مجلة حكمة
آلان توران تورين

حوار مع آلان توران: حول الانتقال من الاجتماعي إلى الثقافي، من ماى 68 إلى الربيع العربي، الطلبة والفاعل الاجتماعي الجديد

الضيفآلان توران
ترجمةمحمد العربي العياري

*بعد نصف قرن من ماى 1968، هل ما زلت تحتفظ بتحليلاتك تلك الفترة، كما يبدو في كتابك “الشيوعية الطوباوية”؟ ثم، ما الذي تبقّى من ماى 1968؟

آلان توران: بعد خمسين سنة، لايزالُ الملفَ بكامله بين يديّ. لا اتخيّل أن أشياءَ ستحدثُ يمكن أن تُجبرنا على مراجعة آرائنا. في تلك الفترة، بعد متاريس الحي اللاتيني، في شارع جي لوساك مثلًا، ظل تأثيرُ الشباب ملحوظًا. وظل الحكمُ الذي أصدره المثقفون، محكومًا بنفس أوجه عدم الفهم. بعد خمسين سنة، أستطيع القول أنّه تكوّن لديّ شعور بأن البعض يعتبرني شخصًا خطرًا وغير جادٍ بسبب تحليلاتي في تلك الفترة للحركة الطلابية. أشدِّد على أن التأثيرَ السياسي لماي 68 يظل معدومًا. كان تأثيرُه الفكري سلبيًا؛ وبالمقابل، فيما يخص الاجتماعي والثقافي كان ولايزال بالغ الأهمية.

يبدو لي بعد أربعٍ وخمسين سنة، أنني سأُصدر نفسَ الحكم عن بيركلي، التي كانت بالفعل نقطة الانطلاق، عام 1964. ألّفت كتابًا عن الحركات الطلابية في الجامعات الأمريكية، وألاحظ أن تأثيرها كان أقوى بكثير فيما بعد بسبب مهرجانِ وودستوك عام 1969، والثقافةِ المضادة لأعوام الستينات. وقد وقع أيضًا 68 أمريكي هام، خصوصًا في جامعة كورنيل وفي المقام الأول في جامعة كولومبيا، حيث لعب صديقُنا إيمانويل فاليرشتاين Immanuel Wallerstein دورًا ملحوظًا، مما أجبره على الذهاب إلى المنفى في تورنتو بكندا. عندما أصبحتُ أستاذًا في بيركلي بعد تلك الفترة، لاحظت أن نصف أساتذة السوسيولوجيا قد غادروا باتجاه قسم العلوم السياسية. لم أتخذ موقفًا بشأن الجانبِ الألماني لأنني لم أتابع كثيرًا ما يحصل في ذلك البلد. لكنني ألاحظ أنه في ألمانيا سرعان ما سحقَت ذكرى تلك الحركة صورةُ عصابة بادر ماينهوف والإرهاب ــ وهي ظاهرةٌ كان لها مع ذلك معادلٌ أمريكي في الويثرمِن weathermen، وكذلك في فرنسا وأكثر في إيطاليا.

كان الأمرُ محكوما دائما بأن تلك الحركات الطلابية قد شكلت ظاهرةً تستحقُ أن يُحكم عليها بصداها العالمي، الذي كان هائلًا. ليس فقط في ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وحتى في المكسيك، التي سأتركها جانبًا هنا، لأن ما حدث هناك شديدُ الاختلاف من الناحية الجوهرية.

فيما بعدُ كتبتُ Un nouveau paradigme -، أبيّن فيه أن الحركاتِ المسمّاة اجتماعيةً قد انتقلت من الاجتماعي صوب الثقافي. إنها ظاهرةٌ كبرى تأكّدت بشكلٍ كبير مؤخرًا. أفكّرُ في الربيع العربي، أو أيضًا في الطلبة التشيليين عام 2011. كان ذلك صحيحًا بالفعل عام 1968، في فرنسا، وعام 1964 في بيركلي. إذا أردناُ تقديمَ منظورٍ تاريخي، لوجب القولُ إن تاريخَ العالم الغربي قد عرف قرنَ السياسي، الذي كان قرن الثورات: 1688 ـ 1789؛ ثم قرنَ الحركة الاجتماعية بالمعني المحدد، الحركة العمالية، في القرن التاسع عشر؛ ثم قرن الثقافي، الذي بدأ على نحوٍ معين قبل الحرب العالمية الأولى بقليلٍ، مع الدادا والسوريالية، وتلاه الجانب الفكري للحركة السوفيتية، ثم لقي ازدهاره الحقيقي مع الحركات الطلابية. هذه الحركاتُ الطلابية حدَّدت حقا دخولَ العالم في حقبةٍ تحكمها رهاناتٌ يمكن تسميتها ثقافيةً.

*إذا لم يكن للحركة وحدةٌ سوسيولوجية وأقل من ذلك وحدةٌ سياسية، فإنها تتطور أيضا بشكلٍ ملحوظ في الزمن.

آلان توران: كنتُ دومًا أُفكّر بإيجابية بخصوص نانتير، وأقل من ذلك بكثيرٍ بصدد السوربون، وسلبيًا تمامًا بصدد الأوديون. لم أُخفِ أبدًا أن إعجابي بكوهن بنديت لأنه ينبع من كونه كان معاديًا بوضوح للشراذم groupuscules. لم تكن حركة 22 مارس شرذمة. كانت «الشراذم» هي التنظيم المفرط للتروتسكيين، أو الماويين. في الأوديون كان الأمر أشبه بحماقاتٍ بالغة التنوّع. لكن في حركة 22 مارس، لم يكن ثمة ضبطٌ سياسي، إدارة سياسية. ماي 68 ليس حدثًا سياسيًا، إنه حدثٌ للثقافة والمخيلة السياسية، يُشير إلى ميولٍ بالغة العمق.

*إذا قارنتُ ما تقوله عن الثورة وما تقوله عن ماي 68 وسنوات الرصاص، فلديك في الحالتين تمثُّل حول سيرورةٍ تاريخية تكون فيها الذروةُ الثقافية في البداية، وبعدها مباشرةً يأتي هدمُ البنية، والأزمة، والعنف، إلخ.

آلان توران: في ماي 68، كان الطلابُ اليساريون هم من يحدِّدون نهايةَ الحركة العمالية؛ لكنهم ردَّدوا تميمات الثورات العمالية. وبنفس الطريقة، إذا أخذت أحداث الربيع العربي، بعدها بزمن طويل، فإن أولئك الطلاب الذين كانت أهميتهم ملحوظة في إقليمهم فإنهم كانوا أمام مخرجٍ زائف بالنسبة للنزعة الجهادية والنزعة القومية السلطوية. يمكن للمرء أن يكون أمام المدِّ التاريخي، إذا تحدثنا من الناحية السوسيولوجية. سيؤدي ذلك إلى تأملات عن التفاوتِ بين ما نسميه الفعل وبين الوعي. وهذا يبرر الاعتراف بأهمية أن تتوفَّر بشكلٍ متوازٍ سوسيولوجيا للعالم الموضوعي، وسوسيولوجيا للعالم الذاتي، أي للفاعلين[المؤدين] الاجتماعيين. كما تبرِّر هذه الحركاتُ الطلابية العبورَ من سوسيولوجيا للأنساق إلى سوسيولوجيا للمؤدين [للفاعلين].

*أنت تستبعدُ فكرة التأثير السياسي، وتصرّ على ذاتيّة المؤدين: هل ترك ذلك أثرًا؟

آلان توران: من يقولون: «لكن ذلك لم يُثمر شيئًا» يرتكبون خطأً جسيما لم يعد يمكن الدفاعُ عنه فيما أظن. فمن بين التصورات التي دخلت بطريقةٍ مختلفة إلى البلدان التي حملت علامة 68، ثمة موضوعان فُرضا بصورةٍ واضحة: أولًا مشكلات الشخصية، الجنسانية، وثانيًا المشكلات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية. لم يكن التأثيرُ الرئيسي للحركة، تجديدًا للحركة العمالية، إذ يمكن القول بأن تلك الحركة قد أُضعِفت منذ عام 1947، بعد القطيعة بين الاشتراكيين والشيوعيين.

*هل هي نهاية الحركة العمالية، أم نهاية الاجتماعي؟

آلان توران: بعد فترةٍ تمحورت على السياسي في حالته الخالصة وبلغت أوجها على يد الاستقلال الأمريكي، فترةٍ محكومةٍ حسب رأيي بتأملٍ في المؤسسات ــ اختراع المحكمة العليا، ومجلس الشيوخ، والقطيعة مع جورج الثالث ــ مررنا بفترةٍ عشتُ فيها جزء كبيرًا من حياتي الشخصية والآن، بعد خمسين سنة، أستطيعُ السماحَ لنفسي بالقول بأنها انتهت. إنها فكرة أن التاريخي، هو الاجتماعي. وهكذا استخدمتُ مؤخرا تعبيراتٍ من قبيل الفترة ما بعد الاجتماعية، وكذلك نهاية المجتمعات، أعتقد أنني كنتُ على حقٍ، لكنه تحوُّلٌ عميق. وأتفهم أن الكثيرين لا يفهمونه بسهولة! إذا كان ثمة ما يُقال عن التغيرات التي عشناها، لقلتُ إننا انتقلنا من تاريخٍ مُقتصِرٍ على مشكلات الناس، وبعبارةٍ أخرى على مشكلات ذكورِ البلدان المتقدمة، إلى توسيعٍ ثلاثي: أولا، صوب مشكلات الطبيعةِ البشرية، مشكلات الحياة، والموت، والجنسانية، والإنجاب، ومن ثم مشكلاتِ وضع النساء، وصوبَ بدايةِ نزاعِات اجتماعيةِ الجنسانية، أي إضعافِ الدور الاجتماعي بالمعنى المحدد للعائلةِ وللزواج. وهذا ما يمنح تيمة المثلية الجنسية أهميةً متزايدة بقوة. ثانيا، صوب مشكلاتٍ جديدة للعمل والتشغيل، لأن مجتمعنا يضفي أهميةً أكبر على الاتصال أكثر من التصنيع. ثالثا، صوب مشكلات نزع الاستعمار، الذي لم يؤدِّ إلى امتداد العمل السياسي الديموقراطي الليبرالي الغربي إلى بقية العالم، بل على العكس. وقد حصلنا مؤخرًا على برهانٍ ضخم مع التحول المتأخرِ لكنه ملحوظٌ بقوةٍ لتوجُّه الهند صوب نزعةٍ قومية سلطوية وليس صوب نظامٍ ما بعد بريطاني على طريقة نهرو، وهو تحولٌ بالغ الأهمية.

حين أقولُ إننا ننتقلُ من الاجتماعي إلى الثقافي، أشيرُ إلى أننا ننتقلُ من كونٍ متمحورٍ حول جزءٍ من العالم وحول جزءٍ من حياة الناس (الاجتماعي) إلى مجموعٍ أوسع يستدعي لغةً كوكبية ما زال يتوجَّبُ العثورُ عليها. يتمثل العملُ الفكري الذي يفرضُ نفسَه في العثور على لغةٍ تتيحُ التحدُّثَ بنفس المصطلحات، لكن بالتفرقة الضرورية، عن المشكلاتٍ الاجتماعية، وعن مشكلاتِ الشخصية، وعن المشكلاتٍ العالمية.

**اليسارية السياسية التي ستزدهر خلال سنواتٍ عديدة، والبنيوية، البالغة القوة بدورها خلال تلك السنوات، هل مثّلتا عقبتين كلّيتين أمام أي تأثيرٍ إيجابي لـ 68، ألم تضعا نهايةً على نحوٍ ما لحقبة رواج سوسيولوجيا العمل والأسئلة الاجتماعية؟

آلان توران: أنت على حقٍ في التحدُّث على هذا النحو. إنه شيءٌ أثر فيَّ دومًا، لأسبابٍ شخصيةٍ جزئيًا. بعد الحرب، وخلال بضع سنواتٍ في كل البلدان، وجدت إعادةُ البناءِ ترجمتَها في اهتمامٍ قويٍ بمشكلات العمل، بالعالم العمَّالي، بالضمان الاجتماعي، بتحولات الحضارة الصناعية. كان جورج فريدمان Georges Friedmann  هو الشخصية العظيمة لتلك السوسيولوجيا الأوروبية، ليس فعليًا de facto فقط بل روحيًا في المقام الأول. هو من يتبعه الجميع. خصوصًا في إيطاليا. وفي فرنسا كان ذلك واضحًا جدًا: فضمن المجموعة المحيطة بفريدمان، كان رولان بارت Roland Barthes ، وميشيل كروزييه Michel Crozier ، وإدجار موران Edgar Morin ، وليس فقط سوسيولوجيو العمل. 

لم يتحدث الألمانُ كثيرًا عن النازية خلال عشرين عاما. ففي عام 1945، ظلّ رئيس مدرسة فرنكفورت، ماكس هوركهايمر Max Horkheimer، في الولايات المتحدة وحصل على الجنسية الأمريكية. أما تيودور أدورنو Theodor Adorno، فقد تجذَّر بأن اكتسب الطابع الجمالي تمامًا وتحوَّل إلى خصمٍ عنيف للحركة الطلابية، التي رفضها بعنف. وتطوّرت الأعمال السوسيولوجية بصورةٍ متأخرة في الدراسات الأدبية.

*ألم يلعب هابرماس Habermas دورًا حاسمًا في ذلك؟

آلان توران: فعلًا، لكن ذلك كان متأخرًا نسبيًا. أنا نفسي شكلتُ جزءًا من اللجنة العلمية لمعهد هابرماس. لكن مع كل الاحترام والصداقة اللذين أكنهما له، فلستُ مُتحمسًا لعمل هابرماس في فترة ما بعد فرانكفورت. فقد انضم إلى جون رولز John Rawls، مثل تشارلز تايلور Charles Taylor، وكان رولز هو من ربح في النهاية مع المؤسسة establishment، هو الرجل الذي، بعد خمسين عامًا، تحدّث عن الديموقراطيةَ الاجتماعيةَ الأوروبية للأمريكيين. كان يمكن للأوروبيين أن يصنعوا ما هو أفضل.

*ما زال 68 ثقافيًا في المقام الأول، لكنه جماعيٌ؟

آلان توران: أودُّ أن أطرحَ السؤال في شكلٍ أكثر تعيُّنا: هل يعني هذا أن القرارات الأساسية سيجري اتخاذُها خارج المؤسسات السياسية؟ سأقول بصراحة إنه سؤالٌ لم يُجِب عليه أيُّ واحدٍ منا. لم يطرح أحدٌ فرضيةً حقيقية حول الأشكال الجديدة للعمل السياسي. الأحزاب ماتت، هذه حقيقة. الديموقراطيون الأمريكيون، حزب العمال الإنجليزي، الحزب الاشتراكي في فرنسا، الحزب الشيوعي أو الجمهوريون في فرنسا كلهم ماتوا. الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني مات.

إننا نستخدمُ جميعًا نفسَ الكلمات: الشبكات، مبادرات المواطنين، إلخ. لكننا عاجزون عن منحها أسماءَ عينيةً اليوم. حين أقول إنه لا توجد حركاتٌ اجتماعية في العالم الأوروبي، فذلك حقيقي. وفي الولايات المتحدة، حدث تجديدٌ معين، مع بيرني ساندرز Bernie Sanders، لكن دعونا لا نبالغ في نفوذه الراهن.

المصدر