إن التوجه السائد للفلسفة فيما يدعى بالغرب يعاني ضيق الأفق ويفتقر للإبداع بل وزد على ذلك مصاب برهاب الأجانب. أعلم ما في هذي التهم من تحامل صريح، ولكن كيف نفسر حقيقة الغياب الكامل للإرث المليء بالثراء الفلسفي لكل من الصين والهند وأفريقيا والشعوب الأمريكية الأصلية من أغلب أقسام الفلسفة في أوربا وفي الدول المتحدثة بالإنجليزية؟
لقد اعتادت الفلسفة الغربية أن تكون أكثر انفتاحا وكوسمبوليتية في السابق ففي عام 1687 صدرت أول ترجمة من نوعها لتعاليم كونفوشيوس الى لغة اوربية قام بها مجتمع الرهبنة اليسوعي (Jesuits) تحت عنوان Confucius Sinarum Philosophus, or Confucius, the Chinese Philosopher
يذكر عن مجتمع الرهبنة اليسوعي الاهتمام المكثف بالأرسطية في مناهجهم الدراسية.
إطلع جوتفرد لايبنتز Leibniz على ترجمات المدرسة اليسوعية وهو من أوائل الفلاسفة ولعاً بها، ذُهل لايبنتز بالتقارب الواضح بين الحساب الثنائي (وهو المستعمل في العمليات الرياضية للحواسب اليوم والذي ينسب للايبنتز إختراعه) وبين I ching أو مايسمى بكتاب التغيرات وهو من الكلاسيكيات في الصين، الكتاب يعبر بشكل رمزي عن نظرة الصينيين للكون وذلك بخطوط مقطعة أي (0-1) وفي القرن العشرين كتب عالم التحليل النفسي كارل يونج مقدمة فلسفية على أحد الترجمات لكتاب التغيرات وقد أعُجب به كثيراً . ومما يؤثر عن لايبنتز حول الفلسفة الصينية قوله: حتى مع مايتميز به الغرب من وحي في الديانة المسيحية ومن معرفة بالطبيعة ” يضل الصينيين متفوقين في جانب الفلسفة العملية، فالسلوك القويم والأنظمة يتوافقان عندهم مع روح العصر الحديث”
تابع الفيلسوف الألماني فولف wulff أستاذه لايبنتز حين عنوّن أحدى محاضراته العامة: نقاش حول الفلسفة العملية في الصين Discourse on the Practical Philosophy of the Chinese(1721) ناقش فولف: نجاح كنفوشيوس في تأسيس منظومة أخلاقية بدون كتاب مقدس أو دين طبيعي، مما يعني إمكانية استقلال الأخلاق عن العقيدة بشكل كلي، وبالطبع استدعت محاضرة فولف إنكار المسيحيين المحافظين فتعرض إثرها لضغوط وسُرح من عمله ونفي خارج البلاد. وبالرغم مما حدث فقد جعلت تلك المحاضرة من فولف بعد فترة من الزمن أحد أبطال مرحلة التنوير الألماني ونال مكانة مرموقة في شتى البقاع. ففي عام 1730 ألقى محاضر أخرى بعنوان: الفيلسوف الحاكم والفيلسوف الملك On the Philosopher King and the Ruling Philosophe . أثنى فيها على الصينين لاستشارتهم الفلاسفة مثل كونفوشيوس وتابعه منسيوس في ما يخص قضايا الدولة.
وفي فرنسا أخذت الفلسفة الصينية نصيب كبير من الاهتمام أيضاً، فأحد القادة الإصلاحيين في محاكم لويس الخامس عشر فرانسوا كيناي François Quesnay كان قد أشاد بالمؤسسات الحكومية والفلسفة الصينية بسخاء كبير في كتابه: Despotisme de la China لدرجة أنه لُقب ب”كونفوشيوس أوربا”.
يعتبر كيناي من المؤسسين للمبدأ الاقتصادي المعروف بسياسة عدم التدخل وهو ما أرتبط بالقول الشهير: “دعه يعمل دعه يمر” أخذ كيناي هذا النموذج من نظام أحد حكام الصين (sage-king Shun) المشهور عنه الحكم وفقاً لنفس المبدأ wúwéi ويعني (عدم التدخل في جريان الأمور الطبيعية) وهو مبدأ متبع في العلاقات الاقتصادية في عصرنا الحالي ففي إحدى مؤتمرات التحالف الدولية أقتبس الرئيس الأمريكي رونالد ريجان سطر من كتاب لاوتزو Daodejing بشأن سياسة عدم التدخل ينصح الحكومات بعدم عرقلة التجارة الحرة.
كل من لايبنتز وفولف وكيناي ضربوا أمثلة لما كان عليه التوجه السائد في الفلسفة الأوربية.
وكما ذكر بيتر جي بارك في كتاب Africa, Asia, and the History of Philosophy: Racism in the Formation of the Philosophical Canon كان الرأي المعتبر بجدية من قبل أغلب علماء القرن التاسع عشر بخصوص بداية الفلسفة أنها قدمت من الهند أو أن كل من الهند وأفريقيا وهبتا الفلسفة لليونان.
لكن ما اختلف؟ يرى بيتر جي بارك بأن اختفاء أثر فلسفة آسيا وأفريقيا من صرح الفلسفة الغربية يعزى لتظافر عاملين:الأول تعصب بعض مدوني تاريخ الفلسفة لإيمانويل كانت فعمدوا لإظهار تاريخ الفلسفة كخط ذو نهاية وقف عند نقد المثالية الكانتية للفلسفة.
الآخر تعصب بعض مفكري أوربا إذ جعلوا من الفلسفة شيء حكر على العرق الأبيض.
لم يسلم حتى الفن أيضاً من التعصب فقد تم تصوير القديس اوغسين ذو الأصل الأفريقي في اللوحات بملامح رجل ذو بشرة بيضاء. إذاً تعرضت الفلسفات الغير أوربية لنوع من الإقصاء الممنهج من قبل بعض المتعصبين بعد إيمانويل كانت وبدون الاستناد على حجج علمية تذكر بل بالحجج العنصرية مقيتة منافية للأخلاق.
إيمانويل كانت نفسه تعامل مع مسألة الأعراق بتراتبية مقيتة فوضع تصنيف للأعراق مبني على قدرة عرق ما على التفكير المجرد فوضع لطلابه نموذج هرمي يصف إمكانيات الأعراق كالتالي:
في رأس الهرم: العرق الأبيض يتصف بجميع المواهب والإمكانيات.
في المرتبة الثانية: الهنود يتصفون بدرجة عالية من الطمأنينة والقدرة على التفلسف، مفعمون بمشاعر الحب والكراهية ولديهم قابلية عالية للتعلم لكن في جانب الفنون دون العلوم الطبيعية، يفتقرون لمهارة التفكير في المجردات طريقة تفكير الهندي والصيني تتسم بالجمود على المورث وتفقد القدرة على التجديد والتطوير.
في المرتبة قبل الأخيرة: الزنوج يتصفون بالحيوية والقوة والشغف للحياة، محبين للكلام والتفاخر، عاجزون عن التعلم لكنهم مع ذلك قابلين للتدريب والتلقين.
في المرتبة الأخيرة:سكان أمريكا الأصليين
غير قادرين على التعلم ولا يتسمون بالشغف ضعفاء حتى في البيان والكلام.
والمتخصص في الفلسفة الصينية لا يجهل أراء الفيلسوف كانت حول كنفوشيوس:
” لا توجد فلسفة في الشرق ومعلمهم كنفوشيوس إنما كتب في العقيدة والأخلاق للأمراء والأميرات ناقلاً بعض نماذج في التشريع عن السلف من الحكام أما المبادئ الأخلاقية والفضائل فلم تلج في أفهام الصينيين أبدأً”