مجلة حكمة
المنظومة العقابية في الفكر الديني

معضلة أبي طالب: مقاربة للمنظومة العقابية في الفكر الديني – عبدالله الحميدي


“فالجريمة إن لم تكن لها سلالة لا تستدعي العقاب … فالجريمة الأخيرة لا يمكن إلا أن تبقى دون عقاب”

فوكو حول المنظومة العقابية


  • المنظومة العقابية: مقدمة

ثمة حديث يرويه مسلم عن ابن عباس عن الرسول أنه قال (إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه). لم تكن هذه النهاية التي يرسمها هذا الحديث وغيره بالنهاية السعيدة في نظر كثيرين. خصوصاً حول رجل وقف جل حياته في خدمة تلك الدعوة الناشئة وحمايتها، متعرضاً في ذلك لمقاطعة جل قبيلته له، بل ومحاصرتهم إياه .1 بدا مثل هذه الحديث وغيره مثار إشكالية أخلاقية ونفسية عميقة تتعلق بمدى عقلانية وأخلاقية العقوبة والخلاص النهائي في الفكر الديني. إذ يبدو أن ثمة “لا اتساقية” ما بين تلك الصورة الأخلاقية التي نجدها في المدونات التاريخية لأبي طالب وبين عدم استحقاقه للخلاص النهائي. سأحاول هنا مقاربة المنظومة العقابية في الفكر الديني، وتحديداً في شقها الأخروي واستعراض الإشكال الفلسفي والأخلاقي الذي تثيره تلك النصوص ومقتضياتها. متخذاً من ” مسألة أبي طالب ” نموذجاً لهذه الإشكالية، وأعني بها الصلة مابين المحتوى العقدي وبين الأخلاقي، وذلك من ناحية كون المآلات الأخروية التي تفصح عنها المدونة الدينية بعامة، تمثل تجاوزاً أو خرقاً للمنظومة المعيارية كما هي معطاة من خلال العقل العملي بشكل عام، بل وتجاوزاً حتى للمنظومة المعيارية الدينية ذاتها.

  • المنظومة العقابية: إشكالية داخلية 

 يأتي هذا الحديث ضمن سياق دعم وتأكيد للمآلات اللاهوتية المتعلقة بمنظومة العـقاب الديني في شقة الأخروي، على الأخص تلك التي تتمحور أساساً حول الموقف السلبي من الدين إنكاراً أو رفضاً. غير أن ما تثيره منظومة العقاب الديني تلك والتي يبدو هذا الحديث أحد أهم الأمثلة عليها، هو إشكالية غياب أو تهميش “الأخلاقي” في هذه المنظومة لصالح “النظري” أي المقولات العقدية المؤسسة، والتي هي مقولات نظرية في الأساس. فالمقاربات الدينية للحديث – كما سنرى – هي مقاربات من شأنها تعزيز تلك الفكرة، أعني أولوية النظري على الأخلاقي، والتأكيد بشكل غير مباشر على أن استحقاقات الخلاص من عدمه في المنظومة الجزائية في الدين غير مرتبطة – بالأساس- باشتراطات أخلاقية، بل ما يحددها هو مجموعة من شروط نظرية في مجملها.

فهذا الحديث هو نموذج واحد من نماذج عدة توردها المدونة الحديثية فيما يتعلق بعدم إيمان أبي طالب، والتي تتضمن أيضاً روايات حول عدم إسلامه رغم إلحاح الرسول المتكرر عليه 2 وتمسكه – كما تشير بعض الروايات – بالدين السائد 3.  إلا أنه وفي في مقابل هذه السردية، ثمة محاولات عديدة حاولت تدارك هذا الحكم وخلق “سردية خلاصية”، وذلك من خلال التوسل ببعض الروايات من هنا وهناك بهدف “تخليص أبي طالب” من العذاب، لكن مع مراعاة عدم مساس هذه السردية الخلاصية بالمعايير العليا التي تحكم المنظومة الميتافيزيقية للعقاب والخلاص النهائي، وذلك بإثبات أنه كان مؤمناً بالرسالة دون أن يعلن إيمانه. في الواقع لم تكن هذه المحاولات مشغولة بإنقاذ ميتافيزيقا العدالة الإلهية بقدر ما كانت مشغولة بمحاولة إنقاذ تلك الصورة الرمزية البالغة الأخلاقية لأبي طالب من الجحيم. فسقف الثيودوسيا كما يبدو من خلال تلك المحاولات محدود جداً، بل ومرتبط بشكل كبير بنزعة عاطفية تأخذ بالاعتبار قرابته من النبي في المقام الأول. بمعنى آخر، لم تكن هذه المؤلفات التي كتبت في هذا الموضوع – ومن ضمنها أيضا تلك المؤلفات المتعلقة بنجاة والدي النبي 4- تستبطن محاولات حقيقية لعقلنة فكرة الخلاص النهائي ومن ثم العقوبة الأخروية، بقدر ما كانت محاولات ذات دوافع “عصبوية” تتعلق بالقرابة من النبي. فالناظر في تلك المؤلفات” الإنقاذية ” 5 لأبي طالب يجد أن جل مهمتها إنما ترتكز في الأساس على تلمس بعض الأحاديث والمرويات التي تثبت وجهة نظر مفادها أنه مات مؤمناً. فقد كان السؤال الأساسي التي حاولت هذه المؤلفات الإجابة عليه هو: كيف يمكن أن يكون الشخص الذي كان من الدعائم الأساسية لتلك الدعوة في بداياتها والذي وفرت مواقفه حصانة اجتماعية لصالح الدعوة الناشئة والذي تعرض بسبهها لمقاطعة جل قبيلته له ألا يكون مؤمناً، بل وأن ينتهي به الحال إلى تلك الصورة التي يرسمها ذلك الحديث؟ وأن يكون مصيره معلقاً على مجرد موقفه من نظرية ميتافيزيقية، أعني الاعتقاد ببنود عقدية معينة. وإذا كنا قد وصفناها بالنهاية الغير سعيدة، فإننا نضيف أنها غير سعيدة بمعنيين، معنى عصبوي، أي أنها جاءت مخالفة للمشاعر التي تمليها الدوافع العصبوية المتعلقة بقرابته من النبي، وغير سعيدة بمعنى أنها تجيء متناقضة – وهذا ما سأحاول إثباته – مع المفاهيم الأخلاقية لفكرة التناسب ما بين الجزاء والعقوبة من ناحية، وبين التعارض مع فكرة العدالة الإلهية من ناحية أخرى.

وهذا ما جعل – فيما يبدو – مسألة أبي طالب تشكل ما يمكن تسميته بـ “أزمة نفسية” في المخيال الديني. فالصورة الأخلاقية التي تتبدى فيها شخصية أبي طالب كما ترسمها لنا المدونات التاريخية والحديثية فيما يتعلق بالمواقف الأخلاقية البالغة العمق والشفافية تصطدم بنحو صارخ بالمآلات الأخروية التي ترسمها بعض النصوص الحديثية والتي تمت محاولة ترميمها من خلال ذلك الكم الكبير من المؤلفات.

بيد أن المعضلة التي تثيرها مسألة أبي طالب هنا بحسب المقاربات الدينية لها ليست سوى معضلة “نصية”، الأمر الذي يترتب عليه أن يكون حلها هو الآخر حلا “نصياً” وذلك من خلال التفتيش في المدونات الحديثية عما يمكن اعتباره شهادة “سلامة معتقد” تؤكد إيمانه. وبمعنى آخر فإن الإشكالية التي تدور حولها هذه المؤلفات هي إشكاليةُ مروياتٍ وسجلاتٍ تاريخية مشغولة بالتساؤل ” ما إذا كان ممكناً إيجاد نص أو رواية تدعم وتعزز القول بأن أبا طالب كان في الأساس مؤمنا؟ وهو ما يجعل هذه المعضلة مرهونة بما توفره المصادر والنصوص التاريخية.

  • إشكالية مسكوت عنها في المنظومة العقابية

إذا كانت المقاربات السائدة التي تناولت إشكالية أبي طالب – إشكالية التعارض ما بين المثال الأخلاقي وما بين العقوبة الأخروية – هي مقاربات ” نصية “، كما رأينا إلا أن ثمة إشكالية أخرى تسكت عنها تلك المؤلفات الإنقاذية، وهي إشكالية ذات ابعاد فلسفية وفكرية. والتي سأحاول هنا الوقوف على مضامينها وتبعاتها. إن الإشكال الفلسفي الغائب هنا والذي من الممكن رصدة من خلال “معضلة أبي طالب” هو العلاقة ما بين السلوك الأخلاقي والميتافيزيقيا الدينية. أو بعبارة أخرى العلاقة بين الأخلاق والعقيدة. بمعنى هل ثمة إمكانية لإيجاد علاقة تأسيسية ما بين منظومة اعتقادية ما وبين المنظومة الأخلاقية. بحيث يمثل الأخير فيها بعداً أنطولوجياً للآخر. وهو الأمر الذي سينعكس ولا بد على التفكير في وجه العدالة في استحقاق أبي طالب للعقوبة على فرض أنه مات كافراً. إذ يبدو أن التفكير في الإشكالية على هذا المستوى يخرجنا من التفكير في أشخاص محددين إلى التفكير في الإنسان ككل وإعادة النظر حول أصل تصوراتنا للعلاقة بين الإلهي والبشري وعلى أي أسس يتم تصورها. من شأن هذه الطريقة في مقاربة المسألة أن تخضع كامل المنظومة العقابية المساءلة الأخلاقية والفلسفية. وليس أبو طالب سوى مثال واقعي عليها.

 إن لجوء تلك المؤلفات الإنقاذية في محاولتها إثبات إيمان أبي طالب إلى “النص” يؤكد ذلك الهاجس الشكلي الجاف للعلاقة التي تحكم العلاقة بين المنظومة العقدية والخلاص النهائي، كاشفاً في الوقت ذاته غياب المقاربة الأخلاقية للخلاص الأخروي، الأمر الذي يتضمن هشاشة العلاقة ما بين الأخلاقوي والأخروي في المنظومة الجزائية للدين، فاستحقاق الخلاص من عدمه – وفق هذه المقاربة – أمر مرتبط بمدى سلامة المنظومة العقدية للشخص، ولا دخل للمعايير الأخلاقية له في ذلك إلا بشكل هامشي. بمعنى أن استحقاق الخلاص أو العقوبة – بشكلها الأبدي – ليس مرتبطاً في الواقع بما إذا كان الإنسان قد عاش حياة أخلاقية وإنسانية أم لا، فلا يهم ما إذا كان الإنسان قد كرس حياته في سبيل تعليم الفقراء ورعاية المرضى أو كان قاطع طريق. بل يتوقف على موقف الشخص من بنود ميتافيزيقية معينة – إقراراً أو رفضاً –  ومن ثم فإن الخلاص يعبر عن فضيلة نظرية وليست عملية. وهو الأمر الذي يفسر غياب المقاربة الفلسفية للمسألة.

تشير المعالجة النصية للإشكالية التي توردها تلك المؤلفات حول نجاة أبي تطلب إلى عدم إمكانية وجود خلاص خارج المنظومة الدينية. ويبدو أن التفكير بطريقة أخرى أمر يتجاوز سقف التفكير الديني. وهو سقف معني باحتكار الخلاص النهائي، فالثقل النفسي الذي يمثله هذ الاحتكار يمارس دوراً كبيراً في الإبقاء على ميتافيزيقا المنظومة الدينة ثابتة. ومن ثم فإن التفكير بإمكانية وجود خلاص خارج هذا الإطار من شأنه أن يجعل هذه المنظومة غير ذات قيمة. وذلك من خلال وضعها على قدم المساواة مع بقية المنظومات الدينية الأخرى. فما الذي يجعل من المنظومة س ذات أفضليه على المنظمات العقدية ص و ج، إذا كان تحصيل الخلاص متاحاً داخل كل تلك المنظومات؟ بل وما جدوى “منظومة” الدين ذاتها إذا كان الخلاص يتحصل خارج كل منظومة دينية؟ وهذا هو الأمر الذي جعل من التساؤلات الفلسفية حول العدالة الإلهية في موضوع أبي طالب غائبة وغير مفكر فيها من الأساس، فلما كان الإيمان هو السبيل الوحيد للتحصل على الخلاص، لم يكن ثمة حل سوى البحث عن “إثباتات” تؤكد هذا الإيمان ومن ثم إثبات أحقيه الخلاص. أما التفكير في عقلانية العقوبة ذاتها والبحث عن ” مبررات عقلانية ” لها فهذا ما كان يتجاوز البنية الابستمولوجية للفكر الديني. وهذه النقطة بالتحديد هي التي تجعلنا نزعم بوجود دوافع دينية “عليا ” للكلام الإسلامي – حتى في أرقى تجلياتها التنويرية كما هو الحال عند المعتزلة –  من شأنها كف يد العقلنة إلى حدود معينة. وبالتالي فلا مناص من التسليم بها واعتبارها “سقفا أعلى” من المتعذر تجاوزه دون إحداث قطيعة ابيستيمولوجية مع الأسس العامة التي يقوم عليها الاعتقاد الديني. فتحرير الأخروي من العقدي، من شأنه إحالة العقدي إلى مجرد “زائده ميتافيزيقية ” لا حاجه لها. وهذا ما يفسر لم كانت المنظومة الأخلاقية غير كافية بل وغير مطلوبة للتأسيس للأخروي بحسب التفكير الديني. لكن إذا كانت المنظومة الأخلاقية غير كافية للتأسيس للأخروي كما رأينا، فما الذي يؤسس له؟

  • العنف كتأسيس للسلطة

يبدو أن العقاب يشكل أحد أهم الآليات والمفاهيم التي تؤسس بشكل فعلي أو عملي للأخروي، فهذا الأخير إنما يدين ” بحضوره المفاهيمي ” في الواقع الدنيوي من خلال منظومة العقاب بشكل كبير. والذي يمكن اعتباره نتيجة من نتائج التطور اللاهوتي في الدين. فالعقوبة بوصفها أداة عنف ردعية بحسب المخيال الديني، تقوم بدور حيوي في الحفاظ على المحتوى الميتافيزيقي للعقيدة، فهي تقوم بنفس الوظيفة التي يقوم بها العنف في المجال السياسي، فإذا كان هذا الأخير قد ارتبط بوجود سلطة سياسية تسعى إلى الحفاظ على وجودها إزاء الانشقاقات التي تهددها، كذلك تقوم العقوبة في الميتافيزيقيا الدينية بنفس الدور هنا، لكن بوصفها أداة “عنف لاهوتي” تحاول ضبط “الواقع العقدي” إزاء أية احتجاجات أو انشقاقات فكرية. الأمر الذي من شأنه أن يخلق إطاراً نفسياً حول بعض المفاهيم الميتافيزيقية للدين وتحصينها من الإيغال في القراءة العقلانية لها أو “الاستبداد بالرأي” بحسب ما يعبر الشهرستاني 6، أو أية قراءات أخرى لا تستند إلى ذات المرجعية الفكرية التي تنطلق منها القراءة السائدة الأمر الذي يضمن قدراً من الاحتفاظ بالمستوى “الحرفي” والمادي لها دون الانجرار إلى ترميزها أو رفضها.

وهذا ما يفسر لم كانت ” المنظومة العقابية ” في اللاهوت الإسلامي عصية على العقلنة. فبسبب هذه المنظومة يحتفظ الواقع العقدي بتماسكه وثباته في تيار الواقع اليومي، فضلا عن كونها تتيح استحضار هذا المحتوى العقدي للواقع، وإخضاعه للمتطلبات والاشتراطات الدينية. ومن ثم كان من شأن فتح باب عقلنة العقاب إتاحة الفرصة للمغامرة بالورقة الرابحة للدين، والعبث بخيط السبحة الذي يضمن تماسك ” خرزاتها الميتافيزيقية “. من هنا يمكن فهم تلك الخطورة التي تمثلها مثل هذه المقاربة للدين والتي وصفها فولتير على لسان أحد الرهبان الذين التقاهم سكرمنتادو في هولندا بأنها من “الفظاعات الفاضحة” والتي لا تهدد الدين فقط بل الدولة ذاتها التي يصبح الدين هو التعبير لهويتها السياسية 7.

يمكن النظر للعنف اللاهوتي هذا أيضاً من زاوية أخرى، زاوية تأكيد السلطة الإلهية من خلال جسد الكافر. فهذه السلطة تتجلى من خلال ذلك الجسد الخاضع للعقاب، جاعلة منه موضوعاً للتأمل النظري والنفسي. فمن خلاله تحضر السلطة الإلهية 8 على المستوى النفسي والفكري وخاصة إزاء خصوم فكريين ذوي منظومات لاهوتية مختلفة. هنا على وحد التحديد تتجلى محاولة السلطة الإلهية إثبات نفسها من خلال استخدام جسد “الآخر” بوصفه أداة ردع للمنظومات الأخرى والتي ربما لا تكف هي الأخرى عن استعمال ذات التقنيات العقابية إزاء خصومها، بيد أن الدائرة الأقرب التي يخاطبها هذا الجسد الذي توضع تحت رجليه جمرات يغلي منهما دماغه، ليست دائرة الخصوم اللاهوتيين ولا حتى أصحاب الهرطقات الأخرى، أعني أصحاب المنظومات الدينية المختلفة – فهؤلاء لديهم بالفعل أجساداً أخرى يمارسون سلطتهم العقابية من خلالها، فكل منظومة دينية تحاول أن تكشف في سرديتاها الأخروية عن سلطتها من خلال “جسد آخر” –  بل يخاطب دائرة المؤمنين داخل ذات المنظومة، بغية الحفاظ على إطارها الميتافيزيقي المهدد على الدوام من الواقع اليومي، واقع الحياة العادية، ومن الواقع الفكري الذي يغري بالانجرار إليه كل من خطاب الآخر (اللاهوتي منه أو الفلسفي ). وإذا كانت تلك هي الرسالة التي تكرسها صورة الجسد المدان من قبل السلطة الإلهية فإنها من ناحية أخرى تؤكد صورة أخرى للمؤمن هذه المرة، بوصفه -زنديقا بالقوة- قابل نظرياً على الأقل للانتكاس في أي لحظة، فما يقرأه المؤمن في هذا الجسد المدان هو مساره الآخر، هرطقته المحتملة، تكاد هذه الإمكانيات التي تتيحها العقوبة من خلال هذا الجسد المدان أن تكون أساسية في تأسيس الفضاء الميتافيزيقي الأخروي للدين في الواقع، وهو الأمر الذي جعل من الحفاظ على هذا الجسد بشكل أزلي أمراً ضرورياً من أجل استمرارية حضور السلطة. فالسلطة تحضر في الجسد بوصفه الوسيلة التي تتيح لها تأكيد قبضتها على الواقع اليومي المتفلت. وعلى هذا الأساس تم منح هذا الجسد الخلود وإخضاعه لدورة لانهائية من العذاب في مشهد متكرر لا تفقده رتابة التكرار ” حيويته البائسة “، على عكس العقوبات الدنيوية التي تفقد صلاحيتها بالموت. غير أن هذا ليس كافيا، فمهما كان نوع العقوبة ودوامها فإنها تظل تمارس على جسد ذي أبعاد صغيرة نسبية، لا يلبي طموح السلطة، لذا عمدت إلى خلق امتدادات شاسعة للجسد، ذات ابعاد وامتدادات جغرافية، حيث يقدم المخيال الديني لنا وصفاً طوبوغرافياً لجسد المدان في الجحيم، محدداً المسافات التقريبية التي تفصل بين أجزاء هذا الجسد، فما “بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع” 9، لا تغفل فيه حتى الأجزاء الصغيرة من الجسد كالسن وسماكة الجلد، حيث “غلط جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة” 10، بل نجد داخل هذا الاتساع المكاني للجسد طوبوغرافيا حقيقية، أودية وأنهار وجبال، بل نجد استخداما للجغرافيا المكانية تتضمن أسماء بعض المدن والقرى بغية إضفاء بعد حسي على تلك الجغرافيا الميتافيزيقية، فنجد أسماء مدن كمكة والمدينة والبيضاء والربذة وأضم 11 ومعالم جغرافية كجبل أحد12

تعمل هذه الآلية التضخيمية للجسد على مستويين، مستوى حسي يتعلق بزيادة الألم بالنسبة للجسد المدان، ومستوى بصري وتخييلي بالنسبة للمخاطب، – ويدخل في دائرة المخاطب هذه كل من المؤمن “الكافر بالقوة” والكافر بالفعل – وذلك من خلال استبقاء ذهن المخاطب لأطول مدة ممكنة، فالجسد في هذه الصورة يحضر بكل تفاصيله، بل وحتى ما يجري في داخله13، وبهذا يصبح مهيئاً لأن تمد خلاله السلطة على مدى مساحات هائلة، بحيث تتمكن بذلك السلطة من تجاوز حالاتها التجريدية لتصبح ذات حياة حقيقية واقعية.

     وإذا كان هذا الجسد بخلوده وتحرره من قيود الزمان قد أتاح للسلطة أن تبقى وتستمر من خلال استمراريته وتظل فيه دون انقطاع، فإن تحرره من الشروط الأخلاقية يجعله مكاناً غير خاضع لأي مواضعات أخلاقية كالتي كانت تحكم التعاملات بين البشر في الدنيا، فهو لا يدخل في علاقة مع أجساد أخرى حتى يمكن تصور وجود مجال معياري يحكم هذه العلاقة، بل يوجد هنا أمام الله ذاته. الأمر الذي يجعل منه مجالاً مجرداً من أية ابعاد أخلاقية. إذ ليس ثمة معايير أخلاقية ملزمة لله بحسب التصور الكلاسيكي للدين. إن الجسد والحالة هذه محرراً، من كلا شرطي الزمن الأخلاق يصبح المجال الأمثل الذي يمكن للسلطة الإلهية أن تمارس إمكاناتها القصوى فيه ومن خلاله، فليس ثمة موت يحرر هذا الجسد من الألم، وليس ثمة مقولات معيارية يمكن لها أن تضع سقفاً أعلى للعقوبة. وهذا هو ما يفسر ذلك البذخ في التعذيب الذي يميز تلك الانتقامات الميتافيزيقية.

 ومن هنا نفهم أيضاً لم اقتصرت هذه العقلنة – كما سنرى لاحقاً –  على تبرير الجانب التكليفي فقط، في حين أغفلت الجانب الجزائي والعقابي من عملية العقلنة تلك.  فلم تتبلور لذلك نظرية في الجزاء على غرار نظرية التكليف. ولم توضع واجبات عقلية على الله فيما يتعلق بالجزاء كما وضعت في إطار مقاربة نظرية التكليف كالصلاح والأصلح واللطف. فقد كان الجهد النظري منصباً على إقامة الحجج والبراهين على إثبات الألوهية، فلتقم الحجة وليثبت التكليف، وليكن العذاب ما كان. أما تخصيص شكل العقوبة فإنه يخضع هنا للمشيئة. فعدم إدخال الشق الجزائي أو العقاب الأخروي لمسألة أبي طالب في جدل عقلاني من ناحية والتعاطي معها في حدود مسألة التكليف من ناحية أخرى هو الذي حد من جعلها ترتقي لمستوى إشكالية فلسفية وأخلاقية.

  • مآلات العقلنة

 إن إشكالية ابي طالب هنا تبرز بوصفها حاملة إشكاليتين، الأولى في معقولية العقوبة ذاته والثانية في تهميش الأخلاقي لصالح الميتافيزيقي.

إن عدم معقولية العقاب الميتافيزيقي الأخروي والمتمثلة في كل من البذخ في العقاب وتهميش الأخلاقي لصالح النظري الميتافيزيقي يدعمان فيما يبدو الفكرة القائلة بالغاية الدنيوية لفكرة العقاب الأخروي. بحيث يندرج العقاب وفق سردية خلاصية تعمل مستوى تخييلي غايتها النهائية ضبط وحكم هذا الواقع الدنيوي. على عكس الأطروحة القائلة بأن العقوبات الأخروية هي انعكاس للعقوبات الدنيوية14 .

سأحاول هنا في الشق الأخير من هذه الدراسة تلمس التبعات الفكرية التي يمكن أن تنتج عن اخضاع مفهوم العقوبة للمقولات الأخلاقية.

 بحسب التصور الإسلامي بشكل عام فإن المفهوم الاطلاقي لله – نظرياً على الأقل – هو ما يهيمن على العلاقة ما بين الله والإنسان. فليس ثمة شروط مسبقة لهذه العلاقة، وليس ثمة إلزامات ذات طبيعة معيارية تحكم هذه العلاقة على الرغم من أن جل المفاهيم التي تحاول المقاربة الفلسفية إثارتها كمفهوم العدالة والمفاهيم الأخلاقية على سبيل المثال تظل في خانة المستحيل التفكير فيه خصوصاً في إطار تلك العلاقة الاطلاقية، إلا من خلال ما يشترطه الجانب الإلهي. غير أننا نجد في المقاربة الاعتزالية، من خلال ” نظرية التكليف “، نوعاً من المحاولات الواضحة في مد تلك المقولات المعيارية التي تؤطر العلاقات البشرية إلى الله نفسه بحيث يصبح داخلاً ضمن تلك العلاقة، فما ينطبق على الشاهد في هذه الناحية ينطبق على الغائب. وهم بذلك قد حدوا بشكل كبير من التصور الاطلاقي من خلال المفاهيم المعيارية كالصلاح واللطف. من حيث اعتبارهما من الأفعال الواجبة – حسب المعتزلة – على الله، ولكونها أساسية في تصور مفهوم العدل الإلهي والذي بدونه لا يمكن تبرير العلاقة بين الله والإنسان وهي العلاقة التي تؤطرها نظرية التكليف والذي يمكن اعتباره الأساس الذي قامت عليه سيرورة العقلنة الاعتزالية، فبدون هذا التكليف لا يمكن – حسب ما يرى المعتزلة – تبرير الجزاء الأخروي فحسب، بل العلاقة ما بين الإلهي والبشري تصبح متعذرة وغير مبررة دون وجوده. وهذا التكليف هو ما يستلزم افتراض تلك المقولات المعيارية، فغيابها يعني غياب المعقولية في علاقة الله بالإنسان. كما يقول عمرو بن عبيد ” إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ، فما لله على ابن آدم حجة” 15

تجد فكرة التكليف أساسها في محاولة التبرير العقلي لفكرة الخلق، حيث تسعى إلى تنزيه أفعال الله عن العبث وتستبعد في الوقت ذاته أية تصورات من شأنها أن تشير إلى وجود نفع عائد إلى الله من عملية الخلق تلك. فإن كان ثمة غرضية في أفعال الله فهي راجعة لمصلحة الإنسان ” فإرادته لاختراع الخلق إنما حسنت، لإنها إرادة ٌ لخلقهم لينفعهم، أو إرادةٌ لخلق ما ينفع به، أو إرادةٌ لخلق الشيء للأمرين جميعاً” 16 ما يعني اعتبار أن ” مصلحة الإنسان ” هي الغاية من هذا التكليف الذي لا يخرج من وجوهٍ ” أحدها أن يريد أن ينفعه تفضلا، والثاني أن يريد تعريضه لمنفعة مستحقة على وجه التعظيم بالتكليف، والثالث أن يريد تعريضهم منفعة مستحقة على طريقة الأعواض” 17، كما “لن يجوز أن يخلق الله سبحانه وتعالى الأشياء إلا ليعتبر بها العباد وينتفعوا بها، ولا يجوز أن يخلق – الله – شيئا لا يراه أحد ولا يحس به أحد من المكلفين” 18

 كان ذلك في الواقع تقدماً في “تقنين” العلاقات الإلهية الإنسانية، بين المطلق والمتناهي. من خلال اشتراط مقولات أخلاقية عليا تؤطر تلك العلاقة. فالمطلق بهذا المعني، يكف أم يكون مطلقاً بمجرد دخوله في علاقة مع الآخر “الإنسان”، إذ ثمة شروط معيارية تفرض نفسها، لا يمكن للإله أن يقوضها ويبقى إلها في الوقت ذاته 19.

إلا ان هذا التقدم النظري كان ولابد أن يصطدم بما أسميناه قبل قليل “سقفاً أعلى” لا يمكن إعمال الآلة العقلية معه إلى نتائجها القصوى دونما تقويضٍ له. فعلى سبيل المثال حين يرى المعتزلة أنه لا يحسن أن يعذب الله بريئاً دونما ذنب ارتكبه، فإنهم بذلك يرسمون حدوداً معيارية لفكرة الألوهية، بيد أنهم يتوقفون عن وضع مثل هذه الحدود والمعايير حول فكرة العذاب ذاتها أو العقوبة ذاته. ففكرة التحسين والتقبيح لم تطبق على الألوهية سوى في جانبها التكليفي، وبالتالي فالتقدم نحو أنسنة المتعالي في الفكر الإسلامي – والتي مثل المعتزلة أعلى تجليتها – قد وقف عند حدود “نظرية التكليف”. بمعنى أن فكرة التحسين والتقبيح كان الغرض منها هو عقلنة المتعالي وتسويغه عقلياً لحساب الميتافيزيقا الدينية ذاتها، والتي ترتكز أصلا على فكرة التكليف. فالمفاهيم الأخلاقية التي أثارها الفكر الإسلامي والتي تمس التصور الإلهي كانت تقف عند حدود هذه الفكرة. فطالما استطعنا أن نبرر صحة التكليف فليس مهما بعد ذلك تبرير ما إذا كان الجزاء مبرر عقليا أم لا. فهي لا تتساءل مثلا ما إذا كان الجزاء الأخروي لأبي طالب مثلا مبرراً أم لا، فأشكال العقوبات تفلت من تلك القيود العقلانية التي أخضع من خلالها المعتزلة المطلق الإلهي لمعايير أخلاقية حاكمة.  لذلك بدا من المنطقي تماماً أن تظل “معضلة أبي طالب” خارج هذه العلاقة وأن تضل مرهونة في سياق نصي صرف. فليس من الممكن مقاربتها فلسفياً وأخلاقياً. وعليه يمكن القول بأن العقلانية الأخلاقية أو المعيارية للفكر الديني إنما تمارس دورها في الحد من المطلقية الإلهية إلى حافة الجحيم، بيد أنها – أعني المطلقية – في الداخل تعود لتستعيد كامل تفردها وتحررها من الشرط المعياري، فليس ثمة استشكالات أخلاقية أو عقلية تثيرها تلك الأجساد المشوية بخصوص العدالة أو غيرها. على هذا الأساس يمكن فهم الاستنجاد بالمدونة التاريخية والحديثية لإثبات إيمان أبي طالب بأنها كانت الفرصة الوحيدة ” لإنقاذ ابي طالب”، إذ ليس ثمة أية مجال لاستئناف عقلاني أو أية فرص تتيحها أفق العقلانية العقابية بعد الدخول للجحيم، مسرح العدالة الثابتة التي لم تعد لتقبل تعديلاً والتي يكون الأوان فيها فائتٌ على الدوام.

 إن فكرة اعتبار أن الله بصفته خالق كل شيء له الحق أن يعذب أبي طالب بغض النظر عن أعماله دون أن يُسمى ذلك ظلماً أو تعدياً من شأنه أن يؤدي إلى اعتبار ان تكون جميع المفاهيم الأخلاقية وما نعتبره حسناً أو سيئاً أموراً متساوية أمام الله. وبالتالي تصبح مفاهيم كالعدل والظلم على سبيل المثال مفاهيم محايدة لا معنى لها.

إن كانت المنظومة العقابية هنا تثير مشكلة على المستوى الأخلاقي فإنها تثيره على المستوى اللاهوتي أيضاً. وذلك من حيث كونها تقوض فكرة التنزيه الإلهي ذاتها باعتبارها صفة نقص، بل إن تمثيلها للنقص يساوي بل يزيد على صفات نقص أساسية أخرى دأب الكلام الديني في تنزيه الله عنها وأعني بها صفة الكذب، وإذا كنا اعتبرنا التنزيه من الكذب، تنزيهاً أساسياً فذلك لإنه يؤسس لمجمل الميتافيزيقيا الدينية، فبدون هذا التنزيه يتعذر اثبات النبوة أو الرسالة فضلا عن الكلام الإلهي.

فإثبات الكمال الإلهي من خلال تنزيهه من صفات النقص وهي مقاربة قائمة على قياس الغائب على الشاهد بشكل عام، فيما يعتبر نقصاً في المخلوق يعتبر نقصاً في الخالق – بشكل عام – من باب أولى، فإذا كانت صفات مثل الكذب والظلم هي صفات نقص بالنسبة للمخلوقين فإنها كذلك بالنسبة للخالق. ومن ثم فإن إيقاع العقوبة بهذا الشكل الذي رأينا لا يختلف في قبحه عن الصفات التي تم نفيها عن الله بحكم قبحها، بل وربما تضمنت العقوبة الأخروية – في حال قياس الغائب على الشاهد – من النقص أكثر بكثير من صفات النقص التي يتم نفيها عن الإله كالموت والكذب، بل حتى تصور عدم وجود إله أو أنه لم يعد موجودا على أقل تقدير، يبدو بحسب هذه المقاربة أفضل من اعتباره موجودا لكنه يوقع العقوبة بمخالفيه. وهي تشبه مقاربة الإلحاد المناصر لله pro-God atheism وهو مصطلح يشير بحسب جون شلينبيرج – الذي صك هذا المصطلح –  إلى وجود ميل متجذر في الشخص لفكرة الله أو الرغبة في اعتباره موجوداً، لكنه يحاول جاهداً تصور ذلك النوع من العوالم الرائعة التي يمكن لهذا الكائن أن يخلقها (بدلاً من مجرد الافتراض بأن مثل هذا الكائن سيخلق عالماً يشبه العالم الذي نشاهده)، لهذا السبب فأن هذا الملحد سيعتقد (جزئياً على الأقل) بأن الله غير موجود، وسيميل ربما إلى مثل هذا الرأي القائل: بأن الإيمان بالله هو إهانة لله. فهو من ناحية يفترض بأنه ارتكب أفعالًا غايةً في القسوة لا تعد ولا تحصى. ومن ناحية أخرى يفترض أنه ضلل مخلوقاته من البشر بأن منحهم أداة – عقولهم – من شأنها أن تقودهم لا محالة، إن هم استعملوها بنزاهة وصدق، إلى إنكار وجوده. من المغري الاستنتاج بأن الله إن كان موجودًا، فسيكون الملحدين واللاأدريين من بين كل أولئك الذين يدعون المعرفة، هم أكثر من سيحبهم. لأنهم هم من أخذه على محمل الجد 20 وهي مقاربة من الإلحاد تقوم على افتراض أنه إذا كان ثمة إله فمن المستحيل أن يكون لديه ذات الصفات التي تُعزى له من قبل المؤمنين. ذلك أن الكثير من هذه الصفات تتناقض وصفات الكمال. وهو ما نجده أيضا عن بلوتارخ حيث يقول” من ناحيتي فإنني أفضل أن يقول الناس بأنني لم أولد على الإطلاق، ولم يوجد شخص اسمه بلوتارخ من أن يقولوا “بأن بلوتارخ شخص متقلب، متلون، سريع الغضب، ينتقم من الاستفزازات التافهة، ويغتاظ من صغائر الأمور”. 21  

يفترض هذا الجدل أن تأسيس الدين على الميتافيزيقيا النظرية لا يجعل من الدين صالحاً من الناحية الأخلاقية بالضرورة. فمجمل البنية النظرية والعملية للمنظومة الدينية بشقها العقدي والطقوسي لا يتصور منها للوهلة الأولى فوائد عملية للبشر. فالاعتقاد في الملائكة أو الشياطين والقصص الدينية التي تتضمنها الكتب المقدسة بالإضافة إلى ممارسة الطقوس لا تنطوي على بعد عملي بالضرورة في حياة الإنسان. أما كونها تشكل دافعاً أخلاقياً عند البعض فلا يعد أمر كافياً لاعتبارها أساسية للتأسيس الأخلاقي.  فضلاً عن أن ربط المنظومة العقابية بهذا التأسيس الميتافيزيقي للدين يبدو متناقضاً مع العقل العملي. لا تعكس المنظومة الأخروية للعقاب فائدة عملية، لا على مستوى الردع ولا على مستوى الاعتبار. فالشخص الذي تم إيقاع العقوبة عليه لن يتم إصلاح حاله ولن يكون أمثولة لغيره، فالأشخاص الذين يفترض ردعهم إما أن يكونوا في الجنة أو الجحيم، فليس ثمة جرائم سترتكب أو سيتم الكف عنها بعد الآن.  “فالجريمة إن لم تكن لها سلالة لا تستدعي العقاب … فالجريمة الأخيرة لا يمكن إلا أن تبقى دون عقاب” 22

كما أن أحد جوانب تناقضها مع العقل العملي 23. هو عدم مراعاتها “مصلحة الإنسان”. وكأن الله، مثلما يقول فخر الدين الرازي، يقول للعبد ” أيها العبد حصل لنفسك المصلحة الفلانية، وإن لم تحصلها لنفسك، فأنا أعذبك أبد الآباد. فيقول العبد: يا إله العالمين: هذا الحكم متناقض. لأنه إذا كان لا مقصود لك من هذا التكليف إلا حصول منافع مخصوصة إلى، كان كل المقصود رعاية أحوالي فتعذيبي على تركها يناقض رعاية أحوالي. فكان الجمع بينهما متناقضاً. ومثاله أن يقول السيد لعبده اجتهد في هذا اليوم في كسب درهم لنفسك، فقصر العبد في ذلك، فأخذه السيد، وقرض أعضاءه بمقاريض من النار. فيقول العبد: أيها السيد: هل كنت “تطمع”24 في ذلك في ذلك الدرهم لنفسك؟ أو كنت فارغاً عن جميع المطامع العائدة إليك، وإنما أمرتني بكسب ذلك الدرهم لمصالح نفسي فقط؟ فإن كان الأول، كان هذا التعذيب حسناً، لأني سعيت في تفويت مطلوبك. وأما إن كان الثاني، كان هذا الفعل باطلاً، لأن العبد يقول: إنما أمرتني بكسب ذلك الدرهم لنفسي، ولتكون منافعه عائدة إلى، لا إليك. فلما قصرت في تحصيله، فأنا ما قصرت إلا في تحصيل المنفعة لنفسي، وتعذيب الإنسان لأجل أنه قصر في تحصيل مصالح نفسه، قبيح في العقول، لإن رعاية مصالحه، إن لم تكن واجبة الرعاية، كان تكليفه بتحصيل ذلك الدرهم لنفسه غير واجب. وإن كانت واجبة الرعاية، فأهم المهمات له: إزالة العقاب. فكان إيصال العقاب إليه لأجل أنه قصر في حق نفسه: فعلاً متناقضاً” 25. أمام هذه المعضلة العملية واللاهوتية في الوقت ذاته، لا يبدو أن ثمة إجابة سوى الالتجاء إلى فكرة المطلقية الإلهية لتسويغ فكرة العقوبة. فالفعل الإلهي وفق هذه المقاربة الإطلاقية يجد معقوليته في ذاته وليس خارجها، فلا يوجد هناك مرجعية موضوعية للمعايير الأخلاقية العليا، فالعلاقة بين الإلهي والمعياري هي علاقة غير ملزمة، ما دام الأول هو مصدر المعقولية، فليس ثمة معايير أخلاقية من شأنها أن تؤطر الفعل الإلهي، بحيث يكون خاضعاً لذات المعايير الأخلاقية التي يخض لها الفعل البشري. غير أن هذه المقاربة بالرغم من كونها تنجح في الإجابة عن السؤال حول معقولية العقاب، إلا أنها أنه تعود لتقع في معضلة أخرى، أشبه ما تكون بعدمية لاهوتية. فإذا كانت الذات الإلهية متعالية بحكم مطلقيتها على المعايير الأخلاقية فإنه هذه المعايير تقف على مستوى واحد من بالنسبة للذات الإلهية، فليس ثمة صفة أولى بها من أخرى، فليس ثمة فرق بين الصدق والكذب والعدل والظلم، ولن يكون ثمة فرق في نسبتها إليه جميعاً.  قد يجيب البعض بأن هذه الصفات وإن كانت غير ملزمة للإله إلا أن ثمة إلزام من نوع آخر، إلزام ذاتي. فالله هو من ألزم نفسه بها. فامتناع الله عن فعل معين كالكذب أو الظلم لا يعني أن الله غير قادر عليه، فجميع الأفعال مقدورة بالنسبة له، فهو قادر على الكذب وخلافه وعلى الظلم وخلافه لأن هذه هي حقيقة الفاعل المختار 26 فرغم قدرته على الكذب إلا أنه يمتنع عنه لأنه ألزم أو أوجب نفسه ذلك. لكن يبقى السؤال لماذا ألزم نفسه بذلك؟ إذا كانت الإجابة هي بسبب أن الكذب قبيح، والقبيح صفة نقص. وفاعل القبيح يستحق الوصف بالقبح، فهذا يعني أن المعايير الأخلاقية تشمل الخالق نفسه ومتعاليه بذاتها. وهي ذات المعايير الأخلاقية التي نجدها في الشاهد أو الإنسان. وإلا على أي أساس حكمنا بأن بقبح الظلم والكذب إن لم تكن مرجعتينا مستمدة من التجربة العملية للإنسان. وإذا كان ذلك صحيحاً. فإن معضلة أبي طالب أو فكرة العقوبة الأخروية لا تقل قبحاً عن الظلم أو الكذب ذاته. فالعقل الذي حكمنا بموجبه على قبح الكذب هو ذاته الذي نحكم به المنظومة العقابية ذاتها.

تبدو المقاربة الكانطية للدين أحد المحاولات لقلب العلاقة ما بين الأخلاقي والديني وتأسيس الأول منهما على الأخر، فمعروف أن مصادرات كانط الميتافيزيقية وهي الحرية والخلود وفكرة الله كانت قائمة على أساس أخلاقي في المقام الأول، فالحرية نابعة من ضرورة إطاعة الواجب، وافتراض خلود النفس لأجل ضمان تحقيق العدلة والمكافأة مقابل الأعمال الخيرة، والاعتقاد بوجود الله كوسيلة لتطبيق العدلة التي لم تتحقق في هذه الحياة.

المهم هنا أن الدين عند كانط موضوع أساساً بل لا يتم فهمه إلا في سياق محاولة التسويغ الأخلاقي، وبالتالي فبدلا من تأسيس الأخلاق على الميتافيزيقا فإن الأخلاق هنا هي المسوغ والمبرر الوحيد للدين. وبالتالي كل حديث عن أسس ميتافيزيقية للدين غير متأسسة على الأخلاق لا معنى لها وغير ذات معنى بالنسبة للإنسان بحسبه. وحتى التعاطي مع النص المقدس لا يجب إلا أن يكون في سبيل تحقيق هذه الغاية الأخلاقية “فالتحسين الخلقي للإنسان، إنما يشكل الغاية المخصوصة لكل دين عقلي”27 بل حتى الجانب التاريخي في الدين يمكن تسويغه بشرط مساهمته في هذا التأسيس الأخلاقي، ومن ثم فإن الجانب التاريخي والقصصي الذي لا يساهم في تحقيق هذه الغاية ” لا ينبغي الاكتراث به” 28


المراجع (المنظومة العقابية):

1- أنظر ابن الأثير، تاريخ ابن الأثير. عمان: بيت الأفكار الدولية. ص 213-214
2- في سيرة ابن هاشم في رجاء الرسول إسلام أبي طالب في أنه قال للنبي ” والله يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططا ؛ قال ‏‏:‏‏ فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له ‏‏:‏‏ أي عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت قال : نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، قال : فأصغى إليه بأذنه ، قال : فقال يا ابن أخي . والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أسمع ” ‏‏. أنظر ابن هشام. السيرة النبوية. بيروت: دار إحياء التراث العربي. تحقيق: مصطفى السقا وآخرون. ج 2 ص 59

3- في البخاري أنه  لما “حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ونزلت إنك لا تهدي من أحببت”

4- تكاد المؤلفات المتعلقة بإثبات نجاة والدي النبي أكثر من 42 كتابا، تجدر الإشارة إلى أن السيوطي وحده ستة كتب في إثبات نجاة والدي النبي.

5-يصل عدد الدراسات التي تناولت هذه القضية حصر المؤلفات التي حاولت الدفاع عن إسلامه إلى  37 كتابا . أنظر الشيخ المفيد. إيمان أبي طالب. بيروت.

https://www.aqaed.com/book/ 93/abi-taleb-01.html

 6- الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: سعيد الغانمي. بيروت: دار الجمل. ص 118

7- فولتير، قصص وحكايات، ترجمة: سلمان حرفوش. دمشق: دار المدى. 2006. ص 27

8- ثمة مستوى آخر تحضر فيه السلطة الإلهية حضورها في العالم اليومي الغاص بالمادة والطبيعة والحس والي يتهدد بماديته كل بعد ميتافيزيقي. وذلك من خلال تديين هذا الواقع بواسطة غمسه بممارسات لفظية وهذا ما تقوم به الطقوس في سياق تثبيت البنية الميتافيزيقية في صلب ذلك العالم اليومي سواء بمراحله المفصلية كطقوس العبور أو بمراحله العادية بدءا من الاستيقاظ والأكل ودخول السوق وركوب السيارة

9- صحيح مسلم 5059، المعجم الأوسط للطبراني 3378، البعث والنشور للبيهقي 551

10- السنة لأبي عاصم 494،

11- نعيم ابن حماد، التخويف من النار. نسخة إلكترونية.

12- “إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفا تجري فيها أودية القيح والدم”، مسند أحمد 24293

13- “ليسمع بين جلد الكافر ولحمه من جَلبة الدود كجلبة الوحش”، مصنف ابن أبي شيبة، رقم 34260

14- حول هذه المقاربة لنظرية العقاب أنظر كريستيان لانغ. العدالة والعقاب في المتخيل الإسلامي خلال العصر الوسيطز ترجمة رياض الميلادي، دار المدار الإسلامي.

15- الذهبي، سير أعلام النبلاء. تحقيق شعيب الارناؤوط. بيروت: مؤسسة الرسالة.1982. ج6 ص104

16- عبدالجبار، المغني. في أبواب العدل والتوحيد. تحقيق خضر محمد نبها. بيروت: دار الكتب العلمية.ج11 ص146

17- نفس المصدر 146

18- الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. تحقيق: محي الدين عبدالحميد. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية. 1950. ج1 ص 291

19- نفس المصدر 209

20- https://plato.stanford.edu/entries/ atheism-agnosticism/، ترجمة حكمة: الإلحاد واللاأدرية

21- Plutrach.The complete works of Plutrach. Thomas Y Crowell and Co .New York. Vol.1.1909 p589

22- فوكو. المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، بيروت: مركز الإنماء القومي. 1990، ص118

23- يلاحظ ابن سينا أن فكرة العقوبة الأخروية تنطوي على تناقض وفكرة التنزيه الإلهي حيث “لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب، على ما يظنه المتكلمون من الله تعالى من إجزاء الزاني مثلاً بوضع الأنكال والأغلال وإحراقه بالنار مرة بعد أخرى وإرسال الحيات والعقارب عليه، فإن ذلك فعل من يريد التشفي من عدوه بضرر أو ألم يلحقه ليعذبه عليه، وذلك محال في صفة الله تعالى، إذ هذا فعل من يريد أن يرتدع المنكل به عن مثل فعله، او ينزجر عن معاودة مثله، ولا يتوهم أن بعد القيامة تكليف وأمر ونهي على أحد حتى ينزجر أو يرتدع لأجل ما شاهده من الثواب والعقاب على ما يتوهمه”  ابن سينا، رسالة في سر القدر ص 305 في التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة الصوفية، حسن عاصي بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1983

24- ما بين قوسين غير موجودة في طبعة دار الكتاب العربي بتحقيق السقا، إذ يبدو أنها سقطت من النص، حيث أنها مثبته في طبعة دار ابن زيدون بتحقيق السقا نفسه.

25- الرازي. المطالب العالية من العلم الإلهي. تحقيق. أحمد حجازي السقا. بيروت: دار الكتاب العربي. 1987. ج8. ص24-25

26- الخياط.  كتاب الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد. تحقيق نيبرج. القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية. 1925. ص66

27- إيمانويل كانط، الدين في حدود مجرد العقل، فتحي المسكيني، دار جداول، الطبعة الأولى، 2012، 188

28- نفس المصدر، ص 188

المنظومة العقابية