مجلة حكمة
فتنة الكلمات المسدي

فتنة القراءة في “فتنة الكلمات” لعبد السلام المسدي – فاطمة طحطح


صدر للدكتور عبد السلام المسدي، الناقد وعالم اللسانيات التونسي المعروف، كتاب بعنوان: “فتنة الكلمات(1). وهو يشتمل على مجموعة من النصوص واللوحات الإبداعية المتميزة، سواء في طريقة كتابتها أو في أسلوبها وخصوصية توظيف اللغة فيها


جعل التميّز والفرادة الإبداعية عملية تصنيف “فتنة الكلمات” من قبل القارئ، أمرا عسيرا ومحيرا في نفس الوقت. فأنت لا تدري، هل تصنف هذه اللوحات الإبداعية في إطار الشعر المنثور أو النثر الشعري. فهي نصوص ذات صبغة غنائية وفنية عالية المستوى يتمازج فيها النفس الشعري، بالإشارات الصوفية الغامضة والحكم المركزة والأمثال والوصايا، والعبارات المختزلة المشحونة بدلالات شتى… ثم هي نصوص يتقاطع فيها الشعري، بالسردي، وباللمحات السياسية التاريخية والدينية.. ينتفي فيها الزمان والمكان كبعدين متعينين. الشيء الذي يجعلها حقلا خصبا لعدة مقاربات أسلوبية، شعرية، رمزية، صوفية، سردية… الخ.

كما أنها تشكل نواة مثالية للتناص، وهي مقاربة تفرض نفسها في هذه النصوص، لكونها متشابكة المعاجم، زاخرة بالحوارات التناصية، والمؤثرات القرآنية والتراثية، مشحونة بالرموز الصوفية والحقول الدلالية المتراكبة. إنها نصوص، تشبه المرايا المتقابلة، لا تستطيع الإمساك بصورة واحدة، أو القبض على دلالة وحيدة فيها، أو تقديم تأويل معين. نصوص تتمنع عن التصنيف في خانة معينة، كما تعز فيها الدلالة أن تحصر في بعد محدد. لقد كتب الكثر عن هذا الكتاب الفريد في لغته، سواء في مصر أو في تونس، بالعربية والفرنسية ولم تكن حيرة أولئك الكتاب والقراء بأقل من حيرتي عندما حاولت حصر دلالة هذا الكتاب(2) وتصنيفه فلم أفلح ووجدتني أردد بيت المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردهـــــا

ويسهر الخلق جراها ويختصـــم

كما وجدتني أردد المقولة النقدية المشهورة: “الأسلوب هو الرجل”. فهل ينطبق هذا على شخصية ولغة الدكتور المسدي؟

لقد صرح الكاتب في العديد من الحوارات التي أجريت معه حول: “فتنة الكلمات” وعن الإيجاز الذي يطبع نصوصها وعن بعض الغموض الذي يلفها… الخ. فأجاب، بأنه لا يجب الإطناب بطبعه، وهو أميل إلى الإيجاز في الكلام(3). ويعد الإيجاز من أهم أركان الشعر عند العرب، فعبد القاهر الجرجاني يرى “بأن أجود كلام العرب محمول على الإيجاز والاستعارة..(4)” وهو ما يميز البلاغة العربية، ويشكل مصدر شاعريتها وإبداعيتها، وهو يمثل خصيصة جوهرية في البلاغة العربية. إنها فعلا مقولة تنطبق على “فتنة الكلمات” فهي لوحات موجزة، تفيض بالمشاعر، تتجسد فيها اللغة كعاشقة ومعشوقة في آن. يتماهى فيها الكاتب مع ضمير المؤنث/اللغة ويحترق بالأشواق، ويبحر في تيه العشق الصوفي، تتجذر اللغة في أعماقه لتتحول إلى رمز، إلى امرأة فاتنة له مفتونة به، وقد يبلغ به الوجد إلى حد الفناء الصوفي. إنه مشبوب، مفتون حبا ووجدا، تثيره اللغة، وتبهره الكلمات، حتى يرتكب المحظور، حسب تعبيره.

يأخذنا “فتنة الكلمات” في رحلة باطنية في عالم اللغة، في عالم الأفلاك الصوفية إنه إبحار في اتجاه الأعماق، في لمحات دالة موجزة. إن الكاتب يقول المجاز ويسكت عن الحقيقة، لأن في الحقيقة أسرار، كما في النص الذي يحمل عنوان: “رسالة”(5) بل هو يفضل الصمت على الكلام، والمناجاة على الثرثرة كما في: “الفاتحة”(6).

“والعشق درجات أعلى مرتبة من عشق اللغة واتحد بها”(7) فاللغة إذا هي الموضوع وهي الذات معا، يقول في نص آخر: “من الناس من يفتن في ماله، ومنهم من يفتن في إيمانه، وقد يمتحن المرء في بدنه، وقد يبتلى في عقله، ولقد فتنت في كلماتي”(8)

إنها نصوص يتحد فيها الكاتب باللغة اتحادا صوفيا مشخصا إياها في امرأة فاتنة تستبد بمشاعره، فيناجيها مستكينا أحيانا، ثائرا أحيانا، يحاورها باثا نجواه، توسلاته، رغباته المتفقة، واصفا رحلاته في معارج الروحانيات حيث يرى ويشهد الحضرة الصوفية، يغوص في الباطن، لتنكشف له علاقات أخرى أكثر صفاء وأشد فتنة.

إن في “فتنة الكلمات” لوحات غنية وحبلى بدلالات عديدة، وإن كانت تصب في مجرى واحد، وبنية عامة تنتظمها، هو هذا العشق الصوفي اللامتناهي للغة، وضمنها هذه الطاقة الفياضة من المشاعر والأحاسيس المتدفقة: الوحدة / الكون / الناس / الحب / الجمال / النفس الإنسانية / الظاهر/ الباطن / الذات / الموضوع / الواقع / الحلم.

هكذا نقرأ في “فتنة الكلمات” لغة فريدة، فيها شدو النفس، وبوح الوجدان، نقرأ: “البث و”الهمس” و”الصدى” و”الرجع” و”الحنين”…الخ. قاموس شجي يمتح من نبض القلب وحرارة الوجد. يتدفق من خلاله فيض من الجمل والمشاعر لتصب كل النصوص في وحدة جوهرية، تكشف عن عمق لجانب الوجداني، وعمق الرؤية إلى الكون والحياة، للباطن أكثر من الظاهر.

إن “فتنة الكلمات” تجربة أخرى للدكتور عبد السلام المسدي مع اللغة، غير لغة العالم الأكاديمي الموضوعي الدقيق، إنها اللغة منظورا إليها من زاوية الوجدان، هذه المرة، زاوية أكثر حميمية وحرارة. إنه التعامل معها (أي اللغة) بواسطة الحدس البرجسوني فتنساب كالنهر المتدفق.. بعكس التعامل الأرسطي الديكارتي الذي درج عليه في دراساته وأبحاثه العديدة.

إنها مغامرة في الكتابة. جديدة، لغات عديدة تتمازج وتتقاطع دفعة واحدة، ورموز وأطياف، ظلال كلمات تتشابك، واستبطان، وتجريد، وتشخيص، ومونولوج ونداء، وأمر ونهي وفصل، ووصل ووقف… الخ. لقد حلت لغة الحدس والباطن هذه المرة محل لغة المعادلات المنطقية. توارت لغة المقدمات والبراهين والنتائج، وبرزت لغة أخرى تحمل دفقا من المشاعر التي تنتال انثيالا دون هوادة.

لكن البعد الجمالي لهذه النصوص في “فتنة الكلمات” لا يستمد فقط من دلالاتها المتعددة ولا من التقاطعات النصية التي تضعها في صف النصوص الحداثية بامتياز أو من هذا الفيض من المشاعر، الذي تزخر به، إنما تكتسبه بالدرجة الأولى من طريقة التشكيل اللغوي ومن نكهتها الأسلوبية المتميزة.

فهذه اللوحات تغص بالأساليب الإنشائية التي تحمل شحنة عالية من الذاتية الغنائية، كالنداءات المتكررة للقريب والبعيد، وفي النداء معنى لطلب التواصل، وسعي نحو ربط علاقة حميمية مع الموضوع (المنادى عليه/اللغة) إن النداء مناجاة إبداعية في هذه النصوص، يتحول فيه الموضوع (المنادى عليه) إلى ذات (المنادى) والعكس كذلك في وهج شعري أخاذ خاصة النداء التوسلي والإنكاري: “يا لغتي يا أسرة”.

“أيها الشعر، أيتها الحروف. أيا كلماتي…” إن النداء واسطة للإفضاء والبوح بهموم الوجد وقلق الذات التي تتماهى مع الموضوع تماهيا وجوديا.

وتوجد أيضا في “فتنة الكلمات” أساليب إنشائية عديدة كالاستفهامات بأنواعها: “هل تبعث الأرواح بعد ضياعها، هل تولد الألفاظ بعد مماتها، هل تحمل الأرحام بعد سباتها. كيف السبيل إلى عصا سحرية..” وأسلوب التمني والترجي والاستعطاف والندبة والقسم وتعمل كلها على إبراز ما يعتمل بالذات من توتر وشجون.

ومن الظواهر الجمالية في التشكيل الأسلوبي، ما يلاحظ على هذه اللوحات من حركية وطغيان للأفعال الموظفة في جميع الأزمنة، دون أن تدل على زمن محدد ورغم أن موضوع اللغة، من المواضيع المجردة، إلا أن كثرة الأفعال المشخصة لها وحركيتها تمحنها بعدا حيويا يكاد ينطق ويتجسد في صورة إنسان.

وغالبا ما تدل هذه الأفعال المتلاحقة المتفقة، على حركات المشاعر، والتقلبات الإنفعالية التي تموج بها النفس الإنسانية في عالم الباطن. هكذا نقرأ في إحدى اللوحات: “وما الكون إلا مرآة على صفحاتها تنعكس صورة، هي صورة من نفوسنا”(9).

كما أن تنوع الأساليب وتراوحها بين إخبار وإنشاء بين سرد ووصف، وتصوير وحوار… يكسب هذه النصوص دينامية وحيوية. الترداد أيضا ظاهرة أسلوبية في هذه النصوص، يكسب الجمل والفقرات غيقاعا داخليا وتوتزيا صوتيا ودلاليا.. “فالنور أنت والنار وجدك واللهيب لهيب لفظك، وأنا فيك فانية..”(10).

أما الإمعان في تركيب المجازات والصور والتجسيد والتجريد وكل هذا يتم دفعة واحدة فيحتاج إلى دراسة مستقلة، لا تستوعبه هذه القراءة فالصور تمتاز بكثافتها المجازية وبالابتكار والفرادة إنها صور طازجة بتعبير باشلار، يقدم من خلالها رؤى فريدة لعلام الباطن، وللكون الخارجي بواسطة التشبيه والاستعارة والتمثيل وغيرها من التقنيات البلاغية:… منها: “وسجا الرفيق، فتلمحت في العين دمعة كشهدة العسل، خلتها نذير مناحة فارتشفتها فكانت قطرات الجوى تساقي فرحا أبد الدهر كدمعة الأنثى ليلة زفت إلى الحبيب لم تعرف قبله حبيبا ولا تخال بعده”(11).

وفي لوحة أخرى بعنوان: “هاء السكت” صورة اللغة/المرأة التي تقدم جسدها لليل السعيد وللخليل فتاته المتبقى..” كقصيدة الزيف، كبدء اللقاء، كمادح السلطان، يمجد الفصحى.. يسكن الحركات، صفيق الحياء كغبة الأقدار(12).

فالصور تتلاحق في تدفق مثير فيه إبداع واختراع، يعجز القارئ عن التنقل بين دلالاتها العديدة من القراءة الأولى. إنها لغة “فتنة الكلمات” لغة زاخرة بممكنات كثيرة، مبهرة، تأخذ بلب القارئ يجذبك سحرها كدرة مشعة، من حيث ما نظرت إليها أضاءت ولمحت بدلالة ما.. بحيث يمكن القول إن سمة النورية سمة بارزة في هذه اللغة. وهذا هو استبداد اللغة، عند الدكتور المسدي، فهو مهما حاول حصر دلالتها تخونه وتشع بمعان أخرى ممتدة وفياضة. وهذه هي “فتنة الكلمات“.

إنها مغامرة في الكتابة، جديدة يخوضها الكاتب دون أن يرتكب فيها محظورا.

 

مجلة الجابري – العدد السادس عشر


هوامش (فتنة الكلمات):

1 – نشر وتوزيع مؤسسات عبد الكريم به عبد الله، تونس 1998.

2 – في هذا الصدد ينظر على سبيل المثال المقالات التالية:

ـ فتنة الكلمات أو الشغف بالمعنى “جريدة حقائق” الملحق الفكري/ عدد654، جوان 1998.

Fitnatou Al Kalimat de Abdesselem Mseddi, Le pouvoir impérieux du verbe “la presse”, 25/5/98, le plaisir de lire.

ـ ما كتبه نذير العظمة في الملحق الثقافي لجريدة “الحرية” الخميس 25 جوان 1998.

ـ وغيرها من المجلات: “كأخبار الأدب” القاهرة 31 ماي 1998 و”الصباح” عدد20 يونيو 1989.

3 – انظر الحوار الذي أجرته معه “أخبار الأدب” 31 ماي 1998، ص15.

4 – درويش الجندي، الرمزية في الأدب العربي، ص51 وما بعدها وكذا صفحة 164.

5 – فتنة الكلمات، ص7.

6 – فتنة الكلمات، ص11.

7 – فتنة الكلمات، ص11.

8 – فتنة الكلمات/من نص بعنوان “مداد”، ص47.

9 – فتنة الكلمات: نص بعنوان “همس”، ص73.

10 – فتنة الكلمات “من لوحة” ترتبك، ص56.

11 – فتنة الكلمات، ص65.

12 – فتنة الكلمات، ص128.