مجلة حكمة
كانط الإسلام تاريخ الإسلام في الفكر الألماني

كانط والإسلام والمحافظة على الحدود

الكاتبإيان ألموند
ترجمةهيفاء الصعب
مراجعةفاطمة الزهراء علي

كانط الإسلام

وكذلك يجب على من يبتدئ خطابًا اجتماعيًا البدء بما هو قريب وحاضر ( gegenwrtig )، ومن ثم التدرج نحو الأبعد ( auf das Entferntere )، وبهذا يمكن للخطاب أن يكون ذا فائدة. فحالة الطقس السيئة تشكل خيارًا ناجعًا ومعتادًا لشخص ينضّم لمحادثة عامة بين صُحْبَةٍ مُجْتَمِعَةٍ في الشارع. أما أن يبتدئ حديثه وهو داخل للمكان بمستجدات أخبار تركيا، والتي تم نشرها للتوِّ في الصحف، فهذا يضاعف ( tut Gewalt an ) قوى مخيلة أولئك الذين لا يفهمون كيف وصل المتحدث إلى الموضوع. يتطلب العقل في كل أنواع التواصل الفكري ترتيبًا معينًا (einegewisse Ordnung) ، بحيث يتوافق، كما هو الحال في الخطبة الوعظية، مع الخيال المُسْتَهَلِّ والبداية، وكذلك مع الأداء.

ـ من نص كانط في الأنثروبولوجيا ( 1798 )، ترجمه الكاتب من الألمانية إلى الإنكليزية

يتموضع هذا الذكر لتركيا، كالعديد من إشارات كانط للإسلام أو المشرق الإسلامي، في الحاشية. ويُشكِّل هذا النص تلميحة إلى لحظة في نص كانط في «الأنثربولوجيا» ـ كونه قد عرّف «قانون الترابط» على أنه سلسلة من الصور التجريبية المتعاقبة ـ حيث يتحدث فيها عن التجربة الشائعة المتعلِّقة بفقدان المرء تسلسل الفكرة في منتصفها. فيقول إن الشعور بتخطّي حلقتين أو ثلاث في سلسلة أفكارنا يتكون لدينا عندما نتوه. وحاشية كانط هنا توضيحية ووقائية: لا تُقحم مستمعك المحلي مُبَاشَرةً بما هو غير مألوف، بل تحدث معه بالقريب والمباشر. وبعبارة أخرى، إن المسألة ليست حول كيفية توجيه تفكير المرء بقدر ما هي حول كيفية تجنيبه تضليل مُحدِّثه.

بالرغم من أن هذا المقطع لا يثير نقطة مهمة، إلا أن إفساحه مجالاً لتركيا في الملاحظات يضفي عليه أهمية، ليس فقط لأنه يبيّن ما سيعرضه كانط عن الإسلام في هذا الفصل؛ وهو حاشية مهمة من الحواشي المكتوبة عن الإسلام في عصر التنوير، ومرحلة محورية في حصر العقلانيين الحديث عن المشرق الإسلامي في مَلاحق نادرة، وإحالات مرجعية شاذة، ومعلومات محشورة بين هلالين مريبين؛ ولا حتى بسبب العنف  Gewalt ) الذي يوقعه مثل هذا الذكر العفوي لتركيا على المُخيِّلة الخامِلة وغير المُهيَّأة لسكان كونيغسبرغ المحليين، بل إن مثال كانط العابر هذا يكشف أيضًا ـ بالإضافة إلى هامشية الإسلام ـ عن قلق مصاحب غير معترف به؛ فيبدو أن المشرق يُحيِّر عندما يخرج فجأةً من مكانه الطبيعي، عندما يتحرَّك بشكل مفاجئ من «البعيد»  das Entferntere ) ليغزو القريب الحاضر  gegenwrtig )، فالنتيجة لا يمكن إلا أن تكون حيرةً وتشويشًا. في هذا الانزعاج مما يسميه كانط «ترتيبًا معينًا» في التواصل الفكري يكمن خوف حقيقي من الإزاحة، وعدم ارتياح بشأن طبيعة الاتجاهات التي يمكن لكلمة مثل «تركيا» أن تأخذنا إليها. وتكتسب الأسئلة التي يرى كانط أن نطرحها على أنفسنا إذا ما فقدنا تسلسل حبل أفكارنا ـ أين كنتُ؟ من أين بدأتُ حديثي؟ وكيف وصلتُ إلى ما أنا فيه الآن؟ ـ أهميةً ميتافيزيقية عند النظر إليها في السياق الأوسع لغير الأوروبي ومكانته المتغيرة في مشروع كانط لتعيين الحدود.

أي دراسة للمشرق الإسلامي عند كانط ـ الملحوظات المتفرقة ذات الأهمية التي أدلى بها حول الموضوع، بل واللامبالاة التي أبداها نحوه والتي بدورها كانت أكثر أهمية ـ لا يمكن أن تتغاضى عن هوسه بالحد والحدود  Grenze ). هذا المجال المعروف من دراسات كانط ـ إذ ما الذي يمكن أن يكون أكثر وضوحًا من أسبقية الحدود عند كانط؛ تلك الحدود الدقيقة بين الإيمان والعقل، وبين التجريبي والمتعالي، وبين الحياة والمادة ، حتى بين الخير الأقصى (الأخلاق) والشر (المتنافر) الجذري؟ ـ يجابه تحريفًا غريبًا في ضوء علاقة كانط بالإسلام. «فالمحمدية»، كما سنرى، تُمثِّل لدى كانط ضَرْبَ التهديدات ذاتها لدى لوثر؛ أي الاحتمالية الكامنة في الترسيم الراديكالي للحدود، والتي من شأنها أن تقلب جميع أنواع الحدود الجنسية والسياسية والإقليمية، بالإضافة إلى الحدود الفلسفية البحتة.

عرَّف كانط مبكرًا في عام 1766؛ في كتابه «أحلام صاحب رؤى مفسرة في ضوء أحلام الميتافيزيقيا» الفهم البشري بأنه «أرض صغيرة بحدود كثيرة»؛ وبِذاكَ تُفهم الميتافيزيقيا على أنها «علم حدود العقل البشري». وعلى النقيض من الصوفيين أمثال سودنبورغ (*) الذي أراد الشروع «بشكل أعمى» بفتوحات أكثر توسعية، نجد كانط يعلن بأنه راضٍ بمجرد توضيح الحدود وتوضيح ـ ضمنيًا ـ غطرسة أولئك الذين حاولوا تخطيها . طبوغرافيا هذه الفكرة تتوالى في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه (نقد العقل الخالص) ، حتى وإن أصبحت «أرض» الفهم البشري هنا «إمبراطورية» الميتافيزيقيا:

كانت الميتافيزيقيا في وقت ما ملكة كل العلوم…في البداية، كانت حكومتها، بإدارة الدوغمائيين (التوكيديين)، استبدادًا مطلقًا. لكن مع استمرار السلطة التشريعية في إظهار مسحة من الحُكْم البربري القديم، انهارت إمبراطورية الميتافيزيقيا تدريجيًا، ومهَّدتْ الحروب الداخلية لعهد الفوضى؛ بينما هاجم الشكوكيون، كالقبائل البدوية، والذين لا يطيقون السكن الدائم ووضع المعيشة المستقر، من وقت لآخر أولئك الذين انتظموا في مجتمعات متحضرة. ولكن عددهم كان، لحسن الحظ، ضئيلاً؛ وبالتالي لم يتمكنوا من وضع حد بشكل كامل لمحاولات من استمر في رفع صروح جديدة، وإن لم تكن على تخطيط ثابت أو موحد .

مهما كان حال الإمبراطورية فهي الآن إلى اضمحلال. في تعريف القارئ على مشروعه من أجل «تحقيق نقدي جديد في المَلَكة العقلية…ونطاق وحدود هذا العلم»، يستشري شعور روماني حديث في المقطع؛ رغبةً في استعادة بعضٍ من مجد سالف لعاصمة العالم المندثرة التي يحكمها الآن الوَندال والقوط الغربيون ـ بلا أي توسعات طموحة، ولكن بتمكين تراجاني (**) أحدث لأراضيها، واعتراف أكثر قبولاً لحدودها. بهذا المعنى، فإن العبارة الشرقية الصريحة «القبائل البدوية» ربما تكون أكثر ارتباطًا بالقوط من العرب، حتى وإن كانت الفكرة الأساسية المراد تأكيدها هي إصرار كانط على الترادف بين الفلسفة والصرح، بين العقلانية والتوازن والبناء؛ التفكير denken والبناء bauen . على أي حال، حتى وإن كان العقل البشري حيِّزًا فإنه (فيما يتعلق بهذا النص) يبقى ظاهريًا ليس حيِّزًا أوروبيًا؛ أو بالأحرى فإن العناصر التي تهدد بقاءه ليست بالضرورة من أصل غير أوروبي. فيمكن للبرابرة الذين يعتدون على الهياكل التي شيدتها الميتافيزيقيا بدقة فائقة أن يكونوا جوَّالة بدوًا في غابة ألمانية تمامًًا كما لو كانوا في صحراء عربية. لكننا نجد بعد عقد من الزمان القبائل البدوية نفسها مرة أخرى في كتابه «في نبرة نبيلة عالية جديدة في الفلسفة» ( On A Newly Raised Noble Tone in Philosophy )، (1796م)، وهذه المرة يكون كانط أكثر دقة في أمثلته. في مقالة قائمة على التمييز بين الفيلسوف الحق (المجتهد العقلاني) والصوفي الحالم (المنتشي واللا منطقي)، يناقش كانط أشباه الفلاسفة الذي توصلوا لاستنتاجاتهم بلا أدنى مشقة، ولكنهم استمعوا وبكل بساطة إلى «الوحي بداخلهم» . وعلى خلاف التقدم «المتأني والمدروس» للفيلسوف الحق، تؤدّي مثل هذه الحماسة  Schwrmerei الكلمة التي سيربطها كانط بشكل أساسي بمحمد) إلى التأليه «قفزة من المفاهيم إلى المُحال». في بداية المقالة، يُقدِّم الكاتب لنا العرب كنموذج عِرقي ميّال بفطرته إلى مثل هذه الأوهام الزائفة والتافهة للتفوق:

يعتبر أولئك الذين لديهم وسائل العيش اللازمة ـ بسعة أو بعوز ـ أنفسهم نبلاء مقارنةً بمن عليهم العمل من أجل لقمة العيش. يحتضن العربي أو المغولي ازدراءً للمدني ويرى أنه أنبل منه، إذ إن تَطْواف المرء في الصحراء مع خيله وأغنامه أمتع من العمل .

قبل ثلاثين عامًا كان كانط قد صنَّف العربي على أنه «أنبل شخص في المشرق»، وإن كان يمتلك «مخيلة مشتعلة»، والتي «تُبدي له أشياء بصور غير طبيعية ومشوهة» . وبالنظر للسخرية التي صادق بها كانط على النبرة «النبيلة»  vornehm ) التي يستعلمها الفلاسفة الزائفون، يطرح النص وبشكل واضح معنى جديدًا وساخرًا لمصطلح «العربي النبيل». فالعربي، الذي يشعر بأنه أرستقراطي، والصوفي الدّجال، الذي اقتنع بأنه في «اتصال غيبيٍّ» مع الحقيقة المتعالية، كلاهما رازح تحت الوهم فيما يخص هويتهما الحقيقية. ويتشارك كلاهما مقتًا مشرقيًا للعمل البروتستاتي الشاق؛ فظهور كلمة العمل  Arbeit ) مرارًا وتكرارًا في النص، جعل العمل الشاق للمعرفة والعقل يتّحدان ضد السهولة المُبهَمة لإلهام الفلاسفة الزائفين.

اعتزاز العربي، مثل اعتزاز المتحمّس أو الصوفي، لا أساس له مبدئيًا؛ فالمتعصب الحالم يشعر بأنه اتَّصل بمنبع حقيقة سامية جدًا بحيث يتعذر فهمها على أي شخص آخر. على الرغم من انزعاج كانط الجليِّ من هذا الإحساس الزائف بالتفوق، فإن ما يربط أيضًا العربي بالصوفي الحديث، بصرف النظر عن النفور من العمل الجاد وتفاخر في غير محله بتفوقهم الوهمي، هو التهديد الذي يشكله هؤلاء على الفلسفة. هذه المقتطفات المُضمَرة لمزاعم لا يمكن تبريرها منطقيًا لفهم ما تنفيه عن الآخرين ـ والهيمنة الضمنية التي تأتي مع مثل هذه الادعاءات ـ أدّت بكانط لأن يرى هذه «الرؤى الحماسية»  schwrmerische Vision ) سببًا «لموت كل الفلسفة» . يكرر كانط العبارة مرتين؛ مرةً في منتصف الكلام وأخرى في نهايته، ليؤكد ما تتمحور عليه «نبرة نُبل متزايدة حديثًا»: محاولةٌ لإنقاذ «حياة» الفلسفة من المتصوفة والكهنة وذلك بترسيم الحدود الصحيحة بين ما يعتبر فسلفة وما لا يعتبر فلسفة من أجل الحفاظ على الفلسفة الحقيقية من «خطر»  Gefahr ) التعصب. يُجَلِّي ذكر العرب والمغول في سطور افتتاحية المقالة ـ جنبًا إلى جنب مع ذكر «أولئك الزُّهاد في الصحراء المقارية» (*) ـ مضمون النص: دعونا لا نفكر كالمشرقيين الذين يتقبَّلون بتوانٍ الأوهام المزاجية لمخيلتنا المطلقة على أنها حقائق قطعية. ويضفي خوف كانط من «جمع فلاسفة الاستبصار أتباعًا كُثرًا حولهم» (وهذا ما «لا يمكن للمراقبين في حقل العلوم احتماله») إطارًا محسوسًا نوعًا ما لما سيكون على صعيد آخر قلقًا فلسفيًا.

بمعنى آخر، بلاد الفلسفة التي يتمنى كانط الدفاع عنها، والأرض التي يطمح إلى رسم حدودها وتعيينها هي بلا غرابة أوروبية تمامًًا، ويجب أن تُصان سُلطتها العقلانية ـ جديتها في الواقع ـ من حبل أفكار البدو الرُّحَّل المتجوّلين الطائشين. وبالتالي يكون قلق كانط اللوثري بخصوص العربي ـ الذي «يكره المسكن الثابت ونمط العيش المستقر» والعاجز عن ملازمة مكان واحد ـ منطلقًا من أساس أنثروبولوجي ومجازي على حدٍ سواء. فحياة الفلسفة «الحقة» يجب أن توجد بالضرورة في البناء لا الترحال  bauen ، لا irren ).

يجد هذا الخطر البدوي على الحدود الصحيحة وهذا الهَمُّ الذي يحمله كانط لحماية توازن معين واستقرار من كيان متنقل لا أرض له (وهنا، كما سنرى، يلتقي المحمديون واليهود عند كانط في عدد من المسارات الواضحة) صلةً أكثر صراحةً بمحمد في عمله المبكر «مقالة في أمراض العقل» (1765م)، حيث يُعيد فيه كانط ربط لوثر للإسلام بالتمرد الأنابابتستي (*) . وبما أنه قد فحص كلاً من التوهم المرضي ونُسخًا أكثر إيجابية من «الحماسة» (الحب؛ ذلك الضرب من الحماسة الذي يُنتج «مشاعر أخلاقية حسنة»)، فإن كانط ينتقل لفحص «المتعصب»  Visionr, Schwrmer الحالم والمُتحمِّس):

هذا الرجل في الواقع مجنونٌ معه إلهام مزعوم غير قابل للانتشار ويدَّعي أنه على وفاق كبير مع القوى الإلهية. لا تعرف الطبيعة البشرية أعظم من خداع كهذا… عندما تكون الفاشية ( Ausbruch ) راهنة، ويكون للمخادع موهبة، وتكون الجماهير مستعدة لتحمُّل الغليان، فعندئذ حتى الدولة ستعاني من التشنجات من وقتٍ لآخر. الحماسة ( Schwrmerei ) تقود المتعصب إلى السطح، وقادت محمدًا إلى عرشه الأميري، وأوصلت جان فان ليدن (**) للمشنقة .

أولاً وأهم نقطة هنا، هي أن يُقلَّص الإسلام إلى ضرب من الخيال المحض كأحد «أمراض العقل العديدة». ففي هذا النص يُنظر إلى الإسلام على أنه بكل بساطة مرض نتيجةً لخيال مفرط، بينما ستضفي نصوص لاحقة مثل «الجغرافيا الطبيعية» و«الدين في حدود مجرد العقل» على الأقل اسميًا حالة توحيدية على الإسلام كدين. من بين الروايتين المتاحتين في عصر التنوير لتبرير رفض محمد، يختار كانط الجنون والتشويش على التلاعب والخداع. وفي هذا المعنى، القريب من «طاعون المحمدية» للايبنتز، يصبح الإسلام أيضًا مرضًا؛ سقمًا يمكن أن «يتفشى» متى ما وقع الفهم العقلاني للمرء فريسةً لأوهام المتحمّس  Schwrmerei ). وفوق هذا، يخلط استخدام مصطلح المتحمّس علم الحشرات  entomology ) بعلم الأمراض  pathology ). وكما يُشير فينفيس (*) ، كلمة التعصب أو التحمّس  Schwrmerei ) تأتي من الكلمة الألمانية لسرب النحل  Schwarm )، كما وُضحت في تعريف ليسينغ  Lessing ) للمتحمّس: «الرغبة في تكوين سرب هي بالتالي غاية المتحمّس» . ومرة أخرى، يهدد سرب الإسلام مملكة العقل التي حددها كانط بوضوح عند ترديده لعبارة لايبنتز «وكر المسلمين». فدومًا ما يُنذر الضجيج المقلق للشاذ والمتطرف؛ والذي يُقصد به الجيش المحمّدي على حدود أوروبا أو طوائف المتعصبين والسبينوزيين [نسبة إلى الفيلسوف الهولندي سبينوزا] في الداخل؛ بإطاحة حكم العقل بطنينه اللَّجُوج. هل اعتقد كانط بأن هذا السرب سيتلاشى يومًًا؟ يبدو هذا ممكنًا فقط بتقوية وتوضيح الحد  Grenzen ): «لا توجد وسيلة مضمونة لاقتلاع التعصب من جذوره أكثر من تحديد حدود المَلَكَة العقلية المحضة» .

ما يثير الاهتمام هو كيف تمَّ ربط الاختلال النفسي والاضطراب الاجتماعي بقوة معًا هنا؛ لا يزال مبكرًا جدًا بدء التقليد الغربي الشائع المتمثل في ربط ظهور محمد بروبسبير (**) وبالإرهاب، وعوضًا عن ذلك؛ يتبنى كانط خيارًا لوثريًا لقراءة الإسلام بوصفه قائمًا على مجموعة من الأنابابتستيين الشرق أوسطيين، وهو مجاز مدعوم بمفهوم التعدد (ثمَّة ادِّعاء أن النبي الثوري للأنابابتست جان فان ليدن لديه أكثر من مئتي زوجة) . يُشكِّل هذا القلق الرئيس المُتعلِّق بتجاوز الحدود ـ إضافة إلى النتيجة الفظيعة التي قد تُسقطها فئة على أخرى على نحو لا فكاك منه ـ السبب الجوهري خلف قلة حديث كانط عن الإسلام. يضاعف هذا القلق حقيقة أن سبب التجاوز ـ «الإلهام الذي يتعذَّر إيصاله ظاهريًا» ـ يقع استنادًا إلى سموه خارج نطاق الطعن، متحايلاً على النقاش العقلاني باللجوء باستمرار للمُحال، ومثيرًا الشعور «بالعجز» في العقلاني الغاضب، وهذا ما يعزوه كانط لاحقًا للمتعالي الديناميكي (الحيوي).

من المؤكد أن هناك مسألة الكبرياء، ليس فقط الكبرياء الذي يرغب كتاب «نقد ملكة الحكم» نعت المحمديين به، بل أيضًا كبرياء كانط نفسه ـ بوصفه مسيحيًا وعقلانيًا على حد سواء ـ إزاء إهانة الإسلام المزدوجة لنظرته العالمية؛ ضمنيًا بتجاوز نظريته في المعرفة وكتابيًا بالتزييف التاريخي لعقيدته. يقول كانط بأن «اليهود مثل المحمديين، في ازدراء ثوابت الديانات الأخرى، لاعتقادهم بأنهم يستحوذون على الإله على نحو فريد» . لا مناص من ملاحظة سخرية كانط في تركيزه على حظر الساميين للصورة في إشارته إلى اللاوصفية المترتبة على ذلك كوسيلة لتسهيل فوقيتهم. وكما سنرى، فإن آراء كانط حول المتعالي ـ وما يفرضه من القوة أو العنف على مخيلتنا ـ ستخبرنا أيضًا شيئًا ما بهذا الصدد.

يظهر انزعاج كانط وكبرياؤه المجروح بسبب «المحمديين» أيضًا ـ غيظه العقلاني من دعاويهم الغيبية  Supersensible ) للمعرفة ونقمه المسيحي من وحيهم المُتفرِّد ـ في النصوص الأنثروبولوجية كاستياء من سوء معاملتهم للمسيحيين. ويُنبهنا في نقاط عديدة متفرقة في كتاب «الجغرافيا الطبيعية» ( Physical Geography ) بالحالة الدونية «لغير المحمدي»؛ فالقليل يُعرف عن السعودية (*) بسبب الحظر الكامل «للأوروبيين غير المسلمين من الذهاب هناك لأنهم يُسمِّمُون الهواء المقدَّس حسب اعتقاد المحمديين» . وفي الجزء الذي كتبه حول مصر العثمانية، يتحدّث كانط عن كيف يُمنع المسيحيون من الترحال على الخيول، ويُسمح لهم فقط بالسفر على الحمير، «كما هو الحال في الأراضي التركية الأخرى» . وحتى في الأماكن النائية كجزر المالديف يتعالى السكان كثيرًا عن تناول الطعام مع أي شخص لا يماثلهم، وهذه نتيجة مباشرة للتأكيد على أن «الدين هو دين محمد» . يزيد التفوق العرقي الأوروبي لكانط (سنستحضر أن «الزنجي نفسه يُشكّل بلا شك أدنى طبقة من بين الطبقات كلها والتي من خلالها نُصنّف الأعراق المختلفة» من سخطه هنا ويذكّرنا مرة أخرى بالادِّعاءات النبيلة المغلوطة للإسلام. فكما أن العربي يشعر مخطئًا بأنه نبيل لأنه ليس مضطرًا للعمل ليعيش، يساعد الاعتزاز بالإسلام على نشوء إحساس خاطئ بالفوقية، بل والعجرفة أيضًا، عند هذه الشعوب الدونية. فإجبار المسيحي على السفر بالحمار ـ و«غير الأوروبي» بأن يبقى بعيدًا عن مكة ـ يثير غضب كانط ليس فقط لأن مثل هذه الممارسات ظالمة، بل أيضًا لأنها تنتهك تسلسلاً هرميًا طبيعيًا (مسيحي، أوروبي).

إن استياء كانط العقلاني من ادعاء الصوفي الحقيقةَ وسخطه من رفض الحالم احترام حدود الدين العقلاني يقودنا حتمًا إلى الحسي  the sensual )، وضمنيًا إلى الجنسي  the sexual ). فديانة يتجول أتباعها في الأرجاء، وينتهك زعماؤها بمنتهى السهولة حرمة حدود العقل، يُستبعَد منها أن تحترم حدود الأخلاق. ويبدو أن إشارات كانط بهذا الصدد تعكس قطعًا الترادف السائد المُسلَّم به في عصره بين المشرق والشهوة، ونتأكد في رسالته «ملاحظات حول الشعور بالجليل والجميل» ( Observations on the Beautiful and the Sublime ) بأن «المشرقي… ليس لديه مفهوم الجميل أخلاقيًا، والذي يمكن ربطه [بالدافع الأخلاقي]، وبأنه يفتقد حتى قيمة التمتع الحسي، ويُمثل حريمه  harem ) مصدرًا دائمًًا للفتنة»، مشددًا مرةً أخرى على الحركة الدائمة للمشرقي، والناتجة هذه المرة من الميل المفرط للحِسِّي .

إشهارًا لما سيحتفي به كثير من الرومانتيكيين لاحقًا، يُسقِط كانط شعورًا وحماسةً في قلب الدين الإسلامي، كما ورد في «الجغرافيا الطبيعية» ، كان محمد «عاطفيًا وبليغًا ووسيمًا»  liebreich, beredt, schn ) . ويتعاطى الفُرس، من ناحية أخرى، الأفيون ومسحوق ومشروب بذور الخشخاش جهارًا». بدا في عدد من المواضع أن كانط يؤمن بأن الأفيون كان مهمًا ومسموحًا به في الدين الإسلامي؛ فقد كتب في عام 1797 أن «المحمدية التي تُحرّم الخمر، اختارت على نحو بالغ الخزي أن تُبيح الأفيون» . وبعد مرور عام من ذلك، نجد أيضًا في «الأنثروبولوجيا» الإيحاء ـ كما عند لايبنتز ـ بأن شجاعة الأتراك آتية من الجنون الناجم عن تعاطي الأفيون . ونحن ننتقل من استنكار مسيحي إلى استنكار عقلاني على تكريس المحمدية العبودية للحسي ـ المغضوب عليه الآن لأنه لا يهدد فقط الروح، بل ويشوه ويشتت العقل ـ نواجه خلاصة تلميحات كانط المهينة للمشرقي المسلم الشهواني: قلق من أجل الحد، وحرمة الحدود التي ينتهكها الأفيون والشغف والهذيان بيُسر شديد.

ويحرص كانط في نهاية كتابه «نقد العقل العملي» ( Critique of Practical Reason ) على تشديد أولوية العقل العملي  das Primat ) المحض على نظيره التأملي  speculative reason )، آملاً في احتمالية «أن يزيل العقل العملي الحدود التي فرضها [العقل التـأملي] على نفسه وأن يتخلّى عن كل هراء أو أوهام المخيلة» . ويُؤكد لنا، بعد إشهار هذا الخطر، أن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث عندما تكون العلاقة بين العقل التأملّي المحض والعقل العملي المحض مفهومة بشكل صحيح:

في الحقيقة، طالما تم التعامل مع العقل الخالص على أنه معتمد على ظروف مرضية، أي أنه مجرد ضابط للشهوات تحت المبدأ المتزن للسعادة، فلا يمكننا أن نطلب من العقل التأملّي أن يستقي مبادئه من مثل هذا المصدر. ستُقحم فردوس محمد، أو الاتحاد المطلق ( die schmelzende Vereinigung ) مع الإله عند الثيوصوفية والباطنية، أساطيرَهم ( Ungeheuer ) في العقل حسب ذائِقَة كل منهما، وقد لا يكون للمرء عقل حيث يسلّمه بهذه الطريقة لكل أنواع الأحلام.

كانط على الأصح يتحايل بتحفّظ على فهمه للفردوس المحمدي  Mahomets Paradies )، على الرغم من أنه تحدث بما يكفي عن الحريم والشهوانيين الشرقيين في مواضع أخرى ليعطينا فكرة عامة ؛ فكرة الغرب التقليدية العامة عن الجنّة كما ذُكرت في القرآن بوصفها مقرًا للمتعة الجنسية اللانهائية حيث يتقاسم فيها المؤمنون الصالحون بشكل شرعي الملذات الأبدية التي تقدمها لهم حورياتهم. من المثير، وغير المتسق بأي حال، أن يُطرح الجنس الفردوسي إلى جانب الفناء الذاتي الصوفي كأمثلة «للأساطير» التي يفرضها التأمل المطلق (المحكوم بالذائقة) على العقل. الوصف الذي يطرحه كانط لمثل هذا الفناء الصوفي («الاتحاد المطلق») هو بالفعل مشحون جنسيًا، فستبدو «جنة محمد» ـ بغرسها التجديفي للجنسي في العالم الروحاني، وخلطها المفضوح للمقدّس والمدّنس، وتجاوزها المُستهجن للحد بين ملذات هذه الدنيا وملذات الآخرة ـ لكانط «شاذة» بشكل يتساوى مع الصعود الصوفي للذات. إن حلول جسدين في جسد لا يقل ولا يزيد «وحشية» عن إدماج فرد تابِع في اتحاد متعالٍ ما. بعيدًا عن فهم كلمة «وحشية»  Ungeheuer ) بغبطة فرويدية مفرطة، فإنها كلمة تظهر عند كانط متى ما هُدِّدت المساحة العقلانية النفيسة لذاتيته، هذا التهديد غالبًا ما يكون ـ وليس دائمًًا على الإطلاق ـ مشرقيًا؛ فعلى سبيل المثال، «النظام الوحشي للاو كيون (*) حيث «يُبتلع الفرد في هاوية الأُلوهِيَّة» (**) ، ولكن هناك أيضًا «الوحش الفاشل في جمهورية كرومويل الاستبدادية» .

متى ما كانت المنطقة الطبيعية للعقل (لنرجع إلى فكرتنا الطوبوغرافية) «مُتنازلاً عنها» لنزوات الهوى واللاعقلانية، «فالوحشي» ° monstrous » حتمًا سيعمل على إظهار نفسه. يجد قلق كانط المكبوت بخصوص فقدان الوصاية ـ الاختطاف المحتمل للفرد العقلاني ـ تعبيره الأكثر دراماتيكية في هذه الكلمة (الوحشيين ـ Ungeheuer )، والتي تُحدِث من وقت لآخر ثغرات في كتابات كانط المُتَّسِمة في نواح أخرى بالهدوء والرقابة والوضوح التام.

الإسلام، بالتالي، مثال على دين فاشل عقلانيًا. سمح فهم كانط للدين على أنه قائم على الأخلاق ومفضٍ إليها؛ وهو ما يسميه كاسيرر في قراءته الروسوية [نسبة إلى جان جاك روسو] لكانط: «علم اللاهوت الأخلاقي» («لو أن [آية في كتاب مقدّس] تتناقض بشكل قاطع مع الأخلاق، فلا يمكنها أن تكون من الإله» ؛ بإطار مرجعي واحد فقط لتناول الإسلام: الإطار الحالم المفرط في الحماسة، والذي يفيض إفراطه التخيّلي بشكل أساسي على الضوابط العقلانية (الأخلاقية) التي لا بد أن توجد داخل كل دين قويم. ويوضح كانط في (الدين في حدود مجرد العقل) أحد مشاريعه التي ستبيِّن كيف «يمكن للعقل أن يوجد ليس فقط متوافقًا مع الكتاب المقدس، ولكن أيضًا على وفاق تام معه» . ويفشل فردوس محمد بشكل جلي في هذا الاختبار الحاسم للتوافقية العقلانية/الأخلاقية، مما يحرمه من حمل مسمى «دين عقلاني خالص». لو كان الإسلام يعني شيئًا لكانط، لأصبح انتصار الوحي على العقل، والعصمة على المساءلة، وعلم النفس على علم اللاهوت، والخيال على الأخلاق؛ ففي ميدان معركة الإسلام حسب رؤية كانط له، كان لا بد للعقل من تقديم تنازلات «لوحوش» أوهام محمد. تمامًًا كما أن الحماسة  Schwrmerei ) هي موت الفلسفة بأكملها، فالدين غير العقلاني وغير المنضبط، والذي لا يقوم على أساس متين هو موت للدين (الحق) كله.

في هذا العرض لعقيدة الأفيون المليئة بالأوهام واللاعقلانية والتي يسيطر عليها الحس، يقع كانط بالمعضلة نفسها التي وقع بها لوثر: تحديدًا، معضلة صراع القوالب النمطية  stereotypes ) بين «الفجور المحمدي» و«التعصب المحمدي». مثلما لم يُوفِّق لوثر أبدًا بين «حياة الأتراك الماجنة» و«الزنا» القرآني من جهة، وزهدهم وشجاعتهم التعصّبية وخدمتهم للدين من جهة أخرى ، فإن تأكيد كانط على الإيمان الحسّي مقوَّض في مواضع أخرى بنظرة مختلفة جدًا عن الإسلام؛ تلك النظرة المرتبطة بالتّزمت الشديد و«الممارسات التعبدية… العنيفة» أكثر من ارتباطها بالحريم والأفيون وقصص الفردوس الجنسي. بل ونجد الفُرس مصطفين ضد إخوانهم السنة باعتبارهم «مسلمين غير متزمتين بهذا الشكل» بسبب «تفسيرهم السلس المعتدل للقرآن» . وأقوى حجة ضد أي نسخة تلذذية محبة للمتعة من الدين الإسلامي ستكون بالطبع أركان الإسلام الخمسة؛ وهي الفروض التي يجب على كل مسلم أداؤها. كان كانط على علم بها، ونجده يبحث في كتابه (الدين داخل الحدود) عن طريقة للتقريب بين الإسلام الجنسي وذلك النوع من الدين الذي يفرض مثل هذه المجموعة من الشعائر التقشفيَّة في ظاهرها على أتباعه:

وحتى حين تكون القناعة بالفعل قد ترسَّخت بأن كل أمر من هذه الأمور قائم على حسن الخُلق… لا يزال الإنسان الحسي يبحث عن مسلك للهروب يتحايل به على ذلك الشرط الشاق: بالتحديد، اعتقاده لو أنه انتبه فقط إلى التقاليد (التصرفات الشكلية)، فلا شك أن الله سيقبل العمل بذاته… وبالتالي فإن في كل نوع من الأديان العامة، يبتدع الإنسان ممارسات معينة لنفسه، كوسائل للفضيلة، حتى وإن كانت مثل هذه الممارسات غير مترابطة في كل الأديان، ففي المسيحية مثلاً، تكمن في المفاهيم العملية والسلوكيات المصاحبة لها. (على سبيل المثال، من بين الأركان الأساسية الخمسة للدين المحمدي ـ الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج ـ يجوز أن تسقط الزكاة عن المُكلَّف لو أنها صدرت عن نية خالصة وانصياع للتكليف الرباني في الوقت ذاته، وبالتالي هي أهل لأن تكون طريقًا من طرق الإحسان؛ ولكن في الحقيقة، طالما أن بإمكان الزكاة في هذا الدين أن يلحقها ابتزاز الآخرين بالأشياء التي تُقدّم لله في شكل مساعدات للإنسان الفقير، فإنها بالتالي لا تستحقُّ أن تصير استثناءً) .

يوضح الميل الحتمي عند المؤمن الشكلي لما هو حسي والذي يحصره للأبد في ظاهر الصورة/التطبيق العملي، رابطًا إياه بخنوع بشكليات «الاعتياد»، كيف أن الدين الإسلامي قد يكون في الوقت نفسه غير روحاني وعقيدة جسدية ومُعْتَقَدًا متزمتًا جامدًا. التعصب الإسلامي، بعيدًا عن كونه أخرويًا، هو نتيجة لحسيته وعدم تجاوزه لما وراء الظاهر؛ وبالنسبة لكانط، فإن تقوى المسلم وشدته تكمنان في تعبدّه الشكلي، وفقدانه للعمق؛ وبتعبير بنيوي، في عجزه عن إدراك المدلول على الجانب الآخر من الدَّال. إن المحمدي وفقًا لكانط يؤدّي صلاته، ويحج ويواظب على صيامه في انكباب تام على مظهره الخارجي، دون أن يكون قادرًا بتاتًا على التحرك خارج الممارسة. وبمثل هذه الطريقة، يفصل كانط تدريجيًا الإسلام عن أي محتوى أخلاقي (على النقيض من المسيحية التي تتصل ممارساتها مباشرةً بالمفاهيم العملية و«حسن الخُلق») حتى نصل إلى الزكاة، وهي المقابل الإسلامي للعُشْر (*) . هنا يواجه كانط تماثلا إشكاليا يُنتِج ذات التقارب  fast ) الذي وجده لوثر أثناء تناوله إيمان «المحمديين» بالقضاء والقدر وتحطيمهم للأيقونات الدينية: ينجو الإسلام هنا بشكل مؤقت من التسمية البابوية  Pfaffentum ) الجزئية «الإيمان الوثني» الكامن في هذا الالتزام الروحي الذي يؤدي أيضًا إلى الالتزام الأخلاقي.

يكاد يكون الإسلام هنا مسيحيًا، لولا سيادة الإكراه داخل دين الإسلام، الأمر الذي يُجرِّده من هذه الاحتمالية «الفاضلة والدينية في ذات الوقت» ويحول دون النزوع نحو أي قيمة. من أجل جعل الإسلام متباينًا عن المسيحية وخارج «الخدمة (الأخلاقية) الصحيحة لله» ، يُلمح كانط إلى ـ ولو أنه لا يوثّق ولا يتوسّع ـ الإكراه المُلاحَظ على التَّصدُّق في المجتمعات الإسلامية. في منتصف تحليل مختلف متعالٍ، يستعين كانط بالتجريبي ليبرر وجهة نظره. تمامًا كما كان لوثر مجبرًا على اللجوء للفكرة النمطية عن الأتراك المتعصبين ليشرح سبب اختلاف الجبرية الإسلامية عن عقيدته الخاصة، اضطر كانط إلى أن يؤسس تمييزه بين زكاة المسيحي وزكاة المسلم، اللتين تبدوان متشابهتين جدًا للوهلة الأولى، بالرجوع للأنثروبولوجي. وهذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يوظف فيها كانط أوصافًا خارجية تمامًًا للمحمدي، وعلى وجه الخصوص العرق العربي ـ تفاخرهم وطبيعتهم الجوّالة و«مخيلتهم الوقَّادة»  erhitzte Einbildungskraft ) ـ ليبرر تصوره للإسلام.

الإسلام كتهديد للمتعالي

عندما ننظر إلى الطبيعة ببصيرة جمالية على أنها قوة لا تملك هيمنة علينا، فالطبيعة إذن متعالية ديناميكية. وحين نحكم على الطبيعة بأنها ديناميكية ومتعالية، يجب أن نقدمها على أنها خوف متأجج.. وكل ما نسعى لمقاومته فهو شر، وهو موضوع للخوف لو وجدنا أن مقدرتنا [على مقاومته] لا تضاهيه.

من كتاب (نقد مَلَكة الحكم)

إن قلق كانط الغربي بشأن حرمة الحد ـ رغبته في أن يبقى محميًا من انتهاكات أسراب المشرق ـ يمتد إلى مفهومه للمتعالي، حيث اكتسبت شروحاته للمتعالي والنصين الأساسيين اللذين يتناولانه ـ وهما (ملاحظات حول الشعور بالجميل والجليل) (1764)، والفصول الوسطى من كتاب (نقد ملكة الحكم) الذي كُتب بعد الأول بخمسة وعشرين عامًا ـ مكانتها الخاصة كأسلوب أدبي بذاته. من المفهوم بشكل عام أن معالجة كانط للمتعالي ملتبسة بدرجات متفاوتة؛ فمن محاولة فهم كتاب (الملاحظات) على أنه خطوة مبكرة «للدعوة» لأفكار روسو بشأن حقوق الإنسان إلى الكم الوافر من التفاسير التي كُتبت عن الفصل الثالث من (نقد ملكة الحكم) : «تحليل الجليل»؛ كلحظة ألتيري (*) من خداع الذات الرغائبي المهيمن ، وتعريف دي مان (**) الغودلي  Gdelesque ) (***) للمتعالي الرياضي على أنه «امتداد للنموذج اللغوي لما وراء نظامه المجازي» ، وكتاب نيل هرتز (****) «دراما الانهيار والتعويض» (أو ما يسميه يو ليو (*****) «آلية الأزمة والتعافي» لكتاب كانط) . وعلى كل حال، ما يُفتَقَد في هذه الاستجابات للمتعالي الكانطي ـ وخاصةً بين الأعمال التجديدية المتنوعة لهذه العشرين صفحة المهمة من كتاب النقد كنسخة مبكرة نصف واعية للعبة فرويد Fort-Da (*) هو الموقع الجيوثقافي لبادرة كانط: انتصار مُتَخيَّل للعقل الأوروبي على الطغيان المشرقي.

بالتأكيد، فإن كانط يُقدّم إشاراته للمتعالي وللشرق الإسلامي معًا بشكل متقارب إلى حد بعيد؛ غالبًا لدرجة التطابق. ويُمثّل كتابه (ملاحظات حول الشعور بالجميل والجليل) أكثر نص تحدّث عن المشرق بعد كتاب (الجغرافيا الطبيعية) ، وذلك بتلميحاته الكثيرة للشرق الأوسط؛ في حديثه عن الأهرامات المصرية، وصحاري التتار الشاسعة، ووفاة نادر شاه، والحلم الغامض لكرارزان، وتاجر بغداد، والإشارات التي لا مندوحة عنها للحريم، فضلاً عن استئناسه بالأوصاف الأنثروبولوجية للأعراق الميّالة للمتعالي (الألمان والإسبان والعرب) وتلك الميّالة للجميل (الإيطاليين والفرنسييين والفُرس). لاحقًا في نقده الثالث، وبصرف النظر عن إشارة أخرى للأهرامات و«الشهوانيين المشرقيين» ، يصبح كل من الإسلام واليهودية مرتبطين بشكل واضح بفكرة المتعالي، كما سنرى، بناءً على التحريم اليهودي الإسلامي للصورة. ومهما يكن ما نستخلصه من هذه الأمثلة، فالمشرق يظهر بلا شك على أنه مكان متعالٍ؛ وفي الحقيقة، مكان يملك سكانه وثقافاته قابلية أكبر (أحيانًا تُعتبر ضعفًا) «للإثارة المندفعة» للمتعالي.

بالطبع، سيكون من المبالغة الزعم بأن الأقسام الوسطى من كتاب النقد الثالث لكانط قد «كُتبت عن» الإسلام. يُقدم فصل «تحليل الجليل» ممارساته الغريبة على صعيد عدد من المستويات؛ ليس أقلها محاولته لتأكيد استقلالية الفكرة الكانطية مقابل ما لا يمكن تمثيله. ولكن ما ليس مبالغًا فيه هنا هو الانتباه لوجود قلق معين (ومألوف الآن) في هذه الصفحات؛ وذلك يتجلّى في ما تطرحه عن «العنف»  Gewalt ) الذي يمارسه المتعالي على مخيلتنا، والطريقة التي يحط بها منا ويفرض علينا «الاعتراف بعجزنا المادي»، ومشاعر النقص  Unangemessenheit ) أمام المتعالي التي تؤدي في النهاية إلى مقاومة في الجوهر العقلاني، وفي بعض الأحيان يُظهِر الوضع الثقافي للأوروبي «المتحضر بشكل تام» مقابل «الهمجي»  dem Wilden )… ومن خلال كل هذه الاستعارات، يبرز توجه مضمر نحو إعادة التوكيد والتبرير للذات، بالإضافة إلى دفاع يأخذ مجراه تجاه خلفية غربية ماكرة. في فصل «تحليل الجليل»، تتكرر الأصداء الطوبوغرافية لقلق كانط بشأن الحدود وحمايتها ـ رغبته في إبقاء الوحشي خارج حدود العقل ـ على صورة اهتمام بكرامة العقل في مواجهة ما يهدده من أجل التغلب عليه تمامًًا.

وتمثل إشارة كانط للمتعالي  Das Erhabene ) في منتصف كتابه النقدي الثالث بأساليب متعددة محاولته للتعامل مع ذلك الذي يقع خارج إطار معرفته («لا يُسمَّى بالمتعالي شيء يمكن أن يكون موضوعًا للحواس»). تظهر مواجهة ثلاثية طريفة في الصفحات التالية بين المخيلة والشعور بالمتعالي ـ بالنسبة للمتعالي، يجب أن نتذكر بأنه ليس مكانًا أو اسمًا، بل هو فوق كل أحكام الحواس ـ وبين العقل والمخيلة. يُبيّن هذا التوتر النبرة المتشككة التي تكتسح الأقسام من 23 حتى 29، والإحساس الخانق المستمر بالصراع الذي يروي به كانط النزاع بين العقل والمخيلة، وبين المخيلة والمتعالي. هو ذلك التوتر الذي يتولد من شعور معين بالألم؛ وارتباك من جانب كانط بشأن أنواع المضامين التي يثيرها حضور المتعالي في ما يتعلق بالموضوع العقلاني. فيقول لنا بأنه إذا كان الجمال يجلب «تأملاً مريحًا» للعقل، فإن الشعور بالمتعالي يوقض «تشوشًا ذهنيًا» وفقدانًا للسيطرة تصدح نغمته الصاخبة في البداية مثل «شعور بتوقف لحظي للقوى الحيوية». تبدأ لحظة المتعالي ـ بعبارة أخرى ـ مع لحظة التوقف والفحص والحجب هذه؛ تلك اللحظة التي يتوقف فيها المشروع العقلاني للإدراك والفهم في مساراته المعرفية بفعل شيء عصي تمامًًا على التمثيل (شيء «لا يتساوى مع قدرتنا على الإيضاح»). يظهر في القسم السابع والعشرين تعبير كانط الأكثر إثارة عن خسارة السيطرة هذه والشعور بالضعف وقلة الحيلة التي يُحْدِثُها المتعالي في الموضوع:

يمكن مقارنة هذه البلبلة (ولا سيما في نشأتها) بالذبذبات، أي بتبدّل سريع من الاشمئزاز من شيء إلى الانجذاب له بالذات. لو أن شيئًا ما أعلى من المخيلة…فإن هذا الشيء ـ إن صحَّ التعبير ـ هو هاوية تخشى المخيلة أن تفقد نفسها فيها.

في رغبته في تسييج الفضاء الفلسفي عن العربي الهائم وإبقاء الفردوس الوحشي المحمّدي بعيدًا عن الدين العقلاني، بل وحتى رغبةً منه بإبقاء ذكر دولة مثل تركيا خارج حيز المحادثات اليومية، يُبدي كانط هذه البلبلة على وجه التحديد كلما لاح المشرق في الأفق القريب. يتطلب هذا الحرص على ألا يفقد المرء نفسه في هاوية المشرق ـ أي ألا يُشتت انتباهه أو ألا يقطع حبل أفكاره بحيث يجب عليه أن يسأل «أين كنت؟ وكيف وصلت حيثما أنا الآن؟» ـ تحديد المسافة المناسبة للدنو منه، وبهذا يمكن للمشاهد الأوروبي أن يمثِّل غير الأوروبي بدقة كافية دون الاقتراب كثيرًا منه. يوضح المثال الاستعماري الذي ذكره كانط (وهو مأخوذ من الجنرال الفرنسي الذي خدم لاحقًا بحملة نابليون في مصر عام 1798) نموذج القرن التاسع عشر للمشرق، تلك الصورة التي تجمع بين التنفير والجذب وبين الخطر والإبهار:

هذا يشرح تعليقًا صادرًا من سافاري (*) في تقريره عن مصر: بأنه يجب على المرء من أجل الحصول على التأثير العاطفي الكامل لحجم الأهرامات ألا يقترب كثيرًا منها ولا يبتعد عنها كثيرًا. إذ إنه لو بقي المرء بعيدًا جدًا عنها، فإن الأجزاء المحتبسة منها (الأحجار التي تتراكم فوق بعضها) تبدو غير واضحة، وبالتالي يفقد مظهرها أثره على الحكم الجمالي للموضوع؛ ولو اقترب المرء كثيرًا منها، فإن العين بحاجة لبعض الوقت لتكمل إدراكها للمَعْلَم من القاعدة وحتى القمة، ولكن أثناء ذلك الوقت تُمحى بكل تأكيد بعض الأجزاء السابقة في المخيلة قبل استيعاب الأجزاء اللاحقة، وبالتالي فالاستيعاب لا يكتمل أبدًا. ولعل المشاهدة عينها يمكن أن تفسّر الذهول أو ذلك النوع من الحيرة الذي يُقال بأنه يستوقف المتأمل الذي يدخل للمرة الأولى كاتدرائية القديس بطرس ( St Peter’s Basilica ) في روما. بسبب أن لديه إحساسًا بأن مخيلته غير مؤهلة لعرض الفكرة ككل، [شعور] يبلغ فيه الخيال أقصى ذروته، وبينما يسعى جاهدًا لتوسيع نطاق الذروة، يغرق مجددًا في ذاته، ولكنه تبعًا لهذا يشعر بإعجاب [يرتقي ليكون] عاطفة.

يمكن لهذا المقطع، بقراءة مجازية، أن يكون تقريبًا درسًا في الإمبراطورية الفاضلة («ليست قريبة جدًا، ولا بعيدة جدًا»)؛ ضخامة التهديد الذي تمثله الأهرامات يجب بطريقة ما أن يتم احتواؤه بل ومعالجته تجريبيًا بشكل كافٍ من أجل استيعابه. يمنع البعد الاستعماري المثالي الذي يُوصي به الجنرال سافاري ـ ويسطِّره كانط ـ الأهرامات من الانزلاق بشكل مدمّر في اللاشكلية، بحيث يُبقي المشاهد القمة والقاع دائمًًا قيد النظر. واعتبارًا لشعوره بالكبرياء المجروح في موضع ما في تفسيرات التفوق الشرقي على الغرب، فإن كانط حذر جدًا من أن يتعجّل بالاعتراف بشعور «النقص» الذي يُحدثه الهرم المصري للشخص الأوروبي. تعمل كلمة «لعل» في منتصف القطعة كنوع من المنطقة الأيديولوجية العازلة بين السامي الأفريقي والسامي الأوروبي، مدخلةً هرمًا مسيحيًا بين الكلمتين «مصر» و«غير مؤهلة»، مما يقودنا إلى تواضع أكثر قبولاً بالنسبة للمخيلة الأوروبية. يعطي هذا الشعور بالنقص النابع من الكنيسة الكاثولوكية في مواجهة الهرم المصري انطباعًا بأنه انكماش روحاني للغطرسة، بدلاً من كونه تذكيرًا إشكاليًا بالإمبراطوريات الشرقية التي هي أعرق وأوسع وأعظم من مثيلاتها الأوروربية الحالية.

ينبثق الانتشار للكلمتين الأساسيتين في «تحليل الجليل»، وهما العنف  Gewalt ) والنقص  Unangemessenheit )، تحديدًا من هذه اللاشكلية للمتعالي؛ في حالة سافاري المتمثلة في الإحباط من عدم القدرة على رؤية الصورة الكاملة. هذا ليس تمامًًا ذات العنف الذي يجلبه ذكر تركيا لمخيلة المستمع لمحادثة لم يتهيأ لموضوعها، والذي تعاني مخيلته  Einbildungskraft ) من عنف كمِّي أكثر من كونه نوعيًا؛ وبعبارة أخرى، ليس منشأ التحدي هنا هو اللامعقول، بل اللاعتيادي فحسب. فعدم قابلية المتعالي للتمثيل هنا هو كذلك «لأنه عنيف على مخيلتنا»؛ إذ ينشأ شعورنا بالنقص من الاعتراف المفاجئ الإجباري بعجزنا  Ohnmacht ). من الممكن في هذا العزو للاشكلية المتعالي (ويجب ألا ننسى أن كلًّا من الله ويهوه يتشاركان لاشكلية هرم الجنرال سافري المضلل) أن نلمح خوفًا مبكرًا من العبث؛ أو إن كانت كلمة «عبث»  absurd ) مصطلحًا أحدث من أن يظهر في نص من عام 1790، فهو بكل تأكيد خوف من غياب الوضوح أو الهدف في حدث ما. يقول كانط في الفقرة التي تلت مثال الأهرامات مباشرة: «الموضوع وحشي  Ungeheuer ) عندما يُلغي بحجمه الغرضَ الذي يشكّل مفهومه». فالأهمية الأساسية لهذه العلاقة بين الغرض  Zweck ) والوجود  Sein ) تصب في صُلب قلق كانط العميق المتعلق بذلك الشيء الذي لا يوجد ـ كما يبدو ـ سبب لوجوده. العنف الذي يُلحقه المتعالي الممتنع عن الوصف بنا والهاوية التي يُجلِّيها لنا مهولة ليس فقط لأنها تهدد بطمرنا (وبالتالي محو هويتنا)، ولكن أيضًا لأنها لا تزودنا بعلامة تُمكِّنُنا من الفهم والتفسير المعاكس.

ما يقدمه كانط من وصف اختزالي غير مقنع للمتعالي في مقدمة «تحليل الجليل» ـ كملحق بسيط ـ يمثل بتناقض ساخر التهديدَ الساحق الذي يهدد به المتعالي سيادتنا العقلانية. تبيَّن للنقاد أمثال ويسكل (*) أن الفكرة الجوهرية من المتعالي الكانطي غائية، وهي «تبجيل [منظَّم] للعقل» ؛ أو كما يصوغها يو ليو: «رؤية حالمة للانتصار الساحق للعقل على حساب المخيلة» . فحينما نقرأ في «تحليل الجليل» كيف أن «عجز الموضوع يكشف في ذاته وعيًا بقدرته غير المحدودة»، ومن الصعب ألا نرى كانط يحوّل الهزيمة إلى نصر، والتَّنَاهِي إلى تأمل ذاتي، والنقص إلى معرفة بالذات. لقد شاهدنا في موضع آخر كيف أن كانط رأى أن المحمّدية تتميّز بكبريائها ـ على حدّ تعبيره ـ لأنها تجد تمكينًا لدينها في الانتصارات وفي «إخضاع شعوب كثيرة» . يشكّل الانتصار الزائف الإمبريالي للإسلام ـ وخاصة عندما يتحقق على حساب الجيوش والشعوب المسيحية ـ مصدرًا دائمًًا للغضب عند كانط. فاستياؤه من المشرق الإسلامي على مستويات مختلفة ـ على سبيل المثال سخطه من معاملة العثمانيين لرعاياهم، والغطرسة التي يبديها الإسلام نحو معتنقي الأديان الأخرى، والكبرياء الملحوظ في خصوصية الوحي، ودرايته بتوسع ونجاح «المغامرة المحمدية» وأوهامها، وحنقه المُعَقْلَن من تعصب زعيمها (محمد)، فضلاً عن شكوكه المتجذِّرة حيال حجم وتاريخ وعظمة شرقٍ لم يتمكن سوى من القراءة عنه ـ يمثّل خلفية واسعة وإن لم تكن شاملة على أي حال مقابل ما يمكن قراءته لإعادة التمثيل المتوهمة لسيادة العقل  Vernunft ) على المخيلة. من ناحية واحدة على الأقل، يتصاعد قلق كانط حول الإسلام ليصل إلى أشكال متعددة من القلق على المتعالي. وفي تحييد لهذا التهديد الذي يفرضه المتعالي على الموضوع الكانطي، بل واستثمارًا له، يحاول كانط كذلك أن يحيط بسلسلة من مصادر أوسع وأشدَّ خفاءً للخطر.

تظهر الإشارة الخاصة الوحيدة للإسلام في قسم «تحليل الجليل» في الصفحة قبل الأخيرة في هيئة تعليقات متكررة موّثقة بالشواهد على تسامي المنع  Bilderverbot ) اليهودي (والإسلامي) للصور. أشار كانط إلى كيف أن «الانفعالات المتهورة للعقل» يمكن لها أن تُعتبر أثرًا للمتعالي فقط إذا ما أودعت في الموضوع اِتِّساقًا ذهنيًا مع مبادئ العقلاني الخالص («مافوق الحسي»). المتعالي الحقيقي «يشير دائمًًا إلى طريقة تفكير  Denkungsart ] في الموضوع» ؛ وتصل انفعالات المتعالي للعمق الذهني والأخلاقي والفكري للموضوع ولا تقف عند الحسي المجرد. على خلاف ذلك، مثل هذه الانفعالات لن تُنتِج شيئًا أكثر من «المتعة» التي «يجدها الشهوانيون الشرقيون مغرية جدًا عندما تعجن أجسادهم بالكامل، إن جاز التعبير، وتُعصر وتُقوّس كل عضلاتهم ومفاصلهم برقّة». بعبارة أخرى، توجد نسخة جيدة وأخرى سيئة من المتعالي؛ نسخة حسية ونسخة روحانية، استجابات شرقية (بليدة ومتساهلة) للمتعالي  das Erhabene ) وأخرى غربية (نشيطة ونيّرة). في نواح كثيرة، كان على كانط أن يقدِّم ويعزِّز هذا التفريق لأن ثمة تشابهًا إشكاليًا آخر على وشك الظهور بين طريقة تفكيره  Denkungsart ) وما سماه في موضع آخر بـ«طريقة التفكير الشرقية المختلفة كليًا»  die ganze andere Denkungsart des Morgens ) ؛ حيث تتشابه الديانات البروتستانية واليهودية والإسلامية في النفور وغياب الثقة في الرمز:

لعل النص الأكثر تساميًا في الشريعة اليهودية هو: لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ… الخ. يمكن لهذا الأمر وحده أن يشرح الحماسة التي يشعر بها اليهود في حقبتهم المتحضّرة نحو ديانتهم عندما قارنوا أنفسهم بغيرهم، أو أن يُفسِّر الكبرياء الذي ينفخه الإسلام. ينطبق الشيء نفسه أيضًا على عرضنا للقانون الأخلاقي والاستعداد الأخلاقي داخلنا. في الواقع، من الخطأ القلق بأن إبعاد هذا السرد لكل ما من شأنه أن يُعهد به للحواس سينتج عنه حمله لا لشيء أكثر من تَأيِيد بارد هامد بلا أي قوة متحركة أو شعور. إنه عكس ذلك تمامًًا. فلوهلة لم تعد الحواس ترى أي شيء أمامها، ففي حين لا تزال الفكرة الجليَّة والدائمة للأخلاق باقية، سيحتاج المرء لتخفيف زخم المخيلة المطلقة وذلك لمنعها من التفاقم لدرجة الحماسة بوقت أقرب من أن يبحث عمَّا يدعم هذه الأفكار بالصور والأدوات الصبيانية لخوفه من أنها ستكون عاجزة من دونها.

عندما يتعلق الأمر بوجه الإله، فإن اليهودية والإسلام يُقدِّمان هاوية روحية خاوية، وصحراء خالية من أي تمثيل. توضح الإشارة الكاثوليكية بعض الشّيء إلى «الصور والأدوات الصبيانية» تعاطفًا بروتسانتيًا من جانب كانط مع التحريم  Bilderverbot ) اليهودي والإسلامي للصور، حتى وإن بدا هذا النص على أنه يربط سماويًا الأديان الشقيقة للمسيحية معًا بقطعها من أي ارتباط بالدين المسيحي. وبما أن اعتقاد كانط بخلو الدين المسيحي من أي طبيعة يهودية معروف («لا يرتبط الدين اليهودي بعلاقة رئيسة مهمًا يكن، أي بوحدة المفاهيم، مع التاريخ الكنسي [للمسيحية]») ، فإن القيمة من هذه الخصوصية السامية المشتركة بين الشريعة اليهودية والإسلامية تبقى غامضة. من ناحية، فالتلميح هنا هو أن الإسلام واليهودية دينان «متعاليان» أكثر من المسيحية بسبب إصرارها السلبي (*)  apophatic ) على عدم قابلية الإله للتمثيل؛ ويخلق هذا الفراغ الدلالي في هاتين الديانتين فضاءً يحفّز مخيلة أتباعهما. ويشير رد كانط الخاص على هذا ـ ليس بالضرورة لدعم الرموز والمظاهر الشعائرية الأخرى من أجل خرق الفراغ والاستحواذ على المخيلة المفرطة في نشاطها، ولكن من أجل ضبط وتخفيف الحماسة التي تثيرها ـ بأن هذه السيطرة على «المخيلة المطلقة» هي شيء لم ينجح لا اليهود ولا المسلمون بفعله.

يتساءل جيل أنيجر في كتاب (تاريخ العدو) عمّا يمكن ـ بمعزل عن حظر الصور Bilderverbot ـ أن يبرر مقاربة الإسلام واليهودية هنا . قد يكون القاسم المشترك الوحيد من بين الإجابات المحتملة هو الخواء. فلأسباب عديدة، تُؤخَذ الديانتان تاريخيًا على أنهما ديانتان «جوفاوان». فاليهودية كانت في أعين الكثير من معاصري كانط شرنقة فارغة، قشر وبقايا، ولادة وقيامة المسيح فرَّغت اليهودية من أي أهمية حقيقية (أو كما يصوغها كانط، اليهود «لديهم ولوقت طويل كسوة بلا إنسان داخلها») . وعلاوة على هذا، فالإسلام، كما قد رأينا عند لوثر (وسنرى مجددًا عند هيغل)، ليس إلاّ ديباجةً وهميةً عديمة المضمون ووحيًا «مزيفًا» وعقيدةً خاوية. فعندما يكتب كانط في موضع آخر كيف أن محمدًا «كثيرًا ما جادل عن صحة رسالته من منطلق فصاحة لسانه» ، فإنه يصبح من الواضح أن كانط رأى الإسلام بوصفه ظاهرة عاطفية بحتة وسحرًا بيانيًا وحُلمًا تُرجم لآيات وشعائر. غموض الديانة المتعالية لغز خادع؛ فهو غموض ضريح فارغ أكثر من كونه كنزًا مدفونًا. وفي كلا الحالتين، يوحي المعنى المبطَّن في نص كانط بأن اليهود والمسلمين ليس لديهم صورة يقدمونها عن الإله لأنهم لا يعرفون ماهيته.

لا يسع المرء تجنّب الشعور بأن غياب الصور الإسلامية للإله لا يعزز فقط فكرة العقيدة الجوفاء، وهو ما سيدعوه شليغل لاحقًا بـ«الإيمان الميت والأجوف بالإله» ، ولكنه أيضًا يُسهّل للمؤمن تقبُّل الأوهام المحمدية المؤذية كثيرًا للعقل. عندما يعرِّف كانط التعصب  Schwrmerei )، في الفقرة التي تليها مباشرة، على أنه «خداع الرغبة برؤية شيء ما أبعد من كل حدود الحسية»، فإننا ندرك بأن العلو/السمو في منع الصور في الإسلام ليس ميزة، بل هو عبء. فقد أدَّى عجز الإسلام عن تمثيل وجه بشري للإله إلى استبدال الوحي بحُلم، والحقيقة الروحية بخيال شخصي. وبما أن الله يُقدَّم بلا صورة، فإن العربي قد اختار ملء الفراغ بنفسه «بمخيلته المتَّقدة».

وبدلاً من الاعتراف بالتشابه مع فوبيا الرمز البروتستانية، يترجم كانط منع الإسلام للصور على أنه تفسير للوحي الإسلامي نفسه، مطلقًا في الوقت ذاته تحذيرًا ضمنيًا من أخطار المتعالي وتفسيرًا شبه أنثروبولوجي «للكبرياء المحمدي». فالتحريم ـ والسمو الزائف الذي يوحي به ـ يصبح نوعًا من التحريض الإبداعي الذي يُشعِل المخيلة السامية بأوهام خاطئة أشد سعارًا.

كانط والأنثروبولوجيا والعالم الإسلامي: الجغرافيا الطبيعية كملحق فقط

قد يكون ثمة وهم كامن في مقاربة الشرط الذاتي للتفكير بوصفه معرفة بالموضوع.

كانط والإسلام من كتاب (نقد العقل الخالص)

في هذا الفصل، كنا نحاول أن نعيد النظر في طوبوغرافية دفينة في المشروع الكانطي لترسيم الحدود؛ وسيكون ذلك تحديدًا بعرض كيف أن ملاحظاته على الآخر «المحمدي» تعكس ـ وتُمَكِّنُ إلى حدٍ ما ـ فضاءً أوروبيًا عقلانيًا منظمًا للغاية يمكن للفلسفة أن توجد فيه. يُبيِّن استبعادُ غير الأوروبي من هذا الفضاء وغياب أي اعتبار جدي له (طبعًا بالمقارنة مع لايبنتز) الأهميةَ الأساسيةَ للحدود عند كانط، وكيف أن لا جدوى الإسلام تنبع تحديدًا من دفعه خارج مثل هذه الحدود؛ أي في الأراضي البدوية النائية للحسي اللاعقلاني التافه أساسًا.

يلعب إصرار كانط المُطَّرِد على ضرورة فصل المتعالي (الترنسندنتالي) عن التجريبي ـ على سبيل المثال رغبته في كتابة فلسفة أخلاقية «تم تطهيرها بعناية من كل شيء تجريبي» ـ دورًا رئيسًا في هذا التهميش للأجنبي. إن حالة الخلاف الأنثروبولوجي داخل أعمال كانط ـ على ضوء رغبته في «تحرير» الفلسفة الأخلاقية من أي شيء «تجريبي محض» وبالتالي «انتماؤها إلى الأنثروبولوجيا» ـ تلقي الضوء على العلاقة المتوترة بين العقل المحض والمعلومات التجريبية «الملوثة» عند كانط . في الواقع، تستمر الشفافية النقية للموضوع الكانطي ـ الذي يزعم دلتاي في عبارة ذائعة الصيت (*) بأنه «لا يجري دم حقيقي [في أوردته] بل بدلاً من ذلك يجري سائل العقل الخفيف بوصفه نشاطًا فكريًا خالصًا» ـ ليكون أحد الاعتراضات الرئيسة على مشروع كتب النقد الثلاثة، ومن المؤكد أن أقدمها كان هامان [يوهان جورج هامان] أحد النقاد الأوائل الذين لفتوا الانتباه «للكره المعرفي للمادة» عند كانط؛ الذي هو إخلاء عقلاني لثراء معنى الأرض بحيث لا يبقى شيء سوى «حفيف الريح» . ويشير كون (**) ، وهو أحدث كاتب لسيرة كانط، بشكل صائب إلى كيفية فرض الرومانسيين المحدثين (مثل هيينه) عدمية اللون في فلسفة كانط على المفكّر نفسه؛ مسهمين في [رسم] كارِيكاتور مُتقَن لبروسيا البليدة المتجهمة التي نراها اليوم . ومع ذلك، فقد بلغت الآثار السياسية المصاحبة لمثل هذا التلاشي للتفاصيل مداها على يد انتقادات نسوية أحدث، حيث أُعيد وصف مشروع كانط بوصفه «صنمية الموضوعية» (سكوت) (***) ، فارضةً «تحيزًا ذكوريًا منظمًا في تصور معياري للعقلانية» (موسر) (****) مقدمةً في النهاية فلسفة «يُفصَل فيها الوجود (الأنطولوجيا) عن المعرفة (الإبستمولوجيا)، وكلاهما قد فُصَل عن الأخلاق والسياسة» (فلاكس) (*) .

نشر كانط تلخيصاته المزخرفة المتناثرة على شكل حكايات مستقاة من مشاهدات عدد من المسافرين لثقافات العالم المختلفة في كتابه (الجغرافيا الطبيعية) Physische Geographie (1802) الذي كان أحد آخر نصوصه المنشورة ولم يُترجم مطلقًا للإنكليزية. من وجهة نظر اهتمامنا بالإسلام، فإن هذا هو النص الذي ورد فيه أكثر كلام كانط عن معتقدات الإسلام وأممه وثقافاته، وفيه يكشف عن معرفة غير متوقعة بالإسلام الشيعي، ومركز الحج بمكة، وكيف يجلس الأتراك، وكيف يلقي العرب الشِّعر؛ تلك المعرفة التي في مواضع أخرى تتسرَّب فقط عبر جدران كتابات كانط التجريدية في لمحات ثانوية أو هوامش عرضية. مقارنة ببقية أعمال كانط في مشروعه النقدي ـ والتي تتجرد من كل معنى لمعرفة الفهم، ولا تتعامل مع شيء سوى الشكل المجرد من الفكر» ـ فإن «الجغرافيا الطبيعية» تعتمد تقريبًا أسلوب مذكرات سرية مثيرة له، حيث يسمح لنفسه أخيرًا بالتمتُّع بالرذيلة الكاملة في التفاصيل التجريبية التي أبقاها معزولة عن أعماله الأكثر «جدية».

تُسلِّط إضافات كانط الأنثروبولوجية الضوء على عدد من التوترات المثيرة داخل الموقف العام للمفكرين تجاه العالم الإسلامي؛ وإزاء العرب والأتراك على وجه الخصوص، تلك التوترات التي تتراوح من الاختلافات الطفيفة إلى التناقضات الصريحة. فعلى سبيل المثال، تُرسَم صورة غير جارحة نسبيًا للأتراك في «الجغرافيا الطبيعية» ، حيث يصفهم بأنهم:

منحدرون من التتار، ذوو بنى جسدية قوية، كريمون، محسنون للفقراء والمسافرين في نُزُلِهم. علاوة على ذلك؛ هم كسالى إلى حد بعيد، ومن الممكن أن يجلسوا جنبًا إلى جنب لساعات دون أن يتحدثوا. البخل خطيئة كبرى عندهم.

يبدو أن الوصف يعطي اختلافًا أقل ضغينة قليلاً من المسلمين الحمقى تاريخيًا عند لايبنتز، فهم طيبون بطبيعتهم وبلا هدف وسطحيون، ويلخصون بذلك تضاد الشرقي البدوي مع الأوروبي الحديث؛ باني الإمبراطوريات وغارس الوعي. هذا يتفق بشكل عام مع اعتقاد كانط بتفوق أوروبا فكريًا على غيرها من الثقافات، على الأقل من ناحية التفكير الفلسفي التجريدي؛ ففي دروسه في منطق جسك (*) نقرأ كيف تفتقر نصوص الأبستاق الزرادشتية إلى «أدنى أثر للفلسفة»، وكيف أن الحكمة المصرية ليست أكثر من «لعبة طفل بسيطة»، وأن الإنجازات الفلسفية للفُرس والعرب هي بالأساس ليست أكثر من تقليد لأرسطو . تظهر الإمبريالية العثمانية والسلجوقية، على أي حال، لترفع الأتراك من حالة البداوة الخالصة إلى حالة مُعلِّم الحضارة؛ ففي موضع آخر في «الجغرافيا الطبيعية» يورد كانط وصفًا عنصريًا مناخيًا على نحو بيِّن من أجل تفسير سبب «احتلال» أعراق مناخات خط الاستواء ـ الرومان واليونانيون والأتراك والفايكنج وتيمورلنك وجنكيز خان ـ «الدائم للأراضي الجنوبية بإرهاب أسلحتهم وفنونهم» . ويجد هذا التنازل السخي ـ الذي به يُمكَّن التركي من عبور الحد الفاصل بين المستعمِر والمستعمَر، والمعلِّم والمتعلِّم ـ نسخةً أكثر تعقيدًا في كتاب «الأنثروبولوجيا» حيث يشرح كانط باختصار (في الهوامش كالعادة) أي نوع من أوروبا التي قد يراها التركي لو حدث وزارها:

هب أن الأتراك، الذين يطلقون «الفرنجة» على أوروبا المسيحية، سيسافرون من أجل التعرف إلى الشعوب [الأخرى] وخصائصها (وهو ما لا يقوم به سوى الأوروبيين، الأمر الذي من شأنه أن يبيّن ضيق عقلية الآخرين) فقد يقومون بالتقسيمات التالية، بعد عرض عيوب الشخصية:

أرض الأزياء (فرنسا). أرض الأمزجة (إنكلترا). أرض الخطر (إسبانيا). أرض الروعة (إيطاليا). أرض الألقاب (ألمانيا، الدنمارك، السويد، الدول الجرمانية). أرض اللوردات (بولندا؛ حيث المواطنون كلهم لوردات، على الرغم من أن أيًّا من هؤلاء اللوردات ـ ما عدا أولئك الذين ليسوا مواطنين ـ لا يرغب في أن يكون مستهدفًا).

ولروسيا وتركيا الأوروبية حصتان آسيويتان عظيمتان، تقعان خارج الأراضي الفرنجية: الأولى سلافية، والثانية من أصل عربي، من عرقين أصليين تَوَلَّيا يومًًا السيادة على جزء من أوروبا دون غيرهما، وأبقياه في وضع دستوري قانوني بدون أي حرية؛ أي، حيث لا أحد مُواطن .

في بعض النواحي، تُثبِت تأملات المسافر التركي المُتخيَّل عند كانط التداعيات الخانعة عقلانيًا والمُستعبَدة حسيًا والمستبدِّة والمهدِّدة للحرية التي قد رأيناها في «المحمديين» عنده في مواضع أخرى. حواشي كانط الغريبة تعرض في المقام الأول المثال الأوضح على أن فلسفته ذات بنية طبوغرافية؛ وتوضح كيف أن المشرق السلافي/المحمدي يُستخدَم لتعريف وتعيين فضاء أوروبي بحت للحرية وتأمل الذات (نظرًا لأنه قبل سنوات عديدة في كتابه «الملاحظات» قد عرَّف الألماني بوصفه شخصًا «يتساءل كيف يمكن أن يحكم عليه الناس» ، يمكن للمرء أن يفهم المقطع كممارسة للطابع الوطني للمفكر ذاته). فالاستبداد الروسي والتركي، «كلاهما ممتد على أراضٍ آسيوية واسعة» ، ومحيط بالحدود الفرنجية، وهذا خطر خامِل ولكنه قَطْعًا ليس مندثرًا (ويجب أن نتذكر أنه بالكاد مضت ثلاثون عامًا على حقيقة أن مسقط رأسه قد عاصر الجيوش المحتلة لبطرس العظيم). هذا الدمج للمشرقَيْن الروسي والمحمدي ليس جديدًا بأي حال، وهناك قلق مماثل أكيد في إشارات كانط المختلفة لروسيا؛ ففي الفصل الأول من (الأنثروبولوجيا) نجده يناقش ما إذا كان «الامتداد الواسع للإمبراطورية الروسية» يستحق أن يسمى «وحشيًا» ، بينما نجده يبدأ في عام 1790 نصًا آخر له بعنوان (التعصب ووسائل مكافحته) بقياس واضح على «الإنفلونزا الروسية» التي «انتشرت بسرعة في أنحاء العالم قبل سنوات قليلة» .

على كلٍّ، هناك توتر معين في الطريقة التي توسَّعتْ بها افتراضيًا هذه الروح الأوروبية أساسًا (وتمَّ نفيها في الحقيقة عن الأتراك) المتمثلة في التساؤل النقدي والوعي الذاتي. على الرغم من أن مثال كانط سلبي ـ فالنص يهمِّش عبث استخدام سلوكيات شائعة على أنها قاعدة لفهم طبائع الأمم ـ إلا أن اعتماده مصطلح «الفرنجة» يضع أوروبا المتحضرة في موضع تبعية واضح، أي الموضع الآدمي الضعيف الذي يسمح للمرء بأن يُسمَّى بمصطلح يستدعي ذكرى ليست موغلة في الماضي البعيد، عندما كان «جزء كبير من أوروبا» تحت السيطرة الأجنبية. بالطبع، فإن لفتة كانط الوجيزة هنا تنتمي إلى تقليد راسخ يعود للقرن الثامن عشر بخصوص وجهات النظر المُتخيَّلة عن المشرق، مثل «رسائل فارسية» لمونتسكيو (*) وغيرها.

كذلك تبيّن الأمثلة التي يقدمها كانط للمسافر التركي الخيالي أنه حتى وإن كان ثمة شيء يسمى الأنثروبولوجيا التركية، فإنها ستكون أمرًا سطحيًا وعامًا وغير دقيق، وهذا مثال آخر على كيف أن المحمدي غير قادر على فهم أي شيء أبعد من السطح. مع ذلك، فإن فكرة أن الأتراك قد ينظرون لنا ويقسِّموننا بالطريقة نفسها التي ننظر بها إليهم ـ ملاحظة «عيوب» جيرانهم الغربيين ـ تطرح تفسيرًا ساخرًا لكتاب كانط حول الجغرافية الطبيعية، بالنظر للصفات الثلاث النموذجية التي يلصقها هو نفسه مرارًا وتكررًا بتلك العرقيات (العرب «مستقيمون وجادون وعاطفيون» ، والأتراك «أقوياء البنية، كرماء، طيبون» ، الخ) . وإنه لمن الصعب فوق هذا أن نتبيَّن من النص ما إذا كان هناك؛ من جانب كانط؛ فرح أو قلق من فكرة أن تكون محط الأنظار. ما بدأ على أنه تكهنات حول اهتمام الأتراك بالثقافات الأخرى ينتهي، بصورة فجائية إلى حد ما، بنبذهم كمستبدين. تفضح فجائية الانتقال من المسافر المعقَّد إلى الطاغية، كما يبدو، لحظة ذعر مكبوتة عند كانط، حيث يحاول الكاتب أن يخفف من «أوروبية» الأتراك (سيادتهم وسيطرتهم السابقة على الأوروبيين) بالتذكير بنبذهم الآسيوي للحرية.

توضّح تأملات كانط، في بعض النواحي، استخدامًا معزولاً لا واعيًا للقاعدة الأولى لمبدأ الضرورة الحتمية Categorical Imperative («تصرف فقط وفقًا للطريقة التي تجعلك ترغب في أن يكون سلوكك قانونًا عالميًا» ) . في ختام كتاب عن الأنثروبولوجيا، كان على كانط أن يتساءل ما الذي يمكن أن يكونه الشخص ـ إن جاز التعبير ـ حين «يُدْرَس أنثروبولوجيًا» . تُحقّق هذه اللحظة الأكثر غرابة ـ حيث يوجه كانط بصره ويحوِّل قارَّته الأوروبية إلى بلاد الفرنجة ـ التعاطف الضمني المطلوب في مبدأ كانط المشهور، ممارسة الأنثروبولوجيا بهذا المعنى تستلزم بشكل موجز على الأقل بعض التأمل في كيف سيبدو أن تكون موضوعًا لمثل هذه الدراسة .

هذا التَّفَهُّم المُقتَضب لوجهة نظر «محمدية» ، كما سبق ورأينا عند لوثر ولايبنتز (والذي سوف يتعرَّى بشكله الأكثر راديكالية في رغبة نيتشه قضاء عامين في المناطق التونسية الأكثر إسلاميةً) هو استراتيجي ومدمر ذاتيًا على حد سواء. إنه مرتبط بالوعي الذاتي وإثبات الذات، ومع هذا فهو يجازف باستمرار وبصورة جذرية بإبعاد مركزية الموضوع الأساسي الذي يسعى إلى الدفاع عنه، مُحوِّلاً بذلك ثقافة المتحدث إلى مجرد قبيلة أخرى على كوكب الأرض وعقيدة أخرى من بين الكثير. عندما يشتكي لوثر من طريقة تعامل المسلمين مع الإنجيل بالطريقة ذاتها التي نتعامل بها «نحن» مع التوراة، فإن تدمير مركزية دينه هو أمر غير مقصود؛ وحينما نصل إلى لايبنتز ـ وتأملاته في ما سيقوله الوثنيون عن المسيحيين لو حُفِظت كتبهم ـ فإننا نرى وعيًا مصحوبًا بتوجس بالتفاوت بين ما نحن عليه وما نظهر به، والاحتمالية الطارئة (التي فهمها نيتشه على نحو جيد) بأن جوهر هويتنا )ألمان/أوروبيين/مسيحيين ( الحقيقية يمكن ملاحظتها فقط من الخارج . الهدف الأساسي هنا من مسافري كانط الأتراك المُتخيَّلين لا يمكن أن يكون واضحًا هكذا، ومع هذا فالنص لا يزال متصفًا بسطحية خفية؛ فمع إعادة تسميته التركية لبولندا وإنكلترا، فإنه يشكل إحدى اللحظات القليلة في أعمال كانط الكاملة حيث يُسمَح للشرقي بأن يُبادِل التحديق، بل ويُسمِّي ما يحدِّق فيه. ويوضِّح نقل كانط لهذه الملاحظة في الهوامش مجددًا تحفظاته حول الكتابة عن أي خضوع مسيحي، رمزي أو حقيقي، للهيمنة «المحمدية» .

يؤكد وصف الإسلام ـ من نواحٍ عديدة ـ الذي نجده في صفحات ثلاث في كتاب الجغرافيا الطبيعية المكانة الأنثروبولجية الغامضة في الأعمال الكاملة لكانط، إذ يعَدُّ ذلك الوصف إضافةً إلى المكانة العامة للإسلام والمشرق الإسلامي في أعماله وأيضًا تشكيكًا فيها. أخذ كانط قدرًا كبيرًا من معرفته بالإسلام ـ خاصة وصفه لمكة والكعبة المقدَّسة ـ من النص «البديع»  vorzüglich ) للرَّحالة والمستشرق الألماني كارستن نيبور (*) في كتابه «وصف الجزيرة العربية» (1772) Beschreibung von Arabien . على الرغم من أن أوصاف نيبور للعرب وللثقافة العربية تنتمي بوضوح للقرن الذي أنتجها، إلا أن هناك تأكيدًا على الإنصاف وإحجام مُحْتَرِز عن التعميم («لا يمكنني أن أستقي استنتاجات عن عقلية أمة بأكملها من خلال سلوكيات القليل من أفرادها الفاسدين» ، وهذا ما لا يظهر في تجريدات كانط التعميمية، والمُعلَّبة، والمختَصَرة عن البلدان والقارات. بالنظر لتعريف كانط نفسه للوهم: خلْط الشخص بين معرفته الذاتية في موضوع ما بجوهر الشيء ذاته؛ فإنه من المدهش أن تكون لحظات الشك الذاتي قليلة في «الجغرافيا الطبيعية» ، تبرز تلك اللحظات تحديدًا حين يُعْرِب كانط بحبور عن عدم ثقته بـ«البرتغاليين البشعين» الذين «وضعوا في حسبانهم أن المناطق الداخلية الأفريقية تَعُجُّ بآكلي لحوم البشر وملتهمي الإنسان» ، أو عدم الدقة في وصف ماكارتني (*) للصين، ذلك الوصف الذي «يعيد تداول قصص رائعة» فقط، بالرغم من أن هذا التشكيك لا يبدو ممتدًا للشرق الأوسط؛ فعلى النقيض، يؤيد كانط الوجود العسكري الفرنسي في مصر بوصفه مساهمًا في زيادة معرفتنا الثقافية. إن كانط، مثل لوثر ولايبنتز، مدرك للافتراءات التي يعانيها محمد في الغرب، وإلى حد ما يحاول وصفه الموجز لحياة محمد أن يُقِرَّ بذلك:

تزوج محمد، المولود بمكة، أرملة غنية اسمها خديجة. تلّقى تعاملاته السرية [ seinen vertraulichen Umgang ] مع المَلَك جبريل في كهف أسفل مكة. ألقى باللائمة على اليهود والمسيحيين لتزييفهم الكُتب المقدَّسة، ونشر قرآنه قطعةً قطعة. وسرعان ما أصبح علي وعثمان وأبو بكر أتباعه الجدد. عثمان من بينهم قام بتطوير القرآن. كان محمد شغوفًا وبليغًا ووسيمًا. وكان أسلوبه الأدبي مؤثرًا جدًا، لدرجة أنه كثيرًا ما جادل في صحة رسالته انطلاقًا من جمال بيانه.

وقد اعترف بأنه عاجز عن صنع معجزات. ولكنها تُنسب إليه، بأنه شقّ القمر لنصفين، وبأن ساق حَمْلٍ حذرته بألاّ يأكلها لأنها كانت مسمومة. كثير من الخداع منسوب إليه ولكنه ليس صحيحًا. تزوج عائشة بعد وفاة خديجة، وهي ابنة أبي بكر. مِن رحلة الإسراء والمعراج، بدأ سكان المدينة يتبعونه، ورحل إليها هربًا من اضطهاد سادة مكة الذي عانى منه. شكَّل هروبه هذا حقبةً خاصةً للمحمّديين، والتي تبدأ من عام 622 من بعد ميلاد المسيح.

زوَّج ابنته فاطمة لابن عمه علي. وأمر بأن تتجه قبلة الصلاة نحو مكة. تولى حكم مكة، وغزا [ bezwang ] جزءًا كبيرًا من الجزيرة العربية، ومات متسممًا من لحم ضأن. المنطقة المحيطة بمكة؛ بئر زمزم؛ مقدسة. ويذهب المحمديون للحج هناك أو على الأقل يرسلون من ينوب عنهم .

عندما نستحضر تلميحات كانط الأولى للجِنان المحمدية وتعصب نبيها واضطرابه العقلي المُحتَمَل، فإن هذا النص يوضح بكل تأكيد، مع أنه لا يخلو من تحيُّز، تفسيرًا أكثر اتزانًا لظهور الإسلام. هناك أسلوب تهكمي معين («التعاملات السرية» ) يُبيِّن نسخة أكثر سخرية للأحداث، حتى وإن كان لدى الشخصية الفاتنة الخلاَّقة بكل تأكيد جوٌّ رومانسي أقرب ـ كما سنرى ـ للنبي الشاعر «الاستثنائي» عند غوته و«للمخيلة المتوهجة» عند هيردر من المتعصب الأصولي الذي نجده في «أمراض العقل» . يقع وصف القرآن نفسه بأنه نص بديع جماليًا في تناقض كامل لما سمَّاه هيوم «ذلك التشخيص الوحشي اللامعقول» ، ويبدو مرة أخرى بأنه يُسقِط أي حكاية للحور العين ونعيم الآخرة الحسِّي، والتي أراد كانط أن يتسلَّى بها في الكتاب النقدي الثاني .

مُطَهَّرَةً من الشهوانية والتَّعصُّب؛ تُناقِض تلخيصات كانط الإسبارطية المتقشفة الأوصاف السخية التفصيلية لقبر محمد المُدوَّنة في الجزء نفسه: «يحتوي على أربعة آلاف مصباح، مسوّر بدرابزين من الفضة وأقمشة باهرة معلّقة على الجدران، بعضها مرصَّع بالألماس، وهي هدايا من الأمراء المحمديين» .

مثل هذه التفاصيل ليست مجرد محاولة لتعزيز شكل من أشكال العلاقة الضمنية مع مزارٍ كاثوليكي، ولكنها أيضًا تمثِّل تذكيرًا ماديًا بأن رسول الإسلام، بخلاف رسول المسيحية، ميتٌ ومدفون. ينتقص هذا الأسلوب البسيط الجاد لسيرة محمد من الإسلام، ليس بتضخيمه بمزاعم الفسق والجنون والتطرف، ولكن على العكس من ذلك، عن طريق «تطبيعه» مع تكرار التفاهات (مَن اللواتي تزوجهنَّ محمد، ومَن كان زوج ابنته) أو الروايات البتراء السخيفة (ساق الضأن الناطِق، ورحلة الإسراء). تُثقَب بالونة التعصب «المحمدي» الفارغة بهذه الأرخنة النمطية لأصول الديانة. غياب أي إشارة إلى محمد باعتباره بطلاً قوميًا حقيقة لم يُشِر إليها كانط إلا قليلاً، بعكس إعجاب هيغل وغيره من الرومانتيكيين بها. انتشار الإسلام بسرعة البرق ـ والذي سماه كانط نفسه في موضع آخر بـ «المغامرة العظيمة» ـ يؤكد مقصَد كانط الرئيس في هذا الجزء: حصر الإسلام في ثلاث فقرات من كتاب، وتعرية أصول ديانة متكبرة على أنها أعمال طائفة إقطاعية صغيرة خطط لها زعيم موهوب ذو كاريزما مع أوهام عظمة. يصبح الانكباب على الوصف التجريبي المجرد، في هذه الحالة، أداةً يمكن بها لدين نِدٍّ أن يُسجَّل تاريخيًا، ويُرصَد بتجرد، ويُحتَوى بطريقة ساخرة.

هذا ما يحاول ـ بمعنى ما ـ كتاب «الجغرافيا الطبيعية» القيام به؛ احتواء ثقافات العالم، وفهم «النظرة العالمية المختلفة تمامًًا للمشرق» والسيطرة عليها، والحفاظ على تهديد الثراء والتنوع الأجبني بمعزل عن الخطر داخل الحدود الأنثروبولوجية. مثل المسافر التركي الافتراضي؛ يوظِّف كانط اللغة ـ مفردات الملاحظة التجريبية، مُعزَّزةً بالتلميح العَرَضي لملاحظات تورنفور (*) ونيبور أو وهل (**) ـ لتجهيز مكان للآخر غير الأوروبي دون أن يمتدَّ خارج نطاق السيطرة. لهذا السبب يمكن أن يُنظَر لكتاب (الجغرافيا الطبيعية) على أنه حاشية ممتدة لبقية أعمال كانط ـ فهو مساحة تجريبية «مجردة» ، «ملحقة» بكتاب من أربعمائة صفحة ـ حيث يُظهِر فيها المفكِّر ارتياحًا للقلق المتعلق بالحدود التي عرضها في مكان آخر. على النقيض من أولئك البدو العرب الوحشيين في كتابه «مشروع للسلام الدائم» ( Perpetual Peace ) الذين «يعتبرون قربهم من القبائل البدوية [الأخرى] تبريرًا للنهب» ، فإننا نتعلم في الجغرافيا الطبيعية كيف أن «سطوهم على البر والبحر قد يُبرَّر» ؛ وكيف تُعطى توصيفات الإسلام الشيعي (الفارسي) أصداءً بروتستانتية عمدًا؛ «الأعمال الصالحة، وفقًا لتعاليمهم، هي علامات النعمة، ولكنهم لم يستحِقُّوا النعيم» ، بل إن قصة الإسلام تُحكى بجدية نوعًا ما، مع تحاشي ذكر الجنون والتعصب وجنَّات الشهوة. في صفحات عدة من مجلد واحد، يكتب كانط عن الإسلام ومشرقه أكثر مما كتبه في كل المجلدات السبعة والعشرين الأخرى من أعماله الكاملة ( Gesammelte Schriften ) مجتمعة.

في ختام مقالته (حول التعصب ووسائل مكافحته) (1790)؛ يقول كانط إن الرد المناسب الوحيد على انتشار التكهنات غير العلمية والجهل الصوفي الزائف هو «صمت الازدراء»  verachtendes Stillschweigen ) . يفسّر ازدراء كانط الضمني ـ باستخدامه للهوامش والحواشي للسيطرة على ذكره «للمحمدية» ، وليحدد مكانها بدقة بطريقة تجعلها متى ما ظهرت غيريَّتها (الشرسة، الحسية، المتعصبة، الوحشية) فإنها ستطوِّر دومًا مشروعه؛ غياب أي إشارة مهمة للدين الإسلامي وثقافاته في أعماله. هذا يعني أنه نمَّى ازدراءً للإسلام بالقدر الذي فعله لوثر، حتى وإن كان اختار ازدراءً  Verachtung ) عبَّر عنه بالإغفال والنبذ، بدلاً من الذم أو الهجاء.

اللاتمثيل، وليس سوء التمثيل؛ هو الذي يوضح المنهج الكانطي في التعامل مع التهديد «الآسيوي» من قِبل «المحمديين» ؛ مبدأ الإطاحة بدلاً من المبالغة هو ما يميِّز في نهاية المطاف بين الشرق المسلم عند كانط والشرق المسلم عند لوثر. هذه ليست مجرد مسألة توضيح الكيفية، بعد فرويد، تعلّمنا النظر للهوامش بشكل مختلف، حتى ولو أن هذا صحيح تحديدًا في حالة كانط وملاحقه «البسيطة» ، وليست مجرد نقطة توضيحية لكيف أن مشروع القرن الثامن عشر الحداثي كان نابعًا من رغبة أوروبية بحتة في الانفصال، وكانت [أيضًا] شروطه كامنة في العناصر غير الأوروبية التي اختار رفضها. يسيطر قلق كانط بشأن الحدود ـ العقلية والجغرافية والاجتماعية والأخلاقية ـ على كل إشارة منه للمشرق الإسلامي، بِدءًا من الرغبة في عدم ذكر تركيا كثيرًا في المحادثات اليومية وانتهاءً بالمخيلة المتعالية التي كان حريصًا جدًا على ربطها به. في النهاية، فإن الخوف الكانطي من الإسلام هو خوف من السِّرْب؛ أي خوف من المخيلة المطلقة المتوالدة وكثرة الصور التي تجلبها، وخوف من فوضى تجاوز الحدود بفعل الحماسة والعنف الذي يمكن أن تُلحِقه بنظام العقل. ومثَّلتْ قلة الاهتمام التي أبداها كانط تجاه محمد و«المحمَّدية» في نهاية المطاف الطريقة الأكثر راحة لطرد تلك «الأسراب» خارج الفضاء العقلاني المنظَّم الحُرِّ لفلسفته.


 

هوامش

          The text of Anthropologie is taken from Kant, Kant: Werkausgabe , ed. W. Weischadel (Suhrkamp: Frankurt, 1968), vol. XII, p. 478-hereafter Werkausgabe.

    Werkausgabe, p. 478.

          John H. Zammito interprets Kant’s famous criticisms of Herder’s Ideen as springing from a desire to prevent the dissolution of two essential boundaries upon which his philosophy rested (between matter and life, and between organisms and man-in Method versus Manner? Kant’s Critique of Herder’s Ideen in the Light of the Epoch of Science 1790-1820} , in Herder Jahrbuch 1998, ed. H. Adler and W. Koepke (Stuttgart: J. B.Metzler, 1998), p. 1.

Werkausgabe, II:983.

  Kant, Critique of Pure Reason , ed. V. Politis (London: J. M. Dent, 1993), p.4.

 Taken from Von einem neuerdings erhobenen vornehmen Ton in der Philosophie, in Werkausgabe , VI:378.

 Ibid., VI:378.

 Kant, Observations on the Feeling of the Beautiful and Sublime , trans. J. T. Goldthwait (London: University of California Press, 1991), p. 109.

 Werkausgabe, VI:396.

 Taken from Kant’s Gesammelte Schriften (Berlin: Prussian Academy, 1900-) vol. 2:267.

taken from Lessing’s Smtliche Werke , 16:297-cited in Peter Fenves, Arrest- ing Language: From Leibniz to Benjamin (Stanford: Stanford University Press, 2001), p. 101.

  Gesammelte Schriften, 8:143-cited in Fenves, Arresting Language , p. 114.

Associations of Islam with the Anabaptists are as old as theAnabaptists. themselves-see, for example, Susan R. Boettcher, German Orientalism in the Age of Confessional Consolidation: Jakob Andrae’s Thirteen Sermons on the Turk, 1568}, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East 24, no. 2 (2004): 9.

 Kant, Lectures on Ethics , trans. Peter Heath (Cambridge: Cambridge Uni- versity Press, 1997), 27:719.

 Kant, Lectures on Ethics , trans. Peter Heath (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), 27:719. 15. Taken from Physische Geographie in Gesammelte Schriften, 9:228.

 Ibid., 9:418.

 Ibid., 9:395.

Kant, On the Use of Teleological Principles in Philosophy, in Race , trans. J. M. Mikkelsen, ed. R. Bernasconi (Oxford: Blackwell, 2001), p. 48.

Observations on the Feeling , p. 112.

Gesammelte Schriften , 9: 399.

 Metaphysische Anfangsgrunde der Tugendlehre in Gesammelte Schriften , 6: 428.

Ibid., 7:256.

Kant, Critique of Practical Reason , trans. T. K. Abbott (New York: Dover, 1954), p. 125; Werkausgabe, VII:251.

Kant, Critique of Judgment , trans. W. S. Pluhar (New York: Hackett Pub. Co., 1987), p. 134.

 The End of All Things in Gesammelte Schriften , 8:335.

 The Conflict of the Faculties , p. 307.

Cassirer, Rousseau, Kant and Goethe (London: Harper and Row, 1963), p. 48.

Gesammelte Schriften , 6:87.

Kant, Religion Within the Limits of Reason Alone , trans. T. M. Greene andH. H. Hudson (New York: Harper and Row, 1960), p. 11.

 Luther, Luther’s Works , ed. J. Pelikan (Philadelphia: Fortress Press, 1967),46:176, 15:340.

 Ibid., 43: 235-36.

Observations on the Feeling , p. 110.

Gesammelte Schriften , 6:194.

Ibid., 6:193.

Ibid., 2:252.

Susan Shell, Kant as Propagator: Reections on Observations on the Feeling of the Beautiful and the Sublime, Eighteenth Century Studies 35 , no. 3 (2002): 456.

Altieri, On the Sublime of Self-Disgust, in Beauty and the Critic: Aesthetics in an Age of Cultural Studies , ed. J. Soderholm (London: University of Alabama Press, 1997), p. 113.

 Paul de Man, Phenomenality and Materiality in Kant, in Aesthetic Ideology , ed. A. Warminski (St. Paul: University of Minneapolis Press, 1996), p. 79.

Hertz, The End of the Line: Essays on Psychoanalysis and the Sublime (The Hague: Mouton, 1971), p. 109.

 Yu Liu, The Beautiful and the Sublime: Kant’s Paradise Lost and Paradise Regained, Studies in Romanticism 42 , no. 3 (2003): 194.

Critique of Judgment , p. 134.

Werkausgabe, XII:478.

Weiskl, The Romantic Sublime: Studies in theStructure and Psychology of Transcendence (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1976), p. 41.

 Yu Liu, The Beautiful and the Sublime , p. 193.

 Gesammelte Schriften , 6:184.

  Critique of Judgment , p. 135; Werkausgabe, X:201.

 Gesammelte Schriften , 15:120.

 Religion Within the Limits of Reason Alone, p. 116-cited in Amy Newman, The Death of Judaism in German Protestant Thought from Luther to Hegel, Journal of the American Academy of Religion 61 , no. 3 (1993): 460.

 Anidjar, The Jew, The Arab: A History of the Enemy , p. 124.

 The Conflict of the Faculties, p. 93-cited in Newman, The Death of Judaism , p. 461.

Gesammelte Schriften , 9:399.

  Taken from Ernest Behler, ed., Kritische Friedrich Schlegel Ausgabe (Munich, 1971), vol 9, p. 275-cited in Edward Said, Orientalism (London: Penguin, 1994), p. 99.

 Critique of Pure Reason, trans. N. K. Smith (New York: St Martin’s Press, 1965)-cited in D. Bonevac, Kant’s Copernican Revolution in The Age of German Idealism , ed. R. C. Solomon and K. M. Higgins (London: Routledge, 1993), p. 57.

 Gesammelte Schriften, 4:389-cit. in M. Kuehn, Kant: A Biography (London: Cambridge University Press, 2001), p. 407.

Cited in Kuehn, Kant, p. 406. For an introduction to thisdiscussion, see B. Jacobs and P. Kain, Essays On Kant’s Anthropology (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), pp. 5-7.

Cited in Jacobs and Kain, Essays , p. 5.

Bayer, Vernunft ist Sprache: Hamanns Metakritik Kants (Stuttgart: Frommann-Holzboog Verlag, 2002), p. 296-cited in John R. Betz’s illuminating article Enlightenment Revisited: Hamann as First and Best Criticof Kant’s Philosophy, Modern Theology 20, no. 2 (April 2004) : 298.

Kurt Mosser, Kant and Feminism, Kant-Studien 90, no. 3 (1999): 325 ; J. Flax, The Patriarchal Unconscious in Discovering Reality , ed. S. Harding and M.B. Hintikka (Dordrecht: D. Reidel, 1983), p. 248.

Kuehn, Kant, p. 14.

Robin May Schott, Eros and Cognition (Boston: Beacon Press, 1988), p. 110; Kurt Mosser, Kant and Feminism, Kant-Studien 90 , no. 3 (1999): 325; J. Flax, The Patriarchal Unconscious in Discovering Reality, ed. S. Harding and M.B. Hintikka (Dordrecht: D. Reidel, 1983), p. 248.

Taken from Critique of Pure Reason, A 54-B78, cited in K. Mosser, Kant and Feminism , p. 8.

Kant, Lectures on Logic , ed. J. M. Young (Cambridge: Cambridge UniversityPress, 1992), p. 23.

 Werkausgabe , XII:661.

  Kant, berSchwrmereiund die MittelDagegen, in Smmtliche Werke , ed. K. Rosenkranz and F. W. Schubert (Leipzig, 1838), vol. 7, pp. 111-13. Locatedwith the help of E. Adickes’s German Kantian Bibliography (Würzburg: Liebing, 1896).

Gesammelte Schriften , 9:398, 406.

  Kant, Foundations of the Metaphysics of Morals , p. 38-cited in D. Becker, Kant’s Moral and Political Philosophy, in The Age of German Idealism , ed. R. C. Solomon and K. M. Higgins (London: Routledge, 1993), p. 73.

Helmut Peitsch also makes this point towards the end of his article Deutsche Peripherie und Europaisches Zentrum, in VomSelbstdenken: Aufklaerung und Aufklaerungskritik in Herders Ideen , ed. R. Otto and J. Zammito (Heidelberg: Synchrom Wissenscha ftsverlag, 2001), p. 82.

  See Luther’s Works, 46:195; Leibniz’s letter to Landgraf Ernst, July 1692, in Smtliche Schriften, I:8, p. 141; Nietzsche’s letter to Kselitz, March 13, 1881-found in G. Colli and M. Montinari, eds., Briefe (Berlin, 1975), III:1, S.68.

   Niebuhr, Beschreibung von Arabien (Copenhagen, 1772), p. 28-volume 14 of Publications of the Institute for the History of Arabic-Islamic Science, edited by Fuat Sezgin.

Gesammelte Schriften , 9:229.

 Ibid., p. 399.

W. Goethe, West-stlicher Divan (Stuttgart: Philipp Reclam, 1999), p. 287; J. G. Herder, Ideen (Berlin: Aufbau Verlag, 1965), vol II, p. 421.

 David Hume, Of the Standard of Taste , Essay XXII.

 Kant, Political Writings, ed. H. Reiss (Cambridge: Cambridge University Press, 1991), p. 106.

  ber Schwrmereiund die Mittel Dagegen , p. 113.