مجلة حكمة
منزلة ابن رشد عند اللاتين نمتتلاقر

لُمع أفيروسية: عن منزلة أبي الوليد عند اللاتين الإسبان – محمد بلال أشمل


مقدمة:

مشروع استعادة ابن رشد إلى فضاء التداول الفكري والفلسفي العربي الإسلامي، مشروع وجيه. وستزداد وجاهته قدرا لما يمضى إليه على شروط فكرية ومنهجية وحضارية بالغة قصدها ومرماها.

إحدى تلك الشروط تحرير ابن رشد من سلطة المتن اللاتيني والعبري؛ فالأكيد أن تلك السلطة ما زالت ترهن أبا الوليد في وضع جديد علينا، غريب على نفوسنا، غير منسجم مع محصلة الأفكار والآراء التي نملكها عنه.

ويقتضي ذلك نقل ابن رشد إلى اللغة العربية، وتحقيق جملة الأقاويل الموضوعة في فكره الفلسفي والديني إن لم نقل حتى الأقاويل الغربية الإسبانية المعاصرة التي تشتغل على إرث لاتيني عظيم القدر والدلالة. ونعتقد أن الوقت قد حان لكي نوجه عنايتنا إلى الرشديات الإسبانية في إطار فتح الفكر المغربي والعربي على فضاء الفكر الإسباني تكثيرا لمصادر التلاقح الثقافي، وتعديدا لفرص الحوار الحضاري.

وقتما ننجز مهمة تحرير ابن رشد من سلطة المتن المذكور، ليس يظل هناك من ريب أنا سنكون بسبيلنا إلى إدراك الكيف الذي انتقل به أبو الوليد إلى تربة الغرب فأثمر الثمار المعروفة في الرشدية اللاتينية وييسر علينا، من ثم، إعداد المناخ الملائم لكي يثمر في تربة فكرنا العربي الإسلامي الثمار المرجوة منه. ولعل أدناها أن يرتقي فكرنا إلى مرتبة الرشد ويمتلك أخيرا آلة السير على الطريق الموصل إلى الغايات النبيلة.

ونتصور أن أولى الخطوات هي تحقيق القول في منزلة ابن رشد عند اللاتين عن طريق إبراز علاقات هؤلاء بتراثه الفلسفي والفكري.

ومنتهى ما تبتغيه محاولة من هذا القبيل، الإشارة إلى الجهة المراد توجيه الجهد إليها إطلاعا وترجمة وتفكيرا… وحسبنا منها الآن لمعا أفيروسية عن منزلة ابن رشد عند اللاتين الإسبان في انتظار تهيؤ الأسباب لتقديمها كاملة غير ناقصة متى تكاثفت الجهود وتعصبت الإرادات… فأية منزلة لابن رشد لدى اللاتين الإسبان؟ وقبل ذلك لم اللاتين الإسبان؟

إشكالية اللاتين الإسبان:

أغلب المؤرخين للفكر الإسباني يعدون بعض المشتغلين بالإنسانيات من اللاتين إسبانا. ويظهر أن إشكالية “العلم الإسباني” التي تداولتها الحياة العقلية الإسبانية منذ “مينينديث بيلايو” في سجاله المرير مع “الكراوسيين”(1) قد حسمت أخيرا لصالح الأول فبات من ولد على الأرض الإسبانية وعاش فيها ونشر تحت سمائها رسالة أو كتابا، عد إسبانيا ولو كان “سينيكا” الذي ولد في قرطبة وإسبانيا ما زالت ولاية رومانية!!(2)

هذا الحسم لصالح إسبانية اللاتين تدخل في تركيبته مواد تاريخية أخرى، وعلى سبيل المثال، إن معظم هؤلاء الذين عرفوا بمشاركة ما في الحياة العقلية في أوروبا، كانوا من أصول إسبانية وقتما كانت “فكرة إسبانيا” كمشروع إمبريالي قد صيغت قبل ذلك في “الريكونكيستا” وتحددت ملامحها لما مضت قشتالة إلى توحيد أراضي أرض إسبانيا -حسب تعبير “خوليان مارياس”- وطرد الحضور العربي الإسلامي منها(3).

هذا إلى أن بعضهم، مثل “أنسليم تورميدا” كان يؤلف بالكطلانية إلى جانب اللاتينية وهي اللغة التي تعتبر من اللغات الوطنية -إذا شئنا تبسيط إشكالية القوميات الإسبانية- ومثل ذلك يكفي للزعم أن هذا وذاك إسباني الأصل والانتماء واللغة والعطاء…

والأمر المؤكد، أن حرص بعض المؤرخين على هوية اللاتين مفهومة في سياق البحث عن موطئ قدم داخل الانتماءات الأوروبية المتعددة ونيل شرف خدمة الغرب عن استحقاق وجدارة، والإدعاء أن العمق التاريخي هو الفائض في كل حال..

فعلى سبيل المثال، يرتقي “بونيا إي سان مراتين” (1875-1926) بالفلسفة الإسبانية إلى العصور السحيقة، ويقسم تاريخها إلى العصور القديمة، والعصر الروماني، والمرحلة المسيحية، ثم الفترة القوطية، فالقرن الثاني عشر، والثالث عشر حيث يدرس الفترة المسيحية والفترة الغير المسيحية وفيها يقف عند الفلسفة اليهودية أولا والإسلامية ثانيا فيعرض لطابعها العام، ويتحدث عن الموسوعية الإسلامية والمتكلمين والصوفية، ثم يعرض لابرز أعلام تلك الفترة مثل ابن باجة وكتابه تدبير المتوحد وابن طفيل وقصته حي بن يقظان وابن رشد ومؤلفاته ويتكلم على تصنيفها وتأثيره في الإسكولائية، وفي عصر النهضة، وفي مدرسة “بادو”، وعلى انتشار الرشدية في إسبانيا وفي الخارج، ثم يفحص نظرية أبي الوليد في وحدة العقل، ويتحدث عن محيي الدين بن عربي، وتصوفه، فابن سبعين ومراسلته مع “فيديريكو الثاني” الصقلي، مختتما حديثه عن الفترة الإسلامية بالإشارة إلى بعض المفكرين المسلمين الآخرين(4).

وصنيع “بونيا إي سان مراتين” يتقاطع مع صنيع غيره من المؤرخين أمثال “غييرمو فرايلي”(5) و”ميغيل كروث إيرنانديث”(6) و”فروتوس كورتيس”(7)..الخ، وجميعه يمضي إلى تأكيد الهوية الإسبانية للعطاء الفكري والفلسفي للمشتغلين بالإنسانيات وفضيلته أنه يعتبر التراث العربي الإسلامي جزءا أساسيا وضروريا لفهم تاريخ إسبانيا على غير ما يرى ثلة من المؤرخين ذوي النزعة الوطنية الضيقة.

وكيفما كان الحال، سنعنى بعلاقة اللاتين الإسبان بأبي الوليد رصدا لمنزلته لديهم.

أية منزلة لابن رشد لدى اللاتين الإسبان؟

أية منزلة لابن رشد لدى اللاتين الإسبان؟

حسبنا، إجابة على هذا السؤال، تقديم اللمع القليلة الآتية عن علاقة أبي الوليد باللاتين الإسبان؛ لمع كهذه، على قلتها وقصرها، تستطيع مساعدتنا، بكيفية تمهيدية، على فهم طبيعة علاقة هؤلاء بأبي الوليد، وإدراك أبعاد منزلته لديهم…

لنلق، في البداية، نظرة خاطفة على زمان ومكان ترجمة ابن رشد إلى اللاتينية.

ترجمة ابن رشد إلى اللاتينية:

عقب وفاة أبي الوليد عام 1198، بدأت في القرن الثالث عشر حركة ترجمة تعليقاته على “أرسطو” إلى اللاتينية مما شكل نقطة تحول خطيرة في الانتقال الفلسفي من الشرق إلى الغرب. وكانت أولى الترجمات هي تلك التي قام بها “ميغيل إسكوت” في “توليدو”، واستمرت بعد ذلك في “ساليرنو”؛ فليس بغريب إذن أن يشهد بانوراما الفلسفة وأفق التفكير تغييرا جذريا في أوروبا لما تم التعرف، أواسط القرن الثالث عشر، على المتن الأرسطي بفضل ابن سينا وابن رشد(8).

رامون مارتي وابن رشد:

ولد “رامون مارتي” R.Marti في سوبيرات حوالي عام 1230 وتوفي في برشلونة عام 1286. وضع مجموعة من المؤلفات مثل “Pugio fidei contra judaeos” (خنجر الإيمان ضد اليهود) وهو كتاب عميق الحجاج اللاهوتي كتبه صاحبه حوالي عام 1275 باللغة العبرية واللاتينية وتظهر فيه معرفته بالعربية وآدابها مثل معرفته بآداب العبرية. وتمدنا استشهاداته بالتلمود، وابن ميمون، وابن عزرا، وابن سينا، والغزالي، والفارابي، وابن رشد، بفكرة ما عن علمه الزاخر(9).

غومز بيريرا وتأثره بابن رشد:

قليلة هي المعلومات عن هذا الاسكولائي، ومع ذلك يعرف أن غومز بيريرا G.Pereira ولد في كامبودي مدينا C. de Medina عام 1500 وتوفي عام 1588 أو بعد ذلك بقليل. درس في جامعة شلمنقة ومارس الطب في بلد الوليد Valladolid وضع مجموعة من المؤلفات ولا سيما في الطب ويصنفه “خوسي لويس أبيان” ضمن السابقين على “ديكارت“. قرأ بالإضافة إلى ابن رشد، أرسطو، وأفلاطون، والقديس أوغسطين، وأوكام، وجميع هؤلاء أثروا عليه كثيرا(10).

على الرغم من أن بعض المؤرخين للفكر الإسباني يدرسون الفلسفة اليهودية في إسبانيا والبرتغال، إلا أنهم لا يعتبرون فلاسفتها من اليهود إسبانا بما تحمله العبارة من دقة؛ فبعضهم يرفض أن يعتبر “سبينوزا” فيلسوفا إسبانيا وإنما يهودي سفاردي هولندي ولهم على ذلك، مثل حالة “أبيان” معايير كموضع المولد وجنسية الوالدين، وإرادة سياسية شخصية..الخ(11).

نفس الشيء ينطبق على ابن ميمون؛ فهو لا يعد إسبانيا بدقيق العبارة، ولكن رتبته فيها أعلى من رتبة “سبينوزا” على الأقل فيما يتعلق بموضع الولادة وجنسية الأبوين، ومن ثم إن “ميمونيد” إسباني بالقدر الذي تبلور فيه فكره على الأرض الإسبانية.

ولد ابن ميمون Maimonides في قرطبة عام 1135 وتوفي بالإسكندرية عام 1204. يقول عنه “أبيان” إنه شديد التأثر بالفكر الإسلامي، وأكبر ملهميه ابن سينا وابن رشد؛ فمن الأول، أخذ التصور الأفلاطوني المحدث، ومن الثاني كثيرا من العناصر الأرسطية مزجها مزجا في “دلالة الحائرين” بحيث يمثل هذا المؤلف تركيبا هارمونيا عما أخذه عن الفيلسوفين السابقين. ويشكل ابن ميمون مع ابن رشد، منارة الفكر اليهودي والعربي قدر لهما التأثير على التقليد الفلسفي الإسلامي واليهودي بل وحتى على الفلسفة المسيحية(12).

تأثير المادية الرشدية على أنسليم تورميدا:

يعتبر أنسليم تورميدا Anselm Turmeda واحدا من الممثلين للفلسفة الكطلانية في القرن الخامس عشر الميلادي. ولد في ميورقة حوالي عام 1352 وتوفي في تونس حوالي عام 1425. درس الفنون الحرة وانخرط في نظام الفرانسيسكان ولبث عشر سنين في جامعة بولونيا حيث شهد لنفسه تغييرا جذريا. منبهرا بالمادية الرشدية، فقد الإيمان المسيحي وفر إلى تونس حوالي العام 1387 وهنالك حصل على حماية السلطان. وضع كتابا مهما بالعربية تضمن الدفاع عن الإيمان الإسلامي ودحض الإيمان المسيحي(13).

رامون سبيودا ومعارضته للرشدية:

رامون سبيودا R.Sibiuda وجه متميز في تقليد الفلسفة الكطلانية؛ تجهل سنة ولادته وإن كان يعرف مكانها في برسلونة، أما وفاته فكانت عام 1436 بتولوز. أطلقت عليه الكثير من الأسماء، ولكن لا أحد يرتاب في كونه من أصل كطلاني كما يظهر ذلك منحى فكره. كان أستاذا في فن التعاليم والطب واللاهوت، مارس التدريس في تولوز حيث يبدو أنه كان عميد جامعتها. كفيلسوف، يعتبر من المعارضين للرشدية ومنخرطا في التيار الليولي. المؤلف المحفوظ لهذا الفيلسوف كتابه “اللاهوت الطبيعي” الذي حرم مجمع “ترنت” Trento تداول مقدمته عام 1564(14).

“رامون ليول” والحرب الصليبية ضد الرشدية:

يعتبر “رامون لول” R.Llul من أبرز وجوه الفلسفة الكطلانية في القرن الرابع عشر الميلادي. ولد في ميورقة عام 1233 وتوفي فيها أيضا عام 1316. كان قوي الارتباط بالروح الفرانسيسكاني. أحسن اللسان العربية وبه كتب بعضا من مؤلفاته وقرأ بوساطته كثيرا من الأعمال العربية حيث تأثر تطور فكره بالمذهب الأرسطي ونظريات الصوفية المسلمين. وهب حياته لحروب صليبية ضد الرشديين حيث دعا في مجمع “فيينا” في عهد البابا “كليمينتي الخامس” Clemente إلى تحريم تعليم الرشدية، ولم تجد دعوته تلك صداها إلا في مجمع “ليتران” الخامس الذي انعقد خلال سنوات 1512-1517. من مؤلفاته ضد الرشدية: “حول أخطاء ابن رشد” و”كتاب حول الممكن والمستحيل” ضد التصور الرشدي للفلسفة، و”كتاب المتناقضات” ضد الأطروحة الرشدية في القياس، و”كتاب مراثي الفلسفة أمام أخطاء الرشديين” و”كتاب صلوات ضد الرشديين”(15).

“بينيتو بيريرو” وقراءته لابن رشد:

وإن كان “بينيتو بيريرو” B.Pererio ينتمي إلى العصر الذهبي في القرن السادس عشر الميلادي، إلا أنه ما يزال على صلة بالتقاليد الفلسفية الإسكولائية وميراث الرشدية اللاتينية. ولد عام 1535 في الرصافة/بلنسية، وتوفي عام 1610 بروما. عطاؤه العلمي متنوع بين التأليف الفلسفي واللاهوتي. له كتاب واحد مطبوع في روما عام 1562 حول الفلسفة عامة، والفلسفة الطبيعية خاصة. مصدره الرئيسي هو أفلاطون حيث يكاد يسير على منواله دائما دون أن يعني ذلك إغفاله الاستشهاد بمذاهب الشراح الكبار أكانوا إغريقا مثل الإسكندر الأفروديسي، أو عربا مثل ابن سينا وابن رشد أو اسكولائيين كالقديس “توما الأكويني” على الخصوص(16).

“فرانسيسكو سواريز” والإحالة المتكررة على ابن رشد:

ينتمي “فرانسيسكو سواريز” F.Suarez إلى التقليد التوماوي، ولكنه يمثل داخله حالة من الاستثناء. ولد عام 1548 بغرناطة، وتوفي عام 1617 بلشبونة. ذكر أحد الباحثين أن “سواريز” استشهد 179 مرة بابن رشد بالإضافة إلى فلاسفة آخرين اعتمد عليهم في كتابه (خصومات ميتافيزيقية)(17).

 

خاتمــة:

تفيدنا هذه اللمع، على قلتها وقصرها، في تحصيل حدس زماني أولي عن منزلة أبي الوليد بن رشد لدى اللاتين الإسبان خلال فترات تاريخية تمتد من وفاة فيلسوف قرطبة إلى القرن السابع عشر الميلادي. وهي لمع إن سعت إلى تأكيد شيء، فعلى أن تلك المنزلة ذات مغزى تاريخي -أيا كانت طبيعتها- تحفزنا على إعادة تحقيق خبر أبي الوليد في الثقافة الفلسفية الإنسانية عامة، والعربية الإسلامية خاصة، وفحص المتون التي تداولت الشأن الرشدي اتفاقا أو اختلافا ومنها متون هؤلاء الأعلام الفلاسفة والمفكرين الذين صغنا صلتهم بأبي الوليد لمعا..

 

مجلة الجابري – العدد الرابع عشر


هوامش:

1 – انظر السجال في كليته:

J.IriarteM.Pelayo y la filosofia espanola, Razon y FeMadrid 1947.

2 – انظر مقالي “العلم الوطني في الكتاب الفلسفي المدرسي الإسباني، الملحق التربوي” جريدة المنظمة. البيضاء، 21 نوفمبر 1997.

3 – يرى أونامونو أن قشتالة هي نواة الوحدة الإسبانية، انظر:

M.De UnamunoEn torno al casticismoAlianza editorial, Madrid 1986, p.50.

4 – Bonilla y San Martin: Historia de la filosofia espanola desde los tiempos primitivos hasta el siglo XII, Victoriano Suarez, Madrid 1908.

5 – G.FraileHistoria de la filosofia espanola, 2 volumenes. Madrid 1971-1972.

6 – M.Cruz HernandezHistoria de la filosofia espanolala filosofia hispano-musulmanaMadrid (2volà 1975.

7 – E.FrutosHistoria de la filosofia y de las sienciasZaragoza 1963.

8 – J.Luis AbellanHistoria critica del pensamiento espanolT(1) 2ed. Espasa-Calpe, Madrid 1988, p.210-213.

9 – Ibid, p.232.

10 – Ibid, T4, p.189.

11 – Ibid, T1, p.206-208.

12 – Ibid, T1, p.204-206.

13 – Ibid, T1, p.295-296.

14 – Ibid, T1, p.307-308.

15 – Ibid, T1, p.266-270.

16 – Ibid, T2, p.575-576.

17 – Jesus IturriozFuentes de la Metafisica de SuarezPensamiento, n°4, 1948.