مجلة حكمة
بوئيتيوس بوثيوس Boethius

أنيكيوس مانليوس سيويرينوس بوئيتيوس

الكاتبجون مارنيبون
ترجمةعلي الحارس
تحميلنسخة PDF

حول حياة الفيلسوف بوئيتيوس وكتاباته، والمشروع المنطقي والشروح المنطقية؛ نص مترجم للـد.  جون مارنيبون، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة على هذا الرابط، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد، وعلى رأسهم د. إدوارد زالتا، على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF


 

أنيكيوس مانليوس سيويرينوس بوئيتيوس (ولد ~475-477م، ويعتقد بأنّ وفاته كانت في العام 526م). درجت العادة خلال مدّة طويلة على الإشارة لمكانته كأحد أهمّ الأسماء الوسيطة بين الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى الناطقة باللاتينية، وذلك من خلال كتابه (عزاء الفلسفة)، باعتباره أديبًا ماهرًا امتلك موهبة تقديم الأفكار الفلسفية بصيغة درامية تنفتح على نطاق أوسع من القرّاء. وكان بوئيتيوس قد أقدم قبل تأليف كتابه المذكور على ترجمة الكتابات الأرسطية المنطقية للغة اللاتينية، وعلّق عليها، وألّف كتبًا لتدريس المنطق، واستخدم معلوماته المنطقية للمساهمة في المناقشات اللاتينية لموضوع (الزمان). ولقد استند في كتاباته كلّها، والتي أثّرت تأثيرًا هائلًا في ثقافة العصور الوسطى، على أفكار الأفلاطونيين المحدثين اليونانيين من أمثال فرفوريوس ويامبليخوس واستفاد منها بشكل واسع. ولقد ظهرت في الآونة الأخيرة كتابات حاولت تحديد مساهمة بوئيتيوس وتقييمها باعتباره مفكّرًا مستقلًا عمل ضمن أطر تقليدية لا تهتمّ كثيرًا بأصالة العمل الفلسفي؛ وسنأخذ في الأقسام التالية كلا الجانبين بعين الاعتبار.

 

  1. 1. حياته وكتاباته

وُلِد أنيكيوس مانليوس سيويرينوس بوئيتيوس في أسرة رومانية أرستقراطية، ومن المرجّح أن تكون ولادته في المدّة (475-477م)، بالتزامن مع الإطاحة برومولوس أوگستولوس، آخر الأباطرة الرومان. ولقد عاش بوئيتيوس معظم حياته في ظلّ حكم ثيوديريك، وهو من سلالة القوط الشرقيين وتلقّى تعليمه في القسطنطينية ولم يجد بأسًا في أن يدع الأسر القديمة تحتفظ بتقاليدها في روما بينما كان يمارس الحكم في مدينة راڤينا. وكانت المنزلة الاجتماعية الخاصّة التي حظي بها بوئيتيوس تضمن له تلقّي التعليم اليوناني الكامل، ولا بدّ أنّه اطّلع على الكثير من النقاش الدائر في المدرستين المتبقّيتين للفلسفة (الأفلاطونية) في أثينا والإسكندرية، على الرغم من أنّه لا يُرجّح سفره إليهما. ولقد تمكّن من أن يمضي معظم أوقاته متفرّغًا للتعلّم والسعي خلف مشروعه الضخم لترجمة النصوص الفلسفية والتعليق عليها. وكانت الطبقة الأرستقراطية في عصره قد اعتنقت بأكملها الديانة المسيحية، وانخرط بوئيتيوس في بعض الخلافات الكنسية في هذه الحقبة، والتي كانت تتمحور في الأساس حول الانشقاق بين الكنيستين اللاتينية واليونانية، وهو خلاف وصل إلى الحلّ بعد أمد قصير من وفاة بوئيتيوس.

والسنوات الأخيرة في حياة بوئيتيوس يعرفها جيّدًا كلّ من قرأ أشهر كتبه (عزاء الفلسفة)؛ إذ وافق على أن يكون “رئيس الديوان الملكي” عند ثيوديريك، وهو من أعلى المناصب، لكنّه سرعان ما اقتيد للمحاكمة مع الكثيرين، وربّما كان السبب هو مهاجمته لفسادهم، فاتّهم بالخيانة وممارسة السحر، وسُجِن (ربّما في العام 526م) ثمّ أُعدِم، وفي المدّة التي سبقت إعدامه استطاع أن ينتهز الفرصة ليكتب رائعته الأدبية (عزاء الفلسفة).

و(عزاء الفلسفة) كتاب يختلط فيه النثر بالشعر، يسرد فيه بوئيتيوس، بأسلوب أدبي قشيب، حوارًا خياليًا بين بوئيتيوس السجين وبين سيّدة تمثّل الفلسفة. وهذا الكتاب يختلف عن كلّ الكتابات الأخرى التي خطّها قلمه، إذ كتب بوئيتيوس كتابين دراسيين في الحساب والهندسة، بشكل مشابه للكتب المماثلة باللغة اليونانية، وكرّس نفسه لترجمة النصوص المنطقية الأرسطية وشرحها، فشرح كتابي أرسطوطاليس (المقولات) و(العبارة)، وكتاب مقدّمة فرفوريوس (الإيساغوجي) الذي أصبح جزءًا من أيّ منهج قياسي لدراسة المنطق. وألّف أيضًا كتبًا دراسية في المنطق حول التقسيم، والقياسات في المقولات، وفي فرعين منطقين آخرين سيرد ذكرهما بتفصيل أكثر في موضع قادم (القسم الثالث)، وهما: القياسات النظرية والمحاكمة العقلية للموضوعات (بالإضافة لشرح كتاب الموضوعات لكيكيرو). وفي ثلاثٍ من (الرسائل اللاهوتية) الخمس التي كتبها (تُعرَف غالبًا باسمها اللاتيني: الموجزات القدسية Opuscula sacra)، أي: الأولى والثانية والخامسة، نجده يستخدم عدّته المنطقية في تناول مشكلات العقيدة المسيحية، بينما تحتوي الرسالة الرابعة على بيان مباشر لهذه العقيدة على نحو يشبه اعترافًا بعقيدته الشخصية، أمّا الرسالة الثالثة فهي رسالة فلسفية موجزة لا تعنى بالعقيدة المسيحية خصوصًا.

 

  1. 2. المشروع المنطقي والشروح المنطقية

قد يبدو عمل بوئيتيوس في ترجمة المنطق الأرسطي وشرحه وكأنّه مجرّد بداية لمشروع أوسع أعلن عنه في شرحه الثاني لكتاب أرسطو (العبارة) الذي كتبه في حوالي العام (516م)، ولم يستطع إكماله بسبب إعدامه، وكان هذا المشروع يشمل ترجمة وشرح كلّ كتابات أفلاطون وأرسطو. لكن يبدو أنّ شرح المنطق قد استحوذ على بوئيتيوس حينها، إلى الحدّ الذي جعله لا يكتفي بشرح واحد لكلّ كتاب، فألّف كتبًا دراسية إضافية في هذا الحقل، ممّا يجعل من الصعب علينا أن نتجاهل التأثير الكبير لهذا الاهتمام في حرفه عن مخطّطه العملاق، والظاهر أنّ ما حدث فعلًا هو أنّ بوئيتيوس سعى خلف مشروع (منطقي) عوضًا عن المشروع الذي ذكره.

إنّ الطبيعة القصدية الخاصّة لهذا المشروع لا تسقط عرضة للتشكيك عندما تصطدم بحقيقة مفادها أنّ الشروح المنطقية التي كتبها بوئيتيوس ليست شروحًا أصيلة على الإطلاق في ما يخصّ مذهبها المنطقي، وإن لم تكن، على نحو يكاد يكون مؤكّدًا، مجرّد ترجمات متدنّية المستوى لهوامش على مخطوطات يونانية، مثلما حاجج جيمس شيل (James Shiel 1990)؛ فما يهمّنا هنا هو اختيار بوئيتيوس لفرفوريوس باعتباره مرجعيته الرئيسية في المنطق، لأنّ فرفوريوس هو المسؤول، قبل حوالي قرنين من بوئيتيوس، عن جعل المنطق الأرسطي مادّة مهمّة ضمن المنهج الدراسي للأفلاطونية المحدثة، إذ كان يعتقد بأنّها لا تتعارض مع هذا المذهب، وفقًا لاعتقادات أستاذه أفلوطين، لأنّ مجال تطبيقه محدود بالعالم المحسوس الذي تشير له اللغة في الحياة اليومية. ولقد قبل المتأخّرون من أتباع الأفلاطونية المحدثة أهمّية المنطق الأرسطي، والتناغم بين التعاليم الأفلاطونية والأرسطية، لكنّهم مالوا إلى محاولة اكتشاف العقائد الأفلاطونية المحدثة حتّى ضمن النصوص المنطقية الأرسطية؛ ففي حالة كتاب (المقولات)، وصل هؤلاء إلى حدّ التخيّل بأنّ أرسطو قد استمدّ مذهبه من كاتب فيثاغوري (هو: أرخيتاس)، وأنّ النصّ الأرسطي مبطّن بالكثير جدًّا من الميتافيزيقا التي يجب على الشارح أن يكشفها. لكنّ بوئيتيوس اتّبع فرفوريوس عمومًا، وإن كان قد استخدم الشروح التي تلته في عدد من المواضع: ففي شرحه لكتاب (المقولات) لم يبتعد عن شرح فرفوريوس الذي وصلنا، وهو شرح بسيط جدًّا يعتمد أسلوب السؤال والجواب؛ أمّا شرحه المطوّل الثاني لكتاب (العبارة) فهو يحظى بقبول شائع باعتباره أفضل دليل لشرح فرفوريوس الضائع. إذن، فشروح بوئيتيوس أكثر التزامًا بالمنهج الأرسطي لأنّها أكثر التزامًا بمنهج فرفوريوس، وذلك عند المقارنة مع ما كان يُكتَب باليونانية في زمانه.

وتظهر مقاربة فرفوريوس التي استخدمها بوئيتيوس واضحة حتّى في الشرحين اللذين كتبهما على كتاب فرفوريوس (الإيساغوجي: مقدّمة كتبها فرفوريوس للمقولات أصبحت في ما بعد جزءًا قياسيًا من المنهج الدراسي للمنطق). إذ يذكر فرفوريوس في بداية كتابه ثلاثة أسئلة حول الكلّيات، لكنّه يهمل مناقشتها في كتابه باعتباره مقدّمة؛ وهذه الأسئلة: هل الكلّيات موجودة أم هي مجرّد مفاهيم؟ وإذا كانت موجودة فهل هي مجسّمة أم لا؟ وإذا لم تكن مجسّمة فهل هي منفصلة عن المحسوسات أم هي موجودة فيها؟ وقد كان الشارحون اليونانيون في عصر بوئيتيوس قد طوّروا طريقة قياسية لتمويه هذا المقطع، فورد في شروحهم أنّ الكلّيات يمكن اعتبارها مفاهيم (post rem = تالية للشيء)، ومتأصّلة في الأشياء المجسّمة (in re = في الشيء)، وهي حقًّا موجودة ومنفصلة عن الأجسام (ante rem = قبل الشيء). لكنّ بوئيتيوس لم يتّبع هذا المسار، واتّبع مسارًا فكريًا آخر (Boethius 1906, 161:14 ff) يعود في جزء منه لفرفوريوس نفسه، ويعود من خلاله للفيلسوف الأرسطي العظيم الإسكندر الأفروديسي.

بدأ بوئيتيوس شرحه بالمحاججة ضدّ اعتبار الكلّيات موضوعًا للبحث؛ فكلّ ما يوجد حقًّا هو واحد من ناحية العدد، لكنّ ما هو مشترك بين الكثير من الأشياء في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون واحدًا من ناحية العدد، والكلّيات مشتركة بين الكثير من الأشياء في الوقت نفسه، ولذلك فإنّ الكلّيات لا توجد على أرض الواقع، وإنّما توجد على صعيد الفكر وحسب. ويواصل بوئيتيوس محاججته قائلًا بأنّ الأفكار على نوعين: أفكار تُشتقّ من موضوعاتها على النحو الذي هي عليه (ولندعها “الأفكار المناظرة”)، والأفكار التي ليست كذلك؛ فإذا كانت الكلّيات أفكارًا مناظرة فعندها توجد الكلّيات على أرض الواقع، وبما أنّها ليست كذلك فهي أفكار غير مناظرة، والأفكار غير المناظرة فارغة. ولذلك يجب التوقّف عن البحث في الكلّيات (وبالتالي: البحث في المحمولات الخمسة التي يدرسها الإيساغوجي). وكان منهج بوئيتيوس في التعامل مع هذا الاعتراض يتمثّل في الطعن بالمرحلة الأخيرة وحسب؛ إذ يحاجج بأنّ الأفكار غير المناظرة ليست فارغة إذا كانت تجريدات، وعلى سبيل المثال: الكائن الرياضي الذي يفكّر به عالم الرياضيات (كالخطّ أو النقطة) من خلال تجريده عن الجسم المادّي الذي يشكّل جزءًا منه، إذ لا يوجد شيء على أرض الواقع يُدعى الخطّ اللامادّي أو النقطة اللامادية، ومع ذلك فإنّ فكر عالم الرياضيات ليس فارغًا ولا مضلِّلًا. وتتشابه هذه الحالة إذا تجاهلنا الخصائص العرضية لبعض الأشياء المحدّدة (جورج واشنطن، مثلًا)، ولم نترك سوى طبيعته كإنسان فقط. ولقد بيّن آلان ديليبيرا (de Libera 1999, 159–280) أنّ هذا المسار المتّبع في الإجابة يرجع إلى الإسكندر الأفروديسي أو أتباعه. لكنّ بوئيتيوس يستمرّ بالمحاججة ويمنحها لمسته الخاصّة عندما يقترح بأن الكلّيات الناشئة عن التجريد ليست بنى ذهنية وحسب، بل هي تعي الواقع كما هو. وعلى الرغم من أنّ هذا المسار يتلاءم، بشكل غريب، مع الحجّة التي ينطلق منها بوئيتيوس، فيبدو أنّه يمهّد لمبدأ (أنماط الإدراك) الذي اقترحه في كتابه (عزاء الفلسفة) (راجع القسم السادس في ما يلي).

وهنالك احتمالية كبيرة في أنّ بوئيتيوس قد استند في شرحه الثاني المطوّل لكتاب أرسطو (العبارة)، كما بينّا في ما سبق، على شرح ضائع كتبه فرفوريوس؛ وبالتالي: فهو يقدّم لنا وصفًا كاملًا لعلم الدلالة عند فرفوريوس، وهو الذي استند في هذا العلم إلى سابقه عند أرسطو، وذلك لأنّه يعتبر اللغة العادية معنية بالأشياء المادّية وليس بالعالم المعقول. ويحتوي شرح بوئيتيوس على مناقشة موسّعة لمثال (المعركة البحرية) في الفصل التاسع من الكتاب؛ وبموجب مبدأ التكافؤ الثنائي تكون عبارة (سوف تنشب معركة بحرية غدًا) إمّا صادقة وإمّا كاذبة، لكنّها إذا كانت صادقة فـ(سوف) تنشب معركة بحرية غدًا، وإذا كانت كاذبة فـ(لن تنشب) معركة بحرية غدًا، وفي كلتا الحالتين: أليس هذه المسألة تتعلّق بالضرورة؟ تقضي استراتيجية بوئيتيوس بأنّ عبارة (سوف تنشب معركة بحرية غدًا) هي بالفعل إمّا صادقة وإمّا كاذبة، لكن بما أنّ نشوب المعركة البحرية هو حدث ممكن الحدوث، فإن صدق الحدث أو كذبه ليسا سوى أمرين غير محدّدين. وهنا يبرز السؤال: أين يصل بنا هذا الوضع؟ هنالك تفسيرات متنوّعة للكيفية التي ينبغي أن يفهم على أساسها، وربّما يتمثّل أكثرها معقولية في أنّ بوئيتيوس يعتقد بأنّه إذا كان الحدث (ح) ممكن الحدوث، تكون العبارة (ح سوف يقع) كاذبة، حتّى وإن تبيّن في ما بعد أنّ (ح) قد حدث، وذلك لأنّ هذه العبارة تعني ضمنيًا أنّ (ح) سوف يقع بالضرورة، لكنّنا إذا قيّدنا العبارة فأصبحت مثلًا (ح سوف يقع إن أمكن)، فستكون العبارة حينها صادقة ما لم تكن هنالك ضرورة لوقوع (ح)، مع حدوث (ح).

  1. 3. الكتب الدراسية في علم المنطق

أهمّ الكتب التي ألّفها بوئيتيوس لتدريس المنطق: رسالة في التمييز بين المواضيع الجدلية (~522-523م)، ورسالة في القياسات الاستثنائية (516-522م)، وكلّ منهما يعطينا لمحة عن حقل منطقي في أواخر العصور القديمة لا يوجد له مصادر أخرى إلّا في ما ندر.

لقد انطلق علماء المنطق في أواخر العصور القديمة من كتاب أرسطو (الجدل) ليصوغوا منظومة تفصيلية من المحاججة الجدلية، وقد تأثّرت هذه المنظومة تأثّرًا كبيرًا بحاجات القانونيين الرومان. وكان تركيز نظرية المواضيع الجدلية ينصبّ على (اكتشاف) الحجج، وهذه الحجج ليست في العادة منتجة شكلًا، بل هي ممكنة وحسب. وتمييز المواضيع الجدلية هو وضع تصنيفات لأنماط هذه الحجج؛ والمعرفة بهذا التمييز تمنح المحاجج وسيلة جاهزة للعزف على وتر مقنع في عملية البرهنة؛ وعلى سبيل المثال: لنفترض أنّني أرغب بالمحاججة بوجوب الإشادة بالخطيب الروماني كيكيرو، فأبدأ بالتفكير بالمعلومات التي أملكها وتعينني على المحاججة في هذه النقطة، ثم أتذكّر أنّ الجميع يشيدون بخطيب آخر هو ديموسثينيس، عندها أقلّب في ذهني قائمة تمييز المواضيع الجدلية، وأرى فيها تمييزًا (بين المتساوين) يزوّدني بالحجة اللازمة:

  1. 1. الكلّ يشيدون بديموسثينيس لبراعته في الخطابة.

  2. 2. كيكيرو يتساوى مع ديموسثينيس في براعته بالخطابة.

إذن: 3. ينبغي على الكلّ أن يشيدوا بكيكيرو.

يترافق مع هذا الأمر، ومع كل (تمييز للمواضيع الجدلية)، ما يسمّى بـ”القضية القصوى” (maxima propositio)، وهي في هذه الحالة: (المتساويات يُحكَم عليها بالتساوي). فالقضية القصوى يمكن اعتبارها مؤشّرًا على كيفية تركيب الحجّة؛ وقد تُضاف أيضًا للحجّة لجعلها منتجةً شكلًا، لكنّ بوئيتيوس لم يكن يرتئي استخدام القضايا القصوى بهذه الطريقة؛ بل أراد من المحاجج الجدلي أن ينتج حججًا مختلفة القوّة وفقًا لما تحقّقه القضية القصوى المرافقة للتمييز من قرب من إنجاز الصدق المنطقي. وهنالك من القضايا القصوى ما ينصّ فعلًا على قوانين أساسية للبرهنة (بما فيها قاعدتا: إثبات التالي، ونفي التالي)؛ ومنها ما ينصّ على قواعد أفضل ما توصف به هو أنّها “قواعد عملية”؛ وفي حالة موضوع (النقل من مرجعية)، أي: الحكم بالصدق المنطقي على ما يعتقده الحكماء أو الخبراء أو الأغلبية، لا يمكننا أن ندرج هذا الموضوع حتّى ضمن “القواعد العملية”.

إنّ المرجعيتين الرئيسيتين اللتين يرجع إليهما بوئيتيوس، أي: كيكيرو وثامسطيوس، يعطيان قائمتين بديلتين لتمييز المواضيع الجدلية؛ ومن المهمّات التي اضطلع بها بوئيتيوس في كتبه الدراسية أن يبيّن التلاقي ما بين مخطّطي هاتين المرجعيتين. وفي تفسيره لكتاب كيكيرو (الجدل)، والذي ألّفه قبل تأليفه لرسالته في تمييز المواضيع الجدلية بمدّة قصيرة، فصّل بوئيتيوس البحث في النظرية نفسها، لكنّه سمح لنفسه بالاستطراد كثيرًا في بعض المباحث، كالكلّيات، والعلّية، وحرّية الإرادة، والمنطق الرواقي.

والمنطق الرواقي، وعلاقة بوئيتيوس به، هو الذي يمنح رسالته (في القياسات الفرضية) أهمّية خاصّة. والقياس يكون “فرضيًا” عندما تكون مقدّمته المنطقية قضية جزيئية تستخدم في الوصل “إذا” أو “أو” (تفهم على أنّها فصل منطقي حصري)؛ ولهذا، على سبيل المثال، يكون القياس التالي استثنائيًا:

  1. 4. إذا كان الوقت نهارًا، فهنالك نور.

  2. 5. ليس هنالك نور.

إذن: 6. الوقت ليس نهارًا.

والقارئ المعاصر من شأنه أن يميل إلى النظر للفقرات (4-6) على أنّها قطعة من عملية بسيطة في منطق القضايا (أ ← ب؛ ~ب؛ إذن: ~أ). وبما أنّ الرواقيين هم من طوّروا في العصور القديمة منطق القضايا، وبالمقارنة مع المنطق الحدّي الذي جاء به أرسطو، يبدو أن رسالة بوئيتيوس حول القياسات الفرضية تصبّ في مجرى المنطق الرواقي، وهذا الاستنتاج صائب إلى حدّ يسمح بالقول بأنّ التقليد الذي ورثه بوئيتيوس يعود في جزء منه إلى جذور رواقية؛ لكنّ هذا التقليد عندما وصل إلى بوئيتيوس كان قد أصبح خليطًا من العناصر الرواقية والمشّائية على نحو يستعصي معه فصله. ولقد بيّن مارتين (Martin 1991) أنّ بوئيتيوس كان يفتقر هو نفسه للعدّة المفاهيمية التي تمكّنه من التفكير وفق منطق القضايا، فكان يفهم القضايا (4-6) على أساس المنطق الحدّي، وفيه تكون المحمولات (نهار) و(نور) عائدة لمسند إليه مبهم (هو). ورسالة بوئيتيوس نفسها مكرّسة في الأساس لعملية حسابية مجهدة للأشكال الممكنة المختلفة والمتنوّعة للقياس الاستثنائي المتضمّن حدّين، أو ثلاثة حدود (على أن تكون المقدّمة الأولى من قبيل: “إذا كان أ، فعندها إذا كان ب فهو ج”)، وأربعة حدود (على أن تكون المقدّمة الأولى من قبيل: إذا كان [إذا كان أ فهو ب] فعندها [إذا كان ج فهو د]).

  1. 4. الرسائل اللاهوتية

يبدو أنّ (الموجزات القدسية opuscula sacra) الثلاث التي ألّفها بوئيتيوس لتحليل عدد من نقاط العقيدة المسيحية قد تزامنت مع أحداث معيّنة حدثت في عصره. والظاهر أنّ الرسالة الخامسة، الموجّهة ضد أوطيخس ونسطور، قد استلهمت رسالة بعث بها مجموعة من الأساقفة المسيحيين (~513م) يقترحون فيها صيغة لاهوتية حول المسيح يأملون منها أن توحّد الكنيستين الغربية والشرقية. ومن المحتمل أنّ رسالتيه حول الثالوث (الرسالة الثانية وصف موجز لجزء من الرسالة الأولى) تتعلّقان بما حدث في العام (519م) من تدخّل لمجموعة من الرهبان السكوثيين من أجل رأب الصدع بين الكنيستين. لكنّ كتابات بوئيتيوس اللاهوتية تتمتّع بأهمية تفوق كثيرًا ما أسهمت به في الجدل العقائدي الدائر حينها؛ فلقد كانت رائدة بمنهجها المتمثّل في استخدام التحليل المنطقي في سياق لاهوتي توقّعه القدّيس أوغسطين لكنّه لم يطوّره؛ فأخضع بوئيتيوس للتدقيق الصارم كلا الموقفين، أي: العقيدة المسيحية التقليدية وعقيدة الهراطقة (مثلًا: ما كان يراه أوطيخس ونسطور حول المسيح والطبيعة البشرية)، واستخدم في ذلك تقنيات المنطق الأرسطي، ولجأ عند الضرورة لأفكار من الفيزيقا الأرسطية. لقد بيّن بوئيتيوس أنّ أفكار الهراطقة تحتوي تناقضات منطقية؛ ففي ما يتعلّق بالفهم التقليدي للإله، أوضح بوئيتيوس أنّه لا يتلاءم مع تصنيفات المنطق الأرسطي والعلوم الطبيعية، لكنّه حاول أيضًا أن يستقصي المدى الذي تصل إليه هذه المميّزات، والتي كيّفها لتلائم العالم المخلوق، في انطباقها على الإله، ليحدّد النقطة التي ينفصل فيها مسارها وتتحوّل إلى مجرّد قياس.

إنّ هذه الطريقة في التفكير حول الإله تتبدّى بوضوح خاصّ في رسالته الأطول حول الثالوث (الرسالة الأولى)؛ فعندما يقال بأنّ الإله يتّصف بصفة ما، فكيف يُفهم الحمل المنطقي في هذه الحالة؟ فعندما يتعلّق الأمر بالمخلوقات، يقضي المخطّط الأرسطي بأنّ الحمل هو إمّا جوهري (عندما يكون الجنس أو الفصيلة أو الفارق محمولًا لشيء ما، فنقول: “سقراط حيوان/إنسان/عاقل”)، وإمّا عرَضي (عندما يكون المحمول أيًّا من التصنيفات الأرسطية التسعة للعرَض). ولقد أقرّ أوغسطين من قبل بأنّ المحمولات الإلهية غير عرضية. وقد تكون المحمولات الإلهية إمّا نسبية (كما هو الحال في وصفه بأنّه “أب” أو “ابن”) وإمّا جوهرية؛ وحتّى عندما تعزى له كيفية أو كمّية ، فعندها يكون الحمل جوهريًا. وعندما نقول عن مخلوق بأنّه عظيم أو خيّر، فنحن نؤكّد على أنّه يشارك في العظمة أو الخير، وهنالك انفصال بين أن يوجد الشيء وبين أن يتّصف بالعظمة أو الخير؛ أمّا في ما يخصّ الإله فهو العظمة نفسها والخير نفسه، ولذلك فإنّنا عندما نقول بأنّ “الإله عظيم” أو “الإله خيّر” فإنّنا لا نؤكّد أيّ صفة له تقع خارج ما هو عليه كجوهر. ولقد بيّن بوئيتيوس هذه الرؤية الأوغسطينية بأمانة في رسالته الموجزة الثانية.

ولقد طوّر بوئيتيوس هذا المخطّط في رسالته الأولى؛ وميّز بشكل خاصّ بين المحمولات في مقولات الجوهر والكمّية والكيفية، وهي محمولات حقيقية وجوّانية، وبين محمولات المقولات الست المتبقّية (باستثناء مقولة العلاقة [تسمّى بمقولة الإضافة في الترجمات العربية القديمة (المترجم)])، وهو يدعوها غير حقيقية وبرّانية. وإنّ الفكرة البديهية التي تسند هذا التمييز يبدو بأنّها تتمثّل في أنّ محمولات المقولات الأخرى لا تتعلّق إلّا بالكيفية التي يتعلّق بها الموضوع بالأشياء الأخرى؛ أمّا الصفات الجوهرية والكمّية والكيفية فهي وحدها تميّز الشيء نفسه. ويواصل بوئيتيوس هذا الكلام بقوله: على الرغم من أنّ كلّ المحمولات الحقيقية الجوّانية حول الإله جوهرية، فإنّ المحمولات البرّانية غير الحقيقية حوله ليست كذلك، فهي لا تتعلّق بما عليه الإله أو مخلوقاته، بل هي تتعلّق بأشياء خارجية.

إن مناقشة بوئيتيوس لمقولة (العلاقة) تبيّن لنا بوضوح خاصّ كيف طبّق المنطق في تحليل مفهوم (الإله) إلى أبعد حدّ ممكن، وترينا بعد ذلك أين يفشل المنطق وكيف يحدث ذلك. إذا يحتاج بوئيتيوس تفسير كيف يمكن أن يتحقّق الصدق المنطقي للقول بأنّ الإله الواحد نفسه هو الأب والابن في الوقت نفسه؛ فيدّعي بأنّ محمول مقولة العلاقة (“هو الأب” مثلًا) لا يتعلّق بجوهر الأمر المتعلّق به، أي: علاقة (أ) بـ(ب) لا تؤدّي مطلقًا إلى تغيير (أ) أو (ب)؛ بل إنّ هنالك علاقات يمكن أن تكون بين الشيء ونفسه، ومنها علاقة المساواة مثلًا. لكنّ (أن يكون أبًا) و(أن يكون ابنًا) ليس من هذه العلاقات في نطاق المخلوقات، فلا يمكن لأيّ أحد أن يكون أبًا لنفسه أو ابنًا لنفسه؛ وهنا يرى بوئيتيوس أنّ منطق المخلوقات يختلّ عندما يحاول استيعاب الثالوث، إذ يجب علينا أن نجد طريقة ما نحاول بها استيعاب فكرة علاقة أبوّة أو بنوّة تتّصف بالانعكاسية.

وهنالك سؤال فلسفي آخر استكشفه بوئيتيوس في مناقشاته للثالوث، وهو التشخّص (individuation)، بالإضافة إلى موضوع أوسع حول الجزء والكلّ. وممّا يؤسف له أنّه ليس من الواضح كلّيًا لنا ما هي النظرية التي يتّبعها في التشخّص؛ فالقراءة السريعة لبعض المقاطع توحي بأنّ الجواهر تتشخّص بمجموعة من الحوادث العارضة، لكنّ هنالك ما يشير إلى أنّ بوئيتيوس ربّما كان يفضّل نظرية التشخّص بالوضع الزمكاني، أو بنظرية ثالثة أخرى مغايرة (راجع: Arlig 2009).

والرسالة الثالثة تهتمّ أيضًا بالمحمولات الإلهية، لكنّها تختلف بشكل قطعي عن الرسالتين الأخريين، وذلك في أنّها تخلو من أيّ أمر يخصّ المسيحية دون غيرها؛ فهي تعالج السؤال: كيف يمكن لكلّ جوهر أن يكون خيّرًا في ما هو عليه، دون أن يكون خيّرًا بالجوهر؟ يرى بوئيتيوس أنّ من الحقائق الرئيسية ميل كل الأشياء إلى الخير، وأنّ طبيعة الأشياء تقضي بأن تشبه ما ترغب به؛ وعليه: فإن كلّ شيء خيّر بطبيعته؛ ولكن إذا كان كذلك فالأشياء لا بدّ أن تكون خيّرة بالمشاركة أو بالجوهر (أو بـ”الماهية” بتعبير الفلاسفة المحدثين)؛ وإذا كانت خيّرة بالمشاركة وحسب فقد تكون خيّرة عرَضًا لا بالطبيعة، أمّا إذا كانت خيّرة بالجوهر فإن جوهرها هو الخير نفسه، ولذلك لا يمكن تمييز أيّ شيء عن الخير الأوّل (أي: الإله). وبهذا الجواب يستفيد بوئيتيوس من مجموعة من الأوّليات التي يذكرها في بداية رسالته، ثم يطلق تجربة فكرية يفترض فيها (استحالة) أن الإله غير موجود، ويكمن مفتاح الحلّ لديه في إيجاد طريقة تستند إلى مبادئ محدّدة للتمييز بين أن يكون الشيء (أ) على الصفة (ص) التي يوجد عليها، وأن يكون (ص) من الناحية الجوهرية؛ ومناقشات بوئيتيوس توحي بأنّه يرى بأن كون ذلك الشيء (ص) من الناحية الجوهرية يعني عدم إمكانية فهم “(أ) ليس (ص)” (يمكننا أن نقول عن العبارة: “مستحيلة منطقيًا”)؛ فكون الشيء (أ) (ص) في وجوده يعني تمامًا استحالة “(أ) ليس (ص)” (يمكننا أن نقول عن العبارة: “مستحيلة بحسبان وضع العالم”). إذن: ما دام ليس من الممكن فهم أن الإله ليس خيّرًا، فمن المستحيل تمامًا أن يكون كلّ شيء ليس خيّرًا.

 

  1. 5. عزاء الفلسفة.. حجّة الفصول (1-5 .2)

يقدّم بوئيتيوس في كتابه (عزاء الفلسفة) صعوبات تفسيرية تنتمي إلى نمط مغاير لما جاء في كتاباته المنطقية أو رسائله اللاهوتية؛ فهي تختلف عنها بأنّها جاءت على هيأة أدبية مفصّلة: إذ تتكوّن من حوار بين بوئيتيوس، القابع في زنزانته بانتظار تنفيذ حكم الإعدام، وبين سيّدة تجسّد الفلسفة، وغالبًا ما يكون النصّ نثرًا مشبعًا باللغة الخطابية تتخلّله مقاطع شعرية. يضاف إلى ذلك أنّه على الرغم من أنّ بوئيتيوس لم يكتب أيّ نصّ بطريقة تعرّفنا به كمسيحي، باستثناء الرسائل اللاهوتية (الأولى والثانية والرابعة والخامسة)، فإنّ غياب أيّ إشارة صريحة لمسيحيته في (عزاء الفلسفة) ينطوي على إشكالية خاصّة، فعندما نتذكّر أنّ هذا النص كتبه رجل على أعتاب الموت، فهذا يعني تمامًا أنّه كان يكتب شهادته في الفلسفة والأدب. وسنركّز أكثر على هذه الأسئلة في القسم السابع حين نبحث في الحجج التي تضمنّها هذا الكتاب.

إنّ المحنة الحقيقية التي وقع فيها بوئيتيوس تهيّئ السياق لطرح حججه؛ فيصوّر نفسه كشخص وقع فريسة للاضطراب والاكتئاب لما حلّ به من سوء الحظّ، والمهمّة الأولى للفلسفة أن تعزّيه، لا بإبداء التعاطف معه، بل بأن تثبت له بأنّه لا يمتلك سببًا وجيهًا للشكوى: إذ ترغب أن تجعله يفهم، باستخدام المحاججة، أنّ السعادة الحقيقية لا تتضرّر حتّى في ظلّ كارثة كالتي يعانيها؛ بل إنّها تتوسّع في هدفها في الفصل الأوّل من الكتاب، فتسعى لتثبت أنّ الطالح يزدهر والصالح يُضطَهد، كما تدّعي شخصية بوئيتيوس.

ويبدو أنّ الفلسفة تعتمد مسارين في المحاججة لإقناع بوئيتيوس بأنّ محنته لا تبعده عن السعادة الحقيقية؛ والمسار الأوّل منهما يعتمد على رؤية (معقّدة) للخير الأسمى (يظهر هذا المسار في الفصل الثاني والقسم الأوّل من الفصل الثالث)، وهو يميّز بين المنافع الزخرفية للحظّ (الثروة والمنزلة الاجتماعية والسلطة والمتعة الحسّية) وبين المنافع الحقيقية (الفضائل والكفاية، وهو ما يرغب به في الحقيقة من يسعون خلف الثروة والمنزلة الاجتماعية والسلطة). وتحدّد الفلسفة بعض المنافع غير الزخرفية للحظّ، كالأسرة والأصدقاء، وذلك لأنّها تحتوي قيمة أصيلة كبيرة. وعلى أساس هذا التمييز يمكن للفلسفة أن تحاجج بأنّ بوئيتيوس لم يفقد أيّة منافع حقيقية، وأنّه لا يزال محتفظًا بمنافع للحظّ ذات قيمة حقيقية كبيرة (أسرته). وهي لا تصرّ على أنّه لم يفقد أيّ شيء ذا قيمة عندما هوى من موقعه كرجل يتمتّع بالسلطة والثراء والمنزلة الاجتماعية المحترمة إلى موقعه كسجين مدان؛ بل تريد أن تبيّن له أنّ خسارته لا تلزمه بالانقطاع عن السعادة الحقيقية، لأنّ بلوغ السعادة الحقيقية يتمّ في الأساس بعيش حياة متقشّفة تقوم على الكفاية والفضيلة والحكمة.

أمّا المسار الحجاجي الثاني فيقوم على رؤية (بسيطة) عن الخير الأسمى؛ وتبدأ الشخصية الممثّلة للفلسفة بتقديمه في القسم العاشر من الفصل الثالث، وذلك في نقطة تحوّل في المناقشة سبقتها أكثر القصائد رزانة في الكتاب كلّه (3.م9)، وهي دعاء للإله بمصطلحات مستمدّة من (محاورة طيماوس) لأفلاطون. وبواسطة عدد من الحجج المستفيضة في عواقب افتراضات الأفلاطونية المحدثة التي يقبلها بوئيتيوس، تبيّن الفلسفة أنّ الخير الكامل والسعادة الكاملة هي ليست (في) الإله وحسب، بل (هي) الإله؛ وعليه: فإن السعادة الكاملة لا تتأثّر على الإطلاق بما يحدث من تغيّرات للحظّ في الدنيا، مهما كانت هذه التغيّرات مدمّرة. لكنّ المقاربة الثانية تفشل في شرح كيفية العلاقة بين الفرد البشري، من أمثال بوئيتيوس، بالسعادة الكاملة التي هي الإله. ويبدو هنا أنّ الفلسفة تتحدّث كما لو أنّ مجرّد (العلم) بأنّ الإله هو السعادة الكاملة تجعل بوئيتيوس نفسه سعيدًا، على الرغم ممّا يبدو من القسم الذي يليه، وهو بأنّ العمل بشكل جيّد هو ما يحقّق الإنسان الخير من خلاله.

ثمّ تواصل الفلسفة حديثها في القسمين (11-12) من الفصل الثالث في شرح كيفية إدارة الإله للكون؛ فتقول بأنّه يقوم بذلك بأن يتصرّف كعلّة نهائية؛ فهو الخير الذي ترغب به كلّ الأشياء، ولذلك فهو يعمل كـ”مِقوَد ودفّة، يبقي نسيج العالم في حالة مستقرّة ويبعده عن الفساد”؛ وبهذا فهي تصوّر لنا إلهًا لا يتدخّل على الإطلاق، مترأسًا لكون جيّد التنظيم، وجودة التنظيم هذه تتأتّى من وجود الإله وحسب. ولكن كيف يتّسق هذا التفسير مع ما يظهر أنّه يحدث في الواقع من ازدهار الطالع واضطهاد الصالح، والذي بدأ بوئيتيوس كتابه بالشكوى منه؟ في الأقسام (1-4) من الفصل الرابع تبيّن الفلسفة، بالاستناد إلى محاورة (جورجياس) لأفلاطون أنّ الشرّ لا يزدهر في الحقيقة، وأنّه لا حول له ولا قوّة في واقع الأمر. وتتمحور حجّتها في ذلك حول نقطة مفادها أنّ ما يريده الجميع هو السعادة، والسعادة والخير أمر واحد؛ وعليه: فإن الإنسان الخيّر الصالح قد حقّق السعادة، أمّا الشرّير فلم ينلها؛ وبما أنّ للناس القدرة على اكتساب أو تحقيق ما يريدون فإنّ الشرّير ليس له هذه القوّة. وتحاجج أيضًا بأنّ الخيّر يحصل على مكافأته تلقائيًا لأنّه يحقّق الخير، وهو السعادة، لكونه خيّرًا؛ وفي المقابل: بما أنّ الشرّ ليس سوى الحرمان من الوجود، فإنّ من يكون شرّيرًا يعاقب نفسه، لأنّه يتوقّف حتّى عن الوجود، أي: ينقطع عن كونه الشيء الذي كان عليه (أي: كونه إنسانًا)، ويتحوّل إلى حيوان آخر أدنى شأنًا. ومن هنا فإنّ الفلسفة قادرة حتمًا على تقديم اثنين من الادّعاءات الأكثر مخالفة للبديهة بالمقارنة مع ما ورد من ادّعاءات في محاورة جورجياس، وهما: أنّ الشرّير يصبح أسعد عند منعه من الشرّ ومعاقبته عليه، وذلك بالمقارنة مع حاله حين ممارسته للشرّ آمنًا من العقوبة، وأنّ من يمارسون الظلم أتعس ممّن يعانون بسببه.

وعلى الرغم ممّا سبق، نجد في بداية القسم الخامس من الفصل الرابع تغيّرا آخر في وجهة المحاججة، إذ يسمح بوئيتيوس للشخصية التي تمثّله بأن تطرح الاعتراضات البسيطة التي يقتضيها الفهم السليم إزاء الموقف الذي اتّخذته الفلسفة، فتتساءل: “من ذا العاقل الذي يفضّل أن يكون معدمًا منفيًّا ذليلًا على أن يعيش في مدينته متمتّعًا بالازدهار والثراء والاحترام والسلطة؟”، فتجيبه الفلسفة متخلّيةً تمامًا عن التفسير الذي طوّرته بدءًا من القسم الحادي عشر للفصل الثالث وما تلاه، والذي قدّمت فيه الإله باعتباره علّة نهائية لا تتدخّل، وقدّمت بدلًا عنه رؤية عن الإله باعتباره العلّة الفاعلة في كلّ شيء. والعناية الإلهية هي الرؤية الموحّدة في ذهن الإله عن مسار الأحداث، والتي تسمّى “القدر” عند بسطها في مسار الزمن، وكلّ ما يحدث على الأرض هو جزء من العناية الإلهية. وعندما ننظر للتغّير الحاصل في محاججة الفلسفة قد يبدو للوهلة الأولى وكأنّه يعسّر الإجابة على الاعتراضات البديهية التي أدلى بها بوئيتيوس عوضًا عن تسهيلها، لكنّ ما حدث فعلًا هو أنّ الفلسفة نظرت إليها كاعتراضات سهلة الإجابة إلى حدّ الاكتفاء بتفسير الأمر من خلال القول: إنّ الثواب والعقاب الظالم ظاهريًا في الدنيا يخدم على الدوام هدفًا خيّرًا وإن خفي عن الأعين؛ وعلى سبيل المثال: ابتلاء الأخيار لزيادة فضائلهم، ومساعدة الأشرار على التوبة أو على تدمير أنفسهم. وهنالك مشكلة أقلّ وضوحًا تعتري هذه المقاربة الجديدة، وهي أنّها تبدو كأنّها توحي بأنّ الإرادة البشرية محدّدة مسبقًا بواسطة العلّية. وبخلاف الكثير من الفلاسفة المحدثين، كان بوئيتيوس لا يعتقد بأنّ الإرادة تستطيع البقاء على حرّيتها، بالمعنى اللازم لعزو المسؤولية الأخلاقية، إذا كانت محدّدة مسبقًا بواسطة العلّية. وعلاوة على ذلك، تصرّ الفلسفة في الكتاب على أنّ سلسلة العلّية التابعة للعناية الإلهية، على النحو الذي تطبّق فيه من خلال القدر، تتضمّن كلّ ما يحدث. وعندما يسأل بوئيتيوس في الفصل الخامس (ق1) عن الصدفة، تفسّرها الفلسفة بأنّه يقال عن الحدث بأنّه صدفة إذا كان ناتجًا عن سلسلة من العلل غير مقصودة أو غير متوقّعة، كما هو الحال عندما يجد أحدهم كنزًا دفينًا وهو يحرث أرضه لزراعة الخضار. وتحلّ الفلسفة الإشكال بأن تحاجج في الفصل الخامس (ق2) بأنّ الأفعال العقلانية للإرادة الواعية، وبخلاف كلّ الأحداث الخارجية، لا تنتمي لسلسلة العلّية التابعة للقدر. لكنّ هذه الحرّية لا يمكن التمتّع بها إلّا من خلال “الجواهر الإلهية والعلوية” ومن قبل بشر يمارسون التفكّر في الإله؛ وهي تتضاءل وتضيع عندما يولي الناس اهتمامهم للأشياء الدنيوية ويسمحوا للرغبات بأن تزيحهم عنها.

 

  1. 6. العلم الإلهي المسبق، والإمكانية، والأزلية

في الفصل الخامس (ق3) نجد، على الرغم ممّا سبق ذكره، أنّ الشخصية التي تحكي عن لسان بوئيتيوس تطرح حجّة تقوم على أساس العلم الإلهي المسبق بالحوادث المستقبلية، ممّا يهدّد بإيصال القارئ إلى الاعتقاد بأنّ حتّى الأفعال الذهنية المتعلّقة بالإرادة هي أفعال ضرورية ولذلك فهي غير حرّة (كما يعتقد بوئيتيوس نفسه). وقد جاءت هذه الحجّة على النحو التالي: “(7) إذا كان الإله يتنبّأ بكل شيء قبل وقوعه، ولا يمكن أن يرتكب الخطأ بأيّ شكل من الأشكال، فإنّ ما تتنبّأ به العناية الإلهية سيحدث بالضرورة. (8) وإذا كان الإله يعلم مسبقًا منذ الأزل، لا بما سيفعله البشر وحسب، بل يعلم ما يخطّطون وما يشاؤون، فلن يكون هنالك حينها أيّة حرّية في الخيار، لأنّهم لن يكونوا قادرين على القيام بأيّ عمل أو أن يشاؤوا أيّة مشيئة لم تتنبّأ به العناية الإلهية المعصومة من الخطأ؛ وذلك لأنّه لو كانت المشيئات البشرية قادرة على تحقيق نتيجة مختلفة عن التنبّؤ الإلهي فلن يكون هنالك حينها علم إلهي مسبق بالمستقبل، بل مجرّد رأي غير يقيني، وأنا أرى بأنّ من الفظيع الاعتقاد بالإله على هذا النحو”.

وبما أنّ من الأمور المقبولة: أنّ الإله يعلم كلّ شيء، وأنّ هذا يعني ضمنيًا (علمه) بكلّ حدث مستقبلي، بما في ذلك: الأحداث الذهنية كالمشيئات البشرية، فإنّ الفقرتين (7) و(8) في الاقتباس السابق تنفيان أيّ نوع من أنواع الحرّية المطلوبة لتحميل المسؤولية الأخلاقية على كاهل الإنسان؛ وهي نتيجة ذات مضامين مدمّرة لما أطنبت في وصفه شخصية بوئيتيوس في (عزاء الفلسفة).

وتأتي شخصية الفلسفة في الكتاب لتقدّم جوابها لحلّ هذه المعضلة، وقد شكّل هذا الجواب أكثر أقسام الكتاب تعقيدًا وأهمّية، وهو القسم الذي لا يزال يجتذب اهتمام الباحثين في الفلسفة المعاصرة (للدين)، وقد يكون الوحيد من بين أقسام الكتاب في هذه المنزلة، وهذا السبب هو الذي جعله يُفسَّر غالبًا على أساس إطار عمل قدّمته أفكار أحدث حول مشكلة العلم الإلهي المسبق (راجع على سبيل المثال: Leftow 1991, Zagzebski 1991). وفي ما يلي محاولة، فحسب، لتقديم المناقشة على النحو الذي تتابعت به في الكتاب.

إنّ النقطة الأولى التي يجب البتّ بها هي: ما هي، تحديدًا، المشكلة التي تطرحها شخصية بوئيتيوس؟ من الطرق التي يمكننا أن نقرأ بها المناقشة أن ننظر إليها كمغالطة، وعلى هذا الأساس فإنّ البرهان في الفقرة (7) يبدو أنّه يمضي على الشكل التالي:

  1. 9. الإله يعلم بكل الأحداث، بما فيها: الأحداث المستقبلية.

  2. 10. عندما (يعلم) أحد بأنّ حدثًا ما سوف يقع، فإنّ هذا الحدث سوف يقع.

  3. 11. القضية (10) صادقة بحكم الضرورة، لأنّ من المستحيل أن يعلم أحد أمرًا ليس على ما هو عليه.

  4. 12. إذا علم أحد بأنّ حدثًا ما سوف يقع، فإنّ هذا الحدث سوف يقع بحكم الضرورة (10، 11).

  5. 13. كلّ الأحداث، بما فيها: الأحداث المستقبلية، ستحدث بحكم الضرورة.

ونمط البرهان في الفقرة (8) مماثل لما سبق، لكنّه يتّجه بالعكس: فبواسطة نفي القضية (13) نحصل على نفي القضية (9)، لكنّ من الواضح أنّ المحاججة (9-13) تنطوي على مغالطة: فالقضيتان (10، 11) لا تستلزمان القضية (12)، بل:

  1. 14. بحكم الضرورة: إذا علم أحد بأنّ حدثًا ما سوف يقع، فإنّ هذا الحدث سوف يقع.

والمغالطة هنا تتعلّق بنطاق عمل حكم الضرورة؛ وهذا يعني أنّ بوئيتيوس قد أخطأ عندما استدلّ على الضرورة (ضيّقة النطاق) للنتيجة (وقوع الحدث)، بينما لا يمكنه أن يستدلّ سوى على ضرورة (واسعة النطاق) للقضية الشرطية بأكملها (“إذا علم أحد بأنّ حدثًا ما سوف يقع، فإنّ هذا الحدث سوف يقع”). ومن الواضح أنّ شخصية بوئيتيوس وقعت في فخّ هذه المغالطة، وليس هنالك أيّ سبب وجيه يدعو للاعتقاد بأنّ بوئيتيوس نفسه أدرك وقوعه في هذا الفخّ (باستثناء مقطع يرد في ما بعد فسّره بعض المفسّرون المحدثون بأنّه يدلّ على إدراكه لهذا الأمر). ومع ذلك، فإنّ المناقشة التالية لا تقدّم نفسها على أنّها خالية من الإشكاليات، ويبدو أنّ مكمن الخطر في هذا الأمر؛ إذ يدرك بوئيتيوس بحدسه أنّ التهديد الذي تحمله العناية الإلهية للأحداث المستقبلية الممكنة لا ينشأ من مجرّد الادّعاء بأنّ ما يعتقده الإله حول المستقبل هو (علم)، بل ينشأ أيضًا من حقيقة مفادها أنّ ما يعتقده الإله هو حول (المستقبل). وهذه مشكلة حقيقية، لأنّ الإله يعلم ما سأقوم به غدًا، ويبدو أنّ هذا يعني: إما أنّ ما سأقوم به مقرّر مسبقًا، وإما أنّني سأمتلك غدًا القوّة على تغيير العلم الإلهي الحالي إلى ظنٍّ كاذب. وعلى الرغم من أنّ الصياغة المنطقية التي قدّمها بوئيتيوس لا تحيط بكلّ أبعاد المشكلة، فمن الواضح أنّ الحلّ الذي أعطاه للفلسفة مصمّم للتعاطي مع هذه المشكلة.

ويمكن أيضًا أن نقرأ المسألة التي تطرحها شخصية بوئيتيوس على نحو لا يتضمّن معه مغالطة (Marenbon 2013)؛ ووفقًا لهذه القراءة تقوم شخصية بوئيتيوس بطرح حجّة تندرج في إطار الفلسفة المتعالية، فهو يعتقد بأنّه عندما يعلم أحدٌ حدثًا مستقبليًا، بخلاف من هو يمتلك رأيًا حوله فحسب، فإنّه يحكم على هذا الحدث باعتباره حدثًا مثبّتًا، لأنّه لو لم يكن كذلك لكان أمرًا يتعلّق بالرأي لا العلم. ولو كانت الأحداث المستقبلية على العكس من ذلك لكان الإله، بعلمه بها، يحمل اعتقادًا كاذبًا بشأنها، وذلك لحكمه عليها بأنّها لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه؛ لكنّ الإله لا يعتقد اعتقادات كاذبة، وبالتالي يجب أن يكون العالم على حال لا تكون فيه اعتقادات الإله بشأن أحداث المستقبل كاذبة، وعليه: فإنّ كلّ الأحداث المستقبلية يجب أن تكون مثبّتة.

وتحدّد الفلسفة في الفصل الخامس (ق4) الصعوبة المركزية التي تعاني منها شخصية بوئيتيوس، وترى بأنّها تكمن في ما يبدو من تعارض في أن لا يكون للحدث نتيجة ضرورية ما مع أنّه معلوم مسبقًا. فالتنبّؤ بأمر ما “وكأنّه أكيد” عندما لا تكون نتيجته النهائية أكيدة إنّما هو أمر “غريب عن نزاهة العلم” لأنّه يتضمّن “الحكم على شيء بأنّه غير ما هو عليه”. والفلسفة تردّ على هذه الشكوك بالمبدأ القائل “كلّ ما يُعلَم يجري إدراكه، لا وفقًا لقدرته هو، بل وفقًا لإمكانيات من يعلم”. ثمّ تطوّر الفلسفة رؤيتها في القسمين (5، 6) من الفصل الخامس بالاستناد إلى ما قد يُدعى (مبدأ أنماط الإدراك)، أي: الفكرة القائلة بأنّ العلم يخضع دائمًا للنسبية بحسب المستويات المختلفة لمن يعلمه، بما لهم من أغراض متغايرة للعلم. لكنّ هذا التنسيب محدود؛ فقد يكون الأمر نفسه صادقًا لدى عالم وكاذبًا لدى عالم آخر، لكنّ الطريقة التي يُعلَم بها أمر ما تختلف وفقًا لقدرات العالم. ثمّ تطوّر الفلسفة هذا المخطّط في ما يتعلق بالمستويات المختلفة للنفس (الذكاء، والعقل، والخيال، والحواسّ) وموضوعاتها المختلفة (الصورة الخالصة، والكلّيات المجرّدة، والصور، والأشياء الجسدية الخاصّة).

ولا تتبع الفلسفة، في هذه النقطة، الطريق الأوضح الذي قد يقترحه (مبدأ أنماط الإدراك)، وتعلن بأنّها لا تعتمد إلّا على من يعلم في ما إذا كان الأمر يُعلَم على أنّه أكيد أو لا. وربّما تقبل الفلسفة أنّ هنالك عنصرًا من اللايقين المتأصّل في الممكنات المستقبلية، بغضّ النظر عن من يعلمها؛ لكنّها تصل إلى استنتاجها من خلال التفاف أكثر تعقيدًا في المحاججة، فتحاجج بأنّ العلاقة الزمنية للتفكير الذي يعلمه من يعلمه، سواء كان هذا التفكير يُعلَم على أنّه ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، تعتمد على طبيعة من يعلم وقدرته الإدراكية. وتحاجج الفلسفة بأنّ طريقة الإله في الكينونة والعلم تتّصف بالأزلية، وبأنّ الأزلية الإلهية ليست انعدام البداية والنهاية وحسب، بل هي “الامتلاك الكلّي المتزامن الكامل لحياة مجرّدة من الحدود” (ف5 ق6).

وتحاجج الفلسفة بأنّ الكائن الذي يتّصف بالأزلية على النحو الموصوف يعلم كلّ شيء، الماضي والحاضر والمستقبل، بالطريقة نفسها التي نعلم بها، نحن الذين نعيش ضمن الزمان لا في الأزلية، ما هو الحاضر. وعليه: فبما أنّ الأحداث الممكنة في المستقبل في نظرنا تقع في الحاضر بالنسبة للإله، فليس هنالك أيّ سبب يمنع الإله من العلم بها باعتبارها أكيدة. لكن إذا كان يُعلَم بأنّها أكيدة فهل هي ممكنة حقًا؟ إن القسم الأخير من محاججة الفلسفة يتعامل مع هذه المشكلة من خلال القبول بأنّ الأحداث ليست ممكنة بالنظر إليها على أساس علم الإله بها في حاضره الأزلي، لكنّها ضرورية بطريقة خاصّة لا تتضمّن فيها أيّ قيد أو حدّ للحرّية. وتشرح الفلسفة ذلك بأنّ هنالك نوعين للضرورات: بسيط وشرطي؛ والضرورات البسيطة هي ما يمكن أن ندعوه الآن ضرورات فيزيائية أو ناموسية من أمثال: (الشمس تشرق)، أو (فلان سيموت يومًا ما)؛ وفي مقابل ذلك هنالك ضرورات شرطية من أمثال (أنا أمشي) عندما أمشي، أو عندما يراني أحدهم وأنا أمشي؛ لكنّ هذه الضرورة الشرطية لا تستلزم الاستنتاج ببساطة أنّني أمشي. وعلى الرغم أنّ هنالك عددًا من المحلّلين المحدثين فسّروا هذا المقطع باعتباره وسيلة اتّبعتها الفلسفة لتسليط الضوء على مغالطة تمييز النطاق ضمن الطريقة الأصلية التي طرح بها بوئيتيوس مشكلته، يبدو في الحقيقة أنّ الفلسفة تعمل على توضيح رؤية مختلفة جدًا. فبالاعتماد على الفهم الأرسطي للجهة المنطقية، وهو مفهوم يقبله بوئيتيوس الكاتب، يُعتبَر الحاضر ضروريًا، لأنّ “ما يكون، بالضرورة يكون، عندما يكون” (On Interpretation 19a23). والفلسفة تحاجج بأنّه ما دام الإله يعلم كلّ الأشياء وكأنّها في الحاضر، فإنّ الأحداث المستقبلية ضرورية، باعتبارها معلومة للإله، على النحو ذاته الذي تكون به كلّ الأحداث الحاضرة ضرورية. وضرورة الحاضر هذه ضرورة غير قسرية، فمن يقبل المفهوم الأرسطي للجهة المنطقية لا يعتقدون بأنّ القبول بمفهوم (حين أجلس فأنا أجلس بالضرورة) يؤدّي بأيّ شكل من الأشكال إلى تقييد حرّيتي بالوقوف. وفي الواقع، تؤكّد الفلسفة على أنّ الأحداث المستقبلية تبقى، في ذاتها، حرّة تمامًا؛ وبذلك تتمكّن من أن تشرح كيف يمكن للأحداث المستقبلية الممكنة، باعتبارها معلومة من الإله، أن يكون لها اليقينية التي تجعلها مواضيع مناسبة للعلم، لا الرأي، بينما تحتفظ في الوقت نفسه بما لها من اللاحتمية.

وعلى الرغم ممّا سبق، من المهمّ أن نضيف أنّ أحدث المفسّرين المعاصرين لا يقرؤون المحاججة الواردة في (ف5 ق3-6) على نحو يماثل ما أوردناه تمامًا (ولمن يرغب بالاطّلاع على تقييم متوازن للتفسيرات المتنوّعة، بما فيها التفسير الذي أوردناه، يمكنه الاطّلاع على ما جاء في: Sharples 2009). إذ يرى هؤلاء بأنّ الفلسفة حاججت بأنّ الإله لازماني، فتخلّصت من المشكلات المتعلّقة بالحتمية، والتي تنشأ من النظر إلى علم الإله بالممكنات المستقبلية على أنّه قد حدث في الماضي، وبالتالي فهو: مثبّت.

ومهما كان التفسير المقترح، فإنّ محاججة الفلسفة تدخل منعطفًا مفاجئًا في نهاية الكتاب؛ فعندما قام بوئيتيوس الشخصية بتقديم بيانه الأوّلي حول المشكلة، كان قد ميّز بين المشكلة ذات العلاقة (العلم الإلهي المسبق) عن مشكلة (التحديد الإلهي المسبق)، إذ شرح في (ف5 ق3)، ولأغراض تخصّ نقاشه مع الفلسفة، أنّه كان يفترض أنّ الإله لا يسبّب الأحداث التي يعلم بها مسبقًا: فهو يعلم بها لأنّها تقع، لا أنّها تقع لأنّه يعلم بها مسبقًا؛ لكنّه أضاف في أثناء النقاش أنّه لا يقبل، في الحقيقة، هذه الرؤية: فثمّة “انقلاب رأسًا على عقب” في الاعتقاد بأنّ “حدوث الأمور في وقتها يجب أن يكون سببًا للعلم المسبق الأزلي”. وهنا تعود الفلسفة إلى النقطة نفسها، فتقرّ بأنّ حدوث العلم عند الإله “يصبح مقياسًا لكلّ شيء ولا يدين بأيّ شيء لما ينطلق منه تاليًا”. وعلى الرغم من أنّ الفلسفة تعتقد بأنّها نجحت في حلّ كلّ الإشكاليات التي طرحها بوئيتيوس الشخصية، فإنّها تترك القارئ يتساءل عن ما إذا كان الإقرار الأخير، والذي يجعل الإله مقرّرًا لكلّ الأحداث، لا يقوّض ما كانت تقدّمه قبل ذلك من دفاع تفصيلي عن إمكانية المشيئة البشرية.

 

  1. 7. تفسير (عزاء الفلسفة)

من السبل المجدية حقًّا لقراءة (عزاء الفلسفة)، وكما هو الحال معظم الكتب الفلسفية، أن نأخذه على ظاهره. وعلى أساس هذه القراءة تكون الفلسفة (كشخصية في الكتاب) طرفًا مرجعيًا بوضوح، فيجب عدم التشكيك بتعاليمها، والافتراض بأنّها أحرزت نجاحًا كاملًا في تقديم العزاء لبوئيتيوس (كشخصية في الكتاب). وإن ما يُلاحَظ من تغيّرات ظاهرية في الاتّجاه في القسم الخامس من هذا المدخل الموسوعي يجب أن ينظر إليها إمّا باعتبارها مراحل في إعادة تثقيف بوئيتيوس وإمّا كآثار غير مقصودة لرغبة الكاتب بجعل كتابه خلاصة لمنظومة فلسفية تدمج عددًا من المعتقدات؛ وإنّ اعتقاد الفلسفة بأنّها قد حلّت مشكلة العلم المسبق سيجري القبول به باعتباره معتقدًا لبوئيتيوس الكاتب نفسه.

ولكن يتبقّى لدينا عدد من الأسباب التي تدعو إلى الاقتراح بأنّ نيّة بوئيتيوس الكاتب كانت أكثر تعقيدًا ممّا بدت عليه؛ ففي المقام الأول: لقد كان ليصعب على الشريحة المستهدفة من الكتاب، أي: القارئ المسيحي المثقّف، أن تتجاهل حقيقة مفادها أنّ الحوار الوارد في الكتاب يتلقّى فيه شخص مسيحي (بوئيتيوس) التعاليم من شخص يمثّل بوضوح تقاليد الفلسفة الوثنية ويقترح بعض المواقف التي قد ينظر إليها معظم المسيحيين بعين الريبة (كما هو الحال في الإشارة إلى الروح العالمية [ف3 م9]، وأزلية العالم [ف5 ق6]). ولا يتفوّه بوئيتيوس (الشخصية) بأيّ عبارة مسيحية صريحة، لكن عندما تقول الفلسفة (ف3 ق12) بأنّ “الخير الأعظم هو الذي يحكم كلّ شيء بقوّة ويدبّرها برفق”، فتحكي ما ورد في الكتاب المقدّس (سفر الحكمة؛ 8: 1)، يبدي بوئيتيوس ابتهاجه ممّا سمع، لا لأنّها قالت ما قالت وحسب، بل لأنّها استعانت “بتلك الكلمات نفسها”، وهي إشارة واضحة للقارئ بأنّه يتذكّر هويته المسيحية حتّى في خضمّ تعاليمه الفلسفية.

والسبب الثاني: أنّ بوئيتيوس اختار لكتابة (العزاء) جنسًا أدبيًا يتناوب فيه النثر والشعر (أو ما يدعى بالتهكّمية المينيپية Menippean satire)، وهو جنس أدبي يرتبط في الأذهان بالأعمال الأدبية التي تسخر من مظاهر الادّعاء بالحكمة لدى السلطات. ونجد عناصر لأدب التهكّم بادّعاءات الثقافة في كثير من الكتابات حتّى في العمل الموسوعي الضخم (زواج عطارد وعلم اللغة) لمارتيانوس كاپيلا، أحد كتّاب القرن الخامس، وهو كتاب اطّلع عليه بوئيتيوس كما يتّضح من كتاباته. ولقد كان الكتّاب القدماء يفكّرون بحذر عند اختيار الجنس الأدبي المناسب لكتاباتهم، ومن الصعب الاعتقاد بأنّ اختيار بوئيتيوس لم يكن تلميحًا إلى أنّ مرجعية الفلسفة يجب أن لا ينظر إليها باعتبارها مرجعية كاملة. والسبب الثالث، وعلى ضوء السببين السابقين، هو أنّ ما يُلاحظ من تغيّرات في اتّجاه الحوار، وغياب الترابط عن المحاججة الطويلة حول العلم المسبق وفشلها في نهاية المطاف عندما تعاد صياغة المسألة فجأة لتصبح متعلّقة بالقدَر، فكلّ ذلك يوحي بوجود نقاط مقصودة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تفسير (العزاء).

ومن المفسّرين المحدثين، أمثال جويل ريليهان (Relihan 1993, 187–194; 2007)، من وصل إلى حدّ الاقتراح بأنّ (العزاء) يجب أن يُفهَم على أساس السخرية باعتباره حكاية عن فشل الفلسفة (كشخصية في الكتاب، وبشكل عام أيضًا) في تقديم العزاء في مقابل ما يمكن للدين المسيحي أن يقدّمه. وهي رؤية تبدو شديدة التطرّف، لأنّ من الواضح أنّ بوئيتيوس عانى مصاعب جمّة في التعامل مع الحجج الفلسفية الواردة في الكتاب، مضافًا إليه أنّ الخطوط الرئيسية للتفكير الفلسفي (الواردة على لسان الفلسفة كشخصية) تتلاءم بشكل جيد مع المبادئ الميتافيزيقية التي نلمحها في رسائله اللاهوتية، وحتّى في بعض النقاط الواردة في شروحه المنطقية. ومع ذلك، فلا بأس في الاعتقاد بأنّ بوئيتيوس كان يرغب بالإشارة إلى حدود الفلسفة، وذلك على الرغم من اعترافه بقيمتها، إذ كرّس لها حياته وصوّر في الكتاب تهيّؤه للموت في سبيلها؛ ولقد بيّن بأنّ هذه الحدود تقبلها الفلسفة نفسها بعد أن جعلها تعرب دون حرج عن أنّها ليست إلهية. وقد يستشفّ القارئ من كلام بوئيتيوس أنّه يريد أن يقول بأنّ الفلسفة تقدّم حججًا وحلولًا للمشاكل يجب أن يقبلها المرء، وتعلّمه طريقة للعيش واجبة الاتّباع، لكنّها تقصّر في تقديم فهم منسجم شامل للإله وعلاقته بالمخلوقات. إنّ حجّة الفلسفة يجب أن تشبع احتياجات بوئيتيوس، لكنّها لن تحقّق الإشباع التامّ. وإذا كان موقف بوئيتيوس الكاتب مطابقًا لموقف بوئيتيوس الشخصية، فيمكن القول بأنّ موقفه هذا يتلاءم كثيرًا مع الأسلوب اللاهوتي الذي كان رائده في كتابه (الموجزات القدسية).

 

  1. 8. تأثير بوئيتيوس وأهمّيته

شهدت العصور الوسطى تأثيرًا واسعًا لبوئيتيوس في كلّ المجالات الفلسفية التي عالجها في كتاباته؛ فهو يعتبر، جنبًا إلى جنب مع القدّيس أوغسطين وأرسطو، الفيلسوف واللاهوتي الرئيسي في الموروث اللاتيني.

ففي مجال المنطق، ظلّت ترجمات بوئيتيوس لكتابات أرسطو وفرفوريوس (باستثناء ترجمته الضائعة لكتاب البرهان) هي الترجمات المعيارية طوال العصور الوسطى. وكانت شروحه، وخصوصًا شرحه لـ(المقولات) وشرحه الثاني لـ(الإيساغوجي) وشرحه الثاني الأكثر تطوّرًا لـ(العبارة)، الأدوات الرئيسية التي استعان بها علماء المنطق بين القرنين التاسع والثاني عشر لفهم النصوص الأرسطية التي ترجمها، وللتعامل مع ما استعصى عليهم من إشكالياتها ومن المجموعة الواسعة للمسائل الفلسفية المتعلّقة بها، والتي برزت في أواخر التقليد الفلسفي القديم. بل إنّك تجد فلاسفة من القرن الثاني عشر، ويتمتّعون بالاستقلال الفكري من أمثال آبيلار وجيلبير دوپواتييه يدينون بفضل كبير لتلك الشروح. وهذه الأهمّية تنطبق بالتساوي على ما كتبه بوئيتيوس من كتب دراسية في علم المنطق؛ فكان الطلّاب يتعلّمون مبادئ القياس من رسائل بوئيتيوس قبل أن يصبح كتاب (القياس) متوفّرًا للجميع في أواخر القرن الثاني عشر، وكانت نظرية الحجاج القضوي، المأخوذة عن كتابه (في التمييز القضوي)، تقدّم إطار عمل لفلاسفة القرن الثاني عشر للنظر في الحجج وتحليلها، واستطاع آبيلار التوصّل لإعادة اكتشاف المنطق القضوي من خلال الجمع بين دراسة الحجاج الجدلي ونظرية القياسات النظرية كما طرحها بوئيتيوس (راجع: Martin 1987). لكنّ تأثير شروح بوئيتيوس ورسائله تضاءل بدءًا من القرن الثالث عشر، وعلى الرغم من الاستمرار بتدريس رسالتيه (في التمييز القضوي) و(في التقسيم) فإنّ رسائله في القياسات المقولاتية والنظرية لم تحظَ بالمصير نفسه، ولم يبقَ سوى القليل ممّن يستخدم هذه الشروح، لكنّ هذا القليل ضمّ اسمًا مرموقًا هو (توما الأكويني).

أمّا الرسائل اللاهوتية فيُحتَمل أنّها كانت معروفة بين طلّاب أَلكْوين في بلاط الملك شارلمان (~800م)، وهنالك تقليد يعود لمدرسة أوسير (Auxerre) في أواخر القرن التاسع يضع الكاتب بموجبه ملاحظات على نصوص رسائل بوئيتيوس. وكانت (الموجزات القدسية) تقدّم نمطًا يقلّده مفكّرو أوائل العصر الوسيط عندما يرغبون باستخدام ما تعلّموه من المنطق للتفكير في العقيدة المسيحية. ولا شكّ في أنّ أنسيلم قد اطّلع على رسائل بوئيتيوس، لكنّه بدا أقرب إلى أوغسطين. ومن يقرأ أوّل كتاب لاهوتي لأبيلارد (لاهوت الخير الأسمى)، وعلى الرغم من أصالة أفكاره، يجد بوضوح أنّه استمدّ الإلهام من رسالة بوئيتيوس الأولى (حول الثالوث). وفي أربعينيات القرن الثاني عشر شرح جيلبير دوپواتييه نظرته الميتافيزيقية واللاهوتية من خلال تفسير مفصّل لـ(الموجزات القدسية)، ونال هذا التفسير مرتبة التفسير المعياري، وذلك على الرغم من وجود تفاسير أخرى كتبها علماء من القرن الثاني عشر ذوي ميول أشدّ نحو الأفلاطونية. ومع أنّ رسالة بوئيتيوس هذه لم تكن بشكل رسمي جزءًا من مناهج اللاهوت في معظم جامعات أواخر العصر الوسيط، فلقد استمرّت دراستها، وكتب توما الأكويني شرحًا للرسالتين الأولى والثالثة منها.

وعلى الرغم من عظمة التأثير الذي تمتّعت به كتابات بوئيتيوس السابقة، فإنّ شعبية وأهمّية كتابه (عزاء الفلسفة) تخطّتها بأشواط وأشواط. إذ نجد صدى هذا الكتاب يتردّد في أحد أقدم كتب الفلسفة التي ظهرت باللاتينية في العصر الوسيط، وهو رسالة صغيرة عنوانها (حول الفلسفة الحقيقية) التي جعلها ألكوين مقدّمة لكتابه (في قواعد اللغة اللاتينية)، وظلّ يحتلّ موقعًا في قائمة الكتب المفضّلة خلال أواخر العصر الوسيط وصولًا لعصر النهضة، ولم يتزحزح عن هذه المكانة إلا في القرن الثامن عشر عندما وصفه المؤرّخ البريطاني إدوارد گيبون بعبارات إعجاب استهزائية. وإن تعدّد الترجمات هو من المعايير التي نستدلّ بها على مدى وطبيعة شريحة قرّاء (العزاء)، إذ كادت تشمل كلّ لهجات العصر الوسيط، بل تعدّتها إلى اليونانية والعبرية، ومن بين المترجمين يرد اسمان لاثنين من أعظم الكتّاب بلهجات تلك الحقبة بأكملها، وهما: جان دوميون الذي ترجم (العزاء) للفرنسية القديمة في أواخر القرن الثالث عشر، وچوسر الذي ترجم الكتاب للإنگليزية الوسيطة بعد دوميون بحوالي قرن من الزمان. وإنّ انخراط هذين الاسمين المرموقين بترجمة الكتاب يوحي بأنّ الحوار الذي كتبه بوئيتيوس أدّى إلى توليد شعبية للفلسفة خارج أسوار الجامعات؛ ويضاف إلى ذلك أنّ خصائصه الأدبية، وما به من حجج، قد ألهم الرغبة في تقليده وتأليف كتب تحاكيه على نحو مطوّر ومبتكر، بدءًا من آلان دوليل في كتابه (أسى الطبيعة) إلى كاتب أبعد زمنًا بكثير هو دانتي في كتابه (المأدبة)، وحتّى چوسر في كتابه (ترويلَس وكرِسيدا). وانضمّ الفلاسفة واللاهوتيون أيضًا إلى ركب المستفيدين من (العزاء)، فأصبح جزءًا من المنهج الدراسي من القرن التاسع إلى الثاني عشر، وعلى الرغم من أنّ نصوص أرسطو لم تترك له مجالًا في مناهج الجامعات، فلم يمنع ذلك أساتذة الجامعات وطلّابها من دراسته. وعلى سبيل المثال: إنّ تفسير توما الأكويني للخير الأسمى في كتابه (الخلاصة اللاهوتية) يبني حجّته على أساس ما ورد في (العزاء)؛ وإنّ تعريف الأزلية الذي تتفوّه به الفلسفة في الفصل الخامس أصبح نقطة انطلاق مناقشة مسألة (الإله والزمان) أينما أثيرت على نحو يكاد يشمل العصر الوسيط بأكمله.

ولقد ظهر الكثير من تفاسير (العزاء) في العصر الوسيط، ومعظمها فسّر الكتاب بأكمله، ومنها ما اكتفى بالبحث في القسم التاسع من الفصل الثالث. وفي القرنين العاشر والحادي عشر كان أكثر التفاسير شعبية بين القرّاء هو الذي كتبه ريميگيوس الأوسيري (وقد أجريت له تنقيحات كثيرة). وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر أصبح التفسير المعياري هو الذي كتبه گيوم دوكوش في عشرينيات القرن الحادي عشر، ثمّ تلاه تفسير الدومينيكي الإنگليزي نيكولاس تريڤيت ليتبوّأ تلك المنزلة من بداية القرن الرابع عشر حتّى نهاية العصور الوسطى. ومن المشكلات المركزية التي كانت تواجه كلّ من يتجشّم مهمّة تفسير (العزاء): علاقة النصّ بالتعاليم المسيحية؛ فاعتبر ريميگيوس، ووافقه گيوم دوكوش ولكن على نحو أقلّ وضوحًا، أنّ بوئيتيوس (الذي يعلمان بمسيحيته) كان يمهّد لطرح العقيدة المسيحية وإن لم يبد عليه ذلك؛ أمّا مقاربة تريڤيت فكانت أقلّ توفيقًا بين العنصرين، وإن كان لم يجد في (العزاء) أيّ أمر يستعصي تقبُّله على القارئ المسيحي.

إنّ الفقرات السابقة في هذا القسم قد يبدو أنّها تشير إلى أنّه ما من شكّ في أهمّية بوئيتيوس باعتباره فيلسوفًا، لكنّ حجم تأثيره على العصر الوسيط هو نفسه الذي أنتج موقفًا ينتشر بين مؤرّخي الفلسفة (راجع خصوصًا: Courcelle 1967) أزال بوئيتيوس كاسم أصيل في الفلسفة، ونظر إليه عوضًا عن ذلك باعتباره وسيلة انتقلت بها الأفكار الفلسفية اليونانية إلى التراث اللاتيني. ولا شكّ في أنّ أحد جوانب تأثير بوئيتيوس هو أنّه قام بإتاحة أفكار وحجج مستمدّة من أفلاطون وأرسطو والإسكندر الأفروديسي وفرفوريوس ويامبليخوس، لكنّه كان إلى جانب ذلك مفكّرًا فريدًا عبّر عن ما يرى ويستذوق، وهو لا يقلّ أصالة عن معاصريه اليونانيين (إن لم يبزّهم)؛ ويضاف إلى ذلك أنّ بوئيتيوس في كتابته لـ(عزاء الفلسفة) أظهر أنّه من الفلاسفة النادرين الذين لا يمكن الفصل بدقّة بين طرحهم الفكري وصياغتهم الأدبية المعقّدة التي يعبّرون بواسطتها عن طروحاتهم، كما فعل أفلاطون من قبله.

 


بيبليوگرافيا

Primary Texts in Latin

  • De institutione musica, G. Friedlein (ed.), Leipzig: Teubner, 1867.
  • De arithmetica, H. Oosthout and J. Schilling (eds.), Turnhout: Brepols, 1999 (Corpus Christianorum series latina 94a).
  • Commentaries on On Interpretation, C. Meiser (ed.), Leipzig: Teubner, 1887, 1880.
  • Commentaries on Isagoge, S. Brandt (ed.), Vienna/Leipzig: Tempsky/Freitag, 1906 (Corpus scriptorum ecclesiasticorum latinorum 38).
  • De divisione, J. Magee (ed.), Leiden/Boston/Cologne: Brill, 1998 (Philosophia antiqua 77).
  • De hypotheticis syllogismis, L. Obertello (ed.), with Italian translation, Brescia: Paideia, 1969 (Istituto di Filosoofia dell’Università di Parma, Logicalia 1).
  • De syllogismo categorico, C. Thomsen Thörnqvist (ed.), Gotheburg: University of Gothenburg, 2008 (Studies graeca et latina gothoburgensia 68)
  • De topicis differentiis, D.Z. Nikitas (ed.), in Boethius: De topicis differentiis kai hoi buzantines metafraseis tou Manouel Holobolou kai Prochorou Kudone, Athens/Paris/Brussels: Academy of Athens/Vrin/Ousia, 1969 (Corpus Philosophorum Medii Aevi. Philosophi Byzantini 5).
  • Introductio ad syllogismos categoricos, C. Thomsen Thornqvist (ed.), Gotheburg: University of Gothenburg, 2008 (Studies graeca et latina gothoburgensia 69).
  • An edition of the Categoriescommentary by M. Asztalos is in preparation; at the moment, the work must still be read in the edition found in J.-P. Migne, Patrologia Latina
  • Opuscula Sacraand De consolatione Philosophiae, C. Moreschini (ed.), revised edition, Munich/Leipzig: K.G. Saur, 2005.

Selected English (and other) Translations of Primary Texts

  • Bower, C. M., 1989, Boethius: Fundamental of Music, New Haven and London: Yale University Press.
  • Guillaumin, J. Y., 1995, De institutione arithmetica, edition with French translation, Paris: Belles Lettres, 1995.
  • Magee, J. (ed.), 1998,  De divisione, Leiden/Boston/Cologne: Brill, 1998 (Philosophia antiqua 77). Full English translation.
  • Relihan, J. C., 2001, Boethius, ‘Consolation of Philosophy’, Hackett: Indianapolis.
  • Spade, P.V. (trans.), 1994, Five Texts on the Mediaeval Problem of Universals: Porphyry, Boethius, Abelard, Duns Scotus, Ockham, Indianapolis, Ind./Cambridge, Mass.: Hackett. The passage on universals from the second commentary to the Isagoge.
  • Stewart, H.F, E.K. Rand, and S.J. Tester, 1973, Boethius: the Theological Tractates; the Consolation of Philosophy, Cambridge, Mass./London: Harvard University Press.
  • Stump, E., 1978, Boethius’s ‘De topicis differentiis’, Ithaca/London: Cornell University Press. Full English translation and commentary.
  • –––, 1988, Boethius’s ‘In Ciceronis Topica’, Ithaca/London: Cornell University Press. Full English translation and commentary.

Selected Secondary Works

  • Arlig, A., 2009, ‘The Metaphysics of Individuals in the Opuscula sacra,’ in Marenbon 2009, 129–54.
  • Asztalos, M., 1993, ‘Boethius as a Transmitter of Greek Logic to the Latin West: the Categories,’ Harvard Studies in Classical Philology, 95: 367–407.
  • Boehm, T., T. Jurgasch, A. Kirchner (eds.), 2014, Boethius as a Paradigm of Late Ancient Thought, Berlin/Boston: De Gruyter.
  • Chadwick, H., 1981,  The Consolations of Music, Logic, Theology, and Philosophy, Oxford : Oxford University Press.
  • Courcelle, P., 1967, La Consolation de Philosophie dans la tradition littéraire, Paris: Études Augustiniennes.
  • De Libera, A., 1999, L’Art des généralités. Théories de l’abstraction, Paris: Aubier.
  • De Rijk, L.M., 1988, ‘On Boethius’ Notion of Being. A Chapter of Boethian Semantics,’ in N. Kretzmann (ed.), Meaning and Inference in Medieval Philosophy, Dordrecht /Boston/London: Kluwer, 1–29 (Synthese Historical Library 32).
  • Donato, A., 2013, Boethius’ Consolation of Philosophy as a Product of Late Antiquity, London/New York: Bloomsbury.
  • Dronke, P., 1994, Verse with Prose from Petronius to Dante. The Art and Scope of the Mixed Form, Cambridge, Mass./London: Harvard University Press.
  • Ebbesen, S., 1990, ‘Boethius as an Aristotelian Commentator,’ in Sorabji (1990), 373–91.
  • Fuhrmann, M. and Gruber, J., 1984, Boethius, Darmstadt; Wissenschaftliche Buchgesellschaft (Wege der Forschung 483).
  • Galonnier, A. (ed.), 1984, Boèce ou la chaîne des savoirs. Actes du colloque international de la Fondation Singer-Polignac, Louvain-la-neuve, Leuven and Paris; Institut supèrieur de philosophie and Peeters (Wege der Forschung 483).
  • Gibson, M. (ed.), 1981,  His Life, Thought and Influence, Oxford: Blackwell.
  • Gruber, J., 2006, Kommentar zu Boethius De Consolatione Philosophiae, 2nd edition, Berlin/New York: De Gruyter (Texte und Kommentare—eine altertumswissenschaftliche Reihe 9).
  • Hoenen, M.F.M. and Nauta, L. (eds.), 1997, Boethius in the Middle Ages. Latin and Vernacular Tradition of the ‘Consolatio Philosophiae’, Leiden/New York/Cologne: Brill (Studien und Texte zur Geistesgeschichte des Mittelalters 58).
  • Huber, P., 1976, Die Vereinbarkeit von göttlicher Vorsehung und menschlicher Freiheit in der Consolatio Philosophiae des Boethius, Zurich: Juris.
  • Huygens, R.B.C., 1954, ‘Mittelalterliche Kommentare zum O qui perpetua…,’ Sacris Erudiri, 6: 373–427.
  • Kaylor, N. and Phillips, P. E. (eds.), 2010, A Companjon to Boethius in the Middle Ages, Leiden: Brill.
  • Kretzmann, N., 1985, ‘Nos Ipsi Principia Sumus: Boethius and the Basis of Contingency,’ in T. Rudavsky (ed.), Divine Omniscience and Omnipotence in Medieval Philosophy: Islamic, Jewish and Christian Perspectives, Dordrecht: Reidel, 23–50.
  • –––, 1998, ‘Boethius and the Truth about Tomorrow’s Sea Battle,’ in D. Blank and N. Kretzmann (trans.) Ammonius on Aristotle on Interpretation 9 with Boethius on Aristotle on Interpretation 9, Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 24–52.
  • Leftow, B., 1991, Time and Eternity, Ithaca/London; Cornell University Press.
  • MacDonald, S., 1988, ‘Boethius’s Claim that all Substances are Good,’ Archiv für Geschichte der Philosophie, 70: 245–79.
  • Magee, J., 1989, Boethius on Signification and Mind, London/New York/Copenhagen/Cologne: Brill (Philosophia Antiqua 52).
  • Maioli, B., 1978, Teoria dell’essere e dell’esistente e classificazione delle scienze in M.S. Boezio. Una delucidazione, Rome: Bulzoni (Università degli studi di Siena, Facoltà di Magistero: sede di Arezzo—Quaderni dell’Istituto di scienze filosofiche 4).
  • Marenbon, J., 2002, Boethius, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2003, ‘Rationality and Happiness: interpreting Boethius’s Consolation of Philosophy,’ in J. Yu and J.J.E. Gracia (eds.), Rationality and Happiness: from the Ancients to the Early Medievals, Rochester: University of Rochester Press, 175–97.
  • ––– (ed.), 2009, The Cambridge Companion to Boethius, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2013, ‘Divine Prescience and Contingency in Boethius’s Consolation of Philosophy’, Rivista di storia della filosofia, 68: 9-19.
  • Martin, C.J., 1987, ‘Embarrassing Arguments and Surprising Conclusions in the Development of Theories of the Conditional in the Twelfth Century,’ in J. Jolivet and A. De Libera (eds.), Gilbert de Poitiers et ses contemporains: aux origines de la logica modernorum, Naples: Bibliopolis, 377–400 (Actes du septième Symposium européen d’histoire de la logique et de la sémantique médiévales, Centre d’études supérieures de civilisation médiévale de Poitiers, 17–22 Juin 1985).
  • –––, 1991, ‘The Logic of Negation in Boethius,’ Phronesis, 36: 277–304.
  • –––, 1999, ‘Non-Reductive Arguments from Impossible Hypotheses in Boethius and Philoponus,’ Oxford Studies in Ancient Philosophy, 17: 279–302.
  • Minio-Paluello, L., 1972, Opuscula: The Latin Aristotle, Amsterdam: Hakkert.
  • Minnis, A.J. (ed.), 1987, The Medieval Boethius. Studies in the Vernacular Translations of ‘De Consolatione Philosophiae’, Cambridge: Brewer.
  • ––– (ed.), 1993, Chaucer’s Boece and the Mediaeval Tradition of Boethius, Cambridge: Brewer (Chaucer Studies 18).
  • Obertello, L., 1974, Severino Boezio, Genoa; Academia Ligure di Scienze e Lettere.
  • Relihan, J., 1993, Ancient Menippean Satire, London and Baltimore: Johns Hopkins University Press.
  • Relihan, J., 1997, The Prisoner’s Philosophy: life and death in Boethius’s Consolation, Notre Dame, Ind.: University of Notre Dame Press.
  • Schlapkohl, C., 1999, Persona est naturae rationabilis individua substantia. Boethius und die Debatte über der Personbegriff, Marburg: Elwert (Marburger Theologische Studien).
  • Schrimpf, G., 1966, Die Axiomenschrift des Boethius (De Hebdomadibus) als philosophisches Lehrbuch des Mittelalters, Leiden: Brill (Studien zur Problemgeschichte der antiken und mittelalterlichen Philosophie 2).
  • Schurr, V., 1935, Die Trinitätslehre des Boethius im Lichte der ‘Skythischen Kontroversen’, Paderborn: Schöningh (Forschungen zur christlichen Literatur und Dogmengeschichte 18,1).
  • Sharples, R., 2009, ‘Fate, prescience and free will,’ in Marenbon (2009), 207–272.
  • Shiel, J., 1990, ‘Boethius’ Commentaries on Aristotle,’ in Sorabji (1990), 349–72.
  • Sorabji, R., 1983, Time, Creation and the Continuum, London: Duckworth.
  • ––– (ed.), 1990, Aristotle Transformed: The Ancient Commentators and Their Influence, London: Duckworth.
  • Troncarelli, F., 1981, Tradizioni perdute. La ‘Consolazione Philosophiae’ nell’alto medioevo, Padua: Antenore (Medioevo e umanesimo 42).
  • –––, 1987, Boethiana aetas. Modelli grafici e fortuna manoscritta della ‘Consolatio Philosophiae’ tra IX e XII secolo, Alessandria: Edizioni dell’Orso (Biblioteca di scrittura e civiltà 2).
  • William of Conches, 1999, Glosae super Boetium, ed. L. Nauta, Turnout: Brepols (Corpus Christianorum, Continuatio Mediaevalis 158: Guillelmi de Conchis opera omnia II).
  • Zagzebski, L.T., 1991, The Dilemma of Freedom and Foreknowledge, New York/Oxford: Oxford University Press.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

Alexander of Aphrodisias | Augustine, Saint | free will | free will: divine foreknowledge and | medieval philosophy | medieval philosophy: literary forms of | modality: medieval theories of | syllogism: medieval theories of | universals: the medieval problem of

[1] Marenbon, John, “Anicius Manlius Severinus Boethius”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2016/entries/boethius/>.