مجلة حكمة
البيوإتيقا بيوإتيقا النظرية الأخلاقية

البيوإتيقا والنظرية

الكاتبجينيفر فلين
ترجمةنورة العوهلي
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول البيوإتيقا والنظرية الأخلاقية، ومسعى البيوإتيقا الأخلاقي، وإشكالات تطبيقها، والمنظر النسوي والإكلينيكي حولها؛ نص مترجم لد. جينيفر فلين، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد، وعلى رأسهم د. إدوارد زالتا، على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


 

إن العلاقة بين البيوإتيقا والنظرية الأخلاقية هي علاقة معقدة. بدءاً، يُعّد الفلاسفة هم القائمون الرئيسيون على هذا المبحث، وهم كثيراً ما ينظرون إلى حقلهم المعرفي كحقل نظري بالضرورة. فإن توجه أحدهم بسؤال أولئك الفلاسفة عن دور النظرية الأخلاقية في البيوإتيقا، لوجد أن موقفهم الطبيعي من هذا التساؤل هو أن للنظرية الأخلاقية دور شديد الأهمية، إن لم يكن دوراً أساسياً. في الوقت ذاته، يشكك آخرون بنموذج “الأخلاق التطبيقية” في البيوإتيقا، وهو بشكل تقريبي نموذج يفرض نظرية أخلاقية ما (سواء نظرية المنفعة أو الكانطية أو أخلاقيات الفضيلة) على المشاكل الأخلاقية التطبيقية المعروضة، أملاً في إيجاد حلولاً لها.

يقدح هؤلاء المشككون في المبالغة في تأكيد الفصل بين ما هو نظري عما هو تطبيقي في هذ النموذج، في حين يذهب آخرون مثل ويل كيمليكا (1993 [1996]) إلى أنه لا ينبغي أن يكون للنظرية الأخلاقية دوراً في تقرير السياسات العامة المتعلقة بـ البيوإتيقا.

يبدأ هذا المدخل بمعالجة الاستشكالات المحيطة بجوهر تعريف البيوإتيقا والنظرية الأخلاقية، ثم يستدعي سؤال معنى العمل على الأخلاقيات التطبيقية. ننتقل في المدخل بعد ذلك إلى تبيان التاريخ القصير للنقاشات حول أبرز الحركات المنهجية في البيوإتيقا وبروز مقاربات متوسطة المستوى ومقاربات أخرى تعزو إلى النظرية الأخلاقية دور أقل أهمية أو تسلبها هذا الدور تماماً. يلي ذلك نظرة إلى المقاربات النسوية لـ البيوإتيقا متبوعة بالنظر نحو أهمية النظرية الأخلاقية في الأخلاقيات الإكلينيكية.

جدول المحتويات


١. ماهي النظرية الأخلاقية؟ ما هي البيوإتيقا؟

إن سؤال العلاقة بين النظرية الأخلاقية والبيوإتيقا ملّغم بعدد من الإشكالات، ولعل من أبرز تلك الإشكالات هو غياب تعريف متفق عليه لما نعني به بالنظرية الأخلاقية. فتوجد من جهة النظريات المعيارية المتعالية في الأخلاق والتي تقدّم للفلسفة الأخلاقية مثل النظرية العواقبية ونظرية أخلاق الواجب وأخلاقيات الفضيلة، وتوجد كذلك نظريات متوسطة المستوى ليس من الواضح ما إذا كان يصح النظر إليها كمقاربات نظرية بحتة، مثل المبادئية ومذهب الإفتاء الأخلاقي (casuistry). فما الذي نعينه بالنظرية الأخلاقية؟ وما الذي يصطبغ أي مقاربة أخلاقية بصفة نظرية؟ أضف إلى تلك الأسئلة كون البيوإتيقا ليست بالحقل المتآلف وكون موضوعها ولا شك إشكالي منذ البداية.

١.١ تعاريف متعددة لـ النظرية الأخلاقية

تعرّف النظرية الأخلاقية عند البعض بميلها عادة إلى شمل عدد من الخصائص، ألا وهي قابليتها للتعميم، وكونيّتها، وتنظيمها المنهجي، وتجريدها، ووضوحها، وقدرتها على استحداث التوصيات. تقرّر مارثا نوسباوم أن هناك معايير ضرورية وكافية للنظرية الأخلاقية (Nussbaum 2000: 234–236). حسب تعريفها، ينبغي لـ النظرية الأخلاقية أن:

  • تعطي توصيات بخصوص مشاكل عملية
  • تختبر صحة الاعتقادات والقواعد والمبادئ
  • تنظم تلك الاعتقادات منهجياً وتبني عليها
  • تمتلك درجة ما من التجريد والتعميم
  • تتميز بالكونية
  • تتميز بالوضوح

يقرّر البعض أيضاً بأن قدرة أي نظرية أخلاقية على التعميم وكونيّتها وتجريدها هي خصائص ضرورية في النظرية الأخلاقية (Arras 1997: 74; 2003; Louden 1990). إلا أنه يطلق على بعض المقاربات الفلسفية للأسئلة الأخلاقية والبيوإتيقية تعريف النظرية رغم أنها تفتقر لبعض أو كل الخصائص السابق ذكرها. على سبيل المثال، توصف الخصوصية الأخلاقية أحياناً بكونها نظرية أخلاقية رغم عدولها عن تحقيق شرطي التعميم والتنظيم المنهجي. وقد يذهب آخرون أيضاً إلى إضافة معيار آخر إلى المعايير الواردة، ألا وهو قدرة النظرية الأخلاقية على توظيف أسلوب حجاجي فريد ذو طابع ونمط مميزان. (Louden 1992: 156; Nussbaum 2000: 239) 

يمكن إسهاب الحديث حول مدى الاتفاق والاختلاف مع ما يحّل في اعتبار النظري في الفلسفة، كما أنه يمكن الحديث حول ما يحّل في اعتبار المعادي للنظري في مقاربات الأخلاق والبيوإتيقا (Clarke 1987; Clarke & Simpson 1989; Fotion 2014; Louden 1990). إلا أن مرادنا المرغوب هنا هو تبيان استشكالات العلاقة بين النظرية الأخلاقية والبيوإتيقا من خلال تبيان عدم وضوح ما نعنيه بالنظرية الأخلاقية، وهذا يعفينا من الآن فصاعداً من الحاجة لافتراض تعريفاً محدداً لما نعنيه بالمقاربات النظرية للمشاكل البيوإتيقية. تكفي الإشارة هنا بأن محاولة الإجابة على سؤال العلاقة بين النظرية والبيوإتيقا ستكمن في تفحص المقاربات المنهجية المتنوعة في التعامل مع مسائل ومشاكل البيوإتيقا.

٢.١ مسعى البيوإتيقا

لا يشير مصطلح البيوإتيقا، والذي نحن بصدد تعريفه هنا، إلى سعي متجانس بين البيوإتيقا الأكاديمية، وتلك التي تستخدم لاستحداث سياسات عامة، والأخرى المعينة بالقرارات الإكلينيكية الآنية (McMillan 2018: 11–16; Battin 2013: 2). فلا تنشغل البيوإتيقا في مسعاها الأكاديمي والعلمي بقيود اتخاذ القرار الإكلينيكي وتوقيته المفروض من قِبل اللجان الطبية، لذا هي متحررة في ذينك المجالين من حاجة الوصول إلى خلاصات نهائية في المسائل الإشكالية. مقياساً على ذلك، لا يهم الباحثة في البيوإتيقا وطلّابها إن هم انهوا الحلقة الدراسية وهم أكثر تحيراً من الحالة التي ابتدأوا بها. تصبح العلاقة بين النظرية الأخلاقية والبيوإتيقا في ذلك الحيز الأكاديمي على أوضح ما تكون، كما يصبح الجدل حول دورها أكثر قصدية وتكون النظرية الأخلاقية في موضع أكثر ترحيباً.

لكننا حين ننظر إلى المختصة في البيوإتيقا في مجال صنع السياسات العامة، فإننا ننظر إلى باحثة تعمل في تطوير سياسات تطال في تأثيرها جماعات كبيرة من الناس في القضايا ذات العلاقة (مثل تقنين خدمات غسيل الكلى أو تشريع المساعدة الطبية في إنهاء الحياة). تواجه الباحثة في البيوإتيقا تحديات مبكرة ما إن تستحضر أي نوع من النظريات الأخلاقية في التعامل مع تحديات تقرير السياسات العامة كعضوة في لجنة وطنية، أو لنقل كعضوة في لجنة الأخلاقيات التابعة لإدارة صحية محلية أو في أي مجموعة عمل معنية باستحداث سياسات عامة.

أولى تلك التحديات تكمن في كونها غالباً ما ستنتمي إلى الأقلية التي تمتلك تأهيلاً فلسفياً في مجموعة العمل تلك. عدا عن ذلك، يكمن تحدي آخر في استبعاد حصول اتفاق بين أعضاء المجموعة حول أي نظرية أخلاقية ينبغي أن تمسك بزمام السيطرة أو تحكم القرارات المرجوة.

يوجد تصنيف ثالث من الأخلاقيات الإكلينيكية وهو مسعى[مباشر] ويمارس مع الممارسة الطبية على أرض الواقع. إن علاقة النظرية الأخلاقية بهذا النوع من الأخلاقيات الإكلينيكية تعتمد على المفهوم الإجرائي للأخلاقيات الإكلينيكية، بوصف أدق، تعتمد تلك العلاقة على تصوراتنا حول أهداف الاستشارة الأخلاقية الإكلينيكية (وهو النشاط الرئيسي للأخلاقيات الإكلينيكية) وعلى تصوراتنا حول دور استشاري الأخلاق الإكلينيكية، وهو ما سنسهب فيه في السطور القادمة.

إن ما تنطوي عليه ما ندعوها بالأخلاق التطبيقية هي مسألة مشحونة بقدر اشتحان مسألة العلاقة بين النظرية والبيوإتيقا، وهي مسألة تُورطنا معها حين ينبغي علينا أن نتخذ موقفنا من تلك العلاقة. لنلتفت الآن لتلك المسألة.

٢. ماهي طبيعة الأخلاقيات التطبيقية؟

لقد قمنا بالتعريج على مختلف المهمات والإشكاليات التي تشغل البيوإتيقا باختصار، لكن ينبغي علينا أيضاً تفحص الطرق التي صيغت فيها التصورات حول البيوإتيقا، ولصيقتها الأكثر شمولاً “الأخلاقيات التطبيقية”. يعتبر هذا التفحص على قدر من الأهمية لهذا المدخل وذلك لأن السؤال حول طبيعة الأخلاقيات التطبيقية هو في الواقع السؤال حول العلاقة بين النظري والتطبيقي، بين “النظرية” و”الممارسة”.

بل أن التسمية نفسها للأخلاقيات التطبيقية تدعونا لافتراض أن هذا الحقل المعرفي هو عبارة عن تطبيق لنظرية ما على مشكلة موجودة في أرض الواقع، حيث يكتب “ارثر كابلان” بأن العديد من المساهمين في حقل البيوإتيقا يعتقدون بأن الأخلاقيات التطبيقية هي تطبيق لنظريات ومبادئ موجودة على إشكاليات أخلاقية في الطب (Caplan 1980: 25–26). لكن ما الذي نعنيه بتطبيق نظرية موجودة على مشكلة عملية؟ وكيف يمكن التفريق بين الأخلاقيات التطبيقية والنظرية الأخلاقية؟ كما سنرى في السطور القادمة، يرى الكثيرون بأن تسمية الأخلاقيات التطبيقية قد تكون مضللة.

١.٢ إشكالات “النموذج التطبيقي” في الأخلاق التطبيقية

يجادل كابلان بوجود إشكاليات فيما يدعوه كثيرون “بالنموذج التطبيقي” في الأخلاقيات التطبيقية. بادئ ذي بدء، يحفل الطب بالعديد من المشكلات الأخلاقية التي لا جواب لها في النظريات الأخلاقية. كما يفترض النموذج التطبيقي أيضاً بأن المضطلعين بتحليل وحلّ المشكلة الأخلاقية متفقون حول طبيعة وشرح المسألة الأخلاقية، في حين أنه عادة ما تكون المسألة الأخلاقية موضع الفحص غير واضحة (Caplan 1980: 28; 1989; Agich 2001; and Magelssen، Pedersen، & Førde 2016).

يجادل كابلان كذلك بأن النموذج يقترح بشكل ضمني وساذج بأن الفيلسوف المخضرم ذو الخبرة في النظرية الأخلاقية سيتمكن بشكل فوري تقريباً من حل المعضلات الأخلاقية في وحدة العناية المركزة أو في قسم الطوارئ. أضف إلى ذلك كون التقيد بالنموذج التطبيقي، حيث يكون اتجاه التأثير محصوراً بالانطلاق من النظرية إلى الممارسة، يفوّت فرصة الاستفادة من الأخلاقيات الطبية (أو أي حقل في الأخلاقيات التطبيقية) في التأثير على البناء النظري.

٢.٢ الأخلاقيات التطبيقية والاختلاف حول النظرية الأخلاقية

يأتي التحدي الآخر للنموذج التطبيقي سريعاً من كل من توم بيشمب و ألاسدير ماكنتاير. يكمن تحدي بيشمب للنموذج من خلال نظرته للنظرية الأخلاقية على كونها معنية بتطوير مبادئ وفضائل وقواعد عامة وجوهرية وما شابه ذلك، في حين تُعنى الأخلاقيات التطبيقية في معالجة سياقات محددة من خلال اشتقاق مبادئ وفضائل وقواعد هي أقل قابلية للتعميم. تفحص كلٌ من بيشمب وماكنتاير العلاقة بين النظرية الأخلاقية والأخلاق التطبيقية في عدد عام ١٩٨٤ من مجلة “ذي مونيست” والذي خُصص لمبحث “الأخلاق والعالم الحديث”.

يجادل بيشمب لصالح القضاء على التفرقة بين المفهومين، محتجاً بغياب أي فروقات رئيسية بينهما من حيث المسعى والمنهج الفلسفي، ففلاسفة الأخلاقيات التطبيقية يفعلون ما لطالما فعله غيرهم من الفلاسفة، فهم على سبيل المثال يحللون المفاهيم ويخضعون للفحص الدقيق سائر الطرائق المتنوعة والمستخدمة لتبرير الاعتقادات والسياسات والأفعال. يأخذ بيشمب على النموذج التطبيقي فرضيته الملتبسة حول الاتجاه الأحادي للمعرفة الأخلاقية من النظرية إلى التطبيق، في حين ينبغي على النظرية الأخلاقية أن تتعلم من السياقات العملية كما يجادل بيشمب (Beauchamp 1984).

٣.٢ الأخلاقيات التطبيقية وفهم تطبيق القاعدة

يخبر ماكنتاير بأننا نخطئ في افتراضاتنا المعتادة حول ما ينبغي أن تكونه الأخلاقيات التطبيقية، فهو يستدعي انتباهنا للنظر في الاستشكالات المحيطة بما يعنيه تطبيق قاعدة ما. إذا كانت الأخلاقيات التطبيقية هي تطبيق لقواعد أخلاقية على الحالات العملية فإنه يفترض بنا أن نشهد إعادة نشوء نفس الخلافات الكثيرة حول تلك القواعد في النقاشات حول تطبيقاتها العملية، ولكن الحاصل في كثير من الأحيان هو النقيض من ذلك. نجد بأن تلك الخلافات الكبيرة حول ماهية القواعد الأخلاقية تقابلها اتفاقات كبيرة في حقل الأخلاقيات التطبيقية.

بالنظر إلى شيوع هذه المواقف حيث تكون الخلافات النظرية موجودة مع سهولة التوصل إلى اتفاقات في المسائل الأخلاقية المحسوسة، يتضح لماكنتاير عدم معقولية الادعاء بكوننا نقوم أولا بفهم القواعد الأخلاقية بشكل مستقل ثم نتجه إلى تطبيقها في ظروف مخصوصة.

يقوم افتراض ماكنتاير على زعمه باستحالة وجود القاعدة الأخلاقية بمعزل عن تطبيقاتها (وهو يقر باعترافه ضمنياً على رفض تصور المبادئ والقواعد الأخلاقية كمتجاوزة للتاريخ والزمن)، ويرى بأن الاتفاقات التي يتوصل إليها صانعوا القرار والتي يظنون بأنها ثمرة المحاجة العقلانية هي في الواقع اعادة استحضار لأسئلة أزلية، وهو أمر بالغ الشيوع في الأخلاقيات الطبية. يتضح من ذلك بأن مفهومنا الشائع حول الأخلاقيات التطبيقية يقوم على افتراض خاطئ.

٤.٢ قول توليمن في تعسّف المبادئ

يستحضر ستيفن تولمين في ورقته ذائعة الصيت “تعسّف المبادئ” تجربته في اللجنة الوطنية لحماية المشاركين في البحوث الحيوية الطبية والسلوكية (Toulmin 1981). لقد كان من السهل نسبياً التوصل للاتفاق بين أعضاء اللجنة حتى في القضايا العسيرة في ظل وجود خلافات نظرية أصيلة في تعاطي الأعضاء مع مسألة الأخلاق. لم تتطرق ورقة تولمين إلى طبيعة الأخلاقيات التطبيقية بقدر ما تبّنت دعوة للعودة إلى “أخلاقيات التحوط”، داعياً إلى إعادة النظر في المبادئ الأخلاقية، وهو بذلك يقوّض من أهمية النموذج التطبيقي في الأخلاقيات التطبيقية من خلال كشف مدى الاتفاق حول مسائل أخلاقية عملية بين منظرين ينتمون إلى مذاهب نظرية هي في غاية التباين.

يحاجج تولمين بأن الأخلاقيات التطبيقية ليست مسألة تُعنى بتطبيق النظرية على المشكلة العملية، ويكفي المرء لتصديق ذلك أن يعاين حقيقة إمكانية التوصل لاتفاق بين هؤلاء المنظرون لحل المسائل العملية وهم في الأساس مختلفون حول أي نظرية أخلاقية أدعى بأن تستحكم في تلك المسائل. مجدداً، يشدّد تولمين على اختفاء عودة الظهور للخلافات النظرية حين نكون في صدد معالجة الأخلاقيات التطبيقية. قد يجادل أحدهم بأن تزامن الاتفاق في المسألة العملية مع الخلاف في المسألة النظرية لا يدعو بالضرورة إلى نبذ النموذج التطبيقي. إلا أن تولمين بحكم تجربته يتساءل إذا ما كانت هناك أي فائدة مرجوة حقاً من التمسك بتلك المبادئ النظرية.

بقي أن ننوه لنقطة أخيرة سنعود إليها لاحقاً في القسم الرابع بخصوص اللحظة التي باتت فيها التفرقة بين النظرية الأخلاقية والأخلاقيات التطبيقية مربكة حين شاع تبني كثيرون للمقاربة الصاعدة “الموازنة التأملية” كمنهج للتعليل في البيوإتيقا. نتج عن هذا الصعود طمس الفروقات بين النظرية الأخلاقية والأخلاقيات التطبيقية لأنه من خلال منهج الموازنة التأملية يكون تعاطينا مع المسائل العملية قادر على التأثير على المسعى التنظيري بقدر ما تأثر النظرية على تعاطينا مع المسائل العملية.

لقد أوردنا في هذا القسم من الأسباب ما يحثنا على الاعتراف بعدم إمكانية الفصل بدقة بين النظرية الأخلاقية والأخلاقيات التطبيقية، إلا أن النظرية الأخلاقية في بعض أشكالها تتبوأ دوراً محورياً في البيوإتيقا، مما يدعونا للانتقال في الحال إلى دور النظريات الأخلاقية المتعالية في القسم التالي. 

٣. البيوإتيقا والنظرية الأخلاقية المتعالية

تزامن بزوغ حقل البيوإتيقا في بداية السبعينات مع تبوء فلاسفة الأخلاق وعلماء السياسة النظرية لأدوارهم كمشاركين في النقاشات المتمحورة حول القانون والاقتصاد والبيئة وإدارة الأعمال والبحوث على البشر والممارسة الطبية. عقد هؤلاء الأكاديميون الآمال بشكل مفهوم على قدرة معرفتهم بالنظرية الأخلاقية على تمكينهم من تطبيق نظرياتهم على المشاكل في أرض الواقع وعلى أن مهاراتهم في التحليل النقدي ستكون محل تقدير. حتى يومنا هذا، تتبدّى هذه الثقة بنجاعة النظرية الأخلاقية في حل المشاكل العملية في استهلالات كتب البيوإتيقا والتي تحفل معظمها بشروحات على الأقل لأساسيات نظرية العواقبية ونظرية الفضيلة وأخلاق الواجب وغيرها.

١.٣ مزايا النظريات الأخلاقية المتعالية

كانت ولا زالت مزايا النظريات الأخلاقية المتعالية في غاية الأهمية، ولطالما أسست تلك النظريات للمقاربات التي عالجت إشكاليات البيوإتيقا في الأعمال الرئيسية لعدد من المشتغلون بهذا الحقل. تتضمن بعض الأمثلة كل من عمل ألان دوناجن المتأثر بكانط عن الموافقة عن علم (Donagan 1977)، ونقد تريسترام إنجلهارت الليبريتاري حول إعادة توزيع الخدمات الصحية (Engelhardt 1986 [1996]) ومقاربة جوزيف فلتشر العواقبية لنطاق واسع من إشكالات البيوإتيقا.

ما الذي قد يفسر هذا اللجوء للنظريات الأخلاقية المتعالية؟ وما هي مزايا تلك النظريات بالنسبة لـ البيوإتيقا؟ دعونا نأخذ بعين الاعتبار ثلاث احتمالات ضرورية. أولاً، يحتمل أن تكون مهاراتنا الأخلاقية لمواجهة الحياة اليومية كافية للتعامل مع مسائل البيوإتيقا. لكن في حال عدم صحة ذلك، سنحتاج مصادر ذات تنظيم وهيكلة أقدر للتصدي لحاجة الاسترشاد الأخلاقي. تبدو النظريات الأخلاقية المتعالية مثل أخلاق الواجب والعواقبية مفيدة في هذا الموضع ومرغوبة. لا ترشدنا تلك النظريات فحسب، بل إنها تتضمن مصادر التبرير الأخلاقي وهو الأمر الذي يمدنا بالعون حين نكون مطالبون بشرح القرارات الأخلاقية اليومية أو تلك المتعلقة بـ البيوإتيقا.

ثانياً، يحتمل إننا حال لجوئنا إلى مبادئ متوسطة المستوى ]النظري[ ( مثل مبدأ العدالة ومبدأ الخيرية) فإننا سنحتاج للمساعدة في قياس هذه المبادئ بعضها إلى بعض والموازنة والحكم بينها. باستطاعة النظرية الأخلاقية المتعالية التصدي لهذه المهمة من خلال مدّنا بالمعايير الأخلاقية. كما سبق وجادل سايدجويك عن أهمية العواقبية في توفير الإرشاد الأخلاقي حين تتضارب الواجبات الأخلاقية الاعتيادية اليومية في ظل قصور تفكيرنا الأخلاقي اليومي (غير النظري) عن حلها، فإن مارثا نوسباوم تدافع كذلك عن حاجتنا للنظرية الأخلاقية من خلال التشديد على مقدرة تلك النظريات على قياس القواعد بعضها ضد بعضها الآخر في مختلف الظروف وبالاستعانة بإطارها المعياري (Nussbaum 2000).

ثالثاً، تساعدنا النظريات الأخلاقية المتعالية في تحقيق اتساق ومنظور منظّم في حيواتنا الأخلاقية. تلفت هذه الفكرة النظر إلى نجاعة تأثير النظرية الأخلاقية على مظاهر حياتنا الاعتيادية والبوإتيقية بحكم تنظيم وتناسق تلك النظريات. يعلي برنارد جرت من شأن هذا التنظيم ويمنحه الأفضلية، على الأقل في البيوإتيقا (Gert، Culver، & Clauser 2006).

٢.٣ مشاكل البيوإتيقا التي تدفعنا إلى النظرية الأخلاقية المتعالية

ولّت سريعاً تلك الأيام التي اعتبرت فيها البيوإتيقا كنظرية متعالية لأسباب عدة. أولى تلك الأسباب هي إشكالية سؤال ما هي النظرية الأخلاقية الأجدر بالصدارة، حيث إن لم تجد إحداهن غضاضة في اختيار نظرية أخلاقية متعالية في المقام الأول، فإنها سرعان ما ستتحير في الدفاع عن مغزى اختيار نظرية دون أخرى (Magelssen، Pedersen، & Førde 2016: 27)، فعسر طبيعة النقاشات القائمة بين أخلاق الواجب والعواقبية، مثلاً، جديرة بأن تدعوا إحداهن إلى التأني برهة أثناء سعيها في تبيان مواقفها البيوإتيقية وفقاً لنظريتها الأخلاقية المفضلة دون الأخرى.

وإن كانت المسألة كذلك بالنسبة إلى أكاديميين البيوإتيقا، فإن المسألة أشد عند مختصة بعلم الأخلاق الإكلينيكي على سبيل المثال وهي تحاول حل المعضلة الأخلاقية القائمة من خلال الاستشهاد بمفهوم الأمر القطعي عند كانط. لا تكمن صعوبة موقفها في كونها محاطة بأشخاص خارج حقل الفلسفة فحسب (حيث ليس بالضرورة أن يجابه الاستشهاد بتعقيدات نظرية أخلاقية مرموقة بالاحتفاء) ولكنها تكمن أيضاً في التساؤل لما على العامّة من الناس، وهم ربما موضوع مسؤوليتها الأخلاقية، أن يصبحوا رهن تفضيلاتها الكانطية. مما يجعلها صعوبة تنطبق أيضاً على مختص الأخلاق المشتغل بالسياسات العامة.

ثانياً، بِغض النظر عن هذه الصعوبة، توجد خلافات داخل كل نظرية حول فروعها المتعددة، خذ على سبيل المثال الخلافات بين نفعية الفعل ونفعية القاعدة أو خلافات طلّاب رولز. ثالثاً، يستشعر البعض توتراً في العلاقة بين بعض أوجه النظرية الأخلاقية المتعالية والديمقراطية. يعتقد كثيرون بأن العلنية في صياغة السياسات العامة عليها أن تحكم المجتمع الديمقراطي (Rawls 1971)، ولكن تطلّب هذه العلنية قد يعيق التبرير الأخلاقي لتلك السياسات بما يستعصي فهمه على العامة ولا يفقهه سوى الفلاسفة النخبويين. ليست الوسيلة الوحيدة إذن للتقليل من شأن النظرية الأخلاقية في البيوإتيقا هي التشكيك بالنظرية بل تكفي ملاحظة التوتر بين الاشتغال البيوإتيقي في الديمقراطيات وحصرية النظرية الأخلاقية (Bertram 1997; London 2001).

رابعاً، قد يشق على مختصي الأخلاقيات الإكلينيكية توظيف النظرية الأخلاقية المتعالية دون تحصيل تمرين فلسفي رصين، مما قد يقوّض من فائدة النظرية الأخلاقية المتعالية في سياق الأخلاقيات الإكلينيكية. أضف إلى ذلك أن ميزة الشمولية التي تتسم بها تبريرات النظرية الأخلاقية والتي تبشر بها قد لا تكون ضرورية في هذا السياق.

خامساً، من المشكوك به أن تنتج أي نظرية فلسفية عالية المستوى أجوبة مباشرة للبت في إشكاليات عملية معقدة، مما يذكرنا بما سبق وأوردناه حول نقد كابلان للنموذج التطبيقي. يعترف نورمان دانيالز، والذي تتأثر نظريته حول العدالة في توزيع الخدمات الصحية بنظرية رولز في العدالة، بأن النظرية الفلسفية غير مفصّلة بشكل مرضي للمشاركة في عملية صنع سياسات عامة، وهي بحاجة لأن تدعم بتداول سياسي منظّم بشكل عادل (Daniels 1996: 144–175; 2007: ch. 4). تتلخص الفكرة العامة هنا بأن النظرية الأخلاقية المتعالية غير مهيأة بشكل مرضي للتعامل مع مسائل صنع القرار على المستوى الملموس. فيجوز على سبيل المثال أن تزّكي نظرية أخلاقية واحدة عدداً من الخيارات المحتملة دون أن تمد صنّاع القرار بإرشاد كافي للذهاب أبعد من ذلك.

خلاصة القول أنه توجد قيود مهمة من شانها أن تحد من جاذبية النظرية الأخلاقية في البيوإتيقا رغم وعودها المبكرة. حري بنا أن ننتقل الآن لمقاربة تبدو واعدة أكثر.

٤. التحول إلى التنظير متوسط المستوى: مقاربة مبنية على المبادئ

أتى التحول إلى التنظير متوسط المستوى نتيجة التحديات التي سبق تبيانها مع النظرية الأخلاقية المتعالية، وقد بدا ذلك التحول جلياً بحلول عام ١٩٧٩ إبان نشر توم بيشمب وجيمس تشيلدرس عملهما المؤثر “مبادئ أخلاقيات الطب الحيوي” (PBE). تعرض المقاربة الواردة في هذا العمل بجميع نسخه المراجعة اللاحقة معايير أخلاقية متوسطة المستوى تتشكل في أربع مبادئ رئيسية، وهي كالتالي:

  1. مبدأ الاستقلال الذاتي (قيمة تسيَد الفرد على قرارات حياته وخياراته)
  2. مبـدأ الخيرية (قيمة تحسين حياة الآخرين)
  3. مبدأ دفع الضرر (قيمة تجنب تعريض الآخرين للضرر)
  4. مبـدأ العدالة (قيمة أن يعطى كل ذي حق حقه) (Beauchamp & Childress 2019a; Arras 2017: 5).

أتت هذه المبادئ عقب أعمال متقدمة لكلاً من جوزيف فلتشر وبول رامزي حول ما ندعوه اليوم بـ البيوإتيقا، وقد بنيت أعمالهما على الأخلاقيات المسيحية اللاهوتية والتي يختص بها كلاهما رغم الاختلاف الكبير بين أعمال الرجلين. أخذ بيشمب وتشيلدرس المتأثرين بتلك الأعمال على عاتقهما تقديم إطار نظري يعدون بكونه أكثر جاذبية لمجتمع متعدد وعلماني. ينطلق كلاً من بيشمب وتشيلدرس من منطلقات نظرية متباينة حيث يصف بيشمب نفسه كمتبّع لنفعية القاعدة، في حين يتبع تشيلدرس أخلاق الواجب بصيغة مسيحية (Arras 2017: 3; Beauchamp & Childress 1979: 40: 2019b: 9). هذا التباين يشدد على كون مقاربتهما ليست معنية بالترويج لنظرية دون أخرى، وعلى كون تبنيها لا يتطلب أي التزام نظري أو ميتافيزيقي مسبق.

١.٤ التحول من الاستدلال، والموازنة التأملية

شهدت مقاربة بيشمب وتشيلدرس عدد من التطورات منذ صدور الكتاب، إلا أن أبرز جوانب هذا التطور يتعلق بالابتعاد عن المنطق الاستدلالي، أو بعبارة أخرى الابتعاد عن تطبيق يتجه من أعلى إلى أسفل، أي من المبادئ إلى الحالات العملية.

كانت قراءتهم أول الأمر للعلاقة بين النظرية الأخلاقية وبين المبادئ والحالات أن:

النظرية تبرر المبادئ، والمبادئ تبرر القواعد الأخلاقية، والقواعد تبرر الأحكام الأخلاقية على الحالات المحددة. (Arras 2017: 11)

هذا هو الانطباع الذي تركه على الأقل مخطط وجد في الطبعة الأولى من الكتاب (Beauchamp & Childress 1979: 5) والذي فسره الكثيرون بأنه تأييد لنموذج يتجه من أعلى إلى أسفل. قوبلت هذه المقاربة باعتراض أولئك الذين يفضّلون منطق معالجة كل حالة على حدة (وهو ما يعرف بالإفتاء الأخلاقي)، إذ رأوا بأنها مقاربة أحادية الاتجاه من المبادئ إلى الحالات على أقل تقدير. تُهمش هذه المقاربة الحكم الحدسي والقائم على حل كل حالة على حدة، كما أنها تتجاهل العلاقة الجدلية بين المبادئ وتجاوبنا مع الحلات الخاصة.

نتيجة التطورات التي مرت بها النظرية، يسلّم بيشمب وتشيلدرس الآن بهذا الموقف الذي يصور العلاقة بين تجاوبنا مع الحلات الخاصة والمبادئ الأخلاقية على أنها علاقة تبادلية، ويُستدل بذلك من خلال التزامهم الحالي بمنهجية الموازنة التأملية كمنهجية معتمدة لـ البيوإتيقا. تُعرّف الموازنة التأملية باختصار بأنها عملية يؤثر من خلالها تجاوبنا مع الحالات على أرض الواقع على مبادئنا الأخلاقية فيما تقدم تلك المبادئ المحسنة بدورها إرشاد أفضل في الحالات المستقبلية، وهي طريقة في التعاطي مع الفلسفة الأخلاقية توجد بالأصل في فلسفة رولز (Rawls 1971: 48–51; Daniels 1979; Arras 2007: 47).

تتفاعل الحالات مع المبادئ على مستوى مترادف في هذه الطريقة على عكس الطريقة الأخرى التي يتم بها تطبيق المبادئ على الحالات بشكل استدلالي. كما يوجد فارق بين مستويين للموازنة التأملية، أحدهما ضيق فيما الآخر هو أكثر اتساعاً. تتضمن الموازنة التأملية الضيقة التفاعل بين تجاوبنا (أو حدْسنا) مع الحالات وبين المبادئ الأخلاقية التي تنظم ذلك الحدس كما تبين سابقاً، فيما تضيف الموازنة التأملية المتسعة نظريات أخلاقية واجتماعية جديدة وهي تحظى بتأييد بيشمب وتشيلدرس (Arras 2017: 182).

إن تبني بيشمب وتشيلدرس للموازنة التأملية المتسعة كعنصر ضروري في مقاربتهم هو جانب على قدر من الأهمية لنظريتهم كما يقومون بتقديمها. استمر بروز دور الموازنة التأملية في أطروحتهم بصدور الطبعات التالية من الكتاب، وقد ساهم ذلك بالإضافة إلى موافقة بيشمب وتشيلدرس للأخلاق البديهية في تشكيل مقاربة هجينة للتبرير الأخلاقي، وهي هجينة من باب تبنيها لكلتي ]الصفتين المعرفيتين[ الاتساق المعرفي (coherentism) والتأسيسية (foundationalism)، حيث تعتبر الموازنة التأملية هي مصدر الاتساق المعرفي في المقاربة، في حين يمد توافق تلك المقاربة مع الأخلاق البديهية بالأساس المعرفي لها.

قبل الانتقال إلى فحص أقرب لمفهوم الأخلاق البديهية، ينبغي التنويه على أن المقاربة الهجينة الواردة هنا تختلف عن تعاريف أخرى ترد حول الموازنة التأملية، في النظرية السياسية على سبيل المثال أو في حقول أخرى للأخلاق التطبيقية. يتحقق التبرير الأخلاقي في تلك التعاريف الأكثر تقليدية من خلال تفاعل العناصر المتعددة للتأمل الأخلاقي مع بعضها البعض دون اعتبار أياً منها تأسيسياً أو غير قابل للمراجعة، على عكس نسب بيشمب وتشيلدرس للأخلاق البديهية صفة تأسيسية، وتتعهد تلك الأخلاق البديهية بدورها ] بتأسيس تبرير[  المبادئ الأربع.

٢.٤ الأخلاق البديهية

أصبحت الأخلاق البديهية، وليست النظرية الأخلاقية المتعالية، هي المصدر الرئيسي للمبادئ الأربع بحلول الطبعة الثالثة من “مبادئ أخلاقيات الطب الحيوي”. وهي كما يعرّفها بيشمب وتشيلدرس أخلاق كونية يلتزم بها كل شخص ملتزم أخلاقياً (Beauchamp & Childress 2019b) وتتحدد عبر غايات الأخلاق الرئيسية والتي تتضمن على سبيل المثال تحسين المعاناة الإنسانية. إنها تحيط بقواعد ملزمة معينة (قل الصدق، فِ بوعدك) وتقرّ معايير معينة للفضائل الأخلاقية مثل الصدق والنزاهة (Arras 2017: 21–3).

من الضروري إدراك أن هذه الأخلاق البديهية هي تأريخية، بمعنى أنها شُرعنت تاريخياً من خلال نجاح معاييرها في دعم الازدهار الإنساني على مدى الزمان وبتعدد المكان. ولكن بعكس المفاهيم التأريخية الأخرى، فإن الأخلاق البديهية ليست نسبية بل كونية. يبوأ بيشمب وتشيلدرس الأخلاق البديهية مكانة ذات حصانة من الاضطراب الذي يسببه مطلب الاتساق المعرفي في الموازنة التأملية المتسعة، وهي لذلك تعد مكمن تحقيق الجانب التأسيسي في مفهومهم. وعلى ذلك، تبرر الاستنتاجات الأخلاقية ] عند بيشمب وتشيلدرس[   من خلال تحقيق التماسك المعرفي (عبر الموازنة التأملية)، وخلال تحقيق التأسيس المعرفي، عبر ارتباط مبدأهم بالأخلاق البديهية (Arras 2017: 23; Beauchamp & Childress 2019b: 11).

٣.٤ نقد المقاربة القائمة على المبادئ

تحتوي مقاربة بيشمب وتشيلدرس على عنصر ذو طبيعة تعددية يتجسد جزئياً بتفضيل المقاربة لتحديد قائمة قصيرة تحتوي على أربعة مبادئ عوضاً عن تحديد مبدأ واحد مهيمن، مما دفع البعض إلى انتقاد مقاربة بيشمب وتشيلدرس لافتقارها للتراتبية، وهو خلل قاتل في أي نظرية فلسفية بالنسبة للبعض (Gert، Culver، & Clauser 2006). يزعم هؤلاء المنتقدون بأن مقاربة بيشمب وتشيلدرس القائمة على المبادئ تفتقر للصرامة وتترك حيزاً أكبر من اللازم للأحكام الحدسية حين تتعارض تلك المبادئ مع بعضها البعض طالما لم تحتوي النظرية على أي تفضيلات بين المبادئ. يعترض بيشمب وتشيلدرس سريعاً بكونهما لا يطمحا لإبداع نظرية أخلاقية بل إطار ودليل عملي، وهما بشكل أكثر أهمية يعربان عن شكوكهما عن قدرة أي محاولة لمنح الأفضلية لمبدأ دون آخر أن يصمد أمام عامل الوقت (Arras 2017: 6–9).

يوجه ماك ميلان نقده الحديث نسبياً لمقاربة بيشمب وتشيلدرس حول كونها تضيق الخناق أمام أي تأمل فاحص للقضايا على أرض الواقع. يزعم ماك ميلان بأن المنهجيات القائمة على المبادئ لا يمكن أن تقود إلى صياغة “اعتقادات حصيفة حول المشاكل الأخلاقية”، ويشير في كتاباته إلى أن المقاربة القائمة على المبادئ تقوض من تأثير المنطق الأخلاقي على الاستشكالات العملية. يعلل ماك ميلان ذلك بأن قليلو الخبرة في حقل البيوإتيقا سيميلون إلى ضم أي إشكالية تحت لواء أحد المبادئ الأربع ثم سيحكمون بتفوق مبدأ الاستقلال الذاتي على المبادئ الثلاثة الأخرى. رغم إحاطة ماك ميلان بأن هذا يعاكس مقصد بيشمب وتشيلدرس إلا أنه يشير إلى أن الواقع يشهد بأنه عادة ما يحدث توظيف مقاربة المبادئ الأربعة بهذه الطريقة (McMillan 2018: 51–53).

يواكب نقدان شائقان لجون آراس المتوفي حديثاً تطورات عمل بيشمب وتشيلدرس الأخيرة. يشكك آراس بمعقولية المقاربة الهجينة التي يتبنياها بيشمب وتشيلدرس، خاصة من ناحية اعتمادهما على الأخلاق البديهية كمصدر لتأسيس المقاربة. يتساءل آراس لماذا يفرق بيشمب وتشيلدرس بين أعراف البداهة الأخلاقية وبين (ما يدعوه جون رولز) أحكامنا الأخلاقية المعتبرة، والتي هي بطبيعتها قابلة للتمحيص. يدرك آراس أن اهتمام بيشمب وتشيلدرس بالتأسيس المعرفي مبني على أن اتساق التبرير لا يكفي لسن حقيقة أخلاقية، إلا أنه يتساءل في هذه الحالة إلى أي مدى يساهم التمسك في البداهة الأخلاقية في توظيف ميزة تبريرية إضافية طالما كانت الموازنة التأملية نفسها شاملة لكل العناصر في الصورة الأخلاقية (بما فيها، افتراضاً، أعراف الأخلاق البديهية). المشكلة، كما يراها آراس، تتلخص في تصور تفرد البداهة الأخلاقية بفضائها الأخلاقي الخاص، بمعزل عن ديالكتيكية الموازنة التأملية، وهو يشكك في حصانة البداهة الأخلاقية من تحولات الزمن وديالكتيكيات الموازنة التأملية (Arras 2017: 24–26).

يركز النقد الثاني لآراس على تبني بيشمب وتشيلدرس للموازنة التأملية المتسعة. وفقاً لآراس فإنه يصعب فهم كيف يمكن الإبقاء على مركزية المبادئ الأخلاقية في التحليل المفهومي للموازنة التأملية المتسعة (Arras 2017: 182–3). يحثنا آراس على استرجاع غياب التمييز بين الاعتبارات الأخلاقية في الموازنة التأملية المتسعة (مثل الأحكام الأخلاقية المعتبرة أو النظريات الداعمة أو المبادئ الأخلاقية)، فلا تهتم عملية التأمل في الموازنة التأملية بمحتوى الاعتبار الأخلاقي بقدر اهتمامها بالالتزام بهذه الاعتبارات (Scanlon 1992; DePaul 1993: 57). في هذه الحالة، تكون اعتقاداتنا حول المبادئ خاضعة للمراجعة دائماً كما هي الحال مع النظريات الداعمة والأحكام الأخلاقية المعتبرة، ولذا يشير نقد آراس إلى تضحية المقاربة القائمة على المبادئ بتميز منهجيتها طالما ]ارتضت ضمنياً[ أن تسلب مركزيتها المفهومية.

وأخيراً، فقد أقر بيشمب وتشيلدرس مؤخراً بسوء فهم يطال جانبين من إطارهما للمبادئ الأربعة. أما سوء الفهم الأول فهو عن كون إطارهما يمثل الفردانية الأمريكية حيث يعلو شأن الاستقلال الذاتي. يأتي جوابهما أولاً من خلال تحدي وجود أي رابطة بين الفردانية الأمريكية واحترام الاستقلال الذاتي، ويؤكدان لاحقاً على كون مبادئهم لازمة مبدئياً (prima facie) فقط.

وأما سوء الفهم الثاني فهو حول كون نظريتهما تقلل من شأن الفضائل الشخصية، حيث اُحتج بأنه ينبغي على الأخلاقيات الطبية أن تحتكم إلى أخلاق الفضيلة لا على الأخلاقيات المبنية على المبادئ، لكون أخلاق الفضيلة أقدر على أنسنة الرعاية الصحية. للرد على منتقديهم، يحيل بيشمب وتشيلدرس المنتقدين إلى النقاشات المتعددة حول أخلاق الفضيلة والفضائل الشخصية الواردة في الإصدارات المتعددة لعملهم بما في ذلك الإصدار الثامن والذي تضمن على نقاش كيفية عمل الفضائل الشخصية والمبادئ معاً في بعض الحالات العملية (Beauchamp & Childress 2019b: 11).

٥. منهجيات أخرى في البيوإتيقا

١.٥ الإفتاء الأخلاقي في البيوإتيقا

تجسّد مقاربات أخرى في البيوإتيقا بدائل مغايرة للنظرية المتعالية. أولى تلك البدائل هي مقاربة الإفتاء الأخلاقي Casuistry والتي يمكن النظر إليها كاستجابة نقدية لإصدارات بيشمب وتشيلدرس الأولى في مقاربة المبادئ الأربعة. لنسترجع أن الاستجابة التي نحن بصددها موجهة للإصدارات الأولى من بيشمب وتشيلدرس وتأخذ عليها كونها غاية في التجريد وتعترض على استدلالاتها المزعومة.

يعترض مناصرو الإفتاء الأخلاقي، أو منطق معاملة كل حالة على حدة، على الأقل على ما يعتبرونه الاتجاه الأحادي (التنازلي) من المبادئ إلى الحالات (Arras 2017: 11) ويدعون عوضاً عن ذلك إلى اتجاه أكثر تصاعدية ]من الحالات إلى المبادئ[ تكون فيه الحالات على أرض الواقع نقطة الانطلاق وتنبلج منها المبادئ الأخلاقية كوقائع ناتجة عن اعتبارنا لتلك الحالات.

عادة ما يتم الحديث عن الإفتاء الأخلاقي باقتضاب، ويقصد بهذه المقاربة الإشارة إلى أخلاقيات تركز على المنطق القياسي في التعامل مع الحالات الملموسة (الحالة التي نعاينها وتلك التي سبقت معاينتها في الماضي) بحيث حين يواجه أحدهم حالة ما، يسترجع كيفية تجاوبه مع حالات شبيهة نسبياً في الماضي و”يطّبق” ذات المنطق على الحالة الجديدة. إلا أنه ينبغي علينا التفرقة بين نوعين من هذه المقاربة. يمكن فهم النوع الأول من الإفتاء الأخلاقي ببساطة كطريقة للتعامل مع الحالات الخاصة عبر تطبيق مبادئ (مجردة)، وهي وفق ذلك التعريف يمكن اعتبارها مكملة لمقاربات بيوإتيقية أخرى تعتبر المبادئ لازمة أخلاقياً (Arras 2017: 46).

مناصرو هذه المقاربة يقرون هنا بوجود جانب ذو قوة معيارية أو ملزم بالعمل لا يمكن اختزاله باستجاباتنا للحالات الأخلاقية ووجود معرفة أخلاقية لا يمكن اختزالها في تلك الاستجابات. (Jonsen 1995). لاحظ بأنه حين يتم تعريف هذا النوع المعتدل من مقاربة الإفتاء الأخلاقي بهذه الطريقة فإن الفروقات بينها وبين التطبيقات الأكثر تقليدية أحادية الاتجاه من المبادئ إلى الحالات تبدو غير واضحة.

إلا أن المسألة مختلفة في التأويل الأكثر تطرفاً لـ الإفتاء الأخلاقي من حيث قراءته للاشتقاق من المبادئ الأخلاقية. في حين أن الصيغة المعتدلة تقارب الحالات الأخلاقية متكئة على مبادئ أخلاقية سبق وارتضتها، تستقي الصيغة المتطرفة للمبادئ الأخلاقية مبادئها من خلال تحليلها للحالات الأخلاقية على أرض الواقع (Arras 2017: 47)، أي أن الصيغتان تعزوان معرفتهم الأخلاقية إلى مصدرين مختلفين. بالنسبة للصيغة المتطرفة، فإن ثقتنا بأحكامنا الأخلاقية تكون على أحسن ما هي عليه حين تكون في مستوى الحالات الأخلاقية المعينة لا في المستوى النظري. يتلخص الادعاء القائم هنا بأن المبادئ الأخلاقية في أساسها ما هي إلا تشكلات لاستجاباتنا الحدسية للحالات الأخلاقية دون وجود قيم معيارية مستقلة ونافذة (Toulmin 1981).

١.١.٥ مزايا مقاربة الإفتاء الأخلاقي

تمتلك مقاربة الإفتاء الأخلاقي مزايا خاصة وفقاً لمناصري المقاربة. أولى تلك المزايا هي قدرة المقاربة على التقريب بين أولئك الذين يمتلكون التزامات أخلاقية نظرية متباينة مما يجعلها موائمة للبت في القرارات في المجتمع التعددي (Sunstein 1996). وبالعودة لسياق الأخلاق الطبية التطبيقية، فإن المقاربة موائمة لاستخدامها من قبل الممارسين الصحيين المكّيفون أصلاً للنظر إلى كل حالة على حدة والذين عادة ما يولون اهتماماً ووقتاً محدودين للنظرية الأخلاقية. وحين يتطرق الأمر إلى تعليم منهج البيوإتيقا، فإن هذه المقاربة تدعو إلى استخدام الكثير من حالات الدراسة المفصّلة، ما يحظى بتأييد كثير من المنخرطين في التعليم الطبي (Arras 2017: 55–57).

٢.١.٥ النقد الموجه إلى مقاربة الإفتاء الأخلاقي

نالت مقاربة الإفتاء الأخلاقي نصيبها من النقد رغم هذه المزايا. النقد الأول هو أن المقاربة تفترض أنه يمكن تحديد ما ينزل في اعتبار الحالة الأخلاقية بشكل مباشر وواضح. إلا أنه، كما يرى البعض، تحديد ما ينزل في اعتبار الحالة الأخلاقية وما هو غير ذلك يحتكم إلى تصور بيوإتيقي حول أي المشاكل جديرة (أو غير جديرة) بالاشتغال الأخلاقي والظهور على قائمة الأجندة (O’Neill 1988). إلا أن هذه الأجندة كما يحتج البعض يعيبها ضيق أفقها، كما أنها مسبوكة وفقاً لمصالح العمل الطبي على سبيل المثال، وتحكمها نظرة ذكورية (Carse 1991).

وعلى صعيد متصل، تثير نقطة أخرى شكوك مماثلة حول ]قدرة المقاربة[ على صياغة تصورات مُرضية للمسائل الأخلاقية في الحالات موضع الدراسة. يعاب على المقاربة سكوتها عن هذه الإشكالية، كما يعيب البعض الآخر على الصيغة المتطرفة من المقاربة استعانتها بالمنطق القياسي، في حين يغيب عن المشتغلين بتلك المقاربة أن هذا المنطق ليس قائم بذاته بل يقتضي وجود مبادئ سابقة له لترشده، وهي نفسها المبادئ التي ترفضها المقاربة المتطرفة. لا تخضع المقاربة الأكثر اعتدالاً لهذا النقد كونها تقوم فعلاً باستخدام مبادئ وتعميمات تساعدها في تكوين بنية لتحديد ما يشكل مسألة أخلاقية في الحالات العملية (Jonsen 1995).

يوجه نقد آخر إلى عدم اعتبار الصيغة المتطرفة لأي مبادئ مشتقة نظرياً مما يجعلها ليست سوى محاولة تهذيبية لاستجاباتنا الحدسية للحالات الأخلاقية. يصور هذا النقد المقاربة كمقاربة متحفظة أخلاقياً وتفتقر للأدوات اللازمة للنقد الاجتماعي، يكون فيها متخذ هذه المقاربة مجرد مفسّر لأعراف أخلاقية محتومة (Arras 2017: 60–67). وأخيراً، فإنه يبدو أن هذه الصيغة تتطلب اتفاقات مسبقة حول قيم أساسية وذلك للتوصل إلى نتائج ختامية، إلا أن هذه الاتفاقات قد تبدو صعبة المنال في المجتمع التعددي الحديث.

٢.٥ الأخلاق السردية في البيوإتيقا

تشكّل الأخلاق السردية إحدى المقاربات البديلة لمسألة الأخلاق بشكل عام والبيوإتيقا بشكل خاص. وفقاً للكثير من التعليقات، فإن الأخلاق السردية نشأت رداً على مقاربة البيوإتيقا من خلال الاشتقاق النظري والتي تعطي الأفضلية لقيمتي عصر التنوير الأبرز، ألا وهما الموضوعية والكونية. بعبارات أخرى، فإن الأخلاق السردية نشأت كرد فعل اتجاه أخلاقيات امبريالية تنشط على افتراض أن الأخلاق هي بشكل رئيسي مسألة تُعنى بـ “السلوك الصائب بين الغرباء”.

وفقاً لهيلد ليندمان نلسون، فإن مقاربة الأخلاق السردية تقوم على اقتراحين، أن المبادئ الأخلاقية ليست شبيهة بالقانون ]الصارم[ بل هي عرضة للتعديل وفقاً للسياق(افتراضياً من خلال جعلها أكثر تخصيصاً أو من خلال إبطالها)، وأن الاعتبارات الخاصة بكل موقف “إما أن تتشكل سردياً بشكل طبيعي، أو أن يتم إضفاء بنية سردية عليها بغية تحقيقها للمعنى الأخلاقي” (Lindemann Nelson 1997a: viii–ix).

رغم أن البعض سيعترض بأنه يصعب القبض على الأخلاق السردية كمنهجية، فإن يمكن تصورها كمقاربة أخلاقية تركز على الجانب القصصي السردي وعلى أهمية الصوت ومنظور السارد والمريض والجانب الأدبي في البيوإتيقا. من الممكن عرض عدد من الاقتراحات لتصور أنواع الأنشطة التي سننخرط فيها بتبنينا للأخلاق السردية. تتضمن هذه الاقتراحات ١) ببساطة، قراءة القصص (مما يشحذ ورعنا الأخلاقي) (Nussbaum، 1992، 1995)، ٢) قص القصص (وهي طريقة تخضع التجربة منطقياً للتداول الأخلاقي)،٣) مقارنة القصص (مما يذّكر بمقاربة الإفتاء الأخلاقي) ٤) إجراء تحليل أدبي بطريقة أو بأخرى، ٥) الاستشهاد بالقصة (وهو ما نقوم به حين نقدّم لـ البيوإتيقا من خلال حالات للدراسة) (Lindemann Nelson 1997a: x–xii).

تتعدد التصورات حول كيفية اشتغال الأخلاق السردية بالتحليل الأخلاقي. أولى تلك التصورات هي أن الأخلاق السردية هي متممة للمبادئ الأخلاقية وليست بديلة لها. نحن ننظر في هذه الصيغة للأخلاق السردية إلى مقاربة تتطلب تيقظ حساسيتنا إزاء “العناصر السردية” في التجربة الإنسانية، مثل القصص كما تتم روايتها من قبل المريض ومن القائم على شئونه وعائلته.

لا غنى في هذه الصيغة عن بيوإتيقا قائمة على النظريات والمبادئ، إنما هي تدعو إلى استخدام هذه المبادئ مع تقدير ذو حساسية إزاء تصور الشخص المتحدث عن الآخرين (Charon 1994). الطريقة الأخرى لتصور عمل السردية كمتممة للمبادئ هي من خلال اعتبار العلاقة الديالكتيكية بين المبادئ والحالات الأخلاقية ضمن سياق الموازنة التأملية، حيث تكون هنا الحالات التي نبني عليها أحكامنا الأخلاقية هي سرديات بذاتها. مرة أخرى، يستوعب هذا التصور النظرية الأخلاقية، ويعتمدان فيه التنظير الأخلاقي والقصص على بعضهما بشكل متبادل.

يعزز تصور آخر للأخلاق السردية من أهمية التاريخ والثقافة في الأخلاق عوضاً عن التركيز على عقلانية أكثر كونية. تُعرف هذه الصيغة من الأخلاق السردية أحياناً بالسردية التاريخية. تُقر السلوكيات هنا بقدر موائمتها للتقاليد والمعايير والقصص السماعية في جماعة اجتماعية معينة، ويُستعان بدور الفرد الاجتماعي وبالسرديات الأساسية التي تشكّل هذا الدور (تأمل في الدور الاجتماعي للطبيب في المجتمعات الغربية كما صِيغ من قبل قسم أبقراط) (MacIntyre 1981; Burrell & Hauerwas، 1977).

يحلل تصور ثالث مقاربة السردية الأخلاقية كبديلة تامة للتبرير الأخلاقي (Arras 1997: 67– 78) ولـ البيوإتيقا القائمة على النظرية أو المبادئ. وفقاً لهذا التصور والذي يربطه البعض بما بعد الحداثة، فإن التركيز يكون على استمرار المحادثة بين التقليد والسرد دون أن يطغى أحدهما على الآخر بالتمسح بنظرية ما حول الطبيعة البشرية أو التاريخ أو غير ذلك. لا يكمن المسعى الأخلاقي إذن في إيجاد التبرير الأخلاقي لتصور أحدهم، إنما في إبقاء الفضاء الأخلاقي منفتحاً على المحادثات المستمرة بين التصورات المتنافسة (Rorty 1989).

يدّعي هذا التصور في أحد جوانبه بأنه ينبغي على أولئك الذين يعانون أن يخبروا بقصتهم الخاصة دون الخوف من تعرضهم للهيمنة والتشييء  بـ]اختزال قصصهم[ في ملخصات الحالات الشائعة في الطب الحديث (Frank 1995). ورغم انشغال صيغ السردية الأخلاقية باحتمالية استبدال السرد للمقاربات الأكثر تقليدية في البيوإتيقا والقائمة على النظرية أو المبادئ، لا تبدو أي من الصيغ في المقاربة السردية قادرة على تحديد إطار مميز للمنطق الأخلاقي (كما هو الحال في النفعية وأخلاق الواجب على سبيل المثال).

١.٢.٥ نقد الأخلاق السردية

يتساءل البعض حول جدوى الأخلاق السردية، ويقلقون تحديداً حول كيفية ارتباط التركيز على السرد بالأخلاق عموماً، وهم يتساءلون كذلك حول الكيفية التي تستخلص بها الأخلاق السردية نتائج حول ما يتوجب علينا عمله.

يلخص هذا التساؤل بأنه إذا ما كان الاشتغال المركزي لـ البيوإتيقا هو في إصدار الأحكام على الأفعال والسياسات العامة والصفات الشخصية، وأن تقوم بالتبرير أخلاقياً للأفعال والقرارات والسياسات العامة (أو أن تثبت عدم إمكانية التبرير الأخلاقي)، فإنه من غير الواضح كيف يمكن للأخلاق السردية تلبية غايات البيوإتيقا. ماهي العلاقة بين السرد والتبرير الأخلاقي؟ ماهي الصلة بين الإخبار بقصة، على سبيل المثال، والنزاهة الأخلاقية لفعل معين أو سياسة عامة أو صفة شخصية؟

توجد شكوك أخرى تختص بالصيغ المختلفة للمقاربة المأخوذة في عين الاعتبار. على سبيل المثال، يحاجج البعض بأن تصور السرد التاريخي (التصور الثاني) ينطوي على مخاطرة النكوص إلى صيغة أخلاقية مبينة على المبادئ على نحو ما أو أنها قد تجد نفسها مضطرة لترتيب سرديات غير قابلة للقياس بعضها إلى بعض دون وجود وسيلة للحكم بينها. تشكل الذاتية (subjectivism) القابلة للاعتراض موضع القلق في التصور الثالث (التصور الذي يعمل فيه السرد كبديل للتبرير الأخلاقي)، وذلك لتيسيرها احتمالية أن تُنزل قصة السارد خطأً منزلة الحقيقة الأخلاقية. يُوجه نقد مشابه إلى هذه الصيغة من حيث كونها تمنح أفضلية لاتساق السارد فوق الحكم الأخلاقي، إلا أنها تغفل عن كون بعض القصص مشكوك فيها أخلاقياً رغم اتساقها الداخلي (Arras 1997: 81–83).

٦. النظرية النسوية والبيوإتيقا

توظف مقاربة أخرى فريدة لـ البيوإتيقا النظرة الثاقبة للأخلاقيات النسوية. تقدم الأخلاقيات النسوية إطاراً لمقاربة البيوإتيقا، على الأقل من حيث تطويرها والتزامها بمجموعة محددة من الالتزامات النظرية على الأقل. تعالج بعض هذه الالتزامات بعض أشكال المنطق الأخلاقي، وتُعنى أخرى بالتزامات جوهرية حول إيجاد نظام اجتماعي أكثر عدالة، فيما تتعامل التزامات أخرى مع التساؤلات حول أي التصورات جديرة بمنحها الأفضلية لتحليل القضايا البيوإتيقية. يحتج البعض أنه لطالما تجاهلت البيوإتيقا أطروحات الأخلاقيات النسوية بشكل عام، مما يشدد من أهمية مساهمة المقاربة النسوية كمقاربة تصحيحية لعدد من النزعات (مثل إهمال السياق الاجتماعي والتركيز على الفرادنية الليبرالية) ولا يعوز المقاربة النسوية الوسائل المقترحة للقيام بهذا الدور.

بدءاً، تستطيع المقاربة النسوية إعارة انتباه خاص لتجارب النساء. وتستطيع كذلك أن تمّحص كيفية توظيف مفهوم الأخلاق البديهية والتي يزعم بكونها ما يشيّد حصناً منيعاً حول البيوإتيقا كمحادثة ]محتكرة[ بين خبراء والتي تستثني التصورات المختلفة المتضمنة لتصورات العامّة والمهمشين. يمكن لـ المقاربة النسوية أن تستشهد بنظرية “وجهة النظر” والتي تبني نتائجها على النظرة الثاقبة لأولئك الأكثر خلواً من الامتيازات في المجتمع. وأخيراً، يمكن لمقاربة نسوية نظرية أن تطالب بالانتباه للتجارب الحياتية عوضاً عن التركيز على التنظير المجرد غير النسوي حول فلسفة الأخلاق والبيوإتيقا (Wolf 1996a).

توجد فائدتين أخريين للمقاربة النسوية لـ البيوإتيقا بصرف النظر عن مدى مباشرة الكيفية التي قد تصحح بها تأثيرات الفلسفة الأخلاقية والبيوإتيقا الذكورية. أولاً، إن من شأن المقاربة النسوية أن تلاءم بيننا وبين ]إدراك[ تأثيرات المنطق الذكوري المركزي في تحليل المسائل البيوإتيقية وأن تحجَم من ضرر هذه التأثيرات. ثانياً، إنها تركز انتباهنا على الطبيعة الجندرية لمفاهيم رئيسية في تحليل البيوإتيقا. على سبيل المثال، بالنظر إلى مفهومي المنطق والعواطف، فإن المقاربة النسوية تساعدنا في فهم أن كلا المفهومين هما ذو طبيعة جندرية جزئياً، حيث أن المنطق، كما هو متعارف عليه، متصل بالذَكر فيما العواطف متصلة بالأنثى.

يجري نفس التصنيف على الحيز العام والخاص حيث ينتمي الحيز العام للرجال فيما يشكل الحيز الخاص فضاءً للنساء. لكن ما هو على درجة من الأهمية هو أنه كثيراً ما تبخس قيمة كل ما يتّصل بالمرأة (مثل العواطف). فكما تشرح مارجريت ليتل، تعلّق الأبستمولوجيا الأخلاقية التقليدية الأهمية على المنطق وليس على العواطف للفهم الأخلاقي. من المهم أيضاً ملاحظة الطبيعة الثنائية لهذا التصور المطروح، فكما أن الرجال والنساء احتلوا فضاءات متباينة تقليدياً، فكذلك نسبت المفاهيم الجندرية إلى مكان محدد ضمن هذين الشقين. ينظر عادة لفضاء الأسرة والمنزل، على سبيل المثال، كفضاء عاجز عن تقديم أي شيء بنّاء لعالم الاقتصاد والعلاقات السياسية، أو لـ البيوإتيقا (Little 1996).

يمكن مراقبة ظهور هذه الأنواع من الالتزامات في مقاربة سوزان شروين لسؤال الإجهاض. وفقاً لشروين يكوّن استيعاب الجندرية والسياسات المتعلقة بالجنسانية وضعف النساء أمام الهيمنة الجنسية على وجه الخصوص جانب مهم في المقاربة النسوية. أضف إلى ذلك أن المقاربة النسوية تركز على الامتياز الأخلاقي للمرأة موضع التساؤل عوضاً عن التركيز على منزلة الجنين الأخلاقية أو على مهمة صياغة عدد من القوانين لإقرار متى يكون الإجهاض مبرر أو غير مبرر أخلاقياً. مصداقاً لذلك، ترفض المقاربة النسوية احتمالية وجود تصورات عن الحمل أو قرارات اجهاض محايدة جندرياً، فأبرز ملمح أخلاقي في الحمل وفقاً للمنظور النسوي

هو أنه يأخذ محله في أجساد النساء ويأثر على حياتهن بشكل جذري (Sherwin 1992: 363).

حين ننظر إلى المعالجة النسوية لمسألة الانتحار بمساعدة الطبيب، فإنه تبرز للمقدمة مرة أخرى التزامات نظرية معينة. على سبيل المثال، يقود التزام ليزلي بندر بمنظور الرعاية النسوي إلى دعم الانتحار بمساعدة الطبيب (Bender 1992). على النقيض من ذلك فإن تطبيق سوزان م. وولف للمقاربة النسوية، متجسداً بتعزيز أهمية الجندر، يفضي بها إلى الحكم بأنه لا ينبغي تشريع الانتحار بمساعدة الطبيب. تحذر وولف من خطر الديناميكية بين “الطبيب الخبير والمتمكن والمرأة المستسلمة لرعايته” (Wolf 1996b: 293) مشيرة إلى تغرير بعض الصور المألوفة—صورة المرأة المضحية على سبيل المثال—وإلى حالات مبكرة بارزة للانتحار بمساعدة الطبيب كان فيها الطبيب رجل والمريضة امرأة.

ليست المقاربة النسوية متجانسة فيما يختص بالعلاقة بين النظرية والبيوإتيقا نظراً لعدم التزام مناصروها دائماً بذات الالتزامات. (على سبيل المثال، تلتزم بندر في عملها الوارد مسبقاً بتفكير قائم حول الرعاية، فيما ستمثّل نسويات أخريات مشتغلات في البيوإتيقا نسوية ليبرالية). يبقى أن المقاربة النسوية هي نظرية بقدر التزامها ببعض الالتزامات (الفكرية النسوية) على الأقل، حتى لو انعدمت الاتفاقات الشاملة حول ماهية تلك الالتزامات.

بشكل عام، أسهمت المقاربات النسوية لـ البيوإتيقا بتأثير بارز و أحدثت تغييراً في مساق المحادثة في البيوإتيقا، حتى وإن تنوعت المقاربات النظرية بينها وعرّفت ]بنيتها النظرية[ بشكل أقل صرامة من بقية المقاربات. ستركز المناقشة التالية على الإسهامات الأكاديمية حيث أسهمت الأكاديميات النسويات أيضاً بالأخلاقيات الإكلينيكية (Sherwin & Baylis 2003). لننتقل الآن للمجال الإكلينيكي ودور النظرية الأخلاقية في هذا المجال.

٧. النظرية الأخلاقية والبيوإتيقا الإكلينيكية

يتعلق جانبين من النقاش الدائر حول الأخلاقيات الإكلينيكية بالعلاقة بين النظرية الأخلاقية والبيوإتيقا الإكلينيكية. يهتم الجانب الأول بمعرفة النموذج المناسب للاستشارة في الأخلاق الإكلينيكية وما يترتب على ذلك من نتائج ضمنية حول دور النظرية الأخلاقية. فيما يختبر الجانب الثاني إذا ما كان على استشارات الأخلاق الإكلينيكية أن تعتمد على النظرية الأخلاقية.

١.٧ نماذج استشارات الأخلاق الإكلينيكية

تقدم الجمعية الأمريكية لـ البيوإتيقا والإنسانيات (ASBH) ثلاثة نماذج محتملة للاستشارة في الأخلاقيات الإكلينيكية وتؤيد أحدها على وجه التحديد. ينطوي كل نموذج ضمنياً على تصور لوجود دور للنظرية الأخلاقية من عدمه. يقوم نموذج التراضي على هدف وحيد للاستشارات الأخلاقية ألا وهو التوصل للاتفاقات بين الأطراف المعنية بالاستشارة (ASBH 2011: 7). قد يبدو أنه لا دور للنظرية الأخلاقية في هذه المقاربة للاستشارات الأخلاقية طالما كان التوفيق هو الهدف الوحيد بغض النظر عما إذا ما تم التوصل لهذه الاتفاقات بطريقة مبررة أخلاقياً ومتوافقة مع الأعراف الأخلاقية أو القيم المتفق عليها أو النظرية الأخلاقية.

يؤخذ على هذا النموذج بشكل عام كونه يقوم على تصور واهن لاستشارات الأخلاقيات الإكلينيكية وتصور محدود لخبرات استشارية الأخلاقيات الإكلينيكية ودورها. على النقيض من النموذج الأول، فإن استشارية الأخلاقيات الإكلينيكية تتبوأ دور صانع القرار الأخلاقي الرئيسي في النموذج الثاني، والذي يُعرف بالنموذج التسلطي. يتضمن هذا النموذج عموماً تصور مبالغ فيه لسلطة وقدرات استشارية الأخلاقيات الإكلينيكية ومعصومية منظورها عن الخطأ. تكمن الزلة الرئيسية في هذا النموذج وفقاً للجمعية الأمريكية لـ البيوإتيقا والإنسانيات في انتقاص استشارية الأخلاقيات الإكلينيكية لسلطة صنع القرار عند الآخرين، مثل عائلة المريض أو الفريق الطبي. هنا مجدداً لا وجود صريح للنظرية الأخلاقية رغم أنه من المحتمل أن تستشهد استشارية الأخلاقيات الإكلينيكية بنظرية أخلاقية أثناء تفردها باتخاذ القرار.

يحظى النموذج الثالث، والذي يعرف بالمقاربة التيسيرية للأخلاق بتأييد الجمعية الأمريكية لـ البيوإتيقا والإنسانيات ويجمع المنتمون للحقل على كونه أفضل نموذج لاستشارات الأخلاقيات الإكلينيكية. في هذا النموذج، يوضح الاستشاري الإشكالية الأخلاقية المزمع بها ويعين على التواصل ويكامل بين وجهات النظر المختلفة لذوي المصلحة (ASBH 2011: 7). من المهم لنقاشنا الجاري إدراك احتواء هذه المقاربة لجزأين: تحديد وتحليل الإشكالية الأخلاقية وتيسير حل أخلاقي مرتكز على المبادئ.

يهمنا الجزء الثاني على وجه الخصوص لأنه من المبرر افتراض أن الحل سينتج عن النظر في نظرية أخلاقية ما بالإضافة إلى الرجوع إلى المصادر الأخلاقية، وإلا كيف يمكن الحكم على توافق الحل مع المبادئ الأخلاقية المقبولة بشكل واضح؟ فلا بد إذاً أن مهمة استشاري الأخلاقيات لا تقتصر على تيسير التوصل إلى حل ولكنها تتضمن أيضاً اقتراح عدد من الخيارات المقبولة أخلاقياً مزوّدة بالأساس المنطقي لكل منها، ولفعل ذلك سيحتاج استشاري الأخلاقيات للاستشهاد بمعرفته حول السياسات المؤسسية ذات العلاقة والقوانين والمصادر العلمية وكذلك، افتراضاً، النظرية الأخلاقية.

٢.٧ الأخلاقيات الإكلينيكية والنظرية الأخلاقية

بالانتقال للجانب الثاني من النقاش فإنه يمكن القول إن وظيفة النظرية الأخلاقية هو أكثر وضوحاً في استشارات الأخلاقيات الإكلينيكية، ولها أربعة أدوار مقترحة:

  1. المساعدة في الوعي المبدئي وتحديد التحديات الأخلاقية
  2. المساعدة في تحليل التحديات الأخلاقية
  3. المساهمة في الحوار والإجراءات الرصينة
  4. إلهام سلوك قائم على التأمل والتأويل

لقد سبق ونوقشت مزايا إلمام مختصو الأخلاقيات الإكلينيكية بالنظرية الأخلاقية، حيث لا تقتصر تلك المزايا على استخدام النظرية الأخلاقية لتحليل وصياغة المحاجات بل وتساهم كذلك في اعتبار تنوع التصورات والأسئلة والإشكاليات التي يسلّط عليها الضوء من قبل النظرية الأخلاقية. وحين يتعلق الأمر بتماسك محاجة مختص الأخلاقيات الإكلينيكية فإن الإحاطة في النظرية الأخلاقية أيضاً تساعد مختص الأخلاقيات الإكلينيكية على إدراك مواطن الضعف في حجته أو في حجج الآخرين.

إلا أن الأمر لا يخلو من تعقيد. بدءاً، من المحتمل أن يتعامل أولئك الذي لا يمتلكون التدريب الفلسفي في الأخلاقيات بنجاعة مع المعضلات الأخلاقية التي تواجههم، وفي الوقت ذاته، لا توجد ضمانة على أن الاستشارة ستكون أعلى جودة فيما لو كان استشاري الأخلاقي الإكلينيكية فيلسوفاً ذو خبرة في النظرية الأخلاقية. ليس من الواضح دائماً ما إذا كانت المعرفة في النظرية الأخلاقية مفيدة في مجال الاخلاقيات الإكلينيكية، ولا تخلو فوائدها المحتملة من نقائص مصاحبة.

أولاً، إذا ما استخدمت النظريات الأخلاقية بصرامة وبالتزام يفتقر للمرونة فإنها قادرة على لجم التخيل الأخلاقي والحدس وإعاقة الوصول إلى الرؤية الثاقبة في [المقاربات الأخرى[ كالأخلاقيات البديهية على سبيل المثال.

ثانياً، قد يميل أولئك الذين امتدت معرفتهم بالنظريات الأخلاقية على الارتكاز على النظرية الأخلاقية التي تبرر في الواقع خطة عمل مفضلة أو متفق عليها مسبقاً بدلاً من الارتكاز على نظرية أخلاقية متفق مسبقاً على أفضليتها وجعلها تعمل على صياغة خطة عمل مبررة على ضوء النظرية (أو جعلها تحدد ما هي أفضل الخيارات المتاحة للعمل).

ثالثاً، يمكن للنظريات الأخلاقية أن تحيد بنا عن الطريق الصحيح، مثلاً من خلال صياغة الحالات بطرق تركز على أمور خارجة عن الموضوع. ورابعاً، يمكن للنظريات الأخلاقية أن يساء فهمها او استخدامها إذا لم تكونا المعرفة والمهارة كافيتان، كأن يُعتقد أن نظرية كانط الأخلاقية تجبر ألا يُعامل أي شخص أبداً كوسيلة (Magelssen، Pedersen، & Førde 2016). تتلخص الرسالة هنا بأن المعرفة في النظرية الأخلاقية قد تكون أحياناً عائق للأخلاقيات الإكلينيكية الجيدة.

بشكل عام، للنظرية الأخلاقية دور مهم في الأخلاقيات الإكلينيكية، على الأقل إذا ما قبلنا بأهداف الاستشارات الأخلاقية كما ترد في النموذج المتفق عليه لهذه الاستشارات. يسود الاعتراف بمزايا النظرية الأخلاقية في النقاشات الرئيسية في البيوإتيقا وبما هي قادرة على تقديمه للأخلاقيات الإكلينيكية ولإجراءات الاستشارات، إلا أن النقاشات في أدبيات المجال تحذر كذلك من التسليم الكلي للفكرة القائلة بأن أولئك الذي يعملون على الأخلاقيات الإكلينيكية هم جيدون بقدر معرفتهم العميقة بالنظرية الأخلاقية.

٨. الخاتمة

ماهي العلاقة بين النظرية الأخلاقية والبيوإتيقا؟ لا يوجد إجابة مباشرة لهذا السؤال، وكثيراً ما تعتمد الإجابة على ]مجال]  تعاملنا مع البيوإتيقا، سواء في المؤسسات الأكاديمية أو الطبية أو تلك المعنية بالسياسات العامة. يوجد كذلك تنوع كبير في تحديد ما نعنيه بالنظرية الأخلاقية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاختلاف بين النظرية الأخلاقية والمشكلات والقضايا التي تحتاج لمعالجتها في أرض الواقع يثير بدوره العديد من التساؤلات. ورغم كل ذلك، فإنه لا يمكن تصور بيوإتيقا (بأي شكل كانت) بغياب النظرية الأخلاقية، إذ يصعب تصور إمكان الاستغناء عنها خاصة إذا ما تم النظر إليها، بتواضع، كمجموعة من الافتراضات المنظِمة والضرورية ]للتفكير[ حول الأخلاق، وعلى كونها دلالة الالتزام بمقاربة معينة للمنطق الأخلاقي.


المراجع

  • Agich، George J.، 2001، “The Question of Method in Ethics Consultation”، American Journal of Bioethics، 1(4): 31–41. doi:10.1162/152651601317139360
  • American Society for Bioethics and Humanities’ Core Competencies Update Task Force [ASBH]، 2011، Core Competencies for Healthcare Ethics Consultation، 2nd edition، Chicago، IL: American Society for Bioethics and Humanities.
  • Archard، David and Kasper Lippert-Rasmussen، 2013، “Applied Ethics”، in The International Encyclopedia of Ethics، Hugh LaFollette (ed.)، Oxford: Blackwell. doi:10.1002/9781444367072.wbiee693
  • Arras، John D.، 1997، “Nice Story، But So What? Narrative and Justification in Ethics”، in Lindemann Nelson 1997b: 65–88.
  • –––، 2003، “The Owl and the Caduceus: Does Bioethics Need Philosophy?”، in The Nature and Prospects of Bioethics: Interdisciplinary Perspectives، Franklin G. Miller، John C. Fletcher، and James M. Humber (eds.)، Totowa، NJ: Humana Press، 1–42. doi:10.1007/978-1-59259-370-5_1
  • –––، 2007، “The Way We Reason Now: Reflective Equilibrium in Bioethics”، in Oxford Handbook of Bioethics، Bonnie Steinbock (ed.)، New York: Oxford University Press، 46–71.
  • –––، 2017، Methods in Bioethics: The Way We Reason Now، James Childress and Matthew Adams (eds.)، New York: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780190665982.001.0001
  • Battin، Margaret Pabst، 2013، “Bioethics”، in The International Encyclopedia of Ethics، ugh LaFollette (ed.)، Oxford: Blackwell. doi:10.1002/9781444367072.wbiee782
  • Beauchamp، Tom L.، 1984، “On Eliminating the Distinction Between Applied Ethics and Ethical Theory”:، Monist، 67(4): 514–531. doi:10.5840/monist198467430
  • Beauchamp، Tom L. and James F. Childress، 1979، Principles of Biomedical Ethics، New York: Oxford University Press.
  • –––، 2019a، Principles of Biomedical Ethics، eighth edition، New York: Oxford University Press.
  • –––، 2019b، “Principles of Biomedical Ethics: Marking Its Fortieth Anniversary”، The American Journal of Bioethics، 19(11): 9–12. doi:10.1080/15265161.2019.1665402
  • Bender، Leslie، 1992، “A Feminist Analysis of Physician-Assisted Dying and Voluntary Active Euthanasia”، Tennessee Law Review، 59(3): 519–546.
  • Bertram، Christopher، 1997، “Political Justification، Theoretical Complexity، and Democratic Community”، Ethics، 107(4): 563–583. doi:10.1086/233760
  • Brown، Andrew، 2003، “The Practical Philosopher”، The Guardian، 19 July 2003. [Brown 2003 available online]
  • Burrell، David and Stanley Hauerwas، 1977، “From System to Story: An Alternative Pattern for Rationality in Ethics”، in Knowledge، Value، and Belief، H. Tristram Engelhardt Jr. and Daniel Callahan (eds.)، Hastings-on-Hudson، NY: Hastings Center، 111–152.
  • Caplan، Arthur L.، 1980، “Ethical Engineers Need Not Apply: The State of Applied Ethics Today”، Science، Technology، & Human Values، 5(4): 24–32. doi:10.1177/016224398000500403
  • –––، 1989، “Moral Experts and Moral Expertise: Do Either Exist?”، in Clinical Ethics: Theory and Practice، Barry Hoffmaster، Benjamin Freedman، and Gwen Fraser (eds.)، Clifton، NJ: Humana Press: 59–87. doi:10.1007/978-1-4612-3708-2_4
  • Carse، A.L.، 1991، “The ‘Voice of Care’: Implications for Bioethics Education”، Journal of Philosophy and Medicine، 16(1): 5–28. doi: 10.1093/jmp/16.1.5
  • Charon، Rita، 1994، “Narrative Contributions to Medical Ethics: Recognition، Formulation، Interpretation، and Validation in the Practice of the Ethicist”، in A Matter of Principles? Ferment in U.S. Bioethics، Edwin R. DuBose، Ron Hamel، and Lauren O’Connell (eds.)، Valley Forge، PA: Trinity Press International: 260–283.
  • Clarke، Stanley G.، 1987، “Anti-Theory in Ethics”، American Philosophical Quarterly، 24(3): 237–244.
  • Clarke، Stanley G. and Evan Simpson (eds)، 1989، Anti-Theory in Ethics and Moral Conservatism، Albany، NY: State University of New York Press.
  • Dancy، Jonathan، 1993، Moral Reasons، Oxford: Blackwell Publishers.
  • –––، 2004، Ethics Without Principles، Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/0199270023.001.0001
  • Daniels، Norman، 1979، “Wide Reflective Equilibrium and Theory Acceptance in Ethics”، The Journal of Philosophy، 76(5): 256–282. doi:10.2307/2025881
  • –––، 1996، Justice and Justification: Reflective Equilibrium in Theory and Practice، New York: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511624988
  • –––، 2007، Just Health: Meeting Health Needs Fairly، New York: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511809514
  • DePaul، Michael R.، 1993، Balance and Refinement: Beyond Coherence Methods of Moral Inquiry، London: Routledge.
  • De Zulueta، Paquita C.، 2015، “Suffering، Compassion and ‘Doing Good Medical Ethics’”، Journal of Medical Ethics، 41(1): 87–90. doi:10.1136/medethics-2014-102355
  • Donagan، Alan، 1977، “Informed Consent in Therapy and Experimentation”، Journal of Medicine and Philosophy، 2(4): 307–329.
  • Engelhardt، H. Tristram، 1986 [1996]، The Foundations of Bioethics، New York: Oxford University Press. Second edition، 1996.
  • Fletcher، Joseph F.، 1974، The Ethics of Genetic Control: Ending Reproductive Roulette، New York: Prometheus.
  • Fotion، Nick، 2014، Theory vs. Anti-Theory in Ethics: A Misconceived Conflict، New York: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199373529.001.0001
  • Frank، Arthur W.، 1995، The Wounded Storyteller: Body، Illness، and Ethics، Chicago: University of Chicago Press.
  • Fullinwider، Robert K.، 1989، “Against Theory، or: Applied Philosophy—A Cautionary Tale”، Metaphilosophy، 20 (3–4): 222–234. doi:10.1111/j.1467-9973.1989.tb00424.x
  • Gert، Bernard، Charles M. Culver، and K. Danner Clouser، 2006، Bioethics: A Systematic Approach، second edition، New York: Oxford University Press. doi:10.1093/0195159063.001.0001
  • Gutmann، Amy and Dennis Thompson، 1998، Democracy and Disagreement، Cambridge، MA: Harvard University Press.
  • Hooker، Brad and Margaret Olivia Little (eds)، 2000، Moral Particularism، Oxford: Clarendon Press.
  • Jonsen، Albert R.، 1995، “Casuistry: An Alternative or Complement to Principles?”، Kennedy Institute of Ethics Journal، 5(3): 237–251. doi:10.1353/ken.0.0016
  • Kymlicka، Will، 1993 [1996] ، “Moral Philosophy and Public Policy: The Case of NRTs”، Bioethics، 7(1): 1–26. Slightly revised in Philosophical Perspectives on Bioethics، L.W. Sumner and Joseph Boyle (eds.)، Toronto: University of Toronto Press، 1996، 244–270. doi:10.1111/j.1467-8519.1993.tb00268.x
  • Lindemann Nelson، Hilde، 1997a، “Introduction: How to Do Things with Stories”، in Lindemann Nelson 1997b: vii–xx.
  • ––– (ed.)، 1997b، Stories and Their Limits: Narrative Approaches to Bioethics، New York: Routledge.
  • Little، Margaret Olivia، 1996، “Why a Feminist Approach to Bioethics?”، Kennedy Institute of Ethics Journal، 6(1): 1–18. doi:10.1353/ken.1996.0005
  • –––، 2001، “On Knowing the ‘Why’: Particularism and Moral Theory”، The Hastings Center Report، 31(4): 32–40. doi:10.2307/3527954
  • London، Alex John، 2001، “The Independence of Practical Ethics”، Theoretical Medicine and Bioethics، 22(2): 87–105. doi:10.1023/A:1011403909450
  • Louden، Robert B.، 1990، “Virtue Ethics and Anti-Theory”، Philosophia، 20(1–2): 93–114. doi:10.1007/BF02382586
  • –––، 1992، Morality and Moral Theory: A Reappraisal and Reaffirmation، Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780195072921.001.0001
  • MacIntyre، Alasdair، 1981، After Virtue: a Study in Moral Theory، Notre Dame، IN: Notre Dame University Press.
  • –––، 1984، “Does Applied Ethics Rest on a Mistake?”:، Monist، 67(4): 498–513. doi:10.5840/monist198467438
  • Magelssen، Morten، Reidar Pedersen، and Reidun Førde، 2016، “Four Roles of Ethical Theory in Clinical Ethics Consultation”، The American Journal of Bioethics، 16(9): 26–33. doi:10.1080/15265161.2016.1196254
  • McMillan، John، 2018، The Methods of Bioethics: An Essay in Meta-Bioethics، New York: Oxford University Press. doi:10.1093/oso/9780199603756.001.0001
  • McNaughton، David، 1998، Moral Vision: An Introduction to Ethics، Oxford: Blackwell.
  • Nussbaum، Martha C.، 1992، Love’s Knowledge: Essays on Philosophy and Literature، New York: Oxford University Press.
  • –––، 1995، Poetic Justice: The Literary Imagination and Public Life، Boston: Beacon Press.
  • –––، 2000، “Why Practice Needs Ethical Theory: Particularism، Principle، and Bad Behaviour”، in Hooker and Little 2000: 227–255.
  • O’Neill، Onora، 1988، “How Can We Individuate Moral Problems?”، in Applied Ethics and Ethical Theory، David M. Rosenthal and Fadlou Shehadi (eds)، Salt Lake City، UT: University of Utah Press، 84–99.
  • Ramsey، Paul، 1970، Fabricated Man: The Ethics of Genetic Control، New Haven، CT: Yale University Press.
  • Rawls، John، 1971، A Theory of Justice، Cambridge، MA: Harvard University Press.
  • Rorty، Richard، 1989، Contingency، Irony، and Solidarity، Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511804397
  • Sandomir، Richard، 2019، “Mary Warnock، Who Offered Guidance on Embryo Use، Dies at 94”، New York Times، 29 March 2019.
  • Scanlon، T. M.، 1992، “The Aims and Authority of Moral Theory”، Oxford Journal of Legal Studies، 12(1): 1–23. doi:10.1093/ojls/12.1.1
  • Sherwin، Susan، 1992، No Longer Patient: Feminist Ethics and Health Care، Philadelphia، PA: Temple University Press.
  • Sherwin، Susan and Françoise Baylis، 2003، “The Feminist Health Care Ethics Consultant as Architect and Advocate”، Public Affairs Quarterly، 17(2): 141–158.
  • Sidgwick، Henry، 1874 [1981]، Methods of Ethics، London: Macmillan. Reprint of the seventh edition، Indianapolis، IN: Hackett، 1981.
  • Sunstein، Cass R.، 1996، Legal Reasoning and Political Conflict، New York: Oxford University Press.
  • Toulmin، Stephen، 1981، “The Tyranny of Principles”، The Hastings Center Report، 11(6): 31–39. doi:10.2307/3560542
  • Veatch، Robert M.، 1995، “Resolving Conflicts Among Principles: Ranking، Balancing، and Specifying”، Kennedy Institute of Ethics Journal، 5(3): 199–218. doi:10.1353/ken.0.0138
  • Wolf، Susan M.، 1996a، “Introduction: Gender and Feminism in Bioethics”، in Wolf (ed.) 1996c: 3–43.
  • –––، 1996b، “Gender، Feminism، and Death: Physician-Assisted Suicide and Euthanasia”، in Wolf (ed.) 1996c: 282–317 (ch. 10).
  • ––– (ed.)، 1996c، Feminism and Bioethics: Beyond Reproduction، New York: Oxford University Press.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.

Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers، with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

Arras، John، “Theory and Bioethics،” Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2020 Edition)، Edward N. Zalta (ed.)، URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2020/entries/theory-bioethics/>. [This was the previous entry on Theory and Bioethics in the Stanford Encyclopedia of Philosophy — see the version history.]

Ethics، entry by James Fieser (University of Tennessee/Martin) in the Internet Encyclopedia of Philosophy.

Bioethics، entry by John-Steward Gordon (University of Cologne) in the Internet Encyclopedia of Philosophy.

مداخل ذات صلة

:feminist philosophy، interventions: bioethics | feminist philosophy، interventions: الأخلاقيات النسوية | moral theory | reflective equilibrium