مجلة حكمة
ديفيد هيوم

ديفيد هيوم

الكاتبويليام إدوارد موريس، تشارليت براون
ترجمةفاطمة الشملان
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول سيرة ديفيد هيوم وفلسفته الكاملة؛ والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


 

من هو ديفيد هيوم؟

علاوة على اعتباره أحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا بالإنجليزية، اشتهر ديفيد هيوم (1711-1776) في زمانه كمؤرخ وكاتب مقالة. وكأستاذ في أي ضرب من الضروب، تُعد أعماله الفلسفية الكبرى  – رسالة في الطبيعة البشرية (1739-1740) ومبحث في الفاهمة البشرية (1748) وبحث في الأخلاق (1751) علاوة  على محاورات في الدين الطبيعي (1779) المنشور عقب وفاته –  مؤثرة بعمق وبشكل واسع.

وعلى الرغم من اعتبار معاصريه المحافظين كتاباته على أنها أعمال شكوكية وإلحادية، بيد أن تأثيره ظاهر في الفلسفة الأخلاقية والكتابات الاقتصادية لصديقه المقرب آدم سميث. ذكر كانط أن عمل هيوم أيقظه من ” هجيعه الدوغمائي” وعلّق جيريمي بنتهام أن قراءة هيوم “جعلت القشور تسقط”. اعتبر تشارلز داروين عمله تأثيرا محوريا على نظرية التطور. تعكس الدروب المتنوعة التي أخذ بها هؤلاء الكتّاب ما جمعوه من قراءتهم له الغنى في المصادر والمدى الواسع لتجريبيته. يعرف الفلاسفة اليوم هيوم على أنه نصير مغالٍ للفلسفة الطبيعية ومبشر للعلم المعرفي المعاصر وملهم لعدد من أهم أشكال النظريات الأخلاقية الناشئة في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة.


 

1. حياته وأعماله

ولد هيوم في إدنبرة وقضى طفولته في أملاك أسرته المتواضعة في ناينويلز على حدود لولاندز. أتى من “أسرة جيدة” (MOL 2) – لها علاقات اجتماعية جيدة لكنها ليست بالغنية. توفى والده بعد عيد ميلاده الثاني، تاركا إياه وأخيه الأكبر وأخته

في رعاية أمنا، امرأة بشميلة فريدة، والتي على الرغم من صغرها وملاحتها سخرت نفسها تماما لتربية وتعليم أطفالها. (MOL 3)

لاحظت كاثرين فالكنور هيوم أن ديفيد سابق لعمره، ولهذا حين ذهب أخوه الأكبر إلى جامعة إدنبرة رافقه هيوم، على الرغم من كونه في العاشرة أو الحادية عشر. درس هناك اللاتينية والإغريقية، وقرأ بتوسع في التاريخ والأدب والفلسفة القديمة والمعاصرة كما درس بعضا من الرياضيات والفلسفة الطبيعية – ما نسميه الآن العلوم الطبيعية.

هدف التعليم الذي تلقاه هيوم في المنزل والجامعة إلى تدريب الطلبة على حياة القيم المنظمة بكلفانية اسكتلندية صارمة. كانت الصلوات والخطب جوانب بارزة في حياته المنزلية والجامعية. وفي فترة ما، قرأ هيوم واجب الإنسان الكامل، وهو مسار أنجيليكي تعبدي يُفصّل واجباتنا للرب ولإخوتنا البشر ولأنفسنا.

ظنت أسرته بأن الوظيفة القانونية تناسبه، غير أنه وجد القانون “مثيرا للغثيان” مفضلا قراءة الكتب الكلاسيكية خصوصا شيشرون. قرر أن يكون “باحثا وفيلسوفا”، واتبع نظاما صارما من القراءة والتأمل لثلاث سنوات حتى “يبدو أنه فُتحت لي مشاهد جديدة للفكر” (HL 3.2). دفعت الشدة في تطوير رؤيته الفلسفية إلى محنة نفسية في الباحث المنعزل.

عدت المحنة في النهاية، وظل هيوم عازما على صياغة “مشهد الجديد للفكر”. ولكونه الابن ثاني، كان ورثه هزيلا، لذا انتقل إلى فرنسا حيث يمكنه العيش أرخص ليستقر نهاية الأمر في لا فليش، قرية ناعسة في أنجو أشهر ما تُعرف به هي الجامعة اليسوعية حيث درس ديكارت وميرسين قبل قرن. قرأ هناك لمؤلفين فرنسين وأوربيين خاصة مالبرانش ودوبوس وبايل وأحيانا استدرج اليسوعيين في جدالات تهاجم معتقداتهم. في حلول ذلك الوقت، لم يرفض هيوم المعتقدات الدينية التي نشأ عليها فحسب بل عارض الدين المنظم على العموم، معارضة ظلت ثابتة عبر حياته. في 1734، بدأ بكتابة رسالة في الطبيعة البشرية. كان يبلغ حينها ثلاثة وعشرين فقط.

حين عاد هيوم إلى إنجلترا في 1737 ليجهز الـرسالة للنشر. “شوه” نصه عبر حذف نقاش جدلي حول المعجزات و”أجزاء رفيعة” أخرى مداهنة لجوزيف بتلر (1692-1752) (HL 6.2). ظهر الكتاب I “عن الفهم” والكتاب II “عن المشاعر” بشكل مجهول في 1739، وشهدت السنة التي تلتها نشر الكتاب III “عن الأخلاق” وكذلك “خلاصة” الكتاب I و II المجهول.

لم تكن الـرسالة ذات صيت غير أنها لم تسقط “جهيضة النشر” (MOL 6)، كما يصف هيوم بإحباط استقبالها. فبالرغم من حذفه الجراحي، جذبت ما يكفي من ” الدمدمة ضمن المتعصبين” (MOL 6) لإشعال سمعة طيلة حياته بأنه ملحد وشكوكي. إذ حين قدم على كرسي في الأخلاقيات والفلسفة المنطقية في إدنبرة 1745، أثارت سمعته معارضة مسموعة وناجحة في نهاية المطاف. قدم بعدها بست سنوات على كرسي المنطق بغلاسكو ليُرفض ثانية وعليها لم يحظى هيوم قط بتعيين أكاديمي.

قَبِل في 1745 وظيفة كمعلم لشاب من النبلاء، ليكتشف بعدها بأنه مجنون. أصبح بعدها بسنة سكرتيرا لقريبه الفريق جيمس كلير، ليرافقه في النهاية في مهام دبلوماسية ممتدة في النمسا وإيطاليا.

ظهر مبحث في الفاهمة البشرية في 1748 مغطيا الأفكار الرئيسية في كتاب I من الـرسالة ونقاشه عن الحرية والضرورة من كتاب II. كما شمل مادة اقتطعها من الـرسالة. نشر في 1751 بحث في مبادئ الأخلاق “إعادة صياغة” للكتاب III من الـرسالة، الذي وصفه بأنه “الأفضل بلا مقارنة” من بين جميع أعماله (MOL 10). ظهرت مقالات أكثر، الخطابات السياسية، في 1752. كما أظهرت مراسلات هيوم أن مسودة من محاورات في الدين الطبيعي كانت في الطريق هي أيضا ذلك الوقت.

منح عرض وظيفة أمين مكتبة في كلية أدنبرة للمحاماة هيوم الفرصة ليبدأ مشروعا آخرا، تاريخ إنجلترا، مستخدما مصادر مكتبة القانون الممتازة. غدا تاريخ المنشور في ست مجلدات بين 1754 و1762 من أكثر الكتب مبيعا حتى القرن القادم، مانحا إياه الاستقلالية المادية التي لطالما سعى إليها. ولكن حتى كأمين مكتبة، لاحقته سمعته كملحد وشكوكي. دفعت أحد طلباته لكتب “لا تليق” بحركة أخفقت في تشويهه وعزله عن الكنيسة. استماله أصدقائه والناشرون ليُحجم عن بعض من كتاباته الأكثر جدلا حول الدين خلال فترة حياته.

قَبِل في 1763 منصب سكرتير خاص للسفير البريطاني في فرنسا. غدا عبر الثلاث سنوات التي قضاها في باريس سكرتيرا للسفارة وفي النهاية قائما بأعمالها. أصبح بدعة الصالونات الفرنسية، مستمتعا بحوار ومرافقة المثقفين الأوروبيين المشهورين. كان معروفا بحبه للطعام الجيد والنبيذ واستمتاعه على حد سواء باهتمام وجذب مشاعر النساء.

عاد إلى أدنبرة في 1769، بانيا له منزلا في مدينة أدنبرة الجديدة وقاضيا سنوات خريفه بهدوء وراحة محاورا ومتناولا العشاء مع أصحابه الذين لم يكونوا كلهم “دارسين أو قارئين”، إذ اكتشف أن “رفقته لم تكن مرفوضة من الشبيبة واللامبالين” (MOL 21). قضى وقتا معتبرا مراجعا أعماله لطبعات جديدة من مقالات ورسائل التي شملت مقالات مجموعة والـمبحثين وأطروحة عن المشاعر والتاريخ الطبيعي للدين ولكن لم تشمل رسالة عن الطبيعة البشرية.

شُخص في 1775 بسرطان الأمعاء. ورتب قبل وفاته سنة 1776 نشر أكثر أعماله جدلا محاورات في الدين الطبيعي لتُنشر عقب وفاته، كما ألف سيرة ذاتية مختصرة، “حياتي نفسها”. وعلى الرغم من الفضول البالغ عن كيف سيواجه “المارق العظيم” موته، أجمع أصحابه بأنه حضّر له بنفس البهجة الهانئة التي ميزت حياته.

2. العلاقة بين الرسالة والمباحث

فيما كان يقرأ هيوم سنة 1755 نسخة مُراجعة من المقالات والرسائل للطبع، أرسل إلى ناشره “إعلانا”، طالبا منه أن يُشمل في هذه النسخة وأي نسخة لاحقة من أعماله. اشتكى فيها بأن نُقاده ركزوا “كل بطارياتهم” على الـرسالة، “العمل الطفل” والذي نشره بصفة مجهول ولم يعترف به قط. حثّ قراءه على اعتبار الـمباحث “تحوي خلجاته الفلسفية ومبادئه”، مؤكدا لناشره بأنها توفر “الجواب الكامل” لنقاده.

يبعث التنصل الظاهر لهيوم من الـرسالة واعتباره للـمباحث سؤالا عن كيف يتوجب علينا قراءة عمله. أعلينا أن نأخذ أقواله حرفيا ونجعل الـمباحث تعرض ما يعتبره منظوره، أم علينا أن نتجاهل “إعلانه” ونأخذ الـرسالة على أنها أفضل مقولة عن موقفه؟

كلا الخيارين يفترضان أن الفروقات بين الـرسالة والـمباحث جسيمة بما يكفي لتسمح بأخذ واحدة أو الأخرى كأفضل تمثيل لآراء هيوم، لكن ثمة أسباب وجيهة لتشكيك بهذا. حتى في “الإعلان” يقول هيوم؛ ” غالب المبادئ والتعليلات المحوية في هذا المجلد منشورة” في الـرسالة. ويعيد قناعته بأنه كان مذنبا في “الذهاب للنشر قبل الأوان”، وأن الهدف من الـمباحث هو “إعادة صياغته بالكامل تارة أخرى…حيث صوّب بعضا من الإهمال في سابق تعليله وفي تعبيره أكثر.”

يقترح شرح هيوم لأهدافه خيارا آخرا. لعله عوضا عن تنكره للـرسالة تعرض إعادة صياغته تبدلا في الطريقة التي يعرض بها ” المبادئ والتعليلات” عوضا عن تغيرا جذريا فيما يريد قوله. يعزز هذا الخيار حين يقول عن الـمبحث الأول بأن “المبادئ الفلسفية هي نفسها في كليهما” وأن “عبر إيجاز وتبسيط الأسئلة، أنها أسلمها أكثر كمالا بكثير” (HL 73.2). كما يعلق في “حياتي نفسها” أن افتقار الـرسالة للنجاح ” انبثق من الطريقة لا المادة” ــ أي من هيكلتها عوضا عن محتواها (MOL 8). ليس مستنكرا استنتاج أن إعادة صياغة هيوم للـرسالة صُمم للتوجه إلى هذه المسألة، والذي يوعز بأنه قد يكون أفضل ما نفهم به هيوم هو عبر قراءة كلا العملين سوية على الرغم من اختلافهما.

3. مشروع فلسفي

موضوع هيوم كما يزعم عنوان الـرسالة هو الطبيعة البشرية. إذ يوجز مشروعه في عنوانها الفرعي:” محاولة لتقديم المنهج التجريبي على المواضيع الأخلاقية.” كانت تعني كلمة “الأخلاق” في زمنه أي شيء يتعلق بالطبيعة البشرية وليس الأخلاق وحدها، كما يوضحه جليا في بداية الـمبحث الأول حيث يُعرّف “الفلسفة الأخلاقية” على أنها “علم الطبيعة البشرية” (EHU 1.1/5). هدف هيوم هو جلب المنهجية العلمية لترتبط بدراسة الطبيعة البشرية.

أقنعته بداية دراسته للـ “أنظمة” الفلسفية أن الفلسفة كانت في وضع يُرثى له وفي حاجة ماسة للإصلاح. تذمر في رسالة حين كان في الـ 18 فقط بأن أي أحد مطلع على الفلسفة يدرك بأنها متورطة في “نزاعات لا نهاية لها” (HL 3.2). كرر الفلاسفة القدماء الذين كان يركز عليهم الأخطاء التي صنعها الفلاسفة الطبيعيين. قدموا نظريات كانت “افتراضية بالكامل” معتمدين “على الابتكار أكثر من التجربة.” اعترض على أنهم شاوروا خيالهم في بناء رأيهم عن القيم والسعادة ” دون اعتبار الطبيعة البشرية، التي يجب أن يعتمد عليها الاستنتاج الأخلاقي.” خَلُص هيوم إلى تجنب تلك الأخطاء في عمله بجعل الطبيعة البشرية “دراستي الرئيسية والمصدر الذي سأستقي منه كل حقيقة” (HL 3.6).

حتى في تلك المرحلة المبكرة جدا، جذور توجه هيوم الناضج لإصلاح الفلسفة جلية. كان مقتنعا أن الوسيلة الوحيدة لتحسين الفلسفة هو جعل بحث الطبيعة البشرية جوهري وتجريبي (HL 3.2). كانت مشكلة الفلسفة القديمة اعتمادها على “الفرضية” ـ مزاعم مبنية على التخمين والابتكار عوضا عن الخبرة والمراقبة.

غمس هيوم نفسه في أعمال الفلسفة الحديثة في الوقت الذي بدأ به كتابة الـرسالة ثلاث سنوات بعدها، غير أنه وجدها مقلقة خصوصا لكونها اقترفت نفس أخطاء القدماء في حين ادعت تجنبها. يسأل هيوم لماذا لم يتمكن الفلاسفة من إحداث تقدم مذهل في فهم الطبيعة البشرية التي حققها حديثا الفلاسفة الطبيعيون _ من نسميهم الآن “علماء” – في العلوم الطبيعية؟ جوابه هو أنه في حين شفى العلماء أنفسهم من “شغفهم بالفرضيات والأنظمة”، لم يبرئ الفلاسفة بعد من هذا الإغراء. كانت نظرياتهم تخمينية للغاية معتمدة على افتراضات بديهية وأعارت انتباها شحيحا عما عليه الطبيعة البشرية حقيقة. تورط الفلاسفة الحديثون في نزاعات بلا نهاية بدلا من مساعدتنا في فهم أنفسنا جلي حتى على ” الرعاع بلا أبواب”  مانحة “التحامل الشائع ضد التعليلات الميتافيزيقية من كل نوع”، أي “كل نوع من الحجة هي عويصة بكل حال وتتطلب بعضا من التركيز لاستيعابها” (T xiv.3).

يصر هيوم على أننا نحتاج لـ “رفض كل نظام…مهما كان حاذقا وعبقريا إن لم يكن مبنيا على الحقيقة والملاحظة.” تدعي هذه الأنظمة التي تغطي مدى واسعا من الآراء الميتافيزيقية واللاهوتية الحصينة والمؤثرة بأنها تمنحنا معرفة أعمق وأكثر يقينا عن الواقع المطلق. لكن يحاج هيوم بأن في محاولة الذهاب أبعد مما يمكننا اختباره، فإن تلك النظريات الميتافيزيقية تحاول ” اختراق المواضيع بشكل مُتعذر للفهم تمام” EHU 1.11/11)) مما يجعل مزاعمهم بإيجاد ” المبادئ المطلقة” للطبيعة البشرية ليس خطأ فحسب وإنما لا يُعقل. هذه “العلوم الهوائية”، كما يسميها هيوم، لا تملك سوى “الهواء” علما (EHU 1.12/12).

والأسوأ من ذلك، ما هذه الأنظمة الميتافيزيقية إلا ستار ضبابي للـ “الخرافات الشعبية” محاولة إغراقنا بالمخاوف والتحامل الديني (EHU 1.11/11). في بال هيوم عقائد متنوعة في عوز للستار الميتافيزيقي كي تبدو موقرة – حجج عن وجود الرب وخلود الروح وطبيعة العناية الإلهية.

لكنه يصر بأنه على الرغم من أن الأنظمة الميتافيزيقية واللاهوتية بغيضة إلا أن هذا لا يعني بأنه يتوجب علينا التخلي عن الفلسفة. بل يتوجب علينا تقدير ” الحاجة لجلب الحرب إلى أكثر مخابئ العدو سرية.” الطريقة الوحيدة لمقاومة غواية العلوم الزائفة هو في الانخراط بها، مقابلة ” رطانتهم الميتافيزيقة المبهمة” ب ” تعليل دقيق ومنصف” (EHU 1.12/12).

هذا يعني أن المرحلة الأولى من مشروع هيوم نقدية. كما أن جزءا مهما من هذا الجانب بمشروعه هو ” اكتشاف المجال المناسب للمنطق البشري” – تحديد مدى وحدود القوى المنطقية وقدراتها (EHU 1.12/12). يؤمن بأن تحقيقه سيُظهر أن الميتافيزيقيا كمبحث لفهم الطبيعة المطلقة للواقع يتجاوز نطاق المنطق.

ركز الباحثون على هذه المرحلة النقدية على حساب باقي مشروع هيم، معززين تهمة أنه مجرد مشكك سلبي يرفض منظور الآخرين دون أن يدافع عن أي موقف إيجابي. لكن في حين أنه مشكك حقيقة بإمكانية التبصر الميتافيزيقي الذي يذهب أعمق مما يمكن للعلم الذهاب إليه، إلا أن البحث عن المجال المناسب للمنطق ليس نشاطا نقديا فحسب. إذ يفسح نقد للميتافيزيقيا الطريق للمرحلة البنائية من مشروعه – تطوير علم تجريبي للطبيعة البشرية – والذي لا يشكك هيوم البتة في آفاقه.

يُطلق هيوم في “مقدمته” عن الـرسالة المرحلة البنائية لمشروعه عبر طرح ما لا يقل عن ” نظام كامل من العلوم مبني على أساس جديد تماما” (T xvi.6). كلها نشاطات إنسانية، وبالتالي ما يمكننا تحقيقه فيها يعتمد على فهم أي نوع من الأسئلة يمكننا التعامل معها وأي علينا أن نتركها. إذا امتلكنا قبضة أحكم على نطاق وحدود فهمنا وطبيعة أفكارنا والعمليات التي نقوم بمنطقتها فلا يمكننا التكهن بالتحسينات التي قد نصنعها في تلك العلوم.

علينا أن نتوقع تحسينات أكثر في العلوم المرتبطة بقرب أكثر مع دراسة الطبيعة البشرية: “المنطق والأخلاق والنقد والسياسية”. فالعديد من النقاشات الفلسفية المطولة هي حول طبيعة أفكارنا – السببية والحرية والقيم والجمال – لذا من المفترض أن توضيح محتواهم سيساعدنا في البت بتلك “النزاعات المتواصلة.”

إذ أن علم الطبيعة الإنسانية هو الأساس الصلب الوحيد للعلوم الأخرى، “الأساس الصلب الوحيد الذي يمكننا منحه لهذا العلم يجب أن يُصب على التجربة والملاحظة” (T xvi.7). على الرغم من أن هيوم لا يذكره بالاسم، إلا أن نيوتن (1642–1727) بطله. إذ يقبل المأثور النيوتيني ” Hypotheses non fingoوالذي يعني تقريبا “لا أتعاطى الفرضية.“يجب على أي قانون نكتشفة أن يُبنى على الملاحظة والتجربة.

يقترح هيوم بديلا تجريبيا مقابل البداهة الميتافيزيقية التقليدية. إن تجريبيته طبيعانية بأنها ترفض أي سيماء للاستعانة بخوارق الطبيعة لشرح الطبيعة البشرية. يهدف كطبيعاني لاعتبار الطريقة التي تعمل بها عقولنا بوسيلة تتسق مع الصورة النيوتينية عن العالم.

يصور هيوم دراسته العلمية للطبيعة البشرية على أنها نوع من الخريطة الذهنية أو التشريح الذهني (EHU 1.13/13; T 2.1.12.2/326). ففي الجزء الأول من الـمبحث الأول، يقول بأنها تملك مهمتين أساسيتين؛ الأولى وصفية بحتة والثانية تفسيرية. تتألف الخريطة الذهنية في تحديد ” الأجزاء المخصوصة وقوى” الذهن (EHU 1.13/3). فعلى الرغم من أنه يمكن لأي أحد أن يستوعب نوعا ما الفروقات الأساسية ضمن محتويات الذهن وعملياته، إلا أن الفروقات الدقيقة أصعب بالقبض عليها.

بيد أن هيوم يريد الذهاب لأبعد من هذا. يرغب بشرح كيف يعمل الذهن عبر اكتشاف “زنبركه الخفي ومبادئه.” يذكرنا بأن الفلكيون، ولمدة طويلة، كانوا قانعين بإثبات “الحركة والنظام وحجم الاجرام السماوية.” ولكن ذهب فيلسوف بعدها – نيوتن – لأبعد منهم وحدد “القوانين والقوى التي يُحكم بها وتوجه دوران الكواكب” (EHU 1.15/14). قاد مثال نيوتن فلاسفة طبيعيين آخرين لنجاحات تفسيرية مماثلة. يؤمن هيوم بأنه سينجح بالمثل في إيجاد القوانين الأساسية التي تحكم “قوانا الذهنية واقتصادنا”، إذا اتبع نفس الحذر الذي عرضه نيوتن في اكمال تحقيقاته.

توفر منهجية نيوتن لهيوم قالبا لتقديم المنهجية التجريبية في تحقيقه عن الذهن. إذ يقول في مبحث يتعلق بمبادئ الأخلاق بأنه سيتبع “منهجية بسيطة جدا” يعتقد بأنها ستجلب تحولا في دراسة الطبيعة البشرية. يُحاج متبعا مثال نيوتن بأنه علينا ” رفض كل نظام…مهما كان بسيطا أو حاذقا ليس مبنيا على الحقيقة والملاحظة،” وقبول فقط الحجج المستقاة من التجربة. على أن نعتمد حين نبحث عن الطبيعة البشرية، بما أننا نسأل “سؤالا عن الحقيقة وليس علما مجردا”، على التجربة والملاحظة. (EPM 1.10/173–174).

ولكونه فرخ نيوتن في العلوم الأخلاقية، أراد هيوم أن يجد مجموعة من القوانين تفسر كيف محتويات الذهن – الإدراكات، كما يسميها – تذهب وتأتي في الذهن وكيف تجتمع الإدراكات البسيطة لتشكل إدراكات مركبة بطرق تفسر الفكر البشري والاعتقاد والشعور والفعل.

كان إنجاز نيوتن في قابليته على تفسير ظواهر فيزيائية متنوعة ومركبة في بضع مبادئ قانونية. ومثله، اقترح هيوم تفسير “كل التأثيرات بأبسط وأقل الأسباب” (T xvii.8). توقع بأن من المرجح بأنه “يعتمد المبدأ الواحد على آخر” وهذا المبدأ في المقابل يمكن أن يندرج تحت مبدأ آخر “أكثر عمومية وشمولية” (EHU 1.15/15). غير أنه يشدد على أنه في حين سيحاول أن يجد أكثر المبادئ عمومية، مسلما إياهم بأكثر شمولية ممكنة، فإن على كل التفسيرات أن تكون مبنية تماما على التجربة.

على الرغم من أن الفلسفة مؤسسة تجريبية غير أنها نفسها مربوطة بالخبرة، هذا ليس عيبا في علم الطبيعة البشرية. والأمر نفسه على كل العلوم ” لا يمكن لأي منها أن تتجاوز التجربة أو تحقق أي مبدأ ليس مبنيا على تلك المرجعية” (T Intro 10). على التفسيرات أن تنتهي في نقطة ما. حين نرى بأننا “وصلنا إلى أقصى مدى للمنطق الإنساني، نجلس حينها قانعين،” لأن السبب الوحيد الذي نُسلم به أكثر مبادئنا عمومية هو ” تجربتنا بواقعها” (T 9).

هيوم نيوتني بأكثر من المنهجية. إذ يرى بأن نيوتن يختلف اختلافا فارقا عن جون لوك (1632–1704) والفلاسفة الطبيعيين الآخرين للمجتمع الملكي، لأنه يرفض صورتهم الآلية للعلم. إذ أن قانون الجاذبية، أعظم اكتشافات نيوتن، ليس قانونا آليا. يُحاكي هيوم بجلاء فكرة الجاذبية في اعتباره للمبادئ الأساسية لعمليات الذهن – مبادئ الارتباط. يمنح هيوم عبر التماسه نفس المبادئ طوال الوقت تفسيرا لتلك الظواهر المتنوعة التي تمكنه من منح اعتبار موحد واقتصادي للذهن.

4. اعتبار الذهن

لكي يشرح هيوم عمليات عقولنا مع الاقتصاد التي عرضها نيوتن في فيزيائه، قدّم هيوم أقل قدر من المكيانيكية التي يعتقد بضرورية اعتبارها لعمليات الذهن. كل قطعة منها مضمونة بالتجربة.

كانت الحقبة الحديثة الأولى ذروة التحقيق في أفكار السببية والقيّم الخيرة والشريرة وأفكار فلسفية خلافية أخرى عديدة. قَبِل كل فيلسوف حديث نسخة ما من نظرية الأفكار – المنظور الذي ندرك به كيانات ذهنية معينة تدعى الأفكار، لكنها لا تملك ولوجا مباشرا للأغراض المادية. يحمل هيوم نسخة تجريبية للنظرية، لأنه يعتقد بأن كل شيء نؤمن به ملحوق بالنهاية بالتجربة.

يبدأ باعتبار الإدراكات، لأنه يعتقد بأن أي سؤال فلسفي عقلاني لابد أن يُسأل ويُجاب بتلك المصطلحات. يستخدم الإدراك ليُعيّن أي محتوى ذهني أيا يكن، ويقسم الإدراكات إلى فئتين، انطباعات وأفكار.

تشكل الانطباعات الأحاسيس وكذلك الرغبات والشغف والمشاعر. الأفكار هي ” الصور الباهتة لتلك في التفكير والتعليل” (T 1.1.1.1/1). يعتقد بأن الكل سيعرف فارقه هذا، بما أن الكل مدرك واعٍ للفرق بين الشعور والتفكير. إنه الفرق بين الشعور بألم حرق الشمس الحالية وتذكر حرق الشمس السنة الماضية.

يُفرّق هيوم بين نوعين من الانطباعات: انطباعات الإحساس أو الانطباعات الأصلية وانطباعات الانعكاسات  أو الانطباعات الثانوية. تشمل انطباعات الإحساس على المشاعر التي نحصل عليها من حواسنا الخمسة وكذلك الآلام والمتع، والتي تنبع كلها فينا من “الأساس من أسباب مجهولة” (T 1.1.2.1/7). يسميها أصلية لأن محاولة تحديد أسبابها المطلقة قد يأخذنا أبعد مما يمكننا تجربته. على أي مبحث عقلاني أن يتوقف عندها.

تشمل انطباعات الانعكاسات الرغبات والمشاعر والشغف والخلجات. هي في الأساس ردات فعل أو استجابات للأفكار وهذا سبب تسميته لها بـ الثانوية. ذكرياتك عن حرق شمس السنة الماضية أفكار، نسخ أصلية لانطباعات كانت لديك حين حصل حرق الشمس. يسبب لك تذكر تلك الأفكار خوفا بأن تنحرق من الشمس هذه السنة، أن تأمل ألا تنحرق وأن تريد أخذ الاحتياطات لتجنب التعرض للشمس أكثر من اللازم.

يمكن للإدركات أن تكون بسيطة أو مركبة سواء كانت انطباعات أو أفكار. تتكون الانطباعات المركبة من مجموعة من الانطباعات البسيطة. إن انطباعي عن زهرة البنفسج التي التقطتها للتو مركب. فمن بين الطرق التي تؤثر بها على حواسي هو لونها البنفسجي الباهي ورائحتها العذبة. يمكنني التفريق بين لونها ورائحتها عن بقية انطباعات البنفسج. إن لونها ورائحتها انطباعات بسيطة لا يمكن تجزئتها أكثر لأنها لا تملك عناصر جزئية.

يفرق هيوم مبدئيا الانطباعات عن الأفكار بمقتضى درجة القوة والحيوية. الانطباعات أقوى وحيوية أكثر عن الأفكار. إن انطباعي عن لون الحمرة الفاقعة لهذه الطماطم المقطوفة حيوية أكثر ما يمكن للحيوية أن تكون. وطماطم السنة الماضي كانت بالمثل حين نظرت لها، لكن فكرتي الآن عنها أقل حيوية مقارنة بانطباعي عن الطماطم الماثلة أمامي. بما أن طماطم السنة الماضية بنفس اللون فإن الفرق لا يمكن أن يكون في درجة الحمرة؛ لابد أن الفرق ماثل في حدة وسطوع انطباعاتي – أي قوتها وحيويتها. يحاول هيوم في مواضع مختلفة طرقا أخرى لوصف الفرق بين الانطباعات والأفكار بيد أنه لم يكن أبدا قانعا بها. مع هذا، ما يقوله يكفي ليمنحنا حفنة عن الاختلافات المحسوسة بين الانطباعات والأفكار.

يشير هيوم إلى شيء حقيقي في الانطباعات والأفكار واقعيا حين يفرق بينهما من حيث قوتهما وحيوتهما النسبية. في مناسبات معينة، كالأحلام والحرارة العالية، يمكن للأفكار أن تُقارب في القوة والحيوية تلك للانطباعات، ولكن تلك استثناءات تُثبت القاعدة التجريبية. على العموم، الانطباعات والأفكار مختلفان جدا لدرجة لا يمكن لأحد إنكار الفارق.

على الرغم من أنه لا يبدو بأن ثمة شيء أكثر حرية من قوة الفكر التي لا “تتقيد بحدود الطبيعة والواقع” (EHU 2.4/18)، إلا أن هيوم يصر على أن خيالنا في الواقع ” محصور ضمن حدود ضيقة.” يمكننا تجزئة وجمع أفكارنا بطرق جديدة وغريبة حتى، تخيل مخلوقات لم نرها قط أو مجرات بعيدة جدا، بيد أن كل مواد التفكير في النهاية مُستقاة من انطباعاتنا. بما أن “كل أفكارنا أو ادراكاتنا الواهنة نسخ من انطباعاتنا أو تلك الأكثر حيوية؛” نحن محصورون بـ “تجميع أو نقل أو تضخيم أو تقليل المواد التي تمنحها حواسنا وتجربتنا” (EHU 2.5/19).

1.4 مبدأ النسخة

في الـرسالة، يحول هيوم مزعمه إلى أن أفكارنا نسخ من انطباعاتنا، جاعلا من الجلي انطباقها فقط على العلاقة بين الأفكار البسيطة و الانطباعات البسيطة.  يعرض هذا “المقترح العام”، والذي يسميه عادة مبدأ النسخة، على أنه “أول مبدأ… في علم الطبيعة الإنسانية”:

كل أفكارنا البسيطة في أول ظهورها مستقاة من الانطباعات البسيطة المترافقة معها، والتي تمثلها بالضبط. (T 1.1.1.7/4)

يُقدم المبدأ على أنه شيء تؤكده تجربة الجميع، غير أنه يمنح حجة لتحقيقه أيضا.

يُحاج أولا بأن ثمة ترافق (واحد مقابل واحد) بين الأفكار البسيطة والانطباعات البسيطة. لا يمكنه أن يُثبت أن هذا الترافق راسخ على كل شيء، بما أنه لا يمكن اختبار كل انطباع وفكرة. غير أنه واثق جدا بأن الترافق راسخ لدرجة أنه يتحدى أي أحد يُشكك به بأن يُحضر مثالا لانطباع بسيط دون أن ترافقه فكرة بسيطة، أو فكرة بسيطة دون يرافقها انطباع بسيط. وبما أنه متيقن من فشلهم، يستنتج بأن ثمة رابط ثابت بين الانطباعات البسيطة والأفكار البسيطة.

ثانيا، يقضي بأن هذا الرابط الثابت موحد لدرجة ألا يمكن للترافق أن يكون صدفة. لابد من وجود رابط سببي بينهما، لكن هل تُسبب الأفكار الانطباعات أم الانطباعات تُسبب الأفكار؟

أخيرا، يُحاج أن التجربة تُخبرنا أن الانطباعات البسيطة دائما تسبق وبالتالي تُسبب الأفكار المُرافقة لها. ولدعم هذا المزعم، يلتمس نوعين من الحالات. الأولى، إذا ما أردت أن تمنح طفلة فكرة عن طعم الأناناس ستُعطيها قطعة منها لتأكلها. وحين تفعل، أنت تمنحها انطباعا عن طعم الأناناس. لن تفعل العكس مطلقا. أما حالته الأخرى فعن شخص وُلد أكمه، لن تكون لديه أفكار عن الألوان إذ ليس لديه انطباع عنها.

إن مبدأ النسخة نظرية تجريبية، يشدد عليها عبر تقديم “ظاهرة متناقضة” كمثال تجريبي معارض للمبدأ. يتصور شخص يملك نفس التجارب مع الألوان التي يمتلكها غالبنا غير لأنه لم يختبر قط درجة معينة من الأزرق. يعتقد هيوم بأنه لو طلب كل درجات الأزرق التي اختبرها من الأغمق إلى الأفتح، فإنه سيرى على الفور فجوة حيث يجب على الدرجة المفقودة أن توجد. ثم يتساءل

عما إذا كان من الممكن له، من خياله، أن... يطرح لنفسه فكرة تلك الدرجة بعينها، على الرغم من أن حواسه لم تنقلها له؟ أعتقد بأن ثمة رأي قليل لكن موجود بأنه سيتمكن؛ ويمكن أن يخدم هذا كدليل على أن الأفكار البسيطة لا تُستقى دائما من انطباعات مرافقة؛ وعلى الرغم من أن المطروح مخصوص جدا وأوحد إلا أن ندرته تستحق ملاحظتنا، عير أنه لا يستحق أن نغير عمومنا الأكبر له وحده (T 1.1.1.10/6)

يكرر هيوم حالة الدرجة الناقصة حرفيا تقريبا في المبحث الأول. وفي حين أن الباحثين تسائلوا كيف يمكن للشخص بالضبط أن يأتي بالدرجة الناقصة، يبدو بأن هيوم غير مهتم بالتفاصيل. إذ بالنسبة لهيوم، مرة أخرى، الاستثناء يُثبت القاعدة التجريبية.

2.4 اعتبار هيوم للتعريف

على الرغم من أن غالبا ما يُربط نوع التجريبية الفارق لهيوم مع التزامه بمبدأ النسخة، غير أن استخدامه المعكوس للمبدأ في التعريف هو أكثر العناصر ابتكارا في نظامه.

إذ أن تشخيصه للميتافيزيقيا التقليدية يتجلى بحسب اعتقاده في

العائق الرئيس… لتطورنا في الأخلاقيات والعلوم الميتافيزيقية هو غموض الأفكار وضبابية المصطلحات. (EHU 7.1.2/61)

 تستنسخ التعريفات التقليدية – استبدال المصطلحات بمرادفاتها – بكل بساطة الالتباسات الفلسفية ولا تخرج أبدا عن دائرة تعريفية ضيقة. يتطلب توضيح محتوى الأفكار ومعاني المصطلحات التي نبحث فيها شيئا آخرا.

يُحاج هيوم بأن علينا ” المضي من الكلمات إلى موضوع الجدال الحقيقي” – أي الأفكار. يؤمن بأنه وجد طريقة لتحديد محتواها بدقة. يروّج لها على أنها “مجهر جديد أو نوع من البصريات،” متنبئا بأنها ستُنتج نتائجا دراماتيكية في علوم الأخلاقيات مثل نظرياتها من الأجهزة – التليسكوبات والمجاهر- التي أنتجتها الفلسفة الطبيعية (EHU 7.1.4/62).

يستخدم اعتبار هيوم للتعريف سلسلة بسيطة من الاختبارات لتحديد محتوى إدراكي. إبدأ بمصطلح. اسأل أي فكرة أفضت إليه. إن لم يكن ثمة فكرة كتلك، فالمصطلح لا يملك محتوى إدراكيا إذن، مهما تمثلت بجلاء في الفلسفة أو اللاهوت. إذا كان ثمة فكرة أفضت إلى المصطلح، وكانت مركبة، جزئها إلى أفكار بسيطة تُشكلها، وتتبعها إلى انطباعاتها الأولى. إذا فشلت العملية في أي مرحلة، فالفكرة محل التساؤل تفتقر المحتوى الإدراكي. وإن مضت بنجاح فإنها تُنتج “تعريفا عادلا” – اعتبارا محددا لمحتوى الفكرة المؤرقة.

يستخدم هيوم اعتباره للتعريف في المرحلة النقدية من مشروعه ليُظهر أن الكثير من المفاهيم المركزية للميتافيزيقيا التقليدية تفتقر للمحتوى العقلاني. كما يستخدمها في المرحلة البنائية لتحديد معنى مصطلحاتنا وأفكارنا بالضبط.

3.4 مبادئ الارتباط

على الرغم من قدرتنا على تجزئة وجمع أفكارنا البسيطة كما نرغب، إلا أن ثمة نظام مرتب لأفكارنا. لو خطرت لنا الأفكار بعشوائية تامة بحيث كانت أفكارنا كلها ” مهلهلة ومفككة”، فلن نتمكن من التفكير بترابط (T 1.1.4.1/10). يوعز هذا بـ

ثمة رابط سري أو اتحاد ضمن أفكار معينة مما يجعل الذهن يجمعهم بتواتر أكبر، ويجعل الواحدة منها، متى ما ظهرت، تُقدم الأخرى. (Abstract 35)

يشرح هيوم هذا “الرابط أو الاتحاد” بمقتضى قدرة الذهن الطبيعية لـربط أفكار معينة. الارتباط ليس “ارتباطا لا ينفصل” وإنما “قوة ناعمة تسود عادة” عبر أن فكرة تُقدم الأخرى تلقائيا (T 1.1.4.1/10).

يقول هيوم في الـمبحث الأول، بأن وإن من الجلي للكل أن أفكارنا مرتبطة بهذه الطريقة، فإنه أول فيلسوف ” أقدم على تعداد أو تصنيف كل مبادئ الارتباط” (EHU 3.2/24). يعتبر استخدامه ” المبادئ الموحدة” هذه فارقٌ جدا لدرجة أنه يروّج لها على أنها أكثر مساهماته أصالة – مما يسمح له بتسمية نفسه “مبتكر” (Abstract 35).

يتعرف هيوم على ثلاث مبادئ للارتباط: التشابه والتجاور في الزمن والمكان والسببية. حين يُريك أحدهم صورة لصديقتك المقربة، فإنك ستُفكر بطبيعة الحال بها لأن الصورة تشبهها. حين تُذكّر بشيء حصل في الستينيات – التنانير القصيرة مثلا – قد تفكر بحرب فييتنام، لأنهما متجاورين زمنيا. قد يؤدي التفكير بمدينة ساوساليتو إلى التفكير بجسر غولد غيت والذي قد يؤدي بك للتفكير بسان فرانسيسكو بما أنهم متجاورين مكانيا. تعمل السببية من السبب إلى النتيجة ومن النتيجة إلى السبب: قد تجعلك مقابلة والد أحدهم إلى التفكير بابنه، وقد يؤدي مقابلة الابن بأفكار عن أبيه.

السببية هي الأقوى ضمن تلك المبادئ الارتباطية الثلاثة، والوحيدة التي تأخذنا “بعيدا عن حواسنا” (T 1.3.2.3/74). تؤسس روابطا بين تجاربنا الحاضرة والماضية وبين توقعاتنا للمستقبل، بحيث ” يبدو بأن كل التعليلات المتعلقة بأمور الحقيقة مبنية على العلاقة بين السبب والنتيجة” (EHU 4.1.4/26). أخذ الأسبرين في السابق أراحني من الصداع، لذا أتوقع أن الأسبرين الذي أخذته للتو سيريحني قريبا من صداعي الحالي. كما يجعل هيوم من الجلي أن السببية أقلها مفهومية من بين المبادئ الارتباطية، لكنه يخبرنا، “سيُتاح لنا مناسبة بعدها لتمحيصها من القاع” (T 1.1.4.2/11).

المبادئ الارتباطية أصيلة مثل الجاذبية الأرضية، وبالتالي لا يمكن شرحها قدما. فعلى الرغم من أن “تأثيرها جلي في كل مكان”، إلا أن أسبابها “مجهولة بالغالب ولابد أن تعود إلى سمات الطبيعة البشرية الأصلية، والتي يظهر بأني لا أشرحها.” يتحتم علينا وفقا لذلك كبح أي “رغبة مفرطة” بمنح اعتبار أكبر لأي منهم، إذ سيأخذنا هذا الفعل بشكل غير مشروع إلى أبعد من حدود التجربة (T 1.1.4.6/12–13).

لا يحاول هيوم شرح لماذا نربط الأفكار كما نفعل. هو مهتم فقط في تحقيق أننا في الواقع نقوم بربط الأفكار بتلك الطرق. وعلى الرغم من زعمه بأن المبادئ الارتباطية تفسر العمليات المهمة للذهن على أنها تجريبية، إلا أنه يتوجب عليه الاعتراف، كما يفعل في الـمبحث الأول، أنه لا يمكنه اثبات قطعيا أن قائمته من المبادئ الارتباطية مكتملة. لعله غفل عن بعض المبادئ الإضافية. نحن حرين في فحص أفكارنا لتحديد ما إذا التشابه والتجاور والسببية تشرحها بنجاح. كلما زادت الحوادث التي تفسرها المبادئ الارتباطية، كلما زاد اطمئناننا من أن هيوم تعرف على المبادئ الأساسية التي يعمل بها ذهننا.

يختم هيوم في الـخلاصة بأنه سيكون من “السهل إدراك العواقب الجمة لتلك المبادئ على علم الطبيعة البشرية.” بما أنها ” الروابط الوحيدة لأفكارنا، هي حقا لنا  إسمنت الكون ولابد أن لكل عمليات الذهن، بمدى كبير، أن تعتمد عليهم” (Abstract 35). ستغدو ماهية هذه “العواقب الجمة” جلية حين نفحص اعتبارات هيوم الثورية لاستدلالاتنا السببية وأحكامنا الأخلاقية.

5. السببية

حددت توليفة العصور الوسطى لتوما الإكويني (1224-74) – ما بين اللاهوتية المسيحية وعلم أرسطو والميتافيزيقيا – الشروط لبدايات الجدل السببي الحديث. خطّ أرسطو (384–322 قبل الميلاد) فارقا تصنيفيا مطلقا بين المعرفة العلمية (scientia) وبين الاعتقاد (opinion). فالمعرفة العلمية هي معرفة الأسباب والتفسير العلمي المشتمل في العرض – مبرهنا الرابط الضروري بين السبب ونتيجته من ميدان حدسي جلي مستقل عن التجربة.

رأى الفلاسفة الحديثون أنفسهم ثوريين لأنهم رفضوا اعتبار أرسطو للسببية. على الرغم من أنهم قبلوا تفريقه بين المعرفة والاعتقاد، واعتبروا الاستنتاج السببي كممارسة للمنطق، والذي هدف إلى عرض الرابط الضروري بين السبب والنتيجة. كان كلا من مالبرانش (1638-1715) وديكارت الذي لحقه (1596- 1650) متفائلين حول احتمالية المعرفة العلمية العرضية، في حين كان أولئك في التقليد البريطاني التجريبي متشائمين. كان لوك مشككا بما يكفي حول المعرفة التي يمكننا القبض عليها لدرجة أنه بنى أول الاعتبارات عن الاستنباط المحتمل ليُظهر أنه يمكن للاعتقاد أن يستوفي معايير العقلانية التي تجعل من الفلسفة الطبيعية التجريبية محترمة فكريا.

حين يدخل هيوم النقاش، فإنه يترجم التفريق التقليدي بين المعرفة والاعتقاد إلى مصطلحاته الخاصة، مقسما “كل مواضيع المنطق والبحث الإنساني” إلى فئتين حصريتين ومفصلتين: العلاقات بين الأفكار والحقائق.

إن المسائل المتعلقة بـالعلاقات بين الأفكار أكيدة إما حدسيا أو عرضيا. هم معروفين بداهة – مكتشفين باستقلال عن التجربة عبر “عملية التفكير وحدها” ولذا لا يعتمدون على أي شيء موجود في الواقع (EHU 4.1.1/25). فمجموع الزوايا الداخلية لمثلث إقليديسي إلى 180 درجة حقيقة سواء وُجدت أي مثلثات إقليدسية في الطبيعة ام لا. وإنكار تلك المسألة تناقض مثل تناقض القول بأن 8 ضرب 7 = 57.

وفي تباين حاد، تعتمد حقيقة المسائل المتعلقة بالـحقائق على الطريقة التي بها العالم. فعكسها محتمل دائما وإنكارها لا يوعز أبدا للتناقض ولا يمكن تحقيقها عبر العرض. فالتأكيد على أن ميامي شمال بوسطن خطأ ولكن ليس تناقضا. يمكننا فهم ما يقوله شخص يؤكد هذا، حتى لو احترنا في كيف تمكن من الحصول على الحقائق بالدرجة هذه من الخطأ.

غالبا ما يُدعى التفريق بين العلاقات بين الأفكار والحقائق بـ “شوكة هيوم”، مع إيعاز سلبي عادة بأن هيوم قد يكون استثنى بشكل غير مشروع مسائل ذات معنى لا ينطبق عليها أي من الفئتين أو تنطبق عليها كلتيهما.  من المهم كي يُنزع فتيل هذا الاعتراض الأخذ بالاعتبار أن فئتي هيوم ترجمة لتفريق فئوي تصنيفي تقليدي قبله كل معاصريه وخلفائه المباشرين.

تُملي منهجية هيوم استراتيجته في الجدل السببي. يُحاج في المرحلة النقدية أن سابقيه أخطئوا: لا يُحدد “المنطق أو أي عملية فهمية أخرى” استنباطاتنا السببية (EHU 5.1.2/41). ويوفر في المرحلة البنائية بديلا: المبادئ الارتباطية أساسها.

تحتوي الرسالة 1.3.6 في القسم 4 من الـمبحث الأول مساهمات هيوم في المرحلة النقدية للجدل السببي والمعنون بشكل مناسب ” ارتيابات شكوكية حول عمليات الفهم”. في القسم الذي يليه الـمرحلة البنائية في مبحثه والمعنون بشكل مناسب أيضا ” حل شكوكي لتلك الارتيابات”، في حين تمتد الأقسام ذات العلاقة من المبحث من 1.3.7 إلى 1.3.10.

1.5 الاستنباط السببي: المرحلة النقدية

الاستنباطات السببية هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نمضي بها متجاوزين دليل حواسنا وذكرياتنا. نفترض بصنعها أن ثمة رابطا ما بين الحقائق الحالية وما نستنبط منها. لكن ما هو الرابط؟ وكيف يتحقق؟

إذا تحقق الرابط عبر عملية المنطق أو الفهم، لابد أن يتعلق إذن بإما العلاقات بين الأفكار أو الحقائق.

يُحاج هيوم بأنه لا يمكن للرابط أن يتعلق بالعلاقات بين الأفكار. النتائج أحداث مختلفة عن أسبابها، لذا لا يوجد تناقض في إدراك حصول سبب وعدم حصول نتيجته المعتادة. إن أحكامنا السببية مألوفة جدا لدرجة أننا لا نعتبرها؛ إذ تبدو فورية وحدسية. لكن افرض أنك جئت للعالم بالغا مُسلّحا بالعتاد الفكري لأينشتاين. هل ستتمكن من تحديد أنه يمكن لحبة الأسبرين علاج صداعك بمجرد فحصها؟

حين نمنطق البداهة، نعتبر فكرة الموضوع الذي نعتبره سببا بغض النظر عن أي ملاحظات كوناها عنه. لا يمكنه أن يشمل أي موضوع آخر مختلف، بما فيه الموضوع الذي نتخذهكنتيجته المعتادة. لكن لا يمكنها عندها أن ترينا أي “رابط مُلازم ومُصان” – أي رابط ضروري – بين تلك الأفكار. لا ينتج من محاولة منطقة بداهة لفكرتك عن الأسبرين دون اشتمالها لمعلومة عن نتيجته من تجربتك السابقة سوى أفكار بسيطة عن “خصائصه الحسية” – حجمه وشكله ووزنه ولونه ورائحته وطعمه. لا يمنحك أي فكرة عن “قدرات سرية” يمكن أن ينتج عنها تأثيره المعتاد. يخلص هيوم إلى أنه لا يمكن للمنطق البديهي أن يكون أصل الرابط بين أفكارنا عن السبب ونتيجته.  وعلى العكس من مما أعتقد غالب معاصيره ومن أخلفوه مباشرة، لا تتعلق الاستنباطات السببية بالعلاقات بين الأفكار.

ينتقل هيوم الآن إلى الاحتمال الوحيد المتبقي. إذا كانت الاستنباطات السببية لا تشمل منطق بديهي عن العلاقات بين الأفكار، فلابد أنها تتعلق بمسائل الحقائق والتجربة. إذا ما خضنا تجارب عديدة من حدث ما متلازم دائما بآخر، فإننا سنبدأ نفكر بها كسبب ونتيجة ونستنبط الواحدة من الأخرى. ولكن حتى إذا ما خضنا تجارب كثيرة لسبب يُلازمه نتيجته فإن استنباطنا ليست مُحددة بمنطق أو أي عملية أخرى للفهم.

عالج أخذ الأسبرين صداعي في الماضي، لذا أؤمن بأن أخذه سيعالج صداعي الآن. لكن استنباطي مبني الخصائص الحسية السطحية للأسبرين والتي ليس لها علاقة البتة بعلاج الصداع. حتى وإن افترضت أن للأسبرين “قوى سرية” تقول بالعمل الصعب لعلاج صداعي، فلا يمكن لها أن تكون أساس استنباطي بما أن تلك “القوى السرية” مجهولة.

ومع هذا يلاحظ هيوم بأننا “نفترض دائما حين نرى مثل الخصائص المحسوسة بأنها تملك مثل القوى السرية ونتوقع أن النتائج التي ستتبعها ستكون مشابهة لتلك التي جربناها” (EHU 4.2.16/33). بما أننا لا نحدس ولا نستبط بداهة أن للأغراض المتشابهة قوى سرية متشابهة، فلابد أن افتراضنا مبني بطريقة ما على تجربتنا.

بيد أن ماضينا يمنحنا معلومات عن أغراض كما جربناها فقط، وتجربتنا الحاضرة تخبرنا فقط عن الأغراض التي نجربها الآن. غير أن الاستباط السببي لا يُسجل تجاربنا الماضية والحاضرة فحسب، بل يمتد ويستطلع ما جمعناه من تجربتنا للأغراض الأخرى للمستقبل. كيف يمكننا تصور تلك التجارب في المستقبل لأغراض أخرى يمكن أن تكون مشابهة في المظهر فقط لما جربنا في الماضي بما أنه ليس من الضروري أن يكون صحيحا أن الغرض بنفس الخصائص الحسية سيملك نفس القوى السرية التي امتلكتها الأغراض الماضية؟

يعتقد هيوم بإمكانية التعامل مع هذا السؤال عبر اعتبار فرضيتين جليتين في الاختلاف:

  • (1) وجدت أن صداع يختفي دائما عقب أخذي للأسبرين؛

و

  • (2) أخذ أسبرين مشابه لما أخذته في الماضي سيُعالج صداعي الحالي.

لا يوجد شك إطلاقا بأن ” افتراض المرء مستنبط حقا من آخر”، وأنه “دائما مُستنبط”، غير أن الرابط بينهما ليس حدسيا كما يبدو، يتحدانا هيوم بأن نُنتج “سلسلة من التعليل” تأخذنا من فرضيات كتلك في (1) إلى فرضيات كتلك في (2) (EHU 4.2.16/34).

تُلخص (1) تجربتي الماضية في حين تتوقع (2) ما سيحصل في المستقبل القريب. لابد أن تريني سلسلة التعليل أن تجربتي الماضية تتعلق بتجربتي المستقبلية. أحتاج إلى افتراض أو افتراضات إضافية تُحقق الوصلة أو الرابط المناسب بين الماضي والمستقبل، وتأخذني من (1) إلى (2) باستخدام إما منطق مستعرض يتعلق بعلاقات الأفكار أ, منطق محتمل يتعلق بالحقائق.

يعتقد هيوم بأنه من الجلي أن التعليل الاستعراضي لا يُجسّر الهوة بين (1) و(2). وعلى الرغم من عدم احتمالية الأمر، إلا أنه يمكننا دائما أن ندرك عقلانيا تغيرا في المسار الطبيعي. فعلى الرغم من أن الأسبرين أزال صداعي في المرات الماضية، بيد ألا يوجد تناقض في افتراض أنه لن يزيل الذي أعاني منه الآن، وبالتالي افتراض تغير في المسار الطبيعي لا يمكن أن يثبت خطؤه بأي منطق يتعلق بعلاقات الأفكار.

يترك هذا التعليل المحتمل. يحاج هيوم بعدم وجود تعليل محتمل قادر على توفير استنباط محكم من الماضي إلى المستقبل. وأي محاولات لاستنباط (2) من (1) عبر استنباط محتمل سيكون في دائرة مفرغة – سيكون افتراض ما نحاول إثباته.

يوضح هيوم دائرته بهذه الطريقة. لابد أن يوظف أي منطق يأخذنا من (1) إلى (2) شيئا من مبدأ الارتباط الذي يربط الماضي مع المستقبل. بما أن شيئا واحد هو الذي يجعلنا نتحرك مباشرة من الماضي إلى المستقبل وهو احتمالية أن المسار الطبيعي قد يتغير، يبدو من المعقول الاعتقاد أن مبدأ الارتباط الذي نحتاجه سيكون ما يضمن لنا أن الطبيعة موحدة – لن يتغير المسار الطبيعي – مبدأ الوحدة هذا:

  • ] فوق [ سيكون المستقبل مثل الماضي.

سيسمح تبني ] فوق [ لنا حتما الذهاب من (1) إلى (2). ولكن قبل أن نستخدمه لتحقيق أن استنباطاتنا السببية مُحددة بالمنطق، علينا تحديد الأساس لتبنينا له. من الواضح أن ] فوق [ ليس حدسي ولا استعراضي، كما أوضح هيوم بجلاء، وبالتالي يمكن للحجج المحتلمة أن تحققه فقط. ولكن محاولة تحقيق ] فوق[ بهذه الطريقة سيكون عبر محاولة تحقيق حجج محتملة باستخدام حجج محتملة والتي ستشمل في النهاية ] فوق[  نفسه.

استنفد هيوم في هذه النقطة طرق المنطق الذي يمكن بها تحقيق رابط بين السبب والنتيجة. يؤكد لنا أنه يوفر “شكوكه الارتيابية” ليس كـ “تحبيط وإنما كتحفيز… لمحاولة شيء أكثر اكتمالا وإرضاء.” بعد أن أفسح هيوم الطريق لاعتباره البنائي، هو الأن جاهز لفعل هذا تحديدا.

2.5 الاستنباط السببي: المرحلة البنائية

يسمي هيوم اعتباره البنائي للاستنباط السببي “حل شكوكي” للـ “شكوك الارتيابية” التي طرحها في المرحلة النقدية من حجته.

بما أننا مصممين – مُسَبَبين – على صنع استنباطات سببية، إذن إذا لم تكن “محددة بمنطق” فلا بد من وجود “مبدأ ما مساوي في الثقل والمرجعية” يقودنا إلى صنعها. يقضي هيوم بأن هذا المبدأ هو العادة أو الطبع:

متى ما أثمر عن أي تكرار لفعل معين أو عملية نزعة لتجديد نفس الفعل أو العملية…فإننا دائما نقول بأن هذه النزعة نتيجة العادة. (EHU 5.1.5/43)

وبالتالي فإن العادة وليس المنطق ما “يحدد للذهن.. افتراض مستقبل يستريح للماضي” (Abstract 16).. ولكن حتى وإن حددنا المبدأ، فمن المهم رؤية أنه ليس مبدأ جديدا يعمل به ذهننا. العادة والطبع أسماء عامة لمبادئ الارتباط.

يصف هيوم عمليتهما كعملية سببية: العادة أو الطبع سبب لنزعة ما تشكلها بعد أن كررت تجارب للارتباط الثابت بين الدخان والنار. السببية هي المبدأ العملي الارتباطي هنا، بما أنها الوحيدة من تلك المبادئ التي يمكنها أن تأخذنا أبعد من حواسنا وذكرياتنا.

يخلص هيوم إلى أن العادة وحدها “تجعلنا نتوقع للمستقبل، قطارا مشابها من الأحداث التي ظهرت في الماضي” (EHU 5.1.6/44). وبالتالي تظهر العادة لتكون مصدر مبدأ الوحدة – الاعتقاد بأن المستقبل سيكون مثل الماضي.

3.5 الإيمان

لا يقودنا الاستنباط السببي لإدراك النتيجة فحسب وإنما توقعها أيضا. حين أتوقع أن الأسبرين سيريح صداعي، فأنا لا اعتبر بتجرد فكرة علاج الصداع وإنما أؤمن أن الأسبرين سيريحه. ماذا الذي يشمله الإيمان بأن الأسبرين سيريح صداعي أكثر من مجرد إدراكي بأنه سيفعل؟

لا يمكن أن يكون للإيمان بعض الأفكار الإضافية – لعلها فكرة الإيمان – التي تفتقرها الإدراكات. إن كان ثمة بعض الأفكار كهذه، بمقتضى قدرتنا على جمع الأفكار بحرية، فإننا نقدر عبر الإرادة ببساطة أن نضيف تلك الفكرة لأي مفهوم مهما كان، ونؤمن بما نود.

يخلص هيوم إلى أنه يجب للإيمان أن يكون عاطفة أو شعور انبثق فينا مستقلا عن إرادتنا، والذي يترافق مع تلك الأفكار التي تشكلها. إنها طريقة معينة أو طريقة لإدراك فكرة موّلدة من الظروف التي نجد أنفسنا فيها.

إذا كان الترافقات الثابتةهي كل ما هو مشمول، فإن أفكاري عن الأسبرين والصداع ستكون افتراضية فقط. إذ كي يحصل الإيمان، لابد من أن يكون أحد المواضيع المترافقة حاضرا في حواسي أو ذكرياتي؛ لابد أن أكون آخذا للأسبرين أو أخذته للتو. ففي تلك الظروف، يكون الإيمان بأن صداعي سيزول لا يمكن تفاديه كشعور عاطفي لصديق مقرب أو الغضب حين أحدهم يؤذينا. ” كل تلك العمليات هي أنواع للحدس الطبيعي، التي لا يكون المنطق قادرا على إنتاجها أومنعها” (EHU 5.1.8/46–47).

وفي حين يعتقد هيوم أن تعريف هذه العاطفة مستحيل، يمكننا وصف الإيمان ولو بالمعرفة فقط، على الرغم من أنه لم يكن راضيا تماما بمحاولاته لفعل هذا. الإيمان مفهوم حيوي وعميق وزاهي وراسخ وحاد عن الغرض. يعزم هيوم أن تتجاوز هذه الخصائص مجرد تسجيل حدة الشعور للقبض على كيف الإيمان

يُسلّم  الوقائع… أكثر حضورا لنا عن الخيالات، مما يجعلها أهم في الفكر ويمنحها تأثيرا أعلى على العواطف والخيال. (EHU 5.2.12/49)

لكن كيف لفكرة ان تُدرك بالطريقة التي تُشكّل إيمانا؟

يقضي شرح هيوم بأنني أعتاد على أن الأسبرين يريح صداعي، فأخلق نزعة إلى توقع أن علاج الصداع سيعقب أخذ الأسبرين. هذا النزوع جراء تشكل رابط بأن تجربتي المتكررة لأخذ الأسبرين وعلاج الصداع. انطباعاتي الحالية لأخذ الأسبرين هي بنفس قوة وحيوية أي شيء آخر، وتنتقل بعضا من قواها وحيويتها عبر الدرب الرابط لفكرة علاج الصداع ومعايشتها بقوة كافية لتمنحها “القوة والتضامن” التي تشكل الإيمان.

بما أنني لا أعرف كيف يعالج الأسبرين الصداع، فمن حسن الحظ أن ثمة “نوع من الانسجام المتحقق مسبقا بين المسار الطبيعي وتعاقب أفكارنا” الذي يعلمني أخذ الأسبرين حين أصاب بالصداع. يقضي هيوم بأن العادة لغة دفعت وتأثرت بداروين،

هي المبدأ الذي تأثر به هذا التواصل؛ وهو ضروري جدا لبقاء نوعنا وتنظيم سلوكنا في كل ظرف من حياة الإنسان. (EHU 5.2.21/55)

يخلص هيوم بأنه من الأفضل بكثير الاعتماد على “الحكمة العادية للطبيعة”، التي تضمن بأننا نشكل الإيمان “بحدس ما أو نزعة آلية”، عوضا عن ائتمانها إلى “الاقتطاع الخاطئ لمنطقنا” (EHU 5.2.22/55).

وعبر المضي في مشروعه لتوفير اعتبار طبيعي لكيفية عمل الذهن، منح هيوم شروحات تجريبية لنزعاتنا لصنع استنباطات سببية والطريقة التي تؤدي بها تلك الاستنباطات إلى الإيمان.

6. فكرة الرابط الضروري

يدور جدل السببية الحديث حول عائلة من الأفكار الرئيسية “مترادفة تقريبا”، أكثرها بروزا هي الأفكار حول القوة و الرابط الضروري. فبالنسبة لهيوم، ” لا توجد أفكار أكثر غموضا وشكا من تلك التي تحصل في الميتافيزيقيا”. يستعرض الاستخدامات الحاسمة والبنّائة لاعتبار التعريف عنده فيما يحاول ” تثبيت… المعنى الدقيق لتلك المصطلحات”، من أجل ” إزاحة جزءا من الغموض الذي يُنتقد كثيرا في هذا النوع من الفلسفة” (EHU 7.1.3/61–62).

1.6 الرابط الضروري: المرحلة النقدية

نحتاج لاستيضاح فكرة القوة أو الرابط الضروري أن نحدد الانطباعات التي هي مصدرها. يُعرّف هيوم ثلاث مصادر محتملة في أعمال سابقيه: اعتقد لوك بأننا نحصل على أفكارنا عن القوة ثانويا من انطباعات خارجية لتفاعل الأغراض المادية وأوليا من الانطباعات الداخلية لقدرتنا على تحريك أجسادنا كي تعتبر الأفكار. في حين حاج مالبرانش أن ما نتخذها على أنها أسباب لحركة الأجساد أو النشاط الذهني ليست أسبابا على الإطلاق. إنما هي مناسبات للرب فقط، المصدر الأوحد للرابط الضروري للفعل في العالم. رفض هيوم كل الاحتمالات الثلاثة.

يحاج هيوم أنه لا يمكن لأفكار القوة أن تنبثق من  الانطباعات الخارجية لتفاعلات الأجساد. حين نرى حركة كرة البيليلردو تتبع الأخرى فإننا نشهد اقترانها وليس ارتباطها.

ولا يساعد الالتفات إلى الانطباعات الداخلية لعمليات عقولنا. بالرغم من أن الحركات الإرادية الجسدية تتبع إرادتنا بحصول تلك التحركات، تلك حقيقة تعلمتها عبر التجربة، وليس من انطباع داخلي ما لإرادتي. ولكن ليس لدي أدنى فكرة كيف حصل هذا. وإن كنت مدركا لقوة إرادتي لتحريك أصابعي، فإني لا أعلم كيف اشتغلت ولا حدودها.

لا تمنحنا قدرتنا على التحكم بأفكارنا انطباعا عن القوة كذلك. لا نملك أدنى فكرة عن كيف نستحضر أفكارنا. إن أمرنا عليها محدود ومتباين من وقت لوقت. نعرف عن تلك المحدوديات والتباينات عبر التجربة فقط، ولكن الآليات التي تعمل بها مجهولة وغير مُدركة لنا. إذا ما قررت التفكير بإسطانبول، فإن فكرتي عن تلك المدينة ستحضر في ذهني ولكني أختبر فقط تعاقب قراري متبوعا بحضور الفكرة، وليس القوة نفسها.

حين لا يستطيع الأناس العاديون تحديد سبب حدث ما، فإنهم يعزونه إلى “مبدأ عقلاني مخفي” ما. مالبرانش وعرضيون آخرون يفعلون الشيء ذاته، عدا أنهم يطبقونه على كل شيء. الأسباب الحقيقية ليست قوى في العالم المادي أو في العقول البشرية. السبب الحق الوحيد هو إرادة الرب أن أغراضا معينة يتحتم عليها دائما الاقتران مع أخرى.

لابد على أي أحد واعٍ لمحدودية عقولنا الضيقة أن يدرك أن نظرية مالبرانش تأخذنا إلى “عالم خيالي” – تذهب بنا بعيدا جدا عن تجربتنا بحيث لا يمكننا على الإطلاق تقييمها عقلانيا. كما أنها تبرز كيف أننا لا نعرف سوى القليل عن تفاعلات أجسادنا، ولكن بما أن فكرتنا عن الرب مبنية على استقرائات ملكاتنا فعلى جهلنا أن يكون منطبقا عليه أيضا.

2.6 الرابط الضروري: المرحلة البنائية

بما أننا ناقشنا المنافسين الرئيسيين للرابط الضروري لمصدر أفكارنا ووجدناهما ناقصين، فلعلنا نبدو كما لو أننا جاهلون بالكمال، لكن سيغدو هذا تسرعا. رأينا في نقاشنا عن الاستنباط السببي بأننا إذا وجدنا نوعا معينا من الحدث مقترنا دائما بآخر، فإننا نتوقع بحدوث أحدها عند حدوث الآخر. نفترض بوجود رابط ما بينهما، ولا نتردد في تسمية الأول بالسبب والثاني بالنتيجة. كما رأينا بأن ليس ثمة اختلاف في تكرار حالات مقترنة دائما عن الحالة المشابهة تماما، عدا أنه عقب تجربتنا لاقترانها الدائم، يحدد الطبع لنا توقع النتيجة عند حدوث السبب.

يخلص هيوم إلى أن مجرد هذا التحديد المحسوس للذهن – وعينا بهذا الانتقال المعتاد بين غرض مرتبط إلى آخر بأنه مصدر فكرتنا للرابط الرئيسي. حين نقول بأن غرض مرتبط ضروريا بآخر، فإننا نعني حقا  أن الأغراض اكتسبت رابطا تعلقي في فكرنا يفضي بنا إلى الاستنباط.

هيوم جاهز لتوفير تعريف للسبب بعدما حدد العنصر المفقود، منحنا تعريفان في الواقع. الأول،

السبب غرض، متبوع بآخر، حيث كل الأغراض المشابهة للأول متبوعة بأغراض مشابهة للثاني تمنح انطباعات خارجية. الثاني،

السبب غرض متبوع بآخر، الذي يبدو بأنه يحمل فكرة عن الآخر دائما، ,يقبض على الانطباعات الداخلية –  وعينا بأننا محددون بالعادة للتحرك من السبب للنتيجة. كلا التعريفين باعتبار هيوم، ولكن “تعريفه المطلق” لفكرتنا عن السبب هو اقتران الاثنين (EHU 7.2.29/76–77). إذ يقبضان على كل الانطباعات ذات العلاقة إذا ما كانا سوية فقط.

يحدد هيوم مصدر فكرة الرابط الضروري فينا، وليس في الأغراض نفسها أو حتى في أفكارنا عن تلك الأغراض التي نعتبرها سببا ونتيجة. وبعمل هذا هو يغير بالكامل مسار النقاش السببي، عاكسا ما يعتقده الكل عن فكرة الرابط الضروري. لابد أن تواجه النقاشات اللاحقة عن السببية كل التحديات التي يعرضها هيوم للطرق التقليدية والأكثر ميتافيزيقية عند النظر لفكرتنا عن السببية.

معالجة هيوم لفكرتنا عن السببية هي طرحه الرئيس لكيفية عمل منهجيته والنتائج الثورية التي يمكنها تحقيقها. ويمضي في تطبيق كل من منهجيته ونتائجه الراسخة على نقاشات أخرى بارزة في العصر الحديث، بما فيها الاستنباط المحتمل وشهادة المعجزات والإرادة الحرة والتصميم الذكي.

7. الفلسفة الأخلاقية

شرح هيوم للأخلاقيات جزء مهم من محاولاته لإصلاح الفلسفة. يتخذها مهمته الرئيسية لتكون تحقيقا في أصل الأفكار الأخلاقية الأساسية، والتي يفترض بأنها أفكار عن الجيد والسيء. وكما في الفكرة عن السبب والرابط الضروري، يريد أن يشرح الأفكار الأخلاقية باقتصاد قدر المستطاع بمقتضى “أبسط وأقل أسبابها”. إذ تحديد أسبابها سيحدد محتواها – ماذا نعني بها. أما اهتمامه الثاني فهو تحديد أي السمات الشخصية والدوافع الخيّرة أو سيئة أخلاقيا.

يتبع هيوم سابقه الوجداني، فرانسيس هاتشسون (1694-1746)، في بناء نظريته الأخلاقية حول فكرة الناظر الذي يقبل أو يرفض السمات الشخصية للناس ودوافعهم. إن وجدان القبول والرفض هن مصادر أفكارنا الأخلاقية للجيد والسيء. ولتقييم سمة شخصية على أنها خيّرة أخلاقيا هو بيتقييمها على أنها فاضلة؛ ولتقييمها على أنها سيئة أخلاقيا هو بتقييمها على أنها شر.

يقدم هيوم على نقاش مستمر حول الأخلاقيات كما فعل في النقاش حول السببية، والذي غالبا ما يُسمى نقاش الأخلاقيين البريطانيين، والذي بدأ في منتصف القرن السابع عشر واستمر حتى نهاية الثامن عشر. يستخدم نفس المنهجية هنا التي استخدمها في نقاش السببية: ثمة مرحلة نقدية حيث يُحاج ضد خصومه ومرحلة بنائية حيث يطور نسخته من الوجدانية. يملك هيوم نوعين من الخصوم: منظرو حب الذات والأخلاقيون العقلانيون. وبذا غدا هيوم أكثر مناصري الواجدانية شهرة.

أشعلت محاولة توماس هوبز (1588-1679) الراديكالية لاستقاء الواجب الأخلاقي والسياسي من دوافع المصلحة الذاتية نقاش الأخلاقيون البريطانيون. يصنفنا هوبز، كما فهمه معاصروه، على أننا متمحورون حول ذاتنا ومتعطشون للسلطة بطبيعة الحال ومهتمون فوق كل اعتبار بصون أنفسنا. إذ أننا في الحالة الطبيعية قبل الوضع الأخلاقي والقانوني، نسعى لصون أنفسنا عبر  محاولة الهيمنة على الآخرين. وبما أننا جميعنا “متساوون” بما يكفي في القوة، ينتج عن ذلك حالة من “حرب الكل ضد الكل” حيث الحياة “فظيعة وبهيمية وقصيرة” (Leviathan, Ch. 13). إن المخرج من هذا هو تعاهد أحدنا مع الآخر. أن نتفق على تسليم قوتنا وحريتنا لذي سيادة يجعل القوانين ضرورية لنا كي نحيا سوية بسلام ويملك السلطة لفرضها. وفي حين أن العمل أخلاقيا يتطلب الانصياع للقوانين التي ينشئها ذو السيادة، غير أن أساس الأخلاقيات هو المصلحة الذاتية.

عززت حكاية النحل لبرنارد ماندفيل (1670-1733) في تعزيز هذه القراءة لهوبز عبر بداية القرن الثامن عشر. فوفقا لماندفيل، البشر أنانيون وعنيدون وغير محكومون بطبيعتهم. أخذ بعض السياسيون الأذكياء الذين يعرفون بأنه سيكون من الأفضل لو عشنا سوية في مجتمع متحضر على عاتقهم مهمة تدجيننا. تمكنوا عبر إدراكهم بأننا مخلوقات متباهية ونتأثر بالإطراء بشدة من خداع العديد منا للارتقاء لمستوى القيم المثالية – الانتصار على عواطفنا الأنانية ومساعدة الآخرين – عبر إقامة المدح واللوم. إن المبادئ الأخلاقية مجرد أدوات يستخدمها السياسيون الأذكياء لكبحنا.

تشكلت نظريتان أخلاقيتان كردة فعل على هوبز أولا وبعده ماندفيل – العقلانية والوجدانية. يعارض العقلانيون زعم هوبز بعدم وجود الصواب والخطأ في الحالة الطبيعية، فالصواب والخطأ تحددها إرادة ذو السيادة، وأن الأخلاقية تتطلب عقوبات لتحفيزنا. في حين يعترض الوجدانيون على مبادئ “الأنانية” لهوبز وماندفيل عن الطبيعة البشرية والأخلاقيات. لم يحاج العقلانيون والوجدانيون ضد هوبز ومانديل عبر منتصف القرن الثامن عشر فحسب وإنما مع بعضهم أيضا.

يعارض هيوم كلا من الاعتبارين الأناني والعقلاني للأخلاقيات، غير أنه ينتقدهما بأعمال مختلفة. ففي رسالة، يفترض هيوم بأن نظرية هوبز لم تعد خيارا قابلا للتطبيق، وبالتالي ثمة احتمالين فقط للاعتبار. إما أن المبادئ الأخلاقية تنبع من المنطق وبهذه الحالة فإن العقلانية صحيحة أو من الوجدان وبتلك الحالة فإن الوجدانية صحيحة. إذا ما سقطت واحدة وقفت الأخرى. في الـرسالة الثانية، يمضي هيوم بمعارضة العقلانية الأخلاقية، لكن تظهر حججه ضدها في ملحق. والأهم من هذا، يُسقط افتراضه في رسالة ويتخذ من نظريات الأنانية لهوبز وماندفيل هدفا رئيسيا له. يعتقد مجددا بأن ثمة احتمالين فقط. إما أن موافقتنا مبنية على المصلحة الشخصية أو أن لها أساسا غير مبال. تفنيد أحدها هو برهان الآخر.

1.7 العقلانية الأخلاقية: المرحلة النقدية في الـ رسالة

يعتقد هيوم أن “الانظمة والفرضيات” “حرّفت فهمنا الطبيعي” للأخلاقيات أيضا. منظورات العقلانيون الأخلاقيون – صامويل كلارك (1675-1729) ولوك وويليام ولتشسون (1660-1724) – هي الأبرز بينها. يعتقد هيوم بأن أحد الجوانب الفارقة لكن غير صحية للفلسفة الأخلاقية الحديثة هي أنها تتحالف مع الدين وبالتالي ترى نفسها تخدم مصالح “الخرافات الشعبية”. تمثل نظرية كلارك والعقلانيون الآخرون بصورة مصغرة هذا النزوع.

يلتمس كلارك، خصم هيوم المركزي، المنطق لشرح كل جانب أخلاقي تقريبا. إذ يعتقد بأن ثمة علاقات أخلاقية قابلة للعرض من اللائقية وعدمها والتي نكتشفها بداهة عبر المنطق وحده. الامتنان مثلا هو ردة فعل لائقة أو ملائمة للطف، بينما الجحود ليس بردة فعل تليق ولا تلائم. يعتقد بأن الحدس العقلاني بأن فعلا لائقا يملك القدرة على إلزامنا وتحريكنا. أن نفعل الأخلاقي هو أن نفعل العقلاني.

يملك أكثر اعتراض لهيوم شهرة وأهمية على العقلانية الأخلاقية شقين. يعترض في الـرسالة 2.3.3 ، “الدوافع المؤثرة على الإرادة”، على المثالية العقلانية، أي أن الشخص الجيد هو الذي يحكم المنطق عواطفه وأفعاله. في T 3.1.1، يستخدم تلك الحجج ليبين أن الأفكار الأخلاقية لا تنبع من المنطق وحده.

يبدأ هيوم في الشق الأول من اعتراضه بالتعليق على أن لا يوجد ما هو أكثر شيوعا من الفلاسفة والأشخاص العاديين كذلك للحديث عن “الصراع” بين المنطق والعاطفة. يقولون بأنه حري بالمنطق أن يحكمنا من العاطفة، وأنه إذا ما كانت عواطفنا متسقة مع أوامر المنطق فحري بنا أن نكبحها أو نطابقها مع المنطق. يقابل هيوم هذا بأنه “لا يمكن أبدا للمنطق وحده أن يكون دافعا لأي فعل للإرادة” وأنه لا يمكنه وحده أبدا مقابلة عاطفة باتجاه الإرادة.

تستقر حجته الاولى على المفهوم التجريبي للمنطق. كما رأينا في اعتباره للسببية، يتألف المنطق الاستعراضي في مقارنة الأفكار لإيجاد العلاقة بينهم، بينما يتعلق المنطق المحتمل بالحقائق. إذ يعتبر المنطق الرياضي عن علاقة الأفكار بالمنطق السببي من فئة الحقائق. يطلب منا النظر إلى حوادث فعلية حيث هذين النوعين من المنطق متعلقان بها ويقول بأننا حين نفعل سنرى بأن لا يمكن للمنطق وحده أن يحركنا.

لا يعتقد أحد بأن المنطق الرياضي وحده قادر على تحريكنا. افترض بأنك تريد البقاء خارج الدَين، هذا سيحركك لحساب كم من المال يدخل وكم منه يخرج، لكن المنطق الرياضي وحده لا يحركنا لفعل شيء. حين يسقط المنطق الرياضي على الفعل فإنه دائما ما يستخدم مرتبطا بتحقيق غاية ما وبالتالي بارتباط مع المنطق السببي.

يحاج هيوم بأنه حين يتشكل المنطق السببي في إنتاج فعل فإنه دائما ما يفترض مسبقا رغبة موجودة أو إرادة. ففي منظوره، المنطق عملية تحركنا من فكرة إلى أخرى. إذا ما امتلك المنطق قوة دوافعية، فلابد أن أحد الأفكار مربوطة برغبة ما أو عاطفة كما يقول؛

لن يهمنا البتة معرفة بأن أغراض كهذه أسباب وأن أخرى نتائج، إذا كانت كل من الأسباب والنتائج لا تعنينا. إذا كانت الأغراض نفسها لا تؤثر بنا، فلا يمكن لروابطها أن تمنحها أي تأثير إطلاقا و "من الجلي أن المنطق ما هو إلا اكتشاف هذا الرابط، لا يمكن بواسطته أن تؤثر الأغراض علينا (T 2.3.3.3/414).

لن يحركك كي تتريض ملاحظة رابط سببي بين الرياضة وخسران الوزن مالم ترغب بخسران الوزن.

مما يتبعه حالا ألا يمكن للمنطق وحده معارضة عاطفة باتجاه الإرادة. لمعارضة العاطفة، لابد للمنطق أن يكون قادرا على بعث دافع وحده، بما أنه لا يمكن للدافع أن يُعارض إلا بدافع آخر، ولكنه أظهر للتو بأن المنطق وحده عاجز عن فعل هذا.

وبكشف مزاعم المنطق، يقلب هيوم النموذج العقلاني للإنسان الصالح ويخلص إلى أن  “المنطق، وحري به أن يكون، عبدا للعواطف فقط ولا يمكنه المطالبة بأي موقع خلا خدمتها والانصياع لها” (T 2.3.3.4/415).

أما الشق الثاني من اعتراض هيوم، ألا وهي حجة الدافع، فموجهة بالأساس ضد كلارك وما يتعلق بمصدر مفاهيمنا الأخلاقية: إما أنها تنبع من المنطق أو الوجدان. يذكرنا وهو يقود هذا النقاش بمقتضى نسخته الخاصة من نظرية الأفكار بأن كي ننخرط في أي نشاط ذهني لابد من الحصول على إدراك قبل الذهن، وبالتالي فإن “قبول صفة ما وإنكار أخرى ما هي إلا إدراكات مختلفة” (T 3.1.1.2/456). وبما أنه لا يوجد سوى نوعين من الإدراك – الأفكار والانطباعات – فإن السؤال بين العقلانية والوجدانية هو

بالأفكار أم بالانطباعات تُرانا نفرق بين الرذيلة والفضيلة، ونصرح بأن فعلا ما يستحق الملامة أو الإطراء؟ (T 3.1.1.3/456)

لحجة الدافع مجالين فقط. الأول هو أن للأفكار الأخلاقية نتائج عملية تهذيبية. تُظهر التجربة بأننا غالبا مدفوعين بأداء فعل لأننا نعتقد بأنه واجب أو نمتنع عنه لأننا نعتقد بجوره. نحاول أن ننمي الفضائل في أنفسنا ونفخر حين ننجح ونخجل حين نفشل. إن لم تمتلك الأخلاقيات تلك التأثيرات على عواطفنا وأفعالنا، فإن الأحكام الأخلاقية والتهذيب بلا جدوى، وكذلك جهودنا لنكون فضلاء. وبالتالي ” الأخلاقيات تثير العواطف وتُنتج أو تمنع الأفعال” (T 3.1.1.6/457).

المجال الثاني هو أن المنطق وحده عاجز عن إثارة العواطف أو انتاج أو منع الأفعال، والذي يدعمه هيوم بالحجج التي رأيناه للتو عن التأثير على دوافع الإرادة. فحجة الدافع إذن، هي أنه إذا ما كانت المفاهيم الأخلاقية قادرة على إثارة العواطف وإنتاج أو منع الأفعال، ولكن المنطق وحده عاجز عن فعل تلك الأمور، فإنه لا يمكن للمفاهيم الأخلاقية أن تنبع من المنطق وحده.

إن المنطق لهيوم خامل وداخلي: عاجز وحده عن بعث دوافع أو أفكار جديدة. على الرغم من أنه يعتقد بأن حجة الدافع حاسمة، يمنح في T 3.1.1 مجموعة إضافية من الحجج والتي يقصد منها تبيان أن المفاهيم الأخلاقية لا تنبع من المنطق وحده.

يجعل هيوم من هزيمة العقلانية داعيا لأن تكون المفاهيم الأخلاقية نابعة من الوجدان. لم يكن الأول بالزعم أن الأفكار الأخلاقية تنبع من الوجدان بالتأكيد. زعم هاتشسون بأننا نملك بالإضافة لحواسنا الخارجية حسا أخلاقيا خاصة يُعدنا للاستجابة لنزعة الخير بمشاعر الاستحسان الفارقة. بيد أن هيوم يرفض فكرة أن الوجدان الأخلاقية تنبع من حس هو “خصلة أصيلة” أو جزء من “تكويننا الأولي”.

يُحاج بأن ثمة أنواع عديدة من القيم، ليست كلها أنواعا من النزوع للخير مثل احترام حقوق أملاك الآخرين والحفاظ على الوعود والشجاعة والمثابرة كما يقضي هاتشسون. إذا ما اتفقنا مع هيوم لكن أبقينا فكرة هاتشسون عن الحس الأخلاقي، فعلينا الإيمان بأننا نملك العديد من الأحاسيس “الأصيلة” المختلفة، والذي يلزمنا بقبول تعدد القيم المختلفة كل على حدة. ولكنه يعترض بأن هذا ليس غير ممكن للغاية فحسب وإنما على العكس من

الحكمة المعتادة التي تسير بها الطبيعة حيث تُنتج بضعة مفاهيم كل التنوعات التي نشهدها في الكون. (T 3.1.2.6/473)

فعوضا عن مضاعفة الأحاسيس، علينا النظر إلى بضع مبادئ عامة لشرح موافقتنا على القيم المختلفة.

غير أن المعضلة الحقيقة هي أن هاتشسون يزعم – يفترض- فقط أننا نملك حسا أخلاقيا أصيلا وفريدا. إذا ما سئل لماذا نملك حسا أخلاقيا، فجوابه هو أن الرب زرعه فينا. وعلى الرغم من أن هيوم يستعير بحرية حجج هاتشسون في المرحلة النقدية لنقد العقلانية الأخلاقية، بيد أن رفضه للحس الأخلاقي الممنوح من الرب يضعه على درب مختلف جذريا عن هاتشسون في مرحلته البنائية. أحد الطرق لفهم منظور هيوم هو في النظر إليه على أنه محاولة لتطبيع نظرية هاتشسون للحس الأخلاقي. إذ يهدف لمنح تأويلا طبيعيا واقتصاديا بالكامل عن كيف نخوض الوجدان الأخلاقي ويشرح أيضا لماذا نوافق على قيم مختلفة. وفي مسار شرح الوجدانيات الأخلاقية، تختفي فكرة الحس الأخلاقي الأصيل لهاتشسون من اعتبار هيوم للأخلاقيات.

2.7 الوجدانية: المرحلة البنائية

في الـرسالة 3.3.1 يلتفت هيوم إلى مهمته البنائية في توفير شرح طبيعي للوجدان الأخلاقية. يشير إليها على أنها مشاعر قبول أو رفض وإطراء أو ملامة وتقدير أو ازدراء. القبول نوع من الشعور الجيد أو المقبول؛ الرفض نوع من الشعور المؤلم أو المرفوض. يصف في عدة من الفقرات الجوهرية الوجدانيات الأخلاقية على أنها صنوف هادئة من الحب أو البغض. فحين نقيّم سماتنا الشخصية، يُستبدل الحب والبغض بالعزة والذلة.

مشروع هيوم هو “اكتشاف المصدر الحقيقي للأخلاقيات، وللحب والبغض الذي ينبع ” ((T 3.3.1/575 حين نتأمل سماتنا الشخصية ودوافعنا أو تلك للآخرين. يعيد الوجدانيات الأخلاقية إلى التعاطف. التعاطف آلية نفسية تفسر كيف نأتي إلى الشعور بما يشعر به الآخرون. هو ليس شعورا أو وجدانا بحد ذاته ولا يجب أن يُخلط بمشاعر الرأفة أو الإشفاق. يلجأ هيوم للتعاطف كي يشرح مدى عريضا من الظواهر: اهتمامنا بالتاريخ والأحداث الحالية وقدرتنا على الاستمتاع بالأدب والأفلام والروايات وكذلك مؤانستنا الاجتماعية. إذ هو محور شروحاته عن عواطفنا وحسنا للجمال وحسنا لما هو جيد وسيء أخلاقيا.

التعاطف عملية تحركني من فكرة ما يشعر به الآخر إلى تجربة الشعور فعليا. ثمة أربعة مراحل للعملية. أصل أولا لفكرة ما يشعر به أحدهم بأي من الطرق المعتادة. ثم أصبح بعدها واعيا للـشبه بيننا بحيث أننا متصلان بمبدأ الارتباط. ففي حين أننا نشبه كل إنسان إلى حد ما، فإننا نشبه بعض الأفراد أكثر من غيرهم ـ أولئك الذين نشاركهم لغتنا وثقافتنا أو من نفس العمر أو الجنس مثلا.  تربط مبادئ الارتباط للـتجاور و السببية أيضا الأفراد الواقعين بالقرب منا في الزمن والمكان أو من هم أفراد أسرة أو معلمون. فوفقا لهيوم، نحن قادرون على التعاطف أسهل وأقوى مع أفراد نملك معهم روابط ارتباطية قوية. كلما كانت العلاقات الارتباطية أقوى، كلما كانت استجاباتنا التعاطفية أقوى. يزعم هيوم بعدها – بشيء مثير للجدل – بأننا نملك وعيا حيا بأنفسنا دائما. يذكرنا أخيرا بأن مبادئ الارتباط لا تربط إدراكين فحسب ولكن تنقل القوة والحيوية من إدراك لآخر.

افترض أن صديقتي عانت مؤخرا من فقد مدمر وأدركتُ أنها تشعر بالحزن. تنقل مبادئ الارتباط القوة والحيوية من إدراكي الحيوي لنفسي إلى فكرتي عن حزن صديقتي. وبما أن الفرق بين الانطباعت والأفكار عند هيوم هي أن الانطباعات أكثر حياة وحيوية عن الأفكار، فإذن إذا فكرة عن عاطفة أحيت بما يكفي فإنها ستغدو العاطفة ذاتها. أشعر بالحزن الآن أيضا، ولكن ليس بقوة حزن صديقتي.

تتوازى الطريقة التي يستخدم بها هيوم فكرة أن مبادئ الارتباط تنقل القوة والحيوية في شرحه للتعاطف مع الطريقة التي يستخدمها في شرح الاستدلال السببي. ففي حالة الاستدلال السببي، إذا لدينا انطباعا لنتيجة (دخان)، فإن المبدأ الارتباطي سيبعث فكرة واحدة فقط عن سببه (نار)، لكنه ينقل أيضا بعضا من قوة وحيوية الانطباع إلى الفكرة عن سببه، بحيث نأتي للاعتقاد بأن النار سبب الدخان. الاعتقاد هو فكرة حية لدرجة هو مثل الانطباع، ويؤثر بنا بالطريقة التي يؤثر بها الانطباع. وبالمثل فإن إدراكي الحي عن نفسي يحي عبر ارتباط فكرتي عن حزن صديقتي. لكن النتيجة في حالة التعاطف أقوى: إذا ما أُحيت فكرة عاطفة بما يكفي فإنها تغدو العاطفة نفسها.

إن الميزة التي يتفوق بها شرح هيوم للوجدانيات الأخلاقية بمقتضى التعاطف على زعم هاتشسون بأننا نملك حسا أخلاقيا من الرب هي في أنها تمكنه من توفير نظرية موحدة للذهن. إذ يشرح الوجدانيات الأخلاقية عبر النزوع إلى التعاطف والذي بالمقابل يشرحه بمقتضى نفس المبادئ الارتباطية التي استحضرها لشرح المعتقدات السببية. سنغدو مختلفين بما يفوق التصور بدون التعاطف والمبادئ الارتباطية التي تشرحها – مخلوقات دون أفكار سببية أو أخلاقية. 

يطور هيوم من اعتباره عن تقييم الأخلاقيات قدما في استجابة لاعتراضين على مزعمه بأن الوجدانيات الأخلاقية تنبع من التعاطف. الأول هو اعتراض أن “التعاطف متفاوت”. يمكنا التعاطف من الدخول في مشاعر أي شخص حتى الغرباء لأننا نشبه الكل إلى درجة ما. لكن تفاوت قدرتنا على الاستجابة بتعاطف مع الآخرين بتفاوتات في العلاقات الارتباطية سمة جوهرية في اعتباره عن الصيرورة الطبيعية والتلقائية للتعاطف. أنا قادر على التعاطف أسهل وأقوى مع أحد يشبهني أو مرتبط بي عبر التجاور أو السببية. الاعتراض هو على ألا يمكن للوجدانيات الأخلاقية أن تُبنى على التعاطف لأن الحب أو البغض الناتج عن فعول التعاطف الطبيعية والتلقائية يتفاوت، لكن القبول الأخلاقي لا يتفاوت. الاعتراض الثاني هو أن ” فضيلة بلا حول” لازالت تستثير قبولنا. يعمل التعاطف عبر النظر إلى النتائج الفعلية لسمات المرء الشخصية، لكن قد يمنع الحظ العاثر أو انعدام الفرصة أحيانا المرء من ممارسة سماتهم الشخصية الصالحة، ومع هذا نظل نقدرهم.

يحاج هيوم أن الحب والبغض الأخلاقي ينبعان من التعاطف، لكن فقط حين نسيّر تفاعلنا التعاطفي عبر اتخاذ ما يسميه “وجهة النظر العامة”. ثمة ميزتان مسيّرتان لوجهة النظر العامة. الأولى أننا نستطلع شخصية المرء من مدرك المرء نفسه وما يتربط به عادة – الأصدقاء والأسرة والجيران وزملاء العمل. نتعاطف مع الشخص والأشخاص الذين يتعامل معهم باستمرار ونحكم على السمات الشخصية  بمقتضى كونهم جيدين أو سيئين لأولئك الأشخاص. ثانيا نسيّر التعاطف قدما عبر الاعتماد على القوانين العامة التي تحدد النتائج العامة وميول السمات الشخصية عوضا عن التعاطف مع نتائجها الفعلية.

نصل عبر وضع هاتين الميزتين المسيّرتين سوية إلى فكرة هيوم عن وجهة النظر العامة والتي تعرّف الإدراك الذي نستطلع به سمات المرء الشخصية التي نتشاركها مع الكل. حين نعمل بحسب وجهة نظر عامة فإننا نتعاطف مع من ترتبط بهم هذه الإنسانة ونصل إلى الإعجاب بسماتها التي عادة ما تكون جيدة للكل. إن وجهة النظر العامة لهيوم منظور أخلاقي. إذ لا نختبر الوجدانيات الأخلاقية مالم نتخذ وجهة نظر عامة. إن الواجدانيات الأخلاقية والمبادئ التي تنبع عنها ما هي إلا مخرجات اتخاذ هذا الموقف.

يقدم هيوم كفرضية تجريبية مزعما بأننا نعجب بأربعة أنواع من السمات الشخصية – تلك المفيدة أو المقبولة فورا للفاعل أو الآخرين. وفي حين يمنح دعما لها في نقاشه عن القيم الفردية، فإنه يستخدم التصنيف الرباعي كذلك ليحجّم من المفاهيم المسيحية عن الأخلاقيات. إذ يجعل من العزة قيمة ومن الذلة رذيلة. ويلقي بالقيم ” الكهنية” – التبتل والصيام والتوبة – على أنها ليست مبهجة ولا مفيدة لأي أحد. كما يرفض الفصل بين القيم والملكات الطبيعية التي يدافع عنها مشرعون و”لاهوتيون” وأخلاقيون حديثون عبر الزعم بأن القيم الأخلاقية إرادية في حين الملكات الطبيعية ليست كذلك. هدفهم إصلاحنا – أو سلوكنا الخارجي على الأقل – لجعلنا أفضل، حين يُفهم بمقتضى مسيحي. وبالتالي يقوضون المجال الأخلاقي إلى أفعال تأتي من السمات الشخصية لأنهم يعتقدون بأنها الوحيدة القابلة للتعديل والتشكيل والتحكم بها عبر العقوبات في حين لا يمكن ذلك مع الملكات. بيد أن هيوم يرفض الفصل والوظيفة المريبة التي يلقيها هؤلاء الإصلاحيون على الأخلاقيات.

يكشف هيوم على ماله قيمة وما يجعل الأشياء قيمة بسمات من نفسياتنا. إن وجدانياتنا الأولية، العواطف والخلجات وكذلك الأفعال المعبرة عنها، هي التي تملك قيمة أخلاقية. في حين وجدانيتنا الانعكساية الثانوية عن وجدانياتنا الشخصية أو وجدانيات الآخرين، فإن العواطف والخلجات هي التي تمنحها قيمة. ففي منظوره، الأخلاقيات نتاج الطبيعة البشرية بالكامل.

في “خلاصة” الـمبحث الثاني، يلخص هيوم شرحه عن الأخلاقيات بتعريف القيم أو الفضيلة:

تنقل أي ميزة للذهن مفيدة أو مقبولة للمرء أو الآخرين متعة للمشاهد وتتواصل مع تقديره ويُقّر بها تحت الهيمنة الموقرة للقيم أو الفضيلة. (EPM 9.1.12/277)

هذا تواز دقيق لتعريفيه للسبب في الـمبحث الأول. تلتقط كلا مجموعتي التعريف عرضا من الأحداث وكلاهما يسجلان ردة فعل المشاهد لتلك الأحداث.

3.7 نظريات المصلحة الشخصية: المرحلة النقدية في الـ مبحث

إن مبحث هيوم الثاني هجوم ثابت ومنظم على نظريات هوبز وماندفيل عن “الأنانية” و “حب الذات” . يتبع هاتشسون في تفكيره بأنهما عيّنا دوران فارقان للمصلحة الشخصية في اعتبارهما عن الأخلاقيات: الأول أن القبول والرفض الأخلاقي مبني على ما يتعلق بمصلحتنا الشخصية والثاني أن الدافع الذي نقبله في النهاية هو المصلحة الشخصية. وعلى الرغم من أن العديد في تلك المرحلة فهموا نظرية هوبز عبر عدسة ماندفيل، إلا أن هيوم اعتقد بأنه من المهم التفريق بينهما. إذ كما ينظر للأمر، نظرية ماندفيل سطحية ويمكن صرفها بسهولة. هوبز هو نده الرئيسي.

يبدأ رفض هيوم لاعتبار هوبز الأناني عن القبول والرفض في القسم الثاني وينتهي في الجزء الأول من “الخلاصة” في الـمبحث. ومثل هاتشسون، يفترض خطأ أن هوبز منح نظرية منافسة للقبول والرفض. نقبل سمات الأشخاص الشخصية حين تنفعنا ونرفضها حين تضرنا. ينظر هيوم إلى كل من الأنواع الأربعة للقيم ويحاج في كل حالة بأن القبول لا ينبع من اهتمام بسسعادتنا الشخصية ولكن من التعاطف.

يحاج هيوم في القسم الثاني أن أحد الأسباب التي نقبل بها الخيرية والإنسانية وروح الجماعة هو لأنها مفيدة للآخرين والمجتمع. ويحاج في القسم الثالث والرابع بأن الأساس الوحيد لقبول العدالة والتحالف السياسي هو لأنها مفيدة للمجتمع. يسأل في القسم الخامس: لكن مفيدة لمن؟ إذ من البديهي بأنها لابد أن تكون “لمصلحة أحد ما”، السؤال هو “لمصلحة من إذن؟” يفترض بأن ثمة احتمالين: ينبع القبول والرفض من الوجدانيات إما من منبع ذو مصلحة أو دون مصلحة.

وفقا لهيوم، يبدأ “استنتاج أن الأخلاقيات من حب الذات” لهوبز من إدراك أنه لا يمكننا العيش وحدنا. يوفر النظام الاجتماعي الأمان والسلام والحماية المتبادلة وهي ظروف تسمح لنا بتعزيز مصلحتنا الشخصية أكثر من لو عشنا لوحدنا. وبالتالي فإن منفعتنا الشخصية مربوطة بالحفاظ على المجتمع. وعلى الرغم من اتفاق هيوم مع هوبز حتى هذه النقطة، بيد أنه يرفض شرحه بأننا نقبل العدالة والخيرية والإنسانية لأنها تعزز سعادتنا الشخصية.

هيوم واثق بأن ” صوت الطبيعة والتجربة” سيُظهر أن نظرية هوبز التي فُهمت بهذه الطريقة خاطئة. ويشير باستعارة العديد من حجج هاتشسون إلى أن لو القبول والرفض مبنيان على أفكارنا عن الامتيازات والمضار المحتملة علينا من سمات الأشخاص الشخصية وأفعالهم، فإننا لن نشعر بقبول ورفض الأشخاص من ” أعمار بعيدة جدا أو دول نائية”، بما أنهم لا يمكنهم التأثير علينا. لن نتمكن أبدا من الإعجاب بالأفعال الجيدة لأعدائنا أو خصومنا بما أنهم مؤذيين لنا. ولن نتمكن أبدا أيضا  من قبول أو رفض شخصيات تتمثل في الروايات أو الأفلام بما أنهم ليسوا بأشخاص حقيقين ولا يمكنهم مساعدتنا أو إيذائنا. نقبل بالسمات الشخصية والأفعال المفيدة ليس لأنها تنفعنا وإنما لأننا نتعاطف مع المنافع التي تمنح للآخرين أو المجتمع.

يمحص هيوم بعدها السمات الثلاث المتبقية – تلك المفيدة للفاعل (الاجتهاد والحكم الجيد) مقبولة للفاعل (الابتهاج) أو مقبولة للآخرين (الأدب والصدق). لماذا نقبل الاجتهاد والحكم الجيد مثلا وهي سمات شخصية تفيد الذي يملكها بالأساس؟ لا فائدة لنا منها في غالب الأحيان وفي حال الخصومة تعارض مصالحنا. نقبل تلك السمات الشخصية ليس لأنها ذات نفع لنا وإنما لأننا نتعاطف مع المنافع التي تمنحها للآخرين. يأخذ هيوم هذا على أنه برهان إضافي ضد تفسير هوبز بمقتضى المصلحة الشخصية ودعما لاعتباره المبني على التعاطف.

 يحتج هيوم في الجزء الأول من “الخلاصة” بأن نظرية هوبز عن حب الذات عاجزة عن شرح ميزتان مهمتان للوجدانيات الأخلاقية: نميل إلى قبول نفس نوع السمات الشخصية وقادرون على تقييم أي أحد أخلاقيا في أي مكان وزمان. إذا ما كان قبولنا ورفضنا مبني على أفكار عن مصالحنا أو ضررنا الشخصي، فإن الوجدانيات الأخلاقية ستختلف من شخص لشخص عبر الزمن. لن نملك أحاسيس أخلاقية عن غالب البشر بما أن أغلبهم لا يؤثرون علينا. تنبع الوجدانيات الأخلاقية من قدرتنا على الاستجابة تعاطفيا مع الآخرين.

هيوم متعنت بالمثل لأي تفسير للدوافع التي توجهنا لأفعال قيّمة بمقتضي المصلحة الشخصية على أنه خاطئ. يعارضها في الملحق الثاني من الـمبحث، والذي هو بالأصل جزء من المقطع الثاني، “الخيرية”. يتبع هاتشسون في التفكير أن المسألة هي ما إذا المشاعر الخيرية العدة أصيلة أم نابعة من المصلحة الشخصية. ويفرق مرة أخرى بين شروحات ماندفيل وهوبز ويتخذ من هوبز نده الرئيسي. ففي قراءة هيوم لهوبز؛ في حين نقبل اللطف والصداقة والمشاعر الخيرية، أي رغبة لنفع الآخر على أنها مشتقة حقيقة من المصلحة الذاتية، فإننا قد لا نكون دائما واعين لتأثيرها على تلك الرغبات.

يقدم هيوم حجتين ضد هذا المنظور الأناني. يسألنا في البدء أن نتأمل حالات حيث الأشخاص يدفعهم اهتمام أصيل بالآخرين، حتى وإن كان اهتمام كهذا لا يمكن أن ينفعهم وقد يؤذيهم حتى. نكمد حين يموت صديق، حتى وإن كان الصديق محتاجا لمساعدتنا ورعايتنا. كيف لكمدنا أن يكون مبنيا على المصلحة الشخصية؟ يضحى الأهل باستمرار بمصالحهم الشخصية من أجل أطفالهم. تهتم الحيوانات من غير البشر بأعضاء من فصيلتها وبنا. هل اهتمامهم “مقتطع” من المصلحة الشخصية؟ يخلص إلى أن هذه و “آلاف أحداث أخرى … علامات على خيرية عامة في الطبيعة البشرية، حيث لا تربطنا المصلحة” (EPM App 2.11/300).

يلحق هيوم هذه المحاجة عن التجربة بتصور مثقل جدا لحجة استعارها من بتلر. تتألف السعادة في المتع النابعة من اشباع شهواتنا الشخصية ورغباتنا. لأننا نرغب بالطعام والشهرة وأشياء أخرى نستمتع في الحصول عليها. إذا لم نمتلك أي من الشهوات أو الرغبات، فإننا لن نرغب بشيء نجد فيه متعة. علينا أن نرغب بشيء عدا السعادة نفسها للحصول على المتع التي يهدف إليها حب الذات.

4.7 العدالة: المرحلة البنائية

يعرض هيوم بحق اعتباره الرائد عن العدالة. يؤكد في الـرسالة على الفارق بين القيم الطبيعية والمكتسبة. القيم الطبيعية – أن تكون إنسانيا ورحوما وخيريا – سمات شخصية وأنماط سلوك يظهرها البشر في ظروفهم الطبيعية حتى بانعدام النظام الاجتماعي. القيم المكتسبة – احترام حقوق ملكية الآخرين والإخلاص في الإبقاء على الوعود والمواثيق والولاء للحكومة – هي ميل مبني على الممارسات الاجتماعية والمؤسسات النابعة من الاتفاقيات.

يعتقد هيوم بأن الطبيعة وفرت لنا العديد من الدوافع – الحب الأبوي، الخيرية والكرم – التي تجعل من الممكن لنا العيش بسلام في مجتمعات صغيرة مبنية على العلاقات الرحومة. وأحد استبصاراته المهمة أن الطبيعة لا تمنحنا كل الدوافع التي نحتاج للعيش بسلام في المجتمعات الكبيرة. وبعد المحاجة في الـرسالة 3.2.1 بأن العدالة مكتسبة، في T 3.2.2 يسأل سؤالين مختلفين: مالذي يدفع الإنسان لإرساء قوانين العدالة التي ينشأ عنها حقوق الملكية ولماذا نقبل الأشخاص الذين ينصاعون لقوانين العدالة تلك؟ يتعلق السؤال الأول بالعدالة كممارسة تشكلها قوانينها. والأمر الثاني يتعلق بالعدالة كقيمة، ميل الشخص للانصياع لقوانين العدالة.

يحاج هيوم بأننا ندخل في سلسلة من الاتفاقيات التي تستحضر الممارسات، كل منها حل لمعضلة. ينبع من كل قناعة معضلات تضغط علينا بالمقابل إلى الولوج في اتفاقيات أخرى. القناعة باستحضار حقوق الملكية هي الأولى فقط من أخريات عدة ندخلها. فبعد ترسية حقوق الملكية، ندخل في اتفاقيات لنقل الملكية وعقد الوعود والمواثيق. نحن بطبيعة الحال تعاونيين وفقا له، على الرغم من أننا نتعاون بداية مع أعضاء من أسرتنا فقط. لكن من المفيد لنا أيضا التعاون مع الغرباء، بما أنه يسمح لنا بخلق خير أكثر وتبادله. كل الاتفاقيات الثلاث سابقة لتشكيل الحكومة. فمن منظور هيوم، من الممكن وجود مجتمع مسالم من الملّاك الذين ينقلون ويتبادلون الممتلكات قبل وجود الحكومة.

يحاج هيوم أن ممارسة العدالة حل لمعضلة نواجهها بطبيعة الحال. المشكلة هي بما أننا نهتم بأسرتنا وأصدقاءنا المقربين، لكن المواد والبضائع شحيحة وجوّالة، نُستمال لأخذ البضائع من الغرباء لاعطائها أسرنا وأصدقاءنا. لا مفر من النزاع حول تلك البضائع، لكن إذا تشاجرنا سنفقد المنافع الناتجة من العيش سوية في المجتمع – تصاعد السلطة والقدرة والأمان. الحل للمعضلة هو في إرساء حقوق الملكية. نصنع القوانين لتحديد من له الحق في ماذا، ونوافق على اتباع القوانين وإبقاء أيدينا بعيدا عن ممتلكات الآخرين. كان هيوم الأول في رؤية أن ما يفيد هو ممارسة العدالة عوضا عن التصرفات الفردية لها. ومثل هوبز، اعتقد أن من مصلحتنا إرساء ممارسة العدالة.

ومثلما رأينا، يفارق هيوم هوبز حين يجيب على السؤال الثاني فيما يخص لماذا نقبل الأشخاص الذين ينصاعون لقوانين العدالة. إذا ما أُقصيت إجابة هوبز بمقتضى المصلحة الشخصية، فإنه يعتقد بوجود احتمالية واحد باقية. نقبل الأشخاص العادلين ليس لأنهم ينفعوننا وإنما لأننا نتعاطف مع المنافع التي يمنحونها للآخرين والمجتمع بالكامل. وبالتالي يشرح هيوم قبولنا للعدالة عبر التماس نفس المبدأ الذي تطرق له لشرح قبولنا للقيم الطبيعية. وعليه؛

المصلحة الشخصية دافع أصيل لتحقيق العدالة:  لكن التعاطف مع المصلحة العامة هي مصدر الاستحسان الأخلاقي، الذي يخدم هذه القيم. (T 3.2.2.24/499–500)

يطرح هيوم في الجزء الثاني من “الخلاصة” في الـمبحث معضلة هامة في اعتباره عن العدالة. في حين من مصلحتنا إرساء ممارسة العدالة، بيد أنه ليس من مصلحتنا دائما الانصياع لقوانينها في كل حالة. هذه معضلة الراكب بالمجان. يريد الراكب بالمجان، والذي يسميه هيوم المحتال العاقل، أن يحصل على المنافع الناتجة عن إرساء الممارسة دون أن يتبع قوانينها دائما. يعلم أن الطريقة الوحيدة للحصول على مزايا التعاونية الاجتماعية هو في أن تكون ممارسة العدالة راسية، لكنه يدرك أن فعلا واحدا جائرا لن يضر بالممارسة بشكل بالغ. سينصاع غالب الناس لقوانين العدالة، لذا إذا اقترف فعلا واحدا جائرا فلن تكون المؤسسة معرضة لخطر الانهيار. افترض أنه يملك الفرصة لاقتراف فعل جائر سيستفيد منه بشدة. لماذا يحجم عنه؟

يقر هيوم إذا توقع المحتال العاقل جوابا، فإنه ليس متأكدا بأن ثمة إجابة ستقنعه.

إذا لم يتمرد قلبه على المبادىء المشينة، إذا لم يتردد عن أفكار الخسة أو الضعة، فقد أضاع حقا دافعا معتبرا للقيم...( EPM 9.2.23/283)

لا يوجد اتفاق عام عما إذا يقدم هيوم فعليا إجابة للمحتال العاقل وعن كفايتها إذا ما فعل.

8. الفلسفة والدين

كتب هيوم بقوة وبوضوح عن كل سؤال مركزي في فلسفة الدين تقريبا، مساهما في النقاشات المستمرة عن مصداقية ما يُذكر عن المعجزات وانعدام مادية وخلود الروح وأخلاقية الانتحار والتاريخ الطبيعي للدين ضمن أمور أخرى. هيجت كل أعماله ردود فعل ساخنة من معاصريه ولازالت حججه تتمثل بشكل مركزي في نقاشات هذه المسائل اليوم.

أعظم إنجازات هيوم في فلسفة الدين هو محاورات في الدين الطبيعي، والذي اعتبر عامة كأحد أهم المساهمات وأكثرها تأثيرا في هذا المجال من الفلسفة. وفي حين أشعلت كل كتب هيوم الجدل، كانت المحاورات ملتهبة جدا إلى درجة أن أصدقاءه استمالوه أن يوقف نشرها إلى ما بعد وفاته.

يملي مشروع هيوم الفلسفي والمنهج الذي طوره لتنفيذه استراتيجته في كل المحاورات التي دخلها. ففي المجادلات حول السببية والأخلاق، ثمة مرحلة نقدية أولية، حيث يقيم هيوم حجج سابقيه ومعاصريه، لتتبعها المرحلة البنائية، حيث يطور موقفه الخاص. بيد أن في جدل الدين الطبيعي، الوضع مختلف جدا. إذ يُظهر نقد هيوم للمفاهيم المركزية للدين الطبيعي في المرحلة النقدية بأن تلك المفاهيم تفتقر المحتوى، لذا لا يوجد شيء للـمرحلة البنائية من حجته ليُبنى عليه. وبدلا من حل هذا الجدل، يفضه هيوم بفعالية.

المحاورات تمحيص نقدي ثابت وثاقب لحجة بارزة في القياس عن وجود وطبيعة الرب، الحجة عن التصميم. تحاول الحجة عن التصميم تحقيق أن النظام الذي نجد الكون عليه هو مثل النظام الذي نجد عليه موادا مصنوعة بشريا بحيث أنها لابد أن يكون هو أيضا من مصمم عاقل.

1.8 الشخوص

تسجل الـمحاورات حوارا بين ثلاث شخصيات. كلينذس، يعرف نفسه على أنه “مؤمن تجريبي” ويقدم حجة من التصميم على أنها برهان لوجود الرب وطبيعته (DCNR 5.2/41). في حين يعارضه ديميا مصرا على أن الاستنتاج المحتمل للحجة بحد ذاته يبخس غموض الرب وعظمته. يعتقد أن طبيعة الرب غيبية بالكامل. يلقب كلينذس ديميا بالـملغز في حين يتهكم ديميا من أنسنة كلينذس – انحيازه المتحور حول الإنسان في مقارنة خالق الكون مع ذهن بشري.

يمثل كلينذس وديميا المواقف المركزية لجدل الدين الطبيعي في القرن الثامن عشر. يجسد كلينذس ضغط الجدل التقدمي والمسيطر والذي شكله بالأساس لاهوتيو المجتمع الملكي البريطاني، إذ كانوا مفتونين بالاحتمالية ونجاحات القرن الذي سبقهم في الفلسفة الطبيعية التجريبية. ولقناعتهم أن العلم يشهد على عناية الرب، رفضوا الدلائل التقليدية البديهية مما تضمن استعراض وجود الرب عبر التأكيد الرياضي دون التماس التجربة. استدخموا بدلا عنه النظام والاعتيادية التي وجودها في الكون لبناء حجة احتمالية لمصمم إلهي.

تمسك المعيقون بالدلائل المعروضة في العلم واللاهوت ضد الموجة الصاعدة للاحتمالية. ديميا رائد هؤلاء التقليديون المحافظون. أعتقد البعض أن هيوم جعل من ديميا نسخة من صامويل كلارك بما أنه خب الخطى لنسخة واهية من حجته الكونية في الجزء التاسع. بيد أن ديميا يفتقر لمنطقية كلارك الصلبة. يبدو الأمر أكثر وكأنه يمثل مجموعة مصغرة من اللاهوتيين أمثال ويليام كينغ الذين يأكدون على غيبية الرب ويلجأون إلى حجج بديهية فقط حين يحتاجونها حتما.

لم يكن ثمة حضور شكوكي حقيقي في جدل الدين الطبيعي للقرن الثامن عشر. هذا ما يجعل فيلو الشبيه في الحوار والذي يسميه كل من كلينذس وديميا بالـشكوكي. يقول كل الثلاثة شيئا إنسانيا بين الفينة والأخرى، بيد أن منظور فيلو هو الأقرب لهيوم دائما. صيغة فيلو من الشكوكية هي شكوكية مخففة من الـمبحث الأول والذي يجعله المرشح الأرجح كمتحدث رسمي لهيوم.  

وما إن تبدأ المحاورات حتى يتفق كل الشخصيات الثلاثة أن موضوهم هو طبيعةالرب، بما أن الجميع يتفق على وجوده. تتعلق الأجزاء 1-8 بصفاتالرب الطبيعية؛ قدرته الكلية وعلمه الكلي وتدبيره، في حين تنظر الأجزاء 10-11 إلى صفاته الأخلاقية؛ خيريته واستقامته. 

2.8 صفات الرب الطبيعية

يقضي ديميا بأت الرب غيبي ومجهول بالكامل؛ كل ما يمكننا قوله أن الرب لا يحده حد وكوني وسرمدي تماما. وكلينذس مصر على أن حجة التصميم تؤكد كل صفات الرب التقليدية. تتشابه الأغراض الطبيعية وتلك من صنع الإنسان، وبالتالي قياسا، فإن أسبابها تشبه بعضها. وعليه فإن الرب مثل الذهن البشري، غير أنه أعظم في كل جانب.

يحتج ديميا بأن خلاصة الحجة محتملة فقط، غير أن فيلو يجيب بأن المشكلة الحقيقة هي أن القياس ضعيف للغاية. يلقي مجموعة من الحجج ليثبت فقط كم هي واهية. إن الفروقات بين صنع الإنسان والكون ألفت للنظر من التشابهات. نختبر جزءا صغيرا من الكون في زمن قصير؛ والكثير مما نختبره مجهول لنا. كيف يمكننا صدقا استنتاج أي شي عن أجزاء قصية من الكون، فما بالك بالكون أكمله؟

بيد أن فيلو ينتقل بسرعة من تقريض حجة القوة إلى مسائلة عقلانية خلاصتها. لا نملك تجربة أصل الكون. وبما أن الاستدلال السببي يتطلب أساسا في تجربة مبنية على رابط ثابت بين نوعين من الأشياء، كيف يمكننا صدقا أن نخلص إلى أي استنتاج أيا كان عن أصل الكون؟ هل يتطلب سببا حتى؟ واحدا أو أكثر؟ هل سبب الكون نفسه يتطلب سببا؟ المشكلة إذن ليست في أن القياس ضعيف فحسب؛ المشكلة الحقيقية أنها تحاول أخذنا إلى أبعد مما يمكننا معرفته.

في تلك الأثناء، يتهكم ديميا من تجسيد كلينذس بينما يظل راضيا بتعجرف عما يسميه كلينذس باستنقاص غيبيته. تساعد الكلمات اللاذعة التي يلقونها على بعضهما والخطب التي يحثهم فيلو لعملها على خلق معضلة يستخدمها فيلو ليبني. إذ يوجه المعضلة لكلينذس، لكنها تؤثر على كلا الشخصيتين على الرغم من أن ديميا يدرك هذا ببطء. يعتقد أن فيلو في حلف معه عبر تفصيله إشكاليات تجسيد كلينذس.

يدفع فيلو في تحديه كلينذس لشرح ماذا يعنيه بذهن الرب إلى الاعتراف بأنه يقصد “ذهنا كالإنسان.” يعض كلينذس على الطعم ويجيب “لا أعرف غيره” (DCNR 5.4/42). يحاج أن الغيبيين أمثال ديميا ليسوا بأفضل من الملحدين، بما أنه يجعلون الرب قصيا وغيبيا بحيث لا يحمل شبها لصفات الإنسان. يضيف فيلو بأنه على الرغم من أننا نعتبر الرب كاملا، الكمال – كما نفهمه – نسبي، ليس مطلقا، لذا لا يمكننا الاستنتاج أننا نقبض على كمال الرب. وبما أن كل صفات الرب تشمل الكمال- المعرفة الكاملة، القوة الكاملة، الخير الكامل – ليس علينا التفكير بأن أي من صفاته تشبه أو حتى تُقاس لصفاتنا. لكن يعني هذا أننا لا نعرف ما لذي نتحدث عنه حين نتحدث عن الرب مستخدمين صيغا مألوفة نسقطها على الأذهان البشرية.

يضيف ديميا بأنه وبمنح الرب سمات بشرية، حتى لو أنها مضخمة بشكل عظيم، يحرمه صفات عزاها المؤمنون دوما له. كيف يمكن لرب متجسد أن يملك الوحدة والبساطة والثبات لرب الإيمان التقليدي؟

يمضي فيلو بتفصيل كيف أن تجسيد كلينذس غير مناسب حقا. لو قبل حجة التصميم، فلابد أن يلتزم لرب محدود في كل مجال. لكن ماذا يعني القول بأن الرب كامل بحدود؟ متى ما أقريت بأن الرب محدود تكون فتحت على نفسك باب لا يُغلق، إذ ثمة كل الأشياء البديلة المحتملة بالمثل لتصميم ذكي. لماذا التفكير بأن الكون أشبه بالصنع بالبشر من الحيوان أو النبات؟ يرمي فيلو بعدد من النظريات البديلة الغريبة للتوضيح. إذا كنت عنكبوتا في كوكب العناكب مثلا، ألن تعتقد بطبيعة الحال أن عنكبوتا ضخما نسج شبكة مهولة لخلق العالم؟

إن نظرية كلينذس للتصميم يبخسها الدليل لدرجة أن التوجه العقلاني الوحيد هو في التخلي عن أي محاولة للبت فيها أو أي من بدائلها العديدة. تعليق الحكم تماما هو رد الفعل العقلاني الوحيد. وإلا نذهب أبعد من حدود أي شيء يمكن أن نمنحه محتوى محددا.

تغلف المعضلة التي بناها فيلو المسألة حول محتوى فكرة الرب والتي هي مركزية في الجانب النقدي من مشروع هيوم في المحاورات. إذا قبلت أن صفات الرب كاملة للأبد، فأنت تستخدم المصطلحات العادية دون معناها العادي، بحيث لا يغدو لها أي معنى واضح. وإذا أنكرت على الرب الكمال الأبدي، فإنك تمنحه صفاتا مفهومة، وذلك فقط لأنها صفات بشرية مضخمة. كلما اقترب كلينذس من اعتبار ذهن الرب كذهن الإنسان، كلما اقترب من اعتبار صفات الرب كصفات الإنسان. وفعل هذا هو التخلي عن كون الرب بطلا خارقا.

وفي النهاية الجزء الثامن، والذي يلخص نقاشهم عن صفات الرب الطبيعية، لا يزال ديميا يعتقد بأنه وفيلو شركاء. إذ يظل جاهلا باستراتيجية فيلو حتى النهاية الأخيرة في الجزء الحادي عشر، حين يدرك أخيرا أنه هو أيضا وقع في فخ فيلو الذي نسجه.

يمنح ديميا بديهية بديلة لحجة التصميم في الجزء التاسع. وكما ذكر آنفا، هي نسخة مختصرة وهزيلة من حجة كلارك الكونية. وعلى الرغم من أن كلينذس سرعان ما يحبط محاولاته الواهية،  بيد أن الجزء التاسع يقدم استراحة بين النقاشات السابقة عن صفات الرب الطبيعية وبيناعتبار صفاته الأخلاقية في الجزئين العاشر والحادي عشر.

3.8 صفات الرب الأخلاقية

يبدأ ديميا النقاش في الجزء العاشر في محاولة لحفظ ماء وجهه بعد جلده الأخير، إذ يقترح ألا نقبل حقائق الدين كنتيجة للمنطق، وإنما مما نشعر به حين نواجَه بمدى عجزنا وبؤسنا. الدين مبني على مشاعر الخوف والقلق النابعة من إدراك ” حماقتنا وبؤسنا” (DCNR 10.1/68). وما صنوف عباداتنا إلا محاولة استرضاء قوى مجهولة تقمعنا وتعذبنا.

ينضم إليه فيلو، زاعما بأنه مقتنع بأن

أفضل طريقة، والوحيدة فعلا، لجلب الكل لحس ما عن الدين مفترض هو عبرعرض بؤس وخبث البشر فحسب. (DCNR 10.2/68)

يمضيان في ابتهال مشترك عن البؤس وسوداوية الوضع البشري، متفوقان على بعضهما بقوائم من الحسرات. لا يدرك ديميا بأن فيلو قد يعني أشياء مختلفة جدا بـ “عرض فحسب” و” حس ما عن الدين مفترض” عما يعنيه هو، وبذا يفشل إدراك في أن فيلو يستدرجه للحماقة.

يقضي فيلو بأنه لا يمكننا التلمص من حقيقة المرض والمجاعة والوباء إلا عبر “الاعتذرات التي تضخم قدما من التهمة” ((DCNR 10.16/72. هذه الاعتذارات  للأحكام الإلهية– محاولات للتصالح مع خير الرب في وجود الشر. يزدري ديميا الأحكام الإلهية كذلك، وجاهل بسلام أنه سيقدمها هو أيضا قريبا جدا.

ينطق كلينذس بالقول أخيرا بأنه لا يشعر بالبؤس أو القلق المقموع، ويأمل أن الكرب ليس مألوفا للدرجة التي يزعمانها. لكن الأمل أن مدى البؤس البشري ليس ممتدا جدا ليس مثل اثبات أنه كذلك. يقف كلينذس على أرض رخوة. يستغل فيلو هذا فيتحدى كلينذس لشرح كيف رحمة الرب وخيريته يمكن أن تشبه رحمة الإنسان وخيريته. بمقتضى قدرته الكلية، إذا قال كن فيكون، لكن لا البشر ولا الحيوانات سعيدة، إذن يُفترض أن الرب لا يريد سعادتهم.

يبتسم كلينذس مسلما لفيلو أنه إذا استطاع اثبات أن البشر “تعساء أو فاسدين”، فإنه سينجح سينجح في القيام بالدين (DCNR 10.28/74). يعتقد كلينذس أنه علّق مشنقة فيلو. في إدخال مشكك لإثبات نظرية إيجابية، عليه ألا ينجح فقط في مهمة صعبة وإنما ينتهك شكوكيته نفسه خلال العملية. يفشل كلينذس في إدراك أن فيلو سيقيم الحجة دون الحاجة لإثبات شيء، ولا يدرك بأنه هو نفسه سيحتاج قريبا لدليل.

يحتج ديميا بأن كلينذس يضخم من العواقب الوخيمة للإقرار بالوضع البشري، وعلى الرغم من رفضه العنيف سابقا للأحكام الإلهية إلا أنه يمنح نسخته الخاصة. تقارن أحكام ديميا الإلهية والتي تسمى أحيانا ” منظور الشرفة” تجربتنا عن العالم مع العالم ككل، بما فيها ما بعد الموت، في محاولة لتحديد هيئة مبنى كبير من القليل الذي نراه من شرفته. نعاني من منظورنا بيد أنه وبعد النظر المطول فإما أننا لا نعاني البتة أو أن معاناتنا لخير أكبر لنا أو للعالم.

يرد كلينذس ردا حاسما بأن ديميا ينكر الحقائق ويمنح نظريات خاوية فقط، والتي لو كانت منطقية على الإطلاق، فإنها لا تحقق سوى احتماليتها المجردة فحسب وليس واقعيتها أبدا. الطريقة الوحيدة للرد على تحديات خيرية الرب هي في إنكار أن الوضع البشري بائس للغاية حقيقة.

يضع كلينذس نفسه الآن في موقف اعتقد أنه وضع فيلو به. عليه إثبات أن الحقائق التي يزعمها، ويسارع فيلو في التأكيد على صعوبة هذا. وبوضع حجته على نقطة غير مؤكدة فإن أي استنتاح يستقيه سيكون غير مؤكد بالمثل.

يرفع فيلو الرهان بعدها عبر التسليم من أجل النقاش وحده أن سعادة الإنسان تفوق بؤسه. ولكن إذا كان الرب قوي بلا حد وحكيم وخيّر، لماذا ثمة شقاء على الإطلاق. لا توجد إجابة تحتوي كل صفات الرب عدا التسليم أن الموضوع يتجاوز حدود فهمنا.

بيد أن فيلو يحجم عن الضغط على مسألة العقلانية؛ هو مهتم أكثر في بناء قضية أقوى ضد استدلال كلينذس بـخيرية الرب. وبرفع الرهان أكثرحتى، يسلّم أن الألم والمعاناة متوافقة مع قدرة الرب المطلقة وخيريته. بيد أن على كلينذس إثبات من “الظاهرة المختلطة والمبهمة” أن خيرية الرب فعلية،وليست مجرد محتملة. فعل هذا صعب مرتين، بما أن أي استدلال من محدود لمطلق مهزوز في أفضل أحواله حتى لو كانت المعطيات “نقية وغير مختلطة” (DCNR 10.35/77).

يختم فيلو عبر الاعتراف، بصدق أقل من التمام، أنه في حين كان مُضنى ليصنع حجة قوية ضد كلينذس في النقاش المتعلق بصفات الرب الطبيعية، إلا أنه فيما يتعلق بصفات الرب الأخلاقية كان مستريحا. يتحدى كلينذس ” أن يأتي بأقصاه” ليشرح كيف يستدل على صفات الرب الأخلاقية من حقائق عن الوضع البشري (DCNR 10.36/77).

يأتي كلينذس “بأقصاه” ولكن في فقرة واحدة قصيرة فقط. يقر أننا لو ذهبنا أبعد من المعنى المعتاد للمصطلحات البشرية حين نسقطها على الرب فإن ما نقوله سيكون لاعقلاني بالطبع. التخلي عن كل قياس بشري هو بالتالي التخلي عن الدين الطبيعي، لكن المحافظة عليه يجعل من المستحيل التصالح مع شر لرب مطلق.

يدرك كلينذس أنه حشر نفسه في زاوية، لكنه يعتقد مرة أخرى بأن ثمة مخرج. التخلي عن لا حدودية الرب يعني التفكير به على أنه “كامل بحدود”. وبالتالي ” قد تنتج الخيرية المنظمة بالحكمة والمحدودة بالحاجة عالما كالموجود” (DCNR 11.1/78).

لا يدرك كلينذس أن نظريته الجديدة أسوأ من القديمة. كما لا يبدو بأنه يتذكر ما لذي يمكن أن يعنيه سؤال فيلو عن “الكامل بحدود”. فبدلا عن الرب، هو متمسك الآن ببطل خارق من نوع ما. فضلا على أن القصة التي يرويها هي في ذاتها حكم أخلاقي. تشرح حدود بطله الخارق لماذا لا يمكنه القضاء على الشر أو خلق عالم خالٍ منه.

على أي حال، كلينذس ليس بأفضل حال عما كان عليه. قد تظهر التخمينات أن المعطيات متوافقة مع فكرة الرب، ولكن ليست كافية البتة لإثبات أنه موجود بالفعل.

يمضي فيلو بعدها لتحديد أربع فرضيات محتملة عن سبب الكون: كمال الخير، كمال الشر؛ خير وشر سوية؛ ليس بخير ولا بشر. بمقتضى أن الشر الذي نعرفه موجود، فإن المعطيات في أفضل حالاتها مختلطة، وبذا لا يمكننا تحقيق أي من الفرضيتين الأول. إن تنظيم واتساق القوانين العامة التي نجدها في التجربة كافية لإسقاط الثالثة، لذا يبدو أن الرابعة هي الأكثر احتمالا. سبب العالم في هذه الفرضية لا مبالي على الإطلاق بمقدار الخير والشر في العالم.

تنطبق هذه النقاط عن الشر الطبيعي على الشر الأخلاقي أيضا. لا نملك سببا للتفكير بأن استقامة الرب تشبه استقامة الإنسان أكثر من التفكير أن خيريته تشبه خيرية الإنسان. بل نملك سببا أقل في التفكير بذلك في الواقع، بما أن الشر الأخلاقي يفوق الخير الأخلاقي أكثر من أن الشر الطبيعي يفوق الخير الطبيعي. 

فضلا على أن صيغة كلينذس الجديدة للتجسيد مسندة على تقفي أثر الشر للرب. وبما أن لابد للكل نتيجة سبب، فإما تعود سلسلة الأسباب للانهاية، أو تنتهي بمبدأ أصيل هو السبب المطلق لكل شيء – الرب.

يصبح ديميا محتدا بتزايد خلال حديث فيلو ويبدأ بالمقاطعة عند هذه النقطة. يدرك أخيرا أن حجة فيلو تنحر منظوره بنفس القدر الذي تنحر به منظور كلينذس. على الرغم من أنه قد يبدو بأن ديميا قادر على العودة عن الحكم الإلهي الذي رسمه سابقا، لكن المدى الذي تضايقه به حجة فيلو يوعز بأنه أدرك الآن عدم كفائته. لو استند على ترويج الغيبية الذي صرح به حتى الآن، فإن فيلو أظهر أنه وبسبب انعدام محتوى محدد فإنها لا يمكنها الإشارة حصرا لرب خيّر. لعلها تلزمه ببطل خارق “يتجاوز الخير والشر” ولامبال بالأخلاقيات. يتضح أن الالتزام دون محتوى هو عدم التزام بالكامل. يدرك ديميا هذا، بضبابية على الأقل، أثناء تركه الحوار.

4.8 الخلاصة: الجزء الثاني عشر

بمغادرة ديميا، يبقى كلينذس وفيلو لإنهاء الحوار. نبرتهما استرضائية، استرضائية لدرجة أن فيلو يقول بأن عليه “الاعتراف” بأنه أقل حذرا فيما يخص الدين الطبيعي من أي موضوع آخر،

لا يملك أحد حسا أعمق بالدين مطبوعا في ذهنه أو يمنح توقيرا بالغا للوجود الإلهي، مثلما يكشف نفسه للمنطق، في اختراع أو صنع الطبيعة الذي يتعذر تعليله. (DCNR 12.2/89)

يمهد “اعتراف” فيلو الطريق لاكتساحٍ ألغز أجيالا من القراء. يبدوأن فيلو قلب المجال، ساحبا فيما يبدو ما ألح عليه بقوة. يسلم لكلينذس أن ” الغاية والنية والتصميم يصيب كل شيء حتى أكثر المفكرين لامبالاة أو غباء” (DCNR 12.2/89).

إلا أن تعليقاته ليست بأي حال مباشرة. يتخذ البعض من فيلو – وبالتلميح، هيوم – على أنه يخرج نفسه من دولاب الإيمان. ويخلص آخرون، بما أنه يحمل كل الأوراق في هذه المرحلة، فبإمكانه تحمل أن يكون مسترضيا. يمكن قراءة المفارقة في قول فيلو بأنه في حين مراقبين “لا مبالين وأغبياء” أصيبوا بالغاية والنية والتصميم في الكون إلا أن الحذرين والناقدين والعاقلين لم يصابوا بها. لكن لا حاجة لفرض مفارقة هنا. القراءة المباشرة، “اختراع وصنع” الطبيعة “يتعذر تعليله” تحديدا لأنه لا يمكن للمنطق اكتشاف أي شيء عن صفات الرب الطبيعية أو الأخلاقية. يمكن للكل – حتى الغبي واللامبالي – رؤية أن لأجزاء من الحيوانات والنباتات وظائف، ويمكن فهم بسهولة لماذا “لن يقنع أبدا التشريحي الذي اكتشف عضوا جديدا أو قناة حتى يكتشف استخدامها وغايتها” (DCNR 12.2/90).

لا يقول اكتشاف أن لأجزاء الكائن الحي استخدامات – وظائف – أي شيء عما إذا استخداماتها أو وظائفها جراء خطة مصمم، لذا لا يوعز إقرار فيلو بأي شيءعما إذا يقبل الآن فرضية التصميم. ما يقوله هنا في الحقيقة تكرار لموقفه في الجزء الثامن، أن الوظيفة وحدها ليست برهانا على تصميم إلهي:

هباء....الإصرار على استخدامات أجزاء الحيوانات أو الخضروات وتوافقها الغامض مع بعضها. أسعد بمعرفة كيف يمكن للحيوان أن يعيش إن لم تكن أجزاءه متوافقة للغاية؟ (DCNR 8.9/61).

لا يمكن لأحد انكار التصميم بهذا المعنى، طالما يفعلون ذلك “دون غاية دينية” (DCNR 12.2/90). إذن بعيدا عن قلب موقفه، موقف فيلو مستمر بالخط الذي اتخذه عبر المحاورات.

وفيما يمضي الحوار، يمنح فيلو تشخيصا للخلاف. ففي حين تحمل أفعال الطبيعة “قياسا عظيما” لمنتجات من صنع الإنسان، كما يزعم خصومه، إلا أن ثمة أيضا فروقات معتبرة. يعتقد بأن قد يكون هذا مصدر العناد في النزاع، والذي يوعز أن في قرارة الأمر “نزاع كلمات نوعا ما” (DCNR 12.6/92).

لكن يمكن للنزاع أن يحل – أو يفض – عبر تقديم تعريفات واضحة. غير أن المعضلة حول محتوى فكرتنا عن الرب التي بناها فيلو بوضوح توعز بأن حلا بناءا كهذا غير ممكن هنا.

يشرح فيلو لماذا الحل النقدي وحده ممكن وذلك عبر منح تشخيص أعمق للمشكلة. فعلى الرغم من أنه قد يبدو النزاع لفظيا فقط، فإنه في الحقيقة “لا يزال غامض بشكل عضال”،

ثمة أنواع من الجدل المرتبطة بسبب طبيعة لغة نفسها وأفكار الإنسان بغموض أزلي ولا يمكن على الإطلاق ولا بأي حذر أو أي تعريفات أن تكون قادرة على الوصول إلى يقين معقول أو تحديد واضح. ثمة جدل يتعلق بدرجات الجودة والظروف. (DCNR 12.7/92)

هذا بالضبط ما يدور نزاع التصميم الذكي حوله. القياسات مسألة درجات دائما، ودرجات الجودة المشمولة في حجة التصميم عاجزة عن قياس دقيق. وبالتالي الجدل “لا يقر بأي معنى محدد أو بالتالي أي تحديد” ((DCNR 12.7/93. النزاع حول التصميم أسوأ حقيقة من النزاع اللفظي.

لذا يمكن لأي أحد، حتى الملحد، القول بقبول متساوي، أن “عفن ملفوف أو عمل الحيوان أو نظام فكر الإنسان” كلها “قد تحمل قياسا بعيدا لبعضها البعض” (DCNR 12.7/93). ولذا يمكن لفيلو، دون أن يصرف أي من مزاعمه السابقة، الاتفاق مع “الغامض نوعا ما والأقل تحديدا”، والذي كما رأينا،  مقترح غير معرّف حيث

اللاهوت الطبيعي برمته… يخلص بنفسه إلى…أن سبب أو أسباب النظام في الكون قد تحمل شيئا من القياس البعيد لذكاء الإنسان. (DCNR 12.7/93)

أي شيء يشبه أي شيء في جانب ما بعيد. لذا قد يكون مبدأ تنظيم الكون أي شيء حقا، لو كان ثمة واحد فعلا.

إن كان هذا كل ما في “اللاهوت الطبيعي برمته”، عندها يمكننا حتما استنتاج أن خلاصة الحجة لا تملك محتوى دينيا معتبرا. لكنها لا تملك محتوى دينيا معتبرا لأن نقد فيلو استنزف أي محتوى مهما كان. فرضية التصميم لكلينذس ليست خاطئة فحسب ولكن غير معقولة.

بدأ الحوار باتفاق كل المشاركين أن موضوعهم هو مناقشة طبيعة الرب فقط وليس وجوده. وفي ختامه، لم يعد واضحا ما إذا كانت تلك الأسئلة فارقة كما افتُرض بداية. لا ندري ما الذي نتحدث عنه حينما نتحدث عن رب طبيعته لا تُدرك ولاتفهم ولا تحدد ولاتُعرّف. ماذا سنصنع إذن بمزعم وجوده؟

أخرجت المحاوراتعواقب تصريح هيوم في الـمبحث الأول بأن،

تنبع فكرة رب ذكي بلاحدود وحكيم وخيّر من انعكاس لعمليات أذهاننا نحن وتضخيم هذه الخصائص من الخيرية والحكمة دون حد. (EHU 2.6/19)

لو أصرينا على حجة “تضخيم دون حد”، فإنننا نرخي وثاق ما يمنح محتوى عقلانيا لذكاء الرب وحكمته وخيريته. إذا ما ألجمنا الحد فلعلنا نملك محتوى لكن خسرنا الرب أيضا.


 

المراجع

أعمال هيوم

  • [T] A Treatise of Human Nature, edited by L. A. Selby-Bigge, 2nd ed. revised by P. H. Nidditch, Oxford: Clarendon Press, 1975. [Page references above are to this edition.]
  • [Abstract] An Abstract of A Treatise of Human Nature, 1740, reprinted with an Introduction by J. M. Keynes and P. Sraffa, Cambridge: Cambridge University Press, 1938. [Paragraph references above are to this edition.]
  • A Treatise of Human Nature, edited by David Fate Norton and Mary J. Norton, Oxford/New York: Oxford University Press, 2000.
  • [EHU] An Enquiry concerning Human Understanding, and
  • [EPM] An Enquiry concerning the Principles of Morals, both contained in Enquiries concerning Human Understanding and concerning the Principles of Morals, edited by L. A. Selby-Bigge, 3rd ed. revised by P. H. Nidditch, Oxford: Clarendon Press, 1975. [Page references above are to this edition.]
  • An Enquiry concerning Human Understanding, edited by Tom L. Beauchamp, Oxford/New York: Oxford University Press, 1999.
  • An Enquiry concerning the Principles of Morals, edited by Tom L. Beauchamp, Oxford/New York: Oxford University Press, 1998.
  • [HL] The Letters of David Hume, edited by J.Y.T. Greig, 2 volumes, Oxford: Clarendon Press, 1932.
  • [MOL] “My Own Life” (Hume’s autobiographical essay), in HL I:1–7.
  • [DCNR] Dialogues concerning Natural Religion, edited by Dorothy Coleman, Cambridge: Cambridge University Press, 2007. [Page references above are to this edition.]

أعمال أخرى لـ هيوم

  • A Dissertation on the Passions and The Natural History of Religion, edited by Tom L. Beauchamp, Oxford: Clarendon Press, 2007.
  • Essays: Moral, Political, Literary, edited by Eugene F. Miller, Indianapolis: Liberty Classics, 1985.
  • The History of England, edited by William B. Todd, Indianapolis: Liberty Classics, 1983.

In addition to the letters contained in [HL], other Hume letters can be found in:

  • New Letters of David Hume, edited by Raymond Klibansky and Ernest C. Mossner, Oxford: Clarendon Press, 1954.

نصوص أولية أخرى

  • Hobbes, T., 1651, Leviathan, in E. Curley (ed.), Leviathan, with selected variants from the Latin edition of 1668, Indianapolis: Hackett, 1994.

أعمال عن هيوم

  • Ainslie, D.C., 2015, Hume’s True Scepticism, Oxford: Oxford University Press.
  • Ainslie, D.C., and Annemarie Butler (eds.), 2015, The Cambridge Companion to Hume’s Treatise, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Allison, H.E., 2008, Custom and Reason in Hume, Oxford: Oxford University Press.
  • Árdal, P.S., 1966, Passion and Value in Hume’s “Treatise”, Edinburgh: Edinburgh University Press. 2nd edition, revised, 1989.
  • Baier, A.C., 1991, A Progress of Sentiments: Reflections on Hume’s “Treatise”, Cambridge: Harvard University Press.
  • –––, 2008, Death and Character: Further Reflections on Hume, Cambridge: Harvard University Press.
  • Baxter, D.L.M., 2008, Hume’s Difficulty, London: Routledge.
  • Beauchamp, T.L. and A. Rosenberg, 1981, Hume and the Problem of Causation, New York: Oxford University Press.
  • Bennett, J., 2001, Learning from Six Philosophers, Two Volumes, Oxford: Oxford University Press.
  • Blackburn, S., 1993, Essays in Quasi-Realism, New York: Oxford University Press.
  • Bricke, J., 1980, Hume’s Philosophy of Mind, Princeton: Princeton University Press.
  • Box, M. A., 1990, The Suasive Art of David Hume, Princeton: Princeton University Press.
  • Brown, C. and W. E. Morris, 2012, Starting with Hume, London: Continuum.
  • Buckle, S., 2001, Hume’s Enlightenment Tract: The Unity and Purpose of “An Enquiry concerning Human Understanding”, Oxford: Clarendon Press.
  • Cohon, R. (ed.), 2001, Hume: Moral and Political Philosophy, Aldershot: England and Burlington, Vermont: Dartmouth/Ashgate.
  • –––, 2008, Hume’s Morality. New York/Oxford: Oxford University Press.
  • De Pierris, G., 2015, Ideas, Evidence, and Method: Hume’s Skepticism and Naturalism concerning Knowledge and Causation, Oxford: Oxford University Press.
  • Dicker, G., 1998, Hume’s Epistemology and Metaphysics: An Introduction, London and New York: Routledge.
  • Earman, J., 2000, Hume’s Abject Failure: The Argument Against Miracles, New York: Oxford University Press.
  • Fodor, J.A., 2003, Hume Variations, Oxford: Clarendon Press.
  • Fogelin, R.J., 1985, Hume’s Scepticism in the “Treatise of Human Nature”, London: Routledge and Kegan Paul.
  • –––, 2003 A Defense of Hume on Miracles, Princeton: Princeton University Press.
  • –––, 2009, Hume’s Skeptical Crisis, Oxford: Oxford University Press.
  • Frasca-Spada, M., 1998, Space and the Self in Hume’s “Treatise”, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Frasca-Spada, M. and P.J.E. Kail (eds.), 2005, Impressions of Hume, Oxford: Clarendon Press.
  • Garrett, D., 1996, Cognition and Commitment in Hume’s Philosophy, Oxford/New York: Oxford University Press.
  • –––, 2015, Hume, London and New York: Routledge.
  • Harris, J.A., 2005, Of Liberty and Necessity: The Free Will Debate in Eighteenth-Century British Philosophy, Oxford: Clarendon Press.
  • –––, 2015, Hume: An Intellectual Biography, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Holden, T., 2010, Spectres of False Divinity: Hume’s Moral Atheism, Oxford: Oxford University Press.
  • Jones, P., 1982, Hume’s Sentiments, Edinburgh: Edinburgh University Press.
  • Kail, P.J.E., 2007, Projection and Realism in Hume’s Philosophy, Oxford: Oxford University Press.
  • Livingston, D.W., 1984, Hume’s Philosophy of Common Life, Chicago: University of Chicago Press.
  • –––, 1998, Philosophical Melancholy and Delirium: Hume’s Pathology of Philosophy, Chicago: University of Chicago Press.
  • Loeb, L.E., 2002, Stability and Justification in Hume’s “Treatise”, New York: Oxford University Press.
  • Millican, P. (ed.), 2002, Reading Hume on Human Understanding, Oxford: Clarendon Press.
  • Mossner, E.C., 1954, The Life of David Hume, London: Nelson.
  • Noonan, H.W., 1999, Hume on Knowledge, London and New York: Routledge.
  • Norton, D.F., 1982, David Hume, Common Sense Moralist, Sceptical Metaphysician, Princeton: Princeton University Press.
  • Norton, D. F. and J. Taylor (eds.), 2009, The Cambridge Companion to Hume, 2nd edition, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Noxon, J., 1973, Hume’s Philosophical Development, Oxford: Oxford University Press.
  • Owen, D., 2000, Hume’s Reason, Oxford: Oxford University Press.
  • Passmore, J., 1952, Hume’s Intentions, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Pears, D., 1990, Hume’s System, Oxford: Oxford University Press.
  • Penelhum, T., 1975, Hume, London: Macmillan.
  • –––, 2000, Themes in Hume: The Will, The Self, Religion, Oxford: Clarendon Press.
  • Price, H.H., 1940, Hume’s Theory of the External World, Oxford: Clarendon Press.
  • Radcliffe, E.S. (ed.), 2008, A Companion to Hume, Oxford: Blackwell.
  • –––, 2018, Hume, Passion, and Action, Oxford: Oxford University Press.
  • Read, R. and K.A. Richman (ed.), 2000, The New Hume Debate, New York and London: Routledge.
  • Russell, P., 1995, Freedom and Moral Sentiment, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2008, The Riddle of Hume’s Treatise: Skepticism, Naturalism, and Irreligion, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2016, The Oxford Handbook of Hume, Oxford: Oxford University Press.
  • Schmitt, F.F., 2014, Hume’s Epistemology in the Treatise: A Veritistic Interpretation, Oxford: Oxford University Press.
  • Smith, N.K., 1941, The Philosophy of David Hume, London: Macmillan.
  • Stanistreet, P., 2002, Hume’s Scepticism and the Science of Human Nature, Aldershot: Ashgate.
  • Stewart, M.A. and J.P. Wright (eds.), 1994, Hume and Hume’s Connexions, Edinburgh: Edinburgh University Press.
  • Strawson, G., 1989, The Secret Connexion: Causation, Realism and David Hume, Oxford: Oxford University Press.
  • Stroud, B., 1977, Hume, London: Routledge and Kegan Paul.
  • Taylor, J., 2015, Reflecting Subjects: Passion, Sympathy, and Society in Hume’s Philosophy, Oxford: Oxford University Press.
  • Traiger, S. (ed.), 2006, The Blackwell Guide to Hume’s “Treatise”, Oxford: Blackwell.
  • Tweyman, S., 1995, David Hume: Critical Assessments, Six Volumes, London and New York: Routledge.
  • Waxman, W., 1994, Hume’s Theory of Consciousness, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Wright, J. P., 1983, The Sceptical Realism of David Hume, Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • –––, 2009, Hume’s “A Treatise of Human Nature”: An Introduction, Cambridge: Cambridge University Press.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

  • The Hume Society
  • David Hume, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by James Feiser (University of Tennessee, Martin)
  • David Hume archived version of a webpage on Hume by Bill Uzgalis (Oregon State).

مداخل ذات صلة

Berkeley, George | Clarke, Samuel | free rider problem | Hobbes, Thomas | Hume, David: Newtonianism and Anti-Newtonianism | Locke, John | miracles | Scottish Philosophy: in the 18th Century

شكر

أشكر الراحلة أنييت بيير وآرثر مورتون وديفيد أوين على مساعدتهم. ويشكر المحررون سالي فيرغسون لإعلامنا بعدد من الأخطاء المطبعية.