and Sons.
- Berkeley, G. (1975). Philosophical Works; Including the Works on Vision. M. Ayers (ed.). London: Dent.
- Berkeley, G. (1987). George Berkeley’s Manuscript Introduction. B. Belfrage (ed.). Oxford: Doxa.
- Berkeley, G. (1992). De Motu and The Analyst: A Modern Edition with Introductions and Commentary. D. Jesseph (trans. and ed.). Dordrecht: Kluwer Academic Publishers.
وهنالك مجموعة مفيدة للطلبة، تضمّ نصوصًا رئيسية تستعرض خلفية باركلي وأوائل الردود المنتقدة، وهي:
- McCracken, C. J. and I. C. Tipton (eds.), (2000). Berkeley’s Principles and Dialogues: Background Source Materials, Cambridge: Cambridge University Press.
دراسات بيبليوگرافية
- Jessop, T. E. (1973). A bibliography of George Berkeley, by T.E. Jessop. With inventory of Berkeley’s manuscript remains, by A.A. Luce. The Hague: M. Nijhoff.
- Turbayne, C., Ed. (1982). Berkeley: Critical and Interpretive Essays. Minneapolis: University of Minnesota Press. [Contains a bibliography of George Berkeley 1963–1979.]
المصادر المذكورة
- Atherton, M. (1987). “Berkeley’s Anti-Abstractionism.” In Essays on the Philosophy of George Berkeley. E. Sosa (ed.). Dordrecht: D. Reidel, 85–102.
- Atherton, M. (1990). Berkeley’s Revolution in Vision. Ithaca: Cornell University Press.
- Atherton, M., Ed. (1994). Women Philosophers of the Early Modern Period. Indianapolis: Hackett.
- Atherton, M. (1995). “Berkeley Without God.” In Berkeley’s Metaphysics: Structural, Interpretive, and Critical Essays. R. G. Muehlmann (ed.). University Park: Pennsylvania State University Press, 231–248.
- Bennett, J. (1971). Locke, Berkeley, Hume: Central Themes. Oxford: Clarendon Press.
- Bolton, M. B. (1987). “Berkeley’s Objection to Abstract Ideas and Unconceived Objects.” In Essays on the Philosophy of George Berkeley. E. Sosa (ed.). Dordrecht: D. Reidel.
- Bracken, H. M. (1965). The Early Reception of Berkeley’s Immaterialism 1710–1733. The Hague: Martinus Nijhoff.
- Campbell, J. (2002). “Berkeley’s Puzzle.” In Conceivability and Possibility. T. S. Gendler and J. Hawthorne (eds.). Oxford: Oxford University Press, 127–143.
- Chappell, V. (1994). “Locke’s theory of ideas.” In The Cambridge Companion to Locke. V. Chappell (ed.). Cambridge> Cambridge University Press, 26–55.
- Cummins, P. (1990). “Berkeley’s Manifest Qualities Thesis.” Journal of the History of Philosophy, 28: 385–401.
- Downing, L. (2005). “Berkeley’s Natural Philosophy and Philosophy of Science.” In The Cambridge Companion to Berkeley. K. P. Winkler (ed.). Cambridge: Cambridge University Press.
- Fleming, N. (1985). “The Tree in the Quad.” American Philosophical Quarterly, 22: 22–36.
- Gallois, A. (1974). “Berkeley’s Master Argument.” The Philosophical Review, 83: 55–69.
- Jesseph, D. (1993). Berkeley’s Philosophy of Mathematics. Chicago: University of Chicago Press.
- Lennon, T. M. (1988). “Berkeley and the Ineffable.” Synthese, 75: 231–250.
- Locke, J. (1975). An Essay Concerning Human Understanding. Oxford: Clarendon Press.
- Luce, A. A. (1963). The Dialectic of Immaterialism. London: Hodder & Stoughten.
- Malebranche, N. (1980). The Search After Truth. Columbus: The Ohio State University Press.
- McCracken, C. (1979). “What Does Berkeley’s God See in the Quad?” Archiv fur Geschichte der Philosophie, 61: 280–92.
- McCracken, C. J. (1995). “Godless Immaterialism: On Atherton’s Berkeley.” In Berkeley’s Metaphysics: Structural, Interpretive, and Critical Essays. R. G. Muehlmann (ed.). University Park: Pennsylvania State University Press, 249–260.
- McKim, R. (1997–8). “Abstraction and Immaterialism: Recent Interpretations.” Berkeley Newsletter, 15: 1–13.
- Muehlmann, R. G. (1992). Berkeley’s Ontology. Indianapolis: Hackett.
- Nadler, S. (1998). “Doctrines of Explanation in Late Scholasticism and in the Mechanical Philosophy.” In The Cambridge History of Seventeenth-Century Philosophy (Volume 1). D. Garber and M. Ayers (eds.). Cambridge: Cambridge University Press, 513–552.
- Pappas, G. S. (2000). Berkeley’s Thought. Ithaca: Cornell University Press.
- Pitcher, G. (1977). Berkeley. London: Routledge.
- Saidel, E. (1993). “Making Sense of Berkeley’s Challenge.” History of Philosophy Quarterly, 10 (4): 325–339.
- Tipton, I. C. (1974). Berkeley: The Philosophy of Immaterialism. London: Methuen & Co Ltd.
- Wilson, M. D. (1999). Ideas and mechanism: essays on early modern philosophy. Princeton: Princeton University Press.
- Winkler, K. P. (1989). Berkeley: An Interpretation. Oxford: Clarendon Press.
- Winkler, K. P. (2005). The Cambridge Companion to Berkeley. Cambridge: Cambridge University Press.
- Yolton, J. W. (1984). Perceptual Acquaintance from Descartes to Reid. Minneapolis: University of Minnesota Press.
مؤلفات ثانوية إضافية منتقاه
- Berman, D. (1994). George Berkeley: Idealism and the Man. Oxford: Clarendon Press.
- Bettcher, Talia Mae (2007). Berkeley’s Philosophy of Spirit: Consciousness, Ontology and the Elusive Subject. London: Continuum.
- Creery, W. E., Ed. (1991). George Berkeley: Critical Assessments. London: Routledge. 3 vols.
- Daniel, Stephen H., Ed. (2007). Reexamining Berkeley’ Philosophy. Toronto: University of Toronto Press.
- Fogelin, R. J. (2001). Berkeley and the Principles of Human Knowledge. London: Routledge.
- Foster, J. and H. Robinson, Eds. (1985). Essays on Berkeley: A Tercentennial Celebration. Oxford: Clarendon Press.
- Roberts, John Russell (2007). A Metaphysics for the Mob. Oxford: Oxford University Press.
- Stoneham, T. (2002). Berkeley’s World. Oxford: Oxford University Press.
- Urmson, J. O. (1982). Berkeley. Oxford: Oxford University Press.
مصادر أخر على الإنترنت
- George Berkeley (http://www.maths.tcd.ie/~dwilkins/Berkeley/)
يديره ديڤيد ويلكينز (كلية الرياضيات، ترينيتي كوليج، دبلن). ولهذا المصدر فائدة خاصّة في الخلاف حول كتاب (المحلّل)، بالإضافة إلى احتوائه على معلومات عامّة جيّدة أيضًا.
- Images of Berkeley (http://tigger.uic.edu/~hilbert/Images%20of%20Berkeley/Berkeley_Images(frames).html)
يديره ديڤيد هيلبيرت (قسم الفلسفة، جامعة إيلينوي في شيكاگو). ويحتوي هذا المصدر على صور لباركلي، وأشعاره، وسيرة مختصرة.
مداخل ذات صلة
Descartes, René | Hume, David | idealism | Locke, John | Malebranche, Nicolas
[1] Downing, Lisa, “George Berkeley”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2021 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2021/entries/berkeley/>.
[i] يحاجج باركلي أيضًا ضدّ التجريدية في كتابيه (ألسيفرون) و(دفاع عن التفكير الحرّ في الرياضيات) (Berkeley 1948-1957, 3: 292-293, 331-335, 4: 134-5). راجع أيضًا المسوّدة الأولى من (مقدّمة المبادئ) التي تختلف في مناحٍ مهمّة عن النسخة المنشورة (Berkeley 1948-57, 2: 121-145).
[ii] من المفيد ما قام به بعض الشرّاح من التمييز بين أنماط مختلفة متعدّدة للأفكار التجريدية التي هاجمها باركلي. راجع (Pappas 2000, 40-44).
[iii] إنّ الخلاف يحيط بمسألة التحديد الدقيق لمحاججة باركلي ضدّ التجريد والدور الذي تؤدّيه في دعم توجّهه اللامادّي. ويصر كلّ من (Winkler 1989, 30-35) و(Jesseph 1993, 20-33) على أنّ الحجّة الرئيسية التي يطرحها باركلي ضدّ التجريد هي حجّة الاستحالة، وبموجبها تكون الأفكار التجريدية مستحيلة لأنّها ستكون حينها أفكارًا حول أشياء مستحيلة. ومثل هذه الحجّة لا يمكنها أن تؤدّي سوى دور مساعد في الهجوم على المادّية. وهنالك آخرون (منهم: Pappas 2000, Bolton 1987, Atherton 1987, Muehlmann 1992) فسّروا الحجّة بشكل مختلف وعزوا لها دورًا أكثر مركزية. ويقدّم (McKim 1997-8) مراجعة نقدية لعدد من المواقف الحديثة نسبيًا من المسألة.
[iv] بعبارة أدقّ: سألته إليزابيث: «كيف يمكن لنفس الإنسان (بما أنّها ليست سوى جوهر مفكّر) أن تأمر محرّكات الجسد بإنتاج أفعال إرادية؟» (Atherton 1994, 11).
[v] يعود أصل التسمية إلى ما ورد في (Gallois 1974).
[vi] على نحو موازٍ، يمكنني أن أستوعب شيئًا غير مفكَّر فيه معي الآن، على الرغم من أنّ هذا الاستيعاب يوجب عليّ توظيف تمثيل أستوعبه على أنّه معي الآن. وإذا كان باركلي ينكر هذا فسينتهي به المطاف متوحدانيًا (solipsist) وحاضرانيًا (presentist)، وليس مجرّد مثالي، كما لاحظ الكثير من الشرّاح (مثلًا: Tipton 1974, 161).
[vii] يعزو كامبل (Campbell 2002, 128) حجّة مشابهة لباركلي أيضًا.
[viii] هي تفترض التمثيلية مسبقًا لأنّها تفترض أنّنا نواجه الأفكار المستقلّة عن الذهن مباشرة، ثمّ تطرح مسألة ما إذا كان يمكننا استخدامها لاستيعاب ما لم يستوعب من الأجسام المستقلّة عن الذهن.
[ix] يقدّم سايدل (Saidel 1993) مراجعة نافعة ونقدًا لبعض المقاربات المعاصرة للحجّة الأساسية.
[x] ثمّة تحليل مهمّ وتفصيلي لـ”حجّة التعريف” و”الحجّة المستمدّة من النسبية الإدراكية” في (Muehlmann 1992, chapter 5).
[xi] بعبارة أدقّ، إنّ الأجسام، وفقًا للرؤية الميكانيكية ليست ملوّنة على النحو الذي نفترضها عليه بالاعتماد على أفكارنا الحسّية. ومن التفسيرات (اللوكية) للون أنّه مجرّد قوّة تتسبّب بأفكار فينا؛ وعليه: إنّ الأجسام ملوّنة في الحقيقة، وستكون ملوّنة حتّى في حال غياب من يدركها.
[xii] ثمّة رؤية بديلة وفقًا للتفسير (الظاهراتي) للأجسام الباركلية، ويمكن الاطّلاع عليها في (Winkler 1989, 191-203).
[xiii] قارن ذلك مع تفسيرات أكثر واقعية لأفكار باركلي (الأجسام المحسوسة) قدّمها كلّ من (Luce 1963) و(Atherton 1990). ويمكن الرجوع في هذا الموضوع أيضًا إلى (Atherton 1995) و(McCracken 1995).
[xiv] راجع التفسير الخامس عشر من كتاب ماليبرانش (البحث عن الحقيقة) (Malebranche 1980, 657-668).
[xv] لا شكّ في أنّ عبارة “إذا فتحناها” تتطلّب أيضًا توفير شرح يستند إلى المثالية، وهذا الشرح قد يمضي كما يلي: “إذا أوجدنا إرادةً لفتحها، وهذا ما يتطلّب بدوره سلسلة من الأفكار حول تحريك اليد، وفتح الساعة، و…إلخ”.
[xvi] لا شكّ في أنّ هذا القول لا يصدق على المناسباتيين من أمثال ماليبرانش الذي واجه المشكلات نفسها التي واجهها باركلي. ويجب أن نشير أيضًا إلى أنّ هنالك الكثير ممّن رفضوا صراحةً حكم ديكارت بأنّ الفلسفة الطبيعية لا تهتمّ إلّا بالعلّة الفاعلية؛ وعلى سبيل المثال: قطع بويل بأنّها يجب أن تتعلّق بالعلّية الغائية، ممّا يسمح بإشراكها مع اللاهوت الطبيعي، لكنّ عمله كان له تأثير كاسح يتمثّل في توجيه الاهتمام نحو العلل الميكانيكية (التي يُفترَض بأنّها فاعلية). ويؤكّد باركلي، لورعه، على صلة العلل الغائية بالفلسفة الطبيعية في (PHK 107). وللمزيد حول هذه المسائل يمكن الرجوع إلى (Nadler 1998).
[xvii] لتفسير أكثر تفصيلًا، وأدقّ نوعًا ما، يمكن الرجوع إلى (Downing, forthcoming).
[xviii] هذه المقطوعة الشعرية وما يرافقها (تأتيك في ما يلي) يمكن العثور عليها في (Fleming 1985).
[xix] ما يدّعيه باركلي هنا يثير الاهتمام ويدلّ على تبصّره؛ إذ يشدّد على أنّ المادّيين لا بدّ لهم من الاعتقاد بأنّ الأجسام المناسبة للإدراك الحسّي (الضوء والألوان، مثلًا) تدخل حيّز الوجود وتخرج منه فجأة؛ وهو يشير إلى أنّ المعتقد السكولائي، وفقًا لما يراه ماليبرانش، يرى بأنّ المحافظة عليها تصل إلى حد الخلق المتواصل. لكنّنا نجد في الحالتين دواعي واضحة للمحاججة بأنّ هذا المعتقد ينتهك الفهم السليم بشكل أقلّ فداحة ممّا يحصل في اعتقاد المثاليين بالوجود المتقطّع.
[xx] قام جوناثان بارنيت (Bennett 1971, 170) بتحويل هذه الحقيقة إلى قضية أثارت خلافًا بين المختصّين.
[xxi] يتربّص بنا هنا عدد من المسائل الخلافية: فهل يعتقد باركلي بأنّ الأجسام العادية تدرَك بشكل مباشر أو غير مباشر؟ وهل يعتقد باركلي بأنّ الإدراك كلّه مباشر؟ ويمكننا أن نستعين هنا بمرشد مناسب هو جورج پاپاس (Pappas 2000, 147-182) الذي يحاجج بأنّ باركلي يسمح حقًّا بمقولة الإدراك غير المباشر، لكن مع القول بأنّ الأجسام العادية بطبيعتها تدرَك بشكل مباشر.
[xxii] وإن كانت تتمّ على أساس انتظامات أسّسها الإله.
[xxiii] تجد لدى (Wilson 1999, 241) إثارة موفّقة لنسخة من مبعث القلق هذا.
[xxiv] راجع (Wilson 1999, 241, footnote 2) حيث تستشهد بتعليقات نيكولاس ستيرجين لها كمصدر لهذا الرأي.
[xxv] يؤكّد باركلي بصراحة على أنّ الأرواح جواهر في كتابيه (المبادئ) و(المحاورات)؛ لكنّ روبرت ميولمان (Muehlmann 1992, ch. 6) يحاجج بأنّ رؤية باركلي الحقيقية تبقى متمثّلة في تفسير “الكومة” الهيومي، وإن كان يخفي ذلك.
[xxvi] لاحظ أنّ الإشارة المرجعية “+” المرافقة لهذا المدخل تعني عمومًا أنّ باركلي يشير إلى أنّه رفض النقطة المذكورة أو أسقطها من تفكيره.
[xxvii] أهمّية الانتظام غير صريحة في المدخلين، لكن وينكلر (Winkler 1989, 108-9) يحاجج بطريقة مقنعة بأنّ باركلي يعترف بهذه الأهمّية.
[xxviii] يشير تيپتون (Tipton 1974, 307) إلى أنّ هذا التعريف من شأنه أن يكون “نافعًا على نحو مثير للشبهة” إذا أخذنا بالحسبان الغايات التي يسعى إليها باركلي.
[xxix] على الرغم من أنّه يسعد بإيراد أسماء لمؤلّفين مرموقين حين يتّفق مع ما يرون، ويبدو هذا بشكل أخصّ في كتاباته الأخيرة.