مجلة حكمة
ماكس فيبر

ماكس فيبر

الكاتبسونغ هو كيم
ترجمةحيّان الغربيّ

ماكس فيبر، يراه الكثيرون واحداً من أبرز المنظّرين في مجال علم الاجتماع خلال القرن العشرين، وهو يُعرف، رفقة كارل ماركس وإميل دوركايم، بصفته مهندساً رئيسياً لعلم الاجتماع المعاصر. وقد منحت إسهاماته واسعة المجال زخماً حاسماً لولادة حقولٍ معرفيةٍ جديدة، مثل علم الاجتماع، فضلاً عن إعادة التوجيه الجوهرية في علوم القانون والاقتصاد والعلوم السياسية والدراسات الدينية. علاوةً على ذلك، لعبت كتاباته المنهجية دوراً مساعداً على إرساء الهوية الذاتية للعلوم الاجتماعية المعاصرة بصفتها حقلاً استقصائياً متميزاً بذاته. ومازال يُعتبر مصدراً للإلهام من قبل الوضعيين التجريبيين ونقّادهم التفسيريين على حدّ سواء. ولعلّ إسهاميه اللذين يلقيان المستوى الأعلى من الحفاوة هما “أطروحة العقلنة”، التي قدّم من خلالها تحليلاً ميتاتاريخياً شاملاً لهيمنة الغرب في العصور الحديثة، و”أطروحة الأخلاق البروتستانتية”، التي يبسط فيها أصل أنساب الرأسمالية الحديثة بمنهجية مغايرة للمنهجية الماركسية. وقد أكسبته هاتان الأطروحتان معاً شهرته كواحدٍ من المنظّرين المؤسسين للحداثة. ناهيك من أن اهتمامه الكبير بالسياسة ومشاركته فيها قد أفضيا إلى انتهاجه خطاً فريداً في الواقعية السياسية إذا ما قورن بالخط الذي اتخذه كلٌّ من مكيافيلي وهوبز. وهكذا، مارس ماكس فيبر تأثيراً واسعاً امتدّ إلى عددٍ هائلٍ من الأفكار المسلكية والمنهجية والأيديولوجية والفلسفية التي ما زال اعتقادنا بها يتنامى على نحوٍ مطرد.


 

1. حياته ومسيرته

ولد مكسميليان كارل إميل (ماكس) فيبر (1864- 1920) في مدينة إرفورت البروسية لعائلة نبيلة المحتد. فوالده، ماكس الأكبر، ينحدر من أسرةٍ من التجّار والصناعيين في مجال النسيج من مقاطعة وستفاليا (فستفالن)، وقد درس المحاماة وانخرط في العمل السياسي ليصبح برلمانياً عن الحزب الوطني اللبرالي في العهد القيصري. في حين أن والدته تنحدر من عائلتي فولنشتاين وسوشاي، اللتين اشتهرتا بانتمائهما إلى الهوغونوتيين (جماعة دينية بروتستانتية كالفنية- المترجم)، ومن المعلوم أن الهوغونوتيين قدموا على مدار أجيالٍ الكثير من الموظفين الحكوميين والأكاديميين. كما أن شقيقه الأصغر، ألفريد، كان اقتصادياً سياسياً وعالم اجتماعٍ مؤثراً أيضاً. وبالتالي، لا ريب أن ماكس فيبر قد نشأ في أجواء عائلية اتسمت بالثراء والتحرر والثقافة والإسهام في إرساء الأسس السياسية والاجتماعية والثقافية للبرجوازية الألمانية [روث- 2000]. ناهيك من أن والديه لطالما شكّلا قطبي هوية متنافرين غالباً لدرجة أن ابنهما الأكبر، ماكس، بقي طيلة حياته يعيش صراعاً ما بين ذينك القطبين (اقرأ: الحنكة السياسية والزهد البحثي). 

تلقّى فيبر تعليمه في جامعات هايدلبرغ وبرلين بصورة رئيسية، وقد درس القانون وكتب أطروحته حول الشركات التجارية القروسطية تحت إشراف ليفين غولدشميدت ورودولف فون غنايست (وخضع للامتحان بإشراف تيودور مومزن) كما قدّم رسالته لنيل شهادة التأهّل للأستاذية حول القانون الروماني والتاريخ الزراعي بإشراف أوغست ميتزن. وبينما كان بصدد تأسيس مسيرةٍ مهنيةٍ في مجال الممارسة القانونية والخدمة الحكومية، تلقّى تكليفاً بحثياً هاماً من الرابطة الاقتصادية الألمانية Verein für Sozialpolitik  (وهي جمعية بارزة في مجال العلوم الاجتماعية، وقد تولّى إدارتها آنذاك غوستاف شمولر) ليصدر ما يُدعى بـ: “تقرير شرق إيلبيا” بشأن حلول العمّال المهاجرين البولنديين محلّ العمّال الزراعيين الألمان في شرق بروسيا، والذي قوبل بحفاوةٍ كبيرةٍ وجدلٍ سياسي عند نشره. وقد أدّى إحرازه لهذا النجاح المبكر إلى نيله أول وظيفةٍ جامعية في فرايبورغ سنة 1894، وتبعها تعيينه بوظيفة معتبرة برتبة أستاذ جامعي- بروفيسور في الاقتصاد السياسي في هايدلبرغ بعد عامين. وفي حين كانت زوجة فيبر، ماريان، مثقّفة ضليعة بحدّ ذاتها ومن أولى الناشطات المنافحات عن حقوق المرأة، سرعان ما ألفى الزوجان نفسيهما في قلب الحياة الفكرية والثقافية النشطة في هايدلبرغ. وقد استقطبت الحلقة الموسومة “حلقة فيبر” نجوماً ساطعةً في عالم الثقافة آنذاك، من أمثال جورج يلينك، وإرنست ترويلتش، وفيرنر سومبارت، كما اجتذبت في وقتٍ لاحق عدداً من الباحثين الشباب، بمن فيهم مارك بلوك، وروبرت ميشيل، وجورج لوكاش. 

زد على ذلك، نشط فيبر في حياته العامة إذ إنه واظب على لعب دورٍ هامٍ كعضوٍ تقدّمي في الرابطة الاقتصادية الألمانية وحافظ على ارتباطٍ وثيقٍ بالمؤتمر الاجتماعي البروتستانتي Evangelische-soziale Kongress اللبرالي الهوى (ولاسيما مع قائده الشبابي فريدريش ناومن). وقد شهدت تلك الحقبة إرساءه لسمعته كاقتصاديٍّ سياسيٍّ لامع ومثقّفٍ عام جسور.

بيد أن كل تلك السنوات المثمرة انتهت إلى توقّف مفاجئ في العام 1897 حين أصيب فيبر بانهيارٍ عصبي بعيد وفاة والده المفاجئة (التي عجّلت بها مواجهةٌ جرت بينهما) [رادكاو 2011، 53- 69]. وهكذا توقّف عمله كمدرّسٍ وباحث لدرجة أنه في العام 1903 انسحب من مهنة التدريس المنتظم في نهاية المطاف ولم يعد إليها حتى العام 1919. وعلى الرغم من تأثّره الشديد وعدم قدرته على الإنتاج الفكري الذي اعتاد عليه، إلا أنه نجح في الانشغال بدراسة مواضيع فلسفية ودينية متنوعة. وقد شهدت أبحاثه توجّهاً جديداً خلال هذه الفترة مع نشره لعدد من المقالات المنهجية المتنوعة فضلاً عن مؤلّفه الموسوم “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” (1904- 1905)، بما خلّف أثراً لا يمحى في فهمه للحداثة بصفةٍ عامة [سكاف 2011].

بعد هذه الفترة من الشح في الإنتاج كباحثٍ خاص على وجه الخصوص، بدأ فيبر يستأنف أنشطته الأكاديمية والعامة ببطءٍ. وقد تسلّم، إلى جانب إدغار جافي وسومبارت، زمام التحرير في صحيفة “أرشيف العلوم الاجتماعية والاجتماعية السياسية- Archiv für Sozialwissenschaften und Sozialpolitik“، محوّلاً إياها إلى صحيفة بارزةٍ في مجال العلوم الاجتماعية في زمانه كما أنها أضحت منصته المؤسسية الجديدة. وفي العام 1909، شارك في تأسيس الجمعية الألمانية لعلم الاجتماع- Deutsche Gesellschaft für Soziologie، مدفوعاً بصورةٍ جزئية بتنامي انزعاجه حيال السياسات المحافظة التي انتهجتها الرابطة الاقتصادية الألمانية فضلاً عن افتقارها للانضباط المنهجي، وقد عُيّن كأول أمين صندوق للجمعية (ولكنه استقال منها في العام 1912). وقد شهدت هذه الفترة من حياته تحقيقه لأبرز إنجازاته إلى أن لُجم تقدمه هذا إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914، وفي غضون ذلك كان عمله قد تركّز على مجالين، أولهما هو علم الاجتماع المقارن للديانات العالمية، وثانيهما الإسهامات التي قدمها من خلال مؤلّفه “الوجيز في الاقتصاد الاجتماعي- Grundriss der Sozialökonomik ” (الذي نُشر عقب وفاته تحت العنوان: “الاقتصاد والمجتمع”). وإلى جانب المقالات المنهجية البارزة التي كتبها خلال تلك الحقبة، قيض لهذين العملين أن يعودا على فيبر بشهرته الراسخة بوصفه واحداً من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع الحديث.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، شهد انخراط فيبر في الحياة العامة انعطافةً غير متوقعة، فبعد أن بدأ كوطنيّ متحمّس للحرب، شأنه شأن جميع المثقفين والمفكرين الألمان في تلك الآونة، أخذ شعوره بالخذلان بالتنامي إزاء السياسات الحربية الألمانية لينتهي به الأمر إلى إعادة تموضعه ليغدو الناقد الأعلى صوتاً لحكومة القيصر في زمن الحرب. وبصفته مثقّفاً عاماً، أصدر تقارير خاصة للحكومة وكتب مقالاتٍ صحفية للتحذير من مغبة سياسة ضم بلجيكا فضلاً عن حرب الغوّاصات اللامحدودة. ومع تعمّق الحرب، استحالت تلك التحذيرات إلى الدعوة إلى الدمقرطة الشاملة لتلك الدولة الاستبدادية- Obrigkeitsstaat التي كانت عليها القيصرية الألمانية. وبحلول العام 1917، كان فيبر يشنّ حملةً نشطةً في سبيل الإصلاح الدستوري الشامل في ألمانيا ما بعد الحرب، ناهيك من اعتماد حق الانتخاب الشامل وتمكين البرلمان.

وحين منيت ألمانيا بالهزيمة في العام 1918، وجدت في فيبر قائداً مفكّراً عاماً لا بل ورجل دولة محتملاً يتمتع بمصداقيةٍ لبرالية لا غبار عليها فضلاً عن مكانته المتميزة التي منحته القدرة على التأثير في مسار إعادة الإعمار ما بعد الحرب. وقد دُعي للانضمام إلى الهيئة المسؤولة عن صياغة دستور فايمار فضلاً عن الوفد الألماني إلى فيرساي، كما ترشّح إلى عضوية البرلمان عن الحزب اللبرالي الديمقراطي، وإن كان كل ذلك بلا طائل. مع ذلك، لم يتوانَ فيبر عن استغلال تلك المؤهلات التي تمتع بها لمعارضة الثورة الألمانية (من منطلقٍ عقلاني) ومعاهدة فيرساي (على نحوٍ غير عملي) في نفس الآونة، متخذاً لنفسه موقفاً يتعذّر الدفاع عنه إذ تحدّى جميع الاصطفافات الحزبية التي سادت في تلك الحقبة. وهكذا، لم تؤتِ أنشطته السياسية أُكلها على جميع الأصعدة خلا دفاعه عن رئاسة منتخبة قوية في دستور فايمار.

إثر الإحباط الذي شعر به إزاء السياسة اليومية، عاد فيبر إلى أبحاثه بهمة متجددة، وفي العام 1919، عمل لفترةٍ وجيزةٍ في التعليم في جامعة فيينا (جاء مؤلفه “التاريخ الاقتصادي العام” بمثابة حصيلةٍ لهذه التجربة)، ومن ثم في جامعة ميونخ (حيث ألقى المحاضرتين اللتين تلقيان قدراً كبيراً من الثناء: “العلم بما هو مهنة” و”السياسة بما هي مهنة”). وفي غضون ذلك، قام بجمع شذرات كتاباته حول الدين ضمن مؤلّف ضخم من ثلاثة مجلّدات بعنوان: “علم الاجتماع الديني-Gesammelte Aufsätze zur Religionssoziologie  “.وفي نهاية المطاف، بلغت هذه الأنشطة البحثية المفعمة بالحيوية منتهاها في العام 1920 إثر وفاته المفاجئة بالتهاب الرئة في مدينة ميونخ (ويرجح أنه أصيب بها إثر إصابته بالإنفلونزا الإسبانية)، وكان عمره قد ناهز ستةً وخمسين عاماً حينها.

2. التأثيرات الفلسفية

ليست مهمة وضع فيبر في السياق الفلسفي التقليدي بالمهمة اليسيرة على الإطلاق، فناهيك من المجموعة المتنوعة من الهويات التي يمكن أن ننسبها له كباحث، لاشكّ أنه لم يكن فيلسوفاً بالمعنى الضيق للكلمة على الأقل. كما أن سمعته كمشرّع للعلوم الاجتماعية الحديثة تجنح نحو إضفاء المزيد من الضبابية على تقييمنا للدرجة التي جرى معها غرس أفكاره في السياق الثقافي الزمني. وبالحديث بصورة عامةٍ، في حين لا تعتبر النظرة الفلسفية الشاملة لدى فيبر فلسفةً متماسكة، بيد أنها استمدت معلوماتها من الأزمة العميقة التي بلغها مشروع التنوير في القارة العجوز في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والتي اتسمت بالتمرّد الفكري ضد العقل الوضعي، والاحتفاء بالإرادة الموضوعية والحدس، والتوق النيورومنطيقي للصحة الروحانية [هيوز 1977]. بتعبير آخر، انتمى فيبر إلى جيلٍ من المفكّرين التابعين المنّصبين لذواتهم والذين توجّب عليهم تحمّل أوزار إرث داروين وماركس و نيتشه. أما والحالة كذلك، سنقوم في هذا المقال بإيجاز الخلفية الفلسفية الكامنة وراء فكره ضمن محورين إبستمولوجي (معرفي- epistemology) وأخلاقي- ethics.

1.2 المعرفة: الكانطية الجديدة

واجه فيبر الأزمة الثقافية التي هيمنت على القارة الأوروبية في عصره، ولاسيما إثر تنقيتها من خلال اللغة الاصطلاحية للتاريخانية الألمانية [بايزر 2011]. فنتيجةً لدراسته المبكرة للقانون، اضطر إلى مجابهة الانقسام الحاد ما بين الوضعية القانونية اللاباندية (نسبة إلى القانوني الألماني بول لاباند- المترجم) المهيمنة والفقه التاريخي الذي تزعّمه اتو فون غيركه (وهو أحد أساتذته في برلين)، وخلال تبلوره كاقتصادي سياسي لاحقاً، أبدى اهتماماً كبيراً للنزاع المنهجي- Methodenstreit ما بين المنهجية الوضعية الاقتصادية لدى كارل مينغر والاقتصاد التاريخي لدى شمولر(معلّمه في بواكير أيامه). ومع ذلك، يثار النقاش بأنه لم يعثر على نموذجٍ مفاهيمي غنيّ وملائم لتطوّر أكثر وضوحاً في موقفه الإبستمولوجي الخاص حتى تعرّف على مدرسة بادن (أو المدرسة الجنوبية الغربية) للكانطيين الجدد، ولاسيما عن طريق فلهلم فندلباند وإميل لاسك وهاينرخ ريكرت (الذي كان زميله في فرايبورغ ذات يوم).

وفي معارضةٍ للإبستمولوجيا الانبثاقية عند هيغل، اتفق الكانطيون الجدد مع التقسيم الكانطي الثنائي ما بين الواقع والمفهوم لفترةٍ وجيزة. فليس الواقع مشتقاً منبثقاً من المفاهيم وفقاً لما ذهب إليه هيغل، وإنما هو لاعقلاني ومبهم في حين لا يعدو المفهوم كونه إنشاءً مجرّداً للعقل. وليس المفهوم أمراً من أمور الإرادة والحدس والوعي الذاتي على حدّ تعبير فلهلم دلتاي. فوفقاً لهرمان كوهن، وهو واحدٌ من أوائل الكانطيين الجدد، إن تشكّل المفهوم هو سيرورة معرفية في جوهره، وهي عملية لا يمكن أن تتسم بالعقلانية كما أشار كانط. فإذا كانت معرفتنا منطقية وكان الواقع برمته يوجد ضمن المعرفة، عندئذٍ ليس عقلانياً إلا الواقع الذي يسعنا فهمه بشكل المعرفة، وبه تختزل الميتافيزيقا إلى إبستمولوجيا كما يختزل الوجود إلى المنطق. أما والحالة كذلك، ينبغي أن تكون عملية تشكّل المفهوم ضمن العلوم الطبيعية (Natur) والعلوم الثقافية- التاريخية (Geisteswissenschaften) على حدّ سواء شاملةً ومجرّدة وهي لا تختلف بين هذين الحقلين المعرفيين من حيث النوع وإنما من حيث مواضيع كل منهما، فلا تختلف العلوم الثقافية- التاريخية إلا من حيث التعامل مع مسألة القيم فضلاً عن العلاقات المنطقية.

مع ذلك، بالنسبة لفندلباند، يرتبط الفارق ما بينهما بالهدف والنهج الذي يعتمده كل منهما. فالمعرفة الثقافية- التاريخية لا تُعنى بالظاهرة لما تتشاركه مع غيرها من الظواهر، وإنما لخواصها الجازمة. إذ إن القيم، التي تشكّل موضوعها الملائم، هي ذاتية وملموسة وفردانية بصورةٍ جذرية. فبخلاف المعرفة “التعددية” التي تنشدها العلوم الطبيعية، لا يهتم علم التاريخ لسببية شاملة أشبه ما تكون بالقانون، وإنما لفهم الطريقة الخاصة التي ينسب الفرد من خلالها القيم إلى أحداث وكياناتٍ معينة أو يتخذ موقفاً تجاه القيم الثقافية العامة السارية في زمنه ضمن مجموعةٍ فريدة من الظروف التاريخية التي لن تتكرر. لذلك، تسعى العلوم الثقافية- التاريخية إلى المعرفة “الرمزية- ideographic”، وترمي إلى فهم “الفرد التاريخي” المحدد والملموس واللاعقلاني بمفاهيم عقلانية مجردة شاملة على نحوٍ لازب. من خلال تحويل الواقع اللاعقلاني إلى مفهومٍ عقلاني، لا ترسم- abbilden المعرفة الثقافية- التاريخية صورةً للواقع ببساطة، وإنما تحوّله- umbilden. وهي إذ تحتل المساحة الرمادية ما بين الواقع اللاعقلاني والمفهوم العقلاني، يستحيل سؤالها ثنائياً بالنسبة للكانطيين الجدد. فمن جانب، ما هي الطريقة التي نستطيع من خلالها فهم القيم الذاتية غير المختزلة والتي تعتمدها العوامل التاريخية بطريقةٍ موضوعية؟ ومن جانبٍ آخر، ما هي المعايير التي بمقدورنا بموجبها اختيار ظاهرة تاريخية معينة، مقابل غيرها من الظواهر، لتكون موضوعاً تاريخياً هاماً وجديراً باهتمامنا؟ باختصار، لا تتعلق المسألة بالقيم التي ينبغي على من ينشد المعرفة التاريخية فهمها وحسب، وإنما تتعلّق أيضاً بقيمه الخاصة التي لا تقل ذاتيةً. وهكذا، يغدو حكم القيمة- werturteil والقيمة- wert مسألةً حاسمة. 

ووفقاً للتفصيل الجازم الذي قدمه ريكرت، لحكم القيمة الأسبقية على القيم.وعلى حدّ تعبيره، بمقدورنا حصر ظاهرة الفرد الفريد غير القابل للاختزال “in-dividual”، في مقابل الفرد “individual” المجرد، بوصفها موضوعاً متفرّداً لاستقصائنا التاريخي حين ننسب قيماً ذاتيةً معينة إلى التماسك الفردي وعدم قابلية الاختزال، وهي القيم التي تقف وراء فرادته. وفي نظريته بشأن علاقة القيمة- wertbeziehung، يسوق ريكرت الحجة بأنه ما زال بوسع ربط المواضيع التاريخية بالقيم الاحتفاظ بسريانه الموضوعي حين يستند إلى سلسلةٍ من الفوارق المفهاهيمية المسبوكة بوضوح، وهي فوارق ينبغي أن تقام بثبات ما بين قيم المحقق وقيم العامل التاريخي الخاضع للتحقيق، وما بين القيمة الشخصية أو الخاصة والقيم الثقافية العامة في الزمن المعني، وما بين حكم القيمة الذاتي وعلاقات القيمة الموضوعية. 

مع ذلك، من خلال هذه الصياغة، يعرب ريكرت عن افتراضين تكتنفهما درجةٌ عاليةٌ من الشك. فالافتراض الأول هو وجود قيمٍ معينةٍ لدى كل حضارة، وهي قيمٌ تلقى قبولاً شاملاً ضمن الحضارة المعنية بوصفها قيماً ساريةً. أما الافتراض الثاني فهو أنه ينبغي على مؤرّخ متحرر من أية انحيازات أن يوافق على ماهية هذه القيم. وتماماً كما يتوجب على العلوم الطبيعية افتراض “القوانين الطبيعية السارية على نحوٍ غير مشروط وشاملٍ”، ينبغي على العلوم الثقافية- التاريخية افتراض وجود “قيم ساريةٍ على نحوٍ غير مشروط وشامل”. إذا صحّ ذلك، فإن الحدث التاريخي الفريد وغير القابل للاختزال- in-dividual ينبغي أن يختزل إلى تجلٍّ فردي- individual للسيرورة الموضوعية للتاريخ، وهو استنتاج يعني ضمناً من الناحية الجوهرية أن ريكرت عاد إلى الاعتقاد المثالي الألماني بمغزوية التاريخ والسريان الموضوعي للقيم المتنوعة التي سنجدها في التاريخ. وفي نهاية المطاف، إنه لمن المتعذر على دراسة تجريبية في العلوم التاريخية أن تستغني عن ميتافيزيقا التاريخ. 

بيد أن مشكلة جسر الهوّة ما بين الواقع اللاعقلاني والمفهوم العقلاني في العلوم التاريخية، أو التغلّب على الفجوة اللاعقلانية- hiatus irrationalis  (على طريقة إميل لاسك)، دون اللجوء إلى ميتافيزيقا التاريخ ما زالت تحتفظ بحدتها. وفي حين أن فيبر قد قبل بالنموذج المفاهيمي الكانطي الجديد بشكل كبير كما فصّله ريكرت، إلا أنه غالباً ما انتقد هذه الإشكالية في كتاباته المنهجية.

2.2 الأخلاق: كانط ونيتشه

يبدو أن المثالية الألمانية قد مارست تأثيراً آخر دائماً على فيبر، وهو تأثيرٌ يمكننا أن نلمسه في نظرته الأخلاقية الشاملة أكثر مما هو ملموس في موقفه الإبستمولوجي، تأثيرٌ يظهر لديه في دفق الخطاب المثالي الذي تتبلور فيه الأخلاق الكانطية والحوارات النيتشوية بصورةٍ واضحة.

يبدو أن الطريقة التي فهم فيبر من خلالها كانط قد مرّت عبر النموذج المفاهيمي المحدد من قبل علم النفس الأخلاقي وعلم الإنسان الفلسفي. وفي معارضةٍ واعيةٍ للتبرير النفعي- الطبيعاني للفردانية الحديثة، نظر كانط إلى الفعل الأخلاقي بوصفه فعلاً مبدئياً ذاتي الانضباط، ومعبّراً عن الحرية الفطرية والاستقلال الذاتي في نفس الآونة. واستناداً إلى هذا المذهب الكانطي، سنلقى الحرية والاستقلال الذاتي في السيطرة الذرائعية على الذات والعالم (التموضع- objectification) وفقاً لقانون يصاغ من الداخل حصراً (التذوتن- subjectification). علاوةً على ذلك، يغدو هذا المركّب المتناقض ممكناً من خلال تقمّص مبدأٍ عقلانيٍّ مبهمٍ أو قبوله بصورةٍ متعمّدة، بما يقيه من الوقوع فريسةً للتذوتن المتعي الذي وجده كانط في الطبيعانية التنويرية وأعرب عن مقته له. وفي هذا الصدد، يتبع كانط خطى روسو في إدانة النفعية، فالسيطرة الذرائعية- العقلانية على العالم خدمةً لرغباتنا واحتياجاتنا تقودنا للارتكاس إلى الأنانية المنظمة. وللحيلولة دون ذلك، يجب أن تحلّ ممارسة الإرادة العقلانية الصرفة (Wille) محلّ حرية الاختيار المجرّدة والقائمة على الإرادة الانتقائية (Wilkur) [تايلور 1989، 364]. وهكذا، يشكّل ما يسمى بـ: “التحوّل الداخلي” المعلم الحاسم للقوة الأخلاقية المستقلة لدى كانط، بيد أن أساسه قد تغيّر بصورةٍ جوهرية، إذ ينبغي أن يتم بغرض خدمة هدفٍ أسمى، قانون العقل الشامل. وقد أضحى التحوّل الذاتي المتعمّد مطلوباً الآن لخدمة قانونٍ أسمى قائم على العقل، أو “قيمة عليا” بتعبير فيبر. 

اكتسى فهم فيبر لنموذج كانط الأخلاقي هذا بصبغةٍ قويةٍ من الجدل اللاهوتي البروتستانتي الذي كانت ألمانيا تشهده آنذاك ما بين (اللوثري التقليدي) ألبريخت ريتشل وماتياس شنيكنبرغر (الكالفني)، وهو السياق الذي اطلع عليه فيبر من خلال زميله في هايدلبرغ، ترويلتش. وحسبنا في هذا الصدد أن ننوّه إلى أن نقد فيبر الحاد للجماعانية اللوثرية عند ريتشل يبدو معبّراً عن انشغاله الكانطي الأوسع بالفردانية الذاتية الجذرية والتحوّل المنهجي للذات [غراف 1995].

بصفةٍ عامة، لعلّ المرء قد يقول: “كان لفيبر وكانط الانشغالات ذاتها حقاً، فعلى الرغم من أن أحدهما كان فيلسوفاً والآخر عالم اجتماع، إلا أن الاختلاف … يتوقّف عند هذا الحد” [غيلنر 1974، 184]. مع ذلك، إن ما يتوقّف أيضاً هو قبول فيبر بأخلاق الواجب عند كانط حين يتعلّق الأمر بإمكانية قانون العقل الشامل. كان فيبر على اطلاعٍ كبير على حقيقة أن الرابطة الكانطية بين الوعي الذاتي المتنامي وإمكانية العقل الشامل والفعل المبدئي، وبالتالي، الحر قد انقطعت.وقد نجح كانط في الحفاظ على الإدراك المتزعزع للفعل غير التعسفي والحرية الذاتية من خلال التأكيد على هذه الرابطة، التي اعتقد فيبر أنها غير قابلة للاستمرارية في عصره النيتشوي المزعوم.

ووفقاً لنيتشه، لا يمكن لـ: “إرادة الحقيقة” أن تقنع بالإنشاء الميتافيزيقي للسرديات الكبرى، سواءً أكانت ديناً توحيدياً أم علماً حديثاً، كما أن الوعي الذاتي المتنامي،أو “العقلنة” على طريقة فيبر، قد لا يقود إلا إلى الشكوكية الراديكالية أو النسبية القيمية لا بل وإلى الأسوأ من ذلك، اقرأ: العدمية. واستناداً إلى هذا التشخيص التاريخاني للحداثة والذي يبلغ أوجه مع “موت الإله”، يبدو البديل إما تأكيد الذات وخلق الذات على نحوٍ راديكالي بما يحتمل المجازفة بالتحوّل إلى التعسّف (كما في حالة نيتشه) أو الهجر الكامل للمثال المعاصر للذات المستقلة الحرة (كما في بواكير أعمال فوكو). وإذا قادت المقاربة الأولى إلى التأليه الراديكالي للإنسانية، وهو واحدٌ من التفرّعات المحتملة للإنسانية الحديثة، فإن المقاربة الثانية ستفضي بعناد إلى “نزع الألوهية” عن الإنسانية، وهو اتجاهٌ ما بعد حداثيٍّ مناوئٌ للإنسانية [فاتيمو 1988، 31- 47].

وبالنظر إليه من هذه الزاوية، يبدو الحس الأخلاقي لدى فيبر قائماً على رفضٍ راسخ للتأليه عند نيتشه والتخلّي عند فوكو على حدٍّ سواء، وكلاهما يتناقضان مع أخلاق الواجب عند كانط. بتعبيرٍ آخر، يمكننا أن نصف مشروع فيبر الأخلاقي بأنه بحثٌ عن الحرية غير التعسفية (جانبه الكانطي) في ما تصوّره كعالمٍ ما بعد ميتافيزيقي باطراد (جانبه المتعلق بنيتشه). وعلى حدّ تعبير بول هونيغشايم، أخلاق فيبر هي أخلاق “المأساة” وأخلاق “على الرغم من ذلك” [هونيغشايم 2013، 113]. ولعلّه من الواضح أن هذا التوتّر العميق بين الحتميات الأخلاقية عند كانط والتشخيص النيتشوي للعالم الثقافي الحديث هو ما يلقي بهذه الظلال المأساوية واللاأدرية على نظرة فيبر الأخلاقية الشاملة. 

3. التاريخ

1.3 العقلنة كوحدة موضوعية

هكذا يتضح، مع ذلك، أن إسهام فيبر الرئيسي لا يكمن في الإبستمولوجيا أو في الأخلاق. فعلى الرغم من أنه يضرب جذور فكره عميقاً فيهما إلى درجة لازالت لا تنال حقّها من التقدير، إلا أن هاجسه الرئيسي كان في مكانٍ آخر. ففي نهاية المطاف، كان فيبر واحداً من مؤسسي علم الاجتماع الحديث. وبعيداً عن الإقرار والتقدير، إن عدم كونه ببساطةٍ عالم اجتماعٍ لا يضاهى، وفقاً لما خلص إليه تالكوت بارسونز في تفسيره الذي صاغه على نسق دوركايم، محدداً اتجاهاً رئيسياً مهيمناً على مختلف أعماله، مازال خاضعاً لنقاشٍ لما يقترب من الحسم بعد منذ أيامه عينها. لقد نُشِرَ مؤلَّفه “الاقتصاد والمجتمع- Economy and Society“، الذي يعتبر تحفة أعماله- magnum opus، عقب مماته وتكفّلت أرملته بتحريره، وإنه لمن غير المرجح أن يعاد إنشاء هيكله الموضوعي بعيداً عن الشكوك حتى بعد إعادة إصداره مؤخراً تحت العنوان: “ماكس فيبر- الأعمال الكاملة- Max Weber Gesamtausgabe . يشكّل عمله “علم الاجتماع الديني” كلاً أكثر تماسكاً إذ تولّى فيبر نفسه تحريره. ومع ذلك، تبقى علاقته بأبحاثه السوسيولوجية الأخرى، ومنها على سبيل المثال: سوسيولوجيا القانون، والمدينة، والموسيقا، والهيمنة، والاقتصاد، مثاراً للجدل. بناءً عليه، لطالما ساد الاعتقاد، بدرجاتٍ متفاوتة، بأن موضوعه الرئيسي هو التاريخ التطوّري للعقلانية الغربية (فولفغانغ شلوختر)، أو التاريخ الشامل للثقافة العقلانية (فريدريش تينبروك) أو ببساطة الطبيعة الإنسانية- Menschentum  حيث تنشأ وتندثر في المجتمع العقلاني الحديث (فلهلم هينيس). ويصوّر الأول فيبر بوصفه عالماً في مجال علم الاجتماع التاريخي المقارن. أما الثاني، فيقدّمه كمؤرّخ مثاليّ معاصر للاستذكار الثقافي الذي ابتكره ياكوب بوركهارت. في حين أن الثالث يصفه كفيلسوفٍ سياسي، مساوياً بينه وبين مكيافلي، وهوبز، وروسو. وبصرف النظر عن أهميتها للإدراك الداخلي لفيبر، بيد أن هذه النزاعات الفلسفية ينبغي ألا تعيق محاولتنا للقبض على زبدة أفكاره. فحسبنا أن نقر، وإن بدرجات متفاوتةٍ من التشديد، بأن هذه التفسيرات جميعها تتمحور حول المركزية الموضوعية للعقلانية والمذهب العقلاني والعقلنة في فهم فيبر.

بادئ ذي بدء، إن ما يصعق الدارس لأطروحة العقلنة عند فيبر بشكلٍ فوري هو ما يبدو عليها من عدم قابلية الانعكاس ومركزيتها الأوروبية. ويسود الاعتقاد بأن التخيّل الرؤيوي للـ: “قفص الحديدي”، الذي يتكرر مراراً في الصفحات الختامية لكتابه: “الأخلاق البروتستانتية”، يعكس تفكيره القدري حول البسط المتعنت للعقلنة وذروتها في الخسارة الكاملة للحرية والمعنى في العالم الحديث. كما ترد في مقدمة “المؤلف”- Vorbemerkung  لكتاب “علم الاجتماع الديني فقرات متكررة يفصح فيها فيبر عن إيمانه بالتفرّد الفريد الذي يميّز إنجاز الحضارة الغربية في توجيه العقلنة أو عوزها في أرجاء العالم الأخرى. فعلى سبيل المثال:

إنه لمن المحتم لطفلٍ من أبناء الحضارة الأوروبية المعاصرة (Kulturwelt)، ممن يدرسون مشكلات التاريخ العالمي، أن يطرح على نحوٍ مبررٍ السؤال (Fragestellung) التالي: ما هي توليفة الظروف التي أفضت إلى حقيقة أنه في الغرب، وهنا فقط، قد ظهرت الظواهر الثقافية التي، على الأقل كما نحب أن نعتقد، أصبحت ذات مغزىً وسريانٍ عالميين- universal ؟ [فيبر 1920/ 1992، 13].

فإذا نظرنا إلى العقلنة ككلٍ متكامل، ستبدو سيرورة العقلنة، وفقاً لسردية فيبر، قريبةً تماماً من الغائية الميتاتاريخية التي تفصل الغرب عن الشرق بصورةٍ نهائيةٍ، لا بل فوقية.

على الرغم من ذلك، إن فيبر، في الوقت عينه، ينكر بشدة إمكانية صياغة قانون شامل للتاريخ من خلال مقالاته المنهجية. لا بل وفي نفس صفحات مقدمة المؤلف- Vorbemerkung كتب ما يلي: “لقد تمت عمليات عقلنة على درجةٍ عاليةٍ من الاختلاف من حيث سماتها ضمن مناحٍ مختلفة من الحياة وفي جميع المجالات الثقافية” [المصدر أعلاه، 26]. ناهيك من أنه أوضح أن أنه لدى تناول دراسته للأشكال المختلفة للديانات العالمية، فينبغي التركيز على قيمتها الكشفية دون اعتبارها “تحليلاً ناجزاً للثقافات، وإن بإيجاز” [المصدر نفسه 27]. لقد رمى من تلك الدراسة إلى إرساء منصةٍ مفاهيمية- مقارنة ليقيم عليها الخواص الثقافية للعقلنة في الغرب. فإذا كانت مجرّد أداةٍ كشفية وليست قانوناً عالمياً للتقدم، إذاً ما هي العقلنة؟ وأنّى تأتي رؤيته المريرة التي لا يتزحزح عنها؟

2.3 قابلية الحساب وقابلية التوقع والسيطرة العالمية

بصورةٍ عامة، تجري العقلنة في جميع مناحي الحياة البشرية، بدءاً بالدين، مروراً بالقانون، ووصولاً إلى الموسيقا والفن المعماري، وهي تعني قوةً محرّكةً نحو عالمٍ يمكن للمرء من خلاله “أن يسيطر، بالمبدأ، على جميع الأمور من خلال الحساب” [فيبر 1919/1946، 139]. فعلى سبيل المثال، تعد الرأسمالية الحديثة طريقةً عقلانية للاقتصاد والحياة لأنها تعتمد على عملية للإنتاج قابلةٍ للحساب. ويعزز هذا البحث عن قابلية الحساب الدقيقة الابتكارات المؤسسية من قبيل المحاسبة المالية (ولاسيما القيد المزدوج في مجال حفظ الدفاتر والسجلات المحاسبية)، ومركزة السيطرة على الإنتاج، وفصل العمل عن وسائل الإنتاج، وتوريد العمل الرسمي المجاني، والسيطرة المضبوطة على أرض المصنع، وغيرها من الخصال التي تتسم بها الرأسمالية الحديثة بما هو مختلف كمياً عن جميع الطرق الأخرى لتنظيم الحياة الاقتصادية. وتستند قابلية حساب عملية الإنتاج أيضاً إلى المجالات غير الاقتصادية، مثل القانون والإدارة. فالشكلانية القانونية والإدارة البيروقراطية تعززان عناصر قابلية التوقع في الأوساط الاجتماعية السياسية التي تثقل كاهل الرأسمالية الصناعية من خلال الاعتماد الرسمي للمساواة في المواطنة، وتشريعات المعايير القانونية على أساس الالتزام بالقوانين، والقضاء المستقل، والبيروقراطية الاحترافية البعيدة عن التسييس. علاوةً على ذلك، لما كانت قابلية القياس وقابلية التوقع هاتان ممكنتين في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية دون التغييرات في القيم ضمن الأخلاق والدين وعلم النفس والثقافة. لقد كانت العقلنة المؤسسية، بتعبيرٍ آخر، متوقعةً عند نهوض النوع العقلاني (على نحوٍ غريب) للشخصية، أو “شخصية صاحب المهنة- Berufsmensch” كما هو مبينٌ بإيجازٍ في “الأخلاق البروتستانتية”. وكحصيلةٍ لهذا التفاعل المعقد بين الأفكار والاهتمامات، جاءت الحضارة الغربية العقلانية الحديثة بطاقاتها المادية والثقافية الهائلة على سيطرةٍ عالمية لا هوادة فيها. 

3.3 المعرفة والتجرّد والسيطرة

على مستوىً تحليليٍّ أعلى، بمقدورنا الاعتقاد بأن جميع عمليات العقلنة المتفاوتة هذه هي معرفة مطردة، وتجرّد متنامٍ، وسيطرةً متحسّنة [بروبيكر 1991، 32- 35]. ولتناول المعرفة بدايةً، يقوم الفعل العقلاني بمعنى مغرقٍ في العمومية بافتراض المعرفة مسبقاً. يتطلّب الأمر شيئاً من المعرفة بظروفنا المتخيّلة والمادية التي تكتنف فعلنا طالما أن التصرّف بعقلانية يعادل التصرّف على أساس التفكير الواعي بالعواقب المحتملة للتصرّف (الفعل) المعني. وبالتالي، تتميّز المعرفة التي تؤسس للفعل العقلاني بطبيعتها السببية المتصورة على أساس العلاقات بين الوسيلة والغاية، وهي تطمح إلى كلٍّ منهجيٍّ مترابطٍ منطقياً. وتشكّل المعرفة العلمية والتكنولوجية الحديثة ذروةً لهذه العملية التي دعاها فيبر بالعقلنة، التي تم في سياقها الدفع ببطءٍ بالأسس الناشئة للمعرفة الإنسانية في الماضي، مثل الدين واللاهوت والميتافيزيقا، إلى الخلف نحو مجال الخرافة والباطنية، أو اللاعقلانية بكل بساطة. ويزعم فيبر أن هذه العملية التدريجية للتحرر من السحر-  Entzauberung لم تبلغ منتهاها الراديكالي إلا في الحضارة الغربية الحديثة.

ولنتطرق، ثانياً، إلى التجرد. تستلزم العقلنة، وفقاً لفيبر، التموضع-  Versachlichung. فبادئ ذي بدء، تعمد الرأسمالية الصناعية إلى اختزال العمال إلى مجرّد أرقامٍ في دفاتر الحسابات، متحررةً تماماً من قيود التقليد والاعتبارات غير الاقتصادية، وهذا هو دأب علاقة السوق إزاء المشترين والبائعين. ومن جهةٍ أخرى، إثر تخلّيها عن مبدأ عدالة القاضي (أي القضاء المشخصن المستعجل)، تفرض القوانين والإدارة الحديثة حكمها من خلال الالتزام التام بالمواثيق الرسمية المنهجية دونما غضب أو عاطفة sine ira et studio. ومن جديد، لم يعثر فيبر على بذرة التموضع في المصالح المادية وحدها، وإنما في الأخلاق المهنية البيوريتانية (التطهيرية)- Berufsethik وإدارة الحياة التي ألهمتها، والتي جرى التنبؤ بها استناداً إلى عدالة إلهية توحيدية منزوعة السحر اختزلت البشر إلى مجرد أدوات للعناية الإلهية.

وللمفارقة، بالنسبة لفيبر، وُلدت الذاتية الداخلية الحديثة بمجرد أن فقدنا أي قيمة فطرية بوصفنا بشراً وغدونا متموضعين بشكلٍ تام مقابل الإله ضمن مسار الإصلاح. يتذوتن الفرد الحديث ويتموضع في نفس الآونة.

أما ثالثاً، فيتعلّق الأمر بالسيطرة. تتغلغل السيطرة المطردة في الحياة الاجتماعية والمادية في وجهة نظر فيبر بشأن العقلنة. فقد حسّنت العقلنة العلمية والفنية كثيراً من المقدرة الإنسانية على السيطرة على الطبيعة والانضباط الممأسس من خلال الإدارة البيروقراطية، والشكلانية القانونية والرأسمالية الصناعية. وتبلورت السيطرة المنضبطة والقابلة للحساب على البشر، من جديدة، كعاقبةٍ للأخلاق البيورتانية (التطهيرية) للانضباط الذاتي الصارم وضبط النفس، أو لما يدعوه فيبر بـ: “الزهد الباطني- innerweltliche Askese“. 

هنا أيضاً، يلحظ فيبر المفارقة في أن المواطن الفرد الحديث المتمتّع بحقوقٍ لا تمس قد وُلد كجزءٍ من روح الجماعة التي أخذت تتغلغل باطراد في كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية.

4. الحداثة

1.4 “القفص الحديدي” وتشظّي القيمة

بالنظر إلى العقلانية على هذا النحو، سيتبين لنا أنها، كما افترضها فيبر، بعيدةٌ كل البعد عن كونها ظاهرةً تاريخيةً جلية. وكما ذكرنا آنفاً، أولاً، نظر فيبر إلى العقلنة بوصفها سيرورة تأخذ مجراها في مناحٍ متفرّقة من الحياة البشرية بمنطق التوجهات الخاصة والمتغيرة لكل من هذه المناحي، “قد تتم عقلنة كل منحى على أساس قيمٍ عليا وغاياتٍ مختلفة جداً، وما يكون عقلانياً من وجهة نظرٍ ما قد يبدو لاعقلانياً البتة من وجهة نظرٍ أخرى” [فيبر 1920/ 1992، 27]. ثانياً، والأهم، يرى فيبر تفرّعها الأخلاقي متناقضاً بعمق. ولعلنا نستخدم تقسيمه الثنائي إذ نشير إلى أن العقلانية الرسمية- الإجرائية- Zweckrationalität التي تميل العقلنة الغربية صوبها لا تنسجم بالضرورة مع عقلانية جوهرية القيمة Wertrationalität. فمن جهة أولى، تتقلّص الحرية والقدرة بفعل القوة ذاتها في التاريخ حين يُختزل الأفراد إلى “ترسٍ في آلة”، أو يلقون أنفسهم عالقين في “قفص حديدي” استحدثته العقلنة الرسمية بفعاليةٍ لا تقاوم وعلى حساب العقلانية الجوهرية.  وهكذا، يأتي رثاؤه الشهير في “الأخلاق البروتستانتية”:

لا أحد يعلم من سيعيش في هذا القفص- Gehäuse في المستقبل أو فيما إذا كان هذا التطوّر الهائل سيؤول إلى بروز أنبياء جدد، أو فيما إذا كانت الأفكار والمُثُل القديمة ستنهض نهضةً عظيمةً من جديد، أو إذا لم يكن أي مما ورد، فربما يكون التحجّر الممكنن المزخرف بنوعٍ من الاختيال المتشنج. وعن الإنسان الأخير- letzten Menschen في خضمّ هذا التطوّر الثقافي، قد يصحّ القول: “أخصائي فاقد للروح، شهواني دون قلب، هذا اللاوجود الذي يتخيّل أنه قد أحرز مستوىً من الإنسانية-  Menschentums لم يسبقه إليه أحد” [فيبر 1904- 05/1992، 182].

ثالثاً، لا يتصوّر فيبر مستقبل العقلنة استناداً إلى “التحجر الممكنن” فحسب، وإنما من حيث الإغراق الفوضوي الهزيل بالقيم الذاتية أيضاً. بتعبيرٍ آخر، لا يشكّل “القفص الحديدي” البيروقراطي إلا جانباً واحداً من الحداثة التي جاءت بها العقلنة، وأما الجانب الآخر فهو تعددية الآلهة- polytheism الناجمة عن تشظّي القيمة. وفي ذروة العقلنة، نجد أنفسنا، نحن أبناء العصور الحديثة، نعيش فجأةً “كما عاش القدماء حين لم يكن سحر الآلهة والشياطين قد نُزع من عالمهم بعد”[فيبر 1919/ 1946، 148]. يبدو أن فيبر يقول إن السحر أعيد ثانيةً إلى المجتمع الحديث نتيجةً لنزع السحر عينه. فكيف حدث ذلك؟ وما هي العواقب؟

2.4 إعادة السحر الناجمة عن نزع السحر

في واقع الأمر، يمكننا فهم أطروحة العقلنة لدى فيبر بصورةٍ أبهى وأكثر ثراءً إذا ما قاربناها، نظراً لنقص المصطلحات، بوصفها علاقةً جدلية ما بين نزع السحر وإعادته بدلاً من اعتبارها سيرورةً للعلمنة أحادية الخطية وأحادية الجانب. كان نزع السحر قد دخل في الأديان التوحيدية في الغرب. وفي الممارسة، هذا يعني أن المسلّمات الخاصة بإدارة الحياة قد انحسرت تدريجياً لتحل محلّها منظومةٌ إجمالية موحدة من المعنى والقيمة، والتي بلغت ذروتها تاريخياً في الأخلاق البيورتانية (التطهيرية) للمهنة. وفي هذا السياق، المفارقة هي أن نزع السحر كان سيرورةً جارية على الرغم من ذلك. وفي طوره الثاني، نحّى نزع السحر الدين التوحيدي جانباً بصفته شيئاً لاعقلانياً وبهذا نزع عنه شرعيته بصفته وجهة نظرٍ شاملة في العالم المدني المعاصر.

وفي حين كان العلم الحديث المسؤول الوحيد عن هذا التطوّر الأخير، فقد تم الترحيب به بوصفه منظومةً بديلة لخلق القيمة على نحوٍ تسلسلي، كما وجد فيبر في قناعات بيكون (العلم بوصفه “طريقاً إلى الطبيعة الحقة”) وديكارت (بوصفه “طريقاً إلى الإله الحق”)[فيبر 1919/ 1946، 142]. على الرغم من ذلك، بالنسبة لفيبر، العلم الحديث هو مشروعٌ عدمي عميق لابدّ فيه لأي إنجازٍ علميٍّ جدير بهذا الاسم “أن يطلب أن يتم تجاوزه وهجره” ضمن سيرورةٍ “لا حدود ولا نهاية لها من حيث المبدأ”، وعند هذه النقطة ترانا “نصل إلى مشكلة معنى العلم”. وقد مضى يطرح السؤال: “لأنه ببساطةٍ من المتعذر الإثبات التلقائي بأن الشيء الخاضع لقانونٍ كهذا هو ذو مغزى وهو عقلاني. إذاً، لماذا يجب على المرء القيام بشيءٍ لن يبلغ غايةً في الواقع بل ولن يكون بمقدوره ذلك؟” [نفس المصدر، 138]. باختصار، لم يتوانَ العلم الحديث عن تفكيك جميع مصادر خلق القيمة، الذي جرى ضمن مساره تبديد معنى هذا العلم نفسه على نحوٍ يتعذّر إصلاحه. والنتيجة هي انهيار- Götterdämmerung جميع وجهات النظر التقييمية” بما فيها وجهة نظر العلم الحديث بحد ذاته [فيبر 1904/ 1949، 86]. 

وهكذا مضت وجهة النظر الشاملة الموحدة بلا رجعة، سواءً أكانت دينية أم علمية، وعاقبة ذلك هي تشظيها إلى مجالات قيمةٍ متنافرة. فعلى سبيل المثال، نوّه فيبر إلى أنه: “منذ نيتشه، بتنا ندرك أن شيئاً ما قد يكون جميلاً على الرغم من جانبه غير الجيد، وليس كذلك فقط، وإنما قد يكون جميلاً في ذلك الجانب عينه” [فيبر 1919/ 1946، 148]. هذا مما يعني أن القيم الجمالية اليوم تتخذ موقف التناقض التام مع القيم الدينية، محوّلةً “أحكام القيمة- Werturteile إلى أحكام ذائقة- Geschmacksurteile، التي من خلالها يغدو ما هو خليقٌ بالشجب مجرّد شيءٍ لا يناسب الذائقة- tasteless” [فيبر 1915/ 1946، 342].     

إذن لا يتصوّر فيبر أن السرديات الكبرى للديانة التوحيدية والعلم الشامل ستنحل بسلام إلى سلسلةٍ من السرديات المحلية والثقافة التعددية الحديثة الناتجة التي تتبع فيها ممارسات ثقافية مختلفة منطقها الجوهري. بل إن رؤيته لإعادة السحر التعددية تتسم بتشظٍّ متعذر قياسه للقيمة إلى تعددية من السرديات الكبرى، التي يدعي كل منها أنه يوفّر الإجابة على نفس الأسئلة الميتافيزيقية التي سعى الدين والعلم إلى مواكبتها بطرقهما الخاصة. لقد وصل الموت البطيء للإله إلى ذروته من خلال عودة الآلهة والشياطين التي تسعى إلى: “بسط نفوذها على حياتنا لتستأنف … ثانيةً صراعها الأزليّ فيما بينها” [فيبر 1919/ 1946، 149]. 

وإننا، إذ نقارب المسألة بهذه الطريقة، لا ريب سنجد أنه من المنطقي أن تخلص أطروحة العقلنة لدى فيبر إلى نبوءتين متناقضتين إلى درجةٍ صاعقة، تتعلّق أولاهما بالقفص الحديدي الوشيك في ما يخص التحجّر الديمقراطي، والثانية تخص التعددية الهيلنستية للآلهة المحاربة. لقد وصل العالم الحديث إلى التوحيد والتعددية في آنٍ واحد. وما يبدو كامناً في هذا التصوّر المتناقض ذاتياً (كما يبدو) للعالم هو مشكلة الإنسانية الحديثة-  Menschentum وخسارتها للحرية والقوة الأخلاقية. لقد أفضى نزع السحر إلى خلق عالم فاقدٍ لأساسٍ يمكن التحقق منه موضوعياً لتقام عليه قناعة المرء. وفي ظل هذه الظروف، كما يرى فيبر، يجنح الفرد الحديث إلى عدم التصرّف إلا وفقاً لدوافعه الجمالية وقناعاته التعسفية الخاصة، والتي يتعذر عليها الوصول إلى الأرجحية؛ في حين أن أغلبية أولئك الذين يعجزون عن التصرّف وفقاً لقناعاتهم، أو “آخر البشر الذين ابتكروا السعادة” على حدّ تعبير نيتشه، سيعيشون حياة “الترس في الآلة”. وفيما إذا كانت مشكلة الحداثة تُفسّر على أساس تغلغل العقلانية الموضوعية الذرائعية أو اندلاع القيم الذاتية دونما هدفٍ محدد، رأى فيبر أن تينك الصورتين تشكّلان مشكلةً واحدة طالما أنهما تسهمان في جمود الفرد الحديث، الذي أخفق في اتخاذ تصرّفات أخلاقية مبدئية. فقد شكّل “المنغمس في الملذات والفاقد للقلب” و”الأخصائي الفاقد للروح” وجهين لعملةٍ واحدة بوسعنا أن ندعوها: تجريد الذات الحديثة من القوة.

3.4 الحداثة مقابل التحديث

هكذا، اتخذت الأمور مناحي مختلفة، كما ذهب فيبر. ثمة معنى حاسمٌ للقناعة التي استندت إلى لا شيء خلا الشخصية الجوانية انبثق مرةً واحدةً من خلال إدارة الحياة على نحو منظّم ومنضبط، أو الحياة بصفتها واجباً ببساطة. وبينما وُلِدَ هذا الطراز البدائي من الذاتية الحديثة في بوتقة الإصلاح، فإنه لم يستمدّ قوته إلا من الداخل بمعنى أن مبدأ الفعل لدى المرء قد حُدِّد بحاجة المرء النفسية الخاصة لإحراز توكيد الذات. كما أن الطريقة التي تمت من خلالها ممارسة هذه الذاتية المستبطنة عميقاً، لنَقُل السيطرة على الذات، قد استلزمت موقفاً منسقاً على مستوىٍ رفيع من العقلانية والراديكالية تجاه الذات الداخلية للمرء والعالم الموضوعي الخارجي. وإذ حوّلت القيمة الذاتية والعقلانية الموضوعية الذات إلى شخصيةٍ متكاملة وسيطرتا على العالم بطاقةٍ لا تكلّ، فهما قد شكّلتا مرةً واحدةً “كلاً عصيّاً على الكسر” [فيبر 1910/ 1978، 319]. وقد دعى فيبر وسيلة هذه الوحدة بـ: “الشخص صاحب المهنة- Berufsmensch” في كتاباته الدينية وبـ: “الشخصية- Persönlichkeit” في مقالاته المنهجية، وبـ: “السياسي القح- Berufspolitiker” في كتاباته السياسية و”الفرد المتمتع بالكاريزما” في مؤلفه: الاقتصاد والمجتمع. وقد شكّلت أطروحته “الأخلاق البروتستانتية” التي تلقى حفاوةً كبيرةً إعادة إنشاء نَسَبِيَّة لهذه القوة الأخلاقية التمييزية في العصور الحديثة [غولدمان 1992].

كما اختلفت أيضاً الطريقة التي تشكّل بها المجتمع بهذا النوع من القوة الأخلاقية وغدا مشكّلاً لها بدوره. كشف المخيال الاجتماعي لدى فيبر النقاب عن حس التهكم الحاد لديه حين تعقّب جذور التكامل المتماسك والتحويل الاشتراكي المكثّف والانضباط الاشتراكي الصارم لدى النقابات الأشبه بالطوائف، حتى الذاتية المنعزلة والباطنية، للشخص البيوريتاني صاحب المهنة. وتكمن المفارقة في أن الفضائل المستوعبة ذاتياً والمسكونة بالقلق، بل والانطوائية، لدى صاحب المهنة قد لا تستمر إلا في الأجواء المنضبطة الصارمة التي تسود النطاق المحدود للحياة النقابية. فالعضوية في الحياة النقابية الحصرية الطوعية مفتوحة، وهذه العضوية أو “السمة المنجزة” هي ما يضمن السمات الأخلاقية للأفراد التي معها يتفاعل المرء. “تتحكم ‘روح الطائفة’ القديمة، بتأثير لا هوادة فيه، بالطبيعة الفطرية لتلك النقابات” على حدّ تعبير فيبر، فقد شكّلت الطائفة أول تنظيم جماعي يؤلّف بين قوة الفرد والانضباط الاجتماعي بطريقةٍ منهجية. وبهذا، يدعي فيبر أن “الجماعات المتنسكة والطوائف شكّلت … أحد أبرز الأسس للفردانية الحديثة” [فيبر 1920/ 1046، 321]. ويبدو واضحاً أن ما كان فيبر يحاول إيجازه في هذا المقام هو الشكل البدائي للتنظيم الاجتماعي الذي يسعه تمكين القوة الأخلاقية الفردية من خلال دعم دينامية الانضباط لدى الجماعة، وهذا نوع من الحياة الاجتماعية المنظمة على أساس التعددية ونحن ندعوه اليوم بـ: “المجتمع المدني” [كيم 2007، 57- 94].

بإيجاز، استمدت المفارقة التي فسّر بها فيبر العقلنة زخمها من التوتر المتعمق بين الحداثة والتحديث. إذ تنشأ مشكلة فيبر مع الحداثة من حقيقة أنها تطلّبت مجموعةً فريدةً تاريخياً من القيم الثقافية والمؤسسات الاجتماعية، ومع ذلك، قوّض التحديث الأساس الثقافي للفردانية الحديثة فضلاً عن تربتها المتكوّنة في المجتمع الانضباطي، واللذين منحا معاً الحداثة زخمها الأصلي. لقد وقع المجتمع الحديث ضحيةً لنجاحه الخاص، وغدت القوة الأخلاقية الفردية والحرية في خطر. وفي ظل الظروف الحديثة الأخيرة المتسمة بـ: “القفص الحديدي” و”الآلهة المتحاربة”، يصبح سؤال فيبر: “كيف يكون ممكناً من الأساس إنقاذ رفات حرية الحركة عند “الفرد” بأي معنى نظراً لهذا الاتجاه شديد القوة؟” [فيبر 1918/ 1994، 159]. 

5. المعرفة

لعلّ هذا التقييم لإشكالية فيبر الرئيسية، التي تنتهي بالتشكيك بحرية الفرد الحديث، قد يساعد على تسليط الضوء على عددٍ من الجوانب المثيرة للجدل في منهجية فيبر. وإزاء تفسير حججه المنهجية، ينبغي علينا الأخذ في الحسبان أن فيبر لم يكن مهتماً أبداً بكتابة أطروحة إبستمولوجية منهجية ليضع حداً “للنزاع المنهجي- Methodenstreit” السائد في زمنه بين التاريخانية والوضعية، بل كان طموحه أكثر تواضعاً وعملانيةً بكثير. تماما مثل “الشخص الذي يحاول المشي من خلال التطبيق المستمر لمعرفته التشريحية فيكون عرضةً للتعثر” [فيبر 1906/ 1949، 115]. وهكذا، يغدو بمقدور المنهجية أن تشكّل ذلك النوع من المعرفة الذي يمكن أن يورّد حكم التجربة، المسمى أيضاً بالاستدلال البعدي، لما يفعله المؤرخون وعلماء الاجتماع، ولكنها تعجز أبداً عن الحلول محل المهارات التي يستخدمونها في ممارسة أبحاثهم. بدلاً من ذلك، كان مسعى فيبر إلى تسوية الخلاف ما بين التاريخانية والوضعية يرمي إلى مساعدة الباحث الفعلي على تكوين حكم قيمة عملي ومنصف ومقبول في مجابهة وفرة القيم الذاتية التي يواجهها المرء حين يختار معلومات تاريخية ويعالجها. في نهاية المطاف، تمحورت الأسئلة التي دفعت تأملاته المنهجية قدماً حول ما تعنيه ممارسة العلم في العالم الحديث متعدد الآلهة والكيفية التي يمكن للمرء من خلالها القيام بالعلم بمعنى المهنة. وعلى حدّ تعبيره: “إن القدرة على التمييز بين المعرفة التطبيقية وأحكام القيمة، وأداء الواجب العلمي برؤية الحقيقة الواقعية فضلاً عن الواجب العملي بالمنافحة عن مُثُلنا الخاصة، جميعها تشكّل البرنامج الذي نأمل أن نلتزم به بثبات مطردٍ أبداً” [فيبر 1904/ 1949، 58]. وهكذا، يستنتج شيلدون ولين أن فيبر “صاغ فكرة المنهجية لا لتؤدي دورها ببساطةٍ كدليلٍ للتحقيق والتحري وحسب، وإنما كممارسةٍ أخلاقية وطريقةٍ للفعل السياسي” [ولين 1981، 414]. وباختصار، اتسمت منهجية فيبر بكونها أخلاقية بقدر ما هي إبستمولوجية. 

1.5 الفهم (Verstehen)

بناءً على الاسمية الكانطية الجديدة الموجزة أعلاه في الفقرة 1.2، يركّز فيبر جلّ اهتمامه بخصوص المنهجية على مسألة الموضوعية ودور القيم الذاتية في تشكيل المفهوم التاريخي والثقافي. فمن جهة أولى، سار فيبر على خطى فندلباند إذ خلص إلى أن المعرفة التاريخية والثقافية تتميز فئوياً عن المعرفة العلمية الطبيعية. فالفعل الخاضع لأي استقصاء علمي اجتماعي يختلف بصورةٍ واضحةٍ عن السلوك المجرد. وبينما يسعنا تفسير السلوك دون الإحالة إلى الدوافع الداخلية، وبالتالي، بمقدورنا اختزاله إلى مجرد أرقامٍ كلية لإرساء الانتظامات الموضوعية، بل وحتى قوانين السلوك الجمعي، لا يمكن تفسير الفعل إلا لكونه قائماً على إسنادٍ ذاتي راديكالي للمعنى والقيم إلى ما يفعله المرء. فما يسعى العالم الاجتماعي إلى فهمه هو هذا البعد الذاتي للسلوك الإنساني من حيث ارتباطه بالآخرين. ومن جهةٍ ثانية، لا يتم إرساء الفهم- Verstehen بهذا المعنى الذاتي على اعتناقٍ لامعرفي أو تقييم حدسي منافٍ للعقل بطبيعته، فبمقدوره اكتساب السريان الموضوعي لدى تقديم شرح موضوعي للمعاني والقيم المطلوب فهمها، أي كوسيلةٍ مفضيةٍ إلى غاية. فلاشكّ أن الصياغة السياقية للفعل ضمن إطار رابطة الوسيلة- الغاية تعدّ شرطاً مسبقاً لتقديم تفسيرٍ سببي يمكن تأكيده موضوعياً. وحتى هذه اللحظة، لا ينشأ أي اختلاف جوهري ما بين فيبر وريكرت.

مع ذلك، من وجهة نظر فيبر، إن المشكلة التي أثارتها صياغة ريكرت هي موضوعية الغاية التي يتم التمسك بأن الفعل يصبو إليها. وكما أسلفنا الإشارة في الفقرة 1.2 أعلاه، توجّب على ريكرت في النهاية أن يعتمد على معايير محددة عابرة للتاريخ والثقافة ليفسّر غرض الفعل المعني، وهو افتراض من المتعذر إثباته كما يرى فيبر. بدلاً من ذلك، وانسجاماً مع الافتراضات الكانطية الجديدة، يجب أن يتم تصوّر الغايات بحد ذاتها بوصفها على ذات القدر من الذاتية، وليس أقل من ذلك. يتميز إسناد الغاية إلى فعلٍ بكونه ذا طبيعةٍ تخييلية بمعنى أنه ليس خالصاً من حكم القيمة الذاتي الذي يشكّل شرطاً لموضعة- thematization موضوعٍ معين من بين “عددٍ لا يحصى من الأحداث الناشئة والمتلاشية على نحوٍ متعاقبٍ ومتزامنٍ على حدّ سواء” [فيبر 1904/ 1949، 72]. وعلى الرغم من أن التحليل المضاد للواقع قد يساعد على إرساء الاستقرار ضمن سيرورة الإسناد السببي، إلا أنه ليس بمقدوره الاستغناء بشكلٍ كامل عن الطبيعة الذاتية التي تسم منظور الباحث.

في نهاية المطاف، إن نوع المعرفة الموضوعية التي قد تحققها العلوم التاريخية والثقافية هو محدودٌ على نحوٍ بعيدٍ عن الاستقرار. وقد يتم تفسير الفعل بسريانٍ موضوعي على مستوى الوسائل فقط دون الغايات. مع ذلك، إن الغاية، وإن كانت مثبتة ذاتياً، ذاتيةٌ على نحوٍ لا يقبل الاختزال، وهي بهذا تتحدى الفهم الموضوعي؛ إذ لا يمكن أن نعيد إنشاءها مفهومياً إلا استناداً إلى قيم الباحث التي لا تقل ذاتيةً. إذن، إن الموضوعية في العلوم التاريخية والاجتماعية لا تشكّل هدفاً يمكن بلوغه بمساعدة المنهج الصحيح، وإنما هي مثال يجب أن يخاض النضال لأجله دون الاستبشار ببلوغه في النهاية. وبهذا المعنى، لعلنا نقول إن ما ندعوها بـ: “حرية القيمة- Wertfreiheit” تعدّ مبدأً منهجياً بالنسبة لفيبر بقدر ما هي الفضيلة الأخلاقية التي قد تتمتع بها الشخصية المتواءمة مع العلم الحديث.

2.5 النوع النموذجي

توفّر منهجية “النوع النموذجي –Idealtypus دليلاً آخر على هذا المقصد الأخلاقي لدى فيبر. ووفقاً لتعريف فيبر: “يتشكّل النوع النموذجي من خلال التشديد أحادي الجانب على وجهة نظرٍ واحدة أو أكثر”، والتي وفقا لها “ترتصف الظواهر الفردية الملموسة ضمن بناءٍ تحليلي موحّد- ” Gedankenbild“، وبطبيعتها التخييلية الصرفة، إنها “طوباوية” منهجية “من المتعذر العثور عليها تطبيقياً في أي مكانٍ من الواقع” [فيبر 1904/ 1949، 90]. وإنه إذ يدرك بصورةٍ قاطعة طبيعته التخييلية، فإن النوع النموذجي لا يسعى إلى ادعاء سريانه من حيث إعادة تكاثره في الواقع أو مطابقته له. ولعلّه لن يكون بوسعنا التحقق من سريانه إلا من حيث كفايته، التي يتجاهلها مؤيدو الوضعية بارتياحٍ مطلق. لكن هذا لا يعني أن الموضوعية، بالمحدودية التي هي عليها، يمكن أن تُحرز من خلال “ترجيح التقييمات المتنوعة مقابل بعضها البعض وإجراء تسويةٍ بينها، على غرار ما يقوم به رجال الدولة” [فيبر 1917/ 1949، 10]، مما يتم اقتراحه غالباً كحلٍّ من قبل أولئك من يشاركون فيبر في النوع الذي يحدده للمنظورية المنهجية. ليست هذه الممارسة، التي يدعوها فيبر “توفيقية”، مستحيلة وحسب، وإنما هي تفتقر للأخلاق لأنها تتحاشى “الواجب العملي بالمنافحة عن مُثُلنا الخاصة” [فيبر 1904/ 1949، 58].

وفقاً لفيبر، يغدو الإسناد الواضح للقيمة أمراً متعذراً تلافيه ولازماً، بصرف النظر عن مدى ذاتيتها. فهو متعذرٌ تلافيه، لأنه بخلاف ذلك سنعجز عن تحصيل أي معرفة ذات معنى. وعلاوةً على ذلك، هو لازم، لأنه بخلاف ذلك لن يتم تقديم الموقف القيمي للباحث بصورةٍ واضحة ومن ثم لن يتم قبوله على هذا الأساس ليس من قبل قرّاء البحث وحدهم، وإنما من قبل الباحث عينه. بتعبيرٍ آخر، لا يؤكد تشديد فيبر على “أحادية الجانب- Einseitigkeit” على الطابع الذاتي للمعرفة العلمية وحسب، وإنما يقتضي من الباحث أن يكون ذاتياً واعياً لذاته. وقد اُبتكر النوع النموذجي لهذا الغرض، لأنه لا يمكن “للقيمة الذاتية، أو تلك الابنة البائسة سيئة الحظ لعلومنا، أن تُمنح معنىً مبهماً إلا بوصفها نوعاً نموذجياً” [نفس المصدر، 107].    

فضلاً عن حرية القيمة، إذن، إن ما تستلزمه منهجية النوع النموذجي بالمعنى الأخلاقي، من جهة أولى، هو مواجهة جريئة للأساس المغرق في الذاتية لدرجةٍ مفجعة والذي تستند إليه معرفتنا التاريخية والعلمية، ومن جهةٍ أخرى، إقراراً عاماً بالقيمة الذاتية الخاصة للمرء. وترقى منهجية فيبر، في نهاية المطاف، إلى كونها دعوةً إلى فضيلة شخصية البطل من حيث حدّة البصيرة والسلامة والتكامل الفكريين مما يشكّل معاً صاحب علمٍ أصيل، أي عالمٌ صاحب مهنة يتمتع بالشغف والالتزام تجاه بحثه التخصصي الخاص، ولكنه في نفس الآونة على أعلى درجةٍ من “التحرر من الأوهام” [لويث 1982، 38].

6. السياسة والأخلاق

ينطوي المشروع السياسي لدى فيبر على قدر من الأخلاق يفوق صراحةً ما هو عليه الحال بالنسبة لمنهجيته. ولكن على الرغم من ذلك، يفصح مشروعه هذا عن انشغاله العميق بالإحياء المتعمّد لسمات شخصية معينة في المجتمع الحديث. فبادئ ذي بدء، لعلّه من المتعذّر إنكار حقيقة أن فيبر هو مفكّر سياسي ليبرالي راسخ، ولاسيما في السياق الألماني الذي لا يشتهر باللبرالية السياسية، الأمر الذي يعني أن قيمه العليا بوصفه مفكّراً سياسياً تستند بقوةٍ إلى الحرية الفردية، أو ذلك “النوع القديم العام من المُثُل الإنسانية” [فيبر 1895/ 1994، 19]. لقد كان لبرالياً برجوازياً أيضاً، وقد كان مدركاً لحقيقته هذه، في زمن التحوّلات الكبرى التي كانت تقوّض الظروف الاجتماعية اللازمة لدعم القيم اللبرالية الكلاسيكية والمؤسسات البرجوازية، مكرهةً اللبرالية على البحث عن إعادة توجيه جوهرية. ولهذه الدرجة، انتمى فيبر إلى جيل المفكّرين اللبراليين السياسيين في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، ذلك الجيل الذي وضع تصوّراً واضحاً للأزمة العامة التي عانت منها اللبرالية وسعى إلى إيجاد الحلول بطرقه اللبرالية نفسها [بيلامي 1992، 157- 216]. اعتمد فيبر طريقته الخاصة، التي تمثّلت في التصدّي لمشكلة خصائص الشخصية اللبرالية الكلاسيكية، التي رأى أنها تُقوَّض باطرادٍ من خلال البقرطة العشوائية للمجتمع الحديث.

1.6 الهيمنة والشرعية

لعلّنا قادرون على قراءة المعاني المستترة خلف هذه السطور حتى مع واقعية فيبر الصارمة التي تغلغلت في شتى أرجاء علم الاجتماع السياسي لديه، أو علم اجتماع الهيمنة- Herrschaftssoziologie على حد تعبيره [بشأن الاستخدام الأكاديمي لهذا الاصطلاح في زمن فيبر، انظر انتر 2016، 3-23]. 

فعلى سبيل المثال، في تعريفه للدولة، يجرّدها فيبر بشكلٍ تام من السمات الأخلاقية التي أسبغها عليها الكثيرون من معاصريه، لا بل إنه يسمها بكل ببساطة بـ: “المؤسسة البشرية التي تدّعي (بنجاح) احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية ضمن مجتمعٍ معيّن” [فيبر 1919/ 1994، 310]. وبذات القدر من الإيجاز، يؤكد فيبر على أن الهيمنة على المحكومين من قبل حاكمهم، أو بالمعنى الحرفي: “السيادة- lordship- Herrschaft“، تشكّل واقعاً ثابتاً للحياة السياسية حتى ضمن الدول الديمقراطية. ولهذا، يرى فيبر أنه لا يمكن للدراسة التجريبية للسياسة إلا أن تشكّل استقصاءً حول الظروف المساعدة التي يتم اعتمادها لبسط الهيمنة وإدامتها. ويصرّ فيبر بصورةٍ دائمةٍ على أن الهيمنة الجديرةً بالاهتمام تتعلّق بأمرٍ يتجاوز الحقيقة العمياء للإخضاع والتبعية. إذ إن “الحقيقة الخارجية المجردة بأن النظام يُطاع لا تكفي للدلالة على الهيمنة بالمعنى الذي نقصده، فليس بمقدورنا أن نتعامى عن معنى حقيقةٍ مفادها أن القيادة تُقبل بوصفها معياراً سارياً” [فيبر 1921- 1922/ 1978، 946]. بتعبيرٍ آخر، ينبغي أن يتم بسط الهيمنة بالاستناد إلى المبررات والتفسيرات والمسوّغات التي يعتمد عليها الحاكم ليدعي السلطة لنفسه، فلا يمكن الاكتفاء بالتهديد بالقوة العارية أو الوعيد بالامتيازات بوصفها أسباباً لطاعة المحكومين، وليس الإذعان والخضوع وحدهما المسببين أيضاً. ولعلّ هذا التشديد ثنائي القطب على واقعية الهيمنة القسرية على المستوى الظاهراتي وطابع السلطة النوميني- noumenal   (الشيء في ذاته) بجوهره (على حد تعبير راينر فورست) هو ما يميّز الواقعية السياسية لدى فيبر [فورست 2012]. 

وضمن سياق الواقعية السياسية المعاصرة، بدا فيبر متمسّكاً بأن الهاجس الرئيسي للسياسة هو إرساء هيمنةٍ منهجية وإدارتها ضمن دولةٍ معينة وليس إحراز أهداف أخلاقية سياسية مسبقة أو عليا من قبيل العدالة (كانط) أو الحرية (هيغل)، ومن هنا يأتي الإيجاز الذي عرّف به فيبر الدولة كما ورد أعلاه. وبتبنيه لوجهة النظر الهوبزية هذه بشأن السياسية، أو ما يدعوها برنارد وليامز بـ: “المسألة السياسية الأولى”، تمكّن فيبر من إرساء تشخيصه لتعددية القيمة المتوترة مع الاشتباه العميق بالأساس الذي تحظى به اللبرالية في القانون الطبيعي لمساندة سياسةٍ لبراليةٍ تخصه هو على نحوٍ فريد [انظر الفقرة 2.6 أدناه]. وهو، مع ذلك، يتجاوز الواقعية السياقية- Ordorealism، التي يتم فيها الدفاع عن وجهة نظرٍ تقييمية بشأن السياسة دون اللجوء إلى الالتزامات الأخلاقية الآتية من خارج المجال السياسي. إذ لا يمكن إقامة نظامٍ سياسي عملي وإكسابه المشروعية لمجرّد خروجه إلى النور، وإنما ينبغي عليه تلبية “الطلب الأساسي على المشروعية”، على حدّ تعبير وليامز، كي يُعتبر تنسيقاً اجتماعياً مقبولاً. فالنظام السياسي الشرعي يعتبر تسويةً مؤقتة للحياة الجمعية بما “يكون له معنى بوصفه نظاماً مفهوماً” في أعين الناظرين إليه [وليامز 2005، 1- 17]. وبما أن هذا القبول من جانب أولئك الذين يعيشون في ظلّ ترتيب معين يتوقّف على الأخلاق السياسية التي تحرّك مجتمعاً معيناً، فإن حجة الحاكم باستحقاقه للحكم قد لا تلقى النجاح إلا حين تستند إلى تكييفٍ معقولٍ مع العادات والقيم والثقافات المحلية [كوزاغليو وغرين 2019، 1025- 26]. على غرار “أمير” مكيافلي إذن، لا يتصرّف السادة- Herren  لدى فيبر بخواءٍ معياري، بل إنهم يحكمون وفقاً لقيودٍ معيارية سياسيةٍ معينة ترتكز على الانسجام ما بين الطريقة التي يبررون من خلالها هيمنتهم والطريقة التي يجري فيها تفسير هذا التبرير العام بوصفه مقبولاً من جانب المحكومين. وبهذا، يبدو مفهوم الهيمنة لدى فيبر نومينياً (الشيء في ذاته) بقدر ما هو ظاهراتي. وإلى تلك الدرجة، قلّما ما نستغرب أن يبرز اسمه، لا بل ويتفرّد، ضمن مجمع الواقعيين السياسيين [غالستون 2010]. 

وانطلاقاً من هذه المقدمة الواقعية المعقدة والدقيقة، انتقل فيبر ببراعة إلى تحديد ثلاثة أنواع نموذجية للهيمنة الشرعية استناداً إلى الكاريزما والتقاليد والعقلانية القانونية على التوالي. وعلى وجه التقريب، يقوم النوع الأول من الحجة الشرعية على مدى قدرة القادة على الإقناع إذ يبرهنون على مزاياهم الكاريزماتية التي لأجلها يقابلهم المحكومين بالتفاني الشخصي والتبعية العاطفية. كما يمكن النجاح في الحجة الثانية من خلال مأسسة ممارسات وأعرافٍ وتقاليدَ معينةٍ (لإعادة) إنتاج نمطٍ مستقرٍّ من الهيمنة لردحٍ طويلٍ من الزمن. وعلى النقيض من هذه الاتكاليات الحاسمة على المزايا الشخصية ومرور الزمن، يتميز النوع الثالث من السلطة بتحرّره من الزمان والمكان وغيرهما من طوارئ الأمور إذ إنه يستقي مشروعيته من التزامه بالقواعد اللاشخصية والمبادئ العامة التي لا يمكن العثور عليها إلا من خلال المحاكمة القانونية العقلانية الملائمة. فهو، إلى جانب السلطة التقليدية، نوعٌ من الهيمنة التي تجنح نحو الوضع القائم في الأزمنة العادية على النقيض من السلطة الكاريزماتية، التي تمثّل قوىً استثنائية مُخَلْخِلَة وتحوّلية في التاريخ. تنهض شهرة فيبر، كما ينهض تأثيره، بوصفه مفكّراً سياسياً على النحو الأكثر أهميةً على أكتاف هذا التصنيف للأنواع فضلاً عن الطرق التي يتم من خلالها توظيف هذه الأنواع النموذجية ضمن كتاباته السياسية. 

وبهذا، مازال علم اجتماع الهيمنة لدى فيبر عرضةً للاشتباه بشأن انحيازاته المعيارية المتأصلة المختلفة. فمن جهةٍ أولى، يُنظر إلى نظرية الشرعية لديه على أنها تصادق على رفضٍ تشاؤمي لاواقعي للأخلاق الشاملة في السياسة بما يصعّب من تمرير محاكمة موضوعية وتقييمية أخلاقية بشأن حجج الشرعية، وهي تهمة شائعةٌ تُوجَّه إلى الواقعية السياسية بصورةٍ عامة. فوفقاً لمفهوم فيبر حول الشرعية، لِنَقُل أنه يمكن القبول بأي شيء طالما أن الحاكم ينسجم مع الأخلاق السياسية المحلية للمحكومين (حتى وإن تشكّلت على نحوٍ مستقلّ عن أي تدخّلٍ قسري أو إكراهي من قبل الحاكم، وهو بهذا يوائم “مبدأ النظرية النقدية” عند وليامز). وإن قراءة هذا المفهوم عطفاً على كتاباته السياسية الضخمة، بصفةٍ خاصة، يفضي إلى نقده حتى يومنا هذا كونه يرسي أو ينذر، في ما ينذر، بالقيصرية البونابرتية، والأيديولوجية الثورية السلبية الفوردية، والنخبوية المشابهة للفاشية، لا بل والنازية الأولية (ولاسيما في ما يخص  حسّه الوطني الصلب واحتفاءه العدمي بالقوة والنفوذ) [شتراوس 1950، وماركوزه في عمل ستامر (طبعة) 1971، ومومزن 1984، ورهمن 2013]. فضلاً عن هذه التهم الملتهبة سياسياً، يميط تصنيف الأنواع لدى فيبر اللثام أيضاً عن فجوةٍ هامةٍ كعلم اجتماع سياسي تطبيقي، إذ إنه يفسح المجال لموضعٍ مفاهيمي ضئيلٍ، بل ومبهمٍ، للديمقراطية.

ففي الواقع، يبدو الأمر وكأن فيبر غير واثقٍ من المكان المناسب للديمقراطية في خطته.فمن جهة، تعتبر الديمقراطية النوع الرابع من الشرعية لأنها ينبغي أن تكون قادرةً على احتضان الشرعية من القاعدة، في حين تتمحور أنواعه النموذجية الثلاثة حول ذلك من الأعلى [بروير في عمل شرودر (طبعة) 1998، 2].وفي أزمنةٍ أخرى، يبدو أن فيبر يعتقد بأن الديمقراطية نوعٌ يفتقر للشرعية ببساطة بدلاً من كونها نوعاً من الهيمنة الشرعية، إذ إنها تطمح لأن تشكّل تطابقاً ما بين الحاكم والمحكوم (أي أنه لا وجود للهيمنة على الإطلاق)؛ولكن دون افتراض أي علاقةٍ هرمية غير متساوقة للقوة، بالكاد سيحرز مفهومه للشرعية أي نجاح يذكر. وهكذا، تمكّن فيبر من توصيف نشوء الديمقراطية الأولية في التجمعات المدينية أواخر العصور الوسطى ولكن بتعبيرات “الاستيلاء الثوري” فقط [فيبر 1921- 1922/ 1978، 1250]، فقد دعاها بـ: “أولى الجمعيات السياسية غير الشرعية والثورية والمؤسسة بأناةٍ وعن بصيرة” [نفس المصدر، 1302]. و لكن هذه النماذج الأولية التاريخية للديمقراطية تبدو عنيدةً في رفضها الانتظام في مكانٍ ملائمٍ ضمن مخططه الإجمالي. وبتعبيرٍ آخر، تخرج هذه النماذج عن إطار تصنيف أنواع الهيمنة لدى فيبر بوصفها لاشرعية (أو غير شرعية) على الإطلاق.

لكن يبدو أن لدى فيبر طريقةً متشابكةً، ولكن متميزةً، أخرى لمفهمة الديمقراطية، وهي تتصل بالشرعية الكاريزماتية. لعلّ المثال الأفضل في هذا المقام هي الطائفة البيوريتانية (التطهيرية) التي لا تتم شرعنة السلطة فيها إلا على أساس النظام التوافقي المبتدع طواعيةً من قبل المؤمنين الراسخين القابضين على حصتهم الخاصة من القوة الشرعية الكاريزماتية. ونتيجةً لهذه العاقبة السياسية الطبيعية لعقيدة الكهانة العالمية في البروتستانتية، تمكّنت طائفة البيوريتانيين من “الإصرار على ‘الإدارة الديمقراطية المباشرة’ من جانب الجماهير” لتتخلّص بذلك من التمييز الهرمي بين الحاكمين والمحكومية [نفس المصدر، 1208].وفي نسخةٍ معولمةٍ من ديناميات الجماعة المذكورة أعلاه، قيض للاقتراع الديمقراطي أن يغدو أداةً رئيسيةً يتم من خلالها استجماع الكاريزما المفترضة لجماعة المواطنين الأفراد ونقلها إلى قائدهم المنتخب الذي يصبح “وكيل من صوّتوا له وخادمهم بدل أن يكون سيدهم المختار” [نفس المصدر، 1128]. وبدلاً من أن تكون نوعاً لاشرعياً تماماً، أو نوعاً رابعاً، من الهيمنة، تبدو الديمقراطية ها هنا وكأنها مجموعةً فرعيةً نادرةً لدرجةٍ كبيرة لشكلٍ منتشر وممأسسٍ من الشرعية الكاريزماتية.

2.6 الديمقراطية والحزبية والتسوية

المفارقة واضحةٌ تماماً على وجه الإجمال، إذ يبدو الأمر وكأن واحداً من أكثر المفكّرين السياسيين تأثيراً خلال القرن الواحد والعشرين يعجز عن التوصّل إلى تسويةٍ مع الطابع الأخلاقي والثقافي لذلك القرن الذي نشأت فيه الديمقراطية، على اختلاف نموذجها وشكلها وصبغتها، بوصفها الأساس المقبول الوحيد للشرعية السياسية. لا يفرض هذا الحرج نفسه لدى فيبر بقوةٍ بقدر ما يفعل لدى دفاعه عن “ديمقراطية القيادة- Führerdemokratie” في سياق السياسات الدستورية في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى.

فإذا كان حكم الذات المتأصل لدى الشعب مستحيلاً استناداً إلى نظرته اللاعاطفية للديمقراطية، إذن ينبغي الاختيار ما بين أمرين لا ثالث لهما، فإما الديمقراطية بغير قيادة أو ديمقراطية القيادة. وهكذا، عندما دافع فيبر عن تنفيذ دمقرطةٍ شاملةٍ في ألمانيا المهزومة، كان يتصوّر الديمقراطية بوصفها سوقاً سياسية يمكن من خلالها تحديد القادة المتمتعين بقوة الكاريزما وانتخابهم من خلال التصويت في منافسة، بل ومعركة، حرة فيما بينهم. ويعد الحفاظ على هذا العنصر في الصراع السياسي، بل وتعزيزه، أمراً هاماً طالما أن العملية الانتخابية الدينامية تمثّل الطريقة الوحيدة لصنع قيادةٍ وطنيةٍ تتمتع بالقوة الكافية للسيطرة على البيروقراطية التي ستحظى بسلطةٍ مطلقةٍ في غياب قيادةٍ كهذه. ولعلّ الهاجس الرئيسي لفيبر في تصميم المؤسسات الديمقراطية، بتعبير آخر، لا يتعلّق بتحقيق المُثُل الديمقراطية، من قبيل الحرية، والمساواة، والعدالة، وحكم الذات، بقدر ما يتعلق بتهذيب مزاياً شخصيةٍ معينةٍ تليق بقيادةٍ وطنيةٍ صلبة. ولعلّ الانشغال المفرط بسمات القادة الذي ميّز نظرية فيبر حول الديمقراطية أظهر أن ثمة خيوطاً مظلمةً تتخللها بما قد يخلي طرف يورغن هابرماس إذ قال قولته سيئة الصيت واصفاً كارل شميدت “المسؤول القانوني للرايخ الثالث” بأنه “تلميذ فيبر الشرعي” [هابرماس في عمل ستامر (طبعة) 1971، 66].

مع ذلك، وبغرض التقييم المنصف والشامل، لابد لنا من أن ندرك أن ديمقراطية القيادة عند فيبر لا تعتمد على الخصال الشخصية التي حُبِيَ بها القائد، ناهيك من الدكتاتور، فحسب. “تختلف الكاريزما المتأصلة جذرياً عن العرض السهل ‘للحق الإلهي للملك’ في الزمن الحاضر … لا بل الأمر المعاكس تماماً هو ما ينطبق على الحاكم المتمتع بكاريزما فطرية والذي يقف موقف المسؤول تجاه المحكومين” [1922/ 1978، 1114].ولعلّه من الممكن تصوّر هذه المسؤولية نظراً لأن الكاريزما تنسب إلى القائد من خلال سيرورةٍ يمكننا أن نصفها بـ: “الإسناد” من القاعدة [جوز 2014، 271]. وبالإضافة إلى المنافسة الانتخابية الحرة التي تقودها جهات جماعية منظمة، نظر فيبر إلى الحياة المحلية والنقابية العامة بوصفها تربةً خصبة لتنمية إسناد الكاريزما على هذا النحو. فحين يتم تحديد القائد واصطفائه على مستوى فرق الكورال وأندية البولينغ في الأحياء، على سبيل المثال، [فيبر 1910/ 2002]، ستبدو النخبوية الشمولية المزعومة لديمقراطية القيادة أكثر تعدديةً وتفاعليةً وبعيدةً كل البعد عن المطابقة التي تتم عادةً ما بينها وبين الدكتاتورية الديماغوجية والتبعية الجماهيرية العمياء. وطالما أن المجتمع المدني النشط يؤدي وظيفة الواسطة الناجعة لنشر الخصال الكاريزماتية أفقياً ما بين الناس العاديين، فإن مفهوم فيبر عن القيادة الكاريزماتية قد يحتفظ بنبرةٍ ديمقراطية قوية لدرجة أنه قد وجد أيضاً في التعددية النقابية أرضاً اجتماعيةً ثقافيةً خصبةً لتثقيف جماعة المواطنين سياسياً، وهي الجماعة عينها التي سيولد القائد من رحمها. ينبغي للقائد الكاريزماتي عند فيبر أن “يُصنَع ديمقراطياً” [غرين 2008، 208]، باختصار، ويتم التوقع بهذا المشروع السياسي التأسيسي بالاستناد إلى مجتمع مدني منظمٍ على أساس التعددية فضلاً عن المؤسسات اللبرالية من قبيل التصويت الشامل والانتخابات الحرة والأحزاب المنظّمة.

وفي هذا المقام، مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن توظيف فيبر للمجتمع المدني يختلف بشكلٍ كبيرٍ عن النظرة الجماعانية لدى توكفيل، ولعلّ هذا التباين قد يتبلور بصورةٍ أكثر حدةً إذا ما جرى التعبير عنه بمصطلحات النظرية الديمقراطية المعاصرة للانتماء الحزبي [قارن روزنبلوم 2008، وميورهيد 2014، ووايت ويبي 2016 وغيرهم]. وعلى غرار المنافحين المعاصرين عن الحزبية، يتوجّه فيبر بالنقد إلى النظرة الجماعانية التقليدية التي تساوي ببساطةٍ ما بين المجتمع المدني والحياة النقابية الطوعية نفسها، فلا تسهم جميع النقابات الطوعية في إرساء الديمقراطية، لابل إن بعضها يؤثّر بصورةٍ “سيئةٍ” على قابليتها للحياة. وحتى في المجتمع المدني “الجيد”، قد تغرس فينا تلك “الممارسات النقابية- Vergesellschaftung “، على حد تعبير فيبر [فيبر 1910/ 2002]، نوعاً من الفضائل المدنية- civil التي تنظّم حياتنا الخاصة، بيد أن هذا الرأسمال الاجتماعي سيتعذر صرفه مباشرةً في الفضاء العام كمجموعةٍ مفيدةٍ من الفضائل المدينية- civic والمهارات في مجال السياسة الديمقراطية. ومن الممكن اكتساب رأس المال السياسي من خلال عيش التجارب السياسية بصورةٍ يومية. وقاد هذا الإدراك فيبر، فضلاً عن عددٍ متنامٍ من المنظّرين الديمقراطيين المعاصرين، نحو التركيز على دعوةٍ ملحّةٍ إلى تسييس المجتمع المدني من خلال مستويات من الحزبية أفضل، وليست أقل، مما جعل من سياسة المجتمع المدني لدى فيبر تختلف بصورةٍ كبيرةٍ عنها بحسب القناعات الجماعانية التوكفلية [انظر كيم في عمل هانكه، وسكاف وفيمستر (طبعة) 2020].

كما يختلف “المجال العام” عند هابرماس عن هذا المجتمع المدني السياسي المكثف، فالأول هو ملاذٌ عقلاني تواصلي يحتضن التبادل المفتوح والتداول النزيه للآراء المحايدة وصولاً إلى الإجماع المعقول. وعلى النقيض من ذلك، يشكّل المجتمع المدني عند فيبر حلبة سباق تحتضن منافسة منظمةً وصراعاً نيابةً عن الحجج النزيهة التي لا تقبل الاختزال ولا يمكن التوصّل إلى الإجماع فيما بينها دائماً، سواءً أكان الإجماع المعقول أم المتراكب أم ما بين حزبين. ونظراً إلى تشظّي القيمة غير المتناسب في السياسة والمجتمع الحديثين، يخلص فيبر في تبنيه لما يسمى بـ: “ظروف السياسة” التي تغدو ضمنها الاختلافات العميقة معقولةً ودائمةً، موافقاً على أنها ليست بالضرورة أمراً سيئاً للديمقراطية طالما بقيت تلك “الاختلافات الدائمة” سلميةً [والدرون 1999]. ومن هذا المنظور التنافسي، إن أفضل ما يمكن توقعه هو نوع من المزج بين تلك الحجج النزيهة، أي إجراء تسوية يكمن فيها المعنى الحقيقي للفضيلة السياسية. أي أنه وعلى الرغم من أنه ليس بمقدورنا توقع الوصول إلى “الإجماع المتراكب”، فإنه بالضبط نتيجةً لتحلّي جميع الحجج الحزبية بالنزاهة، يغدو ممكناً التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ ما بين المحازبين الصالحين على أقل تقدير. ولكن المواطنين المحازبين الصالحين لن يرحبوا بالتوصّل إلى تسوية سياسية في حالة الممعنين في اللامبدئية (كما في حالة الانتهازيين اللاهثين وراء السلطة) أو المغرقين في المبدئية (كما في حالة المتعصّبين الأخلاقيين)، على الرغم من القناعات القيمية العاطفية لدى هؤلاء المواطنين، وذلك لأنهم يدركون بأن بعض الاختلافات معقولة وتتصف بالديمومة. إذن، إن نوع رأس المال السياسي المتوقع تراكمه في المجتمع المدني الحزبي الصالح هو مزيجٌ من “المبدئية والبراغماتية” [ميورهيد 2014، 41- 42]، وهي فضيلة سياسية كثيراً ما تنسجم مع أخلاق القناعة- Gesinnungsethik التوفيقية والمسؤولية- Verantwortungsethik لدى فيبر [انظر الفقرة 3.6 أدناه].

علاوةً على ذلك، تتطلّب أخلاق فيبر مجتمعةً من القادة السياسيين وجماعة المواطنين الجمع بين التزامٍ لا يلين بالقضايا الجوهرية (بما يشكّل فارقاً بينهم وبين الموظفين البيروقراطيين بصورتهم المجردة) وبين الواقعية الواعية المدركة لعجز أي حجة سياسية، بما في ذلك حجتهم هم، عن تمثيل الحقيقة كاملةً (بما يفرّق بينهم وبين التطهيريين الأخلاقيين والرومنطيقيين السياسيين). تشكّل هذه الأخلاق التوفيقية العلامة الفارقة الأساسية لأولئك السياسيين المتحلّين بحسن المهنة والمستعدين للقتال لأجل قناعاتهم بضراوةٍ وعزيمةٍ ولكن دون التخلّي عن “حسّ المحاكمة البراغماتية- Augenmaß” بأنه لا مفرّ من التسوية بين المواقف غير المتكافئة للقيمة، فكلّ ما يستطيعون فعله في نهاية المطاف هو التحلّي بالمسؤولية الصارمة عن العواقب، سواءً المقصودة أم غير المقصودة، لما اعتقدوا بأنها تسويةً تستند إلى المبادئ. ولهذا قال فيبر: “ينبغي على السياسي القيام بالتسويات … في حين أنه لا يجوز للباحث تبريرها- Der Politikermuß Kompromissemachen … der Gelehrtedarfsienichtdecken” [ماكس فيبر- الأعمال الكاملة- 2/ 10، 983، انظر برون 1972 (2007، 244)]. هذا هو النوع من الفضيلة السياسية التي يرغب ماكس فيبر بغرسها على مستوى المواطنة فضلاً عن القيادة، ولعلّ موقع هذا التثقيف السياسي هو المجتمع المدني المنتظم على أساس التعددية، والذي يمكن فيه للقادة والمواطنين تجربة التسييس الدينامي والممأسس (المعاد) إنتاجه من جانب السياسية الحزبية.

3.6 القناعة والمسؤولي

ما هي بالضبط إذن أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية التي أراد فيبر تعزيزها من خلال “التثقيف السياسي ‘المزمن'”؟ [فيبر 1894/ 1994، 26]. من جهةٍ أولى، وفقاً لأخلاق المسؤولية، لا يمنح الفعل معنىً إلا بوصفه سبباً لتأثيرٍ ما، أي لا يكتسب هذا المعنى إلا من حيث علاقته السببية بالعالم التجريبي. وتكمن الفضيلة في فهمٍ موضوعيٍّ للتأثير السببي المحتمل للفعل وإعادة التوجيه المحسوبة لعناصر الفعل بطريقةٍ يتم من خلالها تحقيق نتيجةٍ منشودة. وبهذا، تختزل المسألة الأخلاقية إلى مسألةٍ تخص الإجراء الصحيح من الجانب التقني، كما ينطوي الفعل الحر على اختيار الوسيلة الصحيحة. ومن خلال التشديد على السببية التي يرتضي بها الفاعل الحر، يصف فيبر بإيجاز التكامل الأخلاقي بين الفعل والعاقبة بدلاً من التشديد الكانطي على ذلك التكامل عينه بين الفعل والنية.

ووفقاً لأخلاق القناعة، من جهة أخرى، ينبغي أن يكون الفاعل الحر قادراً ليس على اختيار الوسيلة على نحوٍ مستقل وحسب، وإنما على اختيار الغاية أيضاً؛ “يجد مفهوم الشخصية هذا ‘جوهره’ في ديمومة الصلة الداخلية ‘بقيمٍ’ عليا و’معانٍ’ سامية للحياة” [فيبر 1903- 06/ 1975، 192]. وفي هذا المقام، تنشأ المشكلة المركزية لدى فيبر من الإقرار بأن نوع العقلانية المطبق لاختيار الوسيلة متعذر الاستخدام لاختيار الغاية. ويشكّل هذان النوعان من المحاكمة العقلية أسلوبين متميزين فئوياً من أساليب العقلانية، وهي حدود تتعزز أيضاً بتشظّي القيمة الحديث. ففي غياب الأساس الذي يمكن التحقق منه موضوعياً لتحديد الخيار، يتوجّب على الفاعل الحر أن يخلق الغرض من لا شيء: “إذا تعذّر على الحياة، من حيث كونها كلاً واحداً في جوهرها، أن تجري كحدثٍ في الطبيعة، لا بل وتم توجيهها بصورةٍ واعيةٍ بدلاً من ذلك، ستشكّل عندئذٍ سلسلةً من القرارات الجوهرية التي تستند إليها الروح، كما هي عند أفلاطون، لاختيار مصيرها الخاص” [فيبر 1917/ 1949، 18]. يشكّل هذا القرار الجوهري، معطوفاً على التكامل الكانطي ما بين النية والفعل، جوهر ما يدعوه فيبر بأخلاق القناعة.

وغالباً ما يساق الرأي بأنه من المتعذر جَسْر الهوّة ما بين هذين النوعين من الأخلاق بالنسبة لفيبر. فإن المطالبة بالتكامل التام بين القيمة الجوهرية السامية للمرء وبين الفعل السياسي هي أشبه بالقول بأن التسوية متعذرة بين أخلاق القناعة القائمة على الواجب من جهة، وبين أخلاق المسؤولية من جهةٍ أخرى، إذ إن أخلاق المسؤولية هي تبعية في جوهرها. وفي واقع الأمر، يقرّ فيبر نفسه “بالتباين الهائل” الذي يفصل ما بين النوعين. ومع ذلك، ليس بمقدورنا أن نعتبر أن هذا الإقرار الصريح يعني أن فيبر يؤثر النوع الثاني على الأول طالما تعلّق الأمر بالتثقيف السياسي.

يقر فيبر بصورةٍ قاطعة بالتوتر العميق ما بين أخلاق التبعية-  consequentialismوأخلاق الواجب- deontology، ولكنه يبقى مصرّاً على أنه ينبغي التوفيق في ما بينهما بالقوة. إذ إن الإقرار بالأولى يجعل من برنامج الأخيرة أمراً ملحّاً، ولا يشغل حل هذا التناقض التحليلي في ما يخص “قراراتٍ أخلاقية” معينة بال فيبر الذي يسعى، بدلاً من ذلك، إلى الشخصية الأخلاقية القادرة على إدارة هذه “التوليفة” بقوة الإرادة المحضة. وفي الحقيقة، لقد دعا فيبر هذه الأخلاق المركبة بأخلاق المسؤولية دون تمييزها بصورةٍ واضحةٍ عن الأخلاق التبعية الصرفة التي تسعى لتجاوزها، ليطلق، بهذا، الجدل التفسيري الذي يتواصل حتى يومنا هذا [دي فيليرز 2018، 47- 48]. وليكن ما يكون، فإن دفاعه عن هذه التركيبة المتعمدة لا جدال فيه، وهو قد دعا الشخصية الأخلاقية بـ: “السياسي المتمتع بحسّ المهنة- Berufspolitiker” الذي يجمع بين القناعة العاطفية في المُثُل الفوق- عالمية التي ينبغي أن تخدمها السياسة والحساب العقلاني الواعي لقابلية التحقق في العالم الدنيوي. وهكذا، يخلص فيبر إلى أن: “أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية ليستا على طرفي نقيضٍ بالمطلق، وإنما هما تكمّلان بعضهما بعضاً، وليس بمقدور أي منهما الوصول إلى الإنسان الحقيقي القادر على امتلاك “مهنة السياسة” [فيبر 1919/ 1994، 368] إلا من خلال التوليف فيما بينها وبين الأخرى.  

لا تبدو هذه الفضيلة السياسية المركبة صعبة التحقيق وحسب، ولكنها لا تبشّر بنهايةٍ لائقةٍ أيضاً. يتطلب تركيب فيبر مواجهةً واعية مع واقع السياسة، أي الحضور الدائم “للقوى المادية” وجميع العواقب غير المقصودة أو الأضرار التبعية التي تلازم اللجوء إلى القسر. وعندئذٍ فقط، يمكن أن يخضع للسيطرة الأخلاقية من خلال لجوء إنسانٍ خارق إلى العاطفة والحصافة، ولكن حتى مع ذلك، لا يستطيع الإنسان الخارق السياسي- Übermensch عند فيبر التملّص مما يدعى بورطة “الأيدي القذرة” [قارن والزر 1973، كودي 2009]. لأنه، حتى في لحظة النصر، فإن قبضة المسؤولية الحديدية ما كانت لتتيح لهذا الإنسان التخلّص من الذنب والندم لتوظيف “القوى المادية” بصرف النظر عن مدى نفعها أو لزومها. إنها أخلاق “على الرغم من ذلك- dennoch” البطولية المأساوية [انظر الفقرة 2.2]، وبهذا، تتجاوز “مأساوية” فيبر السياسة [هونيغسهايم 2013، 115]. يشكّل العلم بوصفه مهنةً حالة تثبت نفسها بنفسها تتطلب فضيلة “حرية القيمة” من خلالها من العالم أن يواجه الورطة الأبستمولوجية الحديثة المتمثّلة في تشظّي القيمة غير المتناسب دون الإذعان للوفرة العدمية للقيم الذاتية بواسطة التفاني المنضبط والمتعمد في التخصص البحثي والموضوعية العلمية [انظر الفقرة 2.5]. وانطلاقاً من وجهة النظر الأخلاقية هذه، من الممكن أيضاً إعادة عنونة عمله “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” ليغدو بعنوان: “العمل بوصفه مهنة”، ففي هذا العمل المبكر جداً (صدر ما بين العامين 1904 و1905) أوجز فيبر للمرة الأولى المعالم الرئيسية لأخلاق المهنة-  Berufsethik وصاحب المهنة- Berufsmensch فضلاً عن الطريقة التي نشأت بها ممارسات العمل تلك تاريخياً ضمن سياق الإصلاح (وتلاشت في وقتٍ لاحق). فقد عمّق مبدأ القسمة والنصيب الكالفني من القلق الداخلي بشأن الخلاص الفردي، بيد أن هذا الخوف والارتعاش الذاتي قد انصبّ في المستودع النفسي لإدارة الحياة بالطريقة الأكثر انضباطاً ومنهجيةً- Lenbensführung، أو العمل ضمن المهنة الذي خلق “روح” الرأسمالية. وإذ يجمع على نحوٍ متناقضٍ ما بين الالتزامات القيمية الذاتية والعقلانية الموضوعية في تعقب تلك الأهداف، فإن صنع وإبطال صاحب المهنة- Berufsmensch بإيجاز هو الأمر الذي تتمركز حوله انشغالات فيبر الأخلاقية الرئيسية في السياسة والعلم والاقتصاد [قارن هينيس 1988]. 

وفي نهاية المطاف، لا يتمحور مشروع فيبر حول التحليل الشكلي للمسلّمات الأخلاقية أو حول الفضائل الجوهرية التي تعكس نوعاً ما من المآلات البعدية، وهو أكثر شكلانيةً وفراغاً من أن ينتظم ضمن أخلاق الفضيلة عند أرسطو، وأكثر انشغالاً بالشخصية الأخلاقية إلى درجةٍ يتعذر معها فهمه ضمن السياق الضيق لأخلاق الواجب عند كانط. بل إن فيبر يرمي من وراء مشروعه الأخلاقي إلى تهذيب الشخصية، التي يمكنها أن تجمع على نحو متعمّد ما بين تلك الفضائل الشكلية المتنازعة لخلق ما يدعوه بـ: “الشخصية الشاملة- Gesamtpersönlichkeit“. وهو يبلغ ذروته في علم طبائع الشخصية الأخلاقي أو علم الإنسان الفلسفي، الذي يتم فيه ترتيب العاطفة والعقل بالشكل الصحيح بناءً على القوة المحضة لإرادة الفرد. وهكذا، لا تكمن الفضيلة السياسية عند فيبر ببساطةٍ في الحمية الذاتية لالتزام القيمة أو في التكامل الفكري المستقل ووضوح الغرض المنهجي، وإنما في التوليف المتعمّد ما بينها ضمن الروح الموحّدة. وفي خضم هذا الانشغال الدائم بفن إدارة الدولة، بما فيه إدارة النفس، statecraft-cum-soulcraft، كان فيبر معلّماً أخلاقياً وسياسياً انتمى بصورةٍ مباشرة إلى التقليد المهيب الذي يعود تاريخه حتى قدامى الإغريق مروراً عبر روسو وهيغل وميل.        

7. ملاحظات ختامية

لعلّ استمراريةً لافتةً تميّز فكر فيبر، وهي استمراريةٌ لا تخفى علينا إذ نتناول فكره على هذا النحو. وتتعلّق الإشكالية الرئيسية لدى فيبر بمسألة استقلال الفرد وحريته ضمن مجتمعٍ يتعقلن باطراد. وقد دفعه تقييمه التشاؤمي للعقلنة إلى البحث عن الحلول من خلال السياسة والعلم، مما يتركّز بشكلٍ كبيرٍ على ممارسةٍ معينةٍ للذات. وقد شكّل ما دعاه بـ: “صاحب المهنة”، الاصطلاح الذي شرحه بإيجازٍ وبراعةٍ للمرة الأولى في كتابه: “الأخلاق البروتستانتية”، أساساً راسخاً لجهوده المتنوعة الرامية إلى إحياء شخصيةٍ يمكنها أن تجمع على نحوٍ متعمّد ما بين قناعةٍ راسخةٍ وعقلانيةٍ منهجيةٍ حتى ضمن مجتمعٍ محاصرٍ بالتحجّر البيروقراطي وتشظّي القيمة. ولعلّ هذا الانشغال العميق بالطبائع الأخلاقية ضمن الظروف الحديثة هو ما نرى أنه المصدر لهذه التأثيرات الصامدة لفكر القرن العشرين السياسي والاجتماعي.

وعلى صعيد اليسار، لاقى تفصيل فيبر للتوتر ما بين الحداثة والتحديث أصداءً مترددةً في أطروحة “جدل التنوير” لدى تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، كما أن نقد لوكاكس لفساد العقل الرأسمالي يدين بالكثير إلى طرح فيبر لإشكالية العقلانية النفعية، التي أرسى عليها هابرماس أيضاً تفصيله للعقلانية التواصلية بوصفها بديلاً. ولم يتوانَ مفكّرون مختلفون من تيار اليمين عن انتخاب، بل ونقد وتبني، عناصر مختلفة في الفكر السياسي لدى فيبر، من قبيل الكفاح السياسي المكثف بوصفه ترياقاً للتحجر البيروقراطي الحديث، وديمقراطية القيادة، والرئاسة المنتخبة، والنظرة الواقعية الصارمة للديمقراطية وسياسة القوة، وحرية القيمة، ونسبية القيمة في الأخلاق السياسية، بمن فيهم كارل شميت وجوزف شومبيتر، وليو شتراوس، وهانز مورغنثاو، وريمون آرون.وحتى المشروع ما بعد الحداثي المعني بتفكيك ذاتية التنوير، يحذو حذو ميشيل فوكو، إذ يجد في فيبر سلفاً له. وعلى وجه الإجمال، على مدى الطيف الأيديولوجي والمنهجي المتنوع بصورةٍ هائلة، يواصل فكر ماكس فيبر لعب دور المستودع العميق للإلهام الحي ما بقي مصير الفرد في ظل الظروف (ما بعد) الحديثة محافظاً على امتيازه من حيث موقعه في التأملات السياسية والاجتماعية والثقافية والفلسفية في زمننا. 

المراجع

المراجع الرئيسية

Commissioned by the Bavarian Academy of Sciences (Bayerische Akademie der Wissenschaften), Max Weber Gesamtausgabe (Collected Works) have been published continuously since 1984 by J. C. B. Mohr (Paul Siebeck), the original publisher of Weber’s works in Tübingen, Germany. The first editorial committee of 1973 consisted of Horst Baier, M. Rainer Lepsius, Wolfgang Mommsen, Wolfgang Schluchter, and Johannes Winkelmann. This monumental project consists of a total of forty-five (plus two index) volumes in three divisions, i.e., I. Writings and Speeches, II. Correspondences, and III. Lectures and Lecture Notes. In 2020, it was finally brought to a completion in time for the centenary of Weber’s death. The original commissioner, the Bavarian Academy, has begun to go on-line with an open-access digital format; for updates, the reader is referred to the publisher’s web page for the Max Weber Gesamtausgabe (digital).

Primary Texts in English Translation

In English, new translations have appeared since the turn of the century. Most notable among them would be The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism by Peter Baehr/Gordon C. Wells (Penguin Books, 2002) and Stephen Kalberg (Roxbury Publishing Co., 2002). Reflecting the latest Weber scholarship, both editions have many virtues, especially in terms of enhanced readability and adequate contextualization. Talcott Parson’s classic edition is still listed below because it is the most widely available text in English. Even more welcoming is the new compilation and translation of Weber’s methodological writings in Max Weber: Collected Methodological Writings (eds. Hans Henrik Bruun and Sam Whimster, trans. Hans Henrik Bruun, Routlege, 2012). The earlier anthology, for all its uneven quality of translation, is still used in this article for the same reason of availability.

  • Weber, Max. 1895/1994. “The Nations State and Economic Policy (Freiburg Address)” in Weber: Political Writings, P. Lassman and R. Speirs (ed. and trans.), Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1903–06/1975. Roscher and Knies: The Logical Problems of Historical Economics, G. Oakes (trans.), New York: Free Press.
  • –––, 1904/1949. “Objectivity in Social Science and Social Policy” in The Methodology of the Social Sciences, E. A. Shils and H. A. Finch (ed. and trans.), New York: Free Press.
  • –––, 1904–05/1992. The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, T. Parsons (trans.), A. Giddens (intro), London: Routledge.
  • –––, 1906/1949. “Critical Studies in the Logic of the Cultural Sciences: A Critique of Eduard Meyer’s Methodological Views,” in The Methodology of the Social Sciences.
  • –––, 1910/1978. “Antikritisches Schlußwort zum Geist des Kapitalismus,” in Max Weber: Die protestantische Ethik II: Kritiken und Antikritiken, ed. J. Winckelmann, Gerd Mohn: Gütersloher Verlaghaus.
  • –––, 1910/2002. “Voluntary Associational Life (Vereinswesen),” Sung Ho Kim (ed. and trans.), Max Weber Studies, 2:2 (2002).
  • –––, 1915/1946. “Religious Rejections of the World and Their Directions” in From Max Weber.
  • –––, 1917/1949. “The Meaning of ‘Ethical Neutrality’ in Sociology and Economics ” in The Methodology of the Social Sciences.
  • –––, 1918/1994. “Parliament and Government in Germany Under a New Political Order” in Max Weber: Political Writings.
  • –––, 1919/1994. “The Profession and Vocation of Politics” in Max Weber: Political Writing.
  • –––, 1919/1946. “Science as a Vocation” in From Max Weber.
  • –––, 1920/1946. “The Protestant Sects and the Spirit of Capitalism” in From Max Weber.
  • –––, 1920/1992. “Author’s Introduction (Vorbemerkung to GARS),” in The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism.
  • –––, 1920. Gesammelte Aufsätze zur Religionssoziologie, 3 volumes, Tübingen: J. C. B. Mohr/Paul Siebeck, 1978.
  • –––, 1921–22/1978. Economy and Society, 2 volumes, G. Roth and C. Wittich (eds.), Berkeley: University of California Press.
  • –––, 1924. Gesammelte Aufsätze zur Soziologie und Sozialpolitik, Tübingen: J. C. B. Mohr/Paul Siebeck.
  • Weber, Marianne (ed.), 1926/1988. Max Weber: A Biography, H. Zohn (trans.), G. Roth (intro), New Brunswick: Transaction.

Anthologies

  • Gerth, H.H., and C. Wright Mills (eds.), 1946. From Max Weber: Essays in Sociology, Oxford: Oxford University Press.
  • Lassman, P. and R. Speirs (eds.), 1994. Weber: Political Writings, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Shils, E.A. and H. A. Finch (eds.), 1949. The Methodology of the Social Sciences New York: Free Press.

المراجع الثانوية

  • Anter, Andreas, 2016. Max Weber und die Staatsrechtslehre, Tübingen: J. C. B. Mohr (Paul Siebeck).
  • Beetham, David, 1989. “Max Weber and the Liberal Political Tradition,” European Journal of Sociology, 30: 311–23.
  • Beiser, F.C., 2011. The German Historicist Tradition, Oxford: Oxford University Press.
  • Bellamy, Richard, 1992. Liberalism and Modern Society, University Park, PA: Pennsylvania State University.
  • Brubaker, Rogers, 1992. The Limits of Rationality, London: Routledge.
  • Bruun, Hans Henrik, 1972 [2007]. Science, Values and Politics in Max Weber’s Methodology, Burlington, VT: Ashgate; new expanded edition, 2007.
  • Coady, C.A.J., 2018. “The Problem of Dirty Hands,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2018/entries/dirty-hands/>
  • Cozzaglio, Ilaria and Amanda Greene, 2019. “Can Power be Self-legitimating: Political Realism in Hobbes, Weber, and Williams,” European Journal of Philosophy, 27(4): 1016–36.
  • Derman, Joshua, 2012. Max Weber in Politics and Social Thought: From Charisma to Canonization, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Forst, Rainer, 2012. The Right to Justification, New York: Columbia University Press.
  • Galston, William, 2010. “Realism in Political Theory,” European Journal of Political Theory, 9(4): 385–411.
  • Gellner, Ernest, 1974. Legitimation of Belief, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Goldman, Harvey, 1992. Politics, Death, and the Devil: Self and Power in Max Weber and Thomas Mann, Berkeley: University of California Press.
  • Graf, Friedrich Wilhelm, 1987. “The German Theological Sources and Protestant Church Politics,” in H. Lehmann and G. Roth (eds.), Weber’s Protestant Ethic: Origins, Evidence, Contents, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Green, Jeffrey Edward, 2008. “Max Weber and the Reinvention of Popular Power,” Max Weber Studies, 8(2): 187–224.
  • Hanke, Edith, L. Scaff, and S. Whimster (eds.), 2019, The Oxford Handbook of Max Weber, Oxford: Oxford University Press.
  • Hennis, Wilhelm, 1988. Max Weber: Essays in Reconstruction, London: Allen & Unwin.
  • Henrich, Dieter, 1952. Die Einheit der Wissenschaftslehre Max Webers, Tübingen: J. C. B. Mohr (Paul Siebeck).
  • Honigsheim, Paul, 2013. The Unknown Max Weber, New Brunswick, NJ: Transaction Publisher.
  • Hughes, H. S., 1977. Consciousness and Society: Reorientation of European Social Thought, New York: Vintage Books.
  • Joose, Paul, 2014. “Becoming a God: Max Weber and the Social Construction of Charisma,” Sociological Theory, 14(3): 266–83.
  • Käsler, Dirk, 1988. Max Weber: An Introduction to his Life and Work, P. Hurd (trans.), Chicago: University of Chicago Press.
  • Kim, Sung Ho, 2007. Max Weber’s Politics of Civil Society, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Löwith, Karl, 1982. Max Weber and Karl Marx, H. Fantel (trans.), London: Allen & Unwin.
  • Mommsen, Wolfgang, 1984. Max Weber and German Politics, 1980–1920, Michael S. Steinberg (trans.), Chicago: University of Chicago Press.
  • Muirhead, Russel, 2014. The Promise of Party in a Polarized Age, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Palonen, Kari, 1999. “Max Weber’s Reconceptualization of Freedom,” Political Theory, 27(4): 523–44.
  • Radkau, Joachim, 2011. Max Weber: A Biography, Patrick Camiller (trans.), Cambridge: Polity Press.
  • Rehmann, Jan, 2013. Max Weber: Modernisation as Passive Revolution, A Gramscian Analysis, Max Henniger (trans.), Leiden: Brill.
  • Rosenblum, Nancy, 2008. On the Side of the Angels: An Appreciation of Parties and Partisanship, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Roth, Guenther, 2001. Max Webers deutschen-englische Familiengeschichte 1800–1950, Tübingen: J. C. B. Mohr (Paul Siebeck).
  • Scaff, Lawrence, 2011. Max Weber in America, Princeton: Princeton University Press.
  • Schluchter, Wolfgang, 1981. The Rise of Western Rationalism: Max Weber’s Developmental History, G. Roth (trans. and intro.), Berkeley: University of California Press.
  • Schroeder, Ralph (ed.), 1998. Max Weber, Democracy, and Modernization, London: Palgrave Macmilan.
  • Stammer. Otto (ed.), 1971. Max Weber and Sociology Today, New York: Harper.
  • Strauss, Leo, 1950. Natural Right and History, Chicago: University of Chicago Press.
  • Swedberg, Richard (ed.), 2005. The Max Weber Dictionary, Stanford: Stanford University Press.
  • Taylor, Charles, 1989. Sources of the Self: The Making of the Modern Identity, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Tenbruck, Friedrich H., 1980. “The Problem of Thematic Unity in the Works of Max Weber,” British Journal of Sociology, 31(3): 316–51.
  • Vattimo, Giani, 1988. The End of Modernity: Nihilism and Hermeneutics in Postmodern Culture, J. Snyder (trans.), Baltimore: Johns Hopkins University Press.
  • Waldron, Jeremy, 1999. Law and Disagreements, Oxford: Oxford University Press.
  • Walzer, Michael, 1973. “Political Action: The Problem of Dirty Hands,” Philosophy and Public Affairs, 2(2): 160–80.
  • White, Jonathan and Lea Ypi, 2016. The Meaning of Partisanship, Oxford: Oxford University Press.
  • Williams, Bernard, 2007. In the Beginning was the Deed: Realism and Moralism in Political Argument, Geoffrey Hawthorne (ed.), Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Wolin, Sheldon, 1981. “Max Weber: Legitimation, Method, and the Politics of Theory,” Political Theory, 9: 401–24.

أدوات أكاديمية

sep man iconHow to cite this entry.
sep man iconPreview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
inpho iconLook up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
phil papers iconEnhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

  • Max Weber Complete Edition (MWG), an English homepage of the Collected Works maintained by the Bavarian Academy of Sciences and Humanities where one can find various archival sources as well as information and updates related to the Weber scholarship:
  • Max Weber Studies, a London-based international journal devoted to the philological and interpretative studies of Weber’s works:

مداخل ذات صلة

Adorno, Theodor W. | Bacon, Francis | Cohen, Hermann | Descartes, René | Dilthey, Wilhelm | Foucault, Michel | Habermas, Jürgen | Hegel, Georg Wilhelm Friedrich | Hobbes, Thomas | Horkheimer, Max | Kant, Immanuel | Locke, John | Machiavelli, Niccolò | Marx, Karl | Nietzsche, Friedrich | Rickert, Heinrich | Rousseau, Jean Jacques | Strauss, Leo | Windelband, Wilhelm