مجلة حكمة
عنصرية لون البشرة عبيد الطبيعة عنصرية

عبيد الطبيعة: حول أصل عنصرية لون البشرة – أيغون فلايغ / ترجمة: عبد الحميد محمد

تمهيد: ماهي عنصرية لون البشرة

وصف كلود ليفي شتراوس ما سمّاها “شعوب بلا تاريخ” بأنّها الأكثر سعادة. إرث التاريخ غالبا ما يكون ذا تقلٍ غير محمود بوطأته، خاصة على تلك الشعوب التي لها فائض كبير من الزمن الضائع والقليل من الحيويّة والمرونة. وفي دراسة مثل دراسة عنصرية لون البشرة، من المهم التعرّف على التاريخ بكلّ تفاصيله وتفاصيل العلاقات بين الأفراد والمجموعات التي صنعته، على ألّا تكون محاكمته من بواعث التمحيص في ثناياه، فتحمّل المسؤوليات أهم من هذه المحاكمة وأكثر نجاعة وجدوى.

بالطّبع أيّها السيّد، ليس ثمّة أيُّ تحيّزٍ بيننا بحسب اللون..

الزنجيُّ إنسانٌ مثلنا، تماما.. إنّ سواده لا يجعله أقلّ ذكاء منّا

فرانز فانون (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)

بواعث العنصرية وفيزياء السواد

كراهية أصحاب البشرة السوداء تبدو نوعا من الاحتقار الغريزي الذي يستفحل حتى يغدو حقيقة في النفوس لا تستوعبها كتب التاريخ، ولذلك قد يكون إمعان النظر في الحاضر أكثر إلحاحا من النظر في التاريخ الذي رأى فيه ريمون أرون Raymond Aron حوارا بين الماضي والحاضر، وزمام المبادرة يملكها هذا الحاضر.

والنظرة للآخر تستوجب التمحيص في ذواتنا قبل النطق بحكمٍ قيميّ على هذا الآخر وتحقيره، فنحن “ملأى بالريح، والريح أحكم منّا” كما قال ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne قبل مئات السنين.

زوي سامودزي Zoé Samudzi، الأمريكيّة المختصّة بعلم الاجتماع الطبي والإثنوغرافيا البصرية والعنـصرية عبرت بألم مؤكّدة أنّه لا يمكن لأحد أن يفهم كونك أسود في وقتٍ يتمّ فيه تعريفك كشيءٍ ما بطريقة مجرّدة، وكأنّها تقول إنّ هنالك استلابا لروح يتمّ إقصاؤها بشكلٍ قاسٍ ووحشيّ، من مشاهد حياتنا القاسية بطبيعتها الباعثة على المكابدة والشقاء.

البروفسور في جامعة إيموري Emory بمدينة أتلانتا الأمريكية والمختص بالأدب الإنكليزي والخطاب الأدبي والفلسفي والثقافي حول الهوية السوداء والسواد ميشيل إم رايت Michelle M. Wright، سأل في كتابه “فيزياء السواد Physics of Blackness”:

ماذا يعني أن تكون أسود؟ فوجد أن السواد ليس بيولوجيّ المنشأ بل نشأ في الخطاب الثقافي والأدبي والاجتماعي، ليطرح سؤالا آخر: هل يتغيّر معنى السواد مع تغيّر معطيات الوقت والمكان؟ فافتراضات المكان والزمان تمنع الوصول إلى تعريفٍ شاملٍ للسواد الذي يستمرّ على الدوام ربّما لأسباب تصفها الأمريكية المختصّة بالدراسات الجنسانية والنصوص الإبداعية السوداء كاثرين ماكيتريك Katherine McKittrick بالأسباب الشيطانيّة خاصة فيما يتعلّق بالنساء السود.

اجترح ميشيل إم رايت مفهوم “الزمن الظاهري epiphänomenale Zeit” الذي يحيل للظاهرة الإضافية أو الثانوية التي تكمن خلفها ظاهرة أوّلية متوازية معها، أي هنالك سببا ضمنيّا معروفا لكن يتم التكتّم والتحفّظ عليه مع أن هذه الظاهرة الإضافية نجمت عن الظاهرة الأولية وعن عمليات التفكير العقلية لدى الناس وما في مخيّلتهم، فالعلاقات الدلالية تسبق الصور المرئية وبالتالي يتم تخيّل شكل الكائن في الأذهان أولا وهو ما يتم عبره تخيّل وتفسير العلاقات بين البشر وكذلك يتم تفسير الماضي والحاضر وحتى المستقبل، ليتم تغييب مساحات العيش المشترك بين الناس بمختلف ألوانهم وأعراقهم، وربما لو عدنا للوحات الفنانة الأمريكية كارا ووكر Kara Walker البانورامية التي تبحث في الجوانب المظلمة للتاريخ وأعماق الثقافة لاستطعنا فهم وإدراك ذلك بشكلٍ أكثر وضوحا.

النهج الأكثر شيوعا واستخداما في الوقت الحاضر لدراسة العنصرية هو النهج الاجتماعي النفسي der sozialpsychologische Ansatz، فالعنصرية تشكّل تقييما لسلوك اجتماعي ضمن معايير أخلاقية ونفسية طبيعية، غير أنّها دلالة عجزٍ تاريخي في التمثّل لـ متطلّبات الديمقراطية والتخلّص من الاستبداد باستكمال البناء المؤسّساتي المناسب، فهي فعل سياسيّ ناقص وغير مكتمل نتيجة انعدام التسامح وغياب الوعي الديمقراطي.

ونظرية ثيودور أدورنو Theodor W. Adorno عن “الشخصيّة الاستبداديّة” أكّدت أن الأشخاص ذوي الشخصيات الاستبدادية يبدون ميلا أكبر إلى ذلك التصنيف القائم على ثنائية متضادّة (نحن الأعلى وهم الأدنى)، في وقت يميل فيه هؤلاء الأشخاص للولاء الأعمى للمعتقدات القديمة القائمة على التصنيفات والتفضيلات الأيديولوجية من هذا القبيل، ليذهب أدورنو للقول بإنّ الفاشية كان لها أساس جماهيري متين، حيث تنحاز الجماهير لقبول التطلّعات المناهضة للديمقراطية بسهولة.

العنصرية “نمط ثقافي” يمكن إعادة بنائه بشكلٍ أفضل، لكن يجب التمييز بين التاريخ العقائدي الأيديولوجي والتاريخ النقدي. حين بدت النازيّة وكأنّها سيطرت على قلوب الألمان مع صعود نجم هتلر، ذهب ريمون أرون لقوله الشهير: ” في مواجهة هتلر، الفلسفة لا تشكل وزناً“، فهتلر والتاريخ المخجل الذي كتبه بعنجهيّته استطاع بالفعل أن يقصي كل مطامح الفلاسفة.

بعد مقتل جورج فلويد George Floyd قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش António Guterres: ” يحتاج كل منا أن يسأل: هل أنا ومجتمعي عنصريون؟ وماذا عليّ أن أفعل لتصحيح ذلك؟”. لكن غوتيريش لم ينس التأكيد على أنّ العنصرية ” ظاهرة ثقافية معقدة”.

نوربرت إلياس Norbert Elias كان قد لاحظ بوضوح الهابيتوس Habitus الذي يسيطر على المجتمع بمعرفة مستضمرة تصل لحدٍّ تصبح فيه أقرب لهويّة جماعية تتوارثها الأجيال، ونزعة التعالي والشعور بالتفوّق على الآخرين تنشأ من هنا تحديدا من خلال قيم ومعايير طاغية في أيّ مجتمع، أي من خطاب الهويّة الدينيّة أو القومية أو من خطاب الكيان والذات الثقافية التي يهدّدها الآخرون “الغرباء”، ولذلك لجأ قاموس لاروس للقرن العشرين الصادر في عام 1932 في تعريفه للعنصرية إلى اعتبارها مرادفة للحزب النازي المدّعي لعرقٍ ألماني صاف، لكن بكلّ تأكيد ليس من أساس علميّ لكلّ النظريات العرقية التي تضع تصنيفا وتسلسلا هرميا تفضيليّا للأعراق والإثنيات والأقوام.

الذاكرة الشرّيرة للثقافة

ذكر المنظّر البريطاني تيري إيغلتون Terry Eagleton في لقاء له أنّ الثقافة إذا سيطرت عليها أيادٍ مسيئة، فإنها ستقضي على مظاهر التنوّع والاختلاف، لتتحوّل الثقافة بذلك إلى ظاهرة شرّيرة وخطيرة.

أمّا البروفسور وأستاذ الأدب الألماني واللسانيات في جامعة بيليفيلد كلاوس ميخائيل بوغدال Klaus-Michael Bogdal، فقد ذكر في كتابه عن الغجر وما يطالهم من تحقيرٍ وازدراء في أوروبا منذ مئات السنين “أوروبا تخترع الغجر” وصفا شبيها “الذاكرة الشرّيرة للثقافة” كتوصيفٍ لما سمّاه زيجمونت باومان Zygmunt Bauman “استمرارية الإمكانات البديلة والمدمّرة لعمليّة التمدّن”، وقصد بوغدال بهذا التوصيف ذلك التداخل بين ثلاثة مستويات هي:

علم الأنساب المتعلّق بالغجر والمستند على الشائعات والأكاذيب المستفحلة حتى في الوسط الأكاديمي، ثمّ علم الآثار (العاديّات) التقليدي الذي يتناول الأشكال والأنماط المنتجة للمعرفة والخطاب الأدبي عن الغجر، وأخيرا تاريخ ثقافي لعب فيه المستويان الأوّلان دورا مؤثّرا في بناء الذاكرة التاريخية بأوروبا وتأثيرات هذه الذاكرة وتطوّرها.

عن كاتب المقال

أيغون فلايغ Egon Flaig أستاذ فخري متقاعد للتاريخ القديم في جامعة روستوك Universität Rostock الألمانية، وسبق له أن درّس في العديد من الجامعات الألمانية.

فلايغ تخصّص في التاريخ القديم لألمانيا والتاريخ القديم في عمومه ولا سيما التاريخ الروماني والإغريقي القديم، لكن اهتمامه تركّز على موضوعات العبوديّة والديمقراطية والدين والهويّة الوطنيّة، وهو استكمل تحصيله العلمي في جامعات شتوتغارت وباريس وبرلين.

عمل فلايغ كمترجم وقام أيضا بدراسة الفلسفة إلى جانب تخصّصه في التاريخ فنال الدكتوراه في كليهما، وكان أستاذا زائرا لدى بيير بورديو Pierre Bourdieu في الكوليج دو فرانس Collège de France في عام 1995.

فلايغ مؤرّخ معروف من أولئك المؤرّخين الذين يوظّفون استنتاجات ومعارف مدرسة الحوليات الفرنسيّة المعروفة Annales-Schule وكذلك النظريات الاجتماعية في دراساتهم، لكنّه يؤكّد أنّه “آتٍ من الزاوية اليسرى” وليس من أيّة مدرسة تاريخيّة قديمة.

نظريا توجّهه نظريات ماكس فيبر Max Weber وبيير بورديو، وهو متأثّر بالأنثروبولوجيا الثقافية، فيجد نفسه بعيدا جدا عن التاريخ الألماني التقليدي القديم.

أطروحات فلايغ غالبا ما تثير الكثير من النقاشات والجدل، وبعض هذه الطروحات لاقت رفضا عنيفا لكن بعضها الآخر لاقت قبولا واسعا.

بحوثات فلايغ تتركّز على البحث المقارن لكن باختصاصات متعدّدة، وهو يرفض أن يتمّ تصنيفه كمتخصّص بالتاريخ القديم ويودّ أن يفهم انطلاقا من كونه متعدّد الاختصاصات وجزءا من الأنثروبولوجيا السياسية politischen Anthropologie.

يعتقد فلايغ أنّ إعادة إنتاج الممارسات المجتمعية تلعب دورا هاما، والثقافة لا تشكّل وجها خاصا أو بديلا منفصلا عن المجتمع بل بعدا يكمن بالضرورة في كلّ مفاصل هذا المجتمع ويتسلّلّ ليخترق كلّ توجّهاته.

نأى فلايغ بنفسه في منهجه الذي يتّبعه عن الإصدارات الحديثة في علم الاجتماع لاستبعادها للذاكرة الثقافية والبشر والناس من مرجعيّاتها وذخيرتها النظرية، ولا سيما نظرية الأنظمة لنيكلاس لومان Niklas Luhmann الذي عبّر بوضوح عن عدم اهتمامه بالناس لأنّهم ليسوا من المجتمع أو من الأنظمة المعقّدة التي تسيّره، ليعتبر فلاي أنّ نظرية الأنظمة عاجزة عن شرح عملية تحرير العبيد Abolitionismus لأنّها عاجزة عن تفسير الظواهر الاجتماعية.


المقال عنوانه الكامل هو (عبيد الطبيعة: حول أصل عنصرية لون البشرة)

عبيد الطبيعة: حول أصل عنصرية لون البشرة

في العالم الأكاديمي، وبوجه خاص في الولايات المتّحدة الأمريكية، فإن كلمة “عنصرية Rassismus” على كلّ لسان. نظرا لاستخدامها اللا محدود والتجريبي في غالب الأحيان، من المهم معرفة الحقيقة التاريخية: العنصرية المتعلّقة بلون البشرة أتت من الثقافة العربية.

أيغون فلايغ Egon Flaig

عنوان الصورة المرفقة الأولى: رسم توضيحي عن سوق العبيد بمدينة زبيد Zabid ([1]) في اليمن من القرن الثالث عشر الميلادي ليحيى بن محمّد الواسطي Yahya ibn Mahmud al-Wasiti في مقامات الحريري Maqamat von al-Hariri ([2]).

لا علاقة للعنصرية بلون البشرة. كثيرون من كتّاب ما بعد الحداثة postmoderne لا يميّزون لدى البحث في موضوع العنصرية فيستخدمون مصطلحات غير دقيقة بدلالاتها. وصف كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss في العام 1988 العنصرية كـ “عقيدة دقيقة يمكن إيجازها في أربع نقاط. أوّلا: يوجد ترابطٌ بين الإرث الجيني من جهة والقدرات الفكرية والنظم الأخلاقية من جهة أخرى. ثانيا: هذا الإرث الذي تعتمد عليه تلك القدرات الفكرية والنظم الأخلاقية يتشارك فيه جميع الأعضاء في مجموعات بشريّة معيّنة. ثالثا: هذه التجمّعات سمّيت “الأجناس” ويمكن تصنيفها وفق الإرث الجيني. رابعا: تخوّل هذه الفروقات ما يسمّى بالأعراق المتفوّقة السيطرة على الآخرين واستغلالهم وربّما إبادتهم“.

هذا هو التعريف الوحيد الأكثر تماسكا حتى الآن. وبالتالي فإنّ العنصرية تنبثق من الميل لدى جميع الثقافات إلى الحطّ من قيمة الآخرين. إذا ما زادت حدّة التصوّر بأنّ الآخرين يعانون من قصورٍ وعجز، فسيتمّ البحث عن دونيّتهم في جوهرهم وفي النهاية في سليقتهم. هنا في هذا الصدد تلعب العبودية Sklaverei دورا حاسما لأنّها تولّد تبايناتٍ اجتماعيّة معتادة وكبيرة من هذا القبيل وليس من السهل تعويضها بأيّ شكل. ثم تنشأ تلقائيّا فكرة أنّ المستعبدين كائناتٌ دون المستوى وكأنّهم ينتمون لجنسٍ آخر. كلود ميلاسو Claude Meillassoux ([3]) وأورلاندو باترسون Orlando Patterson ([4]) أبرزا وأكّدا على أنّ هذه العنصرية كانت متفشّية في كلّ مكان، حيثما فرّقت العبوديّة باستمرار بين الناس، في إفريقيا كما في آسيا أو أوروبا.

العنصرية بدون لون البشرة

كذلك في اليونان القديمة نجد مذهب أرسطو Aristoteles، حيث اللا مساواة العميقة في الطبيعة بين بعض الإثنيّات البشرية المعيّنة من النواحي الأساسية -فكريّا وأخلاقيّا. إلى حدّ كبير بقي هذا المذهب “عبيد الطبيعة Sklaven von Natur” في اليونان القديمة مهمّشا، حيث نصّ القانون الروماني بشكلٍ صريح على مبدأ أنّ جميع الناس متساوون بشكل طبيعي.

عنصرية عبيد الطبيعة وجدت في غير هذا المكان أيضا، لكن لم تك لها علاقة بلون البشرة. في العام 1300م وحين حاول الإمبراطور الصيني كنولي شيسو Knoli Chisu ([5]) إصلاح نظام العبودية، اعترض الملك الكوري شونغنيول Chungnyol ([6]): “علّمنا أسلافنا أن هؤلاء العبيد كائناتٌ تنتمي إلى عرقٍ آخر، وبالتالي من المحال أن يصبحوا أناسا طبيعيين. إن انتهاك تعاليم أسلافنا من شأنه أن يعرّض نظامنا الاجتماعي للخطر“. كان الملك يتحدّث عن أولئك الذين يبلغ تعدادهم حوالي ثلاثين بالمائة من الكوريين المستعبدين في بلاده، الذين يبدون مثله تماما.

كيف ظهر لون البشرة ليلعب هذا الدور؟ اعتقد الجغرافيون الهلينستيّون أنّ الاختلافات الطبيعيّة بين الإثنيّات (الأعراق) كانت تعود لاختلاف المناطق المناخيّة على الكرة الأرضية. وفقا لنظرية المناخ هذه، فإنّ لون البشرة “الحمراء” هو المعيار القياسي الطبيعي ويعود الفضل في ذلك للمناخ المعتدل، بخلاف ذلك فإنّ الكلتيّين والألمان في المنطقة الشمالية الباردة غدوا ذوي بشرة بيضاء، أمّا المناخ الدافئ فقد جعل من المصريّين والموريتانيّين ذوي بشرة حنطيّة، في حين أنّ النوبيّين والأثيوبيّين ذوو بشرة سمراء.

ومع ذلك فإنّ هذا المقياس اللوني لا يشير إلى عدم مساواةٍ في الطبيعة. فكرة أنّ ذوي البشرة الداكنة هم أقلّ شأنا كانت فكرة دخيلة في جميع العصور الكلاسيكيّة القديمة. الفن التشكيلي صوّر ذوي البشرة الداكنة حتى وقتٍ متأخّر كبشر أندادٍ مكافئين لغيرهم. بخلاف ذلك وجد في الشرق الأوسط وفي زمنٍ مبكّر تفضيلٌ جماليٌّ وجنسيٌّ لألوان البشرة الفاتحة، لكن مع ذلك فإنّ هذه التفضيلات ليست عنصريّة لأنّها لا تؤكّد تلقائيّا على دونيّة فكريّة وأخلاقيّة طبيعيّة.

كان برنارد لويس Bernard Lewis قد برهن في العام 1971 على أنّ عنصرية لون البشرة كانت ابتكارا عربيّا. في أعقاب الفتوحات العربية تبنّى المفكّرون الإسلاميّون نظريات المناخ الهلينستيّة، فاستخدموا ألوان الأسود، الأحمر/الحنطي الفاتح والأبيض ليضعوا الإثنيّات كلّها في تسلسل هرمي عنصري، وبذلك أنشؤوا نظريّة عنصريّة “علميّة” جديدة.

كتب شخصٌ مجهول الهويّة من العراق، في العام 900م تقريبا، أنّ الجنين في المناطق المناخيّة الباردة يعاني من عاهاتٍ وأضرارٍ جسيمة وهو في رحم الأمّ، وهذا ما يجعلهم بشرا غير كاملين، وعلى العكس من ذلك فإنّ الأطفال في المناطق المناخيّة الحارّة ينضجون في رحم الأمّ لفترة طويلة: “وهكذا يتأرجح الطفل بين اللونين الأسود والداكن الغامق، بين الرائحتين الكريهة والنتنة، أشمط الشعر ([7])، بدون أيّ تناسقٍ بين الأطراف، وعقلٍ سقيم ناقص، ومشاعر وعواطف بليدة، مثل الزنج Zanj والأثيوبيّين وبقيّة السود ومن يماثلونهم”. مقالةٌ جغرافيّة فارسية (حوالي العام 982 ميلاديّة) تدّعي: “فيما يتعلّق ببلدان الجنوب، فإنّ جميع سكّانها من السود (….) إنّهم أناسٌ لا يستوفون المعايير البشرية” وكذلك فإنّ الجغرافي المقدسي Makdisi (من القرن العاشر الميلادي) دوّن ملاحظة حول الأثيوبيّين: “أمّا الزنج فقوم سود الألوان فطس الأنوف… قليلو الفهم والفطنة([8]).

عنصرية لون البشرة ثلاثيّة الأبعاد

أشار برنارد لويس إلى أنّنا في معظم الأحيان لا نتعامل هنا مع عنصريّة ثنائيّة الأبعاد (أسود/أبيض)، بل عنصريّة ثلاثيّة الأبعاد: عرقان دون المستوى (أسود/أبيض) مقيمان في المنطقة المناخيّة القاسية، وفي المقابل يقيم في المنطقة المعتدلة عرقٌ ذو جودة عالية (أحمر أو حنطي فاتح). وفقا لذلك يعدّ الترك والسلافيّون والصينيّون “كبيض” أعراقا دون المستوى. الفلسفة الإسلامية تبنّت هذه العنصريّة وفقا للون البشرة.

أكّد ابن سينا العظيم Der grosse Avicenna على أنّ المناخ القاسي أنتج “عبيدا للطبيعة”: الأتراك والسود كانوا منهم. في كتاب “القانون في الطبّ Liber Canonis”([9])-أحد أهمّ النصوص لدراسة الطبّ في الجامعات الغربيّة-يكرّر ابن سينا أنّ الأفارقة السود أقلّ شأنا فكريّا. حتّى في إسبانيا الإسلاميّة تفشّت نظرية العرق المناخيّة، حيث كان صاعد الأندلسي Said al-Andalusi (توفّي في العام 1070 ميلاديّة) يعلّم قائلا: “لطول مقارنة الشمس لسمت رؤوسهم (…) صارت أمزجتهم حارّة، أخلاطهم محرقة، فاسودّت ألوانهم وتفلفلت شعورهم، فعدموا بهذا رجاحة الأحلام وثبوت البصائر، وغلب عليهم الطيش وفشا فيهم النوك والجهل مثل من كان من السودان ساكنا بأقصى بلاد الحبشة والنوبة والزنج وغيرها([10]).

الأرثوذكسيّة الإسلامية Die islamische Orthodoxie لا تختلف عن نظيراتها اليهوديّة والمسيحيّة، فهي كانت ضد العنصريّة واعتبرت المساواة في الطبيعة الإنسانية مسلّمة بديهيّة-كما هي الحال في القانون الروماني. العبوديّة عقوبةٌ للكفّار (غير المؤمنين)، هكذا تدّعي المرجعية الرسمية لرجال الدين المسلمين أنّها ليست انعكاسا لدونيّة عرقية، لكنّ الفلاسفة والعلماء يعارضون بما يناقض ذلك. هكذا نقرأ لدى ابن خلدون Ibn Khaldun (توفّي في عام 1406): “لذلك فإنّ الشعوب السوداء معتادون في قابليّتهم على الإذعان للعبوديّة، لأنّهم يملكون القليل من خصال البشر والكثير من تلك الشبيهة تماما بالأصول الحيوانية([11]).

كذلك تبنّى العلماء اليهود في العالم الإسلامي هذه العنصرية. هكذا كانت الحال مع يهوذا هاليفي Jehuda Halevi ([12]) (توفّي عام 1141) وقبلهم جميعا موسى بن ميمون Maimonides ([13]) (توفّي عام 1204) الذي وفي كتابه “دلالة الحائرين Führer der Verwirrten” أطلق حكما على الترك في الشمال والسودان في الجنوب:

وما هؤلاء عندي في مرتبة الإنسان، وهم من مراتب الموجودات دون مرتبة الإنسان، وأعلى من مرتبة القرد([14]).

صمّمت أدلّةٌ خاصّة بشراء العبيد Handbücher für den Sklavenkauf لأول مرة في العالم الإسلامي، فيها تمّ تحديد الخصائص العرقية لهم، لتمنح تلك الكتب للنظرية العنصرية Rassenlehre الفلسفية والطبّية مدخلا إلى الحياة اليومية ومصداقيّة (استساغة) يومية. لا ينبغي لأصل كلمة العرق «Rasse» ([15]) في اللغة العربية أن يفاجئنا: razza وraza وrace ([16]) هي مشتقّة من ras التي تعني “الرأس”([17]). لاحقا وبعد خمسة قرون وصلت هذه النظرية (العلموية szientistische) ([18]) المبنيّة على النظرية المناخية في عنصرية لون البشرة إلى الأوروبيين، وهي تعود أساسا إلى تأثير كتابات ابن سينا الطبّية.

لعنة حام

أحد تفسيرين تمّ الأخذ بهما هي لعنة حام ([19]). التقليد الحاخاميّ برّر العبوديّة بتلك اللعنة التي أنزلها نوح على حفيده كنعان Kanaan، لمعاقبة ابنه حام (سفر التكوين Genesis 9,25). اللعنة أظهرت الكنعانيين أناسا من نوعٍ آخر مختلف ومحكومين بلعنة العبوديّة، لكنها ليست عجزا أو فروقا طبيعيّة نشأت عبر التناسل الطبيعي بل لعنة موروثة. الدونيّة الأخلاقيّة والفكرية للكنعانيّين إذا ليست مبرّرا ملزما على الإطلاق لاعتبارهم “عبيدا بالولادة”.

هذا من شأنه أن يحيل المبدأ الأساسي للعنصرية إلى تفاوتٍ منطقيّ، ومع ذلك فإنّ الإنجيل لا يذكر لعنة حام. وعلاوة على ذلك فإنّ كنعان ليس سلفا مؤسّسا لذرّية السود بل شقيقه كوش Kusch، ولكنّ كوش لم تمسسه اللعنة ولذا فإنّ ما ورد في النصّ من مضمون يجعل من المحال ربط لعنة نوح بالسود. لكن التفسير يسلك دربا مغايرا كلّيا. لقد تتبّع ديفيد غولدنبرغ David Goldenberg ([20]) عام 2005 كيف عزّزت لعنة نوح في الشرق الأوسط وخاصّة في العالم الإسلامي عنصرية لون البشرة.

في رواية تعود للقرن الثالث الميلادي ذكر أحد الحاخامات في تعليقه إنّ الله قد عاقب نجل نوح (حام) ببشرة سوداء، وتبنّى الكتّاب المسلمون هذه الرواية. هكذا يسرد ابن قتيبة (توفّي في عام 889): “حام بن نوح كان رجلا أبيض حسن الوجه والصورة فغير الله عز وجل لونه وألوان ذريته من أجل دعوة أبيه (…) ولد حام كوش بن حام وكنعان بن حام وقوط بن حام فأما قوط بن حام فسار فنزل أرض الهند والسند فأهلها من ولده وأما كوش وكنعان فأجناس السودان والنوبة والزنج والقزان والزغاوة والحبشة والقبط والبربر من أولادهما([21]).

عقوبة تغيير اللون لحام وذرّيته غدت مهيمنة على الروايات الإسلامية، على الرغم من رفض العلماء العارفين بالقرآن لها، كما هي الحال مع الفتوى الشهيرة للباحث الأفريقي الأسود أحمد بابا Ahmad Baba ([22]) حول العبودية (1614). غير أنّ هذه الفتوى كانت عبثا غير مجدٍ، ذلك أنّ الرواية العنصرية عن لعنة حام قد سادت بتأثيرات خطابها المنطقي، ومنذ زمن طويل، في أكبر مجتمعٍ لمالكي العبيد Sklavenhaltergesellschaft ([23]) في التاريخ.

معرفة الحقائق التاريخيّة حول عنصرية لون البشرة

في المسيحيّة الغربيّة استغلّت لعنة حام لتبرير القنانة die Leibeigenschaft، ولهذا السبب بالذات كانت مثار جدل حادّ. لم تك للعنة أيّة علاقة بالسود. الصورة التي نطق فيها نوح باللعنة توجد في تمثيلات تصويريّة عديدة، ولا توجد أيّ منها- من أواخر العصور القديمة إلى منتصف القرن التاسع عشر-تظهر حام ببشرة داكنة. النسخة المتعلّقة بلون البشرة من لعنة حام وصلت إلى أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، مع انخراط البرتغاليّين في تجارة الرقيق الإسلامية على الساحل الغربي لأفريقيا. في “يوميّات غينيا Crónica da Guiné”([24]) ذكر غوميز دي زورارا Gomes de Zurara ([25])عام 1444 إنّ صيّادي العبيد المسلمين في سنغامبيا Senegambia ([26]) برّروا أعمالهم بلعنة حام على السود.

لم تلعب النسخة “السوداء” من اللعنة أيّ دور في المناقشات الاسبانية الكبرى في القرن السادس عشر حول شرعيّة الاستعباد من عدمها، إذ لا يوجد أيّ فرمان للكنيسة الكاثوليكية يأتي على ذكرها فيما يتعلّق بالعبودية. أمّا في البروتستانتية فالأمر مختلف، إذ ومع تحوّل عبوديّة البحر الكاريبي في منتصف القرن السابع عشر لعبوديّة سوداء، تبنّت المبرّرات البروتستانتية للعبودية النسخة الإسلامية عن اللعنة. لذا فإنّ هذه الاستجابة (يقصد التبنّي) تتّسم بالمفارقة، لأنّ صلابة الإيمان بنصوص الكتاب المقدّس لدى البروتستانت كانت تستوجب التزامهم بما ورد من مضمونٍ في (سفر التكوين Genesis 9,25).

في ضوء تراجع التمييز بين المفاهيم المجرّدة في العالم الأكاديمي والاستخدام اللا متناهي لمفردة “العنصرية Rassismus”، بات عدم تجاهل الحقائق التاريخيّة أكثر إلحاحا. طالما أنّ العلماء يسترشدون بالفكرة الرائدة للحقيقة Leitidee ([27])، فإنّه من المخالف للتقاليد الفكرية في التعليم الجامعي كبت الحقائق واستبعاد ما يتعلّق بها من الكتب من المكتبات. نحن جميعا، وبالأخصّ المختصّون بالدراسات الثقافية، نستحضر عنصرية لون البشرة ومن أين نشأت، لأنّ المعرفة تعيننا على مواجهتها.


الهوامش والإحالات

عنصرية لون البشرة

([1]). مدينة زبيد هي ذاتها مدينة الحديدة في اليمن، وهي مدينة لها أهمية تاريخية وأثرية استثنائية بسبب هندستها العسكرية والمدنية، وكانت عاصمة اليمن بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين. فيها جامعة إسلامية وأدرجتها منظمة اليونسكو ضمن التراث الثقافي العالمي. أما لوحة سوق النخاسة (العبيد) التي رسمها يحيى بن محمود الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي فهي موجودة في في مكتبة فرنسا الوطنية (Bibliothèque Nationale de France) في باريس ضمن مخطوطة لمقامات الحريري ورسومات الواسطي. رقم المخطوطة في المكتبة هو الرقم 5847.

([2]). المقامات (مفردها مقامة) من الفنون النثرية وتمتاز بمحتوى وإطار معيّن، كان أوّل من استحدثها ابن دريد، وأشهر المقامات هي مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري. والمقامة لغويا تعني المجلس والسادة. أي المقامة تعني اجتماع الناس ويُقالُ “مقامات الناس مجالسهم. أدبيا تشكّل المقامة ما يمكن اعتبارها قصّة قصيرة تُروى ببراعة لغوية وأدبية في قالب نثري قائم على السجع والصنعة اللفظية.

([3]). كلود ميلاسو Claude Meillassoux هو عالم أنثروبولوجي واقتصادي فرنسي ماركسي، التزم طوال حياته بنقد الظلم الاجتماعي، وتوفّي عام 2005.

([4]). أورلاندو باترسون Orlando Patterson هو عالم اجتماع جامايكي أمريكي، يُدرّس في جامعة هارفارد.

([5]). في الحقيقة يبدو أنّ كاتب المقال قد أخطأ في وسم هذا الاسم بصفة الإمبراطور الصيني، والأصحّ ووفقا لما راجعته في أكثر من مكان، فهو عامل أو ممثّل للإمبراطور الصيني في كوريا. ولا وجود لهذا الاسم بالأساس في سلسلة الأباطرة الصينيّين، وهو يُفترض أن يرد في الأسرة المغولية التي حكمت الصين إذا أخذنا بالاعتبار الفترة التي وضعها الكاتب.

([6]). شونغنيول Chungnyol هو الملك الخامس والعشرون في مملكة غوريو Goryeo، وحكم من 1274 إلى 1308، وهو تم إرساله منذ العام 1271 من قبل والده ليذهب للعيش في بلاط الأسرة المنغولية الحاكمة للصين وكوريا. توفّي في العام 1308 ليخلفه ابنه في الحكم. Chung هي لاحقة بادئة لأي اسم من أسماء ملوك كوريا للدلالة على روح الولاء لأسرة يوان الصينية. بقيت سلالة مملكة غوريو خاضعة للأسرة المغولية حتى حرّرها الملك غونغمن Gongmin Wang في منتصف القرن الرابع عشر.

([7]). أشمط الشعر بمعنى اختلط سواده ببياضه، والمصدر شمط. تعني كذلك الشعر المجعّد المتموّج.

(([8] . اقتبس وترجم كاتب المقال هذا المقطع من كتاب (البدء والتاريخ/الجزء الرابع من ثمانية أجزاء) لـ (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي) الذي عاش بين عامي 945 و991. الاقتباس وارد في الصفحة 70 من هذا الجزء، والكتاب من إصدار مكتبة الثقافة الدينية بمصر ولا توجد عليه أية بيانات أخرى سواء عام الإصدار أو رقم الطبعة. آثرت الالتزام بالنص العربي الأصلي، ويمكن لمن لا يود العودة للكتاب قراءة الاقتباس عبر هذا الرابط.

([9]). كتاب ابن سينا “القانون في الطبّ” تُرجم إلى اللغة اللاتينيّة ودُرّس في معظم الجامعات الأوروبية لغاية القرن السابع عشر الميلادي. هذا الكتاب مكوّن من خمسة أجزاء (كتب) وتمّت ترجمته للغة اللاتينية من قبل جيرار الكريموني Gerardus Cremonensis.

([10]). منعا لأيّ التباس استعنتُ بالنصّ العربي الأصل في كتاب ابن صاعد الأندلسي الذي استعان به الكاتب الألماني وهو أكثر فظاعة من الترجمة الألمانية، وحاولت الالتزام بما اقتبسه الكاتب مع إيراد الأصل المقابل من العربية لأنّ الكاتب حذف بعض الكلمات من المقطع، والنص العربي الأصلي الذي عنون ابن صاعد هذا المقطع أو الفصل فيه “الأمم التي لم تعن بالعلوم” يمكن قراءته عبر هذا الرابط.

([11]). ذكر ابن خلدون ذلك في إطار ملاحظاته التي دوّنها في أثناء إقامته بقلعة (بني سلامة) في الجزائر، وقد اقتبس (فرانز فانون) اقتباسا شبيها بهذا الاقتباس في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء).

([12]). حاخام وطبيب وفيلسوف وشاعر أندلسي ويهوذا هاليفي هو اسم الشهرة الذي عُرف به لكنّه يُعرف أيضا باسم آخر وهو (يهوذا اللاوي)، درس الفلسفة اليونانية والأدب العربي وكان قريبا من الغزالي في موقفٍ الريبة في الفلسفة وتأثيرها السلبي في الدين، ومن أهم كتبه كتابا (الخزري) و(الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل). توفّي في مدينة القدس.

([13](. موسى بن ميمون وعٌرف في الغرب باسم (ميمونيديس) أو (رمبام) وهو فيلسوف يهودي أطلق عليه الهرب لقب (الرئيس موسى)، وكان الفيلسوف اليهودي الأكثر تأثيرا في القرون الوسطى، وكان من أهم الأعلام التي استرشدت بهم حركة التنوير لدى يهود أوروبا الشرقيين المعروفة بـحركة (هاسكالا Haskala) التي نشأت في القرن الثامن عشر ودعت لتبنّي قيم عصر التنوير واندماج اليهود الأوروبيين في مجتمعاتهم. عاش في قرطبة بالأندلس وتوفّي في طبريا.

تأثّر بابن رشد وأفلاطون ولُقب بأرسطو عصره وحاول الجمع بين مختلف التيّارات الروحية اليهودية ولا سيما المتعارضة فيما بينها وحاول كذلك البرهان على جدلية تعاقب الصعود والهبوط أو الازدهار والانحطاط لدى أي شعب ونفي نظرية أن كل شعب لديه فقط فترة ازدهار واحدة ثم فترة انحطاط لا تسمح بعودة الازدهار، وحاول تفسير التلمود فلسفيّا، كما أن البعض يراه قريبا جدا من ابن رشد وخاصة حول رأيه القائل إنّ الإيمان الراسخ لا يمكن أن يحمل تناقضا بين الفلسفة والدين، وهذا رأي أورده قبل مقولة ابن رشد الشهيرة “الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له Die Wahrheit darf der Wahrheit nicht widersprechen, im Gegenteil, sie verstärkt sie und legt von ihr Zeugnis ab” والتي أوردها في مقاله عن الفلسفة واللاهوت (Traktat über Philosophie und Theologie).

أما كتابه (دلالة الحائرين) الذي يُطلق عليه بالألمانية اسم آخر (Führer der Unschlüssigen) فقد كان رسالة إلى تلميذه الحاخام اليهودي (يوسف بن عقنين) وكُتب كذلك باللغتين العربية والعبرية.

([14]). حرصتُ في ترجمة هذا الاقتباس أيضا على ترجمته بما ورد في نص الكتاب باللغة العربية والذيُ كُتب باللغتين العربية والعبرية وقام (حسين أتاي) بترجمة النصوص العبرية فيه وقدّم له، والنص العربي لمجمل الكتاب يمكن قراءته أو تحميله عبر هذا الرابط، أما الاقتباس فقد ورد تحديدا في الصفحة 715 من الكتاب. وتتمة الاقتباس الذي يورده الكاتب منقوصا غير مكتمل هو: “وها أنا أشرح لك هذا المثل الذي ابتكرته فأقول: أما الذين هم خارج المدينة فهم كلّ شخص إنسان لا عقيدة مذهب عنده، لا نظرية ولا تقليدية، كأطراف الترك المتوغّلين في الشمال، والسودان المتوغّلين في الجنوب، ومن ماثلهم ممّن معنا في هذه الأقاليم وحكم هؤلاء كحكم الحيوان الغير ناطق. وما هؤلاء عندي في مرتبة الإنسان، وهم من مراتب الموجودات دون مرتبة الإنسان، وأعلى من مرتبة القرد. إذ قد حصل لهم شكلُ الإنسان، وتخطيطه وتمييز فوق تمييز القرد“. الكتاب من إصدار مكتبة الثقافة الدينية

([15]). Rasse. هذه الكلمة تعني السلالة أيضا.

([16]) هذه الكلمات يُختلف على جنسها ونوعها (بين مذكّر ومؤنّث) حتى في اللغة الألمانية كما هي الحال مع كلمة (العراق) التي يمكن تذكيرها أو تأنيثها، ولكنّها تدلّ كلها على العرق والأصل، وكلمة race هي بالإنكليزية، وكذلك توجد كلمة ألمانية أخرى من الألمانية القديمة وهي reiza التي تعني (الخطّ). وتوجد كلمة يونانية هي rhíza التي تعني الجذر، كما إنها كانت تُستخدم في تصنيف سلالات الأحصنة والكلمة العربية (سلالة) كلمة دارجة.

([17]). يمكن لمن يودّ مراجعة هذه المادة الصغيرة عن العرق وكلمة razza باللغة الإيطالية عبر الرابط.

([18]). تشير صفة العلموية هنا إلى نظرة ازدرائيّة لهذه النظرية المعتمدة على تصنيف البشر وفقا للمناخ إلى سلالات دنيا وعليا.

([19]). وردت هذه اللعنة في سفر التكوين بالكتاب المقدّس، وهي اللعنة التي أطلقها نوح على ابنه حام (أبناؤه الثلاثة هم سام وحام ويافث)، حيث رأى حام عورة أبيه نوح الذي كان في حالة سكر وثملا، وقام بفعلٍ مخزٍ به، ولكنّ الغريب أنّ لعنة نوح كانت موجّهة لابن حام وهو (كنعان)، وقد ورد في الإصحاح التاسع من التوراة:

20 وبدأ نوح في العمل فلاحاً، وغرس كرماً:

21 وشرب النبيذ فسكر وتعرى في خيمته.

22 فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه، وأبلغ أخويه بالخارج.

23 فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما.

24 فلما استيقظ نوح من خمره، فهم ما عمل به ابنه الصغير.

25 فنطق: ملعون كنعان عبد العبيد قد يكون لإخوته.

26 ونطق: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا له.

27 ليفتح الله على يافث فيسكن في خيام سام، وليكن كنعان عبدا له.

والتلمود البابلي يربط بين لعنة حام والبشرة السوداء، واللعنة على العموم تُفسّر كتبرير لفرض العبودية على السود. من التفسيرات الأخرى أن حام لم ير عورة أبيه بل رأى أمه في إشارة لسفاح القربى. والمثير أنه توجد أساطير أيرلندية تجعل من حام الكائن الأساسي فيها، بينما أوّل من انتقل للسكن في أيرلندا هم سلالة حام. أما أهم السلالات التي تُردّ إلى الحاميين فهم المصريون والحوريون والكوشيون والأمازيغ. وهنالك تفسيرات وتأويلات سياسية لهذه اللعنة.

([20]). ديفيد غولدنبرغ David Goldenberg مدرّس في جامعة بنسلفانيا، ويُشير الكاتب إلى مقالٍ له بعنوان (ماذا فعل حام بنوح What Did Ham Do to Noah؟) ويمكن تحميل أو قراءة المقال بالإنكليزية عبر هذا الرابط.  

لكن غولدنبرغ أصدر كذلك كتابا في عام 2017 وعنوانه (السواد والاستعباد: أصول وتاريخ لعنة حام Black and Slave: The Origins and History of the Curse of Ham) وفيه يلاحق الدراسات المتعلّقة بلعنة حام والفرضيات التي تجد أن الإنجيل يملك دعوة للعبودية، كما يناقش مسبّبات العبودية القائمة على البشرة السوداء وكيف تحوّلت قصّة أسطورية إلى قصّة وتاريخ للعبودية، وأيضا يعالج تغيّر الصياغات التي تناولت هذه اللعنة مع مرور الوقت وفقا للسياقات الاجتماعية والتاريخيّة وصولا لتحوّل السواد العرضي إلى لعنة. يمكن معرفة تفاصيل أكثر عن غولدنبرغ في هذا المجال عبر هذا الرابط.

([21]). آثرتُ هنا أيضا الاتيان بنصّ بن قتيبة ليكون نوعا من التحقّق والتحقيق في اقتباسات كاتب المقال، وقد نقل ابن قتيبة كلامه عن (وهب بن منبه)، ويمكن قراءة كامل الاقتباس الذي اجتزأه الكاتب عبر هذا الرابط.

([22]). الكاتب يقصد (أحمد بابا التمبكتي) أحد أهم فقهاء المالكيّين ومؤرّخي التراجم في السودان الغربي. نُفي إلى مراكش في العام 1593، ولذلك تتلمذ على يديه كثير من المغاربة. من أهم كتبه التي تناول فيها قضية العبيد في السودان كتاب (معراج الصعود إلى نيل حكم مجلب السود). كانت السودان سوقا للعبيد وتصديرهم إلى المغرب التي كان يحكمها السعديّون آنذاك. يمكن معرفة تفاصيل أكثر عنه عبر هذا الرابط أو عبر الرابط.

([23]). أوّل من ذكر هذا المصطلح (مجتمع مالكي العبيد Sklavenhaltergesellschaft) كان كارل ماركس في إطار وصفه للمجتمعات القديمة وفقا لأسلوب الإنتاج فيها، حيث قال ماركس إن ثروة هذه المجتمعات تزداد من خلال خلق وتراكم القيمة المضافة عبر أسلوب السخرة، وماركس وجد الرأسمالية نفسها منتجة للعبودية، ولذلك يُذكر هذا المصطلح في إطار ذكر الثالوث الناجم عن الصراع الطبقي في التاريخ: (مجتمع مالكي العبيد Sklavenhaltergesellschaft، الإقطاعية Feudalismus، الرأسمالية Kapitalismus).

كان فريدريش آنجلزFriedrich Engels الذي اعتمد على أبحاث الأمريكي لويس مورغان Lewis H. Morgan قد أكّد على أنّ مجتمع مالكي العبيد قد أتى لاحقا على مجتمع المشاعية البدائيّة Urkommunismus، ودعا آنجلز إلى عدم الخلط بين مجتمع مالكي العبيد و”نمط الإنتاج الآسيوي Asiatische Produktionsweise” الذي ذكره كارل ماركس في إطار وصفه لتنظيم العمل في التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية السابقة على الرأسمالية. يقول آنجلز: “العبودية هي الشكل الأوّل للاستغلال الخاص بالعالم القديم، تتبعها القنانة في العصور الوسطى، العمل بأجر في الفترة الأخيرة. إنّها الأشكال الثلاثة الأكبر للعبودية، التي وسمت المراحل الثلاثة الكبرى للحضارة”.

([24]). والاسم الكامل هو Crónica do descobrimento e conquista da Guiné، وهي كانت بمثابة صحيفة رسمية للوقائع اليومية عن غزو واحتلال غينيا بغربي أفريقيا لأنه وإن كان كتابا تاريخيا فهو كُتب بناء على طلب الملك البرتغالي آنذاك، واسمها يعني يوميّات أو سجلّات غينيا، دوّن فيها المؤرّخ البرتغالي غوميز دي زورارا Gomes de Zurara الاكتشافات على الساحل الأفريقي الغربي وفيها سرد تفصيلي لأهم البعثات الاستكشافية للبرتغاليين.

([25]). غوميز دي زورارا Gomes de Zurara هو أحد أهمّ مؤرّخي البرتغال لعصر الكشوفات الجغرافية ولا سيما بواكيرها، وقد كتب عن احتلال مدينة سبتة وكذلك احتلال غينيا، واعتمد أسلوب الرسائل في كتابته وتاريخه.

([26]). إسم تاريخي للمنطقة الجغرافية الواقعة في غربي أفريقيا بين نهر السنغال في الشمال ونهر غامبيا في الجنوب. وهذا الاسم أتى بعد تشكيل اتحاد كونفدرالي لفترة قصيرة بين غامبيا والسنغال أطلق عليه اسم وذلك في الفترة ما بين 1982 و1989. تم حل الاتحاد من قبل السنغال في 30 سبتمبر .1989

([27]). يُقصد بمصطلح Leitidee الفكرة المركزية التي تصبح بؤرة الاهتمام، لكن الأهم أنها فكرة يتم التركيز عليها عبر التواصل، أي أنها فكرة تواصلية، تماما كما هي حال ما يُصبح عنوانا لـ (هاشتاغ) على مواقع التواصل الاجتماعي بحيث يتم إشراك الجمهور في التركيز على الفكرة لمناقشتها وإثرائها لما يفيد توضيحها وانتشارها.