مجلة حكمة
شذا الأشجان تباريح المعاناة في قصة

شذا الأشجان: تباريح المعاناة في قصة

الكاتبفؤاد الأشقر
ترجمةالعربي القاسي

  بينما أتجول في منفسح هذه البساتين القصصية المثيرة، أجدني أمام ملاح منكوب تعترض سبيله أمواج عاتية، وأمطار طوفانية وعواصف هوجاء.. وهو لا يدري حقيقة الأنواء الجوية أيام السفر. فلا يملك إلا أن يواجه صخبها وغضبها بمجداف خشبي مكسور.. وأنّى له الخلاص والنجاة.. والموت يطلبه من كل مكان!!

   تلك حال فتى غض مُصَفَّد بأغلال اجتماعية قاسية، ونيران عاطفية ضارية لم يخمد بعد أُوارها في مملكة نفسه الباطنية.. فتى مرهف الحس، رقيق المشاعر، تبدو عليه مخايل البراءة واللطافة العذبة والعاطفة الجياشة. وتفوح عينيه بألق الرقة والطيبوبة الناصعة وسيالا من الرغبات المجهولة. ومن أهذابه ينسل وميض يلتمع بالصمود والتحدي إذ طالما جد وكابد لأن يرَوّض لهيب الكلمات التي اتخذها بلسما مضمدا لجراحات الزمن اللعين. بل ترياقا يقيه سموم الوحشة والغربة المستفحلة بقوة.. فتى وجد ضالته في نفث سموم الأشجان والأثقال المتناسلة ممتطيا صهوة القرطاس و القلم.. وهو بذلك يؤكد، مرة أخرى، أن الأعمال العظيمة إنما تولد من رحم المعاناة والنضالات المريرة سيما وأنه قد تجرع على ذلك الصّاب والعلقم، ومضغ لقمة الحنظل مند ميعة الصبا.

   هكذا نجده يباشر موضوعات مفعمة بنَفَس شجي تحدد مولده من يوم رحيل الأب الرحيم، ربّان الأسرة ومعيل العائلة، إلى مستقر الأرواح الخالدة.. رحيل مباغث أليم زلزل كيان الأسرة وقذفتها عاتيات الدهر إلى طرّة الحياة حيث الجفاء والبخل والصلف والحقد الدفين يسكن شغاف القلوب السود هناك.. إنه القدر المقدور الذي يصيح بنا مذكرا و محذرا و مزمجرا أن المنية (الموت) حقا ابنة الأيام و نبتة الزمان ترمي كل من ساقه قدره إليها سوقا حثيثا …”فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال. ولا يغلبنكم فيها الأمل و لا يطولن عليكم فيها الأمد..”(1) . و “.. وإن غائبا يحدوه الجديدان لحري بسرعة الأوبة. وإن قادما يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة. فتزودوا في الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا.. فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة. و أن تؤديه أيامها إلى الشقوة .نسأل لله سبحانه أن يجعلنا و إياكم ممن لا تبطره نعمة و لا تقصر به عن طاعة ربه غاية .ولا تحل به بعد الموت ندامة أو كآبة..(2).

  من هنا نلمس عيانا أن أنامله المرهفة ترجمان صادق صادح بزفرات الأشواق المكنونة في روحها المتوثبة ومرآة تصور تلاوين الأشواك الموجعة المنغرسة في خلجات أنفاسه الطاهرة.. حيث تحتل منها الأم محل القطب من الرحى. ذلك أنها استوطنت عين العاصفة الناسفة لسفينة الأسرة المتكسرة.. أمّ نحتت الجلاميد بصبر جبار علها تطامن من غوائل الأيام و تلطف دواهي الزمان.

  فها هو العمر يجري ..الشباب يجري ..الزمن يلهب بسياطه.. الأيام لا تريد أن تستريح. بل ستمضي أبدا بصيفها اللافح و خريفها الحالم وشتائها القاسي وربيعها الفواح.. و ستظل الأم -عنوان التضحية الملحمية- تصارع المكائد و الشدائد الرهيبة التي تهد جنبات هذا العش الهش، خاصة بعد خيانة الأصدقاء الأوفياء، وتقاعس الابن البكر عن تجشم المسؤولية العائلية التي أنيطت به في طَوْر لم يشرب فيه قلبه بعد معاني النضج الرجولي البطولي المنشود.. ومما زاد الطين بلة هو ظلم ذوي القربى (الأخوال، الخالات..) الذين لم يساندوا الأسرة المنكوبة في أحلك الظروف وأشدها وخامة و قتامة.. الأمر الذي اضطرها إلى مغادرة البيت الأصلي، مهد الميلاد، ومرتع صبا فلذات الأكباد.

  إنها لحظة مهيبة تختل فيها دقات القلوب.. لحظة تم فيها استعادة شريط الذكريات المنصرمة مرها وحلوها، أفراحها وأتراحها، حيث الأب يتزعم الركب بخطى ثابتة مطمئنة.. لكنه، وراحمتاه، صار نزيل الثرى، غاب عنه شخصه بعد عمر قصير ولم يغب أبدا طيفه ولا ذكراه التي ستظل منقوشة في صميم وجدانه ما حييت.. سرعان ما انطفأت وأعقبت الأسرة فجعا و وجعا مبرحا يصعب التئام جراحاته الغائرة في صدور أفراد العائلة الذين تجرعوا مرارة اليتم الأليم مبكرا.. وبالرغم من نزيف الألم المتواصل، يبقى الصغار وتحديدا الابن الأصغر “فؤاد” بمعية الصبية الفتية، شمعة أمل متوهج يهدهد زورق آلام الأم المتعاظمة، ويفتح أمامها شبابيك الأحلام الوردية السَّنية.. عسى أن تنقشع دياجير اليأس والبؤس والفقر والتقتير الممض.. لذلك انتحى الابن البار اليافع مكانا قصيا من المنزل بفضل توسط امرأة خيرة لتعيد للأسرة بعضا من تلك النغمة المفقودة.. ومن تم التحق بالمأوى الداخلي(القسم الداخلي)، ملاذ التلاميذ القادمين من مناطق نائية، ليكمل مشواره الدراسي بعزيمة حديدية وشهوة نارية علها تحيى موات الأمل، وتجدد سفينة العلم والعمل. إلا أن هذه المبادرة الجسورة لم تسدل الستار على فصول المأساة اللعينة .. تلك إذا غيوم مكفهرة أرخت بظلالها الشفيقة على حياة عائلة يتيمة من خلال ما تهمس به ثنايا القصص التالية:معاناة الأم الحنونة” (شقاء الأمومة)، “الغيم الأسود” “خريف الفراق”،” مستنقع الهموم“.

  هنالك (أي بالداخلية) انزوى بمكان مُسَل مسلحا بعزيمة سيزيفية لا تفتر ولا تقهر استعدادا لمواجهة مدلهم المحن و النوازل التي تتناسل يوميا كحبات الرمال في كل مكان.. حتى يتسنى تحقيق المطامح العلوية النبيلة التي بمكنتها أن تعيد إشراقة المحيى وبسمة الحياة المسروقة من ثغر الأم الحنون..

  وبينما هو قابع في إحدى زوايا القسم الداخلي، و الذي أسلس توصيف تصميمه بدقة متناهية قلما تتوفر لدى أترابه الناشئين (المكان المظلم)، إذا بغربان الشؤم والضيق تحلق بعنفوان أمام ناظريه، وإذا بمشاعر الوحدة والغربة تنغل أحشاءه الواهنة كأنما هو رابض في زنزانة خانقة مقرفة :”..أكاد أختنق لوجودي داخل القاعة الموجودة داخل القسم … كلما دخلتها كأني دخلت إلى سجن أبدي.. لا أحد يتركك على راحتك، كلما أردت أن تسأل أحدا… إلا و طاردتني أعين المراقبين: شتموني و وبخوني ” (حكايتي مع القسم الداخلي). إلا أن ثالثة الأثافي تمثلت في تسلط المسئول ”الحارس العام”، رمز الاستغلال و الاستبداد و الشقاق و النفاق ومساوئ الأخلاق.. حيث يستغل التلاميذ في غسل الأواني بدل الغاسلات المسئولات عن ذلك، و ينتهز فرصة تغيب أحدهم أو تأخره ليتلذذ بنشوة الانتقام، و يزعم أنه عَلاّمة فهامة في فنون معرفية شتى، بثرثرة مضجرة.. فضلا عن تحايله رفقة ”المقتصد” في سبيل تلميع صورة ”القسم الداخلي” و ترويج صور براقة زائفة بشأنه.. وكأني بذلك أنظر إلى حشود غفيرة من القطعان السائمة المنبوذة في أقاصي الأرض الرحيبة إذ ضل راعيها فساحت في مراعي التعاسة و تاهت منقادة بغير قياد في فلوات الشؤم و الضياع.

   إنه جحيم معنوي يتلظى في مرجله أولئك الفتية المتعلمين المتذمرين (المكان المظلم، “المنبوذون”/ الزنزانة). بل إن أطياف القلق والأرق ظلت تساوره و تلازمه ملازمة الظل لصاحبه، بل جعلت جنبه يجافي المضجع إذ صار غرضا يُنتضى بسبب عربدة كوابيس مرعبة عكرت صفو نومه ليلا، وتغلغل تباريح اليأس والقنوط في نياط قلبه المفؤود وهو في منتدح وطنه الفسيح (“حياة بلا ثمن، أو بالأحرى “أضغات أحلام “)..

  إن بؤرة المعاناة المتواصلة تجد جذورها المرجعية في تلك اللمسة الرومانسية التي تختلج كينونته الباطنية. إنها الجبلة الإلهية التي تفيض عاطفة جياشة وتتقد فوانيسها في دواخله النفسية العميقة. وقد استشعر أنها مصدر شقوته ومحنته الدؤوبة نظرا لتمكن نوازع الحنان الحالم والود المسالم و الطيبوبة المفرطة من روحه وعقله وفكره تمكنا شديدا. فيا ويح نفسه السمحة إذ جعلها الأوغاد مطية الاستغلال والتزلف الماكر ومظنة للضعف والزهد (“حيرتي وضعفي جعل الأبواب كلها مقفلة في وجهي، مع أن كل مفاتيحها في يدي (بل يد الله جل جلاله وليس في يد أحد..) فهل يا تري ، سأتخلص من شعوري بالإحباط و اليأس والفشل ؟ !..” ) . إنها نفس مكبلة بمشاعر بائسة سوداوية لا يدري كيف الخلاص و الملاص من مخالبها ( لغز غامض). والحال أن منطق الواقع يستلزم انتهاج سبيلي اللين والشدة بحسب تغير الأحوال والنوازل . يقول الخطيب المصقع زياد بن أبيه في خطبته الشهيرة المعروفة (البتراء):إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف”( (3. وذلك إثر توليته البصرة لمعاوية بن أبي سفيان والفسق فيها كثير فاش ظاهر.

  وفي هذا الصدد يقول الرحمة المهداة، وطوق النجاة محمد بن عبد الله عليه أزكي صلاة وسلام :المؤمن القوي أفضل عند الله من المؤمن الضعيف“. و يقول الفاروق الفارع عميد الجاهلية وعملاق الإسلام ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه “لست بالخب ولا الخب يخدعني“. والأحكام الدينية والمأثورات الحكمية كثيرة وغزيرة في هذا الباب.

  على صعيد أخر، قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن تركيبته الوجدانية المرهفة هي التي حدت به إلي التعلق بتلابيب حب هارب وملامسة مواضيع ذات الحساسية المفرطة. ذلك أن الحديث عن حرقة الهوى ولواعج الجوى ووجع النوى لهو ضرب من المواضيع الأصلية المتشعبة المتجذرة في أدغال النفوس منذ آماد سحيقة.. فهو (أي الحــب) لائط بالقلوب و

"داء عياء، وفيه الدواء ومنه على قدر المعاناة، وسقام مستلذ، وعلة مشتهاة لايود سليمها البرء، ولا يتمني عليها الإفاقة يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده .."(4).

  بيان ذلك أن الحب سقم يلتاط بسويداء القلوب ويدوسها بكلاكله، فتؤثر تحمل آلامه وأفاعيله وفجائعه العجيبة على ألا يرحل عن مملكة الخوالج الدفينة. فحينئذ يصنع في جمهور المتيمين العجب العجاب بحيث يبهرج ما تمجه السلائق، ويحبب ما تنبو منه الأذواق، مذللا كل العقبات الكأداء .. فلا غرو إن ألفيناه يحلق بعيدا في سماء الحب المثالي الذي يعلو فوق جميع المرجعيات الفكرية والعرقية والفلسفية.. حب جبراني إنساني سام متعال عن الحزازات والعداوات والضغائن التي لوثت صفاء الإنسانية السمحة.. وفوق بساطه الحريري المنمق بالياقوت والعسجد المتلألئ تجري أحداث عجيبة تستلهم ملحمة الطائر الغابر“فينق”الأسطوري الذي ضحى بروحه ودمه لينبعث من رماد أشلاءه المتناثرة انبعاثا جديدا يخلصه من شرنقة العدم ويعانق شقشقة الوجود، لكي تحيى المحبوبة حياة هنيئة مريئة (الحب المستحيل) ثم الرجل الأبكم الذي مزق لحمه الطري إربا إربا كعربون محبة ومودة للفتاة الولهى (الحب المشرق).. وفي هذا المضمار، لم يكن هذا الواله التائه في بحر الهوى حالة نشاز، إذ كثيرا ما يشرئب إلى الاستحمام تحث شلال الأنوثة الرقراق أملا في إرواء عطشه العاطفي الذي فطر عليه معشر الخلائق جميعا والذي لا يكتمل ولا ينتعش إلا بمعايشة الظل الناعم. فلا غضاضة إن أدلى بدلوه في بحره اللجي سيما وأنه يتمتع بروح شاعرية قلقة تغذيها الآلام الأليمة والأحزان العميقة (رسالة تحت الماء)، و تتماهى مع النغمات الموسيقية العذبة التي تطرب الأذان وتستلذها الأرواح الطيبة ..”..لدي أدن موسيقية دقيقة” تمكنه من تمييز عذب الأصوات من غثها الذي أفرغ من محتواه الجوهري: “إن لم تكن الموسيقى تنبع من القلب، فلن يتسلل رنينها أبدا إلى أذناي أو يمس مشاعري” (عشق الموسيقى). لذا سرعان ما أُشرعت أمامه أشرعة التعرف على فتيات كثيرات تضم بين جوانحهن نفائس الأنوثة السحرية. ونذكر، في هذا الصدد، انبهاره بالفتاة اليافعة الجذابة “سلوى”ملتمسا منها التسلية والسلوان من غمرات الآلام، وطوارق الأوجاع والأسقام التي تقتفي أثره في كل حين وآن ..سلوى آية في الوقار والجمال .. لكن تردده في البوح بمضمرات نفسه تجاهها أجج في بواطنه مشاعر اللوعة والأسى خاصة عندما أطلعته برحيل أسرتها إلى مدينة الجديدة (لحظة وداع). بيد أن عزيمته كعادتها، لا تلين ولا تستكين بسهولة، حيث تعرف مجددا على فتاة تدعى “إكرام” بمرحلة الإعدادي. و سرعان ما توطدت بينهما وشائج المحبة والقربى بعدما تملكت زمام نفسها وفاتحته في الموضوع دون أن ينبس ببنت شفة. لكن نكاية الوشاة اللئام أشعلت فتيل شجار عنيف بينها وبين شقيقها الأكبر مما أدى إلي صرم حبل الوصال بينهما ووأد هذا الحلم المتثائب في مهده “حب غائم/ حب موءود“). كما أن أخلاقه السمحة كانت مثار إعجاب فتاة أخرى “نادية” التي ترفل في ثوب يجلله أدب جم وخلق رفيع.. حتى اغتدت بلسما شافيا لأوجاع الهوى في حلك الليالي الطوال (..”جلست أناجي نفسي في الظلام وأقول: لماذا يساورني هذا الخوف ؟.. وهنا انتقضت واصفر وجهي وتصبب جنيني عرقا.. ماهذا الذي يحدث لي؟.. فرأيتها واقفة أمام فراشي مبتسمة .. ولم أزل هكذا الليل كله ، أهدأ حينا وأثور أحيانا…”(حلم ضائع). وأحيانا نجده سابحا في عوالم الخيال لينسج علاقات طريفة معهن. لكن لعنة الإخفاق والمعاناة الأليمة ظلت تطارده (حب غامض). فانكب على ارتشاف نُغَب اليأس والإحباط والتذمر أنفاسا إثر تعلقه بفتاة أخرى لم تتوان هي الأخرى في هجرانه وتبخسيه وضرب الصفح عنه نهائيا بمجرد تعرفها على وافد جديد قطن حديثا في حيها (عذراء الحب).

 وفي خضم هذه الضميمة السردية المثيرة، نجد شذرات قصصية تتناول مواضيع متفرقة يندغم فيها الواقع والخيال. ومنها تلك الذكرى الأليمة التي شدت زبيدة، زوجة عبد الله حاليا، إلى رحاب الماضي حيث صال الدهر الكنود صولته واستذل زوجها الأناني الأسبق، وجعله بئيسا متسولا يستجدي الغادين والرائحين ليسد جَوْعته ويشفي بلْغته (الزمن الدوار). وفي ذلك ذكرى وعبرة لأولي الأبصار. كما استلهم ماضي مصر العريق الممثلة في “عائشة” التي أخلصت حبها لشعبها الأبيّ اليقظ المجسد في “أحمد”. لكنها أذعنت لغواية “إبراهيم”، ممثل المستعمر البريطاني الحاقد، الذي اغتصب كرامتها و استباح عذريتها بعد ما نصب لها شَرَكا خداعا.. لذا قامت قائمة أحمد و اهتاجت غيرته، فلم يعتم أن فقأ عين المهانة و الخيانة العظمى التي رزح تحتها بلده الأم مصر أمدا طويلا (الزمن الدوار). و من جهة أخرى، فقد استحضر قسوة الآدميين تجاه الحيوانات الأليفة، وتحديدا الكلاب “ليندا” الوفية لمربيها بحيث تدافع عنه أثناء النزال والشجار ضد الأوغاد، وتهرع إلى طرد المتسكعين من دروب المدينة وأحيائها لتلقى حتفها المشئوم على يد رجال البلدية القساة الجفاة (مأساة ليندا). ولا غرابة أيضا إن ألفينا هذا القلم السيال يغترف من منهل الخيال البعيد ويناوش أطيافه الهلامية ليرمي بالطالب الجامعي “فيصل” خارج أسوار الجامعة إلى بلاد العراق، بلاد العجائب والغرائب. ومن ثم هبت شقيقته “نجلا” لنجدته هناك بإيعاز من العرافة الملهمة التي فكت طلاسم القضية لتدلهم على مكان وجوده بإحدى مستشفيات بغداد. حينها امتدت أنامل “نجلا” الرحيمة لتنتشله من براثن الغيبوبة والوحشة.. وبعدما عادوا أدراجهم إلى أوطانهم سالمين غانمين، أكرموا وفادة العرافة لتلفظ أنفاسها الأخيرة عقب مرور عشرين سنة (العرافة). من زاوية أخرى، فقد استدعى مكنون التراث الإنساني ليطعّم نَفَسَه القصصي باستجلاء أحد تمظهرات الاختلاف الثقافي و اللغوي بين الأعراق و الأجناس و الألوان والعقائد الآدمية الطافحة بتقاسيم التنوع و التعدد. و ذلك من خلال الاحتفاء ب”عرس أمازيغي باعتباره شاهد حي على تفرد الطقوس الاحتفالية الأمازيغية داخل التربة المغربية الندية.. و في كلّ، نجد تلك الروح الإنسانية الساعية دوما إلى التضامن مع جحافل المحتاجين، و منهم الذين ضلوا الطريق أو بالأحرى توجسوا خيفة من الدلج بها تحت جنح الظلام بسبب محاجزات الأشغال طوال النهار.. من هنا انتدب نفسه لتخليص تلميذة نبيهة تدرس معه في الفصل نفسه، من مجاهيل السبل السيارة ليلا ونهارا حيث الأشرار و السفلة و قطاع الطرق يتربصون الدوائر بالراجلين والراكبين.. وفي ذلك الإبان، أرشده مدرسه إلى ضرورة تعلم اللغات الأعجمية درءا لمكر ناطقيها وخلاصا من مكائدهم المحتملة، ويرافقه في ذلك أحد رفقائه الأوفياء الذين يَشْدُد بهم أزره. ( يوم عاصف).

  بناء على ما سلف، يتبين بجلاء أننا أمام مادة حكائية ثَرَّة دسمة تكشف تلك الهمة العالية التي يتمتع بها صاحبها سيما أنه خبر فجائع الدهر و اكتوى بنار مآسيه المتناسلة بشكل مسترسل في وقت مبكر، وعلى رأسها المنية التي اخترمت الأب الودود ثم نوائب الدهر التي تمالأت و تكالبت على أفراد الأسرة المتداعية، إلى جانب براكين الوجد التي دغدغت وجدانه وهزت كيانه، فضلا عن تلك العاطفة الهشة التي انسحقت تحت ضربات المكر والنفاق الاجتماعي المستشري بقوة خطيرة..


 

-هذا العنوان لأحد القصاصين المبدعين اليافعين فؤاد الأشقر. وقمت بدراسة مضامينها دراسة تحليلية متفحصة.

– إن العناوين الموضوعة بين قوسين هي عناوين للقصص المبثوثة داخل المتن.

المراجع:

-(1):من خطبة “التزهيد في الدنيا” كتاب “نهج البلاغة”الجزء(1) شرح: الشيخ محمد عبده /يضم خطبا منسوبة الإمام على بن طالب. ص:79

-(2):من خطبة “لزوم الاستعداد لما بعد الموت ” “نهج البلاغة “، ج (1) شرح الشيخ :محمد عبده ، ص84/ 85. الشرح اللغوي: (1) الغائب : الموت / يحدوه :يسوقه /الجديدان: الليل و النهار / الأوبة: الرجوع / تحرزون به: تحفظونها به، وذلك هو تقوى الله في السر والنجوى و طاعة الشرع وعصيان الهوى / يكون عمره حجة عليه: لأنه أوتي فيه المهلة ومكن من العمل فلم ينشط له / لاتبطره النعمة: لا تطغيه ولا تسدل على بصيرته حجاب الغفلة عما هو صائر إليه.

3)) :”البيان والتبين” أبو عثمان الجاحظ ، الجزء 2 ، الطبعة 2 ، 2002م ،ص، 263/264.

(4):ابن حزم الأندلسي “طوق الحمامة“: 48،49.

5)):المتن القصصي المعنون بـ” شذا الأشجان ” لـلقاص: فؤاد الأشقر.