مجلة حكمة
علاقة جاك دريدا بيوغن هابرماس

جاك دريدا “فيلسوف فرنسا المشاغب”: حول العلاقة المعقدة بين هابرماس ودريدا – نادية سريجي


المستخلص

ورقة عمل (جاك دريدا “فيلسوف فرنسا المشاغب”: حول العلاقة المعقدة بين هابرماس ودريدا) تهدف إلى عرض محورين متعلقين بـ جاك دريدا ، المحور الأول التفكيكية كنظرية كان لـ جاك دريدا أكبر الأثر عليها كمفهوم فلسفي، والمحور الثاني يتناول العلاقة المعقدة بين فلسفة جاك دريدا والفيلسوف الألماني يورجن هابرماس، عن طريق عدد من القراءات الإستقرائية لعدة مراجع عربية وأجنبية.

تناولت الورقة في المحور الأول الحديث عن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا للتعرف على الإطار الذي بنى عليه للنظرية التفكيكية ورسم فلسفته، من خلال عدد من التقاليد الثقافية لفكر ما بعد الحداثة الذي عرف بفكر التجاوز والهدم، كما تناولت المقصود بالتفكيك لدى جاك دريدا ، مثلما يعرفه بأنه ليس منهجاً أو مذهباً أو علماً أو فلسفة، بل طريق أو درب نتعلم فيه كيف نتوجه في التفكير وكيف نخترق النصوص الكبرى في لحظات عطالتها وبطالتها الفكرية، والتعرف على الأصل الفلسفي لمصطلح التفكيك لدى جاك دريدا جاء على خلفية حواره مع فكر هايدغر والسياق المعرفي والمسار الابستمولوجي للتفكيك ويتضمن التفكيكية نقد موجه للبنيوية واعتماد التفكيك على الشك واليقين وتأثر التفكيك بنظرية التلقي وانطلاق التفكيك من الإقليم الفرنسي ليترعرع في الإقليم الأمريكي، كما تناولت الجهاز المفهومي للتفكيكية لدى جاك دريدا والذي يتضمن الاختلاف والكتابة واللغة والتواصل والأثر بالمراجعة والمدخل السسيولوجي للتفكيكية، إضافة إلى طرح السؤال الذي يقول ما الذي حصل حتى يتحول اهتمام دريدا نحو الفلسفة العملية ليتم الإجابة عليه من خلال التطرق إلى تغير المناخ الثقافيّ في فرنسا والأثر الأمريكي عليه وما يمكن أن يقدمه التفكيك للعدالة والتفكيك بين القانون الممكن والعدالة المستحيلة، ونقد جاك دريدا .

وختاماً تناولت الورقة في المحور الثاني العلاقة المُعقّدة بين دريدا وهابرماس من خلال عرض رأيهما في مفاهيم كاللغة والكتابة والعقلانية ومفهوم الذاتية ومفهوم الجماليات إضافة إلى التحول العملي لدى دريدا وهابرماس في نظرية القانون والمعايير القانونية والعدالة والديمقراطية.


المقدمة

أعلن فيلسوف الإنسان الأعلى نيتشه هرم الحداثة وشيخوختها التاريخية والمفاهيمية، وبذلك يقترح مشروعاً مستقبلياً يلوح فيه الإنسان مريداً تواقاً تسلق الجبال والقمم قادماً من الأماكن الفسيحة الوعرة، وواجبه هو أن يحقق ذاته ويرتقي دون شفقة على نفسه ولا على الآخرين فهو الذي يحدد معتقداته وأخلاقه ولا يؤمن بأي مصدر سوى إرادته إرادة القوة (بودومة 2000)، من هنا كانت إرهاصات الرفض والتجاوز للفكر الحداثي.

فما بعد الحداثة كل الأمور فيه متغيرة وتتناقض مع مصطلحات الهدف والغاية ويلتقي مع مدلول التبعثر والاختلاف، والمستقرئ لتطور الخطاب ما بعد الحداثي التجاوزي يدرك أنه مر بمراحل تعكس مفهومين أساسيين هما التجاوز والهدم.

ومما يؤكد هذه النظرة هو القراءة المتفردة للتحليل النفسي من لدن المفكر الفرنسي جاك لاكان حيث يكشف أن فرويد أسس لتجاوز الحداثة عن طريق تفكيك فلسفة الذات وإرجاع سلوك الإنسان إلى بنيات لا شعورية (بو شلاكة 1996) وبهذا تتحطم أكبر دعائم الفكر الأنواري القائم على فاعلية الذات والوعي والعقل. وقد بارك إريك فروم أحد رواد مدرسة فرانكفورت هذا التوجه عندما زاوج بين التحليل النفسي الفرويدي والتحليل الاجتماعي لتفكيك النظام الرأسمالي في مرحلته المتقدمة.

كل ذلك في الحقيقة أحدث قطيعة إيبيستيمولوجية مع الفكر الأنواري والحداثي من خلال ضرب مبادئه الأساسية وخاصة ما تعلق بتفكيك فلسفته الذاتية، لم تمر إسهامات نيتشه من دون أن تترك بصماتها في ترجمة حملته على الحداثة، ومن بين الأقطاب التي رسمت لنفسها مساراً عميقاً في هذا المنحى فيلسوف الاختلاف الفرنسي جاك دريدا موضوع حديثنا في ورقة العمل هذه.

انطلق جاك دريدا في إرساء مشروعه ما بعد الحداثي من خلال جدلية الشك واليقين، وتمحورت جهوده حول منهج التفكيك بنقد الميتافيزيقيا الغربية والعقل المتمركز حول الذات (مقورة 2015).

يعتبر جاك دريدا الأب الروحي لهذه الاستراتيجية وقد ظهرت في ثلاثة مؤلفات ظهرت جميعها عام 1967 “علم الكتابة، الكتابة والاختلاف، الصوت والظاهرة”، وعلى نهج دريدا سلك النقاد الأمريكيون طريق النقد التفكيكي فأخرج بول دو مان كتاب “التحليل الذاتي، العمى والبصيرة” 1975 (الزين 2011). وقد طغت على مؤلفات دريدا الثلاثة استراتيجية قراءة النصوص وفيها ظهرت أول مرة عبارة لا يوجد شيء خارج النص” (1967 Derrida) العبارة التي سيقوم بعض النقاد على إثرها بربط التفكيك بالنص وجعله مرهوناً به ومشروطاً بوجود. ولهذا تجد المناهضين لهذه المدرسة النقدية في الفلسفة يؤكِّدون أن التفكيكية محض امتحان للأجوبة المُقدّمة في السابق من قبل آخرين، بدل اجتهادها في تقديم أجوبة جديدة، وأنها فلسفة هدم لا بناء ولا علاقة لها بتغيير الواقع (النبواني 2018). تمثل فلسفة دريدا عالماً مليئاً بالأفكار والسياقات التي يصعب فهمها أو تأويلها بالشكل الصحيح لما تحمله من تناقضات ظاهرة المعالم وكذلك تعدد اتجاهات تنقيبها وبحثها وانفتاحها على مختلف النظريات الفلسفية السابقة في سبيل تغييرها وتجديدها والخوض في أصولها (الميسي 2018).

ومن خلال هذه الورقة سيتم عرض محورين متعلقين بـ جاك دريدا ، المحور الأول التفكيكية كنظرية كان لجاك دريدا أكبر الأثر عليها كمفهوم فلسفي، والمحور الثاني يتناول العلاقة المعقدة بين فلسفة جاك دريدا والفيلسوف الألماني يورجن هابرماس.

جاك دريدا (فيلسوف فرنسا المشاغب)

جاك دريدا هو الوحيد من بين المفكرين البنائيين الذي تعرض بالنقد والتحليل وأحياناً بالتجريح لكتابات زملائه فلم يسلم من نقده الأربعة الكبار الآخرون: جاك لاكان وميشيل فوكو ورولان بارت بل وزعيمهم وكبيرهم جميعاً كلود ليفي شتراوس فهو يمثل بذلك اتجاهاً جديداً ومهماً داخل المدرسة البنائية التي أصبح يطلق عليها (ما بعد البنائية) كما أصبح هو نفسه يمثل الولد الشقي في الفكر الفرنسي المعاصر.

وقد كان للظروف التي مرت بها فرنسا في أواخر الستينات دخل كبير في ظهور اسم دريدا واكتسابه للشهرة، فحين قامت ثورة الطلاب عام 1968 وانضم كثير من الكتاب والمفكرين والمثقفين والفرنسيين إليها، رفض ألتوسير وكلود يفي شتراوس وهما من كبار قادة الأفكار البنائي الانضمام إلى الحركة والنزول إلى الشارع، وأثار ذلك سخط الكثيرين من المثقفين الذين رأو في ذلك الموقف علامة على تراجع البنائية وانحسار دور المفكرين البنائيين في الحياة العامة، والتف الشباب المثقف حول دريدا وآرائه التي تمثل موقفاً نقدياً ومعارضاً للبنائية التقليدية واعتبروه ممثلاً لاتجاه فكري جديد يتجاوز تلك البنائية ويتخطاها.

وكان لذلك الموقف الثائر أثر سلبي على حياته فيما بعد فحين تقدم لشغل وظيفة أستاذ الفلسفة في جامعة نانتير التي شهدت مولد الحركة الطلابية رفضت الجامعة ترشيحه واستمر في مكانه وعمله الأصليين مدرساً لتاريخ الفلسفة بمدرسة المعلمين العليا بباريس، وقد أثار ذلك موجة استياء شديدة في الأوساط الثقافية في باريس كما تعاطف معه الكثيرون ممن يختلفون معه في الرأي لأنه يعتبرونه أحد معالم الفكر الفرنسي الأساسية (عطية 2011).

لم تكن الثقافة الفرنسية والأوروبية عموماً ثقافة متسامحة مع الشاب جاكي، الذي تنحدر أصوله من أسرة فرنسية يهودية هاجرت إلى الجزائر، وقد عانى منذ نعومة أظافره من أزمة في الهوية، وهو ما نلمسه من حساسيته المفرطة تجاه مصطلح الهوية أو الوطنية أو المواطنة عندما يقول “الهوية هي اختلاف للذات اختلاف مع أو بالذات مع أو بدون الأنا ذاتها” وهذه الأزمة في الهوية ستتضح أيضاً وستتعزز لاحقاً عند دريدا وتجربته في الكتابة أو مع مفهوم الكتابة كحالة للغياب أو الأنا أو المفقود والناقص. الكتابة باعتبارها “تجربة النسيان” لكنها نسيان النسيان الذي لا يبقي شيئاً (Dosse 1992). هذه العائلات المهاجرة والتي من ضمنها عائلة دريدا كانت تسمى في الجزائر بأصحاب (الأقدام السوداء) نسبة للأحذية التي كانوا يحتذونها (Larousse 2009) واعتبروا دخلاء على المجتمع الجزائري خصوصاً في ظل الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962) إذاً ثمة أزمة هوية نشأت وكبرت مع دريدا وعايشها بل ولاحقته منذ طفولته فهو ليس فرنسيًا ولا جزائريًا لكن الأكيد أنه يهودي يقول دريدا “أنا يهودي جزائري، يهودي، لا يهودي بالطبع ولكن هذا كاف لتفسير العسر الذي أتحسسه داخل الثقافة الفرنسية لست منسجماً إذا جاز التعبير، أنا شمال أفريقي بقدر ما أنا فرنسي” (دريدا 2010) لذلك لم يخف دريدا منذ يفاعته تعاطفه مع المهمشين الذين عانوا مثله من جراء خطاب الكراهية في فرنسا، وهو ما بدا واضحاً في كتابات واهتمامات دريدا في نقده لخطاب الكراهية والإقصاء الذي تكرسه سلطة الذات والمؤسسة. من هنا نفهم مقولة دريدا  “لا تفكيكية دون ديمراطية ولا ديمقراطية دون تفكيك” (1994 Derrida) وهذا ما يوضح أن التفكيكية التي نظر إليها كتوجه نقدي وفلسفي أو كقراءة في النصوص هي في حقيقتها موقف أخلاقي واستراتيجية سياسية جذرية تتجه لنقد وتفكيك المركزية الأوروبية للبحث وإبراز الآخر والمختلف من خلال نقد هيغل والبنيوية واللغة والثقافة الغربية عمومًا أو من خلال نقده للمؤسسة والذات والسلطة التي تقف خلف هذه الثقافة، إنه تفكيك من أجل انزياح للتفكير بالمهمش والآخر المقصي في هذه المؤسسة، ومن هنا نفهم لماذا وضع دريدا دائماً على هامش المؤسسات؟

يضرب دريدا مثالاً على ذلك ، بأن الفرنسي الأوروبي مثلاً لا يسمح – ومن خلال قواعد لغته – لمن لا يعرفه بأن يخاطبه بلغة الضمير  المفرد أنت (tu) بل بالضمير الجمع المتعالي أنتم (vous) إنه باختصار يحمي نفسه – من خلال الخطاب اللغوي – من خلال هذا الآخر الذي لا يعرفه، أليست اللغة إذاً تكريساً للمركزية والميتافيزيقا؟ إنها عمليات الرفض والإقصاء على مستوى اللغة وخصوصاً الفرنسية التي أحب تحدثها، ولكنه سرعان ما اكتشف أنها ممارسة مغلقة على ذاتها تجاه الآخر وممارسة ممتلئة بعمليات الإقصاء والإكراه، لذلك اعتبر دريدا اللغة أول الحقول المعرفية ومجالاً رحباً لممارسة تفكيك الميتافيزيقيا وتعالي الأنا، فدريدا يواجه ميكانيزمات الرفض والإقصاء بآليات التفكيك، الأولى محددة ومغلقة وثابتة في العقل الغربي والثانية غير محددة ومفتوحة ومراوغة (العنزي 2013).

الأصل الفلسفي لمصطلح التفكيك لدى جاك دريدا

أكد جاك دريدا أن اختياره لهذا المصطلح جاء على خلفية حواره مع فكر هايدغر بل وألمح أن هذا الأخير كان الملهم له في استخدام هذا المصطلح (دريدا 1988)، يريد دريدا وبطريقة خاصة نقل وتكييف مصطلح هايدغر في الهدم الذي يشير إى عملية ترتبط بالبنية التقليدية للمفاهيم المؤسسة للأنطولوجيا أو الميتافيزيقيا الغربية، لكن مصطلح الهدم في اللغة الفرنسية لا يفي بالغرض لأنه يتضمن ويؤدي إلى العدمية وهذا مالا يقصده أو يريده دريدا بالتفكيكية، لذلك يرى أنه باستعماله الخاص للتفكيكية قد أدخل إلى اللغة الفرنسية مفهوماً جديداً للهدم كتفكيك إن صح القول، أي لا بمعنى الهدم كهدم للبناء أو التدمير، بل هي شيء آخر يوقف هذا البناء عند نقطة معينة ليعيد قراءته بصورة مختلفة مستخدماً وموظفاً طرائق معينة ومختلفة (العنزي 2013).

من هنا نفهم أن التفكيكية هي في الحقيقة محاولة للتفكير والتساؤل حول شيء ما هو بالأساس ليس شيئاً طبيعياً، أي شيئاً اصطناعياً تم تركيبه في لحظة معينة من تاريخ المعرفة، إنها بمعنى أدق ممارسة حول الأسس أو مساءلة حول البديهيات التي قامت عليها الخطابات والنصوص والحقول والمجالات المعرفية وكذلك المؤسسات، وذلك ليس من أجل هدمها بل من أجل إيقاف استمرار يقينها ودوغماطيقيتها وحضورها الكلي والعمل بالتالي على تفكيك أسسها وبديهياتها، من هذه الزاوية يمكننا القول بأن التفكيكية هي نوع من الممارسة أو التفكير الجينالوجي لبنية مفاهيم هذه النصوص والخطابات والمؤسسات (العنزي 2013) وبذلك نفهم إلحاح دريدا في كتابه الكتابة والاختلاف على أن التفكيكية ممارسة أو فعل يتجه للاممكن كشيء لم يحدث بعد (1967 Derrida).

والاستعمالات الأولى للتفكيكية كممارسة عند دريدا بدت واضحة في بحثه عن هوسرل (أصل الهندسة 1962) والذي يعتبر عملاً تفكيكياً لمبدأ الظاهراتية المتمثل ف ي مبدأ الحضور الكلي للوعي الذي يخلق معنى الظواهر (Dastur 2007).

المقصود بالتفكيك لدى جاك دريدا

إفراز عصر الشك الكامل الذي خيم على كل شيء فاستحالت معه المعرفة اليقينية وفقد العالم محور ارتكازه، إن التفكيك بمعنى ما يقوم على رفض المذاهب السابقة ويخطئ كل المشاريع بل إنه في جوهره يقوم على رفض تقاليد السلف التي يرى أنها تحجب المعنى وتكبته (حمودة 1998). ليس التفكيك مثلما يعرفه دريدا منهجاً أو مذهباً أو علماً أو فلسفة، بل هو طريق أو درب نتعلم فيه كيف نتوجه في التفكير وكيف نخترق النصوص الكبرى في لحظات عطالتها وبطالتها الفكرية ومن خلال إرهاصاتها وفراغاتها ومواطن الفشل والتعثر فيها (2001 Derrida).

من خلال السياق الأخلاقي والسياسي للتفكيكية استطاع جاك دريدا أن يجعل من التفكيكية مرحلة نقدية لا لمجرد تجاوز الميتافيزيقيا الغربية فقط بل كعتبة أو كمرحلة تحمل في طياتها إمكانات ومهارات نقدية خاصة يمكن أن تشكل في مجملها نقلة وقفزة نوعية جديدة في النقد الثقافي والفلسفي على السواء، ذلك فإن الهاجس الأساسي الذي استطاع دريدا نوعا ما موضعته في صميم علمه الفلسفي ومحاولا بالتالي تفكيكه وتجاوزه هو ذلك الحضور الكلي والدائم لميتافيزيقا الحضور أي الحضور الطاغي للذات الغربية باعتبارها مركزًا، لذلك اعتبرت التفكيكية منظورًا إليها كحركة فلسفية إحدى المراحل النقدية الأشد قسوة وراديكالية التي عرفها الفكر الغربي إلى اليوم، لقد اخترق دريدا بممارسته التفكيكية كل المجالات والعلوم التي كرسها الفكر الغربي حول ذاته ولذاته، ابتداءً من الفلسفة والميتافيزيقا إلى اللسانيات والأدب والتحليل النفسي مروراً ببقية العلوم الإنسانية، محاولا بذلك الوصول إلى (بيت القصيد) الذي يشغل العقل واللسان الغربي. إنها بكلمة (الأنا) المركز، لكن يجب أن نسجل هنا بأن دريدا لا يعني وعلى غرار البنيويين بهذه الأنا أو المركز كبنية محددة بل يعني بها الذات التي تعيد إنتاج ذاتها في أشكال وبنى متعددة وضمن سياقات مختلفة وفي عملية متكررة لا تنتهي. ففي صلب موضوع الميتافيزيقا يكمن اللوغوس/المركز، وفي اللسانيات العلامة/ الدال/ المركز، وفي التحليل النفسي اللاوعي/ المركز وهكذا تدخل الذات كمركز في لعبة لولبية لكي تنتهي أو تعود بتعبير نيتشه عند نقطة/ المركز ذاته، وهل تقف وتنتهي؟

يؤكد دريدا في رسالته تلك أن التفكيكية ليست تحليلاً ولا نقداً ولا منهجًا، فهي ليست تحليلًا لأنها لا تتجه فقط لمجرد تفكيك البنى لعناصرها البسيطة والأولية على غرار الفلسفة التحليلية كما أنها ليست نقدًا بالمعنى الكانطي الذي يرتكز على ملكة الحكم لأن التفكيك لا يهدف لإصدار أحكام تقييمية حول صواب أو خطأ البنى والخطابات المعرفية، وهي كذلك ليست منهجًا لأنها بالأحرى مجموعة غير محددة وغير ثابتة من الإجراءات والمهارات النقدية المختلفة والمتغيرة باستمرار التي إن مكنتنا من قراءة نص أو سياق أو خطاب معين فهي أيضا تمكننا من الانتقال من نص أو خطاب لآخر. كما أن التفكيكية بالإضافة لذلك لا ترتبط بموضوع محدد سواء كان خاصًا أو عامًا فالممارسة التفكيكية لا تجعلنا في سياق موضوع أو نص محدد لأنها لا تعمل في حيز مغلق بل تعمل ضمن مجال أو فضاء مفتوح وليس همها بناء على ذلك أن تحرر الوعي أو البنى أو المنظومات الخطابية للذات والوعي.

كذلك سُئل جاك دريدا في مقابلة له أجريت في مجلة عالم الثقافة في عددها بسبتمبر لعام 2000 عما إذا كانت التفكيكية تعني فلسفة أو علمًا أو مذهبًا أو لغة؟ في حين كان رده أن التفكيكية لا يمكن حتى اعتبارها فلسفة، وهي كذلك ليست علمًا، كما أنها ليست مذهبًا ولا تيارًا أو اتجاهًا فلسفيًا، والتفكيكية كذلك ليست لغة فطابع اللغة أنها مغلقة، أما التفكيكية فهي مجال مفتوح وليس مغلقًا أو مكتملًا أو منتهيًا إلى نقطة معينة ومحددة، كما أن اللغة تقوم على علامات ومعانٍ محددة ورهان التفكيكية أنها توجد حيث تتلاشى العلامة ويغيب المعنى ويحضر التبعثر (العنزي 2013).

 

السياق المعرفي والمسار الابستمولوجي  للتفكيك

أولًا- التفكيكية نقد موجه للبنيوية

كون التفكيك اعتمد على نقده للبنيوية نتيجة فشلها الذريع في استيعاب جميع النصوص ومن ثمة الضعف في تحقيق الممارسة المطلوبة وكذا النفاذ إلى جميع التشكيلات النصية.

ظهرت التفكيكية كاستراتيجية جديدة للتعامل مع النصوص، إذ أخذت على عاتقها مهمة الإرتقاء بالنقد وتحقيق ما عجزت البنيوية عنه لأن البنيوية تطمح إلى تأسيس مذهب نقدي يعتمد في شرعيته على منهج علمي تجريبي (حمودة 1998)

لكن قصور الآلات البنيوية على تصور مشروع كامل هو الذي شجع نخبة من المفكرين على هذه الثورة فالتفكيكيون فعلاً خرجوا من عباءة البنيوية لأن غالبيتهم بدأوا حياتهم كبنيويين وحينما فشل المشروع البنيوي في تحقيق طموحاتهم في تقديم مشروع متكامل للتحليل تمردوا على البنيوية، وبالتالي يكون هذا التمرد هو الذي فتح أمامهم أبواب التحول إلى مناهج أخرى فبعضهم تحول إلى التحليل النفسي مثل لاكان وآخرون تحولوا إلى الفلسفة والبعض الآخر تحول إلى دراسة فلسفة اللغة مثل دريدا موضوع الحديث في هذه الورقة العلمية، وهو من الذين تنكروا للبنيوية بل عجلوا الدعوة إلى هدمها والتخلي عنها من خلال مهاجمة ما فيها من تجريد واختزال شكلي وآنية ميتافيزيقية. من خلال ذلك نلاحظ أن بوادر التفكيك بدأت تظهر مع ظهور العيوب النسقية للبنيوية والتي اتخذها روادها ذريعة للانسلاخ منها، وإنشاء استراتيجية جديدة تساهم وتمكن في قراءة النصوص.

ثانيًا- اعتماد التفكيك على الشك واليقين

ثاني المرتكزات التي حددت مسار التفكيك اعتماده على الشك واليقين والمساهمة في محاورة النص وكشف أغواره، ونسف واقعية النصوص، فاستراتيجية التفكيك تنطلق من موقف فلسفي مبدئي قائم على الشك وقد ترجم التفكيكيون هذا الشك الفلسفي نقداً إلى رفض التقاليد ورفض القراءات المعتمدة ورفض النظام والسلطة من ناحية المبدأ.

وهذا الشك ولد مرضا ً لا يمكن الشفاء منه كما يعبر هارولد بلوم عن التشكيكية ” سقم لا يمكن الشفاء منه تماماً فكلما خرجنا من شك ندخل في شك آخر، وبالتاللي ندور في حلقة مفرغة من الشك واللايقين. فإحداثية الشك واليقين من أهم المرتكزات التي استند إليها التفكيك في قراءة النصوص، وهذا ما زرع في النص حتى ولد ما يعرف بالتفسير اللانهائي للدلالة وهي أمور تفسر لا نهائية الدلالة القائمة على استحالة المرجعية لأي سلطة خارجة ليست موجودة أصلاً ونفي التفسيرات الموثوقة المعتمدة.

وبالتالي نسف الشك كل المعتقدات والتفسيرات التي سبقته وأتاح فرصاً عديدة للعب الحر بالدوال على حساب المدلولات، إن التفكيك الذي أفرزه موقف شك كامل لا يثق في النسق باعتباره نظاماً عاماً يحدد طريقة أداء العلامات، ويبيح للقارئ أن يفسر العلامات بالمعنى الذي يشاء.

إن الشك قد أحدث فوضى عارمة وفتح جملة من اللاءات: اللاحقيقة لا قصدية المؤلف، اللايقين لا نهائية الدلالة، وعلى إثر هذه الجملة عرف ما يسمى بـ تعددية القراءة وأصبحت كل قراءة تشكل إساءة قراءة وفتح الباب على مصراعيه للعب الحر، والمطلق بالمدلولات وفسح المجال واسعاً أمام التأويلات الكثيرة للعلامة.

ثالثاً- تأثر التفكيك بنظرية التلقي

كون التفكيك تزامن مع نظرية التلقي فقد أثر كلاهما في الآخر، بحيث تلاحقا معرفياً، وتقاربا من حيث الاعتماد المطلق على القارئ/ المتلقي ودروره الرائد في صنع المعنى. ليس ذلك فحسب بل تعداه إلى التناص المعرفي إذ بحكم تزامن استراتيجية التفكيك ونظرية التلقي فقد احتكا معاً، وتناص التفكيك مع أهم مبادئ التلقي في إلغاء النص وقصدية المؤلف والتركيز على القارئ والمتلقي ويقول حمودة صاحب الخروج من التيه “التفكيك هو المشروع الأكبر الذي يمكن ان تندرج تحته نظرية التلقي” (حمودة 2003)، وعلى الرغم من أن النص تتحدد ملامحه بالاعتماد على المحددات التالية النسق، النظام، العلامة، اللغة، المؤلف، إلا أن التفكيك يقصر تحديد المعنى على القارئ/ المتلقي وحسب إذ هو الوحيد الذي يحدث ويحدد المعنى دون سائر العناصر، هذا هو إيمان التفكيك بدور القارئ/ المتلقي كركيزة أساسية في قراءة النصوص وإنتاج المعنى، لذا يمكن القول: “إن أي مناقشة للتفكيك لا بد أن تبدأ بالقارئ/ المتلقي وتجربة التلقي لا يوجد قبل حدوثها شيء” “ظللنا لبضع سنوات نتحدث عن التفكيك باعتباره نظرية تلق مطورة” (حمودة 1998).

رابعاً- انطلاق التفكيك من الإقليم الفرنسي ليترعرع في الإقليم الأمريكي

نتيجة تناقضه كاستراتيجية تشكيكية مقوضة ثائرة على قيم تتنافى والمزاج الثقافي الفرنسي ومن ثم كانت الانطلاقة الأولى لهذه الاستراتيجة وأخذت في السير قدماً نحو الأمام. بما أن التفكيكية تقوم على محور أساس تعمل من خلاله في دراسة النصوص ألا وهو الثورة على القيم والتقاليد ورفضها لكونها تحجب المعنى وتغيبه فقد لقيت هذه الاستراتيجية معارضة شديدة من قبل الثقافة الفرنسية التي شكلتها قوى التجانس والتوحد لفترة طويلة، وبما إن التفكيك كاستراتيجية نقدية يقوم على الشك واللاثبات وخلخلة جميع الأنظمة والأنساق الموروثة، والثقافة الفرنسية متجذرة في محيطها رافضة لمبدأ اللانسق واللاتاريخ اصطدمت بالمقترح التفكيكي الذي يشكك في ثبات القيم وأصالتها، وعلى إثر هذا الرفض اضطر التفكيكيون إلى الهجرة إلى إقليم غربي آخر يؤمن بأفكارها المحورية أو يتشاكل مع دعوتها، فكانت الانطلاقة مع جاك دريدا الذي خرج بها كنقلة نوعية إلى أمريكا قصد غرسها هناك.

وأول من استقطب التفكيك في أمريكا جامعة ييل النقدية إذ نظرت إليه نظرة حداثية يمكن أن تؤخذ كبديل عن البنيوية، فما أن لاح نجمها مع جاك دريدا حتى سارع كبار النقاد الأمريكان إلى استقطابها وتبنيها كاستراتيجية نقدية جديدة أمثال بول دو مان وهارولد بلوم (الزين 2011).

الجهاز المفهومي للتفكيكية لدى جاك دريدا

1- الاختلاف

كلمة الاختلاف في اللغة الفرنسية تشير ببساطة للفرق والتمييز بين شيئين مختلفين، بينما الاختلاف بالمعنى الدريدي قائم على استراتيجية وعملية وصل وربط بين عمليتين حيويتين (1972 Derrida) ببعضهما البعض، وهاتان العمليتان هما التأخير والإرجاء ثم منح الحيوية والقوة لمفهوم أو معنى أو بنية أو نص معين، بمعنى أن دريدا يعطي مفهوم الاختلاف فعلاً حيوياً بحيث يمنحه القدرة على الإحالة لشيء ما ليس أصلاً أو نقيضاً للأصل ويمنحه بالتالي الإمكانية والقوة في الوجود وفي أن يكون هو بذاته كآخر وكمختلف أو كشيء متفرد ومتميز عن هذا الأصل وله إمكاناته وممكناته الخاصة به كمختلف وكآخر لم يعد هامشاً ومهمشاً، إنها بمعنى آخر لعبة الاختلافات التي تجعل الأصل أثراً وآخر يدخل في عملية ديالكتيكية مع المختلف ذاته ويحيله هو بدوره إلى مختلف دائم (العنزي 2013)، بمعنى ان الاختلاف هو مجال الانتقال من حالة إلى حالة أخرى ومن وضعية إلى وضعية مخالفة (الميسي 2018).

إضافة إلى أن الاختلاف لدى جاك دريدا عبارة عن عملية فاعلية خلاقة هو في كونه يرتد لعنصرين أساسيين هما حيوية الزمن أو التزامن ثم التمايز والتباين في المكان، فمن خلال هذين العنصرين (الزمان – المكان) يصبح الاختلاف كإرجاء عملية أو ممارسة تفكيكية تسعى لإطالة زمن ومدة المعنى أو الحدث أو النص والخطاب الذي يتجه إليه التفكيك بحيث يبث فيه حيويته (العنزي 2013).

2- الكتابة

 لطالما أصرت الميتافيزيقيا على الحط من الكتابة بشكل قوي من خلال إصرارها على إعلاء الخطاب والصوت على الرمز والأثر والعلامة، فهي تعتبرها مجرد أداة لنقل وترجمة الكلام لخدمة المدلول (الميسي 2018)، أعلن دريدا ثورة حقيقية على الصوت والكلام بإصراره على ضرورة انتصار فلسفة الغياب على ميتافيزيقيا الحضور، وذلك بإقامة فكر جديد وكتابة خالصة على اعتبار أن “موت الكلام هو أفق اللغة وأصلها” (الرويلي 2000)، فدور التفكيكية تحدد بكونها تعمل على تحويل الخطابات الناطقة إلى خطابات مكتوبة تخترق وتبعثر الكثافة المفهومية، ويطبعها الاختلاف والتنافر والتباعد بين الأفكار بدل التطابق والتقارب، ثم الاهتمام بالهوامش وكل المفاهيم التي أهملها الفكر الغربي بدل إعطاء الأهمية للمركز، ويقترح دريدا بدائل جديدة تتمثل في سلسلة من المفردات المزدوجة المعنى مثل الأثر، الذي يشير إلى إمحاء الشيء وبقائه محفوظاً في باقي علاماته. الفارماكون، الذي يعني السم والدواء. الإضافة، التي تضاف من أجل تكملة أو سد نقص (دريدا 2013).

قياساً على ما سبق فإن تفكيكية جاك دريدا قد ارتبطت بتشريح النصوص وتفكيكها ضمن سيرورة إنتاجية بعدة مفاهيمية مختلفة وضمن مشروع أساسه التساؤل والتنقيب ولا يخضع لضوابط محددة وثابتة كما يجسد التميز في نقد الخطابات السابقة وبعثرتها من أجل إعادة عناصرها المشكلة لها.

وقد دفع هذا الطرح جاك دريدا إلى تأسيس (علم الكتابة) (1967 Derrida) الذي أسس فيه لفلسفة جديدة تعطي الكتابة السلطة في قلب النظريات الكبرى في الفلسفة وإعادة بنائها وتجاوزها لإنتاج ما هو متحرر من المدلول المتولد عن الميتافيزيقيا وعوالمها، أي أن الكتابة هنا لا تعتبر وعاء لشحن الأفكار المنطوقة والكلام فقط، ل هي مجال يحتوي اللغة بأكملها، فتصبح هنا اللغة نفسها تولداً ينتج عن النص (الميسي 2018).

3- الأثر

 “إذا كان الأثر يحيل إلى ماضي مطلق فمعنى ذلك أنه يلزمنا بالتفكير في ماضي لا يمكننا أن نفهمه في شكل الحضور المعدل كحاضر ماضي” (1967 Derrida) استخدام مفهوم الأثر للدلالة على ما وراء المعنى هو استخدام ميتافيزيقي عند دريدا لكلمة لا تحمل في ذاتها أي أثر من الميتافيزيقيا، تجعل التعامل مع الحقيقة بلغة الإشكالية وتقدم نفسها لحقل القراءات المختلفة لتي لا تنتهي، كما عبر عن ذلك بقوله “فما من كلمة ميتافيزيقية في ذاتها، بل إن طريقة استخدامها هي ما يكون ميتافيزيقيا” (دريدا 2000)، كما يدعو إلى الاعتراف بتطور “الأثر كعملية وليس كحالة، كحركة فاعلة، وليس كبنية معطاة”(1967 Derrida).

وتكتسي العلامة أيضًا في هذا السياق مسارا تطوريًا من خلال التحول في دلالتها ومحمولاتها الكلاسيكية إلى منحى الآلية الجديدة التي يفرضها التفكيك، حيث يرجعها دريدا إلى وجودها الحدسي وليس المادي، تعكس شحنات دلالية عديدة وخفايا لغوية ثاوية تقضي إلى نفي الحضور المادي للعلامة وأن الأمر يتعلق بالاختلاف ليس إلا، لكون هذا الأخير يضم دلالات وخصائص تحتمل تأويلات عديدة تفسح المجال للمتلقي في اختيار ما يشاء من الدلالات حسب تأويله وميوله (الميسي 2018).

4- اللغة والتواصل

تطورت فكرة أن اللغة تصنع موضوعاتها الخاصة بها في أعمال جاك دريدا بالنظر إلى نظرية المعاني، ونقطة البدء في هذه النظرية هي أن المعنى لا يأتي بأي حال من الأحوال عن طريق العلاقة بشيء خارج اللغة، فليس هناك من شيء مطلقاً بإمكاننا البحث عنه ليضمن لنا المعنى، ليؤكد لنا أننا على حق، ويمكن وضع هذه الفكرة بصورة أخرى بالقول إنه لا يوجد من يلعب دور الإله، أي لا يوجد (مدلول متعال) غير أن ثمة صورة أخرى لنفس الفكرة تذهب إلى أن المعنى لا يكون حاضراً أبداً، بل هو دائماً في مكان آخر.

ولقد تعلمنا وبصورة مبسطة من البنيوية أن معنى كلمة من الكلمات يعتمد في علاقة تلك الكلمة بكلمات أخرى  أي أن المعنى يكمن بين الكلمات وليس في العلاقة بين الكلمة والشيء إننا نعرف معنى كلمة “كلب” فقط بسبب علاقتها بكلمات أخرى ذات صلة بالعلاقة التركيبية والجدولية وليس بسبب أي صفات كامنة في الكلمة ذاتها.

إن مفهوم العلامة يعني ضمناً وجود شيء ما مدلول عليه  كما يشير مفهوم البنية إلى وجود شيء ثابت ومنتظم أما اتجاه ما بعد البنيوية فإنه يتخلى عن هاتين الفكرتين ويقول إن هناك مستوى واحدا فقط وهو مستوى السطح، وليس ثمة أعماق خفية في الحياة ومستوى السطح في صورته الأولية يتسم بالفوضى واللامعنى، أي أنه لا يقر له قرار، وقد استخدم هؤلاء في هذا المقام مجموعة من الاستعارات التي تبعث على الحيرة لوصف هذه الحالة (أحبها إلى نفسي استعارة الجسم من دون أعضاء) لأنها استعارة تتركني في ظلام دامس، على أن تصور الحياة باعتبارها فوضى لا معنى لها، وأنه يتعين علينا إسباغ شكل من أشكال النظام عليها، هو تصور له تاريخ طويل في الفلسفة الأوروبية، وينظر هذا الاتجاه إلى أي نظام قائم على أنه ناتج عن عملية تمايز داخل الفوضى وعملية الدلالة هي عملية إظهار هذه التمايزات وعندما نقول شيئا فإننا نضفي على العالم نظاما مؤقتا لأننا نقوم بتعريف شيء ما وفقاً لعلاقته بشيء آخر(كريب 1999).

سعى جاك دريدا للحديث عن التواصل لكونه الوظيفة الأساس للغة بالمفهوم المبتذل في حين أن التواصل في ذاته يحمل إشكالاً كما أن وظيفته في الإبلاغ لا تختصر في السياق وعدم ملاءمته في غياب الباث والمتلقي والمرجع، حيث أشار إلى إمكانية حدوث فصل بين العلامة وسياقها فيقول “إن للعلامة الحق في أن تحدد قراءتها حتى ولو ضاعت اللحظة التي أنتجتها إلى الأبد أو جهلت ما يود كاتبها قوله، فالعلامة تسلم أمرها لمتاهتها الأصلية”. وعليه فالتفكيكية استراتيجية في قراءة النصوص ظهرت في نهاية الستينات وأخذت تتبلور وتنشأ كبديل عن الطرح البنيوي، حيث أخذت تتبلور أفكارها الأولى على أنقاض المنهج البنيوي إلا أنها لم تكتمل أصولها بعد ولعل مرد ذلك إلى كون المنظرين للتفكيك هم رواد البنيوية، وعلى رأسهم رولان بارت و جاك دريدا حيث كانت دعوة التفكيكية كاستراتيجية نقدية لنقض وتقويض النصوص معتمدة في دعواها على جملة من المبادئ أهمها:

  • عدم قصدية المؤلف في المعنى وهذا ما يفتح الباب أكثر لتعدد القراءات أو ما يسمى بلا نهائية الدلالة فاسحًا المجال أمام التأويل والهدم وإعادة البناء.

  • كما اعتمد أيضا على نسف الحدود القائمة بين النصوص أو ما يعرف بالبينصية.

  • التشكيك في القيم والثوابت، إذ زعزعت النصوص بالشك ورفضت التقاليد والقراءات المعتمدة (الزين 2011).

المدخل السسيولوجي للتفكيكية

يمكن إرجاع أصول البنيوية بوصفها مدرسة فكرية إلى عدة جذور: أحدها يمتد إلى الأنثروبولوجيا البريطانية والفرنسية وهذا الأصل ليست له أهمية كبيرة لما نحن بصدده هنا، والآخر يشكل جزءاً أساسياً من تراث علم الاجتماع الفرنسي ممثلاً  بأوجست كونت في أوائل القرن التاسع عشر ودور كايم في بداية القرن العشرين وخصوصاً من فكرة وجود اﻟﻤﺠتمع باعتباره كيانا مستقلا عن أفراده وفكرة الحقائق الاجتماعية باعتبارها مكَّونة من تصورات جماعية، وهناك خط ثالث فلسفي يعود إلى الفيلسوف الألماني كانت بفكرته الملهمة عن امتلاك الإنسان لملكات عقلية يضْفي بواسطتها النظام على العالم، بيد أن هناك مصدراً آخر للبنيوية وهو أهمها جميعاً تعود أصوله إلى مدرسة علم اللغة البنيوي وأعمال فرديناند دي سوسير والمدرسة الشكلية الروسية في النقد الأدبي، ومثلما أن هناك جذوراً كثيرة فإن هناك فروعا كثيرة أيضاً أما الشخصيات البارزة فما زالت فرنسية: كلود ليفي شتراوس (الأنثربولوجيا) لويس ألتوسير (النظرية الاجتماعية والفلسفية) رولان بارت (النقد الأدبي والدراسات الثقافية) كرِسْتيَنْ ميتْز (النقد السينمائي) جاك لاكان (التحليل النفسي)  ميشيل فوكو (تاريخ الفكر) و جاك دريدا (الفلسفة).

والمذاهب الفكرية شأنها شأن غيرها من المذاهب الحديثة  تنزع للزوال بسرعة وربما كانت حدة النقاش هي ما جعل دعاة البنيوية يطوّروها بشكل قوَّض أركانها فالأسماء التي ترتبط بما يُعرف الآن بما بعد البنيوية كانت ترتبط أيضاً بالحركة الأصلية، أسماء مثل فوكو ودريدا تحديداً (كريب 1999).

يمكن اعتبار جاك دريدا كوثبة أو كمرحلة جديدة ونوعية في النقد تختلف عن البنيوية من زاويتين الأولى وهي أن دريدا وإن فكر في القضايا التي طرحتها البنيوية كإشكالات لغوية وثقافية وفلسفية إلا أنه استطاع أن يمارس هذا النوع من التفكير النقدي من خارج السياق الذي شيدته البنيوية، في تفسيرها للعلاقات الدلالية والمعرفية للبنى اللغوية والأنساق الثقافية والأدبية ما دفع ومكن دريدا لأن يجعل لنفسه ممارسة وطريقة مبتكرة وخاصة في التأويل والنقد وهي ما نسميها اليوم بالممارسة النقدية التفكيكية.

بمعنى آخر نقول أن التفكيكية كممارسة وليس كمذهب نشأت في بداياتها في فضاءات البنيوية كمدرسة نقدية طرحت العديد من الإشكالات الفلسفية فيما يخص اللغة بشكل خاص والثقافة بشكل عام، بل إن كلمة تفكيك ذاتها مرتبطة بشكل جوهري بتفكيك الخطابات والأنساق البنيوية سواء في أشكالها اللغوية والثقافية، فالإشكالات التي طرحتها البنيوية فيما يخص اللغة والنص والمؤلف والنقد الأدبي والثقافي كانت كلها بمثابة نقاط ارتكاز وانطلاق في أعمال دريدا برمتها (العنزي 2013).

وإذا كانت الحداثة تحاول الإفلات من قبضة هيغل كما يقول ميشيل فوكو فإن ما بعد الحداثة وخصوصاً التفكيكية لا تعد مجرد محاولة لاستحضار واستدعاء العمل النيتشوي للقضاء على هيغل ذاته وكل ما يحمله شبح هيغل من مفاهيم ميتافيزيقية وشمولية في الخيال الفلسفي، لم يتوان دريدا وقبله فوكو بالتصريح بوضوح بأنه نيتشوي وهذا ما حدا ببعض الدارسين تسمية مرحلة ما بعد الحداثة أو التفكيكية تحديداً بالمرحلة الفلسفية أو الفوضوية أو العدمية، والتفكيكية تأتي في هذا الإطار الذي يتسم باللانسقية لتعمل كما أراد لها صاحبها في مجالات مختلفة، نجدها في اللغة والأدب وهي عمل لقراءة لوحة فنية كما أنها عمل لقراءة نص أدبي أو فلسفي فالتفكيكية ممارسة وليست مذهباً (العنزي 2013).

ومن الممكن القول بأن فلسفته وفكره الخاص تشكل من عدة منابع من خلال عملية التأثير والتأثر التي دخل فيها محاوراً للمدارس النقدية المختلفة التي تعبر بحق أحد الأسس الفلسفية للفكر الدريدي والتفكيكية والتي عملت على توجيه فكره لقضايا وإشكالات معقدة شغلت الفكر الأوروبي المعاصر، أهم هذه المدارس هي الفينومينووجيا الهوسرلية والماركسية والتحليل النفسي وكذلك البنيوية والمدارس اللغوية الانجلوساكسونية، وكذلك هايدغر كان بمثابة الوحي والملهم لتفكيكية دريدا كما يصرح بذلك في رسالة إلى صديق ياباني، والتي شدد فيها دريدا على أن هذا المصطلح يعني فيما يعنيه باللغة الفرنسية الهدم وهو ما لا يقصده دريدا (العنزي 2013).

ما الذي حصل حتى يتحول اهتمام دريدا نحو الفلسفة العملية

شهدت مرحلة التسعينيات تحولاً ملحوظاً آخر، ولكن هذه المرّة نحو مسائل الفلسفة العملية، حيث تلاحقت مؤلفات دريدا في السياسة والأخلاق والقانون ابتداءًا من أطياف ماركس 1993، ثم قوّة القانون ثم سياسات الصداقة 1994، ثم مواطنون عالميون لكل البلاد 1997، ثم العصر والعفو 2001، ثم ماركس وأبناؤه 2002، ثم حواره الفلسفة في زمن الإرهاب 2003.

ما الذي حصل بين منتصف الستينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي حتى يتحول اهتمام دريدا بوضوح وصراحة، بل باتجاه مباشر، نحو تفكيك إشكاليات الفلسفة العملية ومشكلاتها في القانون والسياسة والأخلاق، هذه الموضوعات التي كانت شبه غائبة أو خجولة الحضور في مؤلفاته السابقة. لو وضعنا تفكيكية دريدا في سياقها، أي في الأزمنة والأمكنة التي نشأت وتطورت فيها لوجدنا سببين اثنين يفسران هذا التحوُّل:

1- تغير المناخ الثقافيّ في فرنسا

في فرنسا تغير المناخ الفلسفيّ من مرحلة نهاية الستينيات، أي ما بعد فكر 1968 الثوري التحرريّ اليساريّ، الفني والمابعد حداثيّ، نحو نزعة اجتماعية محافظة غالباً في السياسة والثقافة، هكذا تراجعت من واجهة المسرح الفلسفيّ الفرنسيّ فلسفات ما بعد البنيويّة التي سادت في السبعينيات وحلّت محلّها اهتماماتٌ متزايدةٌ بمباحثِ الفلسفة العمليّة في الأخلاق والسياسة والقانون في سنوات الثمانينيات من القرن العشرين، في تلك الفترة تراجعت قوى اليسار الفرنسيّ سياسيّاً وتقدّم اليمين السياسيّ دافعاً معه بموجة فكريّة يمينيّة داعماً لها ليستفيد من تنظيراتها لبناء إيديولوجيته من جديد ليس في السياسة فقط وإنما في الفلسفة والفكر والاجتماع، كان لا بد لذلك التغير في مُناخ الفلسفة الفرنسية أن يؤثّر في تفكيكيّة دريدا التي لم ترد أن تخرج من المسرح وإنما أن تسير مع رياحه نوعاً ما فتُجدّد من نفسها ومن موضوعاتها.

2- الأثر الأمريكي

ما يُثير الدهشة في مغامرة التفكيكيّة الدريديّة في أمريكا هو ذلك النجاح النجوميّ منقطع النظير الذي حظيت به، فقد تحوّلت هناك إلى مدارس متنوِّعة وصار لها أتباع في الفلسفة والأدب، وفي العمارة والسينما والدراسات القانونيّة واللاهوت إلخ…

فقد ثوَّرت تفكيكية دريدا المناخ الثقافي الأكاديميّ الأمريكيّ بشكل كبير، ويمكن القول إنها بقدر ما أثَّرَت بهذه الروح البراغماتيّة الأمريكيّة تأثرت بها أيضاً، فتوطين التفكيكيّة الدريديّة في أمريكا كان لا بد أن يُحدث تحولات فيها ويدمجها ولو بحدود بالروح الأمريكيّة البراغماتيّة العملياتيّة التي تشترط إيجاد حلول عمليّة للمشاكل المطروحة، ويلاحظ فرانسوا كوسيه صاحب كتاب French Theory أن الجامعات الأمريكيّة وإن كانت قد احتضنت تفكيكيّة دريدا، فإنها لم تستقبلها استقبال العاجز المنفعل فقط بل الفاعل المؤثِّر أيضاً، إذ يقول “لا شك أن أمريكا هي في قلب الرحلة الدريديّة وهي تعيد إنتاج أعماله وفقاً لغاياتها الخاصة” (Worms 2009) ويمكن تلخيص هذه الاتفاقية المُضمرة ﺑ “أعطِ لكي تأخذ” وهكذا، فإن تفكيكيّة دريدا دخلت حيزاً عملياً حيوياً جداً في حياة الثقافة الأمريكية، وتم استثمارها في نقد الدين، وتفكيك الأخلاق، وتفكيك السياسة، والأهم من هذا وذاك، ذلك التأثير الكبير الذي تركه كتاب دريدا قوّة القانون في الدراسات النقدية القانونيّة.

إن هذه الأسباب هي ما قادت تفكيكيّة دريدا لكي تتحوَّل من “لاهوت سلبيّ” كما سماهّا البعض عند من ندعوه ﺑ “دريدا الأول”، فقد كانت نصوصه لا تزال غير مُكترثة مُباشرةً بمسائل الفلسفة العمليّة حيث “لا شيء خارج النص” – حتى بالمعنى العموميّ الذي أعطاه دريدا لاحقاً لدلالة لنص نحو تفكيكيّة عملياتيّة يصفها “دريدا الأخير” أو “دريدا الكهل” بأنها “ليس عليها أن تكون مجرّد تحليلٍ للخطابات والشروحات الفلسفيّة أو المفاهيم وعلم الدلالة، ولكن عليها أن تهاجم إذا ما أرادت أن تكون مُتّسقة المؤسسات والبنى الاجتماعية والسياسيّة والتقاليد الأكثر رسوخاً (1992 Derrida).

ما يمكن أن يقدمه التفكيك للعدالة

اعترض دريدا على فرضية التحوُّل العمليّ في فلسفته، الذي بدأ مطلع تسعينيات القرن العشرين، فقد أصرّ حتى رحيله على أن نصوصه قد قرأت وفككت قبل تلك المرحلة مفاهيم وثيمات ومباحث الفلسفة العملية في القانون والسياسة والأخلاق، من الصحيح أن مواضيع مثل القانون والعدالة والحق، كانت حاضرة حضوراً موارباً في النصوص التي جاء دريدا على ذكرها، إلا أنها لم تكن سوى مواضيع هامشية، في حين ستصبح مركز الاشتغال التفكيكي في التسعينيات، فليست المعالجة الأدبية مثلاً لمفهوم القانون بما في ذلك القانون الأخلاقيّ عند كانط وفرويد في نص (حُكم مُسبق أمام القانون) التي تناول فيها أيضاً قصة كافكا (أمام القانون)، بمثل معالجته الأكثر جديّة وبمفردات التشريع في كتابه قوّة القانون (1994 Derrida)، وهو المبحث الأهم في كتابات دريدا حول أصل القانون وعلاقة القانون بالعدالة مع أنه ليس كتاباً كلاسيكياً في فلسفة القانون، فقد جاء الكتاب بناءً على دعوة للمشاركة في موضوع مطروح على شكل سؤال تشكيكي، بل استنكاري، حول (ما يمكن أن يقدمه التفكيك للعدالة) وقد قبل دريدا أن يستجيب لهذا التحدي.

إذن، يعترف دريدا بوضوح أنه لم يقدّم المبادرة لتناول مواضيع فلسفة القانون بالتفكيك، فالأمر قد اقترح عليه اقتراحاً وهو يُقر ” ليس لي دور أبداً في ابتكار هذا العنوان أو في الصياغة المُضمرة للمشكلة” (1994Derrida ) هل كان دريدا سيكتب حول العدالة والحق والقانون لو لم يُقترح عليه هذا الموضوع؟ من الممكن الإجابة عن هذا السؤال بنعم، فقد أخذت مباحث الفلسفة العملية مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين جُلّ تفكيره وإنتاجه، وفلسفة القانون هي الركن الثالث من مباحث الفلسفة العملية الأساسية بالإضافة إلى السياسة والأخلاق.

بعد أن بدأ بتفكيك الألفاظ والمفاهيم والسياقات القانونية، تساءل دريدا سؤالاً استنكارياً “هل يضمن التفكيكُ أو يسمح أو يجيز إمكانية العدالة؟” “هل لدى التفكيكيين شيء ليقولوه حول العدالة، أو شيء ليفعلوه معها؟ لماذا لا يتحدثون عنها إلا قليلاً جداً في العمق؟ هل هذا يهمهم في النهاية؟” ردّ دريدا أن أنصار التفكيك سيجيبون عن هذه الأسئلة بالإيجاب بينما سيجيب أعداؤه بالنفي.

بل إنه ذهب حد القول “إن التفكيك سيكون في مكانه الطبيعي بل (في بيته) في كليات الحقوق أكثر منه في أقسام الفلسفة والأقسام الأدبية”، قبل أن يقوم فجأةً بإعادة تعريف التفكيك من جديد فيصفه بالقول “التفكيك هو العدالة” هكذا نرصد التحول الدريديّ من الشاب النظريّ إلى الكهل العمليّ، أي من دريدا الشاب الذي قدّم التفكيك بوصفه أكثر من واحد وأن “لا شيء خارج النص” إلى دريدا الكهل الذي يعيد تعريف التفكيك بوصفه العدالة، حول هذا التحوُّل نحو الفلسفة العملية يقول دريدا إن على التفكيك:

كي يظل منسجماً مع نفسه، ألا يظل محبوساً في الخطابات التأملية والنظرية والأكاديمية الخالصة، ولكن أن يطالب، على عكس ما يقترحه ستاني فيش بأن يكون له نتائج، وأن يُغير الأشياء وأن يتدخل بطريقة فاعلة ومسؤولة (مع أنها بالتأكيد تظل طريقة توسطية دوماً) ليس في الأقوال فقط لكن فيما ندعوه بالمدينة/ الدولة وكذلك في السياسة وبشكل أعم في العالم” (1994Derrida )، هكذا يجيب دريداً عن السؤال الاستنكاري حول جدوى التفكيك للعدالة، بالقول إن التفكيك هو العدالة وهو قوّة تغيير وتدخل وتوسط في السياسة، لكن يظل السؤال كيف؟ قبل الاستطراد في عرض الأُسلوب الذي يُفكِّك فيه دريدا بعض مفاهيم فلسفة القانون ومصطلحاتها وعلاقة القانون بالعدالة، لابد من الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسيّ قد قدّم أربع محاولات على الأقل لتعريف التفكيك بحيث تمثِّل بدورها نِقاطاً بارزة لتطور فلسفته، في المرة الأولى كانت ثم سيعلن أن التفكيك هو المستحيل، ومرة ثالثة سيصف التفكيك بالعدالة، ومرة رابعة أخيرة سيعرفه بوصفه ما يأتي، أو القادم، وإذا كانت المرة الأولى فيها تفكيك واضح لجوهر الواحد الميتافيزيقيّ، فإن التعريفات، إن صح التعبير الثلاثة الأخيرة ستتوارد في المرحلة العملية لدريدا تباعاً.

التفكيك بين القانون الممكن والعدالة المستحيلة

مع بداية التسعينيات إذن، وخاصة في نصوصه حول المسائل الأخلاقية مثل العطية أو الضيافة أو الصداقة نجد بوضوح وبقوة مفردة (المستحيل) تطغى وبقوة على تنظيراته لهذه المسائل يُميز دريدا بين الممكن أي القابل للحساب والتطبيق والتنفيذ وأخذ القرارات فيه، وبين المستحيل بوصفه ما يتجاوز الممكن ويظل مبدأً فيما وراء الممكن ومتعالياً عليه لا شك أننا هنا سنلمح أطياف برنامجين فلسفيين في تاريخ الفلسفة يسكنان هذه الفكرة الدريدية، وما نقصد بهذا نظرية المُثل عند أفلاطون الذي يميز فيها بين العالم الحسيّ وعالم المثل المُتعالي الذي يمثِّل النموذج والمثال الأكمل، ليكون على البشر الاقتداء بعالم الأفكار أو المثل والسعي للوصول إليه على الرغم من استحالة هذا المسعى، والبرنامج الثاني هو فكرة التعالي أو الترانسندنتالية عند كانط والفكرة الموجِّهة التي تقتضي بتوجيه الأفعال البشرية وإرشادها نحو غاية متجاوزة غالباً للممكن، في فكرة المستحيل عند دريدا نلمح أيضاً شبح هذه الترانسندنتالية الكانطية على الرغم من إنكاره الشخصيّ لها إذن يميّز دريدا بين القانون والعدالة.

 فالقانون في نظره، ممكن أي خاضع للحساب ومشروط وممكن التفكيك والتطبيق، بينما العدالة هي المستحيل أي غير مشروطة ولا يمكن حسابها أو التقرير بشأنها ولا تفكيكها، إنها هناك فيما وراء القانون تشده إليها وترفع به للأمام والحق يقال إن دريدا لا يلغي كل صفة عادلة عن القانون، فنجده غالباً ما يكتب العدالة بوصفها قانونا، أي العدالة المشروطة والعدالة غير المشروطة أو العدالة المستحيلة أو بين القانون المشروط والعدالة بذاتها غير ممكنة التفكيك المستحيلة يجد التفكيك نفسه بحسب دريدا الذي يكتب في هذا السياق موضّحاً “يوجد التفكيك في المسافة التي تفصل بين العدالة غير القابلة للتفكيك والقانون ممكن التفكيك؟ إنها ممكنة كتجربة للمُستحيل، هناك؛ حيث تكون العدالة حتى لو أنها ليست موجودة، حتى لو لم تكن حاضرة لم تحضر بعد أو لن تحضر أبداً” (النبواني 2018).

نقد جاك دريدا

نقد بول ريكر جاك دريدا في المؤتمر الدولي للفلسفة بمونتريال عام 1973 حينما قال له: هناك علو في التركيز على إشكاليات الكتابة مصدره أنك تتعرض لقضايا لا تعالجها كما ينبغي في ميدانها العلمي الصحيح من حيث أنها قضايا تحليل الخطاب لقد وقفت عند الحدود السمبولوجية (مستوى العلامات) ولم تقترب بعض من التخوم السيمانطيقية (مستوى منطق نسق العلامات الذي يتجه نحو الوجود) فدريدا حبيس إرادي لنسق يتعمد أن يتناسى القصدية التي تحكمه والتي تهدف إلى تكوين خطاب ذي معنى غايته الوجود من العقل إلى الجنون (عطية 2011).

حول العلاقة المُعقّدة بين جاك دريدا ويورغن هابرماس

إن الحديث عن العلاقة المعقدة بين جاك دريدا ويورغن هابرماس هو تتبع ثورة فكرية مهمة في التاريخ الإنساني بكل تجلياته وأبعاده ومرتكزاته وفعالياته وتمثلاته الكبرى من أجل كشف وقلب النظم المعرفية التي تحكمها وتنظمها في سياق واحد.

تتجلى هذه الثورة الفكرية أولاً في فكر الحداثة الذي ينتمي إليه الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس، وهو فكر مرتبط بفكرة العقلانية التي تمجد الفرد الذي يفكر بصورة عقلانية، والتي تؤسس لفلسفة الوعي، وفلسفة الذات، التي امتدت لتشمل كل مناحي الحياة ليصبح القبول مشروطًا بالإقناع على كل الأصعدة الفلسفية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، انطلاقاً من المذهب الآلي والمذهب الذاتي، ويعتبر ديكارت هو الرقم الأول في معيار التحديث قبل أن يحمل الراية فيما بعد فيلسوف النقد كانط وفيلسوف الروح هيغل.

وثانياً في فكر ما بعد الحداثة الذي ينتمي إليه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ، وما بعد الحداثة فكر كل الأمور فيه متغيرة، لأنه يمر بمراحل تعكس مفهومين هما التجاوز والهدم، تجاوز العقلانية وفلسفة الذات ومفهوم الثابت ووهم المطلق، فقد رافقت مفاهيم الحرية والعدالة والرفاهية التي نادت بها الحداثة واندست بين جوانبها تعابير الاستلاب والعبودية والطبقية والاستغلال وتحول الإنسان إلى وسيلة وليس إلى غاية في ذاته، فإن التقنية تمثل أزمة الخط الإنساني لأن انتصار العقل ينفي القيم الإنسانية، وإرهاصات الفكر الما بعد حداثي ترجع إلى فيلسوف الإرادة فريدريك نيتشه (مقورة 2015).

يكبُر هابرماس دريدا بسنة واحدة فقد وُلِد في ألمانيا عام 1929، حيثُ تفتح وعيه السياسيّ على الحرب العالمية الثانية والمحارق اليهودية التي تركت في نفسه أكبر أثر، بل ربّما دفعَت به لأن يكون ملكيّاً أكثر من الملك في الدفاع عن المسألة اليهوديّة، أياً يكن فقد مثَّلتْ النازية بالنسبة لهابرماس تاريخاً أسود تجلَّت فيه اللاعقلانية السياسيّة بأبشع صورها، ولم يكن ذلك بالنسبة له إلا نتيجة لانحراف مبادئ التنوير الأوروبية التي افترضت سيطرة للعقل وحرية للأفراد وسلاماً بين الأُمم، الأمر الذي دفعه إلى الدفاع بلا هوادة عن قيم التنوير والحداثة والعقلانية الكونية التواصلية المعيارية في المجتمع التعدُّدي.

مع تراجع قوى اليسار في أوروبا التي هيمنت على المناخ الثقافي والسياسي مع نهاية الستينات، ثم تقدُّم قوى اليمين، شهد الفكر الفرنسي الُمعاصر تراجُعاً لسيطرة مُفكري اليسار أمثال جاك دريدا ، وظهور محاولات جديدة في فترة الثمانينات تنتمي لليمين السياسي لتجاوز ما سُمّي بفكر 68 اليساري، فاستعانت بفكر هابرماس في نقد توجهات فوكو ودريدا وألتوسير وبورديو ولاكان، للحديث عن الاستقرار واحترام المؤسسات الاجتماعية والقانونية بعد تلك الفترة العاصفة من الثورة الفكرية والاجتماعية، ولا شك أن فكر هابرماس من وجهة النظر تلك هو خير مُعين لمن يبحث عن التوازن الاجتماعي والاستقرار الفكري والعقلانية الضابطة، لقد أدّى هذا التوجّه نحو اليمين سياسياً وثقافياً، أوروبياً وأمريكياً إلى دفع هابرماس إلى واجهة المسرح، ليصبح الممثل الأبرز واللاعب الأهم في الثلاثين سنة الأخيرة من الفكر الغربي المعاصر.

ما يجمع دريدا وهابرماس ويُفرِقهما في آن، هو اختلافهما وتقاطعهما في كثير من الأحيان. يذهب البعض إلى أن كلا من هذين الفيلسوفين هو النقيض المباشر للآخر، فهم يرون في هابرماس ممثلا لفكر الحداثة والكونية والعقل، وفي جاك دريدا تجسيداً لفكر ما بعد الحداثة المتمردة على الحداثة والخصوصية ونقد العقل، رغم هذه التوجهات المتباينة إلا أنّ النقاط التي يتقاطعان بها تتمثل في انشغالهما المشترك بمستقبل أوروبا ودورها على الساحة العالمية، وبمسألة تطوير القانون الدولي، وفي نقدهما لكل من الانغلاق القومي ومعادة الأجنبي.

لا تندرج علاقة دريدا بهابرماس في إطار العلاقات الشخصية فقط، ولكنها تعكس توتراً وتلاقحاً في نفس الوقت بين الفكر الألماني والفكر الفرنسي، فالعلاقة بين هذين الفيلسوفين معقدة جداً ويتخللها الكثير من الاضطراب، فأكبر فيلسوفين أوروبيّين معاصرين حققا شهرة عالمية شابتها حالة من التجاهل شبه التامة أحدهما للآخر، أما حين بدأت حالة الاعتراف العلني فقد بدأت متوترة وسجالية، كان هابرماس هو من بدأ السجال – الطريف والمتناقض عند هابرماس أنه فيلسوف سجالي من الدرجة الأولى مع أنه يُصر على التواصل الودي الذي يستهدف الفهم – في سبتمبر 1980 يلقي هابرماس محاضرة بمناسبة استلامه لجائزة تيودور أدورنو بعنوان (الحداثة: مشروع لم يكتمل)، يكرسها لنقد تيارات ما بعد الحداثة وعلى الأخص الفرنسية حيث يقول فيها  “اسمحوا لي أن أُميِّز باختصار بين النزعة المضادّة للحداثة l’anti-modernisme من المحافظين الشباب، ونزعة ما قبل الحداثة pré-modernisme من المحافظين القدامى، وبين نزعة ما بعد الحداثة post-modernisme الخاصة بالمحافظين الجدد”، بعد أن صنّف الفلاسفة الفرنسيين الجدد في عداد المحافظين الشباب، يمتد هذا الاتجاه في فرنسا من جورج باتاي إلى ديريدا مروراً بفوكو (Habermas 1981) لكن هذه المقالة لم تحظ على ما يبدو باهتمام دريدا.

لقد بدأت المعرفة المباشرة بين هابرماس ودريدا فعلياً عام 1984 حين دعا هابرماس دريدا إلى فرانكفورت لإلقاء محاضرة حملت عنوان (عيون الجامعة: مبدأ العقل وفكرة الجامعة) (النبواني 2013).

بعد سنة من هذا التاريخ ينشر هابرماس كتابه المهم (الخطاب الفلسفي للحداثة) والذي كرّس فيه فصلين للنقد الفلسفي لتفكيكية جاك دريدا ، الأول حول النقد الدريدي المركزي الصوتي ومزايدته على الأصل والزمان، والثاني حول فكرة (الاختلاف بين الأدب والفلسفة والتفكيكية بأنها نوع من النقد الأسلوبي للنصوص الفلسفية) يترصد فيه لاقتناص رسالة ضمنية غير مباشرة يقدم بها النص المكتوب تكذيباً للرسالة الفكرية الظاهرة، فبفضل أوجه المتضمن البلاغي التي يحملها النص يقرأ دريدا النصوص في اتجاه معاكس للاتجاه الظاهر ويجبرها على مخالفته، ويدفع مفكرين مثل روسو وهيغل وهوسرل وسوسور للاعتراف قسراً بما يعارض المحتوى الفكري الصريح، وهذا ما يسميه هابرماس بـ (الأولوية الخطابية) الآتية من علم اللسانيات والنقد الأدبي والتي تتعارض مع الاتجاه المنطقي الفلسفي العام، الذي يعطي الأولوية للفكر على اللغة والمعنى على العلامة وللهاتف السمعي على الكتابة وللمعطى الحدسي وحضوره المباشر على فائض النص الاختلافي المؤجل. بالطبع يحتمل نقد هابرماس المناقشة على المستوى التقني والمنهجي، إلا أن خلاصته البسيطة التي لا يرى دريدا سواها، هي القول بأن تفكيك التراث الفلسفي النطقي الغربي يقلب المعنى الصريح بالاعتماد على تأويل الأبعاد المجازية في الخطاب المكتوب (عطية 2010)، لقد قرأ دريدا هذا الكتاب بعناية شديدة كما يروي بلسانه، واكتشف أن نقد هابرماس له لم يكن مُنصفاً، وربما كان مُتعجلاً أكثر من اللازم، لن يتأخر رد دريدا كثيراً، بل سيجيب هابرماس على دفعتين في تعليقين طويلين سيظهران في كتابيه ذكريات، من أجل بول دو مان 1988 ثم في Limited Inc 1988 (النبواني 2013).

لكن لماذا يضجر جاك دريدا هذا النقد وهو الذي كتب ص 227 من فقه الكتابة أو الغرماتولوجيا “إن قراءة النص ينبغي أن تصوب في اتجاه ما لا يدركه كاتب النص لتوضيح ما يستعيره من أشكال وأساليب اللغة التي يستعملها”؟ (عطية 2010).

لقد أدى هذا السجال إلى توتر الأجواء بين هابرماس ودريدا اللذان حرصا على تجنب بعضهما البعض تقريباً لعقدٍ من الزمان، كان كلاهما قد حقَّق شهرةً واسعة في الولايات المُتَّحدة خاصة جاك دريدا ومع نهايات التسعينات التقيا في حفلة أُقيمت في جامعة إيفانستون في الولايات المُتّحدة عقب محاضرة لدريدا.

يروي لنا جاك دريدا كيف كسر هابرماس الجليد في تلك الحفلة بالكلمات التالية  “اقترب هابرماس مني بابتسامة لطيفة واقترح بأن لدينا نحن الاثنين ما نناقشه.. وافقت بدون تردد، وقلت دعنا لا ننتظر إلى أن يفوت الأوان”، ستزداد بعد ذلك فرص اللقاء بين الفيلسوفين وستتغير اللهجة الناقدة إلى لهجة مودة، حيث سيلتقيان بعد ذلك بقليل في باريس، وسيكتشفان أنهما متفقان على الكثير من النقاط مثل مستقبل أوروبا ومسائل تتعلق بالقانون الدولي، ثم سيعملان بمساعدة آكسل هونيث رئيس مدرسة فرانكفورت على تنظيم جملة محاضرات حول الأخلاق والحق والسياسة ستنعقد في فرانكفورت عام 2000. مع نهاية ذلك العام سيشترك هابرماس في مؤتمر عُقد في باريس حول جاك دريدا، وفي عام 2001 يتم منح جائزة أدورنو لجاك دريدا، حيث سيلتقي الفيلسوفان هناك، ثم سيوافقان لأول مرة على إجراء حوارٍ مُشترك حول أحداث 11/سبتمبر 2001، سيشترك دريدا وهابرماس بعد ذلك في التوقيع معاً على نص كتبه هابرماس نتيجة اشتداد المرض بدريدا دعيا فيه إلى شعب أوروبي جديد (النبواني 2013).

توافي المنية جاك دريدا عام 2004 بعد أن كتب كلمةً في عيد ميلاد هابرماس الخامس والسبعين 2004 تحدث فيها عن علاقتهما المعقدة، ختمها بالكلمات التالية وهو يدرك اقتراب أجله  “آمل من كل قلبي أن يستمر صوت وكتابات وشخص يورجن هابرماس في إضاءة آمالنا لزمن طويل قادم في هذه المرحلة من العجز وفي وجه التهديدات القاتمة التي أخذت تظهر” (Derrida  2006) ينطفئ جاك دريدا في التاسع من أكتوبر 2004 في أحد المشافي الباريسية بعد صراع مضن مع سرطان البنكرياس، ويرثيه هابرماس بكلمة بعنوان الوداع الأخير: أثر دريدا التنويري، قال في نهايتها “يمكن لأعمال دريدا أيضاً أن تحمل أثراً تنويرياً في ألمانيا، إذ أن دريدا قد قام بمواءمة موضوعات هيدغر الأخير بدون أن يشترك بأي وثنية جديدة تخون جذوره الموسوية”(Derrida  2006).

ومن هنا برزت فكرة الحديث حول العلاقة المُعقّدة بين دريدا وهابرماس من خلال مناقشة بعض المفاهيم التي توضح الاختلاف والاتفاق بين فكر كل منهم.

اللغة والكتابة

ينتقد جاك دريدا مفهوم عهد الاصطلاح التأسيسي اللغوي لدى هابرماس، وهو العهد الإيصالي الذي يسمح باستعمال اللغة كأداة اتصال ويجعل الحوار المنطقي ممكناً بين البشر بتهمة أنه يحافظ على هيمنة إرادة القوة في الميتافيزيقا الغربية التي تريد أن تفرض نموذجاً عقلانياً شمولياً واحداً للحوار، يترتب عليه كل ضروب الفردية والانحراف والخروج عن المألوف والاختلاف (عطية 2010)، ولا تعتبر  الكتابة وعاء لشحن الأفكار المنطوقة والكلام فقط بل هي مجال يحتوي اللغة بأكملها، فتصبح هنا اللغة نفسها تَولداً ينتج عن النص وبهذا تدخل الكتابة في محاورة مع اللغة فتظهر سابقة على اللغة ومتجاوزة لها، فهي تستوعب اللغة كخلفية لها من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً وهذا هو البعد الخلاق الذي يريد دريدا منحه للغة، لذلك جعل دريدا من الكتابة خلخلة لكل المفاهيم التابعة للمركزية العقلية والصوتية (قطوس 1998). ويشكل البحث في الكتابة لدى دريدا منطلقاً أساسياً في إعادة النظر في التصورات الكلاسيكية التي تنظر للغة على أنها نسق فكري منسجم ومغلق على حد ذاته ويعتمد المنطق في البناء، لأنه على العكس من ذلك فالتفكير في الكتابة يسمح بخلق مسارب تقوض مبدأ نقاء النص وشفافيته، والكتابة على حد تشكلها كأنساق متباينة ومختلفة فإنها تمثل الخامة الفكرية الكبرى التي تسعى لتكوين مجال رمزي يحقق مالم تحققه الألفاظ (الميسي 2018).

ويجيب هابرماس، إن جاك دريدا يريد أن يفهم من الآخرين ولن يتسنى ذلك إلا بتوفر عهد منطقي لغوي متفق عليه للتفاهم، والإيصالي الذي يسمح بالحوار بين الأفراد ليس من شأنه محو الفردية وعقاب التميز بل على النقيض من ذلك، يقدم للذوات المتميزة والناشزة أو الشاردة الأدوات الإيصالية والمرجعية المنطقية للترافع في رحابة الحوار المفتوح والدفاع عن حقوقها الشرعية في الاختلاف ضد كل محاولة قمعية شمولية، فيقول “يتعين على كل متكلم أن يختار تعبيراً مفهوماً واضحاً لكي يتمكن المتكلم والمستمع من التفاهم فيما بينهما، إذ يجب على المتكلم أن يكون لديه قصد تبليغ مضمون قضوي حقيقي لكي يتمكن المستمع من مشاطرته معرفته، كما عليه أيضا أن يفصح عن مقاصده لكي يتمكن المخاطب من تصديق أقواله، وأخيراً يتعين على المتكلم اختيار عبارات صحيحة تلتزم حدود المعايير و المقاييس الجاري بها العمل لكي يتمكن المخاطب من قبول تلك العبارات بكيفية تجعل المتكلم و المخاطب في وضعية تؤهلهما للاتفاق” (Habermas 1987). على هذا النحو تستطيع الذوات المتفاعلة تحقيق التفاهم و قد اعتبر هابرماس أن نظرية الأفعال اللغوية واعدة في هذا الصدد خصوصاً وأنه هابرماس ينظر إلى اللغة لا في بعدها المعرفي بل في بعدها التواصلي والاستعمالي التداولي متسائلاً عن شروط الممارسة الاجتماعية – معارضاً دريدا – القائمة على التداول السليم لشروط التداول المثالى للغة، وهو ما جعله سنداً ودعماً لنظريته في الفعل التواصلي.

تنطوي إشكالية الكتابة عند جاك دريدا على التحقيق العملي لها وترتبط فعاليتها بالتدقيق في إنتاجيتها خارج إطار اللوغوس، حيث يتم الكشف عن الفرق بين أفعال الرغبة في الخضوع لقوانين وهمية باسم العقل والنظام وأفعال الرغبة في التحرر والإنتشاء من القيود التي لاحقت الإنسان وجعلت منه مسيراً تحت إمرة المنطق وكل ما ينطوي داخله (الميسي 2004)، ومن خلال الكتابة يعمل دريدا على تفكيك وتعطيل ودحض العقلانية الغربية، عقلانية النصوص والخطابات التي تستمد شرعيتها من منطق مركزية الصوت وكل ثنائيات وتجاذبات منطق الهوية أو الذات الذي تبحث عن الأصل (الذاتية عند هابرماس هدم الذاتية من خلال العقلانية التواصلية) بمعنى أن تفكيكية الكتابة تعمل على إبطال وإلغاء الذات المتكلمة أو مالكة المعنى والنص والخطاب (العنزي 2013) ومنطق العقلانية الاجتماعية لدى هابرماس يتجلى في اللغة اليومية الطبيعية، التي يعدها هابرماس عماد كل تفاعل اجتماعي وفي هذا السياق نرى أن تطور هابرماس الفكري ارتبط بالمنعطف اللساني لديه، وقد اهتم بمبحث اللغة والتداول ليحدد الافعال التواصلية على النحو التالي “هي تلك الافعال التي تكون فيها مستويات الفعل بالنسبة للفاعلين المنتمين الى العملية التواصلية غير مرتبطة بحاجيات السياسة، بل مرتبطة بأفعال التفاهم” (Habermas 1987).

 

العقلانية

اتجهت كتابات جاك دريدا نحو قراءة جديدة وشاملة للفكر الغربي وتعميق الوعي التفكيكي بخلخلة النصوص وإثبات أهمية تغيير صنمية الأفكار التي كانت تعتبرها الميتافيزيقيا مقدسة، في سبيل تحقيق خطاب يرفض معه دريدا التقزيم والقوقعة والحصر وإعطاء العقل السلطة الكاملة في بناء القوانين والقواعد الحاكمة للإنسان، كما يفسح المجال لدخول الهوامش محورية النصوص الرئيسية وتحليلها وإثباتها كخطاب بديل للمألوف (الميسي 2018)، حيث أن مفاهيم الحقيقة والعقلانية ماهي إلا نتاج المجاز والاستعارة (إبراهيم، الغانمي 1990)، يدرج هابرماس تفكيكية دريدا ضمن أشكال الفكر الأيديولوجي المناوئ للعقلانية، وفي مواجهة هذا النقد يبدو دريدا وكأنه قد فقد حلمه فيتهم هابرماس بأنه لم يقرأه ويعطيه دروساً في أصول الاستدلال وأخلاقيات الحوار وآداب الديمقراطية، ويتهمه بالنزعة القومية الجرمانية وبالضلوع مع الفيلسوف الأمريكي سيرل في مؤامرة المركزية العقلانية الغربية ضده، وهو هنا لا يناقش تفاصيل نقد سيرل وهابرماس ويكتفي بإزاحة النقد بجرة قلم وبحكم قطعي لا يحتمل إعادة النظر؛ هذا قول باطل. تفكيكية جاك دريدا التي تعلن مسلماتها ولا تقدم حيثياتها ترفض المنطق الذي تتأسس عليه الحيثيات وترفض من ثم كل نقد ولا تعترف بأصول الحوار، لقد بلغ نفوره من الحوار مع ناقديه حد الإجحاف والاستخفاف بفلاسفة من أعلام الفكر الغربي مثل هابرماس وسيرل وعدهم شركاء في مؤامرة العداء والاضطهاد المنظم من قبل المؤسسة الفلسفية الأكاديمية التي تمارس على حد قوله أشرس أشكال الحجر عليه.

الابتعاد عن كل فكر متمركز حول العقل، بل إنه يجمع كلاً من الدلالية والمثالية والتمركز حول العقل في السياق نفسه الذي يضع فيه التصور الأحادي الخطي للتاريخ والفكر، فدريدا يقر أ تراث المفكرين الغربيين بهدف خلخلة أساسه العقلي والتحرر من الميتافيزيقيا للانخراط في عوالم المتخيل والاختلاف والهامش، ولكن بالرغم من هذه الفروق فإنهم بقوا سجناء الوعي بضرورة تهديم أسس الوعي (أفاية 1998) بينما يقول هابرماس “ترتبط العقلنة المتقدمة للمجتمع بمأسسة التقدم العقلي، والتقني بالقدر الذي يُخترق فيه كل من العلم والتقنية والمجالات الممأسسة للمجتمع، وبالتالي تحول المؤسسات ذاتها وتلغي الشرعيات القديمة الدنيوية وتنزع السحر عن صور العالم الموجهة للفعل وعن الموروث الثقافي بكليته، كل ذلك إنما هو الجانب الآخر لعقلانية متنامية للفعل الاجتماعي” ولا ننسى أن نشير إلى نقد هابرماس للعقل الأداتي وإعادة بنائه على أسس لغوية واجتماعية وأخلاقية وسياسية، لذا أخذ هابرماس على عاتقه مهمة التأسيس للعقلانية التواصلية التي تبدأ كنظرية فلسفية وتنتهي كنظرية سياسية، بهدف الوصول إلى حوار أخلاقي (مقورة 2013) تدين الاستعمال السيء وغير الإنساني لهذه القدرة.

مفهوم الذاتية

هابرماس سعى إلى التفكير في العقلانية وتطبيقاتها الملتبسة في المجتمعات الغربية من طرف ذوات قادرة على أخذ الكلمة وتبرير إدعاءاتها والبرهنة على ممارساتها لتأسيس العقلانية التواصلية، ولذا فالمشروع الهابرماسي هو خروج عن السلطة المركزية الذاتية والتقوقع على الذات واحتضان الآخر، وخبرة الوعي الذاتي إنما تنطلق من خبرة التفاعل (مقورة 2013)، إذًا، وبصدد الكتابة البدئية، يصر جاك دريدا على ضرورة غياب الذات ويأتي إصراره هنا كامتداد لأطروحة موت المؤلف، بحيث يحاول قلب المفهوم التقليدي للنص أو الخطاب باعتباره شكلًا من أشكال الحضور والتواصل الكلي وشكلًا من أشكال تصدير المعنى. وفرضية دريدا هنا تقوم على أن كل شكل من أشكال الحضور والتواصل يعني بالضرورة “كتابة ما” وإذا اعتبرنا النص الكتابي شكلًا من أشكال التواصل فإن هذا الشكل يحكمه عند دريدا – بل ويكمن في صميمه – مبدأ الغياب لا الحضور، فما هو حاضر هو شكل التواصل فقط، لا أطراف التواصل الذات/ المؤلف والقارئ، وهذا الشكل يعني به دريدا “أثرًا” أي ليس الذات ولا النص ذاته، لذلك فإن المعنى الذي يعطيه دريدا للكتابة البدئية باعتبارها تواصلًا في الغياب.

وعلى الرغم من كل تمظهراتها سواء تحت الشكل النصي أو الصوتي/ الكلامي فهي تعمل وفق مبدأ استراتيجي في التفكيك ألا وهو مبدأ الاختلاف الذي يرتكز على مبدأ الإرجاء والإحالة إلى ضمير غائب بحيث لا يوجد – أو لا يظهر- إلا أشكال الأثر وتجلياته أي أشكال التواصل الكتابي أو الصوتي/ الكلامي. لكي نوضح ذلك نقول بأنه إذا كان الكلام يتحقق من خلال التواصل المباشر والواضح بين شخصين حاضرين أو أكثر، فإن جاك دريدا يصر أيضًا -وعلى العكس من ذلك- على أن التواصل الحقيقي والحيوي لا يتحقق “تفكيكيًّا أو قرائيًّا” إلا من خلال الغياب ذاته لا الحضور، بمعنى أنه لا يتحقق بمجرد الفعل الذي يؤديه الكلام المباشر كصوت وضجيج أو كقدرة كلامية بل من خلال النتائج والآثار التي يحدثها وينتجها هذا الكلام، أو النص المكتوب، بين شخصين أو أكثر (العنزي 2013). ويجيب هابرماس على ذلك لتعزيز تصوره للفعل التواصلي من أجل فهم أفضل للعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع ذهب إلى أن الفعل التواصلي يتميز عن غيره من الأفعال الأخرى بأنه لا يسعى للبحث عن الوسائل التي تمكنه من التأثير في الغير بل يبحث عن كيفية التوصل الى تفاهم معه و توافق متبادل. وإذا كان التفاهم الغاية القصوى للفعل التواصلي، فإنه لا يمكن تصوره بين الأطراف المتحاورة إلا بشروط من أهمها عدم تأثير طرف على آخر لأن ذلك لو حصل يؤدي حتماً إلى فشل التواصل يقول هابرماس “إن نشاط التفاهم المتبادل خضع لشرط أساس به يحقق المعنيون مشروعاً لاتفاقهم المشترك فهم يسعون لتفادي خطرين: يتمثل أوهما في فشل التفاهم المتبادل و سوء الفهم، بينما يتمثل الثاني في فشل مشروع الفعل والإخفاق التام فتنحية الخطر الأول شرط لابد منه لتلافي الثاني” (Habermas 1987).

مفهوم الجماليات

يفضل هابرماس الجماليات المادية للخلاص على جماليات الوعي المثالية، وبالتالي توفير أول محددات نموذج العقل التواصلي عبر نقد فلسفة الوعي، ويعد عمل التفكير المابعدميتافيزيقي لهابرماس من أكثر أعماله ارتباطاً بالجماليات، وتتشابه قراءة هابرماس الإيجابية للجانب التواصلي للفن في رؤية بنيامين مع دورته اللغوية التي شكلت جوهر عمله الفلسفي خلال السبعينات وبلغت ذروتها في نظرية الفعل التواصلي والخطاب الفلسفي للحداثة حيث يمكن تمييز جماليات هابرماس في نظرية الحجاج ونظرية الترشيد الاجتماعي ونظرية الحداثة، كما تفترض نظريته التواصلية العقلانية دور الجماليات في الكشف عن العالم، ويؤكد هابرماس على أن جاك دريدا يواصل نقد نيتشه الجمالي للعقلانية من خلال نقد الميتافيزيقيا والتسوية للتمييز بين النوع الفلسفي والأدب مما يمهد لمبحث أنطولوجي أو شبه أنطولوجي للحداثة بوسائل جمالية لاقتراح بديل عن العقل التواصلي وعلم الجمال (Allen & Mendieta 2019). ولكي نفهم قراءة دريدا لمفهوم الجمال التي يختلف فيها مع هابرماس الذي يفضل الجمال المادي، نراجع نقد دريدا في ملكة الحكم لكانط، عثر دريدا على تمييز كانطي مثير بين نوعين من الجمال الحر والجمال التابع، فالجمال الحر هو إذن جمال لا يوجد إلا لذاته، أما الجمال التابع فجمال من أجل غيره. يسوق كانط عن الجمال الحر الأمثلة التالية: الورود، مجموعة من العصافير، للجمال التابع فيسوق ثلاثة أمثلة: الإنسان، الحصان والمعمار. كيف يفكك دريدا هذا النص الذي يركز عليه تركيزًا خاصًا بوصفه يشتغل على مفهوم الجمال؟ إن جاك دريدا يرى في الورود الكانطية “ورودًا لا تزهر إلا حذو القبور” فهي ورود بلا عطر ما دام شكل الوردة فحسب هو الذي يدل عند كانط على الجمال الحر، إنها وردة ضيعت عطرها من أجل أن تصير وفق عبارات دريدا في صنف الجمال الحر الكانطي، ويسائل دريدا حينها النص الكانطي أسئلة أقرب إلى الطابع التراجيدي قائلًا “ماذا لو حاولنا أن نرسم إطارًا لعطر الوردة؟”. وفي لغة التفكيك هو أسلوب تحويل إلى موضوعات باهتة للقول الفلسفي الذي ما زال عند كانط سجينًا للتناقض التقليدي للعقل الغربي بين الشكل والمادة أو العقل واللاعقل أو المنطقي وغير المنطقي. إننا على حد عبارات دريدا أمام “مكنة مفاهيم لا شيء يمكن أن يقاومها”. وهنا يكشف دريدا عن ضرب من التواطؤ الثري الخطير ما بين الدين والفن والعقل داخل العقل الغربي. ويربك دريدا بأسئلة التفكيك مفهوم الجمال الحر عند كانط مسائلاً، أي معنى لأثر من دون دلالة ولموسيقى من دون نص وللوحة لا لون لها؟ ويذهب جاك دريدا بالتفكيك إلى حد اعتبار النص الكانطي نوعًا من “قتل الجمال وقبره” (ابن شيخة 2004).

التحول العملي لدى دريدا وهابرماس

من خلال جمعهما بين النظرية والتطبيق في كتابيهما (القانون والديمقراطية لهابرماس) والذي طرح فيه هابرماس نظرية جديدة للقانون والمعايير القانونية والعدالة والديمقراطية تأخذ من جديد نظرية الفعل التواصلي وتجددها وتعيد صياغتها، ونفهم من ذلك أن النشاط التواصلي لا بد أن يتجسد في خطاب سياسي ديمقراطي تواصلي يبدأ بالحديث عن فضاء عمومي خال من السيطرة يتجه نحو العالم المعيش ويقوم على الحوار المرتكز على الأخلاق ويهدف إلى التفاهم والاتفاق، يقول هابرماس “المنطق النابع من نظرية الفعل التواصلي” (مقورة 2013)، وكتاب (قوة القانون لدريدا) الذي وضح فيه نزول التفكيكية إلى حيز الإيجاب وتغير العالم أو العلاقات والأشياء هو ما يميز مرحلة جاك دريدا الجديدة أو ما يدعى بالتحول العملي عنده، إذ نجده يحدد ما يشكو منه القانون وما أصيب به بقوله “هناك شيء ما منخور أو متعفن في القانون وهذا الشيء يدينه أو يدمره مقدماً، أو حين يشير إلى مرض المناعة  الذاتية” التي يعاني منها نسق القانون الحديث بحيث يكون مهدِداً ومهدَداً من نفسه (النبواني 2018).

 


المراجع

إبراهيم، عبد الله الغانمي، سعيد (1990) معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.

ابن شيخة، أم الزين المسكيني (2004) دريدا قارئاً كانط، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) تونس.

أفاية، محمد نور الدين (1998) الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة – نموذج هابرماس، افريقيا الشرق، الدار البيضاء.

بو شلاكة رفيق عبد السلام (1996) مأزق الحداثة: الخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأردن.

بودومة، عبد القادر (2000) نيتشه قادماً من المستقبل: فيلسوف ما بعد المستقبل، مجلة الإبداع والعلوم الإنسانية، عدد 42

حمودة، عبد العزيز (2003) الخروج من التيه سلسلة عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص110

حمودة، عبد العزيز (1988) المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك سلسلة عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت.

دريدا، جاك (2013) استراتيجية تفكيك الميتافيزيقيا (حول الجامعة والسطة والعنف والعقل والجنون والاختلاف والترجمة واللغة) ترجمة وتقديم عز الدين الخطابي، أفريقيا الشرق، المغرب.

دريدا، جاك (2000) الكتابة والاختلاف ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمد علال ناصر، دار توبقال للنشر، المغرب.

دريدا، جاك (1988)الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء.

دريدا، جاك (2010)عن الحق في الفلسفة، ترجمة عز الدين الخطابي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.

عطية، أحمد عبد الحليم (2010)، جاك ريدا والتفكيك، دار الفارابي، لبنان.

قطوس، بسام (1998) استراتيجيات القراءة – التأصيل والإجراء النقدي، دار الكندي للنشر والتوزيع، اربد.

الرويلي، البازعي (2000) دليل الناقد الأدبي إضاءة لأكثر من خمسين تياراً ومصطلحاً نقدياً معاصراً المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء.

الزين، محمد شوقي (2011) جاك دريدا: ماذا الأن؟ ماذا عن غد؟ الحدث ، التفكيك، الخطاب، دار الفارابي، لبنان.

كريب، إيان (1999) النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس.

مقورة، جلول (2015) فلسفة التواصل في الفكر العربي المعاصر: طه عبد الرحمن وناصيف نصار بين القومية والكونية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

مقورة، جلول (2013) هابرماس: الفعل التواصلي وجدلية الذاتي والتذاوتي، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة.

الميسي، فاطمة الزهراء (2018) مفهوم الكتابة عند جاك دريدا، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، فاس.

النبواني، خلدون (2013)، حول العلاقة المُعقّدة بين دريدا وهابرماس، مجلة الأوان، باريس.

النبواني، خلدون جميل (2018) فلسفة القانون عند جاك دريدا: مقاربة تفكيكية للمفاهيم التشريعية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، فرنسا.

Allen, Amy, Mendieta, Eduardo (2019) The Cambridge Habermas Lexicon, Pennsylvania State University, Pennsylvania State University, ISBN: 9781107172029.

Jacques Derrida (1976), de la grammatologie, collection, critique, les editions de-minuit.

Jacques Derrida, (1967): De la grammatologie, Paris: Éditions Minuit, , p. 233.

Worms, Frédéric (2009) La philosophie en France au XXe siècle, Paris: Gallimard,  pp. 459-460

Derrida, J (1992) “Il n’y a pas le narcissisme” (autobiophotographies), Points de suspension, Entretiens, Paris: Galilée, p. 227.

Derrida, J: Force de loi, Paris: Galilée, 1994, p. 21

Rorty, Richard and Others (1991), “Is Derrida a Transcendental Philosopher?” Essays on Heidegger, Cambridge, Cambridge: University Press, pp 119-128.

Derrida (2006), «Honesty of Thought» in The Derrida-Habermas Reader, ed. Lasse Thomassen, The University of Chicago Press, p. 302.

Habermas (1981), « La modernité : un projet inachevé », trad. franç. Gérard Raulet, in Critique, n° 413, « vingt ans de pensée allemande», oct., p. 966.

Jacques Derrida (1976), de la grammatologie, collection, critique, les editions de-minuit.

Jacques Derrida (2001), Au dela des apparences, in Le Monde de su-blime, Paris, Gailee, 1991.

Dastur, François (2007) Derrida et la question de la presence: une relecture de la voix et le phénomène, Revue de Métaphsique et de Morale; Derrida, Janvier-; No  , éditions Pus, Paris, p.6

Derrida, Jacques (1967); L’écriture et la difference, éditions du Seuil, Paris, pp.117-118

Derrida, Jacques (1972); Positions, les éditions de Minuit, paris, , p.39

Dosse, François (1967), Histoire du structuralisme, Tome 2; le chant du cygnet , à nos jours, éditions la découverte, Paris, 1992, p. 29

Larousse (2009); Dictionnaire Maxipoche, éditions Larousse, Paris, p.1046

Derrida (1994), Jacques; Politiques de l’amitié, éditions Galilée, Paris, p.128

Trad .JM , Theorie de I’agir communicationnel, J.Habermas, Ferry, Paris, 1987, T.1, p.9.