مجلة حكمة
بودلير و الصورة الشعرية

بودلير وترجمة الصورة الشعرية

الكاتببول ميكلو
ترجمةعبد السلام فزازي

سنقدم بعض مظاهر الترجمة للصورة الشعرية الفرنسية كتبيان للحوار الأدبي في جوانيته. (بودلير كنموذج)

الترجمات الرومانية لأعمال بودلير

يتعلق الأمر هنا بترجمة الشعر الفرنسي إلى اللغة الرومانية، ولقد اخترنا كمثال لهذا إبداع بودلير لسببين اثنين: أولا، لأن بودلير أسس الحداثة الأولى وثانيا، لأننا نملك الطبعة الخارجة عن المعتاد، أي تلك الممثلة لمعلمة حقيقية للحوار القائم بين الشعر الفرنسي والشعر الروماني. وبمناسبة الذكرى المئوية لوفاة صاحب أزهار الشر فإن جيو دوميتريسكو Geo Dumitrescu وهو شاعر روماني خطر بباله جمع كل أشعار بودلير في أصلها الفرنسي في مجلد واحد مصاحبة لترجمة رومانية ناجحة: ولكن سنحاول في التذييل إعطاء الترجمات الرومانية الشبه الكاملة والمنجزة عبر السنين(1).

لنسجل، عرضا، أن ثمة ارتكاز خصوصية متعلقة بنقل الشعر الفرنسي إلى الشعر الروماني على اعتبار أنها وجدت لأسباب فنية دقيقة. إن الشعراء ومجموعة لا يستهان بها من الجمهور العريض قد قرأوا ولا زالوا يقرأون نسخا أصلية لشعراء فرنسيين، أجل، الترجمة لا تأتي إلا لاحقا وكدليل على قدرة الحوار وبطريقة إبداعية موازاة مع النسخة الأصلية. وبالإضافة إلى هذا تتجلى في هذا المقام والحالة هذه الوسيلة الفعالة لإثبات النشر الحقيقي والصحيح وسط مجموع السكان.

أما على المستوى الكمي، فإنه وإلى حدود 1967 فإن ما يناهز 156 قصيدة من الشعر البودليري ومن الطبعة المزدوجة –إلى لغتين- قد ترجمت من قبل دوميتروسكو Dumitrescu وأعيد إنتاج ترجمات مختلفات تقدر بـ 887 أي بمعدل 68،5% وإلى كل هذا تنضاف 289 من الترجمات المذكورة وهي غير متضمنة في المجلد، الشيء الذي يجعل الحاصل يصل إلى 1176 ترجمة، أي بمعدل 54،7 من الشعر البودليري.

إن قصيدة “البطرسي” تحتل الصدارة بـ(31) ترجمة، وتليها قصيدة “العدو” بـ (22)، وكذا “الجمال” بـ (21) ثم قصيدة “حزن القمر” بـ (20)، الخ…

أما من وجهة نظر تخص أساسا العروض، فإن كل الترجمات وبدون استثناء هي عبارة عن شعر موزون، علما أن البحر الإسكندري (المكون من اثني عشر مقطعا صوتيا) جاء وبطبيعة عادية منقولا إلى أبيات مكونة من 14 مقطعا عندما يتعلق الأمر بالقافية المؤنثة متناوبا مع أبيات مكونة من 13 مقطعا عندما يتعلق الأمر بالقافية المذكرة.

الصورة البودليرية

سنورد في ما يلي بعض الحالات الشاذة من النقل لـ الصورة الشعرية البودليرية عبر اللغة الرومانية، حتى يتسنى لنا بعد ذلك الوقوف عند جدول الترجمات الرومانية المتعلق بأول بيت شعري من سونية (قصيدة من 14 بيتا) “الجمال“.

إن منطق فرضيتنا يتمثل في أن الترجمة الصحيحة تعيد البنية العميقة للنص الشعري الأصلي، لتمر بعد ذلك إلى عملية نقل هذه الأخيرة إلى اللغة/الهدف. وإذا كان المترجم يتحدد عند البنية السطحية للأصلي، والتي يحولها وبطريقة ميكانيكية إلى بنية سطحية للأصلي، فإنه حين ذاك يستطيع أن ينجز ترجمة… سطحية.

إننا لا نشير في كل هذا إلا إلى العائق المكون من التناقضات الكبرى المتواجدة بين ثنايا الرموز الثقافية والمكونة للعقبات الأساسية للترجمة. ولقد سبق في هذا المجال للنقد الروماني أن ذكر الصعوبات المتعلقة بنقل الصور الشعرية البودليرية المبنية على عوامل كاثوليكية والتي كان من الضروري أن تكون ملتحمة بالعناصر الأورتدوكسية المستقيمة. إن أحد الحلول في هذا المجال يرتكز على التخلي على خصوصية الأصلي، ولكن بمحاولة التعديل على مستوى الجملة الدلالية.

وهكذا فإن في ترجمة سونية “ربة الفن المرتشية” حاول الشاعر: لون بيلات Lon Pillat نقل “صبي المذبح” عبر الروم –لغة روما- إذ نجد في هذه السونية مفردة diac تعني “الشماس الإنجليزية”، “الشاعر”، لكن في البيت الذي يلي جملة: Chanter des Te Deum يدخل المترجم صيغة لاتينية تقوم مقام Litanii “الصلوات”، وبالمقابل فإن فعل “غنى” يصبح Pasalmodiind “منشدين”. ويمكن للترجمة الرومانية أن تكون ملموسة أكثر شأنها شأن هذا البيت الشعري من قصيدة “الرمس” الذي ترجمها ألكساندور فليبيدي Alexandru Phillipide حيث الترجمات تشكل سلطة لا تقبل المنازعة: لو قدت من ليلة بطيئة حالكة Pe, o noapte de catran is Zgurâ حيث تتغير النعوت إلى صياغات اسمية مضافة: “من قطران” وعلى التوالي إلى “حثالة”. وإذا كانت الأخيرة “مفروضة” من قبل القافية فلأن الأولى متبنية خصوصا من كون كثافتها الدلالية.

ولكن يمكن لبعض الإبداعات أن تقرب بعضا من الفوارق الدلالية الدقيقة، أو قل النظيرية التامة، أي أنه في النطاق العروضي الدقيق جدا، كالسونية، يتحتم على المترجم أن يخلق ثانية التوازن بين التنوع والمعنى. نفسه فليبيدي في سونية Sed non satiata التجأ إلى القافية المزدوجة pli “ملآن” وfelin “رشيق”. أما النعت الثاني فثقيل ولكنه يحل محل: /طفل منتصفات الليل الحالك/، بينما “ملآن” فيحل محل المقارن مثل: الليالي، والنتيجة: إزالة السمات النظيرية من الليل.

ثمة تغييرات تسوق أيضا إلى بنيات بلاغية مستحدثة، ونشير في هذا السياق إلى ترجمة بيتين شعريين من سونية “ندم بعد الوفاة” لـ: فلبيدي كما سبق ذكره:

/حين لا تملك من أجل القبة والمرآة/ سوى قصر ريفي صغير ممطر وهوة مقعرة/ Drept pat si drept podoabâ a trupuli plâpind/vei câpâta o groapâ si-o vestedâ cununâ.

تصير القبة هنا /Podeadâ a trupului plâpidn أي “زينة جسد ناعم” بينما /قصر ريفي ممطر/ سيعوض بكناية /Vestedâ cununâ

فيرجل تيودوريسكو والصورة الشعرية

هناك شاعر مترجم آخر، فيرجيل تيودوريسكو Virgil Teodorescu سمح لنفسه بنقل قصيدة “دعوة للسفر” مشخصا “السماء”: الشموس المبللة/لهذه السماوات الغائمة/ Soarele julav/cerul sur trîndav، أكيد إذن أن القافية هي التي استمالت النعت trîndav “فارغ” لتكون النظرة أكثر “حداثة”. وأكيد أيضا أن شاعرا من أعمق شعراء الرومانيين عمل على زيادة تثقيف هذه الحداثة، عميق إلى درجة أنه طبق نزعته الهرمسية، وفي هذا الصدد نقدم بيتان شعريان من قصيدة “المثل الأعلى”:

/لأنني لا أستطيع العثور بين هذه الزهور الذابلة/عن وردة تشبه غاية حلمي

Câci din aceste toate ciripitoare nimfe

Nici una adapâ aprinsu-mi ideal.

التركيب Ciripitoare nimfe يحيل إلى “الراية المغردة” حيث nimfe “الحوريات” توظف الراية في سنن آخر، ويكون في هذه المرة ريّان/مُرْتَوٍ”، بينما النعت الأيقوني “حمراء” يرتبط باسم المفعول aprins “أحمر قان” (المثال).

تتمثل النقطة الحساسة في الإبداع الأصلي القائم على الترجمة الشعرية في “النموذج” الذي يقدمه تودور أرغيزي Todor Arghezi. إن هذا الشاعر الروماني الكبير لا يترجم في حقيقة الأمر، ولكنه بالمقابل يمنح قصائد جديدة، وفي هذا الصدد حاول على سبيل المثال نقل “ربة الفن العليلة”. ولكن سيحضر أرغيزي ديوانا يذكرنا عنوانه بـ أزهار الشر Flori de mucegai أزهار متعطنة ذلك الذي سوف ينفر جو أصحاب اللغة الهجينة.

قصيدة “الجمال” وما يتعلق بأبياتها الشعرية الأولى: نموذجية المتغيرات.

هاهو ذا الآن وفي نقطة دقيقة الحوار الذي يتعهد به بودلير المترجمين الرومان، محاولا مقارنته انطلاقا من البيت الأول من سونية “الجمال”.

/جميلة أنا، آن أيها الفاني!/

/مثل حلم قد من حجر/

في نهاية القرن الماضي، سنة 1896 ترجم بوزدوغان C.Z.Buzdugan المقطع المقارن الشهير: Frumoas â sînt, Frumoasâ ça visul جميلة أنا، جميلة كحلم فن مقدس”. وهو عبارة عن عمومية توضح الملموس من الأصلي. وبعد مضي أربع سنوات يعطي تيتو دينو Titu Dinu الجواب: ça visul unei marmuri “مثل حلم مرمر” الشيء الذي سيبقي على الإيحاء النحتي الواضح.

وسيتبنى رادو Radu Gyr في سنة 1930 مصطلحا أهليا، ولكن في صيغته الجمعية: Precum un vis de çremeni “مثل حلم صوان”.

وبعد مرور سنتين، كانت العودة إلى التجريد، ولكن في هذه المرة كان مرصعا على المستوى الشفاهي: ça visul ce-nohide-n piatrâ-Avîntul مثل الحلم الذي يوصد في الحجر علندا (ضبيا ضخما)، Al-Westried.

في سنة 1934 كانت هناك أجوبة ثلاثة حيث جادلت أولاها الاختتام: ça visul din, piatrâ desfacut مثل حلم حجر شاحب(Lon Fasseneanu). وتلفظ فليبيدي AL.Philippide قائلا:”cum est”، “un vis ciapit in piatrâ” /مثلما كان الحلم المنحوت من حجر/ ليعطي أخيرا بوريانو Radu Boureanu الترجمة الأمينة والصادقة: Precum un vis de Piatrâ: “مثل حلم من حجر!”

يظهر المرمر من جديد، ولكن في نفس البنية الإسمية والجديرة بالأصلي: ca visul de marmurâ مثل “حلم المرمر”، (باسكوبيشي Bascovici 1940).

وستعود على كل حال فترة ما بعد الحرب لهذه الحلول القريبة جدا من بودلير: ca visul de piatrâ مثل حلم حجر (نيكولي تاتومير Nicoloe Tatomir 1957). وca visul unei marmuri “مثل حلم مرمر” (أليكسندرو Alxandru Andriotoiu 1964)، وكذا (تيتودينو Titu Dinu 1910). ولكن ها هي ذي العودة أيضا إلى النعت اللفظي: Ca visul în marmorâ-in pietrit “مثل الحلم في المرمر المصلب” الهودوس Al-Hods 1966).

خاتمة: الصورة الشعرية وبودلير

تحتوي كل هذه المتغيرات على أنموذجية فعلية من الترجمة للصورة الشعرية كـ: مجرد اشتقاق ترادفي: حجر/مرمر، وإدخال إجراءات فعلية: صد/شجب/نحت/، وكذا التوضيح الإيحائي: المثال/الفن المقدس/ناهيك عن التحولات المورفو-تركيبية: المعرف/النكرة/(Une-Le)، وقلب البنيات البلاغية سمات حول السمات: استعارة اسمية مضافة أو استعارة انتمائية أو حتى إيجارية. كل هذا يحتمل تعديلات دلالية هامة على مستوى إعادة آثار السيمات بل وحتى الرموز التي تنتجها الترجمة من اللغتين الرومانية والفرنسية-. رغم كل شيء حاولتُ ترجمة لغة نفس القصيدة إلى (الفرنسية) والقائمة أساسا على القلب التضادي، حيث إن المقارن “مثل حلم من حجر” أصبح هكذا: مثل حجر من حلم. في ذلك المساء من سنة 1966 سمعت صوت بودلير يقول مجيبا: هذا قد تحقق.

مجلة الجابري – العدد الثاني والعشري


(1) شارل بودلير، أزهار الشر Florile Raului، طبعة معدة من طرف جيو دوميتريشو Geo Dumitrescu المدخل وتسلسل الأحداث من قبل Valdimir Streinu، الرسوم من قبل بودلير، بوخاريست 1968، ص1555.