الكاتب | بول درابر |
ترجمة | عبد الله الحميدي |
تحميل | نسخةPDF |
مدخل حول تعريفات الإلحاد، وتعريفات اللاأدرية ، وحجهما والحجة ضدهما؛ نص من (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.
الغرض من هذا المدخل هو فحص كيف يرتبط كل من الإلحاد و اللاأدرية بالتوحيد، وارتباط كل منهما بالأخر على وجه التحديد. وهو الأمر الذي يتطلب فحص المسألة المثيرة للجدل بشكل مدهش، حول أفضل السبل لتعريف كل من مصطلحي الألحاد و اللاأدرية . وبغية تسوية هذه المسألة، على الأقل لأغراض هذا المدخل، فإننا سنمهد الطريق من أجل مناقشة التمييز المهم بين كل من الإلحاد الشامل و الإلحاد المحلي، والذي من شأنه أن يكون مفيداً للتمييز بين الأشكال المختلفة من اللاأدرية . وسيتبع ذلك فحص حجة تدعم شكلا بسيطاً من اللاأدرية ، متبوعة بمناقشة ثلاثة حجج للإلحاد وحجة واحدة ضد شكل من اللاأدرية أكثر صلابة.
-
1– تعريفات الإلحاد.
-
2- تعريفات اللاأدرية
-
3- الإلحاد الشامل مقابل الإلحاد المحلي
-
4- حجة اللاأدرية
-
5- حجة الإلحاد الشامل
-
6- حجتا الإلحاد المحلي
-
6-1- كيفية المجادلة عن الإلحاد المحلي
-
6-2- الحجة المسبقة الضعف
-
6-3- حجة الدليل الحاسم
-
7- حجة ضد اللاأدرية
-
قائمة المراجع
-
أدوات أكاديمية
-
مصادر أخرى من الإنترنت
-
مواد ذات صلة
-
تعريفات “الإلحاد”
عادة ما يعرف ” الإلحاد” atheism بمصطلحات ” التوحيد ” theism. إن الفهم الأمثل للتوحيد بوصفه فرضية – يعني أن يكون إما صحيحاً أو خاطئاً. فدائما ما يتم تعريفه بأنه ” الاعتقاد بأن الله موجود”، غير أن ” الاعتقاد” هنا يعني ” الاعتقاد بشيء ما”، فهو يشير إلى المحتوى الافتراضي للاعتقاد، وليس إلى موقفٍ أو حالة شعورية للاعتقاد. وهذا هو السبب الذي يجعل من المنطقي القول بأن التوحيد هو إما صحيح أو خاطئ، وأن نجادل لصالح التوحيد أو ضده. فإذا كان الإلحاد مع ذلك يُعرف بمصطلحات التوحيد، وكان هذا الأخير عبارة عن فرضية أن الله موجود وليس حالة شعورية بالإيمان بأن ثمة إله، فإن ذلك يستتبع أن الإلحاد ليس عبارة عن غياب الحالة الشعورية للاعتقاد بأن الله موجود (سيأتي تفصيل ذلك أدناه). إن حرف “a” في كلمة “atheism” يجب أن يفهم بوصفه نفياً وليس غياباً، وأن يفهم بوصفه “ليس” not ، وليس “بدون” without. بالتالي فإن الإلحاد، في الفلسفة على الأقل، يجب أن يترجم كافتراض بأن الله غير موجود (أو بشكل أوسع، الافتراض بعدم وجود آلهة)
لهذا التعريف ميزة إضافية تجعل من الإلحاد إجابة مباشرة لأحد أهم الأسئلة الميتافيزيقية في فلسفة الدين، ألا وهي “هل هناك إله؟” ليس ثمة سوى إجابتين مباشرتين لهذه السؤال: “نعم” وهي الإيمان بالله، و “لا” وهي الإلحاد. أما الإجابات التي من قبيل “لا أعلم” “ليس هناك من يعلم”، “لست مهتما”، “لا توجد إجابات حاسمة” أو “لا معنى لهذا السؤال” فجميعها إجابات غير مباشرة للسؤال.
كما أن تعريف الإلحاد بوصفه ادعاءات ميتافيزيقية بعدم وجود الله (أو عدم وجود آلهة) هو أمر مفيد بشكل خاص لممارسة الفلسفة، غير أنه من المهم أن ندرك أن مصطلح ” الإلحاد” ينطوي على معان متعددة، – أي أن له أكثر من معنى ذي صلة- حتى داخل نطاق الفلسفة. فعلى سبيل المثال يماهي العديد من الكتاب بين الإلحاد وبين نظريات ميتافيزيقية وضعية كالمذهب الطبيعي naturalism أو حتى المذهب المادي materialism وذلك بشكل ضمني على الأقل. وبالنظر إلى هذا المعنى للكلمة فإن معنى ” الإلحاد” لا يُشتق مباشرة من معنى “التوحيد”، ففي الحين الذي يبدو فيه هذا غريباً من الناحية الاشتقاقية، فإنه يمكن ربما، المجادلة لصالح الزعم القائل بأن شيئاً ميتافيزيقياً كالمذهب الطبيعي ظل يسمى على الدوام بـ “الإلحاد” فقط بسبب الهيمنة الثقافية السائدة لأشكال غير طبيعية non-naturalist للإيمان بالله، وليس لأن وجهة النظر التي تم نعتها بذلك لم تكن أكثر من رفض الإيمان بالله. فبحسب هذه النظرة، فقد كان من الممكن أن يوجد ملحدون حتى لو لم يوجد مؤمنون على الإطلاق. ولم يكن ليُطلق عليهم مسمى ” ملحدون” (يقترح Baggini [2003] هذه الفكرة رغم أن من تعريفه “الأساسي” قائم على المعيار الميتافيزيقي) وعلى الرغم من أن هذا التعريف ” للإلحاد” هو تعريف مشروع، غير أنه غالباً ما يكون مصحوباً باستنتاجات خاطئة، بدءاً من زيف (مزعوم) أو محتمل للإلحاد (= المذهب الطبيعي) إلى الحقيقة أو الحقيقة المحتملة للتوحيد.
إذا ابتعدنا بشكل جذري عن المبدأ العام في الفلسفة، سنجد عدداً قليلاً من الفلاسفة وعدد غير قليل من غيرهم يزعمون بأن ” الإلحاد” لا يجب أن يُعرف بوصفه فرضية على الإطلاق، حتى لو كان التوحيد فرضية. بل يجب أن يُعرف ” الإلحاد” بدلا ًمن ذلك بوصفه حالة نفسية: حالة من عدم الإيمان بوجود الله (أو الآلهة). كانت هذه وجهة النظر الذائعة لاقتراح الفيلسوف أنتوني فلو Antony Flew، ويمكن القول أنها لعبت دوراً بارزاً في دفاعه (1972) عن الافتراض المزعوم ” للإلحاد”. وهذا ما أيده محررا دليل أكسفورد للإلحاد Oxford Handbook of Atheism ( (Bullivant & Ruse 2013 مفضلين هذا التعريف أيضاً، كما دافع عنه أحدهما وهو ستيفن بوليفانت (2013) على أساس منفعة علمية أكاديمية. إن حجته هي أن هذا التعريف هو أكثر نفعاً باعتباره مظلة شاملة تضم تحتها مجموعة متنوعة من المواقف التي توصف بـ الإلحاد . وباستطاعة الباحثين حينها أن يستخدموا أوصافاً من قبيل “صلب” أو “ضعيف” بغية تطوير تلك التصنيفات التي تميز أنواعاً محددة من الإلحاد . لسوء الحظ، فإن هذه الحجة تتجاهل حقيقة أنه إذا تم تعريف الإلحاد بوصفه حالة نفسية، عندها لن يكون هناك فرضية يمكن اعتبارها شكلا من أشكال الإلحاد ، وذلك بسبب أن الفرضية ليست عبارة عن حالة نفسية. وهذا ما يقوض حجته في دفاعه عن تعريف فلو، إذ أنها تقتضي أن ما يطلق عليه “الإلحاد الصلب” – فرضية (أو اعتقاد بمعنى “الاعتقاد بشيء ما”) أن الله غير موجود – لا يمثل على الحقيقة نوعاً من الإلحاد على الإطلاق. باختصار فإن مصطلح ” المظلة” الذي تم افتراضه من شأنه أن يترك الإلحاد الصلب تحت المطر.
على الرغم أن تعريف فلو “للإلحاد” يخفق بوصفه تعبيراً عن مظلة، إلا أنه يظل تعريفاً ذا مشروعية بكل تأكيد، بمعنى أنه يشير إلى الطريقة التي يُستعمل بها من قبل عدد كبير من الأشخاص، فهناك أكثر من تعريف “صحيح” “للإلحاد”. إن المسألة الأساسية بالنسبة للفلسفة هي ما هو التعريف الأكثر فائدة للأغراض العلمية الأكاديمية أو الفلسفية بشكل أكثر تحديداً. في سياقات أخرى دون شك، فإن مسألة كيفية تعريف ” الإلحاد” أو ” الملحد” تبدو مختلفة تماماً. فعلى سبيل المثال، تبدو المسألة الحاسمة في بعض السياقات هي أي تعريف “للملحد” (في مقابل “الإلحاد”) هو التعريف الأكثر مناسبة من الناحية السياسية، خصوصاً في ظل التعصب الذي يواجهه أولئك الذي يعتبرون ملحدين. إن حقيقة وجود كثرة عددية من شأنها أن توحي بتعريف أكثر شمولية “للملحد” بحيث يندرج تحته كل من ليس مؤمناً. بناءً على ما سبق قوله، لا يوجد سبب جيد، سواء أكان سياسياً أو غيره، يحمل الشخص لأن يهاجم أمثاله من غير مؤمنين الذي يعرفون أنفسهم كملحدين، لمجرد أنهم اختاروا استعمال مصطلح “ملحد” بمعنى مختلف، وشرعي على حد سواء.
إذا كان الفهم الأفضل والمعتاد للإلحاد في الفلسفة هو في اعتباره زعماً ميتافيزيقياً بأن الله غير موجود، عندها قد يتساءل الشخص ربما عن الطريقة التي يجب أن يتعامل بها الفلاسفة مع المصطلح الشائع “الإلحاد الجديد” New Atheism؟ ثمة كتابات للفلاسفة حول هذا الموضوع كما أن لديهم مجلات مكرسة (French & Wet stein 2013) للإلحاد الجديد، بيد أنه ليس ثمة إجماع محتمل حول الكيفية المثلى لتعريف هذا المصطلح. لحسن الحظ ليس ثمة حاجة لمثل هذا التعريف، ذلك لأن مصطلح “الإلحاد الجديد” لا ينتقي موقفاً أو ظاهرةً فلسفية مميزة، غير أنه تسميه شائعة لحركة بارزة ممثلة في أربعة مؤلفين – ريتشارد داوكنز Richard Dawkins، دانييل دينيت Daniel Dennett ، سام هاريس Sam Harris وكريستوفر هيشتنز Christopher Hitchens – والذين يصب عملهم بشكل موحد في انتقاد الدين. لكنه يبدو موحداً فقط من ناحية التوقيت والشعبية، علاوة على ذلك ربما يتساءل الشخص عن الشيء الجديد في هذا الإلحاد الجديد. إن الانتقادات المحددة للدين وكذلك الحجج المستخدمة للدفاع عنه ليست بالجديدة. فعلى سبيل المثال يمكن العثور على نسخة أكثر تطوراً وإقناعاً من حجة داوكنز المركزية للإلحاد في حوارات هيوم (Wielenberg 2009).. كذلك، عندما يطالب دينيت (2006) بحماس بدراسة الدين دراسة علمية بوصفه ظاهرة طبيعية، فإن مثل هذه الدراسة قد وجدت قبل مطالبته تلك بوقت طويل. في الواقع حتى المعرفة العلمية للدين قد أصبحت راسخة في تسعينيات القرن العشرين، كما يمكن تتبع أنثروبولوجيا الدين إلى القرن التاسع عشر على الأقل. أما بالانتقال من المحتوى إلى الأسلوب، فكثيرون هم من سيصابون بالدهشة من ذلك الأسلوب الشرس الذي يمارسه الملحدون الجدد، غير أن هناك الكثير من الملحدين العدوانيين الذين يحتقرون الدين بشدة وجدوا قبل هاريس وداوكنز وهيتشنز بوقت طويل (لا يعتبر دانت متشدداً على وجه الخصوص)، أخيراً، فإن الصورة النمطية للإلحاد بأنه دين أو شبه دين أو شكل غير مسبوق من الأيديولوجيا هي صورة خاطئة تماماً ويرفضها الملحدون الجدد. (لتوضيح هذه النقطة أنظر Zenk 2013)
أحد التصنيفات الأخرى للإلحاد هي “الإلحاد المتسامح”، والذي يصفه وليام رو William Rowe (1979) بأنه موقف يذهب إلى أنه على الرغم من كون الله غير موجود فإن لدى بعض الأشخاص (الذين يتمتعون بحصافة فكرية أكبر) مبررات للاعتقاد بأن الله موجود. يقارن رو وهو أحد هؤلاء الملحدين المتسامحين بين هذا الإلحاد المتسامح وبين الإلحاد اللامبالي. أما الإلحاد المتعصب فهو عبارة عن رؤية تذهب إلى اعتبار الإلحاد أمراً صحيحاً وأنه لا يوجد ما يبرر الاعتقاد (المتماسك) بوجود الله. على الرغم من مسماه المضلل، فإنه هذه الرؤية ربما تم تبنيها من قبل أشخاص أكثر ودية وانفتاحاً وتسامحاً دينياً. أخيراً، فإنه على الرغم كون رو يشير إلى “الإلحاد اللامبالي” indifferent atheism بوصفه “موقفاً”، فإنه مع ذلك لا يعتبره فرضيةً بل حالة نفسية، خصوصاً حالة الملحد الغير المتسامح أو المتعصب– أي الذي لا يؤمن بصحة كل من الإلحاد المتسامح و الإلحاد المتعصب.
ربما كان التمييز الأكثر إثارة للاهتمام هو بين الإلحاد المناصر لله pro-God atheism وبين الإلحاد المعادي له anti-God atheism. إن الملحد المناصر لله مثل جون شلينبيرج John Schellenberg (الذي صك هذا المصطلح) هو شخص يحب الله بمعنى حقيقي أو على الأقل فكرة الله، ويحاول جاهداً تصور ذلك النوع من العوالم الرائعة التي يمكن لهذا الكائن أن يخلقها (بدلاً من مجرد الافتراض بأن مثل هذا الكائن سيخلق عالماً يشبه العالم الذي نشاهده)، لهذا السبب فأن هذا الملحد سيعتقد (جزئياً على الأقل) بأن الله غير موجود، وسيميل ربما إلى مثل هذا الرأي:
إن الإيمان بالله هو إهانة لله. فهو من ناحية يفترض بأنه ارتكب أفعالًا غايةً في القسوة لا تعد ولا تحصى. ومن ناحية أخرى يفترض أنه ضلل مخلوقاته من البشر بأن منحهم أداة – عقولهم – من شأنها أن تقودهم لا محالة، إن هم استعملوها بنزاهة وصدق، إلى إنكار وجوده. من المغري الاستنتاج بأنه إن كان موجودًا، فسيكون الملحدين واللاأدريين من بين كل أولئك الذين يدعون المعرفة، هم أكثر من سيحبهم. لأنهم هم من أخذه على محمل الجد. (Strawson 1990)
على النقيض من ذلك، الملحدون المعادون لله، مثل توماس ناغل Thomas Nagel (1997: 130–131) الذين يجدون فكرة الله مؤذية بكاملها وبالتالي فهم لا يكتفون بالإيمان بعدم وجود مثل هذا الكائن، بل ويتمنون عدم وجوده. دائماً ما يطلق على ناغل مسمى “المعادي للألوهية” antitheist (e.g., Kahane 2011)، إلا أن هذا المصطلح سيتم تجنبه هنا عن عمد، لما يحمله من معانٍ مختلفة (Kahane 2011: note 9). كذلك ليس من الضروري أن يكون المرء ملحداً بأي معني من هذه المعاني لكي يكون معادياً للألوهية، ومن ثم فإن معاداة الألوهية لا تمثل أحد أنواع الإلحاد.
2 – تعريفات اللاأدرية
في أواخر القرن التاسع عشر بدأ كل من مصطلح ” اللاأدري” و “اللاأدرية” يأخذ شهرته وذلك بفضل عالم الأحياء الإنجليزي تي.اتش هكسلي. T.H. Huxley قائلا بأنه:
أدخل كلمة “اللاأدري” لكي يشير إلى الأشخاص، (أمثاله)، الذين يقرون بجهلهم التام إزاء العديد من الموضوعات التي يدعي الميتافيزيقيون واللاهوتيون سواء الأرثوذوكس منهم أو غير الأرثوذوكس معرفتها معرفة يقينية لا لبس فيها (1884).
وذلك يتضمن مسألة وجود الله بالطبع. فهو مع ذلك لم يعرف ” اللاأدرية” ببساطة بأنها حالة الشخص اللاأدري. بل هو غالباً ما يستخدم ذلك المصطلح ليشير إلى مبدأ معرفي معياري، شيء يشبه (وإن كان أضعف من) ما نطلق عليه الآن “بالإثباتية” evidentialism. ينص مبدأ هكسلي على وجه التقريب بأنه من الخطأ القول بأن شخصاً ما يعرف أو يعتقد بأن فرضية ما صحيحة دون أدلة منطقية كافية (Huxley 1884 and 1889). غير أن تطبيق هكسلي لهذا المبدأ على كل من الإيمان بالله و الإلحاد كان له في النهاية التأثير الأكبر على معنى المصطلح. مجادلاً بأنه ما دام أيٌ من تلك المعتقدات غير مدعمة بالأدلة بشكل كاف، فإنه يتحتم علينا أن نعلق الحكم حول قضية ما إذا كان يوجد أم لا يوجد إله.
في هذه الأيام، غالباً ما يستخدم مصطلح ” اللاأدري” (عندما تكون المسألة هي مسألة وجود الله) للإشارة إلى أولئك الذي يتبعون التوصية التي تنص عليها حجة هكسلي: وهي أن اللاأدري هو الشخص الذي لديه اهتمام بفرضية أن هناك إله، غير أنه لا يعتقد بصحتها ولا ببطلانها. ليس من المستغرب إذا، أن يتم تعريف مصطلح “اللاأدرية” غالباً، داخل وخارج الفلسفة، ليس على أنه مبدأ أو أي نوع آخر من الافتراضات، ولكن كحالة نفسية لكون الشخص لا أدريا. ونطلق هذا: المعنى “النفسي” للمصطلح. سيكون من المفيد دون شك أن يكون لدينا مصطلح يشير إلى الأشخاص الذين ليسوا مؤمنين ولا ملحدين. غير أن الفلاسفة قد يرغبون بأن يكون هناك مصطلح أخر يستخدم إلى جانب مصطلح ” اللاأدري” (“المتشكك اللاهوتي” ربما؟). تكمن المشكلة في أنه سيكون من المفيد جداً للأغراض الفلسفية أيضاً أن يكون لديها مسمى لذلك الموقف المعرفي الذي يتبع المقدمة الخاصة بحجة هكسلي. وهو الموقف القائل بأن كل من الإيمان بالله و الإلحاد غير معروفين، أو بشكل أكثر دقة، لا الإيمان بأن الله موجود ولا الإيمان بأن الله غير موجود يعبر عن حالة معرفية إيجابية من أي نوع. فكما أن السؤال الميتافيزيقي حول وجود الله يعتبر مركزياً بالنسبة لفلسفة الدين، فكذلك أيضاً السؤال المعرفي حول ما إذا كان الإيمان بالله أو الإلحاد معروفاً أم لا أو ما إذا كان يمتلك حالة معرفية إيجابية أخرى من أي نوع. وبالنظر إلى الاشتقاق اللغوي لكلمة ” اللاأدري” فما هو المصطلح الأفضل للإجابة السلبية للسؤال المعرفي من مصطلح “اللاأدرية “؟ من ناحية أخرى، وكما تمت الإشارة إليه سابقاً، ولأسباب وجيهة، فقد جرت العادة في الفلسفة استخدام اللاحقة “-ism” للإشارة إلى افتراض ما وليس إلى حالة أو موقف ما، طالما كان الأول فقط هو الذي يمكن اختباره بشكل معقول من خلال الحجة.
إذا كان مصطلح “اللاأدرية” مع ذلك يعرف كفرضية، فإن “اللاأدري” يجب أن يعرف وفق مصطلح “اللاأدرية” بدلاً من العكس. وعلى وجه التحديد فإن “اللاأدري” يجب أن يعرف بأنه شخص يؤمن بأن فرضية “اللاأدرية” هي فرضية صحيحة، وليس من خلال تعريف اللاأدرية بأنها حالة كون الشخص لا أدريا. وإذا كان الافتراض المعني هنا هو أنه لا الإيمان بالله ولا الإلحاد يمكن معرفة صحتهما، عندها لن يمكن لمصطلح “اللاأدري” أن يستخدم كوصف لأولئك الذين ليسوا بمؤمنين ولا بملحدين طالما أمكن للشخص أن يظل مؤمناً بأن الإلحاد (أو الإيمان بالله) صحيح، بينما ينكر إمكانية معرفة صحة الإلحاد (أو الإيمان بالله).
عندما يُستخدم مصطلح “اللاأدرية” بهذا المعنى المعرفي، فإنه يمكن بشكل طبيعي أن يمتد إلى ما وراء مسألة ما هو معروف أو يمكن معرفته ليشمل مجموعة كبيرة من الفرضيات، اعتماداً على نوع ” الحالة المعرفية الإيجابية” للقضية. فيمكن على سبيل المثال أن يتطابق مع أي من الفرضيات التالية: لا يوجد ما يبرر الايمان بالله ولا الإلحاد، ليس هناك شيء ملزم عقلانياً في كل من الإيمان بالله و الإلحاد، ليس هناك اعتقاد يمكن قبوله عقلانياً، وأن أيا من تلك المعتقدات لا تمتلك مسوغات لقبولها، وأن أيا منها غير معقول، وأن أيا منها غير محتمل. ولتجنب القضية المحيرة لطبيعة المعرفة، يمكن للمرء ببساطة أن يميز كفئات متميزة في “عائلة اللاأدرية” كل من الادعاءات التالية التي تخص الأشخاص الأكثر حصافة: (1) لا الإيمان بالله ولا الإلحاد مدعوم بشكل كاف من خلال الحالة الداخلية لهؤلاء الأشخاص (2) لا يتطابق أي من الإيمان بالله ولا الإلحاد مع بقية معتقداتهم. (3) ليس الإيمان بالله و الإلحاد هو نتاج من عملية موثوقة لإنتاج المعتقدات. (4) ليس الإيمان بالله ولا الإلحاد هو نتيجة ملكات تسعى إلى الحقيقة وتعمل بشكل صحيح في بيئة مناسبة، وما إلى ذلك.
نلاحظ أيضاً، أنه حتى لو تم تعريف اللاأدرية على أنها عبارة عن موقف متطرف لا يتمتع فيه الأيمان بالله ولا الإلحاد بوضع معرفي إيجابي من أي نوع كان، فإن ذلك لا يستتبع بحكم التعريف عدم وجود لاأدري مؤمن أو ملحد. فبعض الإيمانيين fideists، على سبيل المثال يذهبون في اعتقادهم أنه لا يمكن أن يكون أي من الإيمان و الإلحاد مدعوماً أو مقبولاً بأي حال من الأحوال من قبل العقل بسبب أن العقل يترك مسألة وجود الله دون حل تماماً. ومع ذلك فهم يؤمنون بوجود الله وأن مثل هذا الإيمان (على الأقل في بعض الحالات) ينطوي على اعتقاد. ومن ثم فإن بعض الإيمانيين هم لاأدريون بشكل متطرف بالمعنى المعرفي على الرغم من كونهم ليسوا لاأدريين بالمعنى النفسي.
من الجدير بالذكر الإشارة إلى أنه حتى في زمن هكسلي، تبنى بعض أنصار اللاهوت السلبي مصطلح ” اللأدري”، مدعين بأن جميع المسيحيين الجيدين يعبدون “إلها لا يمكن معرفته”. في الآونة الأخيرة، يطلق بعض الملحدين بفخر على أنفسهم ” الملحدون اللاأدريون”، رغم أن قليلا من التأمل، حول انسجام هذا الموقف مع موقف الإيمانيين من شأنه أن يجعلهم يترددون في ذلك على الأغلب، رغم ما يدعيه هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالملحدين اللاأدريين هو أنه في حين أن اعتقادهم في عدم وجود الله يتضمن حالة معرفية إيجابية من نوع ما (على الأقل، ليست غير عقلانية)، فإنه في المقابل يفتقر للحالة المعرفية التي يمكنها أن تحيل الإيمان الحقيقي إلى معرفة.
لاشك أن كلا معنيي “اللاأدرية” سواء المعنى النفسي والمعرفي، سيظل مستخدماً داخل وخارج الفلسفة. على أمل أن يساعد السياق في التمييز فيما بينهما. أما فيما تبقى من هذا المدخل، فسيتم استخدام مصطلح “اللاأدرية” بالمعنى المعرفي. وهذا من شأنه أن يصنع فرقاً كبيراً في مسألة التبرير. لنأخذ بالاعتبار، على سبيل المثال، هذه الفقرة التي كتبها اللاأدري أنتوني كيني Anthony Kenny (1983: 84–85) :
من جهتي لا أعرف أية حجة لصالح وجود الله يمكنني أن اعتبرها مقنعة، أعتقد أنه بإمكاني أن أجد في جميعها عيوب، وبشكل متساوٍ أيضا، فأنا لا أعرف أية حجة ضد وجود الله يمكن أن تكون مقنعة بشكل كامل، فحتى في الحجج التي أعرفها ضد وجود الله يمكنني أن أجد عيوباً أيضا. لذلك فإن موقفي الخاص من وجود الله هو موقف لاأدري.
إن التساؤل عما إذا كان عجز كيني عن إيجاد حجج تقنعه بوجود الله أو عدم وجوده يبرر له شخصياً أن يعلق الحكم حول مسألة وجود الله شيء، والتساؤل عما إذا كان هذا العجز (أو أي شيء آخر) من شأنه أن يبرر اعتقاده بأنه ليس ثمة أحد (أو على الأقل لا يوجد أحد لديه ما يكفي من الذكاء والمعرفة) يمتلك اعتقاداً مبرراً لوجود الله شيء مختلف تماماً.
إذا كانت اللاأدرية (بهذا المعنى على وجه التحديد) هي الموقف الذي يرى أنه لا الإيمان ولا الإلحاد يمكن معرفتهما، فعندها سيكون من المفيد ربما استخدام مصطلح “الغنوصية” gnosticism للإشارة إلى تناقض ذلك الموقف، مع الموقف الذي يرى أنه إما الإيمان وإما الإلحاد يمكن معرفتهما. هذه الرؤية، تأتي في شكلين: الغنوصية الإيمانية – وجهة النظر التي ترى أن الإيمان بالله يمكن معرفته (وبالتالي فإن الإلحاد لا يمكن معرفته) – والغنوصية الملحدة – وهي وجهة النظر التي ترى أن الإلحاد يمكن معرفته (بالتالي فإن الإيمان لا يمكن معرفته).
3 – الإلحاد الشامل في مقابل الإلحاد المحلي
تشير جينين ديلر Jeanine Diller (2016) إلى أنه مثلما أن لدى معظم المؤمنين مفهوماً معيناً للإله عندما يؤكدون أن الله موجود، فإن أغلب الملحدين كذلك يمتلكون مفهوماً معيناً للإله عندما يؤكدون بأن الله غير موجود. بالكاد يدرك معظم الملحدين وجود مفاهيم متنوعة لله. فعلى سبيل المثال هناك آلهة للإيمان الكلاسيكي والكلاسيكي الجديد: فإله أنسلم على سبيل المثال، أو بشكل أكثر بساطة، الخالق كلي القدرة، كلي المعرفة، كلي الخيرية يحظى باهتمام كبير في فلسفة الدين المعاصرة. هناك أيضاً آلهة محددة لديانات توحيدية غربية معينة كالمسيحية إضافة إلى الإسلام واليهودية والسيخية، والتي ربما لا تفهم أو لا تفهم بشكل جيد كآلهة كلاسيكية أو كلاسيكية جديدة. كما أن هناك أيضاً أديان وحدة الوجود وعملية توحيد الآلهة. إضافةً إلى مجموعة متنوعة لمفاهيم أخرى لله، ذات أصول غربية أو غير غربية، والتي يتم تجاهلها بشكل كبير حتى من قبل الملحدين الأكثر اطلاعاً. (من جهتهم، غالبا ما يتصرف المؤمنون الأكثر معرفة بالفلسفة، كما لو كان دحض المذهب الطبيعي من شأنه أن يؤسس وجود نوع معين للإله الذي يؤمنون به). تميز ديلر الإلحاد المحلي، الذي ينكر وجود نوع واحد من الآلهة، عن الإلحاد الشامل الذي يفترض عدم وجود أي نوع من الآلهة على الإطلاق – أي أن جميع المفاهيم المشروعة لله تفتقر إلى الأمثلة.
من الصعب جداً تبرير موقف الإلحاد الشامل (Diller 2016: 11–16). إذ أن قلة من الملحدين في الواقع يتوفرون على سبب جيد للاعتقاد بصحة ذلك طالما لم يحاول غالبية الملحدين التفكير في أكثر من واحد أو اثنين من بين العديد من المفاهيم المشروعة عن الله، والتي توجد داخل او خارج المجتمعات الدينية المتنوعة. كما أنهم لم يفكروا في المعايير التي يجب استيفاؤها من أجل اعتبار مفهوم الله “مشروعا”. ناهيك عن إمكانية وجود مفاهيم مشروعة لله لم يتم تصورها بعد، وعن الآثار المترتبة على تلك الإمكانية بالنسبة لمسألة ما إذا كان الإلحاد الشامل مبرراً أم لا. علاوة على ذلك، فإن أكثر حجج الإلحاد الطموحة التي تشيع بين الفلاسفة، هي تلك التي تحاول إظهار أن مفهوم الله غير متماسك أو أن وجوده يتناقض منطقياً إما مع وجود أنواع معينة من الشر أو مع وجود أنواع معينة من عدم الإيمان (Schellenberg 2007) ، من المؤكد أنه من غير الكافي لتبرير الإلحاد الشامل حتى مع اعتبار كونهم على حق، افتراضهم بأن الله إن كان موجوداً فيجب أن يكون كلي القدرة، كلي العلم، كامل الخيرية، كما تشير إلى ذلك شخصية كلينتيس Cleanthes في بداية الجزء الحادي عشر محاورات هيوم (أنظر أيضا Nagasawa ) فثمة مفاهيم دينية ملائمة لله لا تتطلب من أن يكون لله تلك الصفات.
ربما يعترض أولئك الذي يتبنون الإلحاد الشامل على أنه، حتى لو كان الإلحاد والمذهب الطبيعي (الميتافيزيقي) غير متطابقين، فإن الاعتقاد بالأول يمكن أن يقوم على الثاني. بمعنى، أنه إذا كان لدى أحدهم حجج جيدة لوجهة النظر القائلة بأن الطبيعة هي نظام مغلق، فإن ذلك من شأنه أن يزيل أي عبء للنظر في كل مفهوم لله على حدة، طالما كانت جميع المفاهيم المشروعة لله تفترض بأنه كينونة فوقطبيعية – لكنها مع ذلك كينونة تؤثر على الطبيعة. سواء كانت هذه الاستراتيجية لتبرير الإلحاد الشامل تعتمد أم لا على ما إذا كان من الممكن تعريف “المذهب الطبيعي” بشكل ضيق بما يكفي من أجل الإيحاء بعدم وجود كل إله، لكن ليس بالشكل الضيق الذي لا يمكن معه تقديم حجج مقنعة لحقيقته. ليست هذه بالمهمة السهلة، خصوصاً عند النظر للأعمال الأخيرة حول الأشكال الطبيعية للإيمان (e.g., Bishop 2008; Buckareff & Nagasawa 2016: Part V; Diller & Kasher 2013: Part X; and Ellis 2014). كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت الحجج الإثباتية للشر يمكنها أن تمتد لتغطي كامل المفاهيم المشروعة لله. أما إذا كانت جميع المعتقدات الإيمانية الحقيقية تستلزم أن الحقيقة المطلقة تتماشى مع كل من الخير والخلاص (بالمعنى الديني الذي يناسب ” النهائي” و” الخلاص”) فعندها ربما يمكنهم ذلك. مع ذلك، فإن المسألة الحاسمة هي أن أحداً لم يؤكد تلك المسألة حتى الآن.
فيما يتعلق بمسألة ما الذي يعتبر بالضبط مفهوماً مشروعاً أو مناسباً من الناحية الدينة لله، فهناك العديد من المقاربات التي يمكن اتباعها. أحد الاستراتيجيات العامة تكمن في تحديد الدور أو الأدوار التي يجب أن يقوم بها أي شيء يستحق اسم أو لقب “الله” ومن ثم التمييز بين المفاهيم المشروعة والغير مشروعة عن الله اعتماداً على ما إذا كان أي شيء يندرج تحت المفهوم المعني يمكنه أن يؤدى ذلك الدور بنجاح. (أنظر على سبيل المثال Le Poidevin 2010: 52; and Leftow 2016: 66–71).
المقاربة الثانية (وهي متوافقة مع الأولى) تفترض بشكل معقول أن كلمة “الله” هي لقب وليست اسم علم، ومن ثم فهي تسأل عن الشروط المطلوبة لاستحقاق ذلك اللقب (Pike 1970). إن حقيقة أن معظم الألقاب تشير إما إلى رتبة أو إلى وظيفة، فهي تفترض أن معنى “الله” هو شيء له علاقة إما بشغله موقعاً في تسلسلٍ هرمي، وإما بممارسته وظيفةً ما. على سبيل المثال، فإن التعريف المعجمي “لله” بوصفه الكائن الأسمى، وفكرة أنسلم Anselm عن الله بوصفه أعظم كائنٍ يمكن تصوره، تفترض أن لقب “الله” يشير إلى رتبة. في حين أن تعريف “الله” بوصفه ” حاكم الكون” يتناسب تماماً مع الرؤية التي ترى أن لقب “الله” يشير إلى وظيفة، كما يفسر سبب تصنيف الاسم الشائع “الله” على أنه حاكم لجزء معين من الكون أو مجال معين من النشاط البشري” (على سبيل المثال إله البحر نبتون، ومارس إله الحرب)
المقاربة الثالثة (وهي متوافقة مع المقاربتين السابقتين) تبدأ من الارتباط الوثيق بين معنى “الله” ومعنى “العبادة”. تعتبر العبادة أساسية بالنسبة للأديان التوحيدية، ومن ثم فإن الدور الأساسي الذي لا بد وأن يلعبه أي كائن للحصول على لقب “الله” هو أن يكون موضوعاً مناسباً للعبادة. رغم أن ثمة مجازفة في الوقوع في الدور هنا في حال كانت “العبادة” تُعرّف من خلال مصطلحات الأفعال والمواقف الموجهة إلى “الله” بشكل مناسب. لن يكون من الخطأ الادعاء بأن استحقاق الكائن لبعض أشكال العبادة ليس ضرورياً للألوهية فحسب، بل وكافٍ أيضاً، خصوصاً إذا كان استحقاق العبادة يتضمن استحقاق الولاء. إن التنوع الكبير في أشكال العبادة من دين لآخر هو أمر مفروغ منه تماماً، فحتى لوكان موضوع العبادة هو السمة المميزة للإله، فإن ذلك لا يعني أن المعتقدات حول الشكل الذي تبدو عليه هذه الآلهة لن تختلف بشكل كبير بين دين وآخر. ففي بعض الديانات، خصوصاً (ولكن ليس بشكل حصري) بعض الأديان التوحيدية الغربية، تستلزم العبادة تفانٍ كامل والتزام غير مشروط. إن استحقاق مثل هذا النوع من العبادة (إذا كان ذلك ممكناً بوجود مجموعة مفترضة من المتعبدين بوصفهم أشخاصاً مستقلين بالغين) يتطلب إلهاً مثيراً للإعجاب على نحو خاص، غير أنه من المشكوك فيه ما إذا كان ذلك يتطلب إلهاً كاملاً أم لا.
إذا كان الغموض الناتج عن تعريف “الله” من خلال مصطلحات استحقاق العبادة قوياً، فإن ذلك من شأنه أن يغري البعض بتبني التفسير التالي للإلحاد الشامل ونقيضه “الإيمان المتعدد”:
الإلحاد الشامل: لا يوجد كائنات تستحق العبادات الدينية.
التوحيد المتعدد: يوجد على الأقل كائن واحد على الأقل يستحق بعض أشكال العبادة الدينية.
لاحظ أن الملحد في هذا التعريف “للإلحاد الشامل”، إنما ينكر فقط وجود كائنات تستحق العبادة. ومن ثم، فإن الملحد الشامل لا يقوم بإنكار وجود أي شيء يطلق عليه أحدهم مسمى إله أو “الله”. على سبيل المثال، فحتى لوكان المصريون القدماء يعبدون الشمس ويعتبرونها مستحقةً لمثل هذه العبادة، فإن الملحد الشامل ليس بحاجة إلى إنكار وجود الشمس. حيث يستطيع الملحد الشامل بدلاً من ذلك الزعم بأن المصريين القدماء كانوا مخطئين في اعتقادهم بأن الشمس تستحق العبادة الدينية.
على نحو مشابه، لنتأمل الفقرة التالية التي كتبها ديفيد هيوم في مستهل الفصل الحادي عشر من كتاب التاريخ الطبيعي للدين:
إذا فحصنا دون تحيز، الميثولوجيا الوثنية القديمة، كما نجدها عند الشعراء، فلن نجد فيها أياً من أمثال تلك الحماقات المنافية للعقل، مثلما نميل إلى الاعتقاد بذلك لأول وهلة. أين هي الصعوبة يا ترى في تصور أن نفس القوى والمبادئ، أياً كانت، والتي شكلت هذا العالم الحسي والبشر والحيوانات، قد أنتجت أيضاً كائنات من المخلوقات العاقلة، من مادةٍ أكثر دقة وذات سلطة أكبر من البقية؟ من السهل تصور أن تكون هذه الكائنات متقلبة، منتقمة عاطفية وشهوانية، وأنه ليس ثمة ظروف أكثر ملائمة، لتوليد مثل هذه الرذائل في أنفسنا، من منح السلطة المطلقة. وباختصار، فالنظام الميثولوجي بمجمله هو نظام طبيعي جداً، بحيث يبدو أكثر من محتمل لأن يتحقق في مكان أو آخر في هذه المجموعة البالغة التنوع من الكواكب والعوالم التي يتضمنها هذا الكون. (Hume [1757] 1956: 53, emphasis added)
ثمة جدل كبير حول ما إذا كان هيوم ملحداً أو ربوبياً أم لا، غير أنه لا يمكن لأحد أن يستخدم هذه الفقرة لدعم الرأي الذي يذهب إلى أنه كان مشركاً بالفعل. ربما كان هذا بسبب، أنه حتى لو كانت هناك كائنات غريبة طبيعية تشبه إلى حد كبير الآلهة اليونانية والرومانية، تفوق البشر في قوتها غير أنها تشبههم كثيراً في صفاتهم الأخلاقية والنفسية الأخرى، فمن غير المحتمل، على الأقل في وقتنا الحالي، أن يميل أحدٌ إلى اعتبارها جديرة بالعبادة.
أحد العيوب المحتملة في التفسير المقترح للإلحاد الشامل هي أنه ينطوي على تداخل بين كل من الربوبية و الإلحاد. بالطبع، لم يمض وقت طويل على اعتبار جميع الربوبيين ملحدين. ومع ذلك، ففي الوقت الراهن فإن مصطلح “الربوبي الملحد” أو “الملحد الربوبي” ينطوي على تناقض. بالتأكيد لا يمكن اعتبار جميع الربوبيين ملحدين بحسب التفسير المفترض، بل بعضهم. فعلى سبيل المثال، لنأخذ الربوبي الذي يعتقد أنه على الرغم من وجود شخص خارق قد صمم هذا الكون عن قصد، فإن هذا الإله لم يقصد على وجه التحديد أن تتطور الحياة بشكلها الذكي وليس لديه اهتمام بأي شكل من الأشكال بظروف هذه الحياة ومصيرها. مثل هذا الإله لن تكون مستحقاً لأن يعبد من قبل أيٍ كان، خصوصاً إذا كان استحقاق العبادة يستلزم استحقاق الولاء، وهكذا يمكن القول بأنه لن يكون إلهاً “توحيديا”، ما يعني أن الملحد بحسب التفسير المفترض يمكنه أن يظل معتقداً بوجود مثل هذا الإله. ربما يجب عندئذٍ تعريف ” الإلحاد الشامل ” بوصفه الفرضية التي تذهب إلى بطلان كل من التوحيد المتعدد والربوبية (المتعددة) – حيث لا توجد هناك كائنات تستحق العبادة الدينية ولا يوجد كذلك خالقين أو مصممين أذكياء للكون، سواء كانوا مستحقين للعبادة (والولاء) أم لا. حتى هذا التفسير “للإلحاد الشامل “، ربما لن يكون شاملا بشكل كاف، طالما كان هناك أدوار دينية وثيقة الصلة بلقب “الله” (وبالتالي يمكن القول بأنها تمثل مفاهيما ًمشروعة لله) يمكن أن يقوم بها أحدهم دون أن يكون موضوعاً مناسباً للعبادة ودون أن يكون مصمماً أو خالقاً كونياً.
4- حجة اللاأدرية
وفقا لأحد الأشكال البسيطة نسبياً لـ اللاأدرية، فلا التوحيد المتعدد ولا إنكاره يرى بصحة الإلحاد الشامل. يجادل روبين لي بوديفين Robin Le Poidevin (2010: 76) لصالح هذا الموقف على النحو التالي :
-
ليس هناك أساس راسخ للحكم على أن التوحيد أو الإلحاد هو في جوهره أكثر احتمالاً من الآخر.
-
لا يوجد أساس راسخ للحكم بأن الأدلة الكلية تميل لصالح التوحيد أو الإلحاد.
ينتج من (1) و (2) أن :
-
لا يوجد أساس راسخ للحكم بأن التوحيد أو الإلحاد أكثر احتمالاً من الآخر.
ينتج من (3) أن :
-
اللاأدرية صحيحة: لا يمكن معرفة صحة أيٍ من التوحيد أو الإلحاد.
يتناول بوديفين “التوحيد” بمعناه الأوسع (والذي سأطلق عليه ذلك للإشارة إلى الافتراض القائل بوجود كائن يعتبر العلة النهائية والغائية لوجود الكون والمصدر النهائي للحب والمعرفة الأخلاقية (2010: 52 (فهو لا يستخدم مصطلح “التوحيد المتعدد ” إلا أن هذا سيكون تفسيراً لما يعنيه.) فهو يقصد تقريباً “بالاحتمال الجوهري” لافتراض ما، أنه احتمالية الافتراض ” قبل أن ظهور الأدلة” (2010: 49). تعتمد هذه الاحتمالية فقط على اعتبارات مسبقة مثل الخصائص الجوهرية لمحتوى الافتراض المعني (على سبيل المثال، حجم هذا المحتوى).
يدافع لي بوديفين عن المقدمة الأولى لهذه الحجة من خلال القول، أنه في حين يعتمد الاحتمال الجوهري بشكل معقول عكسياً مع تحديد الدعوى (كلما كانت الدعوى أقل تحديداً، كلما كانت هناك طرق أكثر لأن تكون صحيحة وبالتالي تزيد احتمالية صحتها)، فمن المستحيل البرهنة على أن التوحيد المتعدد أكثر أو أقل تحديداً من إنكاره. يبدو هذا الدفاع غير مكتمل، فبالنسبة للي بوديفين لا يظهر أن تلك الاحتمالية الجوهرية للفرضية تعتمد فقط على كونها محددة، فهناك أساب وجيهة للاعتقاد بأن الأمر ليس مذلك (أنظر على سبيل المثال Swinburne 2001: 80–102). مع ذلك بإمكان لي بوديفين الرد، بأن التحديد هو المعيار الوحيد الغير مختلف عليه في الاحتمال الجوهري، والافتقار إلى الإجماع على معايير أخرى هو كل ما يُحتاج إليه للدفاع بشكل مناسب عن الفرضية (1).
أحد الطرق للدفاع عن المقدمة الثانية هي مراجعة الأدلة ذات الصلة والمجادلة حول غموضها (Le Poidevin 2010: chapter 4; and Draper 2002). أما الطريقة الأخرى فهي الإشارة إلى أن الإلحاد، والذي هو مجرد افتراض بطلان التوحيد، يتوافق مع مجموعة متنوعة لفرضيات مختلفة، وهذه الفرضيات على قدر كبير من الاختلاف حول كيفية تفسيرها للأدلة الإجمالية. ومن ثم، يتعين على الشخص لأجل تقييم كفاءة تفسير الإلحاد للأدلة الإجمالية حساب المتوسط المرجح لمدى كفاءة هذه الفرضيات الإلحادية المختلفة في تفسير الأدلة الإجمالية، حيث يكون الترجيح للاحتمالات الجوهرية المختلفة لكل هذه الفرضيات الإلحادية. وتبدو هذه المهمة صعبة للغاية (Draper 2016) ولم تتم محاولة حلها على كل حال، الأمر الذي يدعم الدعوى القائلة بأنه لا يوجد أساس راسخ للحكم حول ما إذا كانت الأدلة الكلية تدعم الإيمان أو الإلحاد.
قد يتحدى ما يطلق عليهم “بعلماء المعرفة الإصلاحيين” Reformed epistemologists (على سبيل المثال Plantinga 2000) المقدمة الثانية للحجة على أسس مفادها أن العديد من المعتقدات المتعلقة بالله، مثل العديد من المعتقدات حول الماضي، هي ” أساسية تماماً” – وذلك لكونها نتيجة عمل ملكة معرفية أساسية تدعى “الحس الإلهي” sensus divinitatis – التي هي في الواقع جزء من الدليل الكلي الذي تعتمد علية احتمالية أي حكم. مع ذلك يمكن للاأدري أن يرد بأن الحس الالهي هذا، لا يشبه الذاكرة، حيث أنه يعمل على مستوى فردي متقطع وليس على مستوى شامل. كما أنه لا يشبه أيضاً الملكات المعرفية الأساسية الأخرى، حيث يمكن مقاومته بسهولة، كما أنه يمكن بسهولة تفسير وجود المعتقدات التي يفترض أنه ينتجها دون افتراض وجود تلك الفعالية على الإطلاق. ومن ثم فإن تشبيهه بالذاكرة هو تشبيه ضعيف. بالتالي فإن المقدمة (2) تصبح مؤكدة في ظل عدم وجود أساس راسخ يمكن الحكم بموجبه على أن المعتقدات حول الله هي بشكل صحيح جزء أساسي من الأنظمة الخاصة بمعتقدات بعض المؤمنين.
بالتأكيد، حتى لو كانت مقدمتي حجة لي بوديفين صحيحة، فإن ذلك لا يستلزم أن تكون الحجة جيدة. تحتوي الحجة أيضاً على استنتاجين (من الخطوات 1 و2 إلى الخطوة 3 ومن الخطوة 3 إلى الخطوة 4)، ليس أياً منها صحيح بشكل واضح. ففيما يتعلق بالاستنتاج الأول، لنفترض على سبيل المثال، أنه حتى لو لم يكن هناك أساس راسخ للحكم على أن أيا التوحيد أو الإلحاد هو من الناحية الجوهرية أكثر احتمالاً. (تلك هي المقدمة الأولى الصحيحة لبوديفين)، فهناك أساس راسخ يمكن الحكم على أساسه بأن التوحيد ليس أكثر احتمالية جوهرية من بعض النسخ المحددة للإلحاد في المادية الاختزالية على المثال. ولنفترض أنه حتى لو لم يكن هناك أساس راسخ يمكن الحكم بموجبه حول ما إذا كانت الأدلة الإجمالية تميل إما لصالح التوحيد أو الإلحاد ( وهذه هي المقدمة الصحيحة الثانية لحجة لي بوديفين) فهناك أساس راسخ يمكن الحكم على بموجبه بأن الأدلة الكلية تميل بشكل كبير لصالح المادية الاختزالية أكثر من التوحيد ( بمعنى أن أنها تعطي الأسبقية للاحتمالية الخاصة للمادية الاختزالية أكثر بكثير مما تعطيه للتوحيد) وهذا يقتضي أن تكون كلا مقدمتي لي بوديفين صحيحة في حين أن (3) باطلة: فهناك أساس راسخ ( وذلك يتضمن نسخة الاحتمالات لمبرهنة بايز Bayes المطبقة على كل من التوحيد والمادية الاختزالية بدلا من التوحيد و الإلحاد) للحكم بأن المادية الاختزالية أكثر احتمالية أو حتى أكثر احتمالية بكثير من التوحيد ومن ثم فإن التوحيد يحتمل أن يكون أو من المرجح أن يكون خاطئاً. يمكن القول بأنه لا يمكن استخدام أية استراتيجية مماثلة لإظهار احتمالية أن يكون الإيمان بالله صحيحاً على الرغم من صحة مقدمتي لي بوديفين. لذا ربما كانت مقدمات لي بوديفين، إذا كانت مدعومة بشكلٍ كاف، أن تثبت أن الغنوصية الإيمانية خاطئة (أي إما اللاأدرية أو الغنوصية الإلحادية صحيحة) حتى لو لم تثبت بأن الغنوصية صحيحة.
5 – حجة الإلحاد الشامل
إن أغلب الحجج المعروفة للإلحاد هي حجج لنسخة معينة من الإلحاد المحلي. أحد الاستثناءات الممكنة لهذه القاعدة هي الحجة التي أصبحت مشهورة مؤخراً على يد بعض الملحدين الجدد، رغم أنها ليست من ابتكارهم. يطلق غاري جوتن Gary Gutting (2013) على هذه الحجة ” حجة عدم وجود حجج تنازع ” الإلحاد:
-
عدم وجود أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الله موجود تمثل بحد ذاتها سبباً وجيهاً للاعتقاد بأن الله غير موجود.
-
لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الله موجود.
ينتج من (1) و (2) هو أن
-
هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الله غير موجود.
لاحظ الصلة الواضحة لهذه الحجة بـ اللاأدرية . فوفقاً لأحد العناصر البارزة في عائلة اللاأدرية ، فنحن لا نملك سبباً وجيهاً للاعتقاد بأن الله موجود ولا سبباً وجيهاً كذلك للاعتقاد بأن الله غير موجود. من الواضح أنه إذا كانت المقدمة الأولى لهذه الحجة صحيحة، فإن هذه النسخة من اللاأدرية خاطئة.
هل يمكن لعدم وجود حجة تنازع صحة الحجج أن تعتبر حجة للإلحاد الشامل؟ يمكن لأحدهم الاعتراض بأن ذلك لا يشكل – بالمعنى الدقيق للكلمة – حجة لأي نوع من الإلحاد طالما كان الاستنتاج بأن الصحيح ليس هو الإلحاد بل الصحيح هو وجود سبب وجيه للاعتقاد بـ الإلحاد. إلا أن هذا ليس أكثر من مراوغة. في النهاية، تعتمد إمكانية استخدام هذه الحجة للدفاع عن الإلحاد الشامل على كيفية الدفاع عن الفرضية الأولى.
الطريقة المعتادة للدفاع عنها هو من خلال اشتقاقها من مبدأ عام معين والذي بموجبه يكون عدم وجود أسس لمزاعم من نوع معين سبباً كافياً لرفض تلك المزاعم. إن تقييد هذا المبدأ في مزاعم ” من نوع معين” هو أمر بالغ الأهمية، طاما كان المبدأ القائل بأن غياب أسس للزعم في جميع الحالات هو سبب وجيه للاعتقاد بأن ذلك الزعم خاطئ، هو أمر خاطئ بشكل واضح. ربما كان الشخص يفتقد على سبيل المثال للأسس التي تدعم الاعتقاد بأنه في المرة القادمة أثناء رمي العملة المعدنية سيظهر الوجه في الأعلى، غير أن ذلك لا يمثل سبباً جيداً للاعتقاد بأنه الوجه لن يظهر في الأعلى.
ثمة مقاربة أفضل تقوم على تقييد ذلك المبدأ إلى مزاعم متعلقة بالوجود، فهي تحيلها بالتالي إلى نسخة من نصل أوكام Ockham’s razor. فوفقاً لهذه النسخة، فإن غياب أسس من شأنها أن تدعم عبارات وجودية موجبة (مثل “الله موجود” – بغض النظر عن الكيفية التي يفهم فيها مصطلح “الله”) هو سبب جيد للاعتقاد بأن تلك العبارة خاطئة (McLaughlin 1984). أحد الاعتراضات على هذا المبدأ هو أن الأشياء ليست كلها على هذا النحو، في حال ما إذا كانت موجودة، عندها من المحتمل أن يكون لدينا أسباباً وجيهة للاعتقاد بأن تلك الأشياء موجودة، لنأخذ على سبيل المثال الحياة العاقلة في المجرات البعيدة (cf. Morris 1985).
مع ذلك يمكن أن يكون هناك مبدأ أكثر تقييداً من شأنه أن يفي بالغرض: فكلما كان الافتراض بأن الزعم الوجودي الإيجابي صحيح فذلك من شأنه أن يقود الشخص لتوقع وجود أسس لصحته، كلما كان غياب مثل هذه الأسس من شأنه أن يشكل سبباً وجيهاً للاعتقاد ببطلان ذلك الزعم. عندها يمكن المجادلة بأنه (1) من المرجح أن يقوم الله بتزويدنا بالأدلة المقنعة لوجوده، ولذلك (2) فإن غياب مثل هذه الأدلة يعد سبباً وجيهاً للاعتقاد بأن الله غير موجود. وهذا من شأنه أن يحول عدم وجود حجج تنازع الحجة إلى حجة الخفاء الإلهي. كما يحولها أيضاً في أحسن الأحوال إلى حجة لصالح الإلحاد المحلي، فحتى لو لم يختف إله التوحيد الكلاسيكي على سبيل المثال، فليس من المرجح أن تكون كل المفاهيم المشروعة لله والتي تماثل هذا الكائن الذي يجسد هذا المفهوم أن تزودنا بالدليل المقنع على وجوده.
6- حجتان للإلحاد المحلي
6-1 – كيفية المجادلة عن الإلحاد المحلي
إن نوع الله الغير موجود الذي يبدو أنه يحظى باهتمام أغلب الفلاسفة هو الله الأزلي، الغير مادي، كلي القدرة، كلي المعرفة، كلي الخير (أي ذي الكمال الخلقي) الإله الخالق الذي هو محل عبادة الكثير ذوي العقيدة القويمة من المسلمين واليهود والمسيحيين. لنطلق على الافتراض القائل بوجود إله من هذا النوع ” بالتوحيد الكلي ” omni-theism. إن السؤال المهم، إذا، يدور حول أفضل الطرق للمجادلة عن الإلحاد المحلي بوصفه الافتراض القائل بأن فرضية ” التوحيد الكلي ” باطلة.
غالبا ما يزعم أن الحجة الجيدة للإلحاد هي أمر مستحيل بسبب، أنه في الحين الذي يمكن فيه على الأٌقل إثبات وجود شيء من نوع معين، إلا أنه من المستحيل اثبات عدم وجود شيء من ذلك القبيل. أحد الأسباب لرفض هذا الزعم هو أن أوصاف بعض أنواع الأِشياء ينطوي على تناقض ذاتي. على سبيل المثال، يمكننا أن نثبت عدم وجود مربع دائري بسبب أن مثل هذا الشيء سيكون دائرياً وغير دائري، وهو مستحيل. بالتالي، فإن أحد الطرق للجدل لصالح عدم وجود الله كلي التوحيد (أو “الله الكلي” باختصار) هي من خلال الجدل بأن مثل هذا الإله هو شيء مستحيل مثل المربع الدائري.
بذلت العديد من المحاولات لبناء مثل هذه الحجج. على سبيل المثال، فقد زُعم أن الكائن كلي الخير سيكون معصوماً وغير قادر على ارتكاب الشر، في حين أن الكائن كلي القوة سيكون قادراً على ارتكاب الأفعال التي سيكون من الخطأ ارتكابها. هناك، مع ذلك، ردود متطورة ومعقولة لأمثال هذه الحجج. الأكثر أهمية، أنه حتى لو نجحت مثل هذه الحجج، فسيكون بإمكان الأشخاص كليي التوحيد Omni-theists الادعاء بشكل معقول أنهم لا يعنون ” بكلي القدرة” القدرة القصوى، بل بالقدرة بشكلها الأمثل، حيث أن المستوى الأمثل للقوة قد لا يكون هو المستوى الأقصى إذا كانت القوة القصوى تستبعد امتلاك المستوى الأمثل لنوع آخر من الكمال، كالخير الأخلاقي.
مثل هذه المشاكل تواجه محاولات إظهار أن التوحيد الكلي لا بد وأن يكون باطلا، بسبب أنه لا يتوافق وبعض الحقائق المعروفة عن العالم. عادة ما تعتمد أمثال هذه الحجج على تفسيرات مسهبة ومتنازع عليها حول الصفات الإلهية مثل كلي الخير.
ثمة مقاربة مختلفة جداً تقوم على فكرة عدم حاجة الدحض لأن يكون برهانياً. ما تهدف إليه هذه المقاربة هو إظهار أن وجود الإله الكلي غير مرجح بحيث أن الاعتقاد الجازم بعدم وجود مثل هذا الإله مبررٌ تماماً. فيما يلي سيتم مناقشة هاتين الحجتين بالتفصيل: ” الحجة المسبقة الضعف” و “حجة الدليل الحاسم” توظف كل من هاتين الحجتين ذات الاستراتيجية، والتي تجادل بأن بعض الفرضيات البديلة للتوحيد الكلي أكثر احتمالا بكثير من فرضية التوحيد الكلي. بيد أن هذا لا يعني احتمالية أن تكون الفرضيات البديلة صحيحة، لكنها تشير إلى احتمال أن يكون التوحيد الكلي باطلا. في حالة الحجة الثانية، يمكن اعتبار الفرضية البديلة (الربوبية الجمالية) شكلا من أشكال التوحيد، وحتى في الحجة الأولى يمكن القول إن الفرضية البديلة (ذات المصدر المادي) تتوافق مع بعض أشكال التوحيد (على الأخص تلك التي تعتبر الله كياناً منبثقاً). لا تشكل هذه مشكلة لأي من الحجتين على وجه التحديد خصوصاً وأن كليهما حجج للإلحاد المحلي وليس الشامل.
6- 2 الحجة المسبقة الضعف
إن الفكرة الأساسية التي تكمن خلف الحجة المسبقة الضعف هذه، هي أنه حتى إذا كان اللاأدري على صواب، فإنه عندما يتعلق الموضوع بوجود الله، فإن الأدلة تبدو غامضة أو غائبة تماماً، وذلك يستتبع ألا يكون للتوحيد احتمالية متوسطة في جميع الحالات، بل رجحان أن يكون التوحيد باطلاً بدلا من ذلك. وذلك لأن التوحيد يبدأ باحتمالية منخفضة جداً قبل أن يُؤخذ أي دليل بعين الاعتبار. (في هذا السياق يشير “الدليل” إلى العوامل الخارجية للفرضية التي تزيد أو تقلل احتماليتها). وبما أن غياب أو غموض الدليل ليس له أي تأثير على تلك الاحتمالية المسبقة أو الفعلية، فإن الاحتمالية المسبقة أو الاحتمالات المتعلقة بالتوحيد هي أيضاً ضعيفة جداً. فإذا كان من المحتمل جداً بطلان التوحيد، فمن المحتمل جداً أن يكون الإلحاد صحيحاً وهذا ينطوي على (بحسب المدافع عن الحجة) أن الاعتقاد الإلحادي مبرر. (سيتم فحص ما يتضمنه هذا الزعم الأخير في القسم 7.)
هذا النوع من الحجة وثيق الصلة جداً بمسألة أي من الإلحاد أو التوحيد يمثل الوضع “الافتراضي” المناسب. فإذا كان لدى التوحيد احتمالية ضعيفة فعلياً بما فيه الكفاية، فيمكن القول بأن الإلحاد يمثل الموقف الافتراضي الصحيح، بمعنى أن غياب أو غموض الدليل لا يبرر تعليق الحكم حول مسألة وجود الله، بل يبرر بدلاً من ذلك الاعتقاد بأن الله غير موجود. وهذا هو السبب الذي يجعل من حجة لي بوديفين المتعلقة بـ اللاأدرية لا تتضمن فقط مقدمة تؤكد على غموض الدليل ذي الصلة، بل تؤكد أيضاً، على الأقل في حالة التوحيد المتعدد، بأننا في حالة جهل عندما يتعلق الأمر بمسألة أي من التوحيد أو الالحاد لديه احتمالية فعلية أعلى. لسوء الحظ فإن أغلب النقاشات حول مسألة ما هو الوضع الذي يمثل “الوضع الافتراضي” الصحيح، أو من يتحمل “عبء الاثبات” تنحرف من خلال التشبيهات السيئة لسانتا كلوز ووحش السابغيتي الطائر وأبريق الشاي الشهير لبرتراند راسل ([1952] 1997) الذي يدور في مدار بيضاوي حول الشمس (حول انتقاد بعض هذه التشبيهات أنظر Garvey 2010 و van Inwagen 2012) . تتضمن الحجة المسبقة الضعف معالجة هذه القضية المهمة بشكل أكثر دقة وفعالية.
في نسخة الحجة مسبقة الضعف التي تمت صياغتها أدناه، فقد تم تحسين المقاربة الأساسية التي تم وصفها أعلاه من خلال مقارنة التوحيد الكلي لا بمجرد نقيضه، بل بفرضية إلحادية أكثر دقة تسمى ” المصدر المادي”. فعلى عكس المادية الوجودية، يتعلق زعم فرضية المصدر المادي بمصدر الكيانات المادية وليس طبيعتها. فأصحاب نظرية المصدر المادي، سواء كانوا ماديين وجوديين أو ثنائيين وجوديين يعتقدون بأن العالم المادي وجد قبل العالم العقلي، وهو سبب وجود العالم العقلي، الأمر الذي يعني بأن جميع الكيانات العقلية تعتمد سببياً على الكيانات المادية. علاوة على ذلك، فحتى لو كانوا ثنائيين وجوديين، فلا يحتاج أصحاب نظرية المصدر المادي إلى الزعم بأن الكيانات العقلية لا تنتج أبداً كيانات مادية أو كيانات عقلية أخرى، بل يجب يكون زعمهم بأنه لم تكن لتوجد كيانات عقلية لولا الوجود السابق (والقوى السببية) لكيان مادي واحد أو أكثر. تجري الحجة على النحو التالي:
-
لا يميل مجموع الأدلة الكلية لصالح تفضيل التوحيد الكلي على المصدر المادي.
-
مذهب المصدر المادي أكبر احتمالا بكثير في جوهره من التوحيد الكلي.
ينتج من (1) و (2) أن:
-
مذهب المصدر المادي أرجح بكثير من التوحيد الكلي.
ينتج من (3) أن:
-
من المرجح أن يكون التوحيد الكلي باطلا.
ينتج من (4) أن:
-
الإلحاد (بوصفه إنكاراً للتوحيد الكلي) صحيح على الأرجح.
إن محل الجدل الوحيد في مقدمتي الحجة – الخطوات (1) و (2). أما بقية الخطوات في الحجة فجميعها تنتج على نحو واضح الخطوات السابقة.
من الواضح استحالة القيام بفحص شامل للحجج المؤيدة والمعارضة للمقدمة (1)، لكن تجدر الإشارة بأن الدفاع عن هذه المقدمة لا يحتاج إلى الزعم بأن الحقائق المعروفة والتي يعتقد علماء اللاهوت الطبيعي بأنها تفضل التوحيد الكلي على الفرضيات المتنافسة مثل مذهب المصدر المادي تفتقد للقوة. بل يمكن الزعم بأنه مهما كانت القوة التي تتوفر عليها فإنه يتم تحويلها إلى حد ما على الأقل، وفق حقائق محددة تفضل مذهب المصدر المادي على التوحيد الكلي. يتجاهل علماء اللاهوت الطبيعي عادة هذه الحقائق الأكثر تحديداً وبالتالي فهم يرتكبون على ما يبدو ما يمكن تسميته ” مغالطة الأدلة المبسطة” وهذه هي المسألة بشكل أكثر دقة. فحتى عندما ينجح علماء اللاهوت الطبيعي في تحديد بعض الحقائق العامة حول موضوع يعطي أرجحية أكبر لصالح التوحيد الكلي مقارنة بمذهب المصدر المادي، فإنهم يتجاهلون العديد من الحقائق المحددة الأخرى حول نفس الموضوع، تلك الحقائق التي تبدو بالنسبة للحقيقة العامة أكثر احتمالية بشكل ملحوظ في مذهب المصدر المادي منها في التوحيد الكلي.
فعلى سبيل المثال، فحتى لو كان التوحيد الكلي مدعوماً من خلال تلك الحقيقة العامة القائلة بأن الكون معقد، فيجب عدم تجاهل الحقيقة الأكثر تحديداً، والتي اكتشفها العلماء، وهي أنه يكمن خلف هذا التعقيد على المستوى الذي نختبره في الكون، كونٌ أولي أكثر بساطة انبثق منه هذا التعقيد، وكذلك كون حالي أكثر بساطة على المستوى المجهري، والذي يتكون من عدد صغير نسبياً من أنواع مختلفة من الجسيمات والتي توجد جميعها في واحدة من عدد صغير نسبياً من الحالات المختلفة. باختصار، من المهم الأخذ بالاعتبار، ليس فقط الحقيقة العامة القائلة بأن الكون الذي نختبره مباشرة بحواسنا معقد للغاية، بل أيضاً الحقيقة الأكثر تحديداً وهي أن ثمة نوعين من البساطة الكامنة داخل الكون والتي يمكن أن تفسر ذلك التعقيد. بالنظر لوجود ذلك الكون المعقد فإن هذه الحقيقة الأكثر تحديداً هي بالضبط ما يتوقعه المرء من مذهب المصدر المادي. لأنه مثلما يقول أحد أفضل اللاهوتيين (Swinburne 2004 على سبيل المثال) فإن تعقيد الكون يستدعي التفسير على أساس شيء أبسط. مع ذلك، فليس هناك أي سبب على الاطلاق لتوقع هذه الحقيقة المحددة في التوحيد الكلي، فإذا كان هؤلاء اللاهوتيون الطبيعيون محقون، فإن الإله البسيط من شأنه أن يقدم تفسيراً بسيطاً للتعقيد الملاحظ في الكون بغض النظر عما إذا كان ذلك التعقيد يفسر أم لا من خلال أية أسباب مادية وسيطة.
يتعلق المثال الآخر بالوعي. إذ يبدو أن وجوده يعطي احتمالية أكبر للتوحيد الكلي منه في المصدر المادي (ومن ثم فإنه يرفع نسبة احتمالية التوحيد الكلي في مقابل احتمالية المصدر المادي). غير أن ما نعلمه عن الوعي أكبر بكثير من مجرد معرفة أنه موجود وحسب. كما نعلم أيضاً بفضل التخصص الجديد نسبياً في علم الأعصاب، بأن حالات الوعي بشكل عام وحتى سلامة شخصيتنا إلى حد كبير، فضلا عن الوحدة الواضحة للذات، تعتمد إلى حد كبير على الأحداث المادية التي تحدث في الدماغ. ونظراً إلى الحقيقة العامة لوجود الوعي، فإن لدينا سبب مادي المصدر لا نجده في التوحيد لتوقع هذه الحقائق المحددة بشكل كبير. وبالنظر إلى التوحيد، فلن يكون من المستغرب على الاطلاق إذا كانت عقولنا مستقلة بشكل كبير عن الدماغ مما هي عليه في الواقع. في النهاية، إذا كان التوحيد الكلي صحيحاً، فسيكون هناك على الأقل عقل واحد، وهو عقل الله، لا يعتمد أبداً على أي شيء مادي. بالتالي، عندما يتم التطرق للدليل المتاح حول الوعي، فمن غير الواضح ما إذا كان يميل إلى التوحيد الكلي بشكل كبير.
ذات المشاكل تهدد بتقويض الالتجاء لفكرة التوافق الدقيق fine-tuning، تلك الفكرة التي تقوم على حقيقة وجود عدد مستقل فيما يبدو من الثوابت الفيزيائية ذات قيم محددة، والتي على الرغم من أن النظرية الفيزيائية الحالية تحددها، إلا أنها تقع ضمن نطاق ضيق نسبياً “للسماح بالحياة” مع افتراض عدم تغير الثوابت الأخرى. يمكن القول أنه بالنظر إلى أن التوافق الدقيق مطلوب من أجل الحياة العاقلة وأن الله الكلي لديه سبب لخلق هذه الحياة العاقلة، فإن لدينا أكثر من سبب لتوقع وجود التوافق الدقيق داخل مذهب التوحيد الكلي أكثر منه في المصدر المادي. مع ذلك فإن مثل هذا التوافق الدقيق أكثر إثارة للدهشة في التوحيد الكلي منه في المصدر المادي، وذلك أن كوننا لا يعج بالحياة الذكية، فأكثر الكائنات الذكية المثيرة للإعجاب والتي نعرف أنها موجودة هي مجرد بشر: رئيسيات أنانية وعدوانية، كثيراً ما تقتل وتغتصب ويعذب بعضها البعض.
لإنصاف مذهب التوحيد الكلي، يمكن القول بأن أغلب أولئك البشر هم كائنات أخلاقية، يتملك العديد منهم خبرات دينية واضحة عن الله. غير أن المشكلة هي كالتالي، ففي حين أن “توقع” وجود كائنات أخلاقية هو في التوحيد الكلي أكبر منه في مذهب المصدر المادي. فصحيح أيضاً، بالنظر إلى وجودها، أن تنوع وتعدد الظروف التي يمكن تجنبها بسهولة والتي تعزز السلوك السيئ وتحد بشكل كبير من حرية وفاعلية واستقلالية عدد لا يحصى من البشر، يبدو أكثر احتمالا في مذهب المصدر المادي. وفي الحين الذي تبدو فيه التجارب الدينية عن الله متوقعة على نحو كبير بلا شك فيما لو كان البشر هم نتاج إله كلي مما لو كانوا نتاج قوى مادية عمياء، فمن الصحيح أيضاً، بالنظر إلى حدوث مثل هذه التجارب، أن الحقائق المتنوعة حول تشتتها والتي يجب أن تثير دهشة المؤمنين هي بالضبط ما يمكن أن يتوقعه الشخص في مذهب المصدر المادي، كحقيقة كون العديد من الناس لا يمتلكونها، وحقيقة أن أولئك الذين يمتلكونها دائماً ما يكون لديهم اعتقاد مسبق بالله أو تم تعريضهم بشكل واسع النطاق لدين التوحيدي ما.
عندما يتعلق الأمر بالدليل الذي يميل لصالح مذهب التوحيد الكلي مقارنة بمذهب المصدر المادي، يبدو أن الرب أعطى وأخذ*. علاوة على ذلك فعندما يقترن ذلك بحقيقة ما نعرفه حول مستوى رفاهية الكائنات الحية ومدى معاناتها، فيمكن القول أن ذلك يجعل احتمالية مذهب المصدر المادي أكبر بكثير من التوحيد، بحيث يمكن تقديم حجة قوية جداً رغم كونها مثيرة للجدل على نحولا يقبل الشك بشأن المقدمة (1)[2]
ماذا عن المقدمة (2)؟ يمكن تقديم حجة أخرى لتأكيد حقيقتها. مثل هذه الحجة لا تقارن مذهب المصدر المادي بالتوحيد الكلي، بل بنقيضه، المصدر المثالي. يذهب المصدر المثالي إلى القول بأن العالم العقلي وجد قبل العالم المادي وهو العلة التي ظهر بسببها العالم المادي إلى الوجود. يتوافق هذا الرأي مع كل من المثالية الوجودية والثنائية الوجودية، وكذلك مع الكيانات المادية التي لها تأثيرات مادية وعقلية. مع ذلك فإن هذا الرأي يستلزم اعتماد جميع الكيانات المادية سببياً على واحد أو أكثر من الكيانات العقلية، ومن ثم فإنه لا يتوافق مع المادية الوجودية. يعد تناظر كل من مذهب المصدر المادي والمصدر المثالي سبباً جيداً للاعتقاد بأنهما محتملان جوهريا بشكل متساوٍ. فهما واضحان بنفس القدر، ولهما نفس الارتباطات الوجودية، بحيث لا يمكن صياغة أي منهما بشكل أكثر دقة من الآخر، وكل منهما يبدو متماسكاً ومفهوماً بنفس القدر. بيد أنهما يختلفان حول مسألة على ماذا يعتمدان سببيا. لكن إن كان هيوم على حق، بحيث لا يمكن اكتشاف علاقات الاعتماد السببي إلا بالملاحظة وليس بشكل قبلي a priori، عندها لن يكون هناك تأثير على الاحتمالات الجوهرية لكلا الفرضيتين.
يعد التوحيد الكلي نسخة أكثر تفصيلاً من مذهب المصدر المثالي، وهو يتضمن أن مذهب المصدر المثالي صحيح، غير أنه يذهب أبعد من مذهب المصدر المثالي من خلال افتراضه للعديد من المزاعم المحددة حول نوع “العالم العقلي” الذي أنتج العام المادي. فهو يضيف، على سبيل المثال الزعم القائل بأن عقلا معيناً قد قام بخلق الكون المادي، وأن هذا العقل ليس قادراً وحسب بل هو كلي القدرة على وجه التحديد وليس عالماً فقط بل وكلي العلم. بالإضافة إلى افتراضاته المسبقة لعدد من المزاعم الميتافيزيقية والماوراء أخلاقية (الميتا أخلاق meta-ethical) المثيرة للجدل من خلال التأكيد بأن هذا الكائن أزلي ومثالي من الناحية الأخلاقية. فإذا كان أي من هذه المزاعم والافتراضات المحددة خاطئاً، عندئذ يكون التوحيد الكلي خاطئاً. بالتالي فإن التوحيد الكلي هو نسخة شديدة التحديد ومن ثم فهي شكل محفوف بالمخاطر للغاية من مذهب المصدر المثالي، بالتالي فهو في جوهره أقل احتمالا بكثير من مذهب المصدر المثالي. بناء على ذلك، إذا كان مذهب المصدر المادي ومذهب المصدر المثالي، كما ذكر أعلاه، محتملان بنفس القدر جوهرياً، فإن ذلك يستتبع أن المقدمة (2) صحيحة: حيث أن مذهب المصدر المادي أكثر احتمالا في جوهره من التوحيد الكلي.
6-3 حجة الدليل الحاسم
لاحظ أن الاستراتيجية العامة للنسخة الخاصة من الحجة المسبقة الضعف التي تم مناقشتها أعلاه هي إيجاد بديل للتوحيد الكلي يكون أقل تحديداً (ولهذا السبب يكون أكثر احتمالاً في جوهره)، ولديه في نفس الوقت محتوى كاف من النوع الصحيح ليناسب مجمل البيانات ذات الصلة، على الأقل مثلما هو الحال في التوحيد. بمعنى آخر. يكمن الهدف في إيجاد عدّاء مثل مذهب المصدر المادي، حيث أنه يبدأ السباق بفارق كبير ومن ثم يفوز بهامش كبير، وذلك لأنه يعدو من أجل الأدلة الداعمة ومن أجل تحقيق الأرجحية وذلك بسرعة تماثل سرعة التوحيد الكلي على وجه التقريب. لا تحاول هذه الاستراتيجية إظهار رجحان مذهب المصدر المادي (“فالهامش الكبير” في هذا السياق يعني نسبة أكبر لأحد الاحتمالات على الآخر، وليس اختلاف كبير بين الاحتمالات)، وذلك بسبب إمكان وجود عدائيين أفضل في السباق، ومع ذلك فهذه الحجة تظهر أن مذهب التوحيد الكلي يخسر السباق بهامش كبير ومن ثم فهو أكثر احتمالية لأن يكون خاطئا.
تقوم الاستراتيجية البديلة على إيجاد عداءٍ يبدأ السباق جنباً إلى جنب مع التوحيد الكلي، غير أنه يعدو من أجل أدلة داعمة بشكل أسرع مما يقوم به التوحيد الكلي، ومن ثم فهو يربح السباق مرة أخرى بهامش كبير وبشكل كاف من أجل استمرار بقية الحجة. إن المسمى الأفضل لهذه الحجة التي تتبع هذه الاستراتيجية الثانية هي “حجة الدليل الحاسم” إن اختيار الفرضيات البديلة هو أمر حاسم هنا مثلما هو الحال في الحجة مسبقة الضعف. أحد الاختيارات المشجعة هنا هي “الربوبية الجمالية” aesthetic deism . (قد تكون نسخة أخرى أكثر تفصيلاً لمذهب المصدر المادي، لكنها على عكسه بشكل عام، حيث تجعل البيانات ذات الصلة أكثر احتمالية من الايمان.) وذلك من أجل ضمان أن يبدأ كل من التوحيد الكلي والربوبية الجمالية السباق من خط بداية واحد ــــ وهو ما يجعلهما بنفس القدر من الاحتمالية في جوهرهماــــ. إن التعريف الأمثل “للربوبية الجمالية” يكاد يتطابق على الأغلب مع تعريف التوحيد الكلي. تنص الربوبية الجمالية تماماً مثل التوحيد الكلي على أن ثمة كائن أزلي، غير مادي، كلي القدرة، كلي العلم قد خلق هذا العالم المادي. بيد أن الفرق الوحيد بين إله التوحيد الكلي وإله الربوبية الجمالية يكمن في دافع كل منهما. فإله التوحيد الكلي سيكون كاملاً من الناحية الأخلاقية ومدفوعاً بقوة بواسطة الاعتبارات المتعلقة بخير الكائنات الحية. في المقابل فإن الله في الألوهية الجمالية سيقدم الخيرات الجمالية على تلك الأخلاقية. ولما كان مثل هذا الكائن يرغب في كونٍ جميل، فربما لم يكن التشبيه الأفضل هنا هو الصانع الماهر للكون، بل كاتب المسرحيات الكوني: مؤلف الطبيعة، الذي كل ما يرغب به هو كتابة قصة ممتعة.
كما هو معروف لكل أحد، لا تبدأ القصص الجيدة أبدا بعبارة “وعاشوا في سعادة دائمة”، فهذه هي العبارة الأخيرة التي تتضمنها أي قصة. علاوة على ذلك، فإن وجودها ليس ضرورياً لكي تكون القصة جيدة. فإذا كانت الربوبية الجمالية صحيحة، فسيكون من الصحيح جداً ” أن العالم مجرد مسرح، وجميع الرجال النساء ليسوا سوى مجرد لاعبين”. (التشديد مضاف). على كل حال، فإن فرضية الربوبية الجمالية تقدم “تنبؤات” حول حالة الكائنات الواعية في العالم، مختلفة أشد الاختلاف عن تلك التي يقدمها التوحيد الكلي. فما يجعل القصة جيدة في الغالب هو الصراع المرير ما بين الخير والشر، فجميع القصص الجيدة تحتوي على ذلك مزيج من اللذة والألم. يشير هذا المزيج الملاحظ من الخير والشر في عالمنا إلى أفضلية الربوبية الجمالية بشكل حاسم على التوحيد الكلي. وإذا كان ذلك صحيحاً، فإن الربوبية الجمالية تتقدم كثيراً على التوحيد الكلي في السباق من أجل الاحتمالية، وتثبت بالتالي أن التوحيد الكلي بعيد جداً عن الاحتمال.
فيما يلي أحد الصياغات الممكنة لهذه الحجة:
-
الربوبية الجمالية على الأقل محتملة في جوهرها تماماً مثل التوحيد الكلي.
-
الأدلة الكلية التي تستبعد ” معطيات الخير والشر” لا تفضل التوحيد الكلي على الربوبية الجمالية.
-
بالنظر إلى الأدلة الكلية التي تستبعد معطيات الخير والشر، فإن معطيات الخير والشر تفضل الربوبية الجمالية أكثر من التوحيد الكلي.
ينتج من (1) و(2) و (3) أن
-
الربوبية الجمالية أكثر احتمالاً بكثير من التوحيد الكلي.
ينتج من (4) أن
-
التوحيد الكلي أكثر احتمالية لأن يكون خاطئاً.
ينتج من (5) أن
-
الإلحاد (مفهوماً هنا بوصفه إنكاراً للتوحيد الكلي) ذو احتمالية أكبر لكي يكون صحيحاً.
إن الخطوات (4) –(6) في هذه الحجة هي ذاتها الخطوات (3)-(5) في الحجة المسبقة الضعف باستثناء أن “مذهب المصدر المادي” في الخطوة (3) للحجة المسبقة الضعف يحل محلها ” الربوبية الجمالية” في الخطوة (4) لحجة الدليل الحاسم. لا يحدث هذا فرقاً فيما طالما تعلق بالاستدلال من الخطوة (4) إلى الخطوة (5). ذلك الاستلال هو مثل الاستدلال من الخطوات (1) – (3) إلى الخطوة (4) ومن الخطوة (5) إلى الخطوة (6) هو استدلال صحيح بشكل واضح. غير أن السؤال الأساسي هو ما إذا كانت كل من المقدمتين (1)، (2) صحيحة.
على الرغم من التداخل شبه الكامل ما بين كل من التوحيد الكلي والروبية الجمالية، يعترض ريتشارد سوينبورن Richard Swinburne (2004: 96–109) المقدمة (1) على أساس أن الربوبية الجمالية على عكس التوحيد الكلي يجب أن تفترض وجود رغبة سيئة لتفسير سبب عدم قيام الإله بعمل ما هو أفضل من الناحية الأخلاقية. بحسب سوينبورن لا يحتاج التوحيد الكلي إلى هذا، لأن الأفضل من الناحية الأخلاقية هو الأفضل على الاطلاق، ومن ثم فإن الكائن الكلي العلم سيقوم بالضرورة بعمل ما هو أفضل أخلاقياً طالما أنه لا يمتلك رغبات أخرى بخلاف الرغبات التي يمتلكها ببساطة، وذلك من خلال معرفة ما هو أفضل شيء يمكن فعله في أي موقف معين. يعتمد هذا الاعتراض على تحفيز فكري مشكوك فيه للغاية: إذا ينجح فقط إذا كان مجرد الاعتقاد بأن خيرية فعل ما تستلزم الرغبة بالقيام به. في جل النظريات المتعلقة بالتحفيز، ثمة فجوة منطقية بين الفكر والرغبة. فإذا وجدت مثل هذه الفجوة، عندها لن يبدو التوحيد الكلي أكثر من احتمالاً جوهرياً من الربوبية الجمالية.
من الصعب التفكير في تحد معقول للفرضية (2)، على الأقل بسبب أنه عندما يتعلق الأمر بالأدلة المعتادة التي تؤخذ لتفضيل التوحيد على الفرضيات الأخرى المتنافسة كالمذهب الطبيعي فإن الربوبية الجمالية تفسر تلك الدليل على الأقل مثلما يفعل مذهب التوحيد الكلي. فكون الإله مثلا يهتم بالسرد الجيد على سبيل المثال، يجعل منه راغباً في عالم معقد ومنظم رغم ذلك، يحتوي على الجمال والوعي والذكاء وكائنات أخلاقية. ربما كان هناك سبب أكبر لتوقع وجود إرادة حرة في مذهب التوحيد الكلي من مذهب الربوبية الجمالية، ولكن ما إن يبدأ الشخص من حقيقة التوحيد الكلي، سيبدو أن هناك القليل من الأسباب للاعتقاد بأننا نمتلك مثل هذه الحرية. وحتى لو أخذ الشخص بجدية أدلة الاستبطان أو غيرها من الأدلة الغير لاهوتية على الإرادة الحرة فلن يكون من الصعوبة تشييد شكل غير مألوف هنا: فهناك تفسير جيد تقدمه الربوبية الجمالية سواء لوجود إرادة حرة أو السبب في وجود دليل قوي فيما يبدو على في وجودها إلا أنه مضلل في نهاية المطاف. فعلي سبيل المثال، إذا كان المؤمنون المنفتحون على حق بأنه لا يمكن حتى لكائن كلي العلم أن يعرف على وجه اليقين ما هي الخيارات الحرة (الليبرتارية) التي سيتم اتخاذها في المستقبل، عندها يمكن للربوبية الجمالية أن تفسر الإرادة الحرة والأنواع الأخرى من عدم التحديد من خلال الزعم بأن تلك القصة ذات المفاجئات الحقيقية ستكون أفضل من تلك التي يمكن التنبؤ بها تماماً. فما يهم في القصة هو أن الشخصيات تعتقد حقاً بأنها تمتلك إرادة حرة، دون أن يكون لديها إدارة بالفعل.
أخيراً لدينا المقدمة (3)، والتي تؤكد على أن المعطيات المتعلقة بالخير والشر تميل لصالح تفضيل الربوبية الجمالية على التوحيد. في هذا السياق فإن “معطيات الخير والشر” تتضمن كل شيء نعرفه عن اللذة والألم الذي ينال الكائنات الحية، بما في ذلك البشر. لا يمكن عرض النقاش الكامل حول هذ المقدمة هنا، غير أن القبول الذي تحضى به يبدو قديماً قدم مشكلة الشر ذاتها. لننظر على سبيل المثال في سفر أيوب، حيث يقوم بطلها، وهو الرجل الصالح الذي يعاني بشكل مروع، باتهام الله بأنه يفتقر إلى الالتزام الأخلاقي الكافي بالقيمة الأخلاقية للعدالة. تتفق الغالبية العظمى من المعلقين بأن الله لم يجب على اتهام أيوب بشكل مباشر. فبدلاً من ذلك تحدث من خلال العاصفة، واصفاً تصميمه للكون ولمملكة الحيوان بطريقة تهدف بوضوح إلى التأكيد على قوة وعظمة خليقته. لولا المخاوف اللاهوتية حول الكمال الأخلاقي لله، لكان التفسير الطبيعي لهذا الجزء من القصة هو إما أن الله سيتفق مع أيوب حول عدم عدالته، وإما أن يرفض أن بإمكان أيوب أن يطبق مفاهيم مثل “عادل” و”غيرعادل” عليه لأنه وأيوب لا يشكلون أعضاءً في أي مجتمع أخلاقي مشترك (يقدم Morriston: وجهة نظر مضادة، أنظر Stump 2010: chapter 9) وهذا هو السبب في أن الرد الأول لأيوب على خطاب الله (قبل أن يذعن في رده الثاني) تمثل فقط من خلال رفض تكرار اتهامه لله (الذي ظل دون إجابة). وبحسب هذا التفسير، فإن الخالق الذي واجهه أيوب ليس هو الله الذي كان يتوقعه وبالتأكيد ليس هو إله التوحيد الكلي، بل هو بالأحرى كائن يشبه إلى حد كبير إله الربوبية الجمالية.
بالنسبة لأولئك الذين يزعمون أن الله سمح بالشر لأنه يمثل نتيجة حتمية لكون محكوم بقوانين الطبيعة، فإنهم يقدمون دعماً، ربما دون قصد، للفكرة القائلة بأنه إن كان ثمة مؤلف للطبيعة، فمن الأرجح أن يكون مدفوعاً باعتبارات جمالية أكثر منها أخلاقية، على سبيل المثال ربما كان إنتاج كون تحكمه عدة قوانين يمكن التعبير عنها من خلال معادلات رياضية دقيقة إنجازاً مثيراً للإعجاب، ليس فقط بسبب الحكمة والقوة اللازمتين لمثل هذا العمل، لكن أيضاً بسبب القيمة الجمالية لمثل هذا الكون، تلك القيمة التي ربما تعتمد بشكل كبير على اختيار الخالق عدم التدخل بشكل منتظم في الطبيعة من أجل حماية مخلوقاته من الأذى.
إن جزءاً كبيرا من القيمة الجمالية لمملكة الحيوان ربما تعتمد أيضاً على كونها نتيجة عملية تطورية طويلة مدفوعة بآليات مثل الانتقاء الطبيعي. مثلما يذكر دارون Darwin (1859) في فقرة شهيرة في آخر كتابه في أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي On the Origin of Species by Means of Natural Selection :
ثمة عظمة في هذه النظرة إلى الحياة، بقواها العديدة التي نُفخت لأول مرة في عدد قليل من الصور أو في صورة واحدة، وعندما كان هذا الكوكب يدور وفقاً لقوانين الجاذبية الثابتة، كانت ولا تزال تتطور من تلك البدايات البسيطة صورٌ لانهائية غاية في الجمال والروعة.
للأسف فإن مثل هذه العملية، إن كان لها أن تنتج حياةً واعية، فإنها أيضاً تنطوي على الكثير من المعاناة وكمٍ لا يُحصى من الوفيات المبكرة. أحد الافتراضات المشكوك بها لبعض المدافعين عن عدالة النظام الطبيعي هو الاعتقاد بأن مثل تلك الروابط بين الخيرات الجمالية وبين المعاناة توفر تبريراً أخلاقياً لسماح الإله بالمعاناة الفظيعة. يمكن الجدل بأنه في مثل ذلك السيناريو فإن قيمة منع المعاناة الرهيبة تفوق بكثير قيمة الانتظام والسمو والسرد القصصي. إذا كان ذلك صحيحاً فإن الإله ذي الكمال الأخلاقي لن يفضل الأخيرة على الأولى، رغم أن الإله المدفوع باعتبارات جمالية في المقام الأول سيقوم بعكس ذلك دون شك.
باختصار، يتفق الجميع تقريباً على أن العالم يحتوي على كل من الخيرات والشرور، اللذة والألم، الحب والكراهية، النجاح والفشل، الازدهار والضعف، والفضيلة والرذيلة، فجميعها يوجد بكثرة. ورغم ذلك فإن البعض يرى في ذلك علاماتٍ على غائية كونية. فأولئك الذين يدافعون عن حجة الدليل الحاسم التي تم ذكرها أعلاه ليسوا بحاجة إلى إنكار الغائية. فهم بحاجة إلى إظهار أنه من الأسهل بكثير فهم “ذلك المزيج الغريب من الخير والشر الذي يظهر في الحياة” (Hume Dialogues, XI, 14) عندما تُفسّر الغائية على أنها غير أخلاقية بدل كونها أخلاقية. (cf. Mulgan 2015 and Murphy 2017) وعلى الأخص حينما تُفسّر على أنها موجهة لغايات جمالية بدل كونها موجهة لغايات أخلاقية.
7- حجة اللاأدرية
كان الموضوع في القسم 4 حول حجة لي بوديفين حول حقيقة شكل بسيط من اللاأدرية . في هذا القسم سيتم فحص حجة بطلان شكل أكثر تماسكاً من اللاأدرية . ولأن نوع اللاأدرية التي يتم مناقشتها في هذا القسم هو أكثر تماسكاً من النوع الذي دافع عنه لي بوديفين، فمن المعقول أن تنجح كلا الحجتين في ترسيخ استنتاجاتهما.
يشير مصطلح “اللاأدرية” في حجة لي بوديفين إلى الموقف الذي لا يمكن فيه معرفة صحة كل من التوحيد المتعدد أو الإلحاد الشامل. في هذا القسم يشير مصطلح ” اللاأدرية” إلى الموقف الذي لا يكون فيه الإيمان بالتوحيد الكلي صحيحاً ولا الإيمان بكونه باطلا جائز عقلانياً. هذا الشكل من اللاأدرية أكثر تماسكاً بسبب أن المعرفة أقوى (بالمعنى المنطقي) من الجواز العقلي: قد يكون من الجائز منطقياً الاعتقاد بافتراضات لا يمكن معرفة صحتها، غير أنه لا يمكن معرفة صحة افتراض من قبل شخص لا يسمح له منطقياً بتصديقه، ومن ثم فإن الاسم المناسب لهذا الشكل من اللاأدرية هو “اللاأدرية الصلبة”.
هناك اختلاف آخر يتعلق بموضوع الشكلين الخاصين بـ اللاأدرية . تتعلق حجة لي بوديفين بالإيمان المتعدد مقابل الإلحاد الشامل. في هذا القسم، سوف يتم تناول التوحيد الكلي في مقابل موقف الإلحاد المحلي المتعلق ببطلان التوحيد الكلي. في القسم السابق كان التركيز ينصب على حجتين بغية استنتاج أن هذا الشكل من الإلحاد المحلي صحيح على الأرجح. إن السؤال الأساسي في هذا القسم هو ما إذا كان ذلك الاستنتاج، إذا ما تم تأكيده، يمكن أن يؤسس حجة ناجحة ضد اللاأدرية الصلبة.
يمكن صياغة هذه الحجة على النحو التالي:
-
الإلحاد (مفهوماً هنا بوصفه إنكاراً للتوحيد الكلي) صحيح على الأرجح.
-
إذا كان الإلحاد صحيحاً على الأرجح بشكل كبير، فإن الاعتقاد به يصبح جائزاً من الناحية العقلية.
ينتج من كل من 1 و 2 أن:
-
الاعتقاد بـ الإلحاد جائز من الناحية العقلية.
-
إذا كانت اللاأدرية الصلبة (فيما يتعلق بالتوحيد الكلي) صحيحة (أي إذا ما كان تعليق الحكم حول صحة التوحيد من عدمه ضروري من الناحية العقلية)، فإن الاعتقاد بـ الإلحاد غير جائز من الناحية العقلية.
ينتج من 3 و4 أن :
-
اللاأدرية الصلبة (فيما يتعلق بالتوحيد الكلي) خاطئة.
تم الدفاع عن الفرضية 1 في القسم السادس، أما الفرضية 4 فهي صحيحة من خلال تعريف ” اللاأدرية الصلبة”، أما الخطوات 3 و 5 فهي تنتج من خطوات سابقة من خلال قانون الاستلزام modus ponens وقانون نفي الاستلزام modus tollens على التوالي. وهذا يتخلى عن الفرضية 2، القائلة بأنه إذا كان الإلحاد صحيحاً على الأرجح، فإن الاعتقاد بـ الإلحاد سيكون جائزاً من الناحية العقلية.
قد يحاول أحدهم الدفاع عن هذه الفرضية من خلال الزعم بأن الاحتمالات في الفرضية 2 ذات مصداقية عقلانية، ومن ثم فإن صحة ما يطلق عليه أطروحة لوك (Foley 1992) تبرر 2 :
من المنطقي بالنسبة للشخص س الاعتقاد بالفرضية ص، فقط إذا كان من المنطقي أن تكون مصداقية ص بالنسبة ل س كبيرة بما فيه الكفاية بحيث يحمل ذلك س لأن يعتقد في ص.
مع ذلك فإن أطروحة لوك نفسها بحاجة إلى تبرير. لحسن الحظ، ليس هناك حاجة لأطروحة قوية كأطروحة لوك للدفاع عن الفرضية 2. لسبب واحد، وهو أن ما يحتاجه المدافع عن الفرضية 2 هو ” إذا” وليس ” فقط إذا “. كذلك، فإن المدافع عن الفرضية 2 ليس بحاجة إلى الموازنة، كما تفعل أطروحة لوك، بين الموقف الاعتقادي وبين وجود مصداقية عالية. ومن ثم فكل ما هو مطلوب هو الأطروحة التالية الأكثر بساطة (وسنطلق عليها “ط”):
(ط): إذا كان من الجائز عقلانياً أن يكون لدى س مصداقية مرتفعة جداً للفرضية ص، عندها يكون من الجائز عقلانياً ل س الاعتقاد في ص.
حتى هذه الأطروحة الأكثر بساطة تظل مع ذلك مثيرة للجدل، لأن تبنيها يلزم الشخص بالموقف القائل بأن الاعتقاد العقلي (أي الجائز من الناحية العقلية) لا يندرج تحت الاقتران. بمعنى، أنه يلزم الشخص بالموقف القائل بأنه من الممكن أن يكون كل معتقد من هذه المعتقدات عقلانياً على الرغم من الاعتقاد الإضافي بعدم العقلانية في أن تكون جميع هذه المعتقدات صحيحة.
لمعرفة سبب ذلك، تخيل أنه تم بيع مليون تذكرة يانصيب، وكل لاعب اشترى تذكرة واحدة فقط، من المؤكد أن شخصاً واحداً فقط منهم سيربح. لنتخيل الآن أن مراقباً مطلعاً لديه اعتقاد واضح أن لاعباً بعينه من بين المليون لاعب سيخسر. وفقاً للأطروحة ط، فإن كل اعتقاد من بين المليون اعتقاد ذاك يتسم بالعقلانية. فعلى سبيل المثال، إذا كانت سو هي أحد هؤلاء اللاعبين، فوفقاً للأطروحة ط فإن اعتقاد المراقب بأن سو سوف تخسر هو اعتقاد عقلاني لأنه من العقلاني بالنسبة للمراقب أن يكون لدية مصداقية مرتفعة (جداً) لفرضية أن سو سوف تخسر. ومادام من المؤكد أن أحد اللاعبين سوف يربح، فمن المنطقي أيضا بالنسبة للمراقب الاعتقاد أن أحدهم سوف يربح. فليس من المنطقي امتلاك اعتقادات متناقضة، لذلك ليس من المنطقي بالنسبة للمراقب الاعتقاد بعدم فوز أي من اللاعبين. وهذا يتضمن أن الاعتقاد المنطقي ليس داخلا تحت الاقتران، فبالنسبة للافتراض القائل بأنه لا أحد من اللاعبين سيربح، هو فقط اقتران جميع الافتراضات التي تقول بأن بعض اللاعبين سيخسرون.
سيزعم المدافعون عن المقدمة (2)، بشكل معقول للغاية، أن الآثار المترتبة للفرضية ط بأن الاعتقاد المنطقي ليس مغلقا في ظل الاقتران، لا يشكل مشكلة على الاطلاق. أليس من الواضح، على سبيل المثال، أنه لن يكون من المنطقي أن يعتقد إنسان يفتقد للعصمة أن جميع معتقداته صحيحة، حتى لو كانت كل هذه المعتقدات منطقية؟ في حين سيعتبر آخرون (على سبيل المثال Oppy 1994: 151) أن الاستنتاج القائم على اعتبار كون الاعتقاد المنطقي ليس مغلقا في ظل الاقتران، أمراً غير مقبول، لهذا السبب سيرفضون المقدمة (2). لذلك حتى لو أمكن إبراز أن التوحيد الكلي خاطئ على الأرجح، سيظل من الغير الواضح بالنسبة لكل أحد أنه من الجائز عقلياً أن تكون ملحدا محلياً فيما يتعلق بالتوحيد الكلي، وبالتالي سيظل من غير الواضح لكل أحد بأن اللاأدرية الصلبة بشأن التوحيد الكلي خاطئة.
المراجع
- Baggini, Julian, 2003,Atheism: A Very Short Introduction, Oxford: Oxford University Press.
- Bishop, John C., 2008, “How a Modest Fideism May Constrain Theistic Commitments: Exploring an Alternative to Classical Theism”,Philosophia, 35(3–4): 387– doi:10.1007/s11406-007-9071-y
- Buckareff, Andrei A. and Yujin Nagasawa (eds.), 2016,Alternative Concepts of God: Essays on the Metaphysics of the Divine, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198722250.001.0001
- Bullivant, Stephen, 2013, “Defining ‘Atheism’”, in Bullivant and Ruse 2013: 11–
- Bullivant, Stephen and Michael Ruse (eds.), 2013,The Oxford Handbook of Atheism, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/oxfordhb/9780199644650.001.0001
- Darwin, Charles, 1859,On the Origin of Species by Means of Natural Selection, London: John Murray. [Darwin 1859 available online]
- Dennett, Daniel C., 2006,Breaking the Spell: Religion as a Natural Phenomenon, New York: Viking Penguin.
- Diller, Jeanine, 2016, “Global and Local Atheisms”,International Journal for Philosophy of Religion, 79(1): 7– doi:10.1007/s11153-015-9550-1
- Diller, Jeanine and Asa Kasher, 2013,Models of God and Alternative Ultimate Realities, Dordrecht: Springer.
- Draper, Paul, 2002, “Seeking but Not Believing: Confessions of a Practicing Agnostic”, in Daniel Howard-Snyder and Paul Moser (eds.),Divine Hiddenness: New Essays, Cambridge: Cambridge University Press, pp. 197–
- –––, 2016, “Where Skeptical Theism Fails, Skeptical Atheism Prevails”, inOxford Studies in Philosophy of Religion, volume 7, Jonathan Kvanvig (ed.), Oxford: Oxford University Press, pp. 63–
- Ellis, Fiona, 2014,God, Value, and Nature, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198714125.001.0001
- Flew, Antony, 1972, “The Presumption of Atheism”,Canadian Journal of Philosophy, 2(1): 29– doi:10.1080/00455091.1972.10716861
- Foley, Richard, 1992, “The Epistemology of Belief and the Epistemology of Degrees of Belief”,American Philosophical Quarterly, 29(2): 111–
- French, Peter A. and Howard K. Wettstein (eds.), 2013, “Special Issue: The New Atheism and Its Critics”,Midwest Studies in Philosophy, 37(1).
- Garvey, Brian, 2010, “Absence of Evidence, Evidence of Absence, and the Atheist’s Teapot”,Ars Disputandi, 10: 9–
- (اللاأدرية) Gutting, Gary, 2013, “Religious Agnosticism” (اللاأدرية الدينية) ,Midwest Studies in Philosophy, 37(1): 51– doi:10.1111/misp.12002
- Hume, David, [1757] 1956,The Natural History of Religion, H.E. Root (ed.), Stanford, CA: Stanford University Press, originally published in 1757. [Hume 1757 available online (1889 edition)]
- –––, [1779] 2007,Dialogues Concerning Natural Religion, Dorothy Coleman (ed.), Cambridge: Cambridge University Press. [References are to the part and paragraph number.]
- Huxley, Thomas Henry, 1884, “Agnosticism (اللاأدرية): A Symposium”, (اللاأدرية) The Agnostic Annual, (اللاأدرية السنوية) Charles Watts (ed.), pp. 5– [Huxley 1884 available online]
- –––, 1889, “Agnosticism and Christianity”, (اللاأدرية والمسيحية) reprinted in hisCollected Essays, Volume 5: Science and the Christian Tradition, Cambridge: Cambridge University Press, 1894, pp. 309– [Huxley [1889] 1894 available online]
- Kahane, Guy, 2011, “Should We Want God to Exist?” Philosophy and Phenomenological Research82(3): 674– doi:10.1111/j.1933-1592.2010.00426.x
- Kenny, Anthony, 1983,Faith and Reason, (Bampton lectures in America, no. 22), New York: Columbia University Press.
- Le Poidevin, Robin, 2010,Agnosticism (اللاأدرية): A Very Short Introduction, Oxford: Oxford University Press (مدخل اللاأدرية ). doi:10.1093/actrade/9780199575268.001.0001
- Leftow, Brian, 2016, “Naturalistic Pantheism”, in Buckareff and Nagasawa 2016: 64–
- McLaughlin, Robert, 1984, “Necessary agnosticism?” (اللاأدريةالضرورية) Analysis44(4): 198– doi:10.1093/analys/44.4.198
- Morris, Thomas V., 1985, “Agnosticism اللاأدرية ”,Analysis 45(4): 219– doi:10.1093/analys/45.4.219
- Morriston, Wes, forthcoming, “Protest and Enlightenment in the Book of Job”, in Paul Draper and J.L. Schellenberg (eds.),Renewing Philosophy of Religion: Exploratory Essays, Oxford: Oxford University Press, chap. 13.
- Mulgan, Tim, 2015,Purpose in the Universe: The Moral and Metaphysical Case for Ananthropocentric Purposivism, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199646142.001.0001
- Murphy, Mark C., 2017,God’s Own Ethics: Norms of Divine Agency and the Argument from Evil, Oxford: Oxford University Press.
- Nagasawa, Yujin, 2008, “A New Defence of Anselmian Theism”,Philosophical Quarterly, 58(233): 577– doi:10.1111/j.1467-9213.2008.578.x
- Nagel, Thomas, 1997,The Last Word, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/0195149831.001.0001
- Oppy, Graham, 1994, “Weak Agnosticism اللاأدرية Defended” (الدفاع عن اللاأدرية),International Journal for Philosophy of Religion, 36(3): 147– doi:10.1007/BF01316921
- Pike, Nelson, 1970,God and Timelessness, New York: Schocken Books.
- Plantinga, Alvin, 2000,Warranted Christian Belief, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/0195131932.001.0001
- Rowe, William L., 1979, “The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism”,American Philosophical Quarterly, 16(4): 335–
- Russell, Bertrand, 1997, “Is There a God? [1952]”, in John G. Slater and Peter Köllner (eds.),The Collected Papers of Bertrand Russell, Vol. 11: Last Philosophical Testament, 1943–68, London and New York: Routledge, pp. 542–
- Schellenberg, J.L., 2007,The Wisdom to Doubt: A Justification of Religious Skepticism, Ithaca and London: Cornell University Press.
- Strawson, Galen, 1990, “Review ofCreated from Animals, by James Rachels”, The Independent, London, June 24.
- Stump, Eleonore, 2010,Wandering in Darkness: Narrative and the Problem of Suffering, Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199277421.001.0001
- Swinburne, Richard, 2001,Epistemic Justification, Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/0199243794.001.0001
- –––, 2004,The Existence of God, second edition, Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199271672.001.0001
- van Inwagen, Peter, 2012, “Russell’s China Teapot”, in Dariusz Lukasiewicz and Roger Pouivet (eds.),The Right to Believe: Perspectives in Religious Epistemology, Heusenstamm: Ontos Verlag, pp. 11–
- Wielenberg, Erik J., 2009, “Dawkins’ Gambit, Hume’s Aroma, and God’s Simplicity”,Philosophia Christi, 11(1): 111–
- Zenk, Thomas, 2013, “New Atheism”, in Bullivant and Ruse 2013: 245–
أدوات أكاديمية
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society. |
|
Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO). |
|
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database. |
مصادر أخرى على الإنترنت
- Atheism, Matt McCormick, Internet Encyclopedia of Philosophy.
- God or Blind Nature: Philosophers Debate the Evidence, Paul Draper (ed.), The Secular Web.
مقالات ات صلة
belief, ethics of | belief, formal representations of | evil: problem of | fideism | God, arguments for the existence of: moral arguments | God: concepts of | hiddenness of God | monotheism | omnipotence | panentheism | pantheism | physicalism | pragmatic arguments and belief in God | process theism | religion: and science | religion: epistemology of
[1] Draper, Paul, “Atheism and Agnosticism”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2017/entries/atheism-agnosticism/>.
[2] * سفر أيوب 1:21 كناية على المطلقية الإلهية لفعل أي شيء [ المترجم]