مجلة حكمة
لم نحتاج الفلسفة السياسية؟

لم نحتاج الفلسفة السياسية؟

الكاتبديفيد ميلر
ترجمةتوفيق السيف

الفصل الأول من كتاب (الفلسفة السياسية) لديفيد ميلر

يقال عادة ان صورة واحدة قد تغني عن الف كلمة. هذا صحيح كما اظن. ولذا سأبدأ هذا الكتاب الصغير بالحديث عن صورة ، صورة تشرح فكرة الكتاب فهي توضح بالألوان أغراض الفلسفة السياسية ، وتغني عن كثير من الكلام.

الصورة التي نعنيها لوحة ضخمة حقا ، فهي تغطي ثلاثة من جدران القاعة المسماة “قاعة التسعة = Sala dei Nove ” في القصر التاريخي Palazzo Pubblico الذي كان في الماضي مقرا لحكومة سيينا ، بمقاطعة توسكاني الإيطالية.

انها اذن أشبه بعدة لوحات مدمجة في إطار واحد ، تعالج موضوعا واحدا ، لكن من زوايا مختلفة. رسم هذه اللوحة الفنان الإيطالي امبروجيو لورينزيتي0F[1]، بين عامي 1337 و 1339. الاسم الشائع للوحة هو “التصوير الرمزي للحكومة الصالحة والفاسدة=The Allegory of Good and Bad Government”. ويبدو ان لورينزيتي أراد فعلا تقديم صورة معبرة ، عن معنى ان تكون الحكومة صالحة أو فاسدة. فقد حاول تجسيد الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم الصالح ، وتلك التي يتسم بها الحاكم الظالم، أراد تجسيدها في هيئة أشخاص ، ثم أوضح الانعكاسات التي يخلفها كل من الحكم الصالح ونظيره الفاسد ، على حياة الناس العاديين.

تتجسد الحكومة الصالحة في حاكم جليل القدر ، يرتدي حلة فاخرة، ويجلس على العرش محاطا بشخصيات ، تجسد الفضائل التي ينبغي للحاكم الصالح ان يتحلى بها ، فهذا شخص يمثل الشجاعة ، وآخر يجسد العدالة وثالث يجسد الشهامة ، ويجسد آخرون فضيلة السلامة والاعتدال والحصافة ، الخ. وفي درجة ادنى يقف صف من المواطنين يحوطهم حبل طويل ، يرتبط كل من طرفيه بمعصم الحاكم الصالح ، والحبل رمز للترابط والتناغم بين الحاكم وشعبه1F[2].

وفقا لتصوير لورينزيتي فان حكومة كهذه ستكون نعمة على شعبها. على اليمين سترى انعكاس الحكم الصالح على حياة المدينة ، التي صورها الرسام غنية ومنظمة ، يمارس صناعها أعمالهم ، يتبادل التجار بضائعهم بيعا وشراء ، يمتطي النبلاء خيولهم المزينة في سعادة. وفي جانب من المشهد ثمة مجموعة من الراقصين يشكلون دائرة ، بينما تتمايل أجسادهم على انغام الموسيقى. وعلى الطريق فلاح يقود خنزيرا سمينا باتجاه السوق. اما في الريف المحيط فالناس مشغولون بزراعتهم ، فهنا فلاحون يحرثون أرضهم ، وهناك غيرهم يحصدون زرعهم ، وفي الاطراف تلوح سيدة حسنة الملبس تمتطي جوادا وتسعى وراء طريدة تصطادها. وهكذا تسير الحياة ، الكل مشغول في عمله والكل سعيد بما هو عليه.

يأمل الفنان ان مشاهدي لوحته سيفهمون الفكرة الكامنة وراء هذه الرموز. لكنه مع ذلك احتاط بتلخيصها في لافتة يرفعها ملاك مجنح ، يرمز للأمان: “سيكون في وسع كل شخص ان يسافر ، ان يتاجر أو يزرع ، بحرية وأمان ، طالما حافظ المجتمع على هذه السيدة فوق الجميع ، لانها جردت الأشرار من قوتهم”. والسيدة المشار اليها رمز للحكومة ذات السيادة.

على الطرف الآخر تجسد اللوحة الحكم الفاسد. وقد حظي هذا الجزء بقدر اقل من الرعاية. لكن رسالته واضحة تماما: حاكم شرير محاط بشخصيات ، يجسد كل منها نوعا من الرذائل التي ينبغي للحاكم ان يتقيها: شخصية تجسد الجشع ، وأخرى تجسد القسوة ، وثالثة تجسد الكبرياء ، ثم مدينة تحت الاحتلال العسكري ، وريف قاحل خربته جيوش كالاشباح.

يفسر الفنان هذا الظرف القاتم ، من خلال نقش يحمله الشخص الذي يجسد الخوف: “حين ينصرف كل فرد الى مصلحته الشخصية ، فان العدل في المدينة سيذهب ضحية للاستبداد. لا احد يعبر الطريق وهو آمن على حياته ، سيكون هناك لصوص وقطاع طرق وراء بوابات المدينة وأمامها”.

تأمل الآن في محتويات هذه اللوحة.. هل هناك طريقة افضل من هذه لفهم ماهية الفلسفة السياسية وسبب الحاجة اليها؟.

اعتقد انه ليس ثمة طريقة أفضل من النظر الى جدارية لورينزيتي الساحرة. دعنا نشرح شيئا مما نحن بصدده. ولنبدأ بسؤال:

– ماهي الفلسفة السياسية ، ماهو تعريفها؟

في الجواب يمكن القول ببساطة انها تحقيق في طبيعة الحكومة ، لماذا وكيف نشأت ، ومتى تكون صالحة أو فاسدة ، وكيف يؤثر كل من النوعين على حياة البلاد وأهلها. لم يكتف لورينزيتي بتلخيص هذا المعنى فحسب ، بل صور لنا في شكل مرئي بديع ، ثلاثة افكار رئيسية ، تشكل جوهر موضوع الفلسفة السياسية.

  • الفكرة الأولى

أن كلا من الحكومة الصالحة والفاسدة ، تؤثر بشكل عميق على حياة السكان ، من حيث المستوى والجودة النوعية. يوضح لنا الفنان كيف تؤدي سيادة العدالة والفضائل الأخرى ، الى سيرورة لينة لحياة الناس عامة ، فترى الصناع مشغولين في جانب والتجار في جانب آخر ، وثمة من يستمتع بوقته في الصيد أو الرقص. وهكذا يقوم الناس جميعا باعمالهم أو يستمتعون بـوقتهم ، على نحو يثري وجودهم ذاته.

وبالعكس من ذلك ، تكشف الجهة ا لأخرى من اللوحة،  عن الانعكاس الكارثي للحكومة الفاسدة ، التي في ظلها ينتشر الفقر والفناء. هذه اذن هي الفكرة الأولى: ان كون الحكومة فاسدة أو صالحة ليس أمرا قليل الأهمية ، فهو يحدد كيف سنعيش. حياتنا ستكون مختلفة في ظل هذه الحكومة أو تلك.

بعبارة اخرى ، فانه ليس بوسعنا ان ندير ظهرنا للسياسة أو نغض الطرف عنها ، متوهمين ان الانشغال بحياتنا الخاصة سيريحنا من هم السياسة وغمها ، وانها على اي وجه كانت لن تترك اثرا على سعادتنا الشخصية.

لا لن يكون الأمر على هذا النحو أبدا.

  • الفكرة الثانية

ان شكل الحكومة ليس قدرا مفروضا. لدينا دائما فرصة كي نختار الشكل الذي نريد. القاعة التي تضم لوحة الفنان لورينزيتي ، تسمى كما اسلفنا “قاعة التسعة= Sala dei Nove” نسبة الى التجار التسعة الذين تناوبوا على رئاسة الحكومة ، ايام كانت سيينا جمهورية ، في النصف الأول من القرن الرابع عشر2F[3]. اراد الرسام ان ينبه الحكام التسعة في كل اجتماع ، الى مسؤولياتهم تجاه مواطني سيينا ، فضلا عن الاحتفال الدائم بالنظام الجمهوري الذي احتضنه سيينا ، خلال حقبة شهدت انزلاق العديد من المدن الإيطالية ، الى مستنقع الفوضى والإضطراب السياسي.

الجانب الذي خصصه الفنان لتصوير الحكومة الفاسدة ، لم يكن مجرد تمرين أكاديمي. بل هو – في المقام الأول- تحذير وتذكير بما سيحدث، لو أخفق حكام المدينة في النهوض بمسؤولياتهم ، وأداء واجباتهم تجاه السكان ، وكذا لو تهاون المواطنون في مراقبة ممثليهم في مركز السلطة.

  • الفكرة الثالثة

ان حقيقة الحكومة ، كونها صالحة أو فاسدة ، ليست من الامور المغيبة أو الغامضة. نحن قادرون على تمييز هذه من تلك. نستطيع مثلا تتبع الآثار التي تدلنا على صاحب الأثر. يمكننا ان نتعلم من هذه ومن غيرها،  الخصائص الضرورية للحكم الرشيد ونظيره الفاسد. هذا مانسميه – في عبارة ملخصة – المعرفة السياسية ، والتي حاول الفنان لورينزيتي ان يجمع عناصرها الكبرى في لوحة رمزية ، لا تخطيء العين معانيها ومقاصدها. في هذه اللوحة يظهر الحاكم الفاضل محاطا بشخصيات ، تجسد الخصائص التي تؤلف ما كان يعتبر وقتها مثالا للحكم الرشيد. اراد لورينزيتي ان تكون لوحته بمثابة مرشد ، يخبر المواطنين وحكامهم عن الطريق الذي يقود الى الحياة الطيبة ، ونظيره الذي ينتهي الى الفقر والخراب. هذا يعني – كما افترض لورينزيتي – اننا قادرون على تشخيص الفروق بين النوعين واكتشافها.

هذا ما يبدو ان لورينزيتي أراد ايصاله لمن يشاهد لوحته ، في ذلك الزمان وما ياتي بعده من أزمان. فهل يتوجب علينا التصديق بما تنطوي عليه اللوحة من رسائل صريحة أو ضمنية؟.

هل هذه الادعاءت مثبتة ، هل يوجد فرق – في الواقع – بين حياة في ظل حكم صالح ، وأخرى تحت حكومة فاسدة ، هل لدينا خيار بين هذه وتلك ، ام ان أمر السلطان فوق طاقتنا وقدرتنا على التحكم والاختيار؟. وهل يسعنا ان نعرف ما الذي يجعل هذا الشكل من الحكومات أو ذاك ، خيرا من الاخر؟.

هذه بعض الاسئلة الكبرى التي تدور حولها ابحاث الفلسفة السياسية. وهناك – اضافة اليها – بعض الاسئلة الاضيق نطاقا أو الأقل خطرا. سوف احاول الاجابة على هذه الاسئلة ، بطبيعة الحال. لكن قبل ذلك ، دعني اضيف بضع كلمات لجعل الموضوع أيسر وأجلى.

حين نتحدث عن الحكومة هنا ، فانني اقصد شيئا اوسع بكثير من الحكومة بمعناها الدارج اليوم ، اي تلك المجموعة من الناس الذين يحتلون مكاتب الحكم ، ويملكون سلطة الأمر والنهي في مجتمع ما ، في وقت محدد .

الذي أعنيه شيء يتجاوز حقا ما نسميه الآن “الدولة” ، اي المؤسسات السياسية التي تمارس السلطة من خلالها ، مؤسسات مثل مجلس الوزراء والبرلمان والمحاكم والشرطة والجيش الخ. الذي أعنيه هو المنظومة الكاملة ، التي تضم قواعد العمل والممارسات والمؤسسات ، التي نعيش معا في ظل توجيهها وقيادتها.

  • حسنا.. لماذا نرى هذا الأمر مهما؟

الجواب: انه مهم لان الحياة الاجتماعية لا تستقيم من دونه. يحتاج الناس للتعاون مع بعضهم ، كي تسير حياتهم بسلاسة. يحتاج كل منهم لمعرفة ما يتوجب عليه أن يفعل لمصلحة الاخرين في محيطه ، وما يتوجب على أولئك أن يفعلوه لصالحه ، من يستطيع ان يفعل ماذا ومع من ، من يملك اي جزء من هذا العالم المادي ، ماذا يحصل لو ان احدا خرق القواعد أو تصرف بحسب هواه… وغير هذا من الاسئلة ، التي لا بد ان كلا منا قد فكر فيها أو في بعضها يوما ما.

نحن نعرف الجواب على معظم هذه الاسئلة أو ربما كلها ، ولذا فربما نعتبر الأمر بديهيا..

لكن الذي ليس بديهيا حتى الآن ، هو القول بان علاج الاشكالات التي تلوح وراء الاسئلة ، يتطلب بالضرورة وجود حكومة تقوم بالأمر. سوف نرى في الفصل التالي كيف ان واحدا من الاسئلة المحورية في الفلسفة السياسية ، يتناول هذا الموضوع بالتحديد ، موضوع الحاجة للحكومة. خلال النقاش سوف نتعرف على حجة الاناركيين anarchist التي فحواها ان المجتمعات قادرة على تنظيم أمرها وحياتها على أحسن الوجوه ، من دون سلطة سياسية تأمر وتنهى.

سوف اترك سؤال الحاجة الى الحكومة مفتوحا ، حتى نصل الى الفصل التالي. ثمة سؤال آخر سوف أتركه الى الفصل الاخير من الكتاب ، يتعلق بالحاجة الى حكومة كونية: هل ينبغي للبشرية كلها ان تتحد في دولة واحدة ، تحت نظام سياسي واحد ، ام يفضل ان يكون لكل أمة حكومتها المستقلة ونظامها السياسي الخاص.

يوم رسم لورينزيتي لوحته الضخمة ، صور الحكومة الصالحة والفاسدة على شكل قيم وخصائص متجسدة في أشخاص. الشجاعة يصورها فارس قوي ، والازدهار يصوره فلاحون في يوم الحصاد ، والرفاهية تصورها مجموعة راقصين.. الخ. فلماذا ياترى اختار “الاشخاص” وسيلة لايضاح الفكرة ، ولم يختر وسيلة بديلة؟.

ربما كان لهذا علاقة بوسيلة نقل الفكرة ، اي اللوحة التي تفرض – بطبيعة الحال – حدودا على ما يمكن وما لا يمكن. لكن لا بد أيضا من التذكير ، بان نسبة فساد الحكم أو صلاحه الى اشخاص الحاكمين ، كان هو الأمر المتعارف في ذلك الزمن. في ذلك الوقت كانت الحكومة الصالحة تعني – في تصور الناس – وجود اشخاص صالحين على كرسي الحكم ، اشخاص يتمتعون بالحكمة والشجاعة والكرم ، وما الى ذلك.

شهدت تلك الاوقات ايضا مناقشات حول النظام السياسي: هل من الافضل ان تكون الحكومة ملكية ام جمهورية ، وأمثال هذا. لقد تغير الوضع في زماننا ، فلم نعد نهتم بالصفات الشخصية للافراد الذين يمسكون بزمام الحكومة ، بقدر ما نهتم بالقوانين والمؤسسات التي يمارس الحكم من خلالها. قد يجادل بان عالم اليوم ذهب بعيدا في التقليل من أهمية الصفات الشخصية ، لكني – على اي حال – سوف التزم بالمسار الحديث ، اي النظر الى الحكم والحكومة الراشدة ، من زاوية كونها نظام حكم ، وليس شخصا أو أشخاصا يحملون لقب الحاكم. ان اصلاح الحكم يعني اصلاح المؤسسات والقوانين ، اي اصلاح النظام ، وليس الاشخاص.

بعد هذا الاستطراد ، أعود للأفكار الثلاث التي قلت آنفا ، ان الفنان عمل على تجسيدها وايضاحها من خلال اللوحة ، سأحاول تصور المبررات التي ربما كانت في ذهن لورينزيتي ، يوم بدأ العمل في لوحته الساحرة. الواضح ان أسهل البدايات هي تبرير الدعوى القائلة ، بأن صلاح أو فساد الحكومة يترك أثرا عميقا على مستوى وكيفية حياتنا. اذا لم يستطع احد القراء ادراك هذا التأثير ، فلعل السبب هو كونه يعيش في ظل نظام سياسي مستقر ، لا يشهد الكثير من التحولات بين عام وآخر.

ربما يتغير الحزب الحاكم في الانتخابات. لكن تغير المجموعة الحاكمة لايترك غير اثر محدود على حياة الناس (رغم تظاهر السياسيين بان ما يقومون به خلال توليهم للمناصب السياسية يترك اثرا عظيما). لكن دعنا نفكر في بعض الأنظمة السياسية التي قامت وسقطت خلال القرن العشرين: فكر مثلا في النظام النازي في المانيا ، والستة ملايين يهودي الذين قتلوا في ظل هذا النظام. فكر أيضا في الصين أيام ماوتسي تونغ ، حين توفي 20 مليون شخص أو اكثر ، بسبب المجاعة التي تسبب فيها ما أطلق عليه يومئذ “القفزة العظيمة للأمام“. في هذه الاوقات العصيبة ، كانت مجتمعات أخرى تشهد ارتفاعا في مستوى معيشتها ، بمعدلات غير مسبوقة. فكأن تاريخ القرن العشرين قد أعاد انتاج التقابل الصارخ بين الحكم الرشيد والفاسد ، على النحو الذي صوره لورينزيتي في جداريته الشهيرة.

جبر أم اختيار

ننتقل الآن الى مناقشة الفكرة الثانية من الأفكار الثلاث ، التي اعتبرناها مبررات للاهتمام بالفلسفة السياسية. وهي تتصل بالفكرة الأولى التي ناقشناها للتو. فقد شرحنا هناك ما اراد لورينزيتي ايضاحه. وخلاصته ان نوع الحكم وطبيعته ، تنعكس بشكل مباشر وعميق على حياة الناس. لقد كانت السلطة السياسية ولاتزال ، سببا مباشرا لفقر المواطنين أو غناهم ، بل هي سبب للحياة والموت.

لكن حتى لو صدقنا هذه الدعوى ، فهل نستطيع التأثير على النخبة التي تحكمنا ، ام ان المقصود هو مجرد العلم بأننا سنواجه ما ذكرناه؟. هل هذه النخبة مالكة لقرارها ، قابلة لأن تتأثر برأي مواطنيها ، أم أنها مجرد حلقة في سلسلة ، وهي ذاتها محكومة بأسباب أعمق وعوامل أقوى ، ليس في وسعنا ولا في وسعهم تعديلها ، فضلا عن تغييرها. وإذا كان الأمر على هذا النحو ، فما هو النفع المرتجى من الفلسفة السياسية ، التي يزعم دارسوها أنها تستهدف مساعدتنا في معرفة واختيار النمط الافضل للحكم؟.

شهدت بعض حقب التاريخ ، انتشار فكرة الجبر التاريخي أو الحتمية التاريخية ، التي فحواها أن الحياة تجري وفق أقدار مرسومة ، وانه ليس لعامة الناس اي خيار. وفي الفترة التي كان لورينزيتي يرسم لوحاته ، كان كثير من الناس يعتقد ان التاريخ يتحرك بشكل دائري: يمكن أن يشهد بلد ما قيام حكومة صالحة ، لكنها غير قابلة للاستمرار. فمن المحتم ان تتسلل اليها عوامل الفساد مع مرور الوقت ، فتنقلب الى عكس ما بدأت به ، فتنزلق الى حمأة الاستبداد ، مع انها تبقى قابلة للعودة الى طريق الصلاح والإصلاح. لكن المسار سيكون طويلا وبطيئا ، اذ يتوجب – بحسب هذه الرؤية – ان تكتمل دورة الهبوط كي تعود للاعلى من جديد.

في حقب أخرى ، ولعل أبرزها القرن التاسع عشر ، ساد اعتقاد فحواه ان التاريخ يتحرك في مسار تصاعدي مستقيم ، من البربرية البدائية إلى مستوى أعلى من التمدن. لكن – مرة أخرى – هذه الرؤية تشير ضمنيا الى ان الطريقة التي تدار بها المجتمعات ، ترجع في تعينها الى أسباب وعوامل اجتماعية ، خارج إطار اختيار البشر أو تاثيرهم- ولعل النسخة الأكثر شهرة من هذه الرؤية ، هي التي تدعو لها الماركسية ، التي تجادل بأن تطور المجتمع يعتمد بشكل كلي ، على الطريقة التي ينتج بها السكان سلعهم المادية ، التقنية التي يستعملونها ، والنظام الاقتصادي الذي يتبنونه.

تبعا لهذه الرؤية ، فقد صنف النظام الاقتصادي ووسائل الإنتاج ونوعيته ، باعتبارها بنية تحتية infrastructure ، بينما صنفت السياسة كبنية فوقية  superstructureتعكس في طبيعتها حاجات النظام الإنتاجي السائد3F[4]. ومن هنا قرر كارل ماركس ان دولة المجتمعات الرأسمالية ، مكرسة لخدمة مصالح الطبقة الرأسمالية ، بينا هي في المجتمع الاشتراكي مكرسة لخدمة مصالح الطبقة العاملة. ومع مرور الزمن ، حين يتحول المجتمع الى شيوعي كامل ، سوف تنتفي الحاجة للدولة وتختفي من الوجود.

لو أخذنا برؤية كارل ماركس هذه ، فان النقاشات والتوقعات المتعلقة بشكل الحكومة ، تمسي كلها كلاما فارغا لا معنى له. لأن التاريخ سوف يتولى حل المشكلة نيابة عنا.

الطريف في الأمر ان مسيرة الماركسية ذاتها ، تكشف عن خطأ هذا النوع من الحتميات التاريخية. فقد اندلعت ثورات اشتراكية ، متأثرة بالمد الايديولوجي الماركسي ، في مجتمعات ما كان ينبغي – وفقا للتحليل الماركسي – أن يتولد فيها حراك ثوري. وأبرز هذه المجتمعات روسيا والصين ، التي كانت متخلفة نسبيا في الجانب الاقتصادي والتقني ، وبالتالي غير مهيئة لتبني النظام الاشتراكي للإنتاج. في المقابل ، قامت حكومات ديمقراطية مستقرة نسبيا في المجتمعات الراسمالية الأكثر تطورا ، وهو الأمر الذي اعتبره ماركس مستحيلا ، بالنظر إلى طبيعة هذه المجتمعات المنقسمة طبقيا. وثمة مجتمعات أخرى شبيهة لهذه أو السابقة ، سقطت في براثن انظمة فاشية.

تبين الآن ان السياسة كانت مستقلة عن الاقتصاد الى حد بعيد ، بل عن التطور الاجتماعي بشكل اعم. هذا يعني – كما سلف – ان امام الناس فرصة واسعة للاختيار ، والعمل على تجسيد اراداتهم وقناعاتهم. لا يقتصر الامر على اختيار النخبة التي ستدير حكومتهم ، بل أيضا المشاركة في تحديد المعنى الواسع للمجتمع الذي ينتمون اليه. لديهم فرصة كي يختاروا النظام العام الذي سيعيشون في ظله لزمن طويل في المستقبل: هل يفضلون نموذج حكومة الحزب الواحد (كحال الصين مثلا) ، ام يريدون ديمقراطية ليبرالية مع انتخابات حرة؟ ، هل يريدون اقتصادا ذا تخطيط مركزي ، ام يفضلون نظام السوق الحرة؟. هذه أمثلة عن نوع الاسئلة التي يحاول الفلاسفة السياسيون الاجابة عنها.

اذا كانت تجربة العالم خلال القرن العشرين قد تأثرت بذلك النوع من الحتمية التاريخية ، التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر ، فان بدايات القرن الواحد والعشرين ، تعطي إشارة عن بروز شكل جديد من القدرية ، مدفوعة بالنمو الباهر للاقتصاد العالمي. وفقا لهذا التحليل ، فان الحكومات الوطنية ، ما عادت تملك مجالا واسعا للمناورة ضمن حدودها ، وان السيادة الوطنية تتضاءل شيئا فشيئا لصالح نمط اقتصادي معولم.

فحوى هذه الرؤية إذن ، ان على الدولة أن لا تقف في مواجهة السوق ، لأن قوة الاقتصاد في حريته ، وان تدخلها موجب لضعفه. وفي هذا الإطار ايضا، قيل ان مجموعة الدول التي لديها فرصة النجاح في هذا التنافس الكوني ، هي تلك التي تبنت الديمقراطية الليبرالية. بعبارة أخرى فانه يمكن لمجتمع ما ان يتبنى النظام السياسي الذي يرغب فيه ، نظاما إسلاميا على سبيل المثال ، لكنه سيضطر حينئذ لدفع ثمن باهظ ، يتمثل في التراجع الاقتصادي ، وهو ثمن لا يرغب اي مجتمع في دفعه.

هذه الحتمية هي خلاصة الأطروحة التي اسميت “نهاية التاريخ” ، والتي تجادل بأن قوى الاقتصاد سوف تدفع المجتمعات دفعا ، نحو نمط سياسي يحتذي نموذجا كونيا هو الديمقراطية الليبرالية على المستوى السياسي ، والمبادرة الحرة أو نظام السوق على مستوى الاقتصاد4F[5].

ليس ثمة شك في ان دعاوى الجبر التاريخي هذه ، سوف تلاقي نفس المصير الذي لاقته الدعاوى الأقدم ، التي اظهرت الوقائع ضعف أدلتها. اننا نستطيع رؤية مؤشرات عديدة على تفاقم التيار المعارض للعولمة ، متجسدا في الحركات السياسية المعنية بالدفاع عن البيئة الكونية ، وتقليص الانعكاس السلبي لديناميات السوق العالمية على الدول النامية ، و مقاومة الميل للتسطيح وانحدار الجودة النوعية في الثقافة العالمية.

ان نهوض هذه الحركات يتحدى الفكرة القائلة بأن النمو الاقتصادي هو الهدف الأسمى. كما انه يثير سؤالا في غاية الأهمية ، يتناول غايات حياتنا وما يستحق القيمة العليا فيها ، وكيف ننجز تلك الغايات. هذه اذن بعض المحاور التي تثير اهتمام الباحثين في الفلسفة السياسية.

لكن حتى لو قصرنا النقاش على قضايا السياسة اللصيقة باهتماماتنا الرئيسية التي نشهدها في حياتنا اليومية ، فسوف نرى – إضافة اليها – أسئلة عديدة غيرها ، ما زالت تثير الجدل ، أسئلة مثل: أي قدر من الحرية الاقتصادية ينبغي لنا التضحية به ، كي نحصل على قدر أكبر من المساواة ، أو سؤال: الى أي حد نستطيع تقييد الحريات الشخصية ، في سبيل تعزيز قوة المجتمع الذي ننتمي اليه؟.

إخفاقات الفلسفة السياسية ونجاحاتها

هناك العديد من القضايا التي تشغل بال الناس ، والتي لا يمكن حلها دون النظر في أصولها العميقة وتاثيراتها المتعددة الابعاد ، الأمر الذي يضطرنا دائما للعودة الى حقل الفلسفة السياسية ، حيث تدرس تلك الأصول. اني اكتب هذه السطور على وقع الجدالات الشرسة في ميادين الاعلام والسياسة ، حول الإرهاب وحقوق الأفراد ، وإمكانية تدخل الدول الأقوى في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

بطبيعة الحال لا يمكن لدولة واحدة ، كما لا يستطيع عدد محدود من الأشخاص ، تقرير ما الذي ينبغي فعله تجاه كل من تلك الأسئلة. انها موضوع لقناعات عامة ، ويجب ان يشارك الجميع في اتخاذ الموقف المناسب منها. وقد اردت الإشارة اليها كأمثلة على القضايا التي تتصل في جذورها بمسائل الفلسفة السياسية.

أظن انني أوضحت بقدر معقول محاور اهتمام الفلسفة السياسية ، وكيف ان قضاياها ذات أهمية حيوية لنا جميعا ، وان المعرفة العميقة بأطرافها ومؤدياتها ، توضح انه ثمة فرصة حقيقية كي نقرر خياراتنا في المجال السياسي ، عن وعي بأبعادها ومراميها ، ومعرفة بما يترتب على الخيارات المختلفة.

ماذكرته يوضح اذن ان الفلسفة السياسية ، ليست قليلة الأهمية أو ضئيلة التأثير في حياة الناس اليومية ، كما قد يتخيل بعضنا. لكن – على أي حال – ثمة حجة أخرى لاهمال هذا الحقل العلمي ، يجدر بي عرضها. خلاصة هذي الحجة ان السياسة في الواقع تدور حول القوة واستعمال القوة. ونعلم ان الاقوياء ، وبينهم خصوصا رجال السياسة ، لا يلقون بالا الى أعمال الفلاسفة أو تنظيراتهم. إن أردت القيام بشيء مؤثر في المجال العام – وفقا لهذه الحجة – فاخرج الى الشارع ، نظم تظاهرة ، وربما تحتاج الى احداث بعض الفوضى ، كي تجد من يستمع اليك. و إن كنت تريد طريقا بديلا ، فابحث عن سياسي فاسد ، اعرض عليه رشوة ، أو حاول ابتزازه ، فربما تحصل على التغيير الذي تريده. فاذا كنت من اصحاب الرؤية السابقة، فلا حاجة لان تشغل نفسك بالاطروحات العلمية المتينة ، التي – على الأرجح – لا يقرأها احد!.

سوف يقول أصحاب هذه الرؤية أيضا ، ان التاريخ يبرهن على خيبة الفلاسفة. لقد حاول بعضهم ممارسة السياسة ، لكن لا نعرف فيلسوفا اقترب من الزعماء السياسيين ، وتدخل في الشأن العام ، وصادف توفيقا يذكر. سجل التاريخ العديد من القصص عن نصح الفلاسفة والحكماء للقادة العظام. نعلم مثلا ان ارسطو كان معلما للاسكندر الاكبر ، ونعلم ان نيقولو مكيافيللي حاول تقديم المشورة إلى آل ميديشي في فلورنسا5F[6] ، كما ان الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو (1713-1784)، دعي الى سان بطرسبرج كي يقدم توصيات الى الامبراطورة كاترين ، حول تحديث الدولة الروسية.

هل أدت تدخلاتهم لنتائج تستحق الذكر أم لا .. هذا موضوع آخر.

اضافة لما سبق ، فان الأطروحات التي كتبت في ظروف الصراع السياسي الشديد ، لم توفق ابدا في تحسين الحال. وبين الأمثلة الشهيرة في هذا السياق ، نذكر كتاب توماس هوبز “لفياثان” الذي يعد تحفة فنية في الفلسفة السياسية ، وقد كتب في ذروة الحرب الاهلية الإنجليزية ، لكنه لم يحظ باي تعاطف بين فريقي الصراع ، الملكيين وأنصار البرلمان.

لعل السبب في اخفاق “لفياثان” هو موقفه في منتصف الطريق بين طرفي النزاع. كان الملكيون يعتقدون ان سلطة الملك مستمدة من تفويض الهي ، بينما اعتقد انصار البرلمان ان هذه السلطة مصدرها رضا العامة. أما هوبز فقد تخيل صورة قاتمة للطبيعة البشرية ، الامر الذي قاده للمحاججة بأن علينا القبول باي حكومة قائمة وقادرة على إدارة الأمور بحزم ، مهما كانت مؤهلاتها. كان هوبز مهتما بانهاء الحرب في المقام الأول.

لم يرض أي من الطرفين برؤية هوبز رغم واقعيتها. فقد اعتبرها انصار الملكية تأكيدا ضمنيا على حق تشارلز الأول في السلطة المطلقة ، باعتباره الملك الفعلي عند اندلاع الحرب. وهذا ما يرفضه البرلمان. وفي المقابل ، كان انصار البرلمان يرون ان الحاكم الشرعي للبلاد هو اوليفر كرومويل ، لأنه نجح في خلع الملك ، ولأن ممثلي الشعب اختاروه قائدا ، وهذا ما يرفضه الملكيون. من هنا لم يكن لرأي هوبز قبول قطعي بين هؤلاء ولا بين أولئك.

يمكن لمثال توماس هوبز ان يساعدنا في معرفة أسباب فشل الفلاسفة ، في التأثير المباشر على مجريات السياسة ، وأبرزها في غالب الأحوال هو تركيزهم على خلفيات الحوادث ، أي السلسلة المنطقية التي كان الحادث حلقة أخيرة فيها ، إضافة الى عبورهم لحدود الحوادث الواقعية ، والنظر في جوانب فلسفية وتحليلية ، بعيدة عن السطح الظاهر لكل الناس ، وقد تكون متعارضة مع العقائد والتفسيرات المألوفة بين السياسيين والجمهور. ولذا لا يشعر غالب الناس بالتعاطف مع رؤاهم الغريبة.

لم يعتد الناس على التفكير في معتقداتهم أو مساءلة صدقيتها. أما الفلاسفة فقد اعتادوا تحليل هذه المعتقدات ومساءلتها. وهم يهتمون عادة بالتوقف عند ما يعتبره الناس بديهيا ومسلما ، كي يناقشوا: ما الذي يعنيه الناس حين يقولون هذا القول أو ذاك ، ماهو الدليل الذي اعتمدوه حين تبنوا هذه القناعات ، كيف سيبرهنون على صحتها فيما لو تعرضت للمساءلة والتشكيك؟.

لطالما اسفر هذا الاختبار عن نتيجة غير التي تمناها الفلاسفة. فحين عرضوا آراءهم ورؤاهم البديلة ، بدت لعامة الناس غريبة غير مألوفة ، وقد أزعجت أولئك الذين اعتادوا على الطرق التقليدية في النقاش وتبادل الأفكار. هذا بالضبط ما حصل لرؤية توماس هوبز ، التي وجدها كلا الطرفين في الحرب الأهلية ، الملك والبرلمان ، متعارضة مع مصالحهم ، ومع معتقداتهم التي ينظرون اليها كمسلمات ، لا يمكن التفكير في بدائل عنها.

 هذا لا يعني بطبيعة الحال ان رواد الفلسفة السياسية ، لم يتركوا أثرا في الحياة السياسية. فلو اخذنا بعين الاعتبار عامل الزمن ، فلن يكون من ضروب المجازفة القول ان آراءهم كانت – في بعض الأحيان – ذات تأثير بالغ على مجريات الحياة.

حين نفكر في السياسة ، فاننا نضع فرضيات لا ندرك حقيقتها الا نادرا ، أو ربما نبني على فرضيات يمر عليها الزمن فتتغير كليا. من ذلك مثلا ان توماس هوبز نشر آراءه في وقت كان معتادا ان يستذكر الناس نصوص الكتاب المقدس حين يتجادلون في السياسة. كان الدين اذن نقطة مرجعية لقضايا السياسة. تجاهل هوبز هذا العرف المتوارث. ومع مرور الزمن بات من الممكن للناس ان يفكروا في أمور السياسة ، على أرضية علمانية صرفة. هذا التحول يعد اليوم جزء من ميراث هوبز ، الذي سيبقى مؤثرا على الفكر السياسي لزمن طويل في المستقبل.

لقد كان هوبز نفسه منشغلا بعمق بالاسئلة الدينية. لكن يوم فكر في المشكلة السياسية ، حاول ان يبقى خارج هذا الاطار. وقد ساعدت مقاربته الجديدة لمفهوم السلطة السياسية ، على تحديد مكان مستقل لكل من الدين والسياسة ، بحيث يناقش كل منهما وفق لغته ومقارباته واطاره التفسيري الخاص.

دعنا نضرب مثالا آخر: في زمن توماس هوبز كان الايمان بالديمقراطية كشكل من أشكال الحكم ، قصرا على نخبة صغيرة من الراديكاليين (هوبز نفسه لم يستبعد الفكرة بشكل كلي ، لكنه صنفها في مرتبة أدنى من الملكية). في أيامنا هذه يتحدث الناس عن الحكم الديمقراطي كواحد من المسلمات ، بحيث يغدو صعبا علينا إضفاء الشرعية على أي نظام غيره.

كيف جرى هذا التحول العميق في ثقافة الناس؟

 انها قصة معقدة ، لكن الجزء الذي لا يمكن اغفاله منها ، هو دور الفلاسفة السياسيين الذين جادلوا طويلا في الدفاع عن الديمقراطية ، الفلاسفة الذين عبروا عن ارائهم ونجحوا في إدخالها الى قلوب الناس ، حتى تحولت الى مبدأ رئيس من مباديء الحياة السياسية ، وثابت من ثوابت الثقافة العامة. نذكر في هذا السياق جان جاك روسو على سبيل المثال ، الذي لا يمكن الشك في الدور المحوري لآرائه في الثورة الفرنسية ، ولاسيما تلك التي دونها في كتابه الأشهر “العقد الاجتماعي“.

ويقال في هذا الصدد ان توماس كارلايل ، المفكر الاسكوتلندي المعروف ، قد عوتب لكثرة حديثه عن أهمية الأفكار المجردة ، نظير ما يكتبه الفلاسفة. فقال عبارة جرت مجرى الامثال: “كان ثمة رجل اسمه روسو ، كتب كتابا لا يحوي شيئا سوى الأفكار. وقد طبع مرة فضحك بعض الناس منه ، اما الطبعة الثانية فغلفت نسخها بجلود الذين سخروا من الأولى!”6F[7].

ثمة كتب كثيرة في الفكر السياسي تركت أثرا بالغا. لكن ليس من السهل التنبؤ مسبقا ، بان كتابا بعينه سينال ذات الاهتمام الذي حظي به كتاب توماس هوبز (لفياثان) أو كتاب روسو (العقد الاجتماعي) أو حتى كتاب (البيان الشيوعي) لكارل ماركس وفريدريك انجلز. يعتمد الأمر بشكل كلي تقريبا ، على التناغم بين ما يدعو اليه الكاتب وبين التحولات السياسية والاجتماعية. اذا نجح الكاتب في تغذية مسار بعينه ، في تلبية الحاجات الثقافية للراغبين في هذا المسار ، في اقناع المزيد من الناس بالانضمام اليه ، فانه سوف يتحول الى مرجع معياري للأجيال التالية.

 غني عن القول ان بعض الاعمال في الفلسفة السياسية ، حظيت بنجاح محدود فحسب ، ثم انزلقت الى الهامش من دون ان تترك أثرا يدل عليها. مع هذا فان حاجة الانسان إلى الفلسفة السياسية لا تنقضي أبدا. وهي تتجلى بصورة اجلى في الأزمات ، وحينما نواجه تحديات سياسية جديدة ، لا نستطيع تحليلها بالاستناد الى ما نعرفه من علم ، أو ما ورثناه من حكمة تقليدية. في هذه اللحظات ، نحتاج إلى التعمق أكثر ، لفحص الأسس التي بنيت عليها عقائدنا السياسية. في هذه المرحلة بالتحديد يتجلى دور الفلسفة السياسية ، حيث يعود الناس الى مصادرها الاصلية ، أو على الأقل الى الكتيبات والمقالات التي ينشرها الفلاسفة أو تلاميذهم.

الفلسفة السياسية وأبراج الحظ

قد يستشكل أحد القراء قائلا: دعنا نتفق معك في ان الفلسفة السياسية ، تقدم أجوبة على أسئلة حقيقية. لكن من يقول ان تلك الإجابات نفسها ، حقيقية واصيلة؟. (ما الذي يدفعني لتمييزها عن أخبار الحظ والابراج التي تنشرها الصحف. الا تقدم الأبراج إجابات عن حاجات محسوسة فعلا ، الا تريح الناس المهتمين بمعرفة ما يخبئه المستقبل لهم؟. لكننا مع ذلك لا نعتقد في صدقية الابراح نفسها ، بل نراها زائفة كليا).

حسنا … ثمة ادعاء قديم فحواه ان الفلسفة السياسية ، تقدم نوعا من “الحقيقة” المتعلقة بالسياسة ، هذا شيء مختلف عن الآراء الشخصية  التي نعتمد عليها في حياتنا اليومية. العلاقة بين الفلسفة والحقيقة ، دعوى قديمة كما سلف ، جادل دونها أفلاطون ، الذي يعتبر على نطاق واسع الاب المؤسس للفلسفة السياسية ، وقد قدم هذه الدعوى من خلال قصة “الكهف” التي وردت في كتابه “الجمهورية“.

اختار أفلاطون التناظر بين الكهف المظلم والخارج المضيء ، كرمزين متقابلين لموقف الفلاسفة الذين يرون الحقيقة ، وموقف عامة الناس حين تكون تلك الحقيقة غير ما ألفوه أو عرفوه. فقد شبه عامة الناس بمجموعة من السجناء المقيدين داخل كهف لا تدخله الشمس ، لكنهم يرون ظلال الأشياء التي في الخارج. ويقول افلاطون ان أولئك السجناء سوف يفترضون ان الظلال التي يرون حركتها ، هي وحدها الأشياء الواقعية7F[8].

دعنا نفترض الان ان واحدا من السجناء قد أطلق سراحه ، فغادر الكهف ، ومع مرور الوقت بدأ يرى العالم على نحو مختلف ، وبدأ يدرك ان ما كان يعرفه في الكهف ليس سوى ظلال متحركة. دعنا نفترض أيضا ان الرجل عاد لزيارة أصحابه في الكهف ، وبدأ يخبرهم عن زيف قناعاتهم السابقة ، فهل تراهم يتقبلون كلامه؟.

يعتقد افلاطون ان هذا غير مرجح ، وهذا بالضبط هو موقف الفيلسوف مع عامة الناس. يملك الفيلسوف معرفة حقيقية بينما لا يملك عامة الناس سوى آراء متناثرة وغير مترابطة. مع ذلك فان غالبيتهم لن يجهدوا انفسهم في السعي وراء معرفة الحقيقة ، لأن طريقها شاق وطويل ، لا يرغب في احتمال عنائه غير أقلية صغيرة تقدر قيمة الحكمة.

رسم افلاطون صورة قاتمة عن الرأي العام ، أي عامة الناس ، في تفكيرهم ومواقفهم ، مقارنة بالمعرفة الفلسفية ، أي موقف الفلاسفة الذين افترض انهم – وحدهم – يعرفون الحقيقة.

– ترى هل نستطيع العثور على مبررات كافية لهذا الموقف؟.

ليس هذا هو المكان المناسب لمناقشة موقف افلاطون ، ولا سيما الأساس الميتافيزيقي لتمييزه الحاد بين الطرفين. لكن دعني أقول ببساطة إن تصوري للفلسفة السياسية ، لا ينطوي على فرضية امتلاك الفلاسفة لنوع خاص من المعرفة ، غير متاح لسائر الناس. بل أرى انهم يفكرون في الأشياء بنفس الطريقة التي يفكر بها أي شخص آخر. لكنهم يتميزون عن غيرهم باتباعهم لمنهجية في التفكير وترتيب الأفكار والملاحظات ، إضافة الى موقفهم النقدي ، الذي لا يميز – نظريا على الأقل – بين قناعات جديدة وأخرى قديمة. ليس من عادة الفلاسفة التسليم بكل شيء. وليس من عادتهم صون المعتقدات عن المساءلة وإعادة الفحص. فهم يتساءلون دائما عما اذا كانت هذه المسلمات والمعتقدات متسقة مع بعضها البعض ، ما إذا كانت قائمة على أستدلال متين ، ما إذا كانت قادرة على الاندماج في منظومة واحدة أوسع نطاقا.

سوف اعرض هنا بعض الأمثلة لتوضيح هذه الفكرة:

أفرض انك وجهت سؤالا لأحد السياسيين ، عن الأهداف التي يسعى لتحقيقها في مجتمعه. اذا كان هذا السياسي منتميا لأحد المجتمعات الغربية المعاصرة ، فسوف يعطيك – في الغالب – قائمة اهداف قابلة للتنبؤ سلفا ، أهدافا مثل القانون والنظام ، الحريات الفردية ، التنمية الاقتصادية ، انهاء البطالة ، إضافة الى هدف أو اثنين آخرين.

افرض الان ان فيلسوفا سياسيا استمع الى هذا الجواب ، فماذا سيكون رده؟.

حسنا ، اظنه سيشير أولا الى تلك الأهداف متسائلا: أيهم يحضى بالأولوية المطلقة؟. خذ مثلا النمو الاقتصادي ، هل هو جيد في ذاته ، ام اننا نعتبره وسيلة ، بعبارة أخرى ، هل نراه جيدا بقدر ما يعطي للناس من فرص للاختيار ، أو بقدر ما يجعل حياتهم اكثر صحة وسعادة؟.

هل يمكن لنا ان نتبنى فرضية من قبيل: ان المزيد من النمو سيكون على الدوام أمرا جيدا؟. ام اننا سنصل الى نقطة لا يعود للمزيد من النمو قيمة ، أو تاثير في الأشياء التي تحظى باهتمامنا؟.

سوف يسأل الفيلسوف أيضا عن حلول البطالة: هل نعطي قيمة للقضاء التام على البطالة ، لأننا نعتبر اجتهاد الناس في تدبير حياتهم من خلال العمل ، امرا ذا قيمة في ذاته وبذاته ، ام لأننا نرى ان الناس لن يستطيعوا الارتقاء بمعيشتهم الى المستوى اللائق من دون عمل؟. واذا كان الثاني هو الخيار الصحيح ، فلماذا لا نعطي لكل فرد دخلا ثابتا ، سواء عمل ام لم يعمل ، ونحول العمل الى نشاط تطوعي يقوم به من يستمتع به؟.

سوف يسأل الفيلسوف أيضا عن ترتيب الأولويات ، على قائمة الأهداف الخاصة برجل السياسة ، وعلاقة كل هدف بالآخر. من النادر ان ترى سياسيا يقر صراحة بانه قد يضطر الى التضحية بأحد الأهداف من أجل الآخر. مع انهم يفعلون ذلك في الواقع. خذ مثلا قيمة “القانون والنظام” مقابل “الحرية الفردية”. بعض الناس لا يمانع من تقييد الحريات الفردية ، من اجل ان تصبح شوارعنا أكثر أمانا ، أي أنه لا يعارض منح الشرطة صلاحيات أوسع في تفتيش الأشخاص ، واعتقال المشتبه بانهم ربما يكونوا متجهين للانخراط في اعمال إجرامية.

اذا كان الامر على هذا النحو ، فما هي القيمة التي لها الأولوية في قائمة أهداف السياسي؟.

لكي تقرر ذلك يتوجب عليك البدء بتحديد المعنى الدقيق للحرية الفردية.. هل هو مجرد القدرة على فعل ما تريد ، ام فعل ما تريد شرط ان لا تؤذي شخصا آخر. اختيار احد المعنيين سوف يحدث فرقا كبيرا في تحديد الاجابة على السؤال المطروح.

حين يطرح الفلاسفة أسئلة كهذه ، وحين يقترحون إجابات عنها ، فانهم لا يتكلون على أي نوع من نواع الفلسفة الباطنية المحجوبة عن عامة الناس. غاية ما يفعلونه هو دعوة قرائهم للتفكير في قناعاتهم السياسية الخاصة ، والقيم التي يرونها أعلى مكانة ، ثم ترتيب أولوياتهم وفقا لذلك ، مع إبقاء الباب مفتوحا لتعديلات لاحقة. عند التفكير في قيمة النمو الاقتصادي مثلا ، من المفيد ان نفكر في الصورة العامة لحياة الأشخاص الذين يعيشون في مستوى مرتفع: هل ارتفعت بنفس القدر مؤشرات الحياة المادية مثل الصحة وطول العمر ، وهل ارتفعت المؤشرات النفسية ، من قبيل معدل شعورهم بالسعادة ورضاهم عن حياتهم.

هذا يستدعي بطبيعة الحال ، ان يكون لدى فلاسفة السياسة اطلاع جيد على بحوث العلوم السياسية والاجتماعية.

لم يدخر الفلاسفة جهدا في البحث عن تلك البيانات. ولحسن الحظ فقد أصبح الأمر أكثر يسرا في العصر الحاضر. أما في القرون السابقة ، فقد اضطروا لبذل جهد جهيد ، في جمع ما تيسر من الأدلة والسجلات التاريخية، عن المجتمعات البشرية ونظمها السياسية المتنوعة. لا بد من القول ان تلك البيانات كانت انطباعية نوعا ما ، ولا تصلح برهانا قطعيا. اما اليوم فقد بات بوسعهم البناء على أسس تجريبية اكثر صلابة ، بفضل التوسع الهائل للعلوم الاجتماعية في القرن العشرين.

يتعلق هذا الامر كما سلف ، بالمعلومات الميدانية التي نرجع اليها في الفحص والاستدلال. اما جوهر المهمة التي يقوم بها الفلاسفة ، فلم تتغير بشكل جذري. لازالوا يأخذون ما نعرفه عن المجتمعات البشرية ، والطرق المتبعة في ممارسة السلطة ، ثم يسألون عن أفضل نظام للحكم ، رجوعا الى الأهداف والقيم التي يؤمن بها المجتمع المعني بالبحث.

حين يقوم الفلاسفة بأبحاثهم، فانهم لا يسعون للتوصل الى استنتاجات غريبة لم يعرفها أحد من المعنيين. قد يتوصلون أحيانا الى أن أفضل نظام للحكم هو النظام القائم بالفعل ، أو ربما مع بعض التعديلات. في أحيان أخرى ربما يقترحون تغييرا جذريا.

توضح الفقرات السابقة ، كيف يمكن للفلسفة السياسية ان تنير طريقنا حين نفكر في السياسة ، من دون ان تدعي امتلاك الحقيقة أو الاختصاص بمعرفة غير متاحة لعامة الناس.

أسئلة ثابتة وأخرى متحولة

ثمة نقطة يجدر الإشارة اليها هنا ، وهي تنطوي في سؤال: هل هذه الحقائق التي نتوصل اليها عن طريق الفلسفة السياسية ، قابلة للتطبيق على مختلف المجتمعات ، في مختلف الأزمنة؟. بعبارة أخرى: هل نعتبر نتاج الفلسفة السياسية حقائق مجردة عابرة للزمان والمكان ، ام انها – في أحسن الأحوال – مشروطة بخصوصيات الظرف التاريخي /الاجتماعي الذي شهد ولادتها؟.

اميل للاعتقاد بأن اجندة الفلسفة السياسية تتغير ، في خط مواز للتحول الذي يشهده المجتمع والحكومة. لكن ثمة عناصر ستبقى في الذاكرة، طالما بقيت السجلات محفوظة. من بين هذه العناصر ، هناك أسئلة مزمنة تتناول الأمور الأساسية في السياسة والسلطة السياسية ، وهي الأسئلة التي سوف نعالجها في الفصل التالي.

من الأسئلة التي تندرج تحت هذا الصنف ، على سبيل المثال: لماذا نحتاج الى السياسة في المقام الأول ، بأي حق يقوم شخص ما بجبر الأشخاص الآخرين ، على فعل شيء أو الامتناع عن فعله؟. ولماذا يتوجب على أن اطيع القانون ، حينما لا يصب في مصلحتي؟.

هذه الأسئلة وأمثالها لم تتغير ، منذ أن ظهرت الفلسفة حتى اليوم. لكن ثمة شريحة أخرى مما اعتبرناه لصيقا بالظرف التاريخي ، شهدت تغيرا في الجانبين ، الأسئلة والأجوبة ، أو ربما بقي السؤال على حاله لكن الجواب تغير.

تتغير الأسئلة لأن المجتمع يتغير مع الزمن ، يتغير اقتصاده وثقافته والعوامل المؤثرة عليه وعلاقاته بالجيران. ومع هذا التحول تبرز قابليات جديدة لم تكن موجودة سابقا ، كما تتلاشى قابليات أخرى. دعنا نأخذ نظام الحكم الديمقراطي كمثال: في الوقت الحاضر ، كل فيلسوف سياسي ، في المجتمعات الغربية على الأقل ، يعتبر الديمقراطية مضمونا ضروريا للحكومة الصالحة. الديمقراطية تعني ان تكون السطة في يد الشعب ، بطريقة أو بأخرى. (سوف نرى في الفصل الثالث ان هذه الفرضية ، تترك مجالا واسعا للجدل حول المعنى الحقيقي للديمقراطية في الواقع).

أقول ان الاعتقاد في المضمون الديمقراطي للحكم الصالح ، سمة خاصة بالعصور الحديثة. اما في الماضي فقد ساد الرأي المعاكس. ففي تلك العصور ، كان الحكم الصالح يعني وجود ملك حكيم على رأس الدولة ، أو كونها تدار من جانب ارستقراطية مستنيرة ، أو من جانب الأثرياء وملاك الأراضي ، أو ربما مزيج من هؤلاء.

هل ياترى نستطيع القول باننا (المؤمنين بالديمقراطية) على حق ، وان اسلافنا كانوا خاطئين؟.

بالطبع لا. لأن الديمقراطية ليست مجرد فكرة في الأذهان. ان قيامها رهن بتوفر شروط مسبقة ، اقتصادية واجتماعية ، كي تكون مؤثرة وذات معنى. من تلك الشروط مثلا توفر مستوى معقول من التعليم والثروة بين السكان ، أو شريحة معتبرة منهم ، ووجود وسائل للاتصال الجمعي (مثل الصحافة) ، تشكل قنوات لشرح القضايا والتبادل الحر للاراء والأفكار. كما تحتاج الى وجود نظام قضائي يحظى باحترام الجمهور ، الخ.

هذه الشروط لم تتوفر في أي مكان ، الا في الماضي القريب ، وهي بالطبع ليست من النوع الذي يمكن خلقه بين عشية وضحاها (مثال أثينا الكلاسيكية يؤخد في الغالب كاستثناء ، لكن يجب استذكار ان “ديمقراطية” أثينا استوعبت اقلية من سكان المدينة فحسب. وهؤلاء تعتمد حياتهم كليا – باعتراف اليونانيين انفسهم – على عمل النساء والعبيد والعاملين الأجانب).

أخذا بعين الاعتبار تلك الظروف ، فان قدامى الفلاسفة لم يكونوا خاطئين ، حين اغفلوا الديمقراطية كشكل من اشكال الحكم. حتى جان جاك روسو ، الذي كان – كما اسلفنا – واحدا من الفلاسفة الذين ساعدت أعمالهم في تمهيد طريق الديمقراطية ، قال انه “لو وجد شعب من الآلهة لكانت حكومته ديمقراطية ، فحكومة بالغة الكمال كهذه لا تلائم الآدميين”8F[9]. بالنظر للظروف التي كانت سائدة في تلك الأزمنة ، فان النظام الديمقراطي لم يكن قابلا للحياة والاستمرار.

مثال آخر على الاجندة المتغيرة للفلسفة السياسية ، دعنا نتامل في القيمة التي نضفيها اليوم على مبدأ الاختيار الشخصي. نحن نعتقد ان الناس احرار في اختيار وظائفهم ، شركائهم ، معتقداتهم الدينية ، الأزياء التي يرتدونها ، والموسيقى التي يستمعون إليها ، وما إلى ذلك. من المهم – حسب اعتقادنا – أن يصمم كل شخص أو يكتشف نمط العيش الذي يناسبه ويحقق غاياته.

لكن .. ما هي قيمة هذه الاعتبارات لو كنت في مجتمع يتفق سكانه على اتباع تقاليد آبائهم ، خطوة بخطوة ، مجتمع لا يوفر سوى مساحة ضئيلة لاختيار الوظيفة ، مجتمع لا يتوفر فيه سوى القليل من مجالات الترفيه ، ويخضع بكامله لهيمنة دين مشترك؟.

هنا تمسي القيم الأخرى أعظم أهمية. وهذا هو حال المجتمعات البشرية ، في الأعم الأغلب من تاريخها القديم. لهذا فلا ينبغي ان يكون مدهشا ، إذا علمنا ان مبدأ الاختيار الشخصي ، انتظر حتى القرن الثامن عشر  كي يحوز المرتبة العليا في نقاشات الفلاسفة ، ويصبح موضوعا أثيرا لأمثال جون ستيوارت ميل ، في كتابه الكلاسيكي “في الحرية On Liberty ” ، وهذا سيكون مادة لنقاشنا في الفصل الرابع.

لقد كان مسعاي في هذا الكتاب منصبا على إقامة نوع من التوازن ، بين الأسئلة المزمنة في الفلسفة السياسية ، ونظيرتها التي ظهرت في الماضي القريب فحسب. أسئلة مثل حقوق المرأة والأقليات الثقافية ، تصنف تحت النوع الثاني ، وسوف تكون موضوعا للفصل السادس.

ان إقامة التوازن على النحو المذكور قد يكون مهمة صعبة. من السهل ان تنجرف وراء القضايا الأكثر إثارة للاهتمام ، بينما تغفل عن القضايا الأساسية التي تشكل أرضية للسياسة في أي مكان. ربما نتقي هذا الانزلاق بالعودة الى الماضي ، الى مدينة سيينا الإيطالية ، الى لوحات امبروجيو لورينزيتي بالخصوص ، كي نستذكر من جديد ، بان الكيفية التي نتبعها في تأليف السلطة السياسية ، ربما تشكل العامل الحاسم بين الحياة والموت ، بين الغنى والفاقة. هذي هي نقطة الانطلاق للفصل التالي.

إضافة الى ما سبق ، فقد سعيت للموازنة بين ما أطرحه من حجج شخصية ، وما طرحه الآخرون من احتجاجات ، في كل من القضايا التي عرضت للنقاش. وقد كان غرضي على الدوام هو إيضاح وتحديد موارد الجدل بين الجبهات المتعارضة في الفلسفة السياسية ، بين الفوضويين anarchist والدولتيين على سبيل المثال ، بين الديمقراطيين والنخبويين ، جدل الليبراليين مع السلطويين ، جدل القوميين ضد الأمميين ، وهكذا وهلم جرا.

يهمني على أي حال تنبيه القاريء ، الى أني لا أجازف بادعاء ان ما يراه هنا مسح شامل ومحايد تماما. لا يمكن للمرء ان يكتب في الفلسفة السياسية من دون ان يمارس التفلسف أيضا. أعلم ان بعض القراء ربما يرغب في جواب واحد فقط ، يراه معقولا ، جواب عن كل مسألة من المسائل التي تثير جدالات شرسة في هذه الأيام. وقد حاولت تفنيد هذا الوهم. حاولت تجنب الإيحاء بصدقية احتمال كهذا. لا اعتقد بوجود جواب واحد فقط عن كل مسألة. لكني – مع ذلك – لم أحاول إخفاء الخيار الذي أميل اليه أو أتعاطف معه. هناك أجوبة عديدة لكل مسألة ، ومن البديهي ان كلا منا سيميل الى الجواب الذي يبدو له أكثر معقولية أو اقناعا.

اذا اخترت ان تخالف رأيي ، فاني آمل ان تجد بين الاحتجاجات المعروضة ما يدعم الخيار الذي تميل اليه. مع اني – بطبيعة الحال – أتمنى ان تقتنع بالحجج التي وجدتها أقوى دلالة على المطلوب ، وبناء عليها اخترت الموقف الذي أتبناه.


 

قراءات إضافية مقترحة

لقد ادرجت عددا من الكتب التي اقترحها المؤلف كقراءات اضافية ، ضمن المراجع حيثما وجدت إحالة اليها. وبالاضافة الى تلك ، يوصي المؤلف بالمراجع المذكورة أدناه لمن أراد التعمق في قضايا الفلسفة السياسية:

  • Adam Swift, Political Philosophy: A Beginners’ Guide for Students and Politicians (Polity Press, 2001).
  • Brian Redhead (ed.), Political Thought from Plato to Nato (Penguin, 1995)
  • David Miller, Janet Coleman, William Connolly, and Alan Ryan, Blackwell Encyclopaedia of Political Thought, (Blackwell, 1987).
  • David Muschamp (ed.), Political Thinkers (Macmillan, 1986)
  • Dudley Knowles, Political Philosophy (Routledge, 2001).
  • Gerald Gaus, Political Concepts and Political Theories (Westview Press, 2000).
  • Iain Hampsher-Monk, A History of Modern Political Thought (Blackwell, 1992).
  • John Morrow, History of Political Thought (Macmillan 1998).
  • Jonathan Wolff, An Introduction to Political Philosophy (Oxford University Press, 1996).
  • Robert Goodin & Philip Pettit, A Companion to Contemporary Political Philosophy (Blackwell, 1993).
  • Will Kymlicka, Contemporary Political Philosophy, 2nd ed. (Oxford University Press, 2002).

[1] للمزيد عن حياة لورينزيتي ، انظر

 Ambrogio Lorenzetti, Wikipedia, (29-Mar-2021) https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Ambrogio_Lorenzetti&oldid=1014959469

[2] اعيد انتاج جدارية لورينزيتي ومناقشة محتواها في :

Randolph Starn, Ambrogio Lorenzetti: The Palazzo Pubblico, Siena (Braziller, 1994).

للاطلاع على شرح موجز عن محتويات اللوحة الثلاثية الأجزاء ، انظر:

Paul Sorene: Lorenzetti’s Allegory of Good and Bad Government: A Revolutionary Painting For Then And Now, (16-Feb-2017) https://flashbak.com/lorenzettis-allegory-of-good-and-bad-government-a-revolutionary-painting-for-then-and-now-373579/

الموقع الالكتروني The Web Gallery of Art   يوفر صورا تفصيلية عن محتويات اللوحة (اطلعنا عليه في 10-يوليو-2021)

https://www.wga.hu/frames-e.html?/html/l/lorenzet/ambrogio/governme/index.html

[3] لبعض التفاصيل عن العهد الجمهوري في سيينا ، انظر:

 ‘Republic of Siena’, Wikipedia (4 June  2021)   https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Republic_of_Siena&oldid=1026836748

  [4] تحدث كارل ماركس عن هذه الفكرة في: كارل ماركس وفردريك انجلز: البيان الشيوعي ، ترجمة العفيف الأخضر وعصام امين، تحرير سلامة كيلة ،  روافد للنشر  ، وفي مقدمة كتابه “نقد الاقتصاد السياسي” ، ترجمة راشد البراوي ، دار النهضة العربية (القاهرة 1969) المقدمة. https://bit.ly/3B6CA2V

لبعض التفاصيل حول هذا المفهوم ، انظر موريس غودلييه: “البُنى التحتية، المجتمعات، التاريخ” ، ترجمة يزن الحاج ، بدايات ، العدد ١٦ – ٢٠١٧  https://bidayatmag.com/node/813

[5] تنسب الاطروحة الى فرانسيس فوكوياما ، وسطرها في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” ،  ترجمة فؤاد شاهين ، جميل قاسم ، ورضا الشايبي ، مركز الانماء القومي (بيروت 1993) ن. إ. https://www.alarabimag.com/read/20179.html وللاطلاع على مراجعة نقدية لهذه الاطروحة ، انظر سعيد بنسعيد العلوي: “التاريخ بين النهاية والبداية.. قراءة في كتاب فوكوياما “بداية التاريخ” ، مجلة يتفكرون ، ع 7 ، 2015 .  ويشير العنوان الى كتاب فوكوياما الثاني الذي صدر بهذا العنوان في 2013. https://bit.ly/3gKU2lc 

[6] حول ال ميديشي ، انظر “آل ميديشي” ، المعرفة (اطلعت عليه 20-يونيو-2021) https://bit.ly/3xxmBYY

[7]“There was once a man called  Rousseau who wrote a book containing nothing but ideas. The  second edition was bound in the skins of those who had laughed at the first”. Quoted in  Alasdair C. MacIntyre‏:  A Short History of Ethics,   2nd ed. London (Routledge 1998) p. 117

[8] وردت قصة الكهف في أفلاطون : الجمهورية ، ترجمة حنا خباز ،  الكتاب السابع (المثل) مؤسسة هنداوي ٢٠١٧ https://www.hindawi.org/books/30280728/7/

حول المضمون الفلسفي والرمزي لقصة الكهف ، انظر صياد فاطمة: “الوظيفة الرمزية للأسطورة في الوصول إلى الحقيقة (رمزية الكهف)” ، الاكاديمية للدراسات الاجتماعية و الإنسانية ، الجزائر ، العدد 5 (2011) صص 74-83 https://www.asjp.cerist.dz/en/article/73432

[9] جان جاك روسو: العقد الاجتماعي ، ترجمة عادل زعيتر ، الكتاب الثالث ، الفصل الرابع ، ن. إ. (م. هنداوى 2013) https://www.hindawi.org/books/68050471/3.4/