مجلة حكمة
دم ودخان ربيع مبارك

البعد الواقعي في أقصوصة “دم ودخان”

الكاتبمبارك ربيع
ترجمةالعربي القاسي

   تجدر الإشارة، بادئ الأمر، إلى أن مبارك ربيع من الرواد الأوائل الذين أسهموا في تأسيس القصة الفنية الحديثة وجعلها أداة فنية فاعلة تنطلق من الهموم اليومية المحلية لتصوير تقاسيم الواقع المعيش بشتى تناقضاته ومتغيراته البارزَة. فقد نضجت كتاباته أكثر بفضل فرادة تكوينه العلمي الأكاديمي الذي يمزج الفكر الفلسفي وعلم النفس وعلم الاجتماع، فضلا عن تعدد مشاربه الإبداعية بين القصة القصيرة والرواية والدراسات النفسية والنقدية. وقد مرت تجربته الإبداعية بمراحل هامة أهمها المرحلة الرومانسية، فالواقعية، ثم الفنية حيث عمل على صقل أعماله السردية من الناحية الفنية الجمالية. ونروم هنا أن نكتشف أهمية ذلك بتناول النص القَصِيصِي “دم ودخان” علّنا نتمكن من تجلية أهم مكوناته الجمالية والنفسية.

أ/الحبكة: لقد التزمت القَصِيصَة بالخطوات التقليدية المتبعَة في عملية السرد حيث توالت بها المراحل الأساسية المعهودة: بداية ووسط ونهاية. ويمكن تلمس ذلك في النص من خلال سعي دحمان البئيس إلى إرضاء طلب زوجته الحامل التي وَحِمت لكبِد الغنم (إرادة الفعل). لكنه سيقع فريسة الاستغلال والإهانة في يد الأغنياء السماسرة الذين ابتزوه ماديا ومعنويا. وبذلك يتحول الإحساس بالشماتة والخذلان والاستغلال البشع إلى كابوس مؤرق يلازمه حيثما ولى وجهه، لينتهي الأمر إلى إيقاظ زوجته له من شروده وتأملاته اليائسة لتُناوِله سفودا من شواء الكبد. لكنه لم يتخلص إطلاقا من صور استغلاله في المستشفى حيث باع دَمه بثمن بخس بسبب خداع الوسيط وخيانته لعهده. وقد ظلت هذه الاستيهاماتُ المحركَ الرئيسَ لمشاعر الإحباط واليأس المريع من استعادة المقابل المتفق عليه سلفا: خمسون درهما بدل عشرة دراهم، وعبْرَه يستعيد كرامته المهدورة وحيويته المألوفة ويواصل كفاحه المستميت بخطى ثابتة. لَعَلَّ هذا ما سيكشفه استنطاق معجم النص وصوره الفنية وشخوصه وزمانه وفضائه لأجل الوقوف على براعة تجسيد تلك اللحظات المكثفة المتواشجة بشكل وثيق.

 ب/ فنيةالمعجموظلالهالدلالية: لقد وظف القَاصُ معجما لغويا دقيقا منتقى بإحكام خدمة لمراميه المستترة المراد إيصالها لجمهور القراء بطريق فنية لا تخلو من براعة وإتقان. ففضلا عن اللغَة السلسة السهلة الانسيابية التي تتماهى معها ذائقة القارئ العادي، فقد كان للمعجم دور في شَعْرنة النص وكشف بعده الواقعي بصور حية جَلِية للغاية.

  افتُتح النص باستهلال دينامي يقود القارئ مباشرة إلى قَلب القصة التي سَبَقتها أحداث كثيرة أثرت على البطل “دحمان” تأثيرا بَيِّنًا، وكلها تؤكد الحزنَ العميق التي يسكن دواخل البطل دَحمان. هذا ما تُؤَشر عليه أولى العبارات اللغوية الممهدة للنص “لوى رأسه في حركة متعبة”. بعد ذلك تأتي اللحظة الثانية التي تنم عن الإرهاق الشديد والفتور الذي دبَّ في أوصاله فأضناه من خلال لفظة “العجز” في قول السارد: “يشعر بأنه عاجز عن الحركة، عن إرادة الحركة، ولما يتحرك؟ إنه لا يرى ولا ينام ولا يرفض”. وحين يتمعن في مدى وخامة عواقب الابتزاز والنفاق تتولد اللحظة الثالثة. وهي نُفُور فطرته ونفسِه التي بين جَنبَيْه مما كَسَبت يَداه حيث لعنة المهانة والمذلة تطارده باستمرار “أحس دحمان بأنه يثير الاشمئزاز وأنه ضد نفسه… صوته لا يطاوعه… صوته يتمرد عليه”. وتكريسا لهذا الإحساس السوداوي القاتم تحول التيار النفسي في النص من أفعال الماضي (لوى، هز، كان ..) إلى فعل الحال والاستقبال (لا يطاوعه، يتمرد، فليفكر، ولتطعه…). وبهذا التحول من التمفصل الأول “لوى” إلى التمفصل الثاني “إنه عاجز” إلى التمفصل النهائي “يثير الاشمئزاز”… يتم المعنى الاستيهامي المؤسس بتدرج متراص في إذكاء شرارة الألم الأليم والحزن العميق الذي يستوطن سويداء قلبه. ويتأكد هذا الشعور المخزي في النص بتوظيف الاستعمالات اللغوية العامية المجسِّدة لنبض الشارع الذي يعربد فيه النفاق ومساوئ الأخلاق “…عْشْرَة… عْشْرَة يا ناس !,الكْلْمَة هْيَ الرجْلْ، الكْلْمَة عْشْرة”.

  وتنجم عن هذه التحولات المعجمية النفسية تحولات استعارية تعكسها الصور النفسية التي تتخلل النص.

ب. شـعرية الصور الفنية:

   تخدم الصور الفنية الايحائية القائمة على التشبيهات والاستعارات الأحوال النفسية التي تعتري دحمان، بطل قصة. فهو حريص أيما حرص على تلبية طلب زوجته الوحمى التي دفعها وِحامُها لتطلب منه ما يُقصر عنه الإملاق يده، الأمر الذي اضطره إلى بيع دمه بسبب الفاقة والعوز الشديد. وعليه تجَسَّد المشهد الأول عند تخديره تمهيدا لاستخراج دمه حين”أحس أثناءها كأنه يطير أو كأن جسمه فقد وزنه”، “فقد هذا الشعور… كما يفقد كل جديد رُوَاءه… كأن ما على وجهها غير مقنع… وأحس كأن نوما يراوده…كأننا”. فهذا المشهد الطافح بمظاهر الاستغلال البشع مُبَطن بأحاسيس التذمر المعنوي المريع “وهو متأكد من أن ذلك ليس نتيجة مرض، بل لمجرد أن صوته يتمرد عليه… ولتُطِعْه اليدان، حركته في التقطيع كاذبة زائفة… وتأتي النهاية لتعلن استمرار حزن دحمان وشروده”. وهذا ما تفيده الضِّلال الدلالية من خلال استغراقه في استرجاع ماحدث له صباح ذلك اليوم المشؤوم في المستشفى”… نمت يا دحمان؟ بل كان يجتر يومه وتململ”. ثم رجع إلى الزمن الحاضر عندما حركته زوجته لتنبهه وتقدم له قطع الكبد المشوي”.

  نتبين مما سبق فاعلية الصور الفنية في القصيصة في مجاراة بناء الحبكة من جهة، وفي الشبكة المعجمية من جهة ثانية، ثم امتداد تأثيرها على الشخوص والفضاء.

 ج. شـخوص القصيصة:

   يتشكل متن القصيصة من شخصيات بارزة تقوم بتحريك عجلة الأحداث. ومن ثمة، يكشف الفضاء حالة الذات الشاردة، المثخنة بالحرمان المتفاقم “تناول هذا قطعة الكرشة الغليظة والشحم في كفه… شحم رقيق… تناول خبزا وشايا. وعليه أن يكذب… وخلف ورقة القشرة دراهم ليقطعها…”. فثمة شخصيات أخرى كرست واقع المعاناة لكونها تتعامل بعملة النفاق والخداع الرائجة في سوق الناس على حساب قيم الفضيلة والمروءة والشهامة. وهذا ما يعكسه السماسرة والوسطاء بين الضحية “دحمان” وأهل المريض. “تقدم دحمان، و يد رجل مجلبب بشوش خلفه تربت على كتفيه … الكْلْمَة هْيَ الرَّجْل!… الوجه البشوش يردد الكْلْمة… الكْلْمة !؛ قلنا خمسين قلنا عشرة”.

   وهكذا عملت القصيصة على تكثيف الشخوص وتداخلها بشكل يعمق الحالة النفسية المهيضة لبطل النص ويعري بإمعان حالة الحرمان، والحاجة الماسة التي تخنق أنفاسه. إن هذه الشخصيات، في الحقيقة، مرآة كاشفة لما يجري في الواقع الاجتماعي المختل: التفاوت الطبقي الفظيع بسبب استفحال مظاهر الاستغلال والاستعباد في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية. ومرد ذلك أساسا إلى أن قيم العدالة الاجتماعية وقيم التضامن مع المعوزين البائسين قد قتلتها الأنانية والجشع وقلة المروءة.

  د/ الفضاء بين التقاطب والانجذاب :  ويتسق فضاء القصيصة بدوره عموما مع واقع البطل المزري. فالفضاء المؤثث لتفاصيل الأحداث هو المستشفى. وهو في الأصل ملاذ آمن لطلب العلاج والشفاء من الأسقام والأمراض المختلفة. إلا أنه صار في القصيصة مرتعا خصبا لاستغلال الفقراء واستنزافهم ماديا ومعنويا وصحيا بهدف الكسب المادي الصرف “لم يكن خَدَرُ الذراع يخلو من لذة كلذة النوم عند جلسته تلك على أريكة فخمة مطاوعة … وإنما تبع الممرض نحو غرفة معقدة التركيب… والبقعة الداكنة تتراكم في قعر الزجاجة… وعلى بعد أمتار من المستشفى حدق دحمان في ورقة العشرة دراهم”. في المقابل، نجد البيت الذي يأوي إليه دحمان وأهله موئلا للاستقرار والدفء العائلي والراحة النفسية. غير أنه أمسى في النص شاهدا على تمزق روح البطل المتداعية.

  إن فضاء القصيصة يعري أيضا واقع الحرمان والآلام الذي يرزح تحته البطلُ دحمان، ومن وراءه أي أهله وعشيرته الأقربون.

  هـ/ تقاطب الأزمنة :  موازاة مع ذلك، خدم تقاطب الأزمنة الأجواء النفسية التي تسبح في فلكها تقاطبات الشخوص والفضاءات. هكذا نجد معظم أفعال القصيصة وردت بصيغة الماضي للدلالة على حدث منجز: توقفَ، تناولَ، سألَ، لوى، بدا، هزَّ، أخذَ، أطلَّ، أخرجها، تبع… إلا أن السارد لم يتوان في كشف مساعي دحمان في التخلص من شراك النصب والاحتيال التي أوقعه فيها السماسرة اللاهثون وراء بريق المال غير آبهين بمحَن المحرومين المظلومين. هذا ما يتكشف بجلاء بفضل تشغيله أفعال المضارعة المسكونة بروح التحدي والصمود:”فليفكر في… ينقد بها… يتمرد… ولتُطِعه… ليقطعها …يتحسس، تخشخش، خذ”.

  و/ السارد: طغت على القصيصة تقنية السرد من الخلف لتفسح للسارد مجال الشهادة والإدانة للحظة دقيقة مجتزأة من واقع الحياة اليومية. فالسارد في القصيصة عالِم بما يتلجلج في بواطن البطل دحمان من مشاعر الخيبة والإحباط والأسى: “أحس دحمان أنه يثير الاشمئزاز وأنه ضد نفسه… مظلم ظالم وخسيس هو، صوته لايطاوعه…”. هكذا عكف عن رسم تلاوين الحرمان والأشجان التي تسكن دواخل دحمان في لوحة إبداعية فنية شجِية تنحو باللائمة على ما اقترفته أيدي اللئام من ظلم وتهميش وخيانة وخذلان…

  أما بعد:

   وبناء على ما سلف، يتبين بجلاء أننا أمام قصيصة تلاحمت عناصرها الفنية من فضاء وزمان وشخوص وأحداث وحبكة ومعجم لغوي مشحون وصور شعرية إيحائية معبرة… وقد تم تشغيل كل ذلك ببراعة مذهلة وإيجاز بليغ بغية كشف الغطاء عن زيف القيم المهيمنة في واقع مهترئ عشش فيه الظلم والاحتيال والاستغلال الشنيع الذي ينغل أحشاء شريحة اجتماعية مقهورة واسعة. فالقصيصة، إذن، صرخة مدوية تسعى إلى شجْب قيم الأنانية والانتهازية الطاغية التي تتغذى على أساليب الغدر والمكر والنفاق الاجتماعي السائدة في حياتنا اليومية.


 المراجع:

-“دم ودخان”، ربيع مبارك، مكتبة المعارف-الرباط، 1980 ص:5 -11