مجلة حكمة
ماذا يخبئ المستقبل ؟

ماذا يخبئ المستقبل؟ تاريخ موجز للسكان

الكاتبداريل بريكر، جون ابيتسون
ترجمةإبراهيم عبدالله العلو

اقتربنا كثيراً من الفناء

لم يكن هنالك سوى بضعة آلاف من البشر وربما أقل متشبثين بسواحل جنوب أفريقيا على شفا الاندثار. (5).

نفث الثوران الكارثي لجبل توبا Mount Toba في سومطرة قبل ما يقرب من 70000 سنة –لم يحدث أي ثوران يوازيه منذ ذلك الحين-ما يقرب من 2800 كيلومتر مكعب من الرماد في الجو والذي انتشر من بحر العرب في الغرب إلى بحر الصين الجنوبي في الشرق ومنح الأرض ما يعادل ست سنوات من الشتاء النووي. يعتبر توبا “من قبل بعض العلماء الحادثة الأكثر كارثية والتي تعرض لها النوع البشري قط”(6).

 كان الانسان العاقل Homo sapiens يمر ببعض المتاعب رغم اتقاننا للأدوات والنار خلال تاريخنا الممتد على 130000 عام لغاية ذلك الوقت.

مرت الأرض بمرحلة تبرد قضت على معظم موارد الغذاء

والآن بعد توبا أصبحت الأمور أسوأ بكثير. بحثنا عن بعض الدرنات النباتية وحصدنا المحاريات في آخر الجيوب الأفريقية التي لا تصلح للعيش. ومع المزيد من الأخبار السيئة كانت نهايتنا وشيكة.

وهذه على الأقل إحدى النظريات التي يعتنقها بعض الآثاريين والأنثروبولوجيين وهناك من يعتقد أن البشر هاجروا من أفريقيا بحلول ذلك الوقت وأن تأثير توبا مبالغ فيه. (7).

ولكن يصعب التخلي عن فكرة مفادها أن البشرية المتهالكة كانت على وشك الانقراض تجاهد لإطعام ما تبقى من شبابها في عالم قاحل قبل أن تنقشع السماء وتهتز الأرض وتُدفئ الشمس الأرض من جديد.

ولكننا تحركنا ببطء. ربما قطع أشجع بني البشر المضائق بين جنوب شرق آسيا وأستراليا قبل خمسين ألف سنة. (يقترح دليل جديد وصولهم إلى هناك قبل ذلك التاريخ) (8). وربما انجرف بعضهم إلى هناك بمحض الصدفة واستقر الآخرون هناك عن قصد عبر بحر رائق الأفق ربما بسبب ما سمعوه من الأحياء العائدين من هناك. (9).

أصبح وقتها ما يعرف اليوم بالصين مأهولاً وعبَر البشر الجسر الأرضي الذي ربط آنذاك بين سيبيريا وألاسكا قبل 15 ألف عام وبدأوا رحلتهم الطويلة نحو الأمريكيتين. (تتعرض كل هذه التواريخ للطعن). (10).

 مكنت إحدى أهم الاكتشافات البشرية من زيادة معدل أعمارنا وأعدادنا قبل 12000 سنة بداية من الشرق الأوسط ومن ثم بشكل مستقل في أماكن أخرى حول العالم. بدأ الناس بملاحظة أن البذور الساقطة من الأعشاب تنتج أعشاباً جديدة في العام التالي. وبدلاً من الهيام والتجول من مكان لآخر لصيد وسوق الحيوانات وجمع الفواكه والحبوب كان من الأفضل منطقياً الاستقرار وزرع وحصاد المحاصيل ورعاية الماشية. لم يكن الجميع لازمين في الحقول ولذلك بدأ تخصص العمل مما عقد الأمور أكثر فأكثر وأدى إلى ولادة الحكومة والاقتصاد المنظم. تراجع مجتمع الصيد والجمع لايزال البعض منها موجوداً لغاية اليوم في مواضع معزولة-وظهرت الحضارة. السومرية والمصرية وسلالة زيا Xia Dynasty ووادي الاندوس والمايا.

كان التقدم مبهماً

 أشار نهوض وسقوط الامبراطوريات إلى توتر يتزايد حيناً ويتضاءل في أحيان أخرى: تسّخن الكوكب أو تبّرده والذي يدمر الغلال ووصول أحدث جوائح البكتيريا أو الفيروسات. ضاعت المعرفة وتعين عليهم تعلمها من جديد بشكل مؤلم.

 تخلف الشرق في البداية عن ركب الغرب لأنه استقر بعده ومع حلول زمن المسيح عليه السلام تساوت الإمبراطورية الرومانية مع إمبراطورية هان Han إلى حد ما-مساواة إلى درجة مكنت إحداهما من القضاء على الأخرى.

 كتب إيان موريس “طور كل منهما مجموعته المتفردة من الأمراض القاتلة …ولغاية عام 200 قبل الميلاد تطورتا وكأنهما على كوكبين مختلفين. ولكن مع تنقل المزيد من التجار والرُحّل عبر السلاسل الجبلية التي ربطت الداخل بدأت بوتقة الأمراض بالتمازج وتحرير الرعب الذي أصاب الجميع.”(11).

 كانت الحكاية هي ذاتها منذ فجر الحضارة في بلاد ما بين النهرين ومصر حوالي عام 3200 قبل الميلاد ولغاية بزوغ فجر التنوير في عام 1300 للميلاد: يمنح خليط من الجغرافيا والزعامة والتقدم التقني ميزة الأفضلية لهذه القبيلة أو ذلك الشعب الذي يغزو كل ما حوله. شُقت الطرق وتحسنت الفلاحة وأُقرت القوانين وجُبيت الضرائب في عهد السلام الذي تلا ذلك. ثم حدث شيء ما: سنون عجاف وعدوى وشغب واهتياج في مناطق قصية أرجع المحاربين هاربين أو غزو من الأطراف نحو المركز الذي لم يتمكن من الصمود. انهيار. إعادة البناء. وتكرار.

ورغم ذلك لم يضع كل ذلك التقدم سُدى ومع تقهقر الشرق أو الغرب أو الجنوب تحسنت الأمور في مكان آخر.

 حافظ الإسلام على المعرفة الضائعة بسبب سقوط روما واكتشفت الهند الصفر الذي جعل الكثير من الأشياء ممكنة. أنتج آخر وباء الأجسام المضادة المقاومة له. وأصبحت المناعة في أوراسيا على الأقل أداة للتقدم هائلة القوة.

تنامى سكان العالم من عدة آلاف في أعقاب ثوران توبا إلى ما بين خمسة وعشرة ملايين خلال الثورة الزراعية الأولى. وربما وصل العدد إلى 300 مليون إنسان في العام الأول للميلاد. ومع حلول عام 1300 وتوحد الصين وتنورها وتطورها في عهد سلالة سونغ Song Dynasty وانتشار الإسلام من الهند إلى اسبانيا وانبثاق أوروبا أخيراً من عصرها المظلم ما بعد الرومان بلغ عدد السكان العالمي ذروته عند 400 مليون إنسان. (12). ومن ثم حدث أسوأ الأشياء.

بكتيريا يرسينا بيستس  Yersinia pestis التي تسبب الطاعون الدملي(اللمفاوي) والتي تواجدت معنا منذ زمن طويل. تقول إحدى النظريات إن الأرض الممتدة ما بين البحر الأسود والصين هي “مخزن للطاعون” حيث تواجدت العصية على مدى طويل ولا تزال هناك لغاية الآن. (تتواجد حالات عرضية في المنطقة لغاية اليوم) (13). لا يصيب هذا المرض البشر بشكل أساسي بل هو “مرض يصيب الجرذان ومن ثم البشر”(14). تصاب الفئران بالعدوى عبر البراغيث التي تحمل البكتيريا وبعد موت الجرذ يبحث البرغوث عن مضيف جديد وإذا تواجد البشر بالقرب منه تكون تلك نهايتهم. يستغرق الأمر ما بين ثلاثة إلى خمسة أيام من زمن تعرض الشخص للعض حتى المرض مما يمنحه الكثير من الوقت ليعدي الآخرين لأن الوباء يتمكن من الانتقال بين البشر عبر القطيرات المنقولة بالهواء. (15).

توافرت تقارير عن تفشي جوائح عبر العصور القديمة: ومن بين أوائل الحلقات الموثقة بالكامل طاعون جوستينيان Justinian، الذي انتشر في عام 541 للميلاد والذي أودى بآمال الامبراطور البيزنطي باستعادة المناطق التي خسرتها من الإمبراطورية الرومانية. (16).

ولكن لا شيء يقارن بالطاعون الأسود الذي سمي كذلك فيما بعد. كان على الأغلب سلالة فتاكة من الطاعون الدملي وربما انتقلت من الصين أو السهوب إلى القرم ووصل في عام 1346. 

ووفق إحدى الروايات وخلال حصار كافا Caffa، على البحر الأسود قذف جنود المغول الجثث المصابة على الأسوار فيما يُعتقد أنه أول حالة للحرب البيولوجية. (17). وعلى أية حال حُمل المرض بواسطة السفن من موانئ القرم إلى الموانئ المتوسطية.

كانت أوروبا ضعيفة بشكل فريد. إذ استنفذت فترة من التبرد العالمي الغلال وتركت الناس جوعى وأجهزتهم المناعية واهنة. ألقت الحرب بحملها الثقيل على السكان المحليين. وبالرغم من كل تلك الأنباء السيئة كان الاقتصاد والسكان في أوروبا القرون الوسطى في تنامي سريع بعيد قرون العصور المظلمة مع نمو غير مسبوق في السفر والتجارة بين المدن والمناطق. ولذلك تمكن المرض من الانتشار بسرعة 2 كيلومتر في اليوم على معظم الطرق الرئيسية وحيث تسمح السفن للبراغيث بالقفز إلى شمال أوروبا مباشرة. وخلال ثلاث سنوات كانت القارة بأكملها قد وقعت ضحية للوباء.

يموت المصاب في 80% من الحالات خلال أسبوع من ظهور أول الأعراض. ووصف تطور المرض في ترنيمة (أسجوعة) حضانة:

  • حلقة حول الروزي: بوبو-تورم للعقدة اللمفاوية بين الفخذين وتحت الأبطين أو العنق-كانت تشبه الحلقة وبلون الورد في المنتصف وعلامة أكيدة للمرض.
  • جيب مليء بالزهور: مع تقدم المرض يبدأ الجسم بالتعفن من الداخل. تصبح الرائحة مقرفة لدرجة يحمل معها المصاب حزم من الزهور لتلطيف الجو.

آتش تشو (أو تحورات محلية): يعاني الضحايا من الصداع والحكة القاتمة والإقياء والحمى-وصعوبة التنفس أو يعطس.

نسقط جميعاً: الموت(18)

وبينما توافر جدل كبير حول ضعف الدليل على حجم الإصابة في الهند والصين(19) انقرض ما لا يقل عن ثلث أوروبا في غضون سنوات قليلة-تضع بعض التقديرات الرقم عند 60%(20).

كتب أحد المؤرخين في فلورنسا “لم يفعل المواطنين شيئاً سوى حمل الموتى ودفنهم” حيث تم اجتثاث أكثر من نصف السكان في غضون أشهر قليلة. رُمي الموتى في حفر ضحلة في بعض الأحيان حيث تقوم الكلاب بنبش الجثث والتغذي عليها. (21).

دمر الوباء الحكومات وقوض سلطة الكنيسة الكاثوليكية وأذكى التضخم بسبب النقص الذي حدث بفعل عرقلة التجارة وشجع الاسراف التلذذي بين الأحياء “ولم لا؟” واستغرق الأمر مئات السنين في بعض المناطق قبل أن يؤوب عدد السكان إلى مستواه السابق. (22).

 كانت بعض عواقب الطاعون الأسود magna pestilencia مفيدة رغم صعوبة نسبها إليه. 

أضعف نقص العمالة الرابطة بين السيد والعبد ورفع حركية العمالة وحقوق العمال ودفع بالإنتاجية إلى الأمام. وعموماً ارتفعت الأجور أكثر من التضخم. انهارت الاقطاعية في النهاية وقام الملاك بالتعاقد نظير خدمات العمال عوضاً عن الإقطاع. أحجم الأوروبيون عن رحلات البحر الطويلة بسبب ارتفاع معدل الوفيات.  وبما أن معدلات الوفاة كانت مرتفعة أيضاً على الأرض أصبحت المخاطرة تستحق التجربة.

وربما ساعد الوباء على إطلاق عصر الاستكشاف والاستعمار الأوروبي. (23).

 أفضى الاستعمار إلى فقد أعظم للحياة في العالم الجديد لأن المستكشفين والنهابين ومن ثم المستوطنين أدخلوا أمراضهم للسكان الأصليين العزل في شمال ووسط وجنوب أمريكا. ومرة ثانية يصعب إحصاء فقد الحياة وقضى ما لا يقل عن نصف سكان أمريكا نحبهم لدى اتصالهم بالأوروبيين(24) مما جعلها “ربما أعظم كارثة ديموغرافية في تاريخ العالم”. (25). يقدر البعض أن خسارة السكان تجاوزت 90%(26). وكان الجدري على الأخص فتاكاً وقاتلاً.

تظافرت المجاعة والحروب والأوبئة للحفاظ على عدد السكان من البشر ضمن الحدود طوال القرون الوسطى من الألفية الأخيرة. وإذا عاش 400 مليون شخص على الأرض في عام 1300 لم يكن هناك أكثر من 600 مليون في عام 1700. (27). كان العالم محصوراً في المرحلة الأولى من “نموذج الانتقال الديموغرافي” الذي طوره في عام 1929 الديموغرافي الأمريكي وارين تومبسونWarren Thompson. كانت معدلات الولادة والوفاة مرتفعة في المرحلة الأولى التي تشمل كل البشرية من فجر النوع البشري حتى القرن الثامن عشر وكان النمو السكاني بطيئاً ومتذبذباً.

 يشكل الجوع والمرض جزءً من المشكلة: مات ما يقرب من ثلث مجموع الأطفال قبل بلوغهم سن الخامسة في أوروبا العصور الوسطى في مجتمع المرحلة الأولى التقليدي وإذا تمكن الفرد من النمو يفضي سوء التغذية المزمن إلى الموت في خمسينات العمر.

هذا إن لم يُقتل في الحرب. كانت الحروب والجريمة تهديدات متواصلة في المجتمعات ما قبل الصناعية. وكان ما قبل التاريخ أكثر عنفاً. وكما لاحظ ستيفن بينكر Steven Pinker ” تُظهر كافة العينات البشرية ما قبل التاريخ والتي حُفظت في المستنقعات والحقول المتجمدة وما شابه ذلك موتاً عنيفاً”. وتساءل قائلاً:” ما بال الأقدمين لم يتركوا لنا جثة مهمة دون اللجوء إلى المخادعة؟”(28).

ولذلك لم نُفاجئ لدى علمنا أنه من أيامنا الأول لغاية عصر التنوير، سواء في الصين أو الأمريكيتين أو أوروبا أو في أي مكان آخر، نما عدد السكان ببطء هذا إذا ازداد أصلاً.

 بدأ الخط البياني بالتوجه نحو الأعلى في أوروبا القرن الثامن عشر. تجاوز سكان العالم المليار نسمة بحلول عام 1800. اضافت الأرض اشخاصاً أكثر في قرن وحيد يفوق ما اضافته خلال القرون الأربعة السابقة مجتمعة. تقدمت أوروبا من المرحلة الأولى في نموذج الانتقال الديموغرافي إلى المرحلة الثانية: معدل ولادات مرتفع ومعدل وفيات ينخفض بالتدريج. إذاً لماذا بدأ الناس بالعيش فترة أطول؟

 أصبحت الفواصل بين هجمات الوباء أطول فأطول والحدة أقل فأقل بفضل التحسينات في الإنتاجية الزراعية التي عززت القوت المحلي وجعلت الأفراد أكثر مقاومة للأمراض. (سنتحدث عن ذلك لاحقاً).

دخلت أوروبا مع نهاية حرب الثلاثين سنة المؤلمة عام 1648 فترة من الهدوء النسبي والتي استمرت لأكثر من قرن من الزمن. جلب السلام استثمارات جديدة في البنية التحتية مثل الأقنية التي زادت التجارة ورفعت مستويات المعيشة وعززت الذرة والبطاطا والبندورة المستوردة من العالم الجديد القوت الأوروبي.

يقول المؤرخ الفريد كروسبي Alfred Crosby “كان تلاقي القارات متطلباً للانفجار السكاني خلال القرنين السابقين وبالتأكيد لعب دوراً في الثورة الصناعية. (29).

 وبالطبع كان السبب الأساس لرفع معدلات الأعمار الثورة الصناعية بحد ذاتها: تسارع المعرفة العلمية والصناعية التي أورثتنا العالم الذي نقطنه اليوم. دخلت الآلة البخارية التي اخترعها جيمس وات James Watt قيد الاستخدام التجاري عام 1776. (وفي ذلك العام ايضاً كتب آدم سميث Adam Smith “ثروة الأمم” وأعلنت الولايات المتحدة استقلالها عن بريطانيا العظمى.)

تسارعت الإنتاجية بفعل الميكنة–المصنع والسكك الحديدية والتلغراف والضوء الكهربائي ومحرك الاحتراق الداخلي. كانت الاختراعات الثلاثة الأخيرة أمريكية ونمت الولايات المتحدة من حيث القوة والغنى والثقة في أعقاب حربها الأهلية.

بدأ الناس بالعيش فترة أطول بفضل الثورة الزراعية والصناعية.  تزوج الأفراد بشكل أبكر وأنجبوا أطفالاً أكثر مع اضمحلال المجاعة والأوبئة. حظي أولئك الأطفال بفرصة أكبر للبقاء بفضل تحسن النظافة وإدخال لقاح الجدري وهو قفزة علمية أخرى.

 كان العصر الفيكتوري العصر الأول في التاريخ الإنساني الذي يشهد نمواً سكانياً سريعاً ومستداماً مع تسابق الولايات المتحدة وأوروبا للحاق ببريطانيا. وهذا هو مظهر أي مجتمع يدخل المرحلة الثانية ولا تزال كثير من الأماكن الكئيبة في العالم محصورة فيها: يعيش الأفراد لفترة أطول وينجبون أطفالاً أكثر وينتفع قلة من النمو على حساب الأكثرية ويبقى الفقر مستفحلاً.

كانت الحياة في عصر الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر بئيسة بالنسبة للأكثرية من الناس. عمل الأفراد ساعات مستحيلة في معامل خطرة موحشة وعاشوا في عشوائيات مكتظة شنيعة أصبحت حواضن للأمراض. كانت أوروبا ناضجة لقطوفات سيئة قليلة مما زاد من الجوع ووباء آخر. ولكن في هذه المرة تجاوز مسار العلم مسار الجراثيم.

 تشرح مضخة الشارع العريض الحكاية على أفضل حال

جلبت التجارة والحكم البريطاني للهند بكتيريا الكوليرا vibrio choleraeمن موطنها القديم في دلتا الغانج إلى أوروبا عبر روسيا ووصلت بريطانيا في عام 1831.  تقتل الكوليرا اليوم 120000 شخص سنوياً في أفقر بقاع العالم وكان تأثيرها على أوروبا كارثياً في القرن التاسع عشر.

عندما وصلت الكوليرا إلى سندرلاند في ميناء دخولها إلى انكلترة توفي 215 شخص. (30). ومع مسير المرض عبر الجزيرة توفي الآلاف بينما نظر الأطباء إليهم عاجزين عن تقديم المساعدة. كان ذلك شيئاً لم يشهدوه من ذي قبل. (ولم تجدي علاجاتهم للأمراض المعروفة نفعاً في معظم الأحوال). رافق المرض الثورة الصناعية: ضخم التصنيع والتحضر المدن بشكل مهول –كانت لندن في عام 1860 أكبر مدينة في العالم ووصل عدد سكانها إلى 3.2 مليون نسمة-مما خلق مخاطر صحية هائلة حيث عاش الناس في ظروف غير صحية مرعبة. حَوت المدينة 200000 حفرة فنية(للفضلات) خاصة في وقت انتشار الجائحة وملأت القاذورات والقمامة الأقنية وتناثرت على امتداد الأزقة. (31).

ولكن الثورة حولت العلوم وخاصة الطب وأزاحت الحكمة الموروثة وفتحت الطريق أمام البحث التجريبي.

ساد الاعتقاد باستنشاق الكوليرا عبر البخار العفن أو الهواء الفاسد. عالج الأطباء المصابين بالمهدئات (الأفيونات) والفصد. كانت محاربة العدوى عبر سحب الدم من الضحية علاجاً شائعاً بالرغم من أدلة على مدى قرون تثبت أن العلاج كان مؤذياً أو عديم النفع. وعلى الأقل خففت المهدئات من الآلام المبرحة.

كان أحد الأطباء المغمورين ويدعى جون سنو John Snow على قناعة شخصية بأن الكوليرا تنتقل بالماء بدل الهواء. منح تفشي المرض الذي بدأ يوم 13 آب(أغسطس) عام 1854في ضاحية من لندن تدعى سوهو Soho، الدكتور سنو الفرصة لإثبات نظريته. مات 500شخص خلال عشرة أيام وهرب الباقون على قيد الحياة من المنطقة. ولكن سنو لم يهرب. وبدلاً من ذلك زار منازل الضحايا وتحاور مع عائلاتهم وتتبع خطوات المصابين بالمرض ورسم الوفيات على خريطة للمحلة. أدرك سريعاً أن نصف الضحايا تقريباً تشاركوا بشيء وحيد: عاشوا قرب أو استجروا المياه من مضخة على الشارع العريض. قام سنو بسحب المياه بنفسه من المضخة وفحصها تحت المجهر. اكتشف سنو ما اسماه “جسيمات بيضاء متندفة” واستخلص مصيباً أنها كانت مصدر المرض.

وبالرغم من تعارض نظريته مع الحكمة الموروثة تمكن سنو من اقناع المسؤولين المدنيين المشككين بإزالة القبضة عن مضخة الشارع العريض. انتهت الجائحة مباشرة. (32). استغرق الأمر سنوات للتغلب على المعارضة المتحفظة ولكن الحقيقة الدامغة لملاحظة سنو شجعت على البدء بأول نظام حديث للصرف الصحي. شُيدت اقنية الصرف اللندنية بعناية فائقة وافتتحت عام 1870 ولا تزال بوضعية صالحة للعمل لغاية اليوم.

وفي سياق غير متصل كانت اسهامات جون سنو لصحة البشرية جليلة: ويُعرف داخل ذلك التخصص ب “أبو علم الأوبئة(الوبائيات)”(33). لقد أسهم بتقدم التفهم البشري للمرض عموماً وطور ايضاً أهمية مفهوم الصحة العامة كأولوية حكومية. تابعت الكوليرا اجتياحها لبقية أوروبا ولكنها اختفت من لندن ولاحظت بقية أوروبا ذلك. وسرعان ما أصبحت حماية المصادر المائية أمراً حاسماً لدى المخططين الحضريين والساسة في كل دولة متطورة. وقفز الطب أيضاً خطوات كبرى إلى الأمام وخاصة في مجال التخدير والمطهرات. انخفض معدل وفيات الأطفال وارتفعت معدلات الأعمار وبقي معدل الخصوبة عالياً.  وفي عام 1750 كان عدد سكان بريطانيا وويلز حوالي ستة ملايين نسمة وهو المعدل الذي وصلت إليه عندما ضربها الطاعون الأسود. وبحلول عام 1851 وصل إلى 18 مليون إنسان وفي عام 1900 بلغ 33 مليون. (34). كانت البشرية جاهزة لخوض غمار السبق.

نعتبر النصف الأول من القرن العشرين زمناً لا مثيل له من حيث القتل: أكثر من 16 مليون عسكري ومدني قتلوا في الحرب العالمية الأولى وأكثر من 55 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية. شهدت الفترة ايضاً أعظم وباء: انفلونزا خبيثة تعرف باسم الانفلونزا الاسبانية Spanish flu مع نهاية الحرب العالمية الأولى والتي قتلت ما بين 20 و40 مليون إنسان. كان الوباء فظيعاً للغاية وقتل من الأمريكان أكثر مما قتلته الحرب. ورغم ذلك تابع النمو السكاني مساره الحثيث عقداً تلو آخر. كان النمو في بعض مناطق العالم قوياً للغاية لدرجة دقت نواقيس الخطر وفي أجزاء أخرى أكثر تطوراً كان النمو السكاني أكثر تواضعاً. وفي الحقيقة تباطئ النمو السكاني في أماكن مثل الولايات المتحدة إلى نقطة كاد أن يتوقف فيها تماماً.

 ولكي نفهم القرن العشرين يتعين علينا فهم شيئين إثنين: لماذا تابعت معدلات الوفيات تقهقرها ولماذا بدأت معدلات الولادات في بعض الأماكن بالتراجع أيضاً-المرحلة الثالثة من نموذج الانتقال الديموغرافي.

 وإذا نظرنا إلى السويد نتمكن من فهم كلا الاتجاهين

يحب السويديون الاحتفاظ بالسجلات. ومع حلول عام 1749 اسسوا مكتباً للإحصاء قدم لنا أول معلومات موثوقة عن خصائص السكان. تحتوي البيانات على رؤى رائعة فيما كان يحدث هنا-ومن المفترض في أماكن أخرى من أوروبا وأمريكا الشمالية.

كان معدل الولادات لغاية عام 1800 في السويد أعلى بقليل من معدل الوفيات. كانت معدلات وفيات الأطفال تفطر القلب حيث توفي 20% قبل بلوغ عامهم الأول و20% ممن بقي ماتوا قبل بلوغهم سن العاشرة(35).

وبتعبير آخر كانت السويد مجتمع نمطي من المرحلة الأولى بمعدلات ولادات ووفيات مرتفعة. ولكن بعيد حلول القرن التاسع عشر بقليل دخلت المرحلة الثانية: بقي معدل الولادات مرتفعاً ولكن معدل الوفيات بدأ بالانخفاض التدريجي بفضل تحسن التغذية والنظافة. ومع حلول عام 1820 بدأ عدد سكان السويد بالنمو بسرعة وقفز من 1.7 مليون فرد في عام 1750 إلى 2 مليون. وبحلول عام 1900 تجاوز 5 مليون إنسان. وربما تنامى بشكل أعلى ولكن السويد دخلت المرحلة الثالثة: انخفاض تدريجي في معدل الوفيات وأيضاً انخفاض في معدل الولادات.

لماذا بدأ معدل الخصوبة بالتراجع؟ كان التحضر هو العامل الأكثر أهمية بلا منازع. هناك دليل دامغ يقول: كلما أصبحت المجتمعات أكثر تطوراً من الناحية الاقتصادية كلما زاد تمدنها وعندما يتمدن المجتمع تبدأ معدلات الخصوبة بالانحدار. ولكن لماذا بالضبط؟

عاش 90% من الأوروبيين في العصور الوسطى في المزارع. ولكن المصانع التي رافقت الثورة الصناعية كدست العمال في المدن. كان الطفل في المزرعة استثماراً-زوج إضافي من اليدين لحلب البقرة أو كتفين للعمل في الحقول. ولكن الطفل في المدينة مسؤولية والتزام ومجرد فم أخر لنطعمه. تستمر تلك النزعة لغاية اليوم. استنتج المؤلفان في دراسة حول التحضر والخصوبة في غانا عام2008 أن “التحضر يخفض الخصوبة لأن السكن المدني يزيد غالباً من تكلفة تنشئة الأطفال. فالسكن الحضري أعلى كلفة وربما يكون الأطفال أقل قيمة في الإنتاج المنزلي”(36). وربما يبدو ذلك الأمر أنانياً ولكن الآباء القاطنون في المدن يعملون لمصلحتهم الشخصية الاقتصادية عبر تخفيض حجم الخلفة.

يدخل عامل آخر-ولا يزال في العالم النامي-اللعبة وهو العامل الذي نعتبره مهماً بقدر أهمية التحضر. تضم المدن المدارس والمكتبات وغيرها من المؤسسات الثقافية. ظهرت وسائل الإعلام الجماهيرية للمرة الأولى في القرن التاسع عشر على هيئة الصحف. وفي القرن التاسع عشر ايضاً كان لدى المرأة التي تقطن شيكاغو فرصة أفضل للتثقف حول وسائل تحديد النسل أكثر من المرأة التي تقطن إحدى المزارع في عمق الولاية. ومع الانتقال للمدن بدأت النسوة بالحصول على تعليم أفضل ومع زيادة تعليمهن أصبح خضوعهن للرجال ليس الترتيب الطبيعي للأمور بل خطأ يجب تصحيحه. ثم ناضلت النسوة للحصول على حق الاقتراع. ومن ثم حق العمل والمساواة مع الرجل في الأجور ومع اكتساب النساء للمزيد من الحقوق وسلطة أكبر توقفن عن إنجاب الكثير من الأطفال.

 لا يكون الأطفال على الدوام مصدر سرور بالنسبة للنساء. شكل الأطفال في القرن التاسع عشر خطراً صحياً جدياً وخاصة بالنسبة للنساء اللواتي أنجبن عدداً كبيراً من الأطفال. وحتى في وقتنا الراهن ورغم العناية المتقدمة بالأم وحديثي الولادة يشكل الأطفال عبئاً بحاجة للإطعام والتنشئة. كما أنهم يحدون من مقدرة المرأة على العمل خارج المنزل-العمل الذي قد يولد المزيد من الدخل وكذلك المزيد من الاستقلالية. وكما لاحظ أحد العاملين في البنك الدولي “كلما زاد مستوى التحصيل العلمي لدى المرأة كلما قل عدد الأطفال الذي قد تنجبهم”(37).

منح قانون جديد في عام 1845 المرأة السويدية حق المساواة في الإرث. وبحلول عام 1860 بدأ معدل الخصوبة في السويد بالتراجع. مع عام 1921 امتلكت النساء حق التصويت وبحلول عام 1930 كان معدل الخصوبة في السويد أعلى قليلاً من معدل الوفيات والآن كان كلا المعدلين أخفض بكثير-أقل بمقدار النصف عن معدلهما قبل قرن مضى.

 كانت السويد قد دخلت المرحلة الرابعة من نموذج الانتقال الديموغرافي حيث يكون معدل الولادات عند أو قرب المستوى اللازم للحفاظ على السكان بالرغم من تراجع معدل الوفيات.

تماثل المرحلة الرابعة المرحلة المعتدلة: عند تلك النقطة ينتج المجتمع المعافى ذي الأعمار الطويلة ما يكفي من الأطفال للحفاظ على استقرار عدد السكان أو نموه ببطء.

حذت المملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا-معظم الدول في العالم المتطور إلى حد ما حذو النموذج السويدي حيث قامت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والثورة المعرفية في القرن العشرين بتحويل المجتمعات. وفي الوقت ذاته تظهر المقارنة مع تشيلي وموريشيوس والصين أن تلك الدول الثلاثة-جزء مما كان يدعى العالم الثالث-تنمو ببطء رغم وجود معدلات مرتفعة من الولادات والوفيات أعلى بكثير من نظيراتها في العالم المتقدم.

لم تبدأ معدلات الخصوبة بالتراجع في السويد قبل عام 1860 ولكنها بدأت في بعض الدول المتقدمة بالانحدار قبل ذلك التاريخ. ففي الولايات المتحدة وبريطانيا بدأ القوس بالانحناء نحو الأسفل مع بدايات 1800. كان لدى النساء وقتها الكثير من الأطفال ولكنهن لم ينجبن بقدر أسلافهن. وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال انجبت النسوة البيض (لا تتوفر بيانات بخصوص النسوة السود أو نسوة السكان الأصليين) في المعدل سبعة أطفال في بدايات 1800وبحلول عام 1850كان المعدل حوالي 5.4 طفل. وبحلول عام 1900 كان 3.6 طفل. وطوال القرن التاسع عشر انخفض معدل الخصوبة في الولايات المتحدة بمقدار النصف تقريباً. ومع حلول عام 1940 وعشية دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية كان المعدل 2.2 وبالكاد أعلى من معدل2.1 طفل لكل امرأة اللازم للحفاظ على عدد السكان. (38).

ساد الاعتقاد ان مفهوم انخفاض الخصوبة بدأ في السبعينات من القرن الماضي نسبة إلى طفرة المواليد. ولكن ذلك ليس صحيحاً. وقبل تلك الطفرة تباطأت معدلات الولادة في الدول المتقدمة في بعض الحالات لمدة قرن ونصف.

ملحوظة جانبية سريعة: يشعر البعض بالضيق من تعبير معدل الخصوبة ويرونه يحمل نبرة ذميمة لآلة انتاج الأطفال على مسامع البعض. ولكنه تعبير مستخدم من قبل الديموغرافيين لوصف معدل عدد الأطفال المتوقع انجابهم من قبل امرأة طوال فترة حياتها. ويمتلك تعبير معدل الخصوبة ومعدل الولادة معان مختلفة بالنسبة لهم ولكننا نستخدمهما بشكل متبادل هنا لتفادي التكرار. وإذا تساءلت لماذا يكون معدل الاستبدال هو 2.1 وليس 2.0 فإن0.1 مطلوبة لتعويض وفيات الأطفال والموت المبكر لبعض النسوة.

رأينا كيف تراجع معدل الخصوبة طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولكن لماذا تابع معدل الوفيات انخفاضه بالرغم من فظائع الحربين العالميتين وفتك الانفلونزا الاسبانية؟ قد يشير معظم الأشخاص إلى التطورات في حقل الطب: العلاجات واللقاحات الجديدة لبعض الأمراض والتحسينات في الجراحة والطب الداخلي والعقاقير المعجزة التي قضت على العدوى التي كانت قاتلة في زمن مضى والتقدم في محاربة السرطان ومرض القلب.

ولكن ثمة تطور أكثر أهمية لم يحظى بما يستحقه من اهتمام.

 شهدت السنوات الأول من القرن العشرين ثورة في قطاع الصحة العامة-ثورة قادها شخص مهم مثل جون سنو ولم يحظى بتلك الشهرة وأسمه جون ليل John

Leal.

والشكر موصول للدكتور جون سنو ومع بزوغ القرن العشرين خفضت أنظمة الصرف الصحي المحسنة في الدول المتطورة من خطر التلوث المنقول بالماء. ولكن الصرف الصحي لم يستأصل الخطر لأن مياه المجاري انتهت في المياه وقام الأفراد بشرب الماء. كيف يتسنى لنا تطهير المياه؟

اكتشف الكيميائي السويدي كارل ويلهام شيلي Carl Wilhelm Scheele الكلور عام 1774 وبعد قرن آخر بدأ البحاثة الألمان والانجليز باستخدامه في تعقيم الأنابيب بعد انتشار كل جائحة.

وعُرفت بعض المحاولات القليلة الخام المؤقتة لاستخدامه في كلورة المياه في بريطانيا وألمانيا. ولكن الاكتشاف الأكبر حصل في جيرسي سيتي في ولاية نيوجيرسي في عام 1908.

كان مورد المياه في المدينة معضلة عويصة على مدى عقود عديدة مما أدى إلى هجمات معتادة من الحمى التيفية وغيرها من الأمراض. تعاقدت المدينة في عام 1899 مع شركة جيرسي سيتي لتوريد المياه للتخلص من المشكلة. قامت الشركة بدورها بتوظيف جون ليل وهو طبيب محلي ذي اهتمام حاذق بالصحة العامة لتحديد وإزالة مصدر التلوث.

كان ليل ابنا لطبيب في بلدة صغيرة وشاهد معاناة وموت والده بسبب الزحار مما منحه التزاماً مدى الحياة لمحاربة الأمراض المعدية. (39 ).

سمع بالتجارب الأوروبية في كلورة المياه وقرر أن الحل الحقيقي يكمن في الكلورة الدائمة لمصدر المياه في مدينة جيرسي سيتي بالرغم من اعتراض بعض العلماء والشعور الشعبي المعارض لتلك الفكرة. قرر ليل المصر والمتهور العمل ووظف متعاقدين تمكنوا خلال 99 يوم من تشييد أول منظومة عاملة لمعاملة المياه بالكلور. وفي يوم 26 أيلول(سبتمبر) عام 1908 وبدون اللجوء لأخذ التصريح من أي كان بدأ ليل بكلورة المياه في خزان جيرسي سيتي. ولله الحمد أنه حصل على التركيز الصحيح لأنه لو كان مخطئاً لسمم المدينة برمتها. في العام التالي وعندما قامت المدينة وللمرة الثانية بمقاضاة شركة المياه مدعية أن مياه المدينة لا تزال تحتوي على بعض الملوثات غير المقبولة لاحظ القاضي الانخفاض المذهل في الأمراض المعدية والذي نتج عن الكلورة وحكم للمدعى عليه. لقد نجح نظام ليل.

انتشرت الانباء بسلاسة انتشار العدوى. وخلال ستة سنوات شرب نصف الأمريكان المشتركين بموارد المياه البلدية المياه المكلورة. وتحركت السلطات في أمريكا الشمالية وأوروبا بسرعة لدى سماح ميزانياتها بإدخال الكلورة. كان التأثير على الصحة العامة مهولاً. ففي عام 1908 عندما أضاف ليل الكلور إلى مورد مياه جيرسي سيتي للمرة الأولى قتلت الحمى التيفية 20 من كل 100000 أمريكي كل سنة. وبحلول عام 1920 بعد 12 سنة فقط انخفض الرقم إلى 8 لكل 100000 شخص. ومع حلول عام 1940 تم اجتثاث بلاء قديم بقدم جنسنا في العالم المتقدم.

كانت الكلورة إحدى أهم التطورات الكبرى في الحرب على المرض. ولكن الطب أكثر إغواء من الصحة العامة. يعلم كل من يعرف أي شيء عن التاريخ الطبي أن فريدريك بانتينج Frederick Banting وتشارلز بيست Charles Best قادا فريق الأبحاث الكندي الذي اكتشف دور الانسولين في داء السكري وطريقة تصنيعه. ولكن من سمع بجون ليل؟ (40).

مع حلول منتصف القرن العشرين رفعت الاكتشافات في محاربة الأمراض والصحة العامة إلى حد كبير من العمر المتوقع لإنسان. فالطفلة المولودة في أستراليا عام 1890 قد تتوقع العيش 51 سنة. أما الطفلة المولودة في أستراليا عام 1940 قد تتوقع العيش لغاية 60 سنة. (41). ومع انخفاض معدل الوفيات انخفض معدل الخصوبة بفضل زيادة التمدن وتنامي تمكين المرأة. وفي عام 1931 وعندما بدأ الأستراليون بإجراء مثل تلك الاحصائيات كان معدل الخصوبة قد وصل مسبقاً إلى 2.4 طفل لكل امرأة أكثر بقليل من معدل الاستبدال 2.1. (42).

وبالنسبة لمجمل العالم المتقدم كان النصف الأول من القرن العشرين فترة من تحسن العمر المتوقع وفترة لانخفاض الخصوبة التي أدت إلى عائلات أصغر فأصغر ونمو أقل فأقل في عدد السكان-وهي حالة كلاسيكية للمرحلة الرابعة من نمط السكان.

وفي غضون ذلك عانت الغالبية العظمى من سكان الكوكب من مآسي المرحلة الأولى القديمة قدم الزمن: معدل ولادات مرتفع ومعدل وفيات مرتفع بالرغم من مما يدعى نعمة الحكم الامبريالي لبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وكان الله في عونكم، بلجيكا.

وفي ذلك الوقت ومع نهاية الحرب العالمية الأخيرة انفجرت كافة الأنماط حيث قذف كل من العالمين المتقدم والنامي بأنفسهم في دوامات الخصوبة التي لا نزال نحيا بها لغاية اليوم.

اتضح بجلاء بحلول منتصف عام 1943 لقادة كلا الجانبين أن “الأمم المتحدة”، كما أطلق الحلفاء على أنفسهم، ستكسب الحرب ضد قوى المحور، ألمانيا وايطاليا واليابان، ولكن ماذا بعد؟

علم المخططون في واشنطن ما حصل في أعقاب الحرب العالمية الأولى. مع قيام الحكومات بتجميع عتاد الحرب وعودة الفتيان إلى الوطن ارتفعت معدلات البطالة ومما زاد الطين بلة رفع الحكومة لمعدلات الفائدة للتماشي مع التضخم والذي أحدث ركوداً اقتصادياً حاداً. انتهت الاستراحة المبتهجة للعشرينات الهادرة في تشرين الأول عام 1929 يوم الثلاثاء الأسود عندما انهارت سوق الأسهم في نيويورك وجلبت معها عقداً من الركود الاقتصادي لم يشهد له العالم مثيلاً من قبل. ساعدت حصيلة الحرب العالمية الأولى على خلق الظروف للحرب الثانية. ولكن هل يكرر التاريخ نفسه من جديد؟

هل ستجلب نهاية الحرب الركود الاقتصادي والبطالة وربما ركود آخر؟ كان هاري كولميري Harry Colmery مصمماً على منع ذلك.

رجل آخر كاد التاريخ أن ينسى اسمه. نشأ كولميري في برادوك بولاية بنسلفانيا وعمل في مخزن والده وعمل في توزيع الصحف وعمل في الوقت ذاته بشكل جزئي في شركة يونيون باسيفيك للسكك الحديدية. أوصله ذلك الكدح إلى كلية اوبرلين ومن ثم جامعة بيتسبرغ حيث حصل على إجازة في القانون. وقبل أن يبدأ بممارسة المهنة حدثت الحرب العالمية الأولى. التحق هاري بالقوات المسلحة ودرب الطيارين في الولاية.

وبعد أن عاد إلى البلاد تزوج وانتقل إلى توبيكا بولاية كانساس حيث عاش ومارس القانون لبقية حياته. كان كولميري لطيفاً متواضعاً عطوفاً ومحبوباً في مدينته الجديدة. لم يمتلك كولميري روح الأنا ولكنه لم يعدم حجة الاقناع.

شعر بالذعر وهو يرى الجنود العائدين من الحرب في توبيكا-“مرضى ومشوهين وبعضهم يتلمس طريقه بعينين عمياوين ومنهم من يتكئ على العكاكيز”(43) -والذين تُركوا ليعيلوا أنفسهم من قبل حكومة فيدرالية لا تأبه بهم.

أصبح كولميري عضواً في الفيلق الأمريكي الجديد وخدم رئيساً له في عامي 1936-37. وعندما وقعت الحرب العالمية الثانية عمل مخططاً ضمن الفيلق ومقدماً النصح للحكومة الفيدرالية. ناقش الساسة والبيروقراطيين والجمهوريين والديموقراطيين والضباط والمدنيين بضراوة كيفية تقديم العون متى انتهت الحرب وآلية استحقاقه.

 اعتزل كولميري الناس في غرفة بفندق ماي فلاور في واشنطن وكتب مقترحه لإعادة دمج الجنود في الحياة الأمريكية بعد الحرب. (44). ومن بين الخطط لإعادة البناء ما بعد الحرب وقع الاختيار على خطته من قبل فرانكلين ديلانو روزفلت ومستشاريه حيث استخدموا الأوراق التي كتبها بخط يده أساساً لقانون تسوية الجنود لعام 1944 والذي عرف لاحقاً بقانون الجنودG.I. Bill. كافح الفيلق للحصول على موافقة الكونجرس الذي أقره في النهاية بالإجماع. ووقف كولميري إلى جانب الرئيس وهو يوقع العريضة ويحولها إلى قانون.

خلق قانون الجنود الطبقة الوسطى الحديثة. وبفضل تقديمه للتعليم المجاني والمساعدة التعليمية حصل 8 مليون من المحاربين القدماء على شهادة أو دبلوم أو تدريب ضمن العمل. وبفضل القروض العقارية المنخفضة الفائدة وأشكال أخرى من دعم الإسكان تمكن 4.3 مليون منهم من شراء منازل. (45).

خلق قانون الجنود، إضافة إلى التطورات التقنية التي احدثتها الحرب، الضواحي والطرق السريعة التي ربطت الضواحي ببعضها البعض وبمركز المدينة. وتمكن كل واحد منهم من اقتناء سيارة ومنزلاً مقبولاً وجهاز تلفاز جديد قشيب يتفرج عليه الأب والأم في المساء مع الأطفال. الكثير والكثير من الأطفال.

انفجرت معدلات الولادة والتي كانت تتباطأ على مدى العقود ما بين الازدهار والفاقة والحرب والسلام. ربما كبح الكساد والحرب معدل الولادات إلى أقل مما كانت عليه بشكل طبيعي ولكن الغنى الذي أعقب الحرب أقنع الكثير من الأفراد بالزواج مبكراً وإنجاب عدد أكبر من الأطفال. وعلى أية حال انقلب معدل الخصوبة الذي كان يتباطآ منذ عام 1800ووصل إلى 3.7 بحلول منتصف الخمسينات إلى حيث كان في مستهل القرن. وبذلك المعنى كانت الكوميديا المعنونة “دعها لبيفر” Leave It to Beaver في الخمسينات اكتشافاً. تعين على آل كليفرز إنجاب 1.7 طفل أكثر لأن والي وبيفر كانا بحاجة لأخت.

وبطريقتهم كان آل كليفرز ايقونات دعاية لا شعورية. اعتقد الجميع أن العائلة تتألف من زوج وزوجة وما ينجبونه من أطفال. وبالرغم من أن الصورة بدت أبدية ولكنها لم تتواجد في الحقيقة قط. كانت الأسر قبل القرن العشرين أكثر امتداداً وأكثر سيولة. قد يسكن الزوجين المتزوجين حديثاً مع أحد والديهم إلى أن يتمكنوا من تأسيس أنفسهم أو عندما يصبح المنزل مكتظاً بشكل لا يطاق. ومع ارتفاع معدلات الوفيات لم يكن مستغرباً فقدان الأطفال لأحد الأبوين. يقوم الأرمل أو الأرملة بالزواج مجدداً بحيث يتواجد مجموعتين من الأشقاء في نفس المنزل. ربما يُرسل الأطفال للسكن مع الأعمام أو العمات أو الأخوال أو الخالات أو أي ترتيب يرونه أفضل أو الأقل سوءاً. كانت الأسر متوافقة. ولو كان هناك أجهزة تلفاز في العصور الفيكتورية لكان أفضل العروض مسلسل “مجموعة برادي”. The Brady

Bunch.

ومع ارتفاع الغنى ووصول الطب الحديث والصحة العامة المتطورة بعد الحرب تمكن الزوجان من العيش بمفردهما بعد الزواج وتوقع الآباء العيش لغاية عقدهم السابع أو الثامن وإنتاج أطفال ليفعلوا الشيء ذاته. دفعت الأعراف المسيحية والعائلية، والتي نددت على الدوام بالطلاق والزنا، وشجعت على الزواج المبكر وتكوين الأسر الكبيرة وهي الطريقة الأكيدة لترويض الشباب الجُمح. كانت “طفرة الانجاب”“baby boomكما عُرفت لاحقاً تجربة لخلق الأسرة-النووية nuclear family كركيزة أخلاقية واجتماعية للمجتمع. كان مسلسل “دعها لبيفر” تصوير مثالي للعائلة النووية من الطبقة الوسطى والتي تقطن الضواحي ويتطلع إليها الجميع.

كانت ردة الفعل ضد تجربة طفرة الانجاب وما صحبها من دعاية هي ما نسميه اليوم فترة الستينات. شابهت كندا وأوروبا الولايات المتحدة في كل من السياسات والخصوبة بالرغم من تأخر الطفرة في ألمانيا الغربية التي احتاجت لعقد من الزمن لإعادة البناء وتحقيق معجزتها الاقتصادية. انجبت الأمهات عبر العالم المتقدم أطفالاً أكثر في أواخر الأربعينات وطوال الخمسينات إلى أن بدأ المنحنى بالميل في الستينات إلى معدل يقترب من معدل الاستبدال الذي وصلت إليه لدى اندلاع الحرب.

يمكن النظر إلى طفرة الانجاب على هيئة اكتشاف. أنتج الغنى والترف الذي وصل مع زمن السلم ومضة مؤقتة لجيل واحد قبل أن تعيد النزعة التاريخية تأكيد ذاتها. كانت الطفرة رمية من غير رام ولا يمكنها تفسير النمو الهائل في عدد السكان العالمي والذي ميز النصف الثاني من القرن العشرين. ولأجل ذلك يحب أن نبحث في مكان آخر.

مرت الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية عبر المرحلة الثانية –حيث يبقى معدل الخصوبة مرتفعاً ويبدأ معدل الوفيات بالانخفاض-على مدار القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. عانى بقية الكوكب من كل ذلك دفعة واحدة مع افول الأعلام القديمة وبدأ رسم الخرائط من جديد ومن ثم رُسمت من جديد مرة ثانية.

سيطر الحلفاء مع نهاية الحرب العالمية الثانية على الكوكب إما كقوة استعمارية أو كمنتصرين في الحرب. ومع النصر يأتي الشعور بالذنب: كيف يحارب الحلفاء من أجل الحرية ويضطهدون في الوقت ذاته ملايين الرعايا في المستعمرات؟ ومع النصر ولدت “الأمم المتحدة” المنظمة التي اوجدتها القوى المنتصرة لتمثيل كافة الأمم على وجه الأرض مع تفويض بالقضاء على الفقر والحفاظ على السلام. وكقوة حفظ للسلام اثبتت الأمم المتحدة أنها خمرة فاسدة ولكنها نجحت على مدى نصف القرن الأخير في إيصال الغذاء وعلى الأقل بعض مفاهيم الطب الغربي والصحة العامة إلى أفقر الناس على وجه البسيطة عبر منظماتها العديدة ذات الاختزالات الكثيرة-منظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي واليونيسكو واليونيسيف(46) وغيرها. وصلت اشكال أخرى من المساعدة مباشرة من القوى الاستعمارية السابقة أو الدول المتطورة الأخرى التي حاولت فعل الخير –وربما تستفيد عبر تمكين شركاتها من تقديم المعونة ودخول السوق المحلية نتيجة لذلك. تبدد جزء كبير من تلك المعونة عبر الفساد أو ضعف التخطيط. تدهورت الحياة ما بعد الاستعمار في بعض الأماكن وخاصة أفريقيا ولكنها تحسنت في معظم انحاء العالم سنة إثر أخرى.

قامت المساعدة الأجنبية والتنمية الاقتصادية بالحد من شدة المرض مثل الحمى الصفراء وحمى الضنك والملاريا وايبولا عبر المعالجة والتلقيح(التحصين) والتحسينات في الصحة العامة مثل مياه الشرب النظيفة ومعالجة الصرف الصحي وساعدت التغذية المحسنة أيضاً بفضل الثورة الخضراء والتي سنتحدث عنها في الفصل القادم. عاش العالم برمته وحتى أفقر الفقراء لفترة أطول. وفي أثيوبيا التي هدتها المجاعة وأضنتها الحرب الأهلية تحسنت معدلات الأعمار من 34 سنة في عام 1950 إلى 59 في عام 2009. وارتقت في هايتي وهي أفقر دولة في النصف الغربي من الكوكب من 38 إلى 61 عبر نفس الفترة. (47). وبالمجمل تضاعف معدل الأعمار العالمي المتوقع إلى 70 سنة منذ عام 1900. ومع تحسن العمر المتوقع في العالم النامي وبقاء معدل الخصوبة عالياً انطلق عدد السكان العالمي من مليار حوالي عام 1800 كما رأينا مسبقاً إلى 2 مليار بحلول عام 1927 و3مليار عام 1959 ومن ثم 4 مليار بحلول عام 1974 و5 مليار عام 1987 و6 مليار عند نهاية الألفية إلى 7 مليار اليوم. (48).

كانت المساعدة الأجنبية رحمة للعالم النامي. وصلت القيمة في تلك الأيام إلى حوالي 150 مليار دولار سنوياً قدمت الولايات المتحدة خُمسها. وقد يساعد مثل ذلك النوع من المال. وفي السنوات المؤخرة ومع استيعاب الدول المانحة للدروس المتعلمة من الماضي ابلت المعونة الأجنبية بلاءً حسناً في حماية صحة الأمهات. وكما سنرى في فصل لاحق ساعد النمو الاقتصادي في الصين والهند على تخفيض الفقر العالمي ورفع العمر المتوقع.

تعتبر العقود التي بقي فيها العالم النامي محجوزاً في المرحلة الثانية من النمو السكاني-حيث ترتفع معدلات الأعمار مع بقاء معدلات الخصوبة مرتفعة-مسؤولة عن الانفجار السكاني منذ الحرب العالمية الثانية.

ولكن لننظر إلى أرقام السكان العالمية مرة أخرى

استغرق الأمر 125 سنة لمضاعفة عدد سكان الكوكب من مليار إلى 2 مليار. ومجرد ثلاثة عقود لتوصلها إلى 3 مليار. و15 سنة لتصل إلى 4 مليار و13 سنة لتصل إلى 5 مليار و13 سنة أخرى لتصل إلى 6 مليار. وحوالي نفس كمية الوقت لتأخذنا إلى 7 مليار وسوف تستغرق، نعم، حوالي 13 سنة لتوصلنا إلى 8 مليار.

لقد استقر معدل الزيادة وبدأ بالتباطؤ. وسوف يتباطأ أكثر خلال العقود القادمة ويتوقف ومن ثم ينعكس. وذلك لأن معظم العالم النامي قد دخل المرحلة الثالثة: تراجع في معدل الوفيات وتراجع في معدل الولادات أيضاً. بينما وصلت بعض الدول المتطورة المرحلة المعتدلة من المرحلة الرابعة: معدل ولادات مستقر مع ارتفاع لمعدل الأعمار. والمفاجأة الحقيقة دخول معظم المجتمعات المتطورة وكثير من المجتمعات النامية في مرحلة جديدة.

ولنتذكر سبب انخفاض الخصوبة: التمدين. فهو ينفي الحاجة للعضلات الفتية للعمل في المزرعة ويجعل الأطفال عوضاً عن ذلك مسؤولية اقتصادية ويمكن النساء اللواتي يفضلن إنجاب عدد أقل من الأطفال متى تسنى لهن السيطرة على أجسادهن. استحكمت هذه المفاهيم في العالم المتطور في القرن التاسع عشر والعشرين. بدأت هذه القوى الآن بالعمل في المجتمعات النامية على حد سواء.

أعلنت الأمم المتحدة في يوم 23 أيار(مايو) عام 2007 أن العالم قد أصبح وللمرة الأولى في التاريخ البشري أكثر تحضراً من كونه ريفياً. (49). (تعشق الأمم المتحدة اختيار تواريخ رمزية اعتباطية). بدأ التحضر وتمكين المرأة في إحداث نفس التأثير في الدول النامية والذي احدثته سابقاً في الدول المتطورة ولكنه حدث في هذه المرة بشكل أسرع فأسرع.

تنخفض معدلات الولادة عبر الكوكب. وذلك الانخفاض هو كل شيء. وذلك التراجع هو السبب في خطأ توقعات الأمم المتحدة. وذلك الهبوط هو السبب الذي سيدفع العالم كي يصبح أصغر وبشكل أقرب مما يعتقد معظم الناس.

الفصل الأول من كتاب (الكوكب الخاوي)


 

ملاحظات:

5 Robert Krulwich، “How Human Beings Almost Vanished from Earth in 70، 000 B.C.، ” NPR، 22 October 2012.

http://www.npr.org/sections/krulwich/2012/10/22/163397584/how-human-beings-almost-vanished-from-earth-in-70-000-b-c

6 “The Toba Supervolconic Eruption of 74، 000 Years Ago، ” Access Cambridge Archeology (Cambridge University، 2014).

https://www.access.arch.cam.ac.uk/calendar/the-toba-supervolcanic-eruption-of-74-000-years-ago

7 See، for example، Nicole Boivin et al.، “Human Dispersal Across Diverse Environments of Asia During the Upper Pleistocene، ”

Quaternary International، 25 June 2013، 32. http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1040618213000245

8 Sarah Gibbens، “Human Arrival in Australia Pushed Back 18، 000 Years، ” National Geographic، 20 July 2017.

https://news.nationalgeographic.com/2017/07/australia-aboriginal-early-human-evolution-spd

9 Jared Diamond، Guns، Germs، and Steel: The Fates of Human Societies (New York: Norton، 1997)، 41.

10 Ian Sample، “Could History of Humans in North America Be Rewritten by Broken Bones?” Guardian، 26 April 2017.

https://www.theguardian.com/science/2017/apr/26/could-history-of-humans-in-north-america-be-rewritten-by-broken-mastodon-bones

11 Ian Morris، Why the West Rules—For Now: The Patterns of History and What They Reveal About the Future (New York: Farrar،

Straus and Giroux، 2010)، 296.

12 “Historical Estimates of World Population، ” International Programs database، table (Washington، D.C.: United States Census Bureau، 25

July 2017). https://www.census.gov/population/international/data/worldpop/table_history.php

13 Ole J. Benedictow، “The Black Death: The Greatest Catastrophe Ever، ” History Today، 3 March 2005. http://www.historytoday.com/olej-

benedictow/black-death-greatest-catastrophe-ever

14 Samuel K. Cohn Jr.، “Epidemiology of the Black Death and Successive Waves of Plague، ” Medical History، Supplement 27، 2008.

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2630035/

15 “Plague” (Atlanta: Centers for Disease Control، 14 September، 2014). https://www.cdc.gov/plague/transmission

16 Ibid.

17 Mark Wheelis، “Biological Warfare at the 1346 Siege of Caffa، ” Emerging Infectious Diseases Journal، Vol. 8، No. 9 (September

2002). http://wwwnc.cdc.gov/eid/article/8/9/01-0536_article

18 Katherine Shulz Richard، The Global Impact of the Black Death” ThoughtCo، 3 March 2017. https://www.thoughtco.com/globalimpacts-

of-the-black-death-1434480

19 G.D. Sussman، “Was the Black Death in India and China?” Bulletin of the History of Medicine، Vol. 85، No. 3 (Fall 2011).

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/22080795

20 Benedictow، “The Black Death.”

21 Ibid.

22 David Routt، “The Economic Impact of the Black Death، ” EH.net Encyclopedia، 20 July 2008. https://eh.net/encyclopedia/the-economicimpact-

of-the-black-death

23 C.W. “Plagued by Dear Labour، ” Economist، 21 October 2013. http://www.economist.com/blogs/freeexchange/2013/10/economichistory-

1

24 Ker Than، “Massive Population Drop Among Native Americans، DNA Shows، ” National Geographic News، 5 December 2011.

http://news.nationalgeographic.com/news/2011/12/111205-native-americans-europeans-population-dna-genetics-science

25 William M. Donovan، The Native Population of the Americas in 1492 (Madison: University of Wisconsin Press، 1992)، 7.

26 Nathan Nunn and Nancy Quinn، “The Columbian Exchange: A History of Disease، Food and Ideas، ” Journal of Economic

Perspectives، Vol. 24، No. 2 (Spring 2010)، p. 165. https://web.viu.ca/davies/H131/ColumbianExchange.pdf

27 World Population to 2300 (New York: United Nations Department of Economic and Social Affairs/Population Division، 2004)، Table 2.

All historical global population numbers are drawn from this table.

http://www.un.org/esa/population/publications/longrange2/WorldPop2300final.pdf

28 Steven Pinker، The Better Angels of Our Nature: Why Violence Has Declined (New York: Penguin، 2011).

29 Alfred Crosby، Germs، Seeds and Animals: Studies in Ecological History (New York: Routledge، 1994).

30 Pamela K. Gilbert، “On Cholera in Nineteenth Century England، ” BRANCH: Britain، Representation and Nineteenth-Century History

(2013). http://www.branchcollective.org/?ps_articles=pamel-k-gilbert-on-cholera-in-nineteenth-century-england

31 Sharon Gouynup، “Cholera: Tracking the First Truly Global Disease، ” National Geographic News، 14 June 2004.

http://news.nationalgeographic.com/news/2004/06/0614_040614_tvcholera.html

32 Judith Summers، Soho: A History of London’s Most Colourful Neighborhood (London: Bloomsbury، 1989)، 113–17.

http://www.ph.ucla.edu/epi/snow/broadstreetpump.html

33 David Vachon، “Doctor John Snow Blames Water Pollution for Cholera Epidemic، ” Father of Modern Epidemiology (Los Angeles:

UCLA Department of Epidemiology، 2005). http://www.ph.ucla.edu/epi/snow/fatherofepidemiology.html

34 “Population of the British Isles، ” Tacitus.NU. http://www.tacitus.nu/historical-atlas/population/british.htm

35 Max Roser and Esteban Ortiz-Ospina، “World Population Growth، ” Our World in Data، 2013/2017.

http://ourworldindata.org/data/population-growth-vital-statistics/world-population-growth

36 Michael J. White et al.، “Urbanization and Fertility: An Event-History Analysis of Coastal Ghana، ” Demography، Vol. 45، No. 4

(November 2008). http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2834382

37 Elina Pradhan، “Female Education and Childbearing: A Closer Look at the Data، ” Investing in Health (Washington، D.C.: World Bank)،

24 November 2015. http://blogs.worldbank.org/health/female-education-and-childbearing-closer-look-data

38 Michael Haines، “Fertility and Mortality in the United States، ” EH.net Encyclopedia، 19 March 2008. https://eh.net/encyclopedia/fertilityand-

mortality-in-the-united-states.

39 Michael J. McGuire، “John L. Leal: Hero of Public Health، ” Safedrinkingwater.com، 25 September 2012.

40 Ibid.

41 “Life Expectancy” (Canberra: Australian Institute of Health and Welfare، Australian Government، 7 February 2017).

https://www.aihw.gov.au/reports/life-expectancy-death/deaths/contents/life-expectancy

42 “Fertility Rates” (Australian Bureau of Statistics، Australian Government، 25 October 2012).

http://www.abs.gov.au/ausstats/abs@.nsf/Products/3301.0~2011~Main+Features~Fertility+rates

43 “Harry W. Colmery Memorial Park” (Topeka: American Legion، Department of Kansas).

http://www.ksamlegion.org/page/content/programs/harry-w-colmery-memorial-park

44 “Harry W. Colmery” (Indianapolis: American Legion، 2017). http://www.legion.org/distinguishedservicemedal/1975/harry-w-colmery

45 “Servicemen’s Readjustment Act (1944)، ” Ourdocuments.gov. https://www.ourdocuments.gov/doc.php?doc=76

46 World Health Organization; World Food Program; United Nations Educational، Scientific and Cultural Organization; United Nations

Children Fund.

47 Max Roser، “Life Expectancy، ” Our World in Data، 2017. http://ourworldindata.org/data/population-growth-vital-statistics/life-expectancy

48 Max Roser and Esteban Ortiz-Ospina، “World Population Growth، ” Our World in Data، April 2017. https://ourworldindata.org/worldpopulation-

growth/

49 Mike Hanlon، “World Becomes More Urban Than Rural، ” Gizmag، 29 May 2007. http://www.gizmag.com/go /7334